مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237178 / تحميل: 6089
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

تقدم المسلمين في مجال الاقتصاد السياسي وعلم النفس والعلوم الاجتماعية

في هذا الصدد يقول الكاتب المسيحي جورجي زيدان :

« الغريب هو ان الاوروبيين يتصوّرن انفسهم مؤسسوا علم « الاقتصاد السياسي » ، في حين ان الفارابي العالم المسلم الشهير كتب قبل الف سنة كتاب « السياسية المدنية » وبحث في ذلك ، كما ان « ابن خلدون » العالم المسلم الآخر بحث الموضوع أيضاً(1) .

ويذكر «ميلير» : المسلمون هم أول من اخترع علم النفس(2) .

ويقول احد العلماء الاوروبيون : مؤسس العلوم الاجتماعية هو الفيلسوف المسلم الكبير « ابن الجاثب »(3) .

مصطلحات المسلمين وكلماتهم في اوروبا

يقول السيد سديلو(4) :

________________

(1) تاريخ الحضارة الاسلامية.

(2) عظمة المسلمين في اسبانيا.

(3) المصدر نفسه.

(4) Mr. Sedillot

٣٢١

« بما ان المسلمين استطاعوا السيطرة علىٰ البحر المتوسط منذ القرن الثامن الميلادي ، فان اغلب المصطلحات الالفاظ المستخدمة في المجال البحري في اللغتين الفرنسية والايطالية ، مأخوذة عن مفردات عربية بالاساس ، مثل : اميرال(1) وساكادر(2) وفلوت(3) وفرجال وكورفت(4) وكرافل(5) وكذلك بوسورل(6) التي يتصورها الكثير خطأ مأخوذة عن الصينيين في حين ان المسلمين هم الذين جاؤا بها الىٰ اوروبا ، كما ان الجيوش الاوروبية عندما عرفت النظام والمراتب في داخلها فقد تعلمت الرتب والمناصب العسكرية وكذلك الصياح في ساحة القتال من المسلمين كما ان كلمات مثال : البارود والقنبلة والهاون ( نوع من المدفعية ) ، اصلها عربي ، وكذلك العديد من المصطلحات الادارية ، مثل : معون وغابل وتاي وتاريف ودوآن وبازا وغيرها من الكلمات التي دخلت القاموس اللغوي الاوروبي من بغداد وقرطبة.

________________

(1) جنرال في القوة البحرية.

(2) Escadre ( سرب ) ، مجموعة سفن قتال بحرية يقودها شخص واحد.

(3) Flutte آلة موسيقية.

(4) Caracelle

(5) Cravelle

(6) Biussule ( بوصلة ).

٣٢٢

اسباب تقدّم المسلمين ورقيهم

الدكتور : ايها الشيخ ! صحيح أن هؤلاء الأوروبيين الذين يفتخرون علينا اليوم إلى هذا الحدّ كانوا تلامذتنا بالامس ؟! كانوا يستجدوننا العلم للحد الذي اصبحوا يختالون بما كسبوه من علومنا ، ويمتصون دماءنا بهذا الشكل ، نهاية في الوقاحة وعدم الوفاء ؟ ولست أعجب من ذلك ، بل أعجب للسبيل الذي جاء به المسلمون من خلاله كل هذا المجد والعظمة ؟

الشيخ : مجد المسلمين وعظمتهم بالامس كانت في تمسكهم بدينهم واحكام الاسلام ، وهذا الأمر لا يدعوا إلى العجب ، لأن الباري عزّ وجلّ وعد عباده بذلك في القرآن فقال جلّ شأنه :

( وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .

سعادة الدكتور ! أن سبب تقدّم المسلمين وتعاليهم هو ما ذكرناه من تمسكهم بالاسلام ، لانه وكما اشرنا في مباحث سابقة ، ليس الاسلام كالمسيحية ، دين رهبانية وعزلة ، أو مجموعة من النصائح الاخلاقية فقط ، فالاسلام دين يدعو ويُرغّب إلى طلب العلم ، ومن الناحية القانونية يمتلك مجموعة متكاملة في جميع شؤون الحياة المادية منها والمعنوية.

اذن ، فأتباع مثل هذا الدين الطبيعي أن تكون نتيجته التكامل على جميع الأصعدة. ولبيان العوامل والاسباب التي ادت إلى تقدم المسلمين وتكاملهم

٣٢٣

بهذا الشكل السريع ، نشير إلى بعضها مما ورد القرآن الكريم ، وبشكل مجمل :

قَسَمُ القرآن :

القسم والايمان التي جاءت في القرآن هي احدى الدوافع التي رغبت المسلمين في الماضي لتلقّي العلوم ، وعادة يكون ما يُقسم به مقدّساً عند الشخص الذي يقسم ، وكلما كان الطرف الذي يقسم جليلاً وعظيماً ، ازدادت قدسية وعظمة ما يُقسم به.

والقسم في القرآن يصدر عن الله عزّ وجلّ ومع ذلك نجده يقسم بالظواهر الطبيعية في العالم ، مثل : الشمس والقمر والسماء والأرض والبحر والليل والنهار والزيتون والقلم و الخ.

أجل هذا القسم القرآني ، هدفه لفت انتباه الانسان إلى عظمة الوجود وظاهره ، والحث على دراسة ذلك والتأمل فيه ، والغريب ! هو أن القرآن يقسم بالقلم في عصر مظلم كانت الجزيرة العربية تعيشه قبل اربعة عشر قرناً ، وليس بالقلم فحسب بل وما يصدر عنه ، قال تعالى :

( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) .

ومثل هذا القسم غير موجود اليوم حتى في أكثر بلدان العالم تقدّماً.

٣٢٤

ظواهر الوجود ومعرفة الله

تعلمون أن الأصل العقائدي الأول في الاسلام هو معرفة الله ، لكن أهم سبيل يعرضه القرآن لمعرفة الله هو التأمل في اسرار الخلق ، وظواهر الوجود. ولمعرفة رب العالمين الحكيم والقادر ، يدعو القرآن الانسان إلى البحث والدراسة في السماوات والارض واسرارهما وللتأمل في خلق الحيوان والنبات والقوانين المعقدة الموجودة في الوجود وكذلك التأمل في الانسان نفسه كمخلوق من قبل الباري عزّ وجلّ.

أجل ففي ذلك العصر الذي لم يكن فيه شيء يذكر عن علم التربة وعلم النبات وعلم الحيوان والفيزيولوجيا والتشريح وعلم الفلك بمفاهيمها العلمية الحديثة.

في ذلك العصر كان القرآن الكريم يدعو البشرية إلى تعلم مثل هذه المسائل ومعرفة حقائق العالم العلمية.

مكانة العلم والعلماء من منظار القرآن

العالم الثالث الذي جعل المسلمون يتجهون نحو العلم والمعرفة العلمية للعالم ، هي التعابير التي طرحها القرآن الكريم عن العلم والعلماء. ففي موارد عديدة عبّر القرآن الكريم عن العلم والمعرفة بالنور ، واعتبر الجهل ظلمة ، قال بأن العلماء هم المبصرون والجهلة هي العمي ، وقد اختصّ القرآن الكريم

٣٢٥

العلماء المتقون بالاجلال والرفعة ، وقد استخدم في ذلك تشابيه جميلة وتعابير ظريفة.

الترغيب والحثّ المثمر

وقد اثمرت بسرعة هذه العوامل الثلاث التي ذكرناه بالاضافة إلى ترغيب وحث القرآن وائمة المسلمين لتعلم العلم ، ولم يمض أكثر من نصف قرن على ظهور الاسلام ونشوء المجتمع الاسلامي ، حتى شهد التاريخ أكبر عملية نهوض معرفية في شتى مجالات المعرفة بين المسلمين ، وكان التقدّم سريعاً للحدّ الذي تمكن من تنشأ مجموعة كبيرة من العلماء البارزين في مختلف المجالات العلمية ومن جميع المناطق التي دخلها الاسلام.

هؤلاء العلماء الذين يعد كل منهم نابغة عصره في مجال تخصصه ، والذين انتشر العلم على ايديهم في العالم.

٣٢٦

ماذا يعني حرمة التشبه بالكفار ؟

اصدقائي الأعزاء !

لا يدفع الاسلام الانسان المؤمن إلى تعلم العلم والمعرفة بجميع فروعها فقط ، بل أنه ألزم المسلمين لتتبع العلم وتعلمه من خلال احكام وأوامر دينية بسيطة في تعابيرها ، لكي يقطع بذلك تبعية المجتمع المسلم إلى غيره من المجتمعات ، وهذه الاحكام كثيرة جداً ، سأكتفي بنقل واحدة منها سمعناها جميعاً ، ولربما ضحكنا منها استهزئنا بها ، واعتبرناها مقولات رجعية ؟ وذلك الحكم ، هو « حرمة التشبّه بالكفار » ومن أجل بيان أفضل للقضية ، وسأقدم لكم هذا الإيضاح :

اصدقائي الأعزاء !

لو ان شعباً غير مسلم ( كافر ) صنع اليوم ـ على سبيل المثال ـ نوع من القبعات سيكون حراماً على المسلمين استعماله ما دام يعتبر وضعه على الرأس تشبّهاً ـ ذلك الشعب الكافر ـ ولكن لو أن مسلماً كان قد اخترع قبعة مشابهة لذلك الطراز ، فان استعامله جائزاً.

وهنا يتّضح أن هذف الاسلام الاساسي من هذا الحكم هو ليس منع المسلمين من استعمال هذا الطراز من القبعات ، بدليل انه كان سيمنعه حتى لو

٣٢٧

كان مخترعه مسلماً ، في حين أن الامر يختلف عن ذلك وأن هدف الاسلام من ذلك التحريم وهذا التجويز هو ايجاد وخلق روح الاستقلال والاعتماد على الذات بين المسلمين ، وتخليصهم من تبعات الحاجة إلى الاخرين وتقليد الشعوب الاجنبية ( الكافرة ) حتى في شؤون حياتهم العادية ، مثل الملابس و الخ.

اصدقاي الأعزاء !

اترك لكم الحكم في هذه القضية ! لو أن المسلمين عملوا بهذا الحكم واحيوه بشكل حقيقي ، أي أنهم أحيوا روح الاستقلال والاعتماد على الذات وعدم التبعية للكافرين ، ألم يكن هذا كافياً لضمان سيادتهم وعزّهم ؟! ولو كانوا عملوا بهذا الأمر المقدس ( عدم التشبه بالكفار ) هل كانوا بحاجة لأن يمدّوا أيديهم نحو الناهبين الدوليين يستعبدونهم ؟! ألم يكن تطبيق هذا الحكم الديني البسيط ، كافياً ، لأن يجعل المسلمين يمتلكون ادواتهم الحضارية دون الحاجة للاخرين ؟ ألم يكن بوسع هذا القانون البسيط أن يجعل المسلمين يخترعون بأنفسهم كل ما يحتاجونه من طائرات وسفن وغواصات و الخ ، كما تمكن المسلمون في الماضي ، ومن خلال فهمهم لحقيقة الحكم المقدس وتطبيقه ، ليس فقط اختراع كل ما يحتاجونه من ادوات ووسائل في حياتهم بل ضمن لهم سيادتهم ومجدهم وعظمتهم على جميع انحاء العالم.

العقيد : كلامك منطقي وصحيح ، ولكن المسلمون اليوم ضعفاء ومضطرون إلى استجداء الدول الأوروبية لتأمين حاجاتهم ومتطلبات حياتهم اليومية.

الشيخ : هذا كلام خاطيء تماماً ، لأنه حتى الدول الصغيرة اليوم تستطيع

٣٢٨

أن تعتمد على نفسها وتقف على قدميها ، وتقطع تبعيتها للعالم الأوروبي المستعمر ، وأن تصنع كل ما تحتاجه بنفسها من خلال عمل جاد وفكر خلّاق ، وأكبر شاهد على ذلك ، دولة اليابان التي تعتبر دولة شرقية صغيرة مقارنة بالكثير من الدول الكبيرة التي لا زالت متخلفة ، فهذا الشعب ومن خلال روح الاستقلال والاعتماد على الذات التي يمتلكها استطاع أن يصنع كل ما يحتاجه ( ويحتاجه الاخرون ! ) في حياتهم اليومية من الابرة حتى السيارة والقطار والسفينة والطائرة و وعشرات البضائع التي تغزوا جميع العالم اليوم. مع أن هذه الدولة الشرقية تمتلك نفس الشروط التي نمتلكها نحن بل وربما اصعب منا ، كما أن عدد سكانها لا يزيد على ثلاثة وثمانون مليون نسمة أيضاً !

لقد قدمت اليابان لجميع الدول الصغيرة درساً في الاعتماد على الذات والروح الاستقلالية من اجل قطع التبعية والخلاص من التخلف ، ( وهو ما أمر به الاسلام قبل قرون من عدم التشبّه بالكفار ) ، وبالاضافة إلى ذلك فالبلدان الاسلامية اليوم تمتلك امكانيات كثيرة بشرية وطبيعية ، وظروفها الاقتصادية والثقافية مساعدة جداً للنهوض والتحرر الحقيقي ، لكنها وبسبب ابتعادها عن الاسلام الحقيقي ، لم تستطع تفعيل امكانيتها وقدراتها العظيمة تلك ، والمؤسف حقاً أن هذه الامكانيات والقدرات اصبحت بذاتها بلاءً على الاُمّة الاسلامية والشعوب المسلمة.

قصة غريبة عن السيد جمال الدين في مصر

حسن ، الطالب الجامعي : بتصوري ان حالة المسلمين اليوم وصلت إلى

٣٢٩

حدّ اليأس من الخلاص والتحرر من هذا العار والذل ، لأنهم ، لم يكتفوا بتقليد اعمى لتلامذة امسهم والتسابق على ذلك ، بل فقدوا جميع قدراتهم البشرية والالهية امامهم وفسحوا المجال بانفسهم للغرب المستعمر أن يتدخل في بلادهم وينفذ في مؤسساتهم كالطاعون ، ومن المستحيل أن تستطيع هذه السفينة المترهلة أن تصل يوماً إلى ساحل الأمان.

الشيخ : اليأس وفقدان الأمل من الذنوب الكبيرة في الاسلام ، وباعتقادي لو رجع الناس إلى الاسلام فانهم يستطيعون تلافي ما فات ، والوقوف امام قوى الاعداء ، بالعمل والسعي المتواصل ، فالاسلام دين الحيوية والنشاط والالهام ، ويمكن أن يبعث الروح في اجساد الشعوب الساكنة ، ولاثبات ما ادعيته لارجع بكم إلى صدر الاسلام حيث تمكن عدّة قليلة لا تتجاوز الثلاثمائة وثلاثة عشر فرداً لا تملك شيئاً يذكر من السلاح والعدّة ، أن تقف امام قوّة كبيرة تفوقها اضعافاً مضاعفة في العدد ومدججة بالسلاح والعتاد ، بل وتنتصر عليها وتهزمها هزيمة فادحة ، بل أروي لكي قصّة غريبة عن ثورة السيد جمال الدين الافغاني في مصر ، والتي حدثت في أواخر القرن الماضي بداية عصر النهضة الذي نشهده حالياً.

تأمّلوا بدقّة ما تقرأون

ملخّص القصّة ، هو أنه في سنة 1300 هجرية كانت جميع الدول الاسلامية تخضع لسيطرة مباشرة من قبل الدول الاوروبية ، وكان الخناق يشتدّ يوماً بعد يوم على المسلمين فيها ، ولم تكن من بين تلك الدول إلّا ايران وتركيا لا

٣٣٠

تخضعان بشكل مباشر للسيطرة الاستعمارية ، وكانتا مستقلّتان اسميّاً.

في تلك الحقبة المظلمة قام أحد المسلمين الغيارى وأحد العلماء الأجلاء ، وهو السيد جمال الدين الاسدآبادي « الافغاني » بحركة نهضوية ، بعد رحلات قام بها في ارجاء العالم الاسلامي واطّلع من قرب على المحنة التي يعاني منها المسلمون ، فدعى المسلمين إلى الثورة على واقعهم والخلاص من الانحطاط الذي يعيشونه ، لكن دعوته تلك لم يستجيب لها احد ، سوى الشيخ محمد عبده ، مفتي الديار المصرية فيما بعد ، فسافر مع السيد جمال الدين إلى باريس واخذا يصدران من هناك مجلة « العروة الوثقى » ، وبالمقالات الثورية التي كانا يكتبانها في المجلة التي كانت ترسل إلى الدول العربية والاسلامية ، كانا يحثان المسلمين على النهوض والخروج من جمودهم وغفلتهم ، ولأن تلك الكلمات كانت تخرج من قلوب متحرّقة على الاسلام ووضع المسلمين ، بدأت تجد اثرها في قلوب وعقول الناس شيئاً فشيئاً ، لكن والدول الاستعمارية التفتتبسرعة إلى الأمر وحالت دون وصول المجلة إلى البلدان الاسلامية ( الدول التي كانت تخضع للسيطرة البريطانية والفرنسية ) ، وبهذا فشلت الخطوة الاُولى التي قام بها السيد جمال الدين لتحرير البلدان الاسلامية ، ولكن هذا الفشل لم يجعله ييأس ، لذلك تحرك مباشرة من باريس ومعه الشيخ محمد عبده وحلّوا في مصر ، وقاما هناك بتأسيس جمعية اسمياها « الجمعية الوطنية » ودعيا الشعب المصري للأنخراط في صفوفها ، ولأن الجمعية لم تكن مثل سائر الجميعات والاحزاب في العالم ، لم يكن فيها مكان للبذيئين والسارقين والمنافقين ، كانت الجميعية خلافاً لجميع الاحزاب السياسية لا تسعى لتسلّم السلطة والجلوس على كرسي الحكم ، أو لدعم والحفاظ على سلطة الآخرين

٣٣١

ومن الشخصيات العميلة والضحلة ، لذلك لم ينخرط فيها من كل مصر سوى اربعين شخصاً فهموا معنى التضحية.

وفي الجلسة الخامسة عشر للجمعية الوطنية ، وبحضور جميع الأعضاء ، قام السيد جمال الدين خطيباً فيهم وقال :

ملخّص كلمة السيد جمال الدين

« الهي ، صدقت حيث قلت :( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ، وقولك حقّ ، فقد تأسست هذه الجمعية المقدّسة باسمك ولنصرة دينك ».

ثم خاطب اعضاء الجمعية فقال :

« ايها السادة الأعزاء : القرآن هو الدستور المقدّس الذي يعتبر دليل حقانية الاسلام حتى يوم القيامة وهو أيضاً ضمان سعادة الانسانية.

آه آه ، على هذا القرآن المقدّس الذي غفل المسلمون عنه فأصبح مهجوراً ، هذا القرآن المقدّس الذي تمكن عالم الامس على الرغم من انحطاطه أن يصل إلى تلك المرتبة الحضارية على ضوء تعاليمه النوارنية.

آه آه على القرآن الذي أصبح يستفاد منه فقط فيما يلي :

تلاوته على قبور الموتى في ليالي الجمعة ، امرار وقت الصائمين ، كفارة الذنوب ، العوبة « المكتبخانات »(1) ، دفع الحسد ، القسم الكاذب ، للاستجداء به

________________

(1) المدارس القديمة أو الملا.

٣٣٢

على ارصفة الطرق ، زينة قماط الطفل ، قلائد للعرائس و الخ.

آه ، على هذا الكتاب السماوي الذي اصبح الاهتمام به اليوم اقل من الاهتمام بديوان حافظ وكتاب المثنوي وديوان الشاعر السعدي ، فلو قرأ شيء من تلك الدواوين في محفل ، لرأيت القوم يشهقون ويزفرون ويفتحون قلوبهم فضلاً عن عيونهم واسماعهم ، وكم هي استفادتهم من المعاني العرشية ! والعرفانية ! والخيالية ! الموجودة في تلك الأبيات.

أي وحقّك اللّهمَّ أنت القائل وقولك الحقّ :( نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) .

سبحانك اللّهمَّ أنت القائل وقولك حقّ :( إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .

لقد ادرنا اوجه قلوبنا عن طاعتك المقدّسة ، فأبدلت سعادتنا وعزّنا بالذلِّ والشقاء ».

بعد ذلك نزل السيد جمال الدين من على المنبر ، فيما كان العديد من اعضاء الجمعية قد اغمي عليهم من شدّة البكاء والآخرون أيضاً يبكون ، والسيد جمال الدين كان يبكي أيضاً ويكرر هذه الجملة :

أي وحقِّك اللّهمَّ ، نسيناك ، فأنسينا انفسنا ، حتى اغمي عليه ووقع على الأرض ، وبقي على تلك الحالة ثلاثة ساعات ، فيما كان اعضاء الجمعية في بكاء ونحيب ، بعد ذلك قام السيد جمال الدين من غيبوبته بعد ان دعي له بطبيب ، فرجع اعضاء الجمعية إلى حالتهم الاُولى واستأنفت الجلسة الرسمية.

٣٣٣

المواد السبعة عشر التي ادت إلى ثورة مصر

ثم عادوا للتباحث ، واقترحوا حلولاً للخروج من ذلك الواقع المرّ والمأساوي ، واتّفق الجميع إلى أن عظمة المسلمين ومجدهم السابق كان بسبب تطبيقهم لاحكام الاسلام المقدّسة ، كما أن العامل الوحيد الذي انتهى بهم إلى هذا الشقاء ، هو ابتعادهم عن الاسلام واحكامه ، وعلى هذا الاساس ، فالعلاج الوحيد للحالة المأساوية هو العمل باحكام الاسلام وقوانينه السامية ، ولهذا تم اقرار برنامج عمل يتضمّن سبع عشرة مادّة ، وتعهّد جميع اعضاء الجمعية العمل على تطبيق ذلك البرنامج بمنتهى الجدّية والدقّة ، وهذا نص البرنامج :

1 ـ على كلِّ واحد من اعضاء الجمعية قراءة ما لا يقل عن حزب واحد من القرآن الكريم بدقّة وتأمّل في اليوم.

2 ـ اقامة الصلوات اليومية ( الواجبة ) جماعة.

3 ـ عدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4 ـ دعوة غير المسلمين إلى الاسلام.

5 ـ الجدل بالّتي هي أحسن مع المبشرين النصارى.

6 ـ الاحسان للفقراء قدر المستطاع.

7 ـ القيام بأي عمل مشروع يطلب منهم ، أو انهم يقومون بالعمل فور علمهم به حتى لو لم يطلب منهم ذلك.

٣٣٤

8 ـ عدم الاغفال عن صلة الرحم وزيارة الأقرباء.

9 ـ عيادة المرضى.

10 ـ السؤال عن المسلم الذي يفتقد في السوق أو المسجد ، وسبب غيابه ، حتى لو كانت لديه مشكلة ، يسعون في حلّها.

11 ـ زيادة الاشخاص الذين يعودون من سفر مشروع.

12 ـ دفع الحقوق ( المالية ) لمستحقيها.

13 ـ لا يقصروا في ارشاد الناس بقوانين الدين أو شؤوناته.

14 ـ تربية انفسهم وترويضها على الابتعاد عن الصفات الرذيلة خاصة التكبّر والانانية والعجب وحبّ الرئاسة.

15 ـ العفو عن اخطاء وزلّات اخوتهم المسلمين.

16 ـ التعامل بلين مع الناس ومداراتهم.

17 ـ الاحجام عن عمل أو قول ليس فيه نفع مادي أو معنوي لهم أو لسائر المسلمين.

وكان كل عضو يحمل معه دفتراً صغيراً يسجل فيه ما عمله من تلك المواد السبعة عشر ، لكي تسجل جميعها في سجل الجمعية ، ولأن تنفيذ بعض المواد كان يحتاج إلى ميزانية مالية ، لذلك قرّر هؤلاء الاربعون وبشكل أولي بيع كل ما في حياتهم من تجمّلات وتقنعوا باقل العيش واندر الأكل ، لكي يمولوا صندوق الجمعية بتلك الأموال ، لكي لا تتوقّف النشاطات بسبب العجر المالي.

٣٣٥

ابرز اعمال الجمعية الوطنية المصرية لفترة شهر

عمل اعضاء الجمعية الوطنية المصرية بقيادة السيد جمال الدين الاسدآبادي ( الافغاني ) لمدّة شهر واحد بمنتهى الدقّة على ضوء تلك المواد ، وكانت نتيجة العمل وابرز النشاطات كالتالي :

1 ـ عيادة الف وخمسمائة مريض.

2 ـ زيارة الفين وسبمعمائة مسافر.

3 ـ تفقّد خمسمائة مسلم غابوا عن المحافل العامة.

4 ـ قضاء حاجة اثناء عشرة الف محتاج.

5 ـ تاب على ايديهم ثمانمائة سكّير ( معتاد على شرب الخمرة ).

6 ـ ادخال الف وثلاثمائة شخص إلى دائرة المصلّين بعد أن كانوا لا يصلّون.

7 ـ تابت على ايديهم اربعمائة امرأة من الفاحشات والمنحرفات.

8 ـ ونتيجة لنصحهم ، استقال ثمانون شخصاً عن العمل في الدوائر البريطانية.

9 ـ جعلوا خمسمائة ثري مصري يتقاعد عن شراء اشياء للزينة كانت تأتي من الخارج ، خاصة من بريطانيا.

10 ـ منحوا خمسة وسبعين شخصاً متضرراً ، رأسمال للعمل.

٣٣٦

11 ـ أمَّنوا مؤونة مئتين وستّة فقير حقيقي لمدّة سنة.

12 ـ اسلم على ايديهم 35 نصرانيّاً و 15 يهوديّاً و 70 وثني.

13 ـ اقاموا اربع واربعين مجلس مناظرة مع مبشري النصارى الذين كانوا مسنودين من قبل الحكومة الانجليزية في مصر ، وأوردوا عليهم 120 اشكال لم يستطيعوا الاجابة عليها.

كانت هذه اُمّهات اعمال الجمعية التي لا يزيد عددها على اربعين شخصاً ولمدّة شهر واحد فقط.

ردود الفعل على نشاط الجمعية الذي استمر شهراً واحداً

اصدقائي الأعزاء !

إذا اردتم أن تعرفوا كيف أن مجرد العمل بقوانين الاسلام تكون نتيجتها المجد والعظمة للمسلمين واندحار اعداءهم ، انتبهوا إلى ردود الفعل التي حصلت على نشاطات الجميعة الوطنية المصرية والتي استمرت شهراً واحداً :

شاهد اللورد كرومر المستشار المالي البريطاني في مصر ، أن نفوذ بريطانيا في مصر قلّ دفعة واحدة إلى 45% ، فيما تدنّت التجارة البريطانية 35% ، واستقال عن العمل في الدوائر البريطانية ثمانين موظفاً مسلماً مدرّباً ، وليس هناك أحد يتقدّم للعمل في الوظائف الشاغرة ، كما رأى اللورد كرومر وهو لا يصدق من شدّة التعجب ، أن ممثلي الشركات البريطانية وخاصة تلك التي تبيع وسائل الزينة والإناقة والترف ، ارتفعت اصواتهم لعدم وجود

٣٣٧

مستهلكين ، ويقولون أن عوائدنا اقل حتى من ايجارات محلاتنا واجور عمالنا وموظفينا ، كما أن عدداً من المأمورين المصريين المسؤولين عن اخذ الضرائب من محلات المشروبات الكحولية ودور البغاء الرسمية والسينمات والمسارح ، قدموا استقالات عن العمل ، ولاحظ اللورد كرومر نشاطات المبشرين على مدى خمسة وثلاثين سنة لا تعادل 16/1 من نشاطات الجمعية الوطنية المصرية خلال فترة شهر ، كل ذلك خلق عنده وساوس وخوف كبير ، فبعث مباشرة بتقارير مهولة إلى لندن.

تقارير اللورد كرومر

يقول اللورد كرومر في أحد تقاريره التي بعث بها إلى لندن :

« وبهذا اُحذّر قادة بريطانيا من خطر داهم ، فلو بقيت نشاطات الجمعية الوطنية بقيادة السيد جمال الدين سنة اُخرى ، لن تتلاشى سياسة وتجارة الحكومة البريطانية في آسيا وافريقيا فقط ، بل نخاف من وقوع نفوذ جميع الدول الأوروبية بخطر في جميع انحاء العالم ».

ويقول في تقرير ثاني :

« الجمعية الوطنية المصرية ، أسوء صاعقة تقف امام مخطّطاتنا ، لذا يجب اصدار امر عاجل بتشتيت افرادها وحلّها ».

وفي تقرير ثالث له ، يقول :

« الجمعية الوطنية المصرية خير دليل على تسلّط المسلمين المحيّر

٣٣٨

للعقول على ثلث بلدان العالم قبل ثلاثة عشر قرناً ، بفترة قصيرة ».

وفي تقرير لاحد المبشرين النصارى رفعه إلى كنيسة سان بول التي كانت أكبر كنيسة في ذلك العصر ، يقول :

« ليس هناك اغرب من هذه الحادثة ، وهي تقهقر سبعمائة مليون مسيحي من ابناء الانجيل امام اربعين مسلماً يحملون بين جنباتهم روح عالم دين هو السيد جمال ».

وأيضاً ، يذكر أحد الأطباء الاجانب الذي كان يعمل في مستشفى بور سعيد ، في كتابه الصادر في ذلك الوقت والذي يحمل عنوان « فلسفة الجمعيات » :

« لو استمرت نشاطات الجمعية الوطنية المصرية على شكلها المحيّر للعقول هذا ، إلى عشرين سنة اُخرى ، ستحوّل العالم كلّه ميداناً لأفكارها ».

وفي رسالة بعث يها رئيس البرلمان البريطاني في مصر إلى أحد كبار الصيارفة في لندن ، جاء فيها :

« ومن عجائب العصر ، هو أن السياسة الأوروبية في مصر اليوم ، وغداً في جميع انحاء العالم ، سحقت على يد اربعين نفر من المسلمين ، الذين لا يملكون سلاحاً سوى الدين والعمل بالقوانين الدينيّة ».

ويكتب أحد المسؤولين الانجليز إلى زوجته في لندن ، فيقول :

« ان روح السعادة التي تنتشر في المجتمع الاسلامي اسرع من البرق ، ستؤثر على الشعوب الأوروبية بوجه عام والشعب البريطاني بالخصوص ليس

٣٣٩

فقط التخلي عن مستعمراتهم ، بل حصر انفسهم بقلعة حصينة في مركز العالم بين الشمال والجنوب ».

وجراء كثرة التقارير المرفوعة ، رأت الحكومة البريطانية ان افساح المجال امام هذه الجمعية للعمل سنوات اُخرى ، مع هذا البرنامج الذي تمتلكه الجمعية ، سيجعل من الصعب على أية قوة الوقوف امام قدراتها الخارقة ، لذلك ابرقت إلى الحكومة في مصر امراً بسرعة حلّ الجمعية وتشتيت شمل افرادها ومعاقبتهم بأشد العقوبات ، وكانت النتيجة نفي السيد جمال الدين من مصر بعد ان اعلنت الاحكام العرفية هناك ، وحكم على الشيخ محمد عبده بثلاث سنوات سجن.

أمّا سائر أعضاء الجمعية فتعرضوا لضغوطات وأحكام مشابهة بشكل يندى له جبين الانسانية ، وبهذا الشكل أفل النجم الذي سطع لشهر واحد في سماء المسلمين ، وعادت بريطانيا إلى نهب خيرات المسلمين وامتصاص دماءهم دون ان يزعجها احد أو يقض مضجعها.

اصدقائي الاعزاء !

والآن الحكم لكم ، فلو كان اربعون مسلماً ومن خلال تمسكهم بتعاليم الاسلام المقدّسة أن يتحولوا إلى قوة بهذا الحجم ترعب الأعداء ، فكيف لو تمسك ستمائة مليون مسلم في عصرنا الحاضر باسلامهم وأحكام دينهم ، ألا يستطيعون اعادة مجدهم وعظمتهم السالفة وينشروا حكومتهم على جميع العالم ؟

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

بحث التوحيد الذاتي.

وبعبارة اُخرى: إنّ مطالبة الله سبحانه بأن يخلق مثله مطالبة للجمع بين حالات وصفات متضادّة ومتناقضة غير ممكنة الإجتماع في شيء واحد.

فبما أنّنا نفترض إمكان تعلّق القدرة به يجب أن يكون ممكناً لا واجباً، حادثاً لا قديماً، وعلى فرض الوجود متناهياً لا غيره.

وبما أنّ المطلوب هو خلق مثله يجب أن يكون ـ على فرض الوجود ـ واجباً لا ممكناً، قديماً لا حادثاً، غير متناه لا متناه.

وهذا جمع بين الامكان والوجوب والحدوث والقدم، والمخلوقيّة والخالقيّة، والتناهي واللاتناهي في شيء واحد، وهو أمر محال قطعاً.

وبذلك تتبيّن الإجابة عن السؤال الثاني فإنّ عدم تعلّق القدرة بجعل العالم الفسيح العظيم الحجم في بطن البيضة الصغيرة ليس لقصور القدرة، وعدم سعتها، بل لأنّ المقترح أمر غير ممكن في حدّ ذاته، ومستلزم للمحال، إذ من جانب أنّ العقل يحكم بالبداهة بأنّ الظرف يجب أن يكون أكبر من مظروفه، والمظروف أصغر من ظرفه، ومن جانب آخر نطلب منه سبحانه شيئاً يكون الظرف فيه أصغر من مظروفه.

فعلى فرض التحقّق يلزم أن يكون شيء واحد في آن واحد بالنسبة إلى شيء واحد أصغر وأكبر وهو الجمع بين النقيضين، الممتنع بالبداهة.

أمّا السؤال الثالث: فهو أيضاً محال أو مستلزم للمحال، ففرض خلقه سبحانه شيئا لا يقدر على إفنائه فرض يستلزم المحال.

فبما أنّ الشيء المذكور أمر ممكن فهو قابل للافناء ولكنّه حيث قيّد بعدم الفناء يجب أن يكون واجباً غير قابل للفناء، وهذا يعني أن يجتمع في ذلك الشيء حالتان متناقضتان هما: الإمكان والوجوب، وإن شئت قلت: القابلية للفناء وعدم

٤٠١

القابلية له، وهو محال.

وبعبارة اُخرى: بما أنّ الشيء المذكور في السؤال المفروض فيه أنّه مخلوق لله سبحانه يجب أن يكون قادراً على إفنائه مع انّا قيّدناه بعدم القابلية للفناء، فيلزم أن نفترض كونه قابلاً للافناء وغير قابل له في آن واحد.

وممّا ذكرناه هنا يتبيّن حال كل مورد من هذا القبيل مثل أن يخلق الله جسماً لا يقدر على تحريكه، فإنّ هذا من باب « الجمع بين المتناقضين » إذ بما أنّ ذلك الجسم مخلوق متناه يجب أن يكون قابلاً للتحريك، وفي الوقت نفسه نفترض أنّه غير قادر على تحريكه.

فيكون السائل في هذا السؤال قد افترض إمكان تحريكه وعدمه، وافترض كذلك قدرته وعدم قدرته على ذلك.

وعلى الجملة فهذه الفروض وأمثالها ممّا تدور على الألسن لا تضرّ بعموم القدرة، ولا توجب تحديداً فيها بل المفروض في كل من هذه الأسئلة أمر محال ذاتاً وهو خارج عن محل البحث.

الثامن والتسعون: « القاهر »

وقد جاء القاهر في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال سبحانه:( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / ١٨ ).

وقال سبحانه:( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) ( الأنعام / ٦١ ).

٤٠٢

التاسع والتسعون: « القهّار »

وقد ورد في القرآن في موارد ستّة ووقع اسماً له سبحانه فيها وقورن مع اسم « الواحد ».

وقال سبحانه:( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / ٣٩ ).

وقال سبحانه:( قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد / ١٦ ).

وقال سبحانه:( وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( إبراهيم / ٤٨ ).

وقال سبحانه:( قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( سورة ص / ٦٥ ).

وقال سبحانه:( هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الزمر / ٤ ).

وقال سبحانه:( لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر / ١٦ ).

وبما أنّ الاسمين مشتقّان من مادة واحدة نبحث عنهما في مقام واحد فنقول: « القاهر » و « القهّار » من القهر.

قال ابن فارس: « القهر » يدل على غلبة وعلوّ، والقاهر: الغالب، وقُهر ( بصيغة المجهول ) إذا غُلب، وقال الراغب: القهر: الغلبة والتذليل معاً ويستعمل في كل واحد منهما.

قال عزّ وجلّ:( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) أي لا تذلّل، والظاهر أنّ الذلّة تلازم الغلبة فهي مفهوم إضافي قائم بالغالب والمغلوب والقاهر والمقهور.

قال الصدوق: « القدير » و « القاهر » معناهما أنّ الأشياء لا تطبيق الامتناع منه وممّا يريد الانفاذ فيها(١) .

__________________

(١) التوحيد للصدوق: ص ١٩٨.

٤٠٣

قال العلّامة الطباطبائي: « القهر نوع من الغلبة وهو أن يظهر شيء على شيء فيضطرّه إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر كغلبة الماء على النار فيقهرها على الخمود.

فالقاهر من الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره، غير أنّ بين قهره تعالى وقهر غيره فرقاً وهو أنّ غيره تعالى من الأشياء انّما يقهر بعضه بعضاً وهما مجتمعان في مرتبة وجودها، والماء والنار مثلاً موجودان طبيعيان يظهر أثر الأوّل في الثاني، والله سبحانه قاهر لا كقهر الماء على النار بل هو قاهر بالتفوّق والإحاطة على الاطلاق، فهو تعالى قاهر على عباده لكنّه فوقهم لا كقهر شيء شيئاً وهما متزاملان، وقد جاء ذلك الاسم في كلا الموضعين في ( سورة الانعام / ١٦ ـ ٦١ ) مقترناً بقوله « فوق عباده » والغالب في موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من اُولي العقل بخلاف الغلبة »(١) .

لأجل ذلك صدَّر الآية الاُولى بقوله سبحانه:( وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنعام / ١٧ ).

كما أنّه سبحانه يقول: في ذيل الآية الاُخرى:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) ( الأنعام / ٦١ ).

وإنّ استسلام الإنسان للخير والضرّ والموت آية كونه قاهراً على العباد.

ثمّ إنّه قال سبحانه:( الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) ولم يقل « القاهر عباده » وسيوافيك وجهه. ومن عجيب القول استدلال الحنابلة بهذه الآيات على أنّ لله جهة وهي الفوقيّة الذاتية، مع أنّ الملاك في كون الشيء قاهراً والشيء الآخر مقهوراً وذليلاً هو قهّاريّته وقدرته الواسعة، لا كونه واقعاً في أفق عال من حيث الحسّ والجهة ،

__________________

(١) الميزان: ج ٧، ص ٣٣ ـ ٣٤ بتلخيص منّا.

٤٠٤

والفوقيّة في الآية نظير ما في سائر الآيات مثل قوله:( وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ( آل عمران / ٥٥ ).

قال:( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) ( الأعراف / ١٢٧ ). غير أنّ الفوقيّة فيهما معنوية اعتبارية، والفوقية في المقام تكوينيّة نابعة من كون أحدهما علّة والآخر معلولاً.

ولعلّ استعمال القاهر مع فوق في كلتا الآيتين لأجل الاشارة إلى أنّ القاهر والمقهور ليسا في درجة من الوجود، بل القاهر فوق المقهور في الوجود والكينونة، وهو المالك للمقهور، لما للقاهر من وجود وخصوصيّة، فالقهر ينبع من كون أحدهما مالكاً والآخر مملوكاً، ملكية ناشئة من الخلق والإيجاد، لا الوضع والاعتبار.

والظاهر أنّ « القهّار » صيغة مبالغة من « القاهر » والفرق بينهما هو الفارق بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة وربّما يقال: إنّ القهّار اسم له تعالى باعتبار ذاتيّة غلبته على خلقه واستيلائه على جميع الموجودات، والقاهر اسم له تعالى باعتبار إعمال تلك الصفة في عالم الفعل(١) .

ولم يعلم وجه هذا الفرق. قال أمير المؤمنين٧ : « يا من توحّد بالعزّ والبقاء وقهر عباده بالموت والفناء »(٢) .

وأمّا حظُّ العبد من هذا الاسم فالقهَّار من العباد من قهر أعدائه، وأعدى عدوّه نفسه التي بين جنبيه فإذا قهر شهوته وغضبه فقد قهر أعدائه، وفي ذلك إحياء لروحه(٣) .

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى للسيد حسين الهمداني: ص ٨٦.

(٢) دعاء الصباح.

(٣) لوامع البينات للرازي: ص ٢٢٣.

٤٠٥

المائة: « القدّوس »

وقد جاء القدُّوس في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال سبحانه:( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) ( الحشر / ٢٣ ).

وقال سبحانه:( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( الجمعة / ١ ).

كما أنّه جاء المقدَّس مذكّراً ومؤنّثاً في موارد ثلاثة ووقع وصفاً للوادي والأرض.

قال سبحانه:( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) ( النازعات / ١٦ ).

وقال سبحانه:( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) ( طه / ١٢ ).

وقال سبحانه:( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) ( المائدة / ٢١ ). ومن ملاحظة مجموع الآيات، يعرف معناه.

وهو كما قال ابن فارس: شيء يدلّ على الطهر، والأرض المقدّسة المطهّرة، وتسمّى الجنّة حظيرة القدس، وجبرئيل « روح القدس » ووصف الله تعالى ذاته بالقدّوس بذلك المعنى لأنّه منزّه عن الأضداد والأنداد والصاحبة والولد. تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

فالظاهر ممّا ورد من هذه المادة في القرآن الكريم هو الطهارة من القذارة المعنويّة والنزاهة عمّا لا يناسب ساحة الشيء. قال حكاية عن الملائكة:( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ( البقرة / ٣٠ ). والظاهر أنّ التسبيح والتقديس في الآية بمعنى واحد، وهو تنزيهه عن الشرك والمثل، وكل ما يعدّ نقصاً.

وهناك نكتة لافتة للنظر وهو أنّ اسم القُدُّوس ورد بعد إسم الملك في الآيتين

٤٠٦

ولعلّه لبيان أنّ كونه تعالى ملكاً يفارق كون غيره ملكاً، فالملوكيّة جُبِلت على الظلم والتعدّي والإفساد.

قال سبحانه:( إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) ( النمل / ٣٤ ).

وقال سبحانه:( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) ( الكهف / ٧٩ ).

فذكره مع اسم « القدُّوس » لتبيين نزاهته من كل ما ينسب إلى الملوك من الأفعال والصفات، ثمّ إنّ اسم القدُّوس يدلّ على تعاليه عن كل ما لا يناسب ساحته فيندرج تحته الصفات السلبية التي ذكرها المتكلّمون في كتبهم وهي :

١ ـ واحد ليس له نظير ولا مثيل.

٢ ـ ليس بجسم ولا في جهة ولا في محلّ ولا حالّ ومتحد.

٣ ـ ليس محلاً للحوادث.

٤ ـ لا تقوم اللَّذة والألم بذاته.

٥ ـ لا تتعلّق به الرؤية.

٦ ـ ليست حقيقته معلومة لغيره بكنهه وبالتالي ليس جوهراً ولا عرضاً.

وقد برهن المتكلّمون على نفي هذه الصفات عن ساحته ببراهين رصينة من أراد فليرجع إليها(١) .

__________________

(١) لاحظ « الالهيات »: ص ٤٥٣ ـ ٤٨٧ محاضراتنا بقلم الفاضل الشيخ حسن مكي العاملي.

٤٠٧

المائة والواحد: « القريب »

وقد استعمل القريب مرفوعاً ومنصوباً في الذكر الحكيم ٢٦ مّرة ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثلاثة.

قال سبحانه:( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ( البقرة / ١٨٦ ).

وقال سبحانه:( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) ( هود / ٦١ ).

وقال سبحانه:( وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) ( سبأ / ٥٠ ).

ولأجل المناسبة بين قربه سبحانه وسماع دعاء العبد ضمّ إليه وصف المجيب تارة والسميع اُخرى وقد مرّ تفسير ذلك الاسم عند البحث عن اسم « الأقرب » فلاحظ.

المائة والثاني: « القويّ »

وقد جاء لفظ « القويّ » في الذكر الحكيم معرّفاً ومنكراً ١١ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في ٨ موارد.

قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / ٥٢ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) ( هود / ٦٦ ).

وقال سبحانه:( وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحج / ٤٠ ).

إلى غير ذلك من الآيات(١) .

وقد استعمل تارة مع اسم « العزيز » واُخرى مع « شديد العقاب ».

__________________

(١) لاحظ ( غافر / ٢٢ )، ( الشورى / ١٩ )، ( الحديد / ٢٥ )، ( المجادلة / ٢١ )، ( الاحزاب / ٢٥ ).

٤٠٨

وأمّا معناه فقد ذكر ابن فارس له معنيان فقال: « يدل أحدهما على شدّة وخلاف ضعف، والآخر على خلاف هذا وعلى قلّة خير، فالأوّل القوّة والقوي خلاف الضعيف »(١) .

وقال الراغب: القوّة تستعمل تارة في معنى القدرة نحو قوله:( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ) وتارة للتهيّؤ الموجود في الشيء نحو أن يقال: النوى بالقوّة نخل أي متهيّئ ومترشح أن يكون منه ذلك.

الظاهر أنّ القوّة لا ترادف القدرة المطلقة بل المراد هو المرتبة الشديدة، سواء أريد منه القوّة البدنيّة نحو قوله:( وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) أو القدرة القلبية مثل قوله( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) أي بقوّة قلب، أو القوّة الخارجيّة، مثل قوله( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) .

والمراد المال والجند وقال:( نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ) ، وعلى هذا يعود معنى القوّة إلى القدرة التامّة التي لا يعارضها شيء، ولأجل ذلك قورن مع « شديد » تارة و « العزيز » اُخرى، فمعنى قوله:( قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) : انّه سبحانه قويّ لا يضعف عن أخذهم، شديد العقاب إذا أخذ.

قال الصدوق: « القويّ معناه معروف وهو القويّ بلا معاناة ولا استعانة »(٢) .

قال الرازي: « اتّفق الخائضون في تفسير أسماء الله على أنّ القوّة هنا عبارة عن كمال القوّة، كما أنّ المتانة عبارة عن كمال القوّة فعلى هذا، « القوّة المتينة » اسم للقدرة البالغة في الكمال إلى أقصى الغايات ».

ثمّ قال: « وعندي أنّ كمال حال الشيء في أن يؤثّر، فيسمّى قوّة وكمال حال

__________________

(١) الأصل نادر الاستعمال.

(٢) التوحيد: ص ٢١٠.

٤٠٩

الشيء أن لا يقبل الأثر من الغير فيسمّى أيضاً قوّة، وذلك لأنّ الإنسان الذي يقوىٰ على أن يصرع الناس يسمّى قويّاً شديداً والإنسان الذي لا ينصرع من أحد يسمّى أيضاً قوياً، وبهذا التفسير يسمّى الحجر والحديد قويّاً »(١) .

أقول: الظاهر أنّ ما ذكره من التفصيل للقوّة تحليل فلسفي، والمتبادر من القوّة هو القدرة التامّة. نعم لازم كونه كذلك أن يكون مؤثّراً في الممكنات، وأن لا يؤثّر فيه شيء، لأنّ التأثّر من الغير آية الضعف، فهو المؤثّر في كل شيء، ولا يتأثّر من كل شيء، والظاهر أنّ اطلاق القويّ على الله في الآيات بالاعتبار الأوّل.

يقول سبحانه:( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / ٥٨ ).

ويقول سبحانه:( إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / ٥٢ ).

فإنّ شدّة العقاب آية التأثير في الغير وقال:( وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) ( الأحزاب / ٢٥ ). فالغلبة في القتال آية القوّة.

المائة والثالث: « القيُّوم »

قدورد لفظ « القيّوم » في الكتاب العزيز ٣ مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في جميع الموارد.

قال سبحانه:( اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) ( البقرة / ٢٥٥ ).

وقال:( اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ *نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ ) ( آل عمران / ٢ و ٣ ).

__________________

(١) لوامع البينات: ص ٢٩٤.

٤١٠

وقال سبحانه:( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) ( طه / ١١١ ).

وأمّا معناه فقد قال الراغب: « القيّوم » القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه، وذلك هو المعنى المذكور في قوله:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) ( طه / ٥٠ ).

ففي قوله:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) ( الرعد / ٣٣ ).

قال الصدوق: « القيّوم » و « القيّام » هما فيعول وفيعال من قمت بالشيء، إذا ولّيته بنفسك وتولّيت حفظه وإصلاحه وتقديره.

وفسّر الرازي كونه قيّوماً ب‍ « قيام الممكنات بأسرها به، فهو قائم بالذات وغيره قائم بالغير ».

قال العلّامة الطباطبائي: « القيّوم من القيام، وصف يدل على المبالغة، والقيام هو حفظ الشيء، وفعله، وتدبيره، وتربيته، والمراقبة عليه، والقدرة عليه، كلّ ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب، للملازمة العاديّة بين الامتثال وهذه الاُمور، وقد أثبت الله تعالى أصل القيام ـ باُمور خلقه ـ لنفسه ».

قال سبحانه:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) .

وقال سبحانه:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( آل عمران / ١٨ ).

فأفاد أنّه قائم على الموجودات بالعدل، فلا يعطي ولا يمنع شيئاً إلّا بالعدل باعطاء كل شيء ما يستحقّه، وإنّ القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين، فبعزّته يقوم على كل شيء، وبحكمته يعدل.

وبعبارة اُخرى لـمّا كان تعالى هو المبدئ الذي يبتدئ منه وجود كل شيء

٤١١

وأوصافه وآثاره، ولا مبدئ سواه، إلّا وهو ينتهي إليه، فهو القائم على كل شيء من كل جهة، القيام الذي لا يشوبه فتور وخلل، وليس ذلك لغيره قط إلّا بإذنه ومشيئته(١) .

ثمّ إنّ كونه سبحانه قيّوماً وقائماً بكل شيء لا ينافي كون الموجودات الامكانية ذا آثار وخصائص وأفعال وأعمال تنسب إليها على وجه الاضطرار كالحرارة إلى النار أو على وجه الاختيار كالافعال الاختيارية للإنسان، فإنّ قيام هذه الاُمور بآثارها وأفعالها ليس بنفسها وإنّما هي آثار لها باذنه سبحانه ومشيئته، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ نسبة الوجودات الإمكانية إلى الواجب، نسبة المعاني الحرفيّة إلى الاسميّة، فلو غضّ النظر عن المعنى الاسمي فلا يبقى لها أثر في الذهن والخارج.

وبذلك يظهر أنّ اسم « القيّوم » اُمّ الأسماء الإضافية الثابتة له تعالى جميعاً والمراد منها الأسماء التي تدلّ على معان خارجة عن الذات كالخالق والرازق والمبدئ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها.

وبعبارة اُخرى: إنّما هو اُمّ لصفاته الفعلية جميعاً.

ويقول الرازي: إنّ قوله الحي القيّوم كالينبوع لجميع مباحث العلم الالهي ولعلّه يشير بذلك إلى أنّ قيام الممكنات به يستلزم حضورها عنده، وحضورها لديه يستلزم علمه به كما يستلزم تدبيره و

__________________

(١) الميزان: ج ٢، ص ٣٣٠.

٤١٢

حرف الكاف

المائة والرابع: « الكافي »

قد ورد في الذكر الحكيم مرّة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى:( أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ( الزمر / ٣٦ ).

أمّا معناه، فقال ابن فارس: يدل على « الحسب » الذي لامستزاد فيه وهذا هو المتبادر من سائر مشتقّاته في القرآن وغيره، وقال:( وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( الفرقان / ٣١ ).

قال الراغب: الكفاية ما فيه سد الخلّة وبلوغ المراد من الأمر وهو سبحانه الكافي في اُمور العبد، وهو يقوم بكلّ ما يحتاج إليه العبد، ولو يخوّفونك أيّها النبي، فالله هو الكافي، قال سبحانه:( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ( البقرة / ١٣٧ ).

المائة والخامس: « الكبير »

قد ورد لفظ « الكبير » مرفوعاً ومنصوباً ٣٦ مرّة، وقع وصفاً له سبحانه في موارد ستّة، وإقترن باسم « المتعال » تارة و « العلي » اُخرى.

قال سبحانه:( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ ) ( الرعد / ٩ ).

٤١٣

وقال سبحانه:( وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( الحج / ٦٢ )(١) .

وأمّا معناه: فقد قال ابن فارس: يدل على خلاف الصغر، والكِبْر ـ بكسر الكاف وسكون الباء ـ معظم الأمر، قوله عزّ وجلّ:( وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ ) ( النور / ١١ ) أي معظم أمره، وأمّا الكبر ـ بضم الكاف ـ فهو القعيد، يقال: الولاء للكبر يراد به أقعد القوم في النسب وهو الأقرب إلى الأب الأكبر.

قال الراغب: « الكبير والصغير من الأسماء المتضايفة التي تقال عند اعتبار بعضها ببعض ويستعملان في الكمّية المتّصلة كالأجسام وذلك كالكثير والقليل، وفي الكميّة المنفصلة كالعدد، وثمّ استعير للمتعالي فيطلق على ما اعتبر فيه المنزلة والرفعة نحو « قل أي شيء أكبر شهادة ؟ قل الله شهيد بيني وبينكم » ونحو الكبير المتعال، ومنه قوله: « كذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها » أي رؤسهائها.

أقول: « إنّ اقتران اسم « المتعال » و « العلي » بالكبير، يعرب عن كون الملاك في توصيفه سبحانه هو الرفعة والمنزلة، وكل كمال يتصوّر.

والصدوق فسّره بالسيّد قائلاً: بأنّ سيد القوم كبيرهم، ولكن مراده ما ذكرناه، وقال: « الكبرياء » اسم التكبّر والتعظّم، وقال العلّامة الطباطبائي: « والذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء أنّه تعالى يملك كل كمال لشيء ويحيط به، فهو تعالى كبير أي له كمال كل ذي كمال وزيادة »(٢) .

ولأجل علو منزلته ورفعتها، وقع علّة لكون الحكم له دون غيره قال:( وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالحُكْمُ للهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) ( غافر / ١٢ ).

__________________

(١) لاحظ أيضا ( النساء / ٣٤ )، ( لقمان / ٣٠ )، ( سبأ / ٣٢ )، ( غافر / ١٢ ).

(٢) الميزان: ج ١١، ص ٣٣٨.

٤١٤

المائة والسادس: « الكريم »

قد ورد في الذكر الحكيم مرفوعاً ومنصوباً ٢٦ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثلاثة :

قال سبحانه:( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ( المؤمنون / ١١٦ )، وقال سبحانه:( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / ٤٠ )، وقال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ( الانفطار / ٦ ).

وأمّا معناه فقال ابن فارس: فهو شرف الشيء في نفسه أو شرف في خلق من الأخلاق يقال رجل كريم وفرس كريم. الكرم في الخُلق يقال هو الصفح عن ذنب المذنب. قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: الكريم الصفوح والله تعالى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده المؤمنين.

قال الراغب: إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وانفاقه المتظاهر نحو قوله:( إِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه.

وما ذكره هو الظاهر في قوله: « غنيّ كريم » دون سائر الآيات، وكيف وقد وصف اُمور كثيرة بمعنى واحد.

وذلك كالرزق نحو:( وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) ( الأنفال / ٤ ) والملك نحو:( إِنْ هَٰذَا إلّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) ( يوسف / ٣١ )، والمقام نحو:( وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) ( الشعراء / ٥٨ )، والرسول نحو:( رَسُولٌ كَرِيمٌ ) ( الدخان / ١٧ )، والكتاب نحو:( أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) ( النمل / ٢٩ ). والتوصيف في الجميع بمعنى واحد.

ولذلك لجأ الصدوق إلى ذكر معنيين له ففسّره تارة بالعزيز، يقال: فلان أكرم عليّ من فلان أي أعز منه، ومنه قوله عزّ وجلّ:( لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) واُخرى بالجواد

٤١٥

المتفضّل يقال رجل كريم أي جواد.

والظاهر أنّ الكريم له معنى واحد وهو ما نبّه إليه ابن فارس أعني الشرف في الذات أو في الخلق، والأنعام والجود من مظاهره، كما أنّ الصفح عن العدو بعد المقدرة عليه من آثاره، وإلى ذلك يرجع ما ذكره بعضهم في تفسيره بأنّه كون الشيء تامّاً بحسب مرتبته والله سبحانه كريم باعتبار تماميّته في الوهيّته ذاتاً وصفة وفعلاً.

وأمّا توصيف الكافر بالكريم في قوله سبحانه:( ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) ( الدخان / ٤٩ ). فإنّما هو للاستهزاء تشديداً لعذابه، فقد كان يرى في الدنيا لنفسه عزّة وكرامة لا تفارقانه كما يظهر ممّا حكى الله سبحانه من قوله:( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ) ( فصّلت / ٥٠ ).

٤١٦

حرف اللام

المائة والسابع: « اللطيف »

وقد ورد في الذكر الحكيم ستّ مرّات ووقع في الجميع وصفاً له سبحانه وقورن ب‍ « الخبير » تارة و « العليم الحكيم » تارة اُخرى.

قال سبحانه:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الانعام / ١٠٣ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( يوسف / ١٠٠ ).

وقال سبحانه:( فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( الحج / ٦٣ ).

وقال سبحانه:( فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان / ١٦ ).

وقال سبحانه:( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) ( الشورى / ١٩ ).

وقال سبحانه:( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / ١٤ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) ( الأحزاب / ٣٤ ).

أمّا معناه فالظاهر من ابن فارس أنّ له معنيين أحدهما « الرفق » والثاني « صغر

٤١٧

في الشيء »(١) .

فمن الأوّل قوله:( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ) .

وأمّا الثاني فالظاهر أنّ المراد من الصغر في الشيء هو كونه دقيقاً فوق الحسّ. ولأجل ذلك علّل سبحانه قوله:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) بكونه لطيفاً كما تقدّم وربّما يتطوّر ويستعمل في النافذ في الأشياء لأنَّ الشيء الصغير ينفذ في المجاري والثقوب الصغار. ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه علّل علمه بما خلق بكونه لطيفاً، وقال سبحانه:( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / ١٤ ) وعليه فيصحّ تفسيره بكونه مجرّداً أو ما هو قريب منه ويكون كناية عن حضوره وإحاطته بباطن الأشياء وظاهرها، وربّما يكنّى به عن تعاطي الاُمور الدقيقة كما في قوله سبحانه:( فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( الحج / ٦٣ )، وعليه يحمل قوله سبحانه:( فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) ( الكهف / ١٩ ) أي يعمل بلطف ودقّة.

هذا على القول بأنّ لمصدر « اللطيف » معنيين: الرفق والدّقة، ويمكن ارجاع المعنى الأوّل إلى الثاني أيضاً لأنّ الرأفة والمحبّة رهن تعاطي الاُمور الدقيقة حتى تستهوي القلوب.

وعلى كل حال فالله سبحانه « لطيف » أي دقيق لا يدرك، ويتعاطى الاُمور الدقيقة فيخلق أشياء فوق الحواس، لطيف أي رؤوف بأعمال الاُمور الدقيقة وهكذا، فتوصف به الذات كما يوصف به الفعل.

قال الرازي: « إنّ اللطيف له تفاسير أربعة :

١ ـ إنّ الشيء الصغير الذي لا يحسّ به لغاية صغره يسمّى لطيفاً، والله

__________________

(١) يظهر من القاموس أنه إذا أخذ « لطف » من باب « نصر » يكون بمعنى البرّ والاحسان، وإذا اخذ من باب « كرم » يكون بمعنى صغر ودقة.

٤١٨

سبحانه لـمّا كان منزّها عن الجسميّة والجهة لم يحسّ به، فأطلقوا اسم الملزوم على اللازم، فوصفوه تعالى بأنّه لطيف أي غير محسوس، وكونه لطيفاً بهذا الاعتبار يكون من صفات التنزيه.

٢ ـ اللطيف هو العالم بدقائق الاُمور وغوامضها، وعلى هذا التفسير يكون اللطف عبارة عن سعة علمه فيكون من الصفات الذاتية.

٣ ـ اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ويهيء مصالحهم من حيث لا يحتسبون، ومنه قوله سبحانه:( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ) .

٤ ـ اللطيف من يعلم حقائق المصالح وغوامضها ثم يسلك في إيصالها إلى مستحقها سبيل الرفق دون العنف.

فإذا اجتمع هذا العلم وهذا العمل تمَّ معنى اللطف »(١) .

ولا يخفى أنّ ما ذكره من المعاني الأربعة من لوازم معنى اللطيف وهو الدقيق أو من يتعاطى الأعمال الدقيقة واللّغة العربية خصيصتها التطوّر واشتقاق معنى من معنى بمناسبة فطرية أو ذوقيّة، فمعنى اللطيف وإن لم يمكن تحديده بوجه كامل، ولكن المراد منه واضح في الآيات.

وأمّا حظُّ العبد من هذا الاسم فلو فسّر اللطيف بالرفق فحظّه الرفق بعباد الله كاللطف بهم في الدعوة إلى الله كما قال سبحانه:( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا ) ( طه / ٤٤ ).

فإن فسّر بتعاطي الأعمال الدقيقة فحظّه هو الدقة في الأعمال والأقوال وترك التساهل والمسامحة.

__________________

(١) لوامع البينات: ص ٢٤٦.

٤١٩

كلام في رؤيته سبحانه

قد وقفت على أنّه سبحانه علّل قوله:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) بكونه لطيفاً خبيراً، فاللطيف تعليل للحكم السلبي، والخبير تعليل للحكم الإيجابي، وعلى ذلك فالله سبحانه فوق أن يكون مرئيّاً للأبصار، محاطاً بالجهة والمكان، فمن كان هذا خصيصته، لا يرى في الدنيا والآخرة.

ولكن الأسف أنّ هذا الأصل العقلي قد وقع مورد نقاش بين المسلمين فذهبت طائفة إلى امكان رؤيته في الدنيا والآخرة كما ذهبت طائفة اُخرى إلى التفصيل وهو أنّه سبحانه لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة تبعاً للحديث النبوي: « إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر »(١) وإليك التفصيل.

اتّفقت العدلية على أنه سبحانه ليس جسماً ولا له جهة، وبالتالي لا يمكن رؤيته لا في الدنيا ولا في الاخرة، وأمّا غيرهم فالمجسّمة الذين يصفون الله سبحانه بالجسم ويثبتون له الجهة جوّزوا رؤيته في الدارين.

وأمّا الأشاعرة فهم يعدّون أنفسهم من أهل التنزيه ولكنّهم يقولون بالرؤية يوم القيامة فقط(٢) .

وقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري أقوالاً في الرؤية تربو على تسعة عشر قولاً، غير أنّ أكثرها سخافات ومن عجيب ما جاء في خلال تلك الأقوال: إنّ « ضراراً » و « حفصا الفرد » يقولان: إنّ الله لا يرى بالأبصار، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسّة سادسة غير حواسّنا فندركه بها.

قال الحسين النجّار: إنّه يجوز أن يحوّل العين إلى القلب ويجعل لها قوّة

__________________

(١) مسند أحمد: ٣ / ١٦.

(٢) المواقف: ج ٢، ص ٣٦٨.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538