مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237502 / تحميل: 6103
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ويلٌ لأولاد آخر الزمان مِن آبائهم

رُوي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنَّه نظر إلى بعض الأطفال فقال: (ويلٌ لأولاد آخر الزمان مِن آبائهم!).

فقيل: يا رسول الله، مِن آبائهم المُشركين؟

فقال: (لا، مِن آبائهم المؤمنين لا يُعلِّمونهم شيئاً مِن الفرائض، وإذا علَّموا أولادهم منعوهم ورضوا عنهم بعرضٍ يسير مِن الدنيا، فأنا منهم بريءٌ وهُمْ مِنِّي بُرآءُ) (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج1.

٢٦١

مَن سعى تفاخراً وتكاثُراً فهو في سبيل الشيطان

كان النبي (صلى الله عليه وآله) جالساً مع أصحابه ذات يوم، فنظر إلى شابٍّ ذي جَلدٍ وقوَّة وقد بكَّر يسعى.

فقالوا: ويحَ هذا! لو كان شبابه وجَلده في سبيل الله!

فقال (صلى الله عليه وآله): (لا تقولوا هذا؛ فإنَّه إنْ كان يسعى على نفسه ليكُفَّها عن المسألة ويُغنيها عن الناس فهو في سبيل الله.

وإنْ كان يسعى على أبوين ضعيفين و ذُرِّيَّةٍ ضعافٍ ليُغنيهم ويكُفَّيهم فهو في سبيل الله

وإنْ كان يسعى تفاخُراً وتكاثُراً فهو في سبيل الشيطان) (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج1.

٢٦٢

تارك الطلب لا يُستجاب له دعوات

روى علي بن عبد العزيز، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:

قال لي: (ما فعل عمر بن مسلم؟).

قلت: جُعِلت فِداك! أقبل على العبادة وترك التِّجارة.

فقال: (ويحَه، أما عَلم أنَّ تارك الطلب لا يُستجاب له دعوات؟!) (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج1.

٢٦٣

أنا أصبِر عن اللَّحم

روي أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مَرَّ بقصَّابٍ وعنده لحمٌ سَمين.

فقال: يا أمير المؤمنين، هذا اللَّحم سمين اشترِ منه.

فقال (عليه السلام): (ليس الثمنُ حاضراً).

فقال: أنا أصبر يا أمير المؤمنين.

فقال له: (أنا أصبر عن اللَّحم) (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج1.

٢٦٤

اعمل واحمل على رأسك

واستغنِ عن الناس

جاء رجلٌ إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: إنَّه لا يملك يداً سالمةً، ولا مالاً ليُتاجر به، فأبى عليه أنْ يُضيِّع عِزَّته وشرفه بذل السؤال فقال له:

(اعمل واحمل على رأسك واستغنِ عن الناس) (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج1.

٢٦٥

أحسن الناس مَعاشاً

قال علي بن شعيب: دخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال لي: (يا عليُّ، مَن أحسن الناس معاشاً؟).

قلت: أنت - يا سيدي - أعلم به مِنِّي.

فقال (عليه السلام): (يا عليُّ، مَن حسن معاش غيره في معاشه) (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج1.

٢٦٦

أسوأ حالٍ أنْ يُرى المعروف مُنكراً والمُنكر معروفاً

نبيُّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) في حديث له، عن حالة الضلال الخطيرة هذه للمسلمين قال:

(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفَسق شبَّانكم ولم تأمروا بمعروفٍ ولم تنهوا عن مُنكرٍ؟!).

فقيل له: ويكون ذلك - يا رسول الله ـ؟!

قال: (نعم، وشَرٌّ مِن ذلك، فكيف بكم إذا أمرتم بالمُنكر ونهيتم عن المعروف؟!).

فقيل: يا رسول الله، ويكون ذلك؟!

قال: (نعم، وشَرٌّ مِن ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف مُنكراً والمُنكر معروفاً؟!) (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج1.

٢٦٧

لا حاجة للعِباد بالمُحرَّم مِن الأشياء

بعث محمد بن سنان رسالة إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، وسأله فيها عن تصوُّر بعض المسلمين أنَّ الحلال والحلال في الإسلام لا يستند على أساس مصلحة وفساد الناس، بلْ عِبادة وطاعة الله تبارك وتعالى، فكتب إليه الإمام (عليه السلام):

(قد ضَلَّ مَن قال ذلك ضَلالاً بعيداً).

وقال (عليه السّلام) ضمن الرسالة عن مُحرَّمات الإسلام:

(ووجدنا المُحرَّم مِن الأشياء لا حاجة للعباد إليه، ووجدناه مُفسداً داعياً إلى الفَناء والهلاك) (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج1.

٢٦٨

الحلال والحرام لمَصلحة العباد

يقول المفضل بن عمر: سألت الإمام الصادق (عليه السلام):

لماذا حرَّم الله تعالى الخَمر، والمِيتة، والدَّم، ولحَم الخِنزير على الناس؟

فقال (عليه السلام):

(إنَّ حرام الله وحلاله لم يكن على أساس الرَّغبة والزُّهد، ولكنَّه خَلق فعَلِم ما تقوم به أبدانهم وما يُصلِحهم؛ فأحلَّه لهم واباحه تفضُّلاً منه عليهم لمصلحتهم، وعَلِم ما يضرُّهم فنهاهم عنه وحرَّمه عليهم) (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج1.

٢٦٩

ترحيب المسلمين بتحريم الخَمر

ذات يوم دعا سعد بن أبي وقَّاص أحد الأنصار، وكان قد تآخى معه فتناولا الطعام والشراب وسكر الاثنان، وهُما في حالةِ السُّكر ذكرا مَفاخر الجاهليَّة، وبالتدريج وصل الأمر بينهما إلى الشِّجار، فتناول الأنصاري عِظام فَكِ بعيرٍ كان على المائدة وضرب به وجه سعد فَشَجَّ له أنفه.

بعد هذه الحادثة نزلت آية منع الخَمر: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) (المائدة: 90 - 91).

مع نزول آية التحريم زالت عادة شِرب الخَمر وصناعتها، ورحَّب الناس بهذا الأمر الإلهيِّ ترحيباً حارَّاً، وأراقوا الخمر التي في بيوتهم، وحطَّموا كوؤس الشراب، بحيث إنَّ رائحة الخَمر كانت تُشتُّم في طُرقات المدينة عِدَّة أيَّام.

عندما أعلن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمر التحريم، كان هناك شابٌّ أسرع إلى المنزل ليُخبر والديه بالخبر، وعندما وصل إلى المنزل وجد أباه مع عددٍ مِن الضيوف يتساقون الخَمر، وكان الأبّ يُقرِّبُ قدح الخمر مِن فَمهِ، فصاح فيه الابن: لا تشرب يا أبه؛ لأنَّ الله سبحانه قد حَرَّم شِرب الخَمر، فأطاع الأبّ فوراً وجمع مائدة الشراب، وهكذا فعل بقيَّة المسلمين (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج1.

٢٧٠

هدانا الله بأحمدَ المهديِّ النبيِّ

كان عمرو بن الجَموح سيِّداً مِن سادات بني سلمة، وشريفاً مِن أشرافهم، وكان قد اتَّخذ في داره صَنماً مِن خشب يُقال له: (مَناة) كما كانت الأشراف تصنع، تتَّخذ إلهاً تُعظِّمه وتُقدِّسه، فلمَّا أسلم فتيان مِن بني سلمة، معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو بن الجَموح، في فتيانٍ منهم مِمَّن أسلم وشَهِد العَقبة، كانوا يُدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه ويطرحونه في بعض حُفر بني سلمة - وفيها عذر الناس - مُنكَّساً على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلَكم! مَنْ عدا على آلهتنا هذه الليلة؟

ثمَّ يغدو يتلمَّسه حتَّى إذا وجده غسله وطهَّرهُ وطيَّبه، ثمَّ قال: أما والله، لو أعلم مَن فعل هذا بك لأُخزينَّه، فإذا أمسى عمرو ونام عدوا عليه، ففعلوا به مِثل ذلك، فيغدو فيجده في مِثل ما كان فيه مِن الأذى، فيغسلهُ ويُطهِّره ويُطيِّبهُ، ثمَّ يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مِثل ذلك، فلمَّا أكثروا عليه استخرجه مِن حيث ألقوه يوماً فغسلهُ وطَهَّرهُ وطَيَّبهُ، ثمَّ جاء بسيفه فعلَّقه عليه، ثمَّ قال: إنِّي - والله - ما أعلم مَن يصنع بك ما ترى، فإنْ كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك.

فلمَّا أمسى عمرو ونام، عدوا عليه، فأخذوا السيف مِن عُنقه ثمَّ أخذوا كلباً مَيِّتاً فقرنوه به...، ثمَّ ألقوه في بئر مِن آبار بني سلمة فيها عَذر مِن عَذر الناس، ثمَّ غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به.

فخرج يتبعه حتَّى وجده في تلك البئر مُنكَّساً مقروناً بكلبٍ مَيِّتٍ، فلمَّا رآه وأبصر شأنه، وكلَّمه مَن أسلم مِن قومه فأسلم برحمة الله، وحَسُنَ إسلامُهُ، فقال - حين أسلم وعرف مِن الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر مِن أمره، ويشكر الله تعالى الذي أنقذه مِمَّا كان فيه مِن العَمى والضلالة ـ:

٢٧١

والله لـو كـنت إلهاً لم تكنْ

أنت وكلبٌ وسْطَ بئرٍ في قَرَنْ

أفٍّ لـمَلقاك إلـهاً مُـسْتَدَنْ

الآن فتَّشناك عن سوء الغَبَنْ

الـحمد لـله العليِّ ذي المِنن

الـواهب الرزَّاق ديَّان الدِّيَنْ

هـو الـذي أنـقذني مِن أنْ

أكـون في ظُلْمَةِ قَبرٍ مُرتَهَنْ

بأحمدَ المهديِّ النبيِّ المؤتَمن (1)

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج1.

٢٧٢

ما رأيت مُعلِّماً أرفق مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتصرَّف برِفقٍ لهداية الناس، ويُذكِّرهم بالتعاليم الإصلاحيَّة بكلِّ أدبٍ ولين، وهذا العمل بحدِّ ذاته كان مِن عوامل نفوذ كلامه (صلى الله عليه وآله) في قلوب الناس.

عن هلال بن الحكم قال: لمَّا قَدِمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) علمت أُموراً مِن أُمور الإسلام، وكان فيما علمت، قيل لي: إذا عطست، فاحمد الله، وإذا عطس العاطس اطلب الرحمة له.

فبينا أنا في الصلاة خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ عطس رجل، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: ما لكم تنظرون إليَّ بعين شَزَر؟! فسبَّح القوم فلمَّا قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاته، قال: (مَن المُتكلِّم؟).

قالوا: هذا الأعرابي، فدعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال:

(إنَّما الصلاة للقراءة ولذكر الله عَزَّ وجَلَّ، وإذا كنت في الصلاة فليكُن ذلك حالك). قال: فما رأيت مُعلِّماً أرفق مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج2.

٢٧٣

ليس لابنِ البيضاء على ابنِ السوداء فَضلٌ

كان أبو ذر الغفاري مِن الرجال الإلهيِّين، ومِن الأصحاب المُحترمين للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وذات يوم زلَّ في الكلام أمام الرسول (صلى الله عليه وآله) بحَقِّ بلال بن رباح الحبشي، فقال له: يا بن السوداء إشارة إلى أُمِّه.

غضب لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وألقاها في وجه أبي ذر عنيفةً مُخفية: (يا أبا ذر، طُفَّ الصَّاعُ! ليس لابنِ البيضاء على ابنِ السوداء فضل).

أيْ أنْ لا يتصوَّر البِّيض أنَّهم أفضل مِن السود، بلْ إنَّ جميعهم مُتساوون وأفضلهم مَن اتَّصف بالإنسانيَّة والعلم والتقوى، وسار في طريق الفضائل لنيل الكمال اللائق به (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج2.

٢٧٤

مشورةٌ في وقتها

خالد البرمكي كان مِن أصحاب الرأي والمَشورة، وربطته مع قحطبة عَلاقات اجتماعيَّة. وقد استفاد قحطبة، خلال أيَّام حُكمه، مِن الآراء والأفكار الصائبة لخالد، ومنها:

عندما وصلت الأنباء عن استعداد ابن ضبارة لقتال قحطبة، وأنَّ جيشه عبر الحدود ودخل أراضي قحطبة، تلقَّى الأخير هذه الأنباء بقَلقٍ شديدٍ، فجهَّز خمسين ألف فارس تجهيزاً كاملاً، وتحرَّك حتَّى وصل قُرب الحدود، ولكنَّه لم يجد أثراً لجيش العدوِّ، فاطمأنَّ وأمر جنوده بالاستراحةِ في أرضٍ واسعةٍ مكشوفةٍ، وعزم على البقاء في تلك المنطقة عِدَّة أيَّام.

يقول خالد: ذات ليلة كنت جالساً في خيمتي، فإذا بغزال يُسرع فجأة نحو الخيمة خائفاً مُضطرباً، فقام مَن كان موجوداً في الخيمة للإمساكِ بالغزال، فأمرتهم أنْ يكفُّوا عن الغزال ويُسرعوا لوضع السروج على الخيول ويستعدُّوا للقتال؛ لأنَّ العدوَّ قريب مِنَّا. وأسرعتُ إلى قحطبة وقلت له: أصدر أمرك إلى الجنود ليستعدُّوا؛ فابن ضبارة وجيشه يقتربون مِنَّا. أصدر أوامره، وخرج الجنود مِن الخِيم، وأعدُّوا الخيول واستعدُّوا للقتال، ولم يطل الأمر حتَّى وصل جيش ابن ضبارة، وكان جنودنا مُستعدِّين، وفاجأوا جيش العدوِّ وهجموا عليهم، واحتدم قتال شديد، فقُتِل ابن ضبارة، وكان الانتصار الكبير مِن نصيب جيش قحطبة.

بعد انتهاء القتال سألني قحطبة: مَن أخبرك بقدوم جيش العدوِّ؟!

قلت: لم يُخبرني أحد، ولكنَّني رأيت غزالاً خائفاً في الليل يركضُ داخلاً خيمتي، وكنت أعلم أنَّ الغزال الوحشي يخاف مِن الإنسان، ولكنَّه لا يقترب منه إلاَّ في الأوقات التي يحسُّ فيها بخطر، ثمَّ إنَّ الغزال لا يترك مكانه ولا يبتعد عن

٢٧٥

تلك المنطقة مُسرعاً في ظلام الليل، علمت أنَّ وراءه جيش كبير مُخيف يتحرَّك؛ ولذا التجأ إلينا مِن خوفه.

فتعجَّب قحطبة لذكاء خالد وسُرعة فَهمِهِ؛ فأثنى عليه كثيراً ومنحه الجوائز والعطايا وقرَّبَهُ إليه (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج2.

٢٧٦

مَن يبخل بفضله يُستغَن عنه ويُذمَّ

كان هناك رجل قويٌّ حُكم منطقةً واسعةً مِن الهند، وكان مولعاً بجمع المال والثروة، مُعتقداً أنَّ الغِنى يعني القوَّة؛ ولذا يُحبُّ أنْ يسعى كثيراً ليزيد مِن ثروته، فيزيد بهذه الطريقة قُدرته وقوَّته.

كان لهذا الحاكم وزير عاقل وذكيٌّ مُخالف لطريقته، فكان يستغلُّ كلَّ فرصة تسنح لينصح الحاكم في أنْ يُعطي مِن ثروته للناس؛ ليكسب قلوبهم ويبعث فيهم السرور، ويجذب إلى نفسه الأنظار، فكان يقول له: ضَحِّ بشيءٍ مِن ثروتك؛ كي لا يتمرَّد عليك الجيش ويسوء حاله، فالمال لا يخلق الرجال ولكنْ بإمكان الرجل أنْ يحصل على الكثير مِن المال.

ورغم أنَّ الوزير عَلِم أنَّ الحاكم قد أغاظه تكرار نصحه، لكنَّه لم يكفَّ عن أداء واجبه واستمرَّ في تقديم نصائحه.

وذات يوم أصرَّ الوزير أكثر مِن الأيَّام السابقة على نصائحه، وبدون أنْ يُجيب الحاكم على الوزير أمر بإحضار قدح مِن العَسل، ثمَّ وضعه أمام الوزير، ولم يمضِ وقت طويل حتَّى اجتمع ذُباب كثير على العَسل، بعد أنْ شاهد الوزير ذلك طلب الإذن بالانصراف، وخرج مِن المجلس وهو يقول في نفسه: لقد عرفت ما يقصده الحاكم، فقد أراد إفهامي أنَّ الذهب كالعسل، فكما يجتمع الذُّباب على العسل، يجتمع الناس بوجود الذهب، ولهذا السبب بادرتُ إلى جمع الثروة.

وصبر الوزير حتَّى المساء، وعندما أرخى الليل سدوله مَلأ قدحاً بالعسل وأخذه إلى بيت الحاكم، وطلب اللقاء به لأمرٍ مُهمِّ، فَسُمِح له، ومَثُلَ أمام الحاكم ووضع قدح العسل أمامه على الأرض، وجلس هو على جانب في صمت وبما أنَّ الوقت كان ليلاً، لم تقترب ذُبابة واحدة مِن العسل، وبعد ساعةٍ تحدَّث الوزير

٢٧٧

وقال: أيُّها الحاكم الكبير، إنَّ الناس يأتون لأخذ الذهب عندما يُعطى لهم، تماماً مِثل الذُّباب عندما يجتمع على العسل في النهار، أمَّا في غير وقتهِ فلا يوجد مَن يهتمُّ بالذهب تماماً، مِثل هذا الليل المُظلم لا توجد ذُبابة واحدة تحطُّ على العسل.

اهتزَّ الحاكم بشِدَّة لكلام الوزير الذكي، وانتبه لنفسه، وما كان منه إلاَّ أنْ أثنى عليه واستحسنه، وشمله بعطفه وعنايته الخاصَّة. بعد ذلك سلك الحاكم أُسلوباً جديداً، إذ بدأ يبذل ثروته في سبيل رفاه الناس وتحسين معيشة جنوده وموظَّفيه، وهكذا اكتسب قلوب الناس ومحبَّتهم له (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج2.

٢٧٨

التحرُّز عن الزَّلل والخطأ أمام الأعداء

كان هناك رجل يُدعى جميل يعمل كاتباً لسنواتٍ طويلة في بلاطِ الساسانيِّين، وقد أدرك عصر الإمام علي (عليه السلام)، وفي زمن خلافته (عليه السلام) كان جميل قد بلغ أرذل العمر وعندما عاد أمير المؤمنين (عليه السلام) مِن النهروان، وسأل عن حال جميل أخبروه أنَّه لا زال على قيد الحياة، فأمر بإحضاره، وعند مثوله بين يدي الإمام علي (عليه السلام)، وجده الإمامُ (عليه السلام) يحتفظ بذكائِهِ، ولم يفقد إلاَّ بصره فسأله (عليه السلام): (كيف ينبغي للإنسانِ - يا جميل - أنْ يكون؟).

قال: يجب أنْ يكون قليل الصديق كثير العدوِّ.

ـ (أحسنتَ يا جميل، فقد أجمع الناس على أنَّ كثرة الأصدقاء أولى).

فقال: ليس الأمر على ما ظنُّوا؛ فإنَّ الأصدقاء إذا كُلِّفوا السعي في حاجة الإنسان لم ينهضوا بها كما يجب وينبغي.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (قد امتحنت هذا فوجدته صواباً. فما منفعة كثرة الأعداء؟).

قال: إنَّ الأعداء إذا كثروا يكون الإنسان مُتحرِّزاً أنْ ينطق بما يؤاخَذ عليه، أو تبدر منه زَلَّة يؤاخَذ عليها، فيبقى على هذه الحالة سليماً مِن الخطايا والزَّلل. فاستحسن ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) .

____________________

(1) الشيوخ والشباب، ج2.

٢٧٩

كفرتْ بأنعُم الله فأذاقها لِبَاس الجُوع والخَوف

كانت الخيزران أُمُّ الهادي والرشيد في دارها المعروفة اليوم بأشناس، وعندها أُمَّهات أولاد الخُلفاء وغيرهنَّ مِن بنات بني هاشم، وهي على بساطٍ أرمنيٍّ وهُنَّ على نمارق أرمنيَّة، وزينب بنت سليمان بن علي أعلاهُنَّ مرتبة، فبينا هُنَّ كذلك إذ دخل خادم لها فقال:

بالباب امرأة ذات حُسنٍ وجَمال في أطمار رَثَّةٍ، تأبى أنْ تُخبر باسمها وشأنها غيركنَّ، وتروم الدخول عليكنَّ، وقد كان المهدي تقدَّم إلى الخيزران بأنْ تَلزم زينب بنت سليمان بن علي، وقال لها: اقتبسي مِن آدابها، وخُذي مِن أخلاقها؛ فإنَّها عجوز لنا قد أدركت أوائلنا، فقالت الخيزران للخادم: ائذَن لها، فدخلت امرأة ذات بَهاء وجَمال في أطمار رَثَّةٍ، فتكلَّمت فأوضحت عن بيان، قالوا لها: مَن أنت؟ قالت: أنا مُزنَة امرأة مروان بن محمد، وقد أصارني الدهر إلى ما تَرَيْنَ. ووالله، ما لأطمار الرثَّة التي عليَّ إلاَّ عارية، وإنَّكم لمَّا غلبتمونا على هذا الأمر وصار لكم دوننا، لم نأمَن مِن مُخالطة العامَّة على ما نحن فيه مِن الضرر على بادرة إلينا ذيل موضع الشرف، فقصدناكم لنكون في حِجابكم على أيَّة حالة كانت، حتَّى تأتي دعوة مِن له الدعوة، فاغرورقت عَيْنَا الخيزران ونظرت إليها زينب بنت سليمان بن علي، فقالت لها: لا خفّف الله عنك يا مزنة، أتذكرين وقد دخلت عليك بحرَّان وأنت على هذا البساط بعينه، ونساء قرابتكم على هذه النمارق، فكلَّمتك في جثّة إبراهيم الإمام، فانتهرتيني وأمرت بإخراجي، وقلت: ما للنساء والدخول على الرجال في آرائهم؟! فوالله، لقد كان مروان أرعى للحَقِّ منك؛ لقد دخلت إليه فحلف أنَّه ما قتله، وهو كاذب، وخيَّرني بين أنْ يدفنه أو يدفع إليَّ جُثَّته وعرض عليَّ مالاً فلم أقبله.

فقالت مزنة: والله، ما نظنُّ هذا الحالة أدَّتني إلى ما ترينه إلاّ بالفِعال التي كانت منِّي وكأنَّكِ استحسنتِه، فحرَّضت الخيزران على فعل مثله، إنَّما كان يجب أنْ تُحضيها على فعل الخير

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

بحث التوحيد الذاتي.

وبعبارة اُخرى: إنّ مطالبة الله سبحانه بأن يخلق مثله مطالبة للجمع بين حالات وصفات متضادّة ومتناقضة غير ممكنة الإجتماع في شيء واحد.

فبما أنّنا نفترض إمكان تعلّق القدرة به يجب أن يكون ممكناً لا واجباً، حادثاً لا قديماً، وعلى فرض الوجود متناهياً لا غيره.

وبما أنّ المطلوب هو خلق مثله يجب أن يكون ـ على فرض الوجود ـ واجباً لا ممكناً، قديماً لا حادثاً، غير متناه لا متناه.

وهذا جمع بين الامكان والوجوب والحدوث والقدم، والمخلوقيّة والخالقيّة، والتناهي واللاتناهي في شيء واحد، وهو أمر محال قطعاً.

وبذلك تتبيّن الإجابة عن السؤال الثاني فإنّ عدم تعلّق القدرة بجعل العالم الفسيح العظيم الحجم في بطن البيضة الصغيرة ليس لقصور القدرة، وعدم سعتها، بل لأنّ المقترح أمر غير ممكن في حدّ ذاته، ومستلزم للمحال، إذ من جانب أنّ العقل يحكم بالبداهة بأنّ الظرف يجب أن يكون أكبر من مظروفه، والمظروف أصغر من ظرفه، ومن جانب آخر نطلب منه سبحانه شيئاً يكون الظرف فيه أصغر من مظروفه.

فعلى فرض التحقّق يلزم أن يكون شيء واحد في آن واحد بالنسبة إلى شيء واحد أصغر وأكبر وهو الجمع بين النقيضين، الممتنع بالبداهة.

أمّا السؤال الثالث: فهو أيضاً محال أو مستلزم للمحال، ففرض خلقه سبحانه شيئا لا يقدر على إفنائه فرض يستلزم المحال.

فبما أنّ الشيء المذكور أمر ممكن فهو قابل للافناء ولكنّه حيث قيّد بعدم الفناء يجب أن يكون واجباً غير قابل للفناء، وهذا يعني أن يجتمع في ذلك الشيء حالتان متناقضتان هما: الإمكان والوجوب، وإن شئت قلت: القابلية للفناء وعدم

٤٠١

القابلية له، وهو محال.

وبعبارة اُخرى: بما أنّ الشيء المذكور في السؤال المفروض فيه أنّه مخلوق لله سبحانه يجب أن يكون قادراً على إفنائه مع انّا قيّدناه بعدم القابلية للفناء، فيلزم أن نفترض كونه قابلاً للافناء وغير قابل له في آن واحد.

وممّا ذكرناه هنا يتبيّن حال كل مورد من هذا القبيل مثل أن يخلق الله جسماً لا يقدر على تحريكه، فإنّ هذا من باب « الجمع بين المتناقضين » إذ بما أنّ ذلك الجسم مخلوق متناه يجب أن يكون قابلاً للتحريك، وفي الوقت نفسه نفترض أنّه غير قادر على تحريكه.

فيكون السائل في هذا السؤال قد افترض إمكان تحريكه وعدمه، وافترض كذلك قدرته وعدم قدرته على ذلك.

وعلى الجملة فهذه الفروض وأمثالها ممّا تدور على الألسن لا تضرّ بعموم القدرة، ولا توجب تحديداً فيها بل المفروض في كل من هذه الأسئلة أمر محال ذاتاً وهو خارج عن محل البحث.

الثامن والتسعون: « القاهر »

وقد جاء القاهر في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال سبحانه:( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / ١٨ ).

وقال سبحانه:( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) ( الأنعام / ٦١ ).

٤٠٢

التاسع والتسعون: « القهّار »

وقد ورد في القرآن في موارد ستّة ووقع اسماً له سبحانه فيها وقورن مع اسم « الواحد ».

وقال سبحانه:( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / ٣٩ ).

وقال سبحانه:( قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد / ١٦ ).

وقال سبحانه:( وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( إبراهيم / ٤٨ ).

وقال سبحانه:( قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( سورة ص / ٦٥ ).

وقال سبحانه:( هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الزمر / ٤ ).

وقال سبحانه:( لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر / ١٦ ).

وبما أنّ الاسمين مشتقّان من مادة واحدة نبحث عنهما في مقام واحد فنقول: « القاهر » و « القهّار » من القهر.

قال ابن فارس: « القهر » يدل على غلبة وعلوّ، والقاهر: الغالب، وقُهر ( بصيغة المجهول ) إذا غُلب، وقال الراغب: القهر: الغلبة والتذليل معاً ويستعمل في كل واحد منهما.

قال عزّ وجلّ:( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) أي لا تذلّل، والظاهر أنّ الذلّة تلازم الغلبة فهي مفهوم إضافي قائم بالغالب والمغلوب والقاهر والمقهور.

قال الصدوق: « القدير » و « القاهر » معناهما أنّ الأشياء لا تطبيق الامتناع منه وممّا يريد الانفاذ فيها(١) .

__________________

(١) التوحيد للصدوق: ص ١٩٨.

٤٠٣

قال العلّامة الطباطبائي: « القهر نوع من الغلبة وهو أن يظهر شيء على شيء فيضطرّه إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر كغلبة الماء على النار فيقهرها على الخمود.

فالقاهر من الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره، غير أنّ بين قهره تعالى وقهر غيره فرقاً وهو أنّ غيره تعالى من الأشياء انّما يقهر بعضه بعضاً وهما مجتمعان في مرتبة وجودها، والماء والنار مثلاً موجودان طبيعيان يظهر أثر الأوّل في الثاني، والله سبحانه قاهر لا كقهر الماء على النار بل هو قاهر بالتفوّق والإحاطة على الاطلاق، فهو تعالى قاهر على عباده لكنّه فوقهم لا كقهر شيء شيئاً وهما متزاملان، وقد جاء ذلك الاسم في كلا الموضعين في ( سورة الانعام / ١٦ ـ ٦١ ) مقترناً بقوله « فوق عباده » والغالب في موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من اُولي العقل بخلاف الغلبة »(١) .

لأجل ذلك صدَّر الآية الاُولى بقوله سبحانه:( وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنعام / ١٧ ).

كما أنّه سبحانه يقول: في ذيل الآية الاُخرى:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) ( الأنعام / ٦١ ).

وإنّ استسلام الإنسان للخير والضرّ والموت آية كونه قاهراً على العباد.

ثمّ إنّه قال سبحانه:( الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) ولم يقل « القاهر عباده » وسيوافيك وجهه. ومن عجيب القول استدلال الحنابلة بهذه الآيات على أنّ لله جهة وهي الفوقيّة الذاتية، مع أنّ الملاك في كون الشيء قاهراً والشيء الآخر مقهوراً وذليلاً هو قهّاريّته وقدرته الواسعة، لا كونه واقعاً في أفق عال من حيث الحسّ والجهة ،

__________________

(١) الميزان: ج ٧، ص ٣٣ ـ ٣٤ بتلخيص منّا.

٤٠٤

والفوقيّة في الآية نظير ما في سائر الآيات مثل قوله:( وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ( آل عمران / ٥٥ ).

قال:( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) ( الأعراف / ١٢٧ ). غير أنّ الفوقيّة فيهما معنوية اعتبارية، والفوقية في المقام تكوينيّة نابعة من كون أحدهما علّة والآخر معلولاً.

ولعلّ استعمال القاهر مع فوق في كلتا الآيتين لأجل الاشارة إلى أنّ القاهر والمقهور ليسا في درجة من الوجود، بل القاهر فوق المقهور في الوجود والكينونة، وهو المالك للمقهور، لما للقاهر من وجود وخصوصيّة، فالقهر ينبع من كون أحدهما مالكاً والآخر مملوكاً، ملكية ناشئة من الخلق والإيجاد، لا الوضع والاعتبار.

والظاهر أنّ « القهّار » صيغة مبالغة من « القاهر » والفرق بينهما هو الفارق بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة وربّما يقال: إنّ القهّار اسم له تعالى باعتبار ذاتيّة غلبته على خلقه واستيلائه على جميع الموجودات، والقاهر اسم له تعالى باعتبار إعمال تلك الصفة في عالم الفعل(١) .

ولم يعلم وجه هذا الفرق. قال أمير المؤمنين٧ : « يا من توحّد بالعزّ والبقاء وقهر عباده بالموت والفناء »(٢) .

وأمّا حظُّ العبد من هذا الاسم فالقهَّار من العباد من قهر أعدائه، وأعدى عدوّه نفسه التي بين جنبيه فإذا قهر شهوته وغضبه فقد قهر أعدائه، وفي ذلك إحياء لروحه(٣) .

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى للسيد حسين الهمداني: ص ٨٦.

(٢) دعاء الصباح.

(٣) لوامع البينات للرازي: ص ٢٢٣.

٤٠٥

المائة: « القدّوس »

وقد جاء القدُّوس في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال سبحانه:( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) ( الحشر / ٢٣ ).

وقال سبحانه:( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( الجمعة / ١ ).

كما أنّه جاء المقدَّس مذكّراً ومؤنّثاً في موارد ثلاثة ووقع وصفاً للوادي والأرض.

قال سبحانه:( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) ( النازعات / ١٦ ).

وقال سبحانه:( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) ( طه / ١٢ ).

وقال سبحانه:( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) ( المائدة / ٢١ ). ومن ملاحظة مجموع الآيات، يعرف معناه.

وهو كما قال ابن فارس: شيء يدلّ على الطهر، والأرض المقدّسة المطهّرة، وتسمّى الجنّة حظيرة القدس، وجبرئيل « روح القدس » ووصف الله تعالى ذاته بالقدّوس بذلك المعنى لأنّه منزّه عن الأضداد والأنداد والصاحبة والولد. تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

فالظاهر ممّا ورد من هذه المادة في القرآن الكريم هو الطهارة من القذارة المعنويّة والنزاهة عمّا لا يناسب ساحة الشيء. قال حكاية عن الملائكة:( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ( البقرة / ٣٠ ). والظاهر أنّ التسبيح والتقديس في الآية بمعنى واحد، وهو تنزيهه عن الشرك والمثل، وكل ما يعدّ نقصاً.

وهناك نكتة لافتة للنظر وهو أنّ اسم القُدُّوس ورد بعد إسم الملك في الآيتين

٤٠٦

ولعلّه لبيان أنّ كونه تعالى ملكاً يفارق كون غيره ملكاً، فالملوكيّة جُبِلت على الظلم والتعدّي والإفساد.

قال سبحانه:( إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) ( النمل / ٣٤ ).

وقال سبحانه:( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) ( الكهف / ٧٩ ).

فذكره مع اسم « القدُّوس » لتبيين نزاهته من كل ما ينسب إلى الملوك من الأفعال والصفات، ثمّ إنّ اسم القدُّوس يدلّ على تعاليه عن كل ما لا يناسب ساحته فيندرج تحته الصفات السلبية التي ذكرها المتكلّمون في كتبهم وهي :

١ ـ واحد ليس له نظير ولا مثيل.

٢ ـ ليس بجسم ولا في جهة ولا في محلّ ولا حالّ ومتحد.

٣ ـ ليس محلاً للحوادث.

٤ ـ لا تقوم اللَّذة والألم بذاته.

٥ ـ لا تتعلّق به الرؤية.

٦ ـ ليست حقيقته معلومة لغيره بكنهه وبالتالي ليس جوهراً ولا عرضاً.

وقد برهن المتكلّمون على نفي هذه الصفات عن ساحته ببراهين رصينة من أراد فليرجع إليها(١) .

__________________

(١) لاحظ « الالهيات »: ص ٤٥٣ ـ ٤٨٧ محاضراتنا بقلم الفاضل الشيخ حسن مكي العاملي.

٤٠٧

المائة والواحد: « القريب »

وقد استعمل القريب مرفوعاً ومنصوباً في الذكر الحكيم ٢٦ مّرة ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثلاثة.

قال سبحانه:( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ( البقرة / ١٨٦ ).

وقال سبحانه:( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) ( هود / ٦١ ).

وقال سبحانه:( وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) ( سبأ / ٥٠ ).

ولأجل المناسبة بين قربه سبحانه وسماع دعاء العبد ضمّ إليه وصف المجيب تارة والسميع اُخرى وقد مرّ تفسير ذلك الاسم عند البحث عن اسم « الأقرب » فلاحظ.

المائة والثاني: « القويّ »

وقد جاء لفظ « القويّ » في الذكر الحكيم معرّفاً ومنكراً ١١ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في ٨ موارد.

قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / ٥٢ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) ( هود / ٦٦ ).

وقال سبحانه:( وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحج / ٤٠ ).

إلى غير ذلك من الآيات(١) .

وقد استعمل تارة مع اسم « العزيز » واُخرى مع « شديد العقاب ».

__________________

(١) لاحظ ( غافر / ٢٢ )، ( الشورى / ١٩ )، ( الحديد / ٢٥ )، ( المجادلة / ٢١ )، ( الاحزاب / ٢٥ ).

٤٠٨

وأمّا معناه فقد ذكر ابن فارس له معنيان فقال: « يدل أحدهما على شدّة وخلاف ضعف، والآخر على خلاف هذا وعلى قلّة خير، فالأوّل القوّة والقوي خلاف الضعيف »(١) .

وقال الراغب: القوّة تستعمل تارة في معنى القدرة نحو قوله:( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ) وتارة للتهيّؤ الموجود في الشيء نحو أن يقال: النوى بالقوّة نخل أي متهيّئ ومترشح أن يكون منه ذلك.

الظاهر أنّ القوّة لا ترادف القدرة المطلقة بل المراد هو المرتبة الشديدة، سواء أريد منه القوّة البدنيّة نحو قوله:( وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) أو القدرة القلبية مثل قوله( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) أي بقوّة قلب، أو القوّة الخارجيّة، مثل قوله( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) .

والمراد المال والجند وقال:( نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ) ، وعلى هذا يعود معنى القوّة إلى القدرة التامّة التي لا يعارضها شيء، ولأجل ذلك قورن مع « شديد » تارة و « العزيز » اُخرى، فمعنى قوله:( قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) : انّه سبحانه قويّ لا يضعف عن أخذهم، شديد العقاب إذا أخذ.

قال الصدوق: « القويّ معناه معروف وهو القويّ بلا معاناة ولا استعانة »(٢) .

قال الرازي: « اتّفق الخائضون في تفسير أسماء الله على أنّ القوّة هنا عبارة عن كمال القوّة، كما أنّ المتانة عبارة عن كمال القوّة فعلى هذا، « القوّة المتينة » اسم للقدرة البالغة في الكمال إلى أقصى الغايات ».

ثمّ قال: « وعندي أنّ كمال حال الشيء في أن يؤثّر، فيسمّى قوّة وكمال حال

__________________

(١) الأصل نادر الاستعمال.

(٢) التوحيد: ص ٢١٠.

٤٠٩

الشيء أن لا يقبل الأثر من الغير فيسمّى أيضاً قوّة، وذلك لأنّ الإنسان الذي يقوىٰ على أن يصرع الناس يسمّى قويّاً شديداً والإنسان الذي لا ينصرع من أحد يسمّى أيضاً قوياً، وبهذا التفسير يسمّى الحجر والحديد قويّاً »(١) .

أقول: الظاهر أنّ ما ذكره من التفصيل للقوّة تحليل فلسفي، والمتبادر من القوّة هو القدرة التامّة. نعم لازم كونه كذلك أن يكون مؤثّراً في الممكنات، وأن لا يؤثّر فيه شيء، لأنّ التأثّر من الغير آية الضعف، فهو المؤثّر في كل شيء، ولا يتأثّر من كل شيء، والظاهر أنّ اطلاق القويّ على الله في الآيات بالاعتبار الأوّل.

يقول سبحانه:( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / ٥٨ ).

ويقول سبحانه:( إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / ٥٢ ).

فإنّ شدّة العقاب آية التأثير في الغير وقال:( وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) ( الأحزاب / ٢٥ ). فالغلبة في القتال آية القوّة.

المائة والثالث: « القيُّوم »

قدورد لفظ « القيّوم » في الكتاب العزيز ٣ مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في جميع الموارد.

قال سبحانه:( اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) ( البقرة / ٢٥٥ ).

وقال:( اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ *نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ ) ( آل عمران / ٢ و ٣ ).

__________________

(١) لوامع البينات: ص ٢٩٤.

٤١٠

وقال سبحانه:( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) ( طه / ١١١ ).

وأمّا معناه فقد قال الراغب: « القيّوم » القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه، وذلك هو المعنى المذكور في قوله:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) ( طه / ٥٠ ).

ففي قوله:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) ( الرعد / ٣٣ ).

قال الصدوق: « القيّوم » و « القيّام » هما فيعول وفيعال من قمت بالشيء، إذا ولّيته بنفسك وتولّيت حفظه وإصلاحه وتقديره.

وفسّر الرازي كونه قيّوماً ب‍ « قيام الممكنات بأسرها به، فهو قائم بالذات وغيره قائم بالغير ».

قال العلّامة الطباطبائي: « القيّوم من القيام، وصف يدل على المبالغة، والقيام هو حفظ الشيء، وفعله، وتدبيره، وتربيته، والمراقبة عليه، والقدرة عليه، كلّ ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب، للملازمة العاديّة بين الامتثال وهذه الاُمور، وقد أثبت الله تعالى أصل القيام ـ باُمور خلقه ـ لنفسه ».

قال سبحانه:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) .

وقال سبحانه:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( آل عمران / ١٨ ).

فأفاد أنّه قائم على الموجودات بالعدل، فلا يعطي ولا يمنع شيئاً إلّا بالعدل باعطاء كل شيء ما يستحقّه، وإنّ القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين، فبعزّته يقوم على كل شيء، وبحكمته يعدل.

وبعبارة اُخرى لـمّا كان تعالى هو المبدئ الذي يبتدئ منه وجود كل شيء

٤١١

وأوصافه وآثاره، ولا مبدئ سواه، إلّا وهو ينتهي إليه، فهو القائم على كل شيء من كل جهة، القيام الذي لا يشوبه فتور وخلل، وليس ذلك لغيره قط إلّا بإذنه ومشيئته(١) .

ثمّ إنّ كونه سبحانه قيّوماً وقائماً بكل شيء لا ينافي كون الموجودات الامكانية ذا آثار وخصائص وأفعال وأعمال تنسب إليها على وجه الاضطرار كالحرارة إلى النار أو على وجه الاختيار كالافعال الاختيارية للإنسان، فإنّ قيام هذه الاُمور بآثارها وأفعالها ليس بنفسها وإنّما هي آثار لها باذنه سبحانه ومشيئته، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ نسبة الوجودات الإمكانية إلى الواجب، نسبة المعاني الحرفيّة إلى الاسميّة، فلو غضّ النظر عن المعنى الاسمي فلا يبقى لها أثر في الذهن والخارج.

وبذلك يظهر أنّ اسم « القيّوم » اُمّ الأسماء الإضافية الثابتة له تعالى جميعاً والمراد منها الأسماء التي تدلّ على معان خارجة عن الذات كالخالق والرازق والمبدئ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها.

وبعبارة اُخرى: إنّما هو اُمّ لصفاته الفعلية جميعاً.

ويقول الرازي: إنّ قوله الحي القيّوم كالينبوع لجميع مباحث العلم الالهي ولعلّه يشير بذلك إلى أنّ قيام الممكنات به يستلزم حضورها عنده، وحضورها لديه يستلزم علمه به كما يستلزم تدبيره و

__________________

(١) الميزان: ج ٢، ص ٣٣٠.

٤١٢

حرف الكاف

المائة والرابع: « الكافي »

قد ورد في الذكر الحكيم مرّة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى:( أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ( الزمر / ٣٦ ).

أمّا معناه، فقال ابن فارس: يدل على « الحسب » الذي لامستزاد فيه وهذا هو المتبادر من سائر مشتقّاته في القرآن وغيره، وقال:( وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( الفرقان / ٣١ ).

قال الراغب: الكفاية ما فيه سد الخلّة وبلوغ المراد من الأمر وهو سبحانه الكافي في اُمور العبد، وهو يقوم بكلّ ما يحتاج إليه العبد، ولو يخوّفونك أيّها النبي، فالله هو الكافي، قال سبحانه:( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ( البقرة / ١٣٧ ).

المائة والخامس: « الكبير »

قد ورد لفظ « الكبير » مرفوعاً ومنصوباً ٣٦ مرّة، وقع وصفاً له سبحانه في موارد ستّة، وإقترن باسم « المتعال » تارة و « العلي » اُخرى.

قال سبحانه:( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ ) ( الرعد / ٩ ).

٤١٣

وقال سبحانه:( وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( الحج / ٦٢ )(١) .

وأمّا معناه: فقد قال ابن فارس: يدل على خلاف الصغر، والكِبْر ـ بكسر الكاف وسكون الباء ـ معظم الأمر، قوله عزّ وجلّ:( وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ ) ( النور / ١١ ) أي معظم أمره، وأمّا الكبر ـ بضم الكاف ـ فهو القعيد، يقال: الولاء للكبر يراد به أقعد القوم في النسب وهو الأقرب إلى الأب الأكبر.

قال الراغب: « الكبير والصغير من الأسماء المتضايفة التي تقال عند اعتبار بعضها ببعض ويستعملان في الكمّية المتّصلة كالأجسام وذلك كالكثير والقليل، وفي الكميّة المنفصلة كالعدد، وثمّ استعير للمتعالي فيطلق على ما اعتبر فيه المنزلة والرفعة نحو « قل أي شيء أكبر شهادة ؟ قل الله شهيد بيني وبينكم » ونحو الكبير المتعال، ومنه قوله: « كذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها » أي رؤسهائها.

أقول: « إنّ اقتران اسم « المتعال » و « العلي » بالكبير، يعرب عن كون الملاك في توصيفه سبحانه هو الرفعة والمنزلة، وكل كمال يتصوّر.

والصدوق فسّره بالسيّد قائلاً: بأنّ سيد القوم كبيرهم، ولكن مراده ما ذكرناه، وقال: « الكبرياء » اسم التكبّر والتعظّم، وقال العلّامة الطباطبائي: « والذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء أنّه تعالى يملك كل كمال لشيء ويحيط به، فهو تعالى كبير أي له كمال كل ذي كمال وزيادة »(٢) .

ولأجل علو منزلته ورفعتها، وقع علّة لكون الحكم له دون غيره قال:( وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالحُكْمُ للهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) ( غافر / ١٢ ).

__________________

(١) لاحظ أيضا ( النساء / ٣٤ )، ( لقمان / ٣٠ )، ( سبأ / ٣٢ )، ( غافر / ١٢ ).

(٢) الميزان: ج ١١، ص ٣٣٨.

٤١٤

المائة والسادس: « الكريم »

قد ورد في الذكر الحكيم مرفوعاً ومنصوباً ٢٦ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثلاثة :

قال سبحانه:( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ( المؤمنون / ١١٦ )، وقال سبحانه:( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / ٤٠ )، وقال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ( الانفطار / ٦ ).

وأمّا معناه فقال ابن فارس: فهو شرف الشيء في نفسه أو شرف في خلق من الأخلاق يقال رجل كريم وفرس كريم. الكرم في الخُلق يقال هو الصفح عن ذنب المذنب. قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: الكريم الصفوح والله تعالى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده المؤمنين.

قال الراغب: إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وانفاقه المتظاهر نحو قوله:( إِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه.

وما ذكره هو الظاهر في قوله: « غنيّ كريم » دون سائر الآيات، وكيف وقد وصف اُمور كثيرة بمعنى واحد.

وذلك كالرزق نحو:( وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) ( الأنفال / ٤ ) والملك نحو:( إِنْ هَٰذَا إلّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) ( يوسف / ٣١ )، والمقام نحو:( وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) ( الشعراء / ٥٨ )، والرسول نحو:( رَسُولٌ كَرِيمٌ ) ( الدخان / ١٧ )، والكتاب نحو:( أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) ( النمل / ٢٩ ). والتوصيف في الجميع بمعنى واحد.

ولذلك لجأ الصدوق إلى ذكر معنيين له ففسّره تارة بالعزيز، يقال: فلان أكرم عليّ من فلان أي أعز منه، ومنه قوله عزّ وجلّ:( لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) واُخرى بالجواد

٤١٥

المتفضّل يقال رجل كريم أي جواد.

والظاهر أنّ الكريم له معنى واحد وهو ما نبّه إليه ابن فارس أعني الشرف في الذات أو في الخلق، والأنعام والجود من مظاهره، كما أنّ الصفح عن العدو بعد المقدرة عليه من آثاره، وإلى ذلك يرجع ما ذكره بعضهم في تفسيره بأنّه كون الشيء تامّاً بحسب مرتبته والله سبحانه كريم باعتبار تماميّته في الوهيّته ذاتاً وصفة وفعلاً.

وأمّا توصيف الكافر بالكريم في قوله سبحانه:( ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) ( الدخان / ٤٩ ). فإنّما هو للاستهزاء تشديداً لعذابه، فقد كان يرى في الدنيا لنفسه عزّة وكرامة لا تفارقانه كما يظهر ممّا حكى الله سبحانه من قوله:( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ) ( فصّلت / ٥٠ ).

٤١٦

حرف اللام

المائة والسابع: « اللطيف »

وقد ورد في الذكر الحكيم ستّ مرّات ووقع في الجميع وصفاً له سبحانه وقورن ب‍ « الخبير » تارة و « العليم الحكيم » تارة اُخرى.

قال سبحانه:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الانعام / ١٠٣ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( يوسف / ١٠٠ ).

وقال سبحانه:( فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( الحج / ٦٣ ).

وقال سبحانه:( فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان / ١٦ ).

وقال سبحانه:( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) ( الشورى / ١٩ ).

وقال سبحانه:( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / ١٤ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) ( الأحزاب / ٣٤ ).

أمّا معناه فالظاهر من ابن فارس أنّ له معنيين أحدهما « الرفق » والثاني « صغر

٤١٧

في الشيء »(١) .

فمن الأوّل قوله:( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ) .

وأمّا الثاني فالظاهر أنّ المراد من الصغر في الشيء هو كونه دقيقاً فوق الحسّ. ولأجل ذلك علّل سبحانه قوله:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) بكونه لطيفاً كما تقدّم وربّما يتطوّر ويستعمل في النافذ في الأشياء لأنَّ الشيء الصغير ينفذ في المجاري والثقوب الصغار. ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه علّل علمه بما خلق بكونه لطيفاً، وقال سبحانه:( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / ١٤ ) وعليه فيصحّ تفسيره بكونه مجرّداً أو ما هو قريب منه ويكون كناية عن حضوره وإحاطته بباطن الأشياء وظاهرها، وربّما يكنّى به عن تعاطي الاُمور الدقيقة كما في قوله سبحانه:( فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( الحج / ٦٣ )، وعليه يحمل قوله سبحانه:( فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) ( الكهف / ١٩ ) أي يعمل بلطف ودقّة.

هذا على القول بأنّ لمصدر « اللطيف » معنيين: الرفق والدّقة، ويمكن ارجاع المعنى الأوّل إلى الثاني أيضاً لأنّ الرأفة والمحبّة رهن تعاطي الاُمور الدقيقة حتى تستهوي القلوب.

وعلى كل حال فالله سبحانه « لطيف » أي دقيق لا يدرك، ويتعاطى الاُمور الدقيقة فيخلق أشياء فوق الحواس، لطيف أي رؤوف بأعمال الاُمور الدقيقة وهكذا، فتوصف به الذات كما يوصف به الفعل.

قال الرازي: « إنّ اللطيف له تفاسير أربعة :

١ ـ إنّ الشيء الصغير الذي لا يحسّ به لغاية صغره يسمّى لطيفاً، والله

__________________

(١) يظهر من القاموس أنه إذا أخذ « لطف » من باب « نصر » يكون بمعنى البرّ والاحسان، وإذا اخذ من باب « كرم » يكون بمعنى صغر ودقة.

٤١٨

سبحانه لـمّا كان منزّها عن الجسميّة والجهة لم يحسّ به، فأطلقوا اسم الملزوم على اللازم، فوصفوه تعالى بأنّه لطيف أي غير محسوس، وكونه لطيفاً بهذا الاعتبار يكون من صفات التنزيه.

٢ ـ اللطيف هو العالم بدقائق الاُمور وغوامضها، وعلى هذا التفسير يكون اللطف عبارة عن سعة علمه فيكون من الصفات الذاتية.

٣ ـ اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ويهيء مصالحهم من حيث لا يحتسبون، ومنه قوله سبحانه:( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ) .

٤ ـ اللطيف من يعلم حقائق المصالح وغوامضها ثم يسلك في إيصالها إلى مستحقها سبيل الرفق دون العنف.

فإذا اجتمع هذا العلم وهذا العمل تمَّ معنى اللطف »(١) .

ولا يخفى أنّ ما ذكره من المعاني الأربعة من لوازم معنى اللطيف وهو الدقيق أو من يتعاطى الأعمال الدقيقة واللّغة العربية خصيصتها التطوّر واشتقاق معنى من معنى بمناسبة فطرية أو ذوقيّة، فمعنى اللطيف وإن لم يمكن تحديده بوجه كامل، ولكن المراد منه واضح في الآيات.

وأمّا حظُّ العبد من هذا الاسم فلو فسّر اللطيف بالرفق فحظّه الرفق بعباد الله كاللطف بهم في الدعوة إلى الله كما قال سبحانه:( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا ) ( طه / ٤٤ ).

فإن فسّر بتعاطي الأعمال الدقيقة فحظّه هو الدقة في الأعمال والأقوال وترك التساهل والمسامحة.

__________________

(١) لوامع البينات: ص ٢٤٦.

٤١٩

كلام في رؤيته سبحانه

قد وقفت على أنّه سبحانه علّل قوله:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) بكونه لطيفاً خبيراً، فاللطيف تعليل للحكم السلبي، والخبير تعليل للحكم الإيجابي، وعلى ذلك فالله سبحانه فوق أن يكون مرئيّاً للأبصار، محاطاً بالجهة والمكان، فمن كان هذا خصيصته، لا يرى في الدنيا والآخرة.

ولكن الأسف أنّ هذا الأصل العقلي قد وقع مورد نقاش بين المسلمين فذهبت طائفة إلى امكان رؤيته في الدنيا والآخرة كما ذهبت طائفة اُخرى إلى التفصيل وهو أنّه سبحانه لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة تبعاً للحديث النبوي: « إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر »(١) وإليك التفصيل.

اتّفقت العدلية على أنه سبحانه ليس جسماً ولا له جهة، وبالتالي لا يمكن رؤيته لا في الدنيا ولا في الاخرة، وأمّا غيرهم فالمجسّمة الذين يصفون الله سبحانه بالجسم ويثبتون له الجهة جوّزوا رؤيته في الدارين.

وأمّا الأشاعرة فهم يعدّون أنفسهم من أهل التنزيه ولكنّهم يقولون بالرؤية يوم القيامة فقط(٢) .

وقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري أقوالاً في الرؤية تربو على تسعة عشر قولاً، غير أنّ أكثرها سخافات ومن عجيب ما جاء في خلال تلك الأقوال: إنّ « ضراراً » و « حفصا الفرد » يقولان: إنّ الله لا يرى بالأبصار، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسّة سادسة غير حواسّنا فندركه بها.

قال الحسين النجّار: إنّه يجوز أن يحوّل العين إلى القلب ويجعل لها قوّة

__________________

(١) مسند أحمد: ٣ / ١٦.

(٢) المواقف: ج ٢، ص ٣٦٨.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538