مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237197 / تحميل: 6089
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

دمشق قوله: (... فبينا أنا كذلك، حتّى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان، عليه رأس أشبه الناس وجهاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! فإذا أنا من ورائه رأيت نسوة على جِمال بغير وطاء ...)(١) .

وإنّ صفة دخول بقيّة أهل البيتعليهم‌السلام على يزيد كاشفة عن حالهم الأصعب أثناء الطريق، يقول السيّد ابن طاووس (ره): (ثمّ أُدخِل ثِقل الحسينعليه‌السلام ونساؤه ومَن تخلّف من أهله على يزيد، وهم مقرَّنون في الحبال! فلما وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال، قال له عليّ بن الحسين:

(أُنشدك الله يا يزيد! ما ظنّك برسول الله لو رآنا على هذه الحال؟! ...) (٢) .

____________________

= وقال المرحوم النمازي: (سهل بن سعد الساعدي الأنصاري، من أصحاب رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما، وكان عمره عند وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خمس عشرة سنة، وعاش إلى ٨٨ - ٩١، رواياته في الفضائل (راجع: البحار: ٣٩: ١٢) وفي أسماء الأئمة الاثني عشر وفضائلهم والتصريح بإمامتهم (راجع: البحار: ٣٦: ٣٥١).

وروى عنه ابنه عباس، عن فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، عدد الأئمة صلوات الله عليهم (راجع: البحار: ٣٦: ٣٥٢) وهو ممّن شهد لعليعليه‌السلام بحديث الغدير (راجع: الغدير: ١: ٤٥)، ولقي أهل بيت الحسينعليه‌السلام في الشام، وبكى لهم وقضى حاجة سكينة بنت الحسينعليهما‌السلام (راجع: البحار: ٤٥: ١٢٧) - (مُستدركات علم رجال الحديث: ٤: ١٧٨ رقم ٦٧٢٣).

(١) البحار: ٤٥: ١٢٨ باب ٣٩.

(٢) اللهوف: ٢١٣ / وقال ابن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح: ٥: ١٤٧: (فسار القوم بحُرَم رسول الله من الكوفة إلى بلاد الشام، على محامل بغير وطاء، من بلد إلى بلد، ومن منزل إلى منزل، كما تُساق أُسارى التُّرك والديلم ...).

وقال ابن سعد في طبقاته: (وقدم رسول من قِبَل يزيد بن معاوية، يأمر عبيد الله أن يُرسل إليه بثقل الحسين ومَن بقي من ولْده وأهل بيته ونسائه، فأسلفهم أبو خالد ذكوان عشرة آلاف درهم تجهّزوا بها! (راجع: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير =

١٨١

وفي خُطبة مولاتنا زينب العقيلةعليها‌السلام في مجلس يزيد، صورة وافية لطريقة حمل بقيّة أهل البيتعليهم‌السلام من الكوفة إلى الشام، حيث قالتعليها‌السلام وهي تُقرِّع الطاغية:

(أمِنَ العدل - يا بن الطلقاء - تخديرك حرائرك وإماءك، وسَوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكتَ ستورهنّ! وأبديت وجوههنّ! تحْدوا بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد! ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل! ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف! ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ، ولا من حُماتهنّ حميّ؟! ...)(١) .

هل كانت الرؤوس المقدّسة مع الركْب الحسينيّ؟

يُستفاد من النصوص التي مضت عن السيّد ابن طاووس (ره)، أنّ الرؤوس المقدّسة كانت مع الركب الحسينيّ في حركته من الكوفة إلى الشام.

____________________

= لابن سعد / تحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائي: ٨١)، ولا يخفى ما في آخر هذا الخبر من الغرابة والإبهام! فمَن هو أبو خالد ذكوان؟ إنّنا لم نعثر له على ترجمة في الرجال!

ثمّ هل أسلف الركب الحسينيّ ذلك المبلغ؟ وما حاجتهم إلى المال وهم في قيد الأسر والحبس؟! أم هو أسلف عبيد الله بن زياد وجماعته؟ وهل يُتصوّر إمكان حاجة هذا الطاغية المتسلّط على العراق إلى مثل هذا المبلغ؟!

والغريب من ابن سعد في طبقاته أيضاً، أنّه يروي لذكوان أبي خالد هذا دوراً آخر، حيث يقول في نفس الصفحة: (وأمر عبيد الله بن زياد بحبس مَن قدم به عليه من بقيّة أهل حسين معه في القصر، فقال ذكوان أبو خالد: خلّ بيني وبين هذه الرؤوس فأدفنها. ففعل، فكفّنها ودفنها بالجبّانة، وركب إلى أجسادهم فكفّنهم ودفنهم!!!).

(١) اللهوف: ٢١٦.

١٨٢

لكنّ نصوصاً أُخرى، تُشعر أنّ الرؤوس المقدّسة سبقت الركب الحسينيّ إلى الشام، كما في نصّ الشيخ المفيد (ره)؛ حيث يقول: (ولما فرغ القوم من التطوّف به - أي الرأس المقدّس - بالكوفة، ردّه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس(١) ، ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرّحه إلى يزيد بن معاوية عليهم لعائن الله ولعنة اللاعنين في السماوات والأرضين، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي،(٢)

____________________

(١) ويرد اسمه في بعض المصادر: زجر بن قيس، وفي بعض المصادر زفر بن قيس، وهو غير صحيح، بل الصحيح - كما هو المنقول عن المتقدّمين -: زحر بن قيس. (راجع مثلاً: كتاب النسب: ٣٢١ / لأبي عبيد، القاسم بن سلام، المتوفَّى سنة ١٥٤ هـ، وكتاب جمهرة أنساب العرب: ٤٠٩ / للأندلسي المتوفّى سنة ٣٨٤ هـ).

وهذا الرجل كان من أصحاب أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، ورسوله إلى جرير بن عبد الله إلى الريّ، ثمّ رسوله إلى الخوارج، وكان معه في حرب الجَمل، وله أشعار في مدحه، وله قضايا ومواقف في صِفّين، ولكن استحوذ عليه الشيطان، فكانت عاقبته أن التحق بجنود الكفر والشيطان، وصار من أقرب الناس إلى عبيد الله بن زياد ومن خواصّه، ولقد فوّض إليه مُهمّة حمل الرأس الشريف وسائر الرؤوس الطاهرة ليحملها إلى الشام، وحينما حمل بقيّة أهل البيتعليهم‌السلام إلى الكوفة كان زحر هذا يضربهم بالسوط!

وقد روى محمد بن جرير بن رستم الطبري، أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قال لزهير بن القينرضي‌الله‌عنه :(اعلم أنّ هاهنا مشهدي - أي كربلاء -ويُحمل هذا من جسدي - يعني رأسه -زحر بن قيس، فيدخل به على يزيد يرجو نواله، فلا يُعطيه شيئاً) . (راجع: دلائل الإمامة: ١٨٢ رقم ٩٧ / ٢).

ومن غرائب وعجائب بعض علماء الرجال من أهل السنّة، أنّهم يعدّون زحر بن قيس من الثقات (راجع: كتاب الثقات لابن حبّان: ٤: ٢٧٠)، ويُعبّر عنه ابن حبّان أنّه من كبّار التابعين، ولا يُشير بشيء إلى سوء عاقبته! وانظر أيضاً مقالة البخاري في تاريخه: ٣: ٤٤٥.

(٢) وكان عثمانيّاً تخلّف عن أمير المؤمنين يوم الجَمل، وحضر معه يوم صِفّين لنصرته، وكان مُنافقاً يُكاتب معاوية سرّاً وكان عنده كريماً. (راجع: مُستدركات علم رجال الحديث: ٨: ٣٣٩).

١٨٣

وطارق بن أبي ظبيان(١) ، في جماعة من أهل الكوفة، حتّى وردوا بها على يزيد بدمشق)(٢) .

وأوضح من ذلك في هذا الصدد، ما قاله الشيخ المفيد (ره) أيضاً: (ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسينعليه‌السلام أمر بنسائه وصبيانه فجُهِّزوا، وأمر بعليّ بن الحسين فغُلّ بغلّ إلى عنقه، ثمّ سرّح بهم في أثر الرأس مع مجفر بن ثعلبة العائذي، وشمر بن ذي الجوشن، فانطلقوا بهم حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس، ولم يكن عليّ بن الحسينعليه‌السلام يُكلّم أحداً من القوم في الطريق كلمة حتّى بلغوا ...)(٣) .

____________________

(١) وقال النمازي أيضاً: (طارق بن أبي ظبيان (أبي شهاب)، من الذين ذهبوا برأس الحسينعليه‌السلام إلى دمشق بأمر عبيد الله بن زياد) (راجع: مُستدركات علم رجال الحديث: ٤: ٢٨٤).

(٢) الإرشاد: ٢: ١١٨.

(٣) الإرشاد: ٢: ١١٩، وانظر: تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٨، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: ١٩٣، ومُختصر تاريخ دمشق: ٢٤: ١١١، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٥٨.

وينقل المحقِّق القرشي، عن عبد الباسط الفاخوري قوله: (ثمّ إنّ عبيد الله جهّز الرأس الشريف، وعليّ بن الحسين ومَن معه من حرمه، بحالة تقشعرُّ منها ومن ذكرها الأبدان، وترتعد منها مفاصل الإنسان، بل فرائص الحيوان) (حياة الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام : ٣: ٣٦٧ عن تحفة الأنام في مُختصر تاريخ الإسلام: ٨٤).

وقال أبو طالب المكّي: (ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد جهّز عليّ بن الحسين، ومَن كان مع الحسين من حرمه، بعد أن اعتمدوا ما اعتمدوه من سبي الحريم وقتل الذراري، ممّا تقشعرُّ من ذكره الأبدان وترتعد منه الفرائص إلى البغيض يزيد بن معاوية ...). (قوت القلوب: ١: ٧٥).

وإن تعجب فعجب قول ابن تيميّة، في مخالفته الحقيقة التأريخية المسلّمة، حيث يقول: سيّر ابن زياد حرم الحسين بعد قتله إلى المدينة)!! (راجع: المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي: ٢٨٨).

١٨٤

منازل الطريق من الكوفة إلى دمشق:

هناك طريقان يصلان بين الكوفة ودمشق، عرضت لذكرهما بعض الكُتب التي تناولت الحديث في قصّة سفر الركب الحسينيّ من الكوفة إلى الشام، وهذان الطريقان هما:

١ - الطريق السلطاني:

وهو الطريق الذي ذكره الميرزا النوري(١) ، وذهب إلى أنّ بقيّة الركب الحسيني كانوا قد سلكوا هذا الطريق من الكوفة إلى الشام، وعلى هذا كان الميرزا النوري قد استبعد أن تكون زيارة الأربعين التي زار بها بقيّة أهل البيتعليهم‌السلام قبر الحسينعليه‌السلام في الأربعين يوماً الأُولى بعد مقتله في سنة ٦١ للهجرة.

وهذا الطريق مع طوله وكثرة منازله، لا يمكن لسالك يجدّ السير فيه ولا يلوي على أحد ولا يتوقّف في منزل أن يسلكه في أقلّ من عشرة أيّام، ولو أردنا أن نقبل بأنّ مسير الركب الحسيني كان على هذا الطريق، ونقبل جميع ما حدث لهم في منازله، لاستغرق ذلك سنة من الزمان على قول بعض المحقّقين!(٢) .

ومنازل هذا الطريق - على ما ذهب إليه فرهاد ميرزا صاحب كتاب (قمقام زخّار) - هي: حرّان، حصاصة، تكريت، وادي النخلة، برصاباد، الموصل، عين الوردة، قنسرين، معرّة النعمان، كفرطاب، الشيرز، الحمى (حماة)، حمْص، بعلبك(٣) .

____________________

(١) اللؤلؤ والمرجان: ١٥٠.

(٢) راجع: كتاب تحقيق حول زيارة الأربعين / للمرحوم الشهيد المحقّق قاضي الطباطبائي: ١٩٣.

(٣) قمقام زخّار: ٢: ٥٤٨ / للمرحوم فرهاد ميرزا المتوفَّى سنة ١٣٠٥ هـ ق.

١٨٥

وقد وردت أسماء منازل هذا الطريق في المقتل المنسوب لأبي مخنف مُتفاوتة في الترتيب، مع إضافة ونقص(١) .

والمتأمّل في الخرائط الجغرافية، يجدها لا تقبل بترتيب بعض تلك المنازل!! ويقول المرحوم المحدّث الشيخ عبّاس القميّ: (اعلم أنّ ترتيب المنازل التي نزلوها في كلّ مرحلة، باتوا بها أم عبروها، منها غير معلوم ولا مذكور في شيء من الكُتب المعتبرة، بل ليس في أكثرها كيفيّة مسافرة أهل البيت إلى الشام ...)(٢) .

٢ - الطريق المستقيم (طريق عرب عقيل):

وهو طريق يُمكن قطعه في مدّة أسبوع؛ لكونه مستقيماً، وممّن ذهب إلى أنّ أهل البيتعليهم‌السلام سلكوا هذا الطريق هو المرحوم السيد محسن الأمين في موسوعته الكبيرة (أعيان الشيعة)؛ حيث يقول: (... والمشهور أنّهم وصلوا إلى كربلاء في العشرين من صفر، ومنه زيارة الأربعين الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام للحسينعليه‌السلام .

وقد يُستبعد ذلك: بأنّ المسافة بين العراق والشام تُقطع في نحو من شهر، ولابدّ يكونوا بقوا في الشام مدّة، فكيف يمكن استيعاب الذهاب والإياب والبقاء في الشام، والذهاب للكوفة والبقاء فيها، أربعين يوماً؟!

ويمكن دفع الاستبعاد: بأنّه يوجد طريق بين الشام والعراق، يمكن قطعه في أسبوع؛ لكونه مُستقيماً، وكان عرب عقيل يسلكونه في زماننا.

وتدلّ بعض الأخبار، على أنّ البريد كان يذهب من الشام للعراق في أسبوع،

____________________

(١) راجع: المقتل المنسوب لأبي مخنف / ص ١٨٠.

(٢) نفس المهموم: ٤٢٥.

١٨٦

وعرب صليب يذهبون من حوران للنجف في نحو ثمانية أيّام.

فلعلّهم سلكوا هذا الطريق، وتزوّدوا ما يكفيهم من الماء، وأقلّوا المقام في الكوفة والشام، والله أعلم.)(١) .

ونحن أيضاً نُرجّح أنّ أعداء الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا قد سلكوا ببقيّة الركب الحسيني في سفرهم من الكوفة إلى الشام أقصر الطرق مسافة، سواء أكان طريق عرب عقيل أم غيره، ونستبعد أنّهم سلكوا ما يُسمّى بالطريق السلطاني الطويل.

ذلك؛ لأنّ من الطبيعي يومذاك أن يحرص كلٌّ من يزيد وابن زياد وجلاوزتهم، الموكّلين ببقيّة الركب الحسيني على وصول هذا الركب إلى دمشق في أسرع وقت ممكن! ويتوسّلوا بكلّ الوسائل المساعدة لتحقيق هذه الرغبة!

أمّا يزيد لعنه الله؛ فلكي يروي ظمأه إلى التشفّي بمشهد انكسار أهل البيتعليهم‌السلام من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين، مُتوهماً أنّ بني أُميّة عدلوا يوم عاشوراء ببدْر فاعتدل! حتّى استشهد بشعر ابن الزبعرى في هذا المعنى! جذلان بمظاهر الظفر المكذوب!

وأمّا ابن زياد لعنه الله؛ فلكي يُري أميره يزيد كيف نفّذ أوامره كما يُحبّ ويرضى! حتّى يحظى عنده بمزيد من الوجاهة والمنزلة والاعتماد، فهو على عجلة من أمر وصول بقيّة الركب الحسيني إلى الشام بأسرع وقت، من أجل دفقة سرور موهومة، تدخل على قلب يزيد، تنعكس آثارها الإيجابية على حياة ابن زياد ومصيره!

وأمّا الجلاوزة لعنهم الله الذين رافقوا الركب الحسيني، فهم أشدّ لهفة إلى

____________________

(١) أعيان الشيعة: القسم الأول من الجزء الرابع، وعنه كتاب تحقيق حول زيارة الأربعين: ١٩٣.

١٨٧

الوصول بالركب إلى الشام بأسرع ما يُمكن من الوقت؛ طمعاً في نوال جوائز يزيد، والحصول على مزيد من الحظوة عنده!

فكانت جميع مصالح الطغاة وجلاوزتهم تدعو إلى اعتساف أقصر الطرق من الكوفة إلى الشام!! ويُذكَر أيضاً أنّ جلاوزة ابن زياد حينما خرجوا برأس الحسينعليه‌السلام من الكوفة، كانوا يخافون من قبائل العرب أن تثور فيهم الغيرة والحميّة، فكانوا يخشون أن يأخذوا منهم الرأس المقدّس؛ ولذا كانوا يتجنّبون السير على الجادّة المعروفة، وكلّما وصلوا إلى قبيلة طلبوا العلوفة وقالوا معنا رأس خارجيّ!(١) .

جُملة من وقائع الطريق إلى الشام:

أشارت مصادر تاريخية، إلى جملة من وقائع حدثت على طريق الركب الحسيني من الكوفة إلى الشام، نورد هنا ذكر هذه الوقائع - ممّا اشتُهر منها، وممّا لم يتفرّد به المقتل المنسوب إلى أبي مخنف - في ضوء تتابعها حسب منازل الطريق ما أمكننا ذلك، وهي:

١ - خروج يدٍ من الحائط تكتب بمدادٍ من الدم!

روى الخوارزمي بسند عن ابن لهيعة(٢) ، عن أبي قبيل(٣) ، قال: (لما قُتِل

____________________

(١) راجع: قمقام زخّار: ٢: ٥٤٨ نقلاً عن كامل البهائي: ٢: ٢٩٢.

(٢) هو عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان بن ربيعة بن ثوبان الحضرمي الأعدولي وروى عن جماعة منهم أبو قبيل.

قال روح بن صلاح: لقي ابن لهيعة اثنين وسبعين تابعياً.

وعن أحمد بن حنبل: مَن كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟ ومات سنة أربع أو ثلاث وسبعين. (راجع تهذيب الكمال: ١٥: ٤٨٧ رقم ٣٥١٣).

=

١٨٨

الحسينعليه‌السلام بعث برأسه إلى يزيد، فنزلوا أوّل مرحلة، فجعلوا يشربون ويبتهجون بالرأس! فخرجت عليهم كفّ من الحائط، معها قلم من حديد، فكتبت سطراً بدم:

أترجو أُمّةٌ قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب؟!)(١)

وفي المقتل المنسوب إلى أبي مخنف: أنّ ابن زياد دعا الشمر اللعين،

____________________

= (٣) واسمه حيّ بن هاني بن ناضر، أبو قبيل المعافري، روى عنه جماعة منهم ابن لهيعة. وعن أبي حاتم: صالح الحديث. وقال أبو سعيد بن يونس: توفِّي بالبُرُلس سنة ثمان وعشرين ومئة. (راجع: سير أعلام النبلاء: ٥: ٢١٤ رقم ٨٦، وتهذيب الكمال: ٧: ٤٩٠ رقم ١٥٨٦).

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ١٠٥ - ١٠٦ رقم ٢٨، ورواه أيضاً مُحبّ الدين الطبري في كتابه ذخائر العُقبى: ١٤٥ بتفاوت يسير، وفي آخره: (فهربوا وتركوا الرأس)، وقال الطبري: خرّجه ابن منصور بن عمّار. ورواه ابن المغازلي في المناقب: ٣٨٨ رقم ٤٤٢ وفيه: (فلما صار الليل قعدوا يشربون ويتحيّون بالرأس ...)، وليس فيه ذكر أنّ هذه الواقعة حصلت في الطريق إلى الشام، وقال مُحقّق كتاب ابن المغازلي (البهبودي) في حاشية نفس الصفحة: أخرجه العلاّمة الطبراني في المعجم الكبير: ١٤٧ نسخة جامعة طهران وخرّجه عنه الحافظ الكنجي في الكفاية: ٢٩١ ط و ٤٣٩ ط، والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: ٩ / ١٩٩، والحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام: ٣ / ١٣، والحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى: ٢ / ١٢٧، وأخرجه المحبّ الطبري في الذخائر: ١٤٥ ...)، وانظر: الإتحاف بحُبِّ الأشراف: ٢٣، ونظم درر السمطين: ٢١٩ و ٢٣٨، والخُطط المقريزية: ٢: ٢٨٦، وتاريخ مدينة دمشق: ١٤: ٢٤٤، وينبغي التنويه أنّ بعض هذه المصادر لم تُشخِّص أنّ هذه الواقعة حصلت في الطريق إلى الشام.

وقال الشيخ عبّاس القمّي (ره): (وروي عن كتب الفريقين، أنّ حاملي الرأس الشريف لما نزلوا في أوّل مرحلة جعلوا يشربون ويتبجّحون بالرأس فيما بينهم، فخرجت عليهم كفّ من الحائط، معها قلم من حديد فكتبت أسطراً بدم:

أترجو أُمّةٌ قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

ففزعوا من ذلك وارتاعوا، ورحلوا من ذلك المنزل) (نفس المهموم: ٤٢٢).

١٨٩

وخولّي، وشبث بن ربعي، وعمر بن سعد(١) ، وضمّ إليهم ألف فارس! وأمرهم بأخذ السبايا والرؤوس إلى يزيد، وأمرهم أن يشهروهم في كلّ بلدة يدخلونها! فساروا على ساحل الفرات، فنزلوا على أول منزل كان خراباً، فوضعوا الرأس الشريف المبارك المكرّم، والسبايا مع الرأس الشريف، وإذا رأوا يداً خرج من الحائط معه (كذا) قلم، يكتب بدم عبيط شعراً:

أترجو أُمّةٌ قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

فـلا والله لـيس لهم شفيع

وهم يوم القيامة في العذاب

لقد قتلوا الحسين بحكم جَور

وخالف أمرُهم حُكمَ الكتاب

فهربوا، ثمّ رجعوا، ثمّ رحلوا من ذلك المنزل، وإذا هاتف يقول:

ماذا تـقولون إذ قـال الـنبيّ لـكم

ماذا فـعـلتم وأنـتم آخـر الأُمَـم

بـعِـترتي وبـأهـلي بـعد مُـفتقدي

مـنهم أُسـارى ومـنهم ضُـرِّجوا بدم

مـا كـان هـذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحِمي)(٢)

وروى الخوارزمي، عن إمامٍ لبني سليم، قال: حدّثنا أشياخنا، قالوا: دخلنا في الروم كنسية لهم، فوجدنا في الحائط صخرة، فيها مكتوب:

أترجو أُمّة قتلت حسيناً

شفاعة جدِّه يوم الحساب

فلا والله ليس لهم شفيع

وهم يوم القيامة في العذاب

فقلنا لشيخ في الكنيسة: منذ كم هذا الكتاب؟

فقال: من قبل أن يُبعَث صاحبكم بثلاثمئة عام!!)(٣) .

____________________

(١) في رفْقة خولّي وشبث وعمر بن سعد تأمُّل، خصوصاً عمر بن سعد. (راجع: نفس المهموم: ٣٨٦).

(٢) راجع إحقاق الحقّ: ١١: ٥٦٤، ومُنتخب الطريحي: ٤٨٠.

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ١٠٦ رقم ٢٩.

١٩٠

وفي (تاريخ الخميس) يقول الديار بكري: (فساروا إلى أن وصلوا إلى دير في الطريق، فنزلوا ليَقيلوا به، فوجدوا مكتوباً على بعض جدرانه:

أترجو أُمّة قتلت حسيناً

شفاعة جدِّه يوم الحساب

فسألوا الراهب عن السطر، ومَن كتبه.

فقال: إنّه مكتوب هاهنا من قبل أن يُبعث نبيّكم بخمسمئة عام!)(١) .

٢ - قصّة الراهب مع الرأس المقدّس!

قال سبط بن الجوزي في (تذكرة الخواص): (وذكر عبد الملك بن هاشم في كتاب (السيرة) الذي أخبرنا القاضي الأسعد أبو البركات، عبد القويّ بن أبي المعالي بن الحبّار السعدي، في جمادى الأوّل سنة تسع وستّمئة بالديار المصرية قراءةً عليه ونحن نسمع قال: أنبأنا أبو محمّد عبد الله بن رفاعة بن غدير السعدي، في جمادى الأُولى سنة خمس وخمسين وخمسمئة، قال: أنبأنا أبو الحسين عليّ بن الحسين الخلعي، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمان بن عمر بن سعيد النحّاس النحيي: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن محمد بن رنجويه البغدادي: أنبأنا أبو سعيد عبد الرحيم بن عبد الله البرقي: أنبأنا أبو محمد عبد الملك بن هشام النحوي البصري(٢) ، قال:

____________________

(١) تاريخ الخميس: ٢: ٧٥ و٢٩٩، وانظر: تاريخ مدينة دمشق: ٢٤: ٢٤٣، ومُحاضرة الأبرار ومُسامرة الأخيار: ٢: ٢٢٥، وأخبار الدول للقرماني: ١٠٨ وفيه: (وقيل: إنّ الجدار انشقّ وظهر فيه كفّ مكتوب عليه هذا السطر! ...).

(٢) قال الذهبي: (عبد الملك بن هشام بن أيّوب، العلاّمة النحوي الأخباري، أبو محمد الذهلي السدوسي، وقيل: الحميري، المعافري، البصري، نزيل مصر، وتوفِّي سنة ثمان ومئتين) (سير أعلام النبلاء: ١٠: ٤٢٨ رقم ١٣١).

١٩١

لما أنفذ ابن زياد رأس الحسينعليه‌السلام إلى يزيد بن معاوية مع الأُسارى، موثّقين في الحبال، منهم نساء وصبيان وصبيّات من بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على أقتاب الجِمال، موثّقين مُكشّفات الوجوه والرؤوس! وكلّما نزلوا منزلاً أخرجوا الرأس من صندوق أعدّوه له، فوضعوه على رمح وحرسوه طول الليل إلى وقت الرحيل، ثمّ يُعيدوه إلى الصندوق ويرحلوا، فنزلوا بعض المنازل، وفي ذلك المنزل دَيْرٌ فيه راهب، فأخرجوا الرأس على عادتهم، ووضعوه على الرمح، وحرسه الحرس على عادته، وأسندوا الرمح إلى الدَيْر.

فلما كان في نصف الليل، رأى الراهب نوراً من مكان الرأس إلى عنان السماء! فأشرف على القوم وقال: مَن أنتم؟

قالوا: نحن أصحاب ابن زياد.

قال: وهذا رأس مَن؟!

قالوا: رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله !

قال: نبيّكم؟!

قالوا: نعم!

قال: بِئْسَ القومُ أنتم! لو كان للمسيح ولَد لأسكنّاه أحداقنا!

ثمّ قال: هل لكم في شيء؟

قالوا: وما هو؟

قال: عندي عشرة آلاف دينار، تأخذونها وتُعطوني الرأس يكون عندي تمام الليلة، وإذا رحلتم تأخذونه!

قالوا: وما يضرُّنا؟!

فناولوه الرأس، وناولهم الدنانير، فأخذه الراهب فغسَّله وطيّبه، وتركه على فخذه، وقعد يبكي الليل كلّه! فلما أسفر الصبح قال: يا رأس، لا أملك إلاّ نفسي،

١٩٢

وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ جدّك محمّداً رسول الله، وأُشهِد الله أنَّني مولاك وعبدك!

ثمّ خرج عن الدَّيْر وما فيه، وصار يخدم أهل البيت!

قال ابن هشام في السيرة: ثمّ إنّهم أخذوا الرأس وساروا، فلما قربوا من دمشق قال بعضهم لبعض: تعالوا حتّى نُقسّم الدنانير لا يراها يزيد فيأخذها منّا!

فأخذوا الأكياس وفتحوها، وإذا الدنانير قد تحوّلت خزَفاً! وعلى أحد جانبي الدينار مكتوب:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) الآية، وعلى الجانب الآخر:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) فرمَوها في برَدى(١) )(٢) .

أمّا الخوارزمي، فقد روى نظير هذه القصّة، حيث قال: (وروي: أنّ رأس الحسينعليه‌السلام لما حُمل إلى الشام، جنّ عليهم الليل فنزلوا عند رجُلٍ من اليهود، فلما شربوا وسكروا قالوا له: عندنا رأس الحسين!

فقال لهم: أروني إيّاه!

فأروه إيّاه بصندوق يسطع منه النور إلى السماء! فعجب اليهودي! واستودعه منهم فأودعوه عنده، فقال اليهودي للرأس - وقد رآه بذلك الحال -: اشفع لي عند جدّك! فأنطق الله الرأس وقال:(إنّما شفاعتي للمحمّديين، ولستَ بمحمّدي!) .

____________________

(١) نهر بدمشق، مخرجه من الزبداني.

(٢) تذكرة الخواص: ٢٣٦ - ٢٣٧ / وقد روى قطب الدين الرواندي (ره) بسند إلى سليمان بن مهران الأعمش هذه القصّة بتفاوت، ولم يذكر مكان وقوعها، وذكر فيها أنّ أمير الركب كان عمر بن سعد! (راجع: الخرائج والجرائح: ٢: ٥٧٧ - ٥٨٠ رقم ٢)، وقد قال الشيخ عباس القمّي (ره): (أقول: الذي يظهر من التواريخ والسيَر، أنّ عمر بن سعد لم يكن مع القوم في سيرهم إلى الشام، فكونه معهم بعيد ...). (نفس المهموم: ٤٢٤).

١٩٣

فجمع اليهودي أقرباءه، ثمّ أخذ الرأس ووضعه في طست، وصبّ عليه ماء الورد، وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر، ثمّ قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمّد!

ثمّ قال: وا لهفاه! لم أجد جدّك محمّداً فأُسلم على يديه! ثمّ وا لهفاه! لم أجدك حيّاً فأُسلم على يديك وأُقاتل دونك! فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيامة؟

فأنطق الله الرأس، فقال بلسان فصيح:(إن أسلمت فأنا لك شفيع!) .

قالها ثلاث مرّات، وسكت، فأسلم الرجل وأقرباؤه!

وقال الخوارزمي: لعلّ هذا الرجل اليهودي كان راهب (قنسرين)؛ لأنّه أسلم بسبب رأس الحسينعليه‌السلام ، وجاء ذكره في الأشعار، وأورده الجوهري والجرجاني في مراثي الحسين، كما سيرد عليك في موضعه إن شاء الله)(١) .

ونقول: لا مانع من أن تتكرّر قصّة اهتداء راهب يهودي أو نصراني، وتتشابه الواقعة في أكثر من منزل، كما أنّه لا دليل على انحصارها في منزل واحد ومع راهب واحد! مع العلم أنّ الطرق الخارجية التي تمتدّ بين المدن الرئيسة يومذاك كانت تكثر فيها الصوامع والأديرة!

وينقل السيد هاشم البحراني (ره) عن الطريحي (ره) فيقول: (روى الثقاة، عن أبي سعيد الشامي، قال: كنت ذات يوم مع القوم اللئام، الذين حملوا الرؤوس والسبي إلى دمشق، لما وصلوا إلى دير النصارى، فوقع بينهم أنّ نصر الخزاعي قد جمع عسكراً، ويُريد أن يهجم عليهم نصف الليل، ويقتل الأبطال، ويُجدِّل الشجعان، ويأخذ الرؤوس والسبي، فقال رؤساء العسكر من عُظم اضطرابهم: نلجأ الليلة إلى الدَّيْر ونجعله كهفاً لنا؛ لأنّ الدير كان لا يقدر أن يتسلّط عليه العدوّ.

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ١١٥ - ١١٦ رقم ٤٩.

١٩٤

فوقف الشمر وأصحابه على باب الدَّيْر، وصاح بأعلى صوته: يا أهل الدَّيْر!

فجاءهم القسِّيس الكبير، فلما رأى العسكر قال لهم: مَن أنتم؟! وما تُريدون؟!

فقال الشمر: نحن من عسكر عبيد الله بن زياد، ونحن سائرون من العراق إلى الشام.

فقال القسِّيس: لأيّ غرض؟

قال: كان شخص بالعراق قد تباغى، وخرج على يزيد، وجمع العساكر! فعقد يزيد عسكراً عظيماً فقتلوهم، وهذه رؤوسهم، وهؤلاء النساء سباياهم!

قال الراوي: قال: فنظر القسِّيس إلى رأس الحسينعليه‌السلام ، وإذا بالنور ساطع منه! والضياء لامع قد لحق بالسماء! فوقع في قلبه هيبة منه.

فقال القسِّيس: دَيرنا ما يسعكم، بل أدخلوا الرؤوس والسبي إلى الدَير، وحيطوا أنتم من خارج، إن دهمكم عدوّ فقاتلوه، ولا تكونوا مُضطربين على السبي والرؤوس.

قال: فاستحسنوا كلام القسِّيس صاحب الدَّيْر، وقالوا: هذا هو الرأي!

فحطّوا رأس الحسين في صندوق، وقُفل عليه، وأدخلوه إلى داخل الدير والنساء وزين العابدينعليه‌السلام ، وصاحب الدَّيْر حطّهم في مكان يليق بهم.

قال الراوي: ثمّ إنّ صاحب الدَّيْر أراد أن يرى الرأس الشريف، فجعل ينظر حول البيت الذي فيه الصندوق، وكان له رازونة، فحطّ في تلك الرازونة فرأى البيت يُشرق نوراً! ورأى أنّ سقف البيت قد انشقّ! ونزل السماء تخت عظيم والنور يسطع من جوانبه، وإذا بامرأة أحسن من الحور جالسة على التخت، وإذا بشخصٍ يصيح: أطرقوا ولا تنظروا. وإذا قد خرج من ذلك البيت نساء، فإذا حوّاء، وصفيّة، وزوجة إبراهيم أمّ إسماعيل، وراحيل أمّ يوسف، وأمّ موسى، وآسية، ومريم، ونساء النبيّ.

١٩٥

قال الراوي: فأخرجوا الرأس من الصندوق، وكلّ من تلك النساء واحدة بعد واحدة يُقبِّلن الرأس الشريف، فلما وقعت النوبة لمولاتي فاطمة الزهراءعليها‌السلام غُشي على بصر صاحب الدَّيْر، وعاد لا ينظر بالعين، بل يسمع الكلام، وإذا قائلة تقول:

السلام عليك يا قتيل الأمّ، السلام عليك يا مظلوم الأمّ، السلام عليك يا شهيد الأمّ، السلام عليك يا روح الأمّ، لا يُداخلك همّ وغمّ، فإنّ الله سيُفرِّج عنِّي وعنك ويأخذ لي بثأرك.

قال: فلما سمع الدَّيْرانيّ البكاء من النساء اللاتي نزلن من السماء، اندهش ووقع مغشيّاً عليه، فلما أفاق من ذلك البكاء، وإذا بالشخص نزل إلى البيت وكسر القفل والصندوق، واستخرج الرأس وغسله بالكافور والمسك والزعفران، ووضعه في قبلته، وجعل ينظر إليه ويبكي ويقول: يا رأس رؤوس بني آدم، ويا عظيم، ويا كريم جميع العوالم! أظنّك أنت من الذين مدحهم الله في التوراة والإنجيل، وأنت الذي أعطاك فضل التأويل؛ لأنّ خواتين سادات الدنيا والآخرة يبكين عليك ويندبنك!

أمّا أنا أُريد أن أعرفك باسمك ونعتك!

فنطق الرأس بإذن الله وقال:(أنا المظلوم! أنا المقتول! أنا المهموم! وأنا المغموم! وأنا الذي بسيف العدوان والظلم قُتلت! أنا الذي بحرب أهل الغيِّ ظُلِمت!) .

فقال صاحب الدَّيْر: بالله أيُّها الرأس زدني!

فقال الرأس:(إن كنت تسأل عن حالتي ونسَبي؟ أنا ابن محمّد المصطفى! أنا ابن عليّ المرتضى! أنا ابن فاطمة الزهراء! أنا ابن خديجة الكبرى! وأنا ابن العروة الوثقى!

أنا شهيد كربلاء! أنا مظلوم كربلاء! أنا قتيل كربلاء! أنا عطشان كربلاء! أنا ظمآن كربلاء! أنا مهتوك كربلاء!) .

١٩٦

قال الراوي: فلما سمع صاحب الدَّيْر من رأس الحسينعليه‌السلام هذا الكلام جمع تلامذته ومُريديه، وحكى لهم هذه الحكاية، وكانوا سبعين رجلاً، فضجّوا بالبكاء والنحيب، ونادوا بالويل والثبور، ورموا العمائم من رؤوسهم، وشقّوا أزياقهم، وجاءوا إلى سيّدنا ومولانا علي بن الحسين، زين العابدينعليه‌السلام ، ثمّ قطعوا الزنّار وكسروا الناقوس! واجتنبوا أفعال اليهود والنصارى، وأسلموا على يديه، وقالوا: يا بن رسول الله! مُرْنا أن نخرج إلى هؤلاء القوم الكفرة ونُقاتلهم، ونجلي صدأ قلوبنا ونأخذ بثأر سيّدنا!

فقال لهم الإمام:(لا تفعلوا ذلك؛ فإنّهم عن قريب ينتقم الله منهم ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر) .

فردّوا أصحاب الدَّيْر عن القتال)(١) .

٣ - الأنبياء والملائكة يزورون الرأس المقدّس

قال السيّد ابن طاووس (ره): (روى ابن لهيعة وغيره حديثاً، أخذنا منه موضع الحاجة، قال: كنت أطوف بالبيت فإذا أنا برجل يقول: اللهمّ، اغفر لي وما أراك فاعلاً!

فقلت له: يا عبد الله، اتَّقِ الله ولا تقل مثل هذا! فإنّ ذنوبك لو كانت مثل قطر الأمطار وورق الأشجار فاستغفرت الله غفرها لك، فإنّه غفور رحيم!

قال: فقال لي: تعال حتّى أُخبرك بقصّتي!

فأتيته، فقال: اعلم أنّا كنّا خمسين نفراً ممّن سار مع رأس الحسينعليه‌السلام إلى الشام، فكنّا إذا أمسينا وضعنا الرأس في تابوت، وشربنا الخمر حول التابوت! فشرب أصحابي ليلة حتّى سكروا ولم أشرب معهم، فلما جنّ الليل سمعت رعداً

____________________

(١) مدينة المعاجز: ٤: ١٢٦.

١٩٧

ورأيت برْقاً، فإذا أبواب السماء قد فُتحت! ونزل آدمعليه‌السلام ، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ونبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين، ومعهم جبرئيل وخَلْقٌ من الملائكة، فدنا جبرئيل من التابوت، وأخرج الرأس، وضمّه إلى نفسه وقبَّله، ثمّ كذلك فعل الأنبياء كلّهم، وبكى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على رأس الحسينعليه‌السلام وعزّاه الأنبياء، وقال له جبرئيلعليه‌السلام :(يا محمّد، إنّ الله تبارك وتعالى أمرني أن أُطيعك في أُمّتك، فإن أمرتني زلزلت بهم الأرض، وجعلت عاليها سافلها كما فعلت بقوم لوط!) .

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :(لا يا جبرئيل، فإنّ لهم معي موقفاً بين يدي الله يوم القيامة!) .

ثمّ جاء الملائكة نحونا ليقتلونا، فقلت: الأمان الأمان يا رسول الله!

فقال: اذهب، فلا غفر الله لك!)(١) .

٤ - تكريت(٢) تستقبل الركب بالفرح!!

ينقل الطريحي، عن مسلم الجصّاص قوله: (فلما وصلوا إلى تكريت أنفذوا إلى صاحب البلد أن تلقّانا (كذا) فإنّ معنا رأس الحسين وسباياه! فلما أخبرهم الرسول بذلك نُشرت الأعلام، وخرجت الغَلمة يتلقّونهم!

فقالت النصارى: ما هذا؟

فقالوا: رأس الحسين!

فقالوا: هذا رأس ابن بنت نبيّكم!؟

قالوا: نعم.

قال: فعظم ذلك عليهم، وصعدوا إلى بِيَعهم وضربوا النواقيس تعظيماً لله ربّ

____________________

(١) اللهوف: ٢٠٨.

(٢) تكريت: وهي بلدة بين بغداد والموصل، وأقرب إلى بغداد، وتبعد عنها ثلاثين فرسخاً وتقع غربي دجلة. (راجع: مراصد الاطّلاع: ١: ٢٦٨).

١٩٨

العالمين! وقالوا: اللّهم، إنّا إليك بُراء ممّا صنع هؤلاء الظالمون!)(١) .

وقال القندوزي: (فلما وصلوا إلى بلد تكريت نُشرت الأعلام، وخرج الناس بالفرح والسرور! فقالت النصارى للجيش: إنّا بُراء ممّا تصنعون أيّها الظالمون! فإنّكم قتلتم ابن بنت نبيّكم، وجعلتم أهل بيته أُسارى!)(٢) .

المشاهد المقدّسة في منازل الطريق:

١ - مشهد النقطة في الموصل!

لم يُذكر في واحد من الكُتب التاريخية المعتبرة - على مستوى التحقيق - أنّ أهل البيتعليهم‌السلام في الطريق من الكوفة إلى الشام قد مرّوا بمدينة الموصل، وقد تجنّب بعض المحققّين والمؤرّخين الخوض في صدد صحّة أو عدم صحّة هذا المدّعى، ومَن ذكرها منهم ذكرها على نحو النقل عمّن ذكرها، فالمرحوم الشيخ عبّاس القمّي - مثلاً - يقول ما هذا نصّه: (وأمّا مشهده بالموصل، فهو كما في روضة الشهداء(٣) ما ملخّصه: أنّ القوم لما أرادوا أن يدخلوا الموصل، أرسلوا إلى عامله أن يُهيِّئ لهم الزاد والعلوفة، وأن يُزيِّن لهم البلدة، فاتّفق أهل الموصل أن يُهيِّئوا لهم ما أرادوا، وأن يستدعوا منهم أن لا يدخلوا، بل ينزلون خارجها، ويسيرون من غير أن

____________________

(١) مُنتخب الطريحي: ٤٨١، وانظر: ناسخ التواريخ: ٣: ١٠٣.

(٢) ينابيع المودّة: ٣٥١.

(٣) راجع: روضة الشهداء: ٣٦٨ / ويُلاحظ المتتبّع أنّ هذا الكتاب، وكتاب قمقام رخّار، وكتاب ينابيع المودّة، وكتاب معالي السبطين، وأمثالها، تأخذ جميعها ما تأخذه من منازل الطريق السلطاني عن كتاب المقتل المنسوب إلى أبي مخنف، وأصل قضيّة المرور بمدينة الموصل هو كتاب المقتل المنسوب إلى أبي مخنف، فراجع ذلك في ص ١٨٣ منه.

١٩٩

يدخلوا فيها(١) ، فنزلوا ظاهر البلد على فرسخ منها، ووضعوا الرأس الشريف على صخرة، فقطرت عليها قطرة دم من الرأس المكرّم، فصارت تشعُّ(٢) ويغلي منها الدم كلّ سنة في يوم عاشوراء! وكان الناس يجتمعون عندها من الأطراف، ويُقيمون مراسم العزاء والمآتم في كلّ عاشوراء، وبقي هذا إلى أيّام عبد الملك بن مروان فأمر بنقل الحجَر، فلم يُرَ بعد ذلك منه أثر، ولكن بنوا على ذلك المقام قبّة سمّوها مشهد النقطة)(٣) .

٢ - مشهد النقطة في نصيبين(٤) :

ويقول الشيخ عبّاس القمّي: (وأمّا السانحة التي وقعت بنصيبين: ففي الكامل للبهائي ما حاصله: أنّهم لما وصلوا إلى نصيبين، أمر منصور بن الياس بتزيين البلدة، فزيّنوها بأكثر من ألف مرآة، فأراد الملعون الذي كان معه رأس الحسينعليه‌السلام أن يدخل البلد فلم يُطعه فرَسه! فبدّله بفرَس آخر فلم يُطعه! وهكذا فإذا بالرأس الشريف قد سقط إلى الأرض، فأخذه إبراهيم الموصلي(٥) ، فتأمّل فيه، فوجده رأس الحسينعليه‌السلام ، فلامهم ووبّخهم فقتله أهل الشام، ثمّ جعلوا الرأس في خارج البلد ولم يُدخلوه به.

____________________

(١) وعلّة ذلك أنّ أهلها كانوا من مُحبّي أهل البيتعليهم‌السلام ، كما في كتابي معالي السبطين: ٢: ٧٧ وناسخ التواريخ: ٣: ١٠٢.

(٢) في معالي السبطين: ٣: ١٠٢ (تنبع) بدلاً من (تشعّ).

(٣) نفس المهموم: ٤٢٦.

(٤) نصيبين: وهي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادّة القوافل من الموصل إلى الشام، وفيها وفي قُراها - على ما يُذكر - أربعون ألف بستان، وبينها وبين سنجار تسعة فراسخ، وبينها وبين الموصل ستّة أيّام. (راجع: مُعجم البلدان: ٥: ٢٨٨، ومُعجم ما استُعجِم: ٤: ٥٦٨ و١٣١٠).

(٥) لم نعثر على ترجمة لهذا الرجل القتيل المذكور في هذا الخبر.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

تعالى فطارد لكل عدم وبطلان. قال عزّ من قائل:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( الحج / ٦٢ ).

وبتقرير آخر: إنَّ عوامل المحدودية تتمحور في الاُمور التالية :

١ ـ كون الشيء محدوداً بالماهيّة ومزدوجاً بها، فإنّها حد وجود الشيء والوجود المطلق بلا ماهية غير محدَّد ولا مقيّد وإنّما يتحدّد بالماهية.

٢ ـ كون الشيء واقعاً في إطار الزمان، فهذا الكم المتّصل ( الزمان ) يحدّد وجود الشيء في زمان دون آخر.

٣ ـ كون الشيء في حيز المكان، وهو أيضاً يحدّد وجود الشيء ويخصّه بمكان دون آخر.

وغير ذلك من أسباب التحديد والتضييق. والله سبحانه وجود مطلق غير محدّد بالماهيّة إذ لا ماهيّة له كما سيوافيك البحث عنه، كما لا يحويه زمان ولا مكان، فتكون عوامل التناهي معدودمة فيه، فلا يتصوّر لوجوده حدّ ولا قيد ولا يصحّ أن يوصف بكونه موجوداً في زمان دون آخر أو مكان دون آخر، بل وجوده أعلى وأنبَل من أن يتحدّد بشيء من عوامل التناهي.

وأمّا الكبرى: فهي واضحة بأدنى تأمّل، وذلك لأنّ فرض تعدّد اللامتناهي يستلزم أن نعتبر كل واحد منهما متناهياً من بعض الجهات حتى يصح لنا أن نقول هذا غير ذاك. ولا يقال هذا إلّا إذا كان كل واحد متميّزاً عن الآخر، والتَّمَيّز يستلزم أن لا يوجد الأوّل حيث يوجد الثاني، وكذا العكس. وهذه هي « المحدوديّة » وعين « التناهي »، والمفروض أنّه سبحانه غير محدود ولا متناه.

والله سبحانه لأجل كونه موجوداً غير محدود، يصف نفسه في الذكر الحكيم بــــ( الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد / ١٦ )، وما ذلك إلّا لأن المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه، فإذا كان قاهراً من كل الجهات لم تتحكّم فيه

٤٨١

الحدود، فكأنّ اللامحدوديّة تلازم وصف القاهرية، وقد عرفت أنَّ ما لا حدّ له يكون واحداً لا يقبل التعدّد، فقوله سبحانه وهو الواحد القهار، من قبيل ذكر الشيء مع البيّنة والبرهان.

قال العلّامة ( الطباطبائي ): « القرآن ينفي في تعاليمه الوحدة العددية عن الإله جلّ ذكره، فإنّ هذه الوحدة لا تتم إلّا بتميّز هذا الواحد، من ذلك الواحد بالمحدودية التي تقهره. مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّغناه في أوان كثيرة يصير ماءُ كلّ إناء ماءً واحداً غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر، وإنّما صار ماءً واحداً يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوباً عنه غير مجتمع معه، وكذلك هذا الإنسان إنّما صار إنساناً واحداً لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر، وهذا إنْ دلّ فإنّما يدلّ على أنَّ الوحدة العددية إنّما تتحقّق بالمقهورية والمسلوبية أي قاهرية الحدود، فإذا كان سبحانه قاهراً غير مقهور وغالباً لا يغلبه شيء لم تتصوّر في حقّه وحدة عددية، ولأجل ذلك نرى أنَّهُ سبحانه عند ما يصف نفسه بالواحدية يتبعها بصفة القاهرية حتى تكون الثانية دليلاً على الاُولى، قال سبحانه :

( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / ٣٩ )، وقال:( وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ، وقال سبحانه:( لَوْ أَرَادَ اللهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الزمر / ٤ ).

وباختصار: انَّ كلاً من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع، أو الوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة، مقهور بالحد الذي يميّز الفرد عن الآخر والنوع عن مثله، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء وهو القاهر فوق كل شيء، فليس بمحدود في شيء، فهو موجود لا يشوبه عدم، وحق لا يعرضه بطلان، وحي لا يخالطه موت، وعليم لا يدبّ إليه جهل، وقادر لا يغلبه عجز، وعزيز لا يتطرّق إليه ظلم، فله تعالى من كل كمال محضة »(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ٦، ص ٨٨ و ٨٩ بتلخيص.

٤٨٢

ومن عجيب البيان ما نقل عن الإمام الثامن عليّ بن موسى الرضا٨ في هذا المجال في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء، وقال في ضمن تحميده سبحانه :

« لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلىٰ حَدِّه، ولا له مِثْلٌ فيُعرَفُ مثله »(١) .

ترى أنَّ الإمام٧ بعد ما نفى الحد عن الله، أتى بنفي المِثْل له سبحانه، لارتباط وملازمة بين اللامحدودية ونفي المثيل، والتقرير ما قد عرفت.

٣ ـ صِرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر

إنَّ هذا البرهان مركّب من صغرى وكبرى على الشكل التالي :

الله سبحانه وجود صِرْف.

وكل وجود صرف واحد لا يتثنّى ولا يتكرّر.

فالنتيجة: الله سبحانه واحدٌ لا يتثنَّى ولا يتكرَّر.

أمّا الصغرى فإليك بيانها :

أثبتت البراهين الفلسفية أنَّهُ سبحانه منزَّه عن الماهية التي تحد وجوده، وتحليله يحتاج إلى بيان دور الماهية في وجود الشيء فنقول: كل ما يقع في اُفق النظر من الموجودات الإمكانية فهو مؤلّف من وجود هو رمز عينيّته في الخارج، وماهيّة تحد الوجود وتبيّن مرتبته في عالم الشهود والخارج. مثلاً: الزَّهرة الماثلة أمام أعيننا لها وجود به تتمثّل أمام نظرنا، ولها ماهية تحدّدها بحد النباتية، وتميزّها عن الجماد والحيوان، ولأجل ذلك الحد نحكم عليها أنّها قد ارتقت من عالم الجماد ولم تصل بعد إلى عالم الحيوان. وبذلك تعرف أنّ واقعيّة الماهيّة هي واقعيّة التحديد. هذا من جانب.

__________________

(١) توحيد الصدوق، ص ٣٣.

٤٨٣

ومن جانب آخر، الماهيّة إذا لوحظت من حيث هي هي، فهي غير الوجود كما هي غير العدم، بشهادة أنّها توصف بالأوّل تارة وبالثاني اُخرى، ويقال: النبات موجود، كما يقال: غير موجود. وهذا يوضح أن مقام الحد والماهيّة مقام التخلية عن الوجود والعدم، بمعنى أنّ الإنسان عند النظر إلى ذات الشيء يراه عارياً عن كل من الوجود والعدم، ثم يصفه في الدرجة الثانية بأحدهما. وأمّا وجه كون الشيء في مقام الذات غير موجود ولا معدوم، فلأجل أنّه لو كان في مقام الذات والماهية موجوداً، سواء كان الوجود جزْءَه أو عَيْنه يكون الوجود نابعاً من ذاته، وما هذا شأنه يكون واجب الوجود، يمتنع عروض العدم عليه، كما أنّه لو كان في ذلك المقام معدوماً، سواء كان العدم جزءه أو عينه يكون العدم نفس ذاته، وما هذا شأنه يمتنع عليه عروض الوجود. فلأجل تصحيح عروض كل من الوجود والعدم لا مناص عن كون الشيء في مقام الذات خالياً عن كلا الأمرين حتى يصحّ كونه معروضاً لأحدهما. وإلى هذا يهدف قول الفلاسفة: « الماهيّة من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة ». ومع هذا كلِّه فهي في الخارج لا تخلو إما أنْ تكون موجودة أو معدومة. فالنبات والحيوان والإنسان في الخارج لا يفارق أحد الوصفين. وبهذا تبيّن أنَّ اتّصاف الماهية بأحد الأمرين يتوقّف على علّة، لكن اتّصافها بالوجود يتوقّف على علّة موجودة، ويكفي في اتّصافها بالعدم، عدم العلّة الموجدة. فاتّصاف الماهيات بالأعدام الأزلية خفيف المؤونة، بخلاف اتّصافها بالوجود فإنّه رهن وجود علّة حقيقية خارجية.

وعلى ضوء هذا البيان يتّضح أنّه سبحانه منزَّه عن التحديد والماهيّة وإلّا لزم أنْ يحتاج في اتّصاف ماهيته بالوجود إلى علّة(١) . وما هذا شأنه لا يكون واجباً بل يكون ممكناً. وهذا يجرّنا إلى القول بأنّه سبحانه صرف الوجود المنزّه عن كل حد.

__________________

(١) وهنا يبحث عن العلّة ما هي ؟ أهي نفس الوجود العارض على الماهية أو وجود آخر. فإن كان الأوّل لزم الدور، وإن كان الثاني لزم التسلسل. والتفصيل يؤخذ من محلّه. لاحظ الأسفار: ج ١ فصلٌ، في أنّه سبحانه صِرْف الوجود.

٤٨٤

وأمّا الكبرى فإليك بيانها :

إنّ كل حقيقة من الحقائق إذا تجرّدت عن أي خليط وصارت صرف الشيء لا يمكن أن تتثنّى وتتعدّد، من غير فرق بين أن يكون صرف الوجود أو يكون وجوداً مقروناً بالماهيّة كالماء والتراب وغيرهما، فإنَّ كل واحد منها إذا لوحظ بما هو هو عارياً عن كل شيء سواه لا يتكرّر ولا يتعدّد، فالماء بما هو ماء لا يتصور له التعدّد إلّا إذا تعدّد ظرفه أو زمانه أو غير ذلك من عوامل التعدّد والتميّز.

فالماء الصرف والبياض الصرف والسواد الصرف، وكل شيء صرف، في هذا الأمر سواسيه، فالتعدّد والاثْنَيْنيّة رهن اختلاط الشيء مع غيره.

وعلى هذا، فإذا كان سبحانه ـ بحكم أنّه لا ماهيّة له ـ وجوداً صرفاً، لا يتطرّق إليه التعدّد، لأنّه فرع التميّز، والتميّز فرع وجود غَيْريّة فيه، والمفروض خُلُوّه عن كل مغاير سواه، فالوجود المطلق والتحقّق بلا لون ولا تحديد، والعاري عن كل خصوصيّة ومغايرة، كلّما فرضتَ له ثانياً يكون نفس الأوّل، لا شيئاً غيره، فالله سبحانه بحكم الصغرى صرف الوجود، والصرف لا يتعدّد ولا يتثنّى. فينتج: أنَّ الله سبحانه واحدٌ لا يتثنّى ولا يتعدّد.

خرافة التثليث: الأب والابن وروح القدس

قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعاني منها عقيدة التثليث في المسيحية.

إنّ كلمات المسيحين في كتبهم الكلامية تحكي عن أنَّ الإعتقاد بالتثليث من المسائل الأساسية التي تبنى عليها عقيدتهم، ولا مناص لأي مسيحي من الإعتقاد به، وفي الوقت نفسه يعتقدون بأنّه من المسائل التعبّديّة التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي، لأنّ التصوّرات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهمه، كما أنّ المقاييس التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث، لأنّ حقيقته

٤٨٥

حسب زعمهم فوق المقاييس الماديّة.

هذا ومع تكريزهم على التثليث في جميع أدوارهم وعصورهم يعتبرون أنفسهم موحّدين غير مشركين، وأنَّ الإله في عين كونه واحداً ثلاثة، ومع كونه ثلاثة واحدٌ أيضاً. وقد عجزوا عن تفسير الجمع بين هذين النقيضين، الذي تشهد بداهة العقل على بطلانه وأقصى ما عندهم ما يلي :

إنَّ تجارب البشر مقصورة على المحدود، فإذا قال الله بأنَّ طبيعته غير محدودة تتألّف من ثلاثة أشخاص لزم قبول ذلك، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه، بل يكفي في ذلك ورود الوحي به، وإنَّ هؤلاء الثلاثة يشكّلون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » وكل واحد منهم في عين تشخّصه وتميزّه عن الآخرين، ليس بمنفصل ولا متميّز عنهم، رغم أنّه ليست بينهم أية شركة في الاُلوهية، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الاُلوهية، فالأب مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة وكاملها من دون نقصان، والإبن كذلك مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة، وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراده لكمال الألوهيّة، وانّ الألوهيّة في كل واحد متحقّقة بتمامها دون نقصان.

هذه العبارات وما يشابهها توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الإستدلال والبرهنة العقلية، وأنّها بالتالي « منطقة محرّمة على العقل »، فلا يصل إليها العقل بجناح الاستدلال، بل المستند في ذلك هو الوحي والنقل.

ويلاحظ عليه أوّلاً: وجود التناقض الواضح في هذا التوجيه الذي تلوكه أشداق البطارقة ومن فوقهم أو دونهم من القسّيسين، إذ من جانب يعرّفون كل واحد من الآلهة الثلاثة بأنّه متشخّص ومتميّز عن البقية، وفي الوقت نفسه يعتبرون الجميع واحداً حقيقة لا مجازاً. أفيمكن الاعتقاد بشيء يضاد بداهة العقل، فإنَّ التَمَيّز والتشخص آية التعدّد، والوحدة الحقيقية آية رفعهما، فكيف يجتمعان ؟

٤٨٦

وباختصار، انّ « البابا » وأنصاره وأعوانه لا مناص أمامهم إلّا الإنسلاك في أحد الصفّين التاليين: صف التوحيد وأنّه لا إله إلّا إله واحد، فيجب رفض التثليث، أو صفّ الشرك والأخذ بالتثليث ورفض التوحيد. ولا يمكن الجمع بينهما.

ثانياً: إنّ عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يقاس بالاُمور المادّية المألوفة، لكن ليس معناه أنَّ ذلك العالم فوضوي، وغير خاضع للمعايير العقليّة البحتة، وذلك لأنّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل، وعالم المادة وما وراؤه بالنسبة إليها سيّان، ومسألة امتناع اجتماع النقيضين وامتناع ارتفاعهما واستحالة الدور والتسلسل وحاجة الممكن إلى العلّة، من تلك القواعد العامّة السائدة على عالمي المادة والمعنى.

فإذا بطلت مسألة التثليث في ضوء العقل فلا مجال للإعتقاد بها. وأمّا الاستدلال عليها من طريق الأناجيل الرائجة فمردود بأنّها ليست كتباً سماوية، بل تدلّ طريقة كتابتها على أنّها اُلّفت بعد رفع المسيح إلى الله سبحانه أو بعد صلبه على زعم المسيحيين، والشاهد أنّه وردت في آخر الأناجيل الأربعة كيفيّة صلبه ودفنه ثم عروجه إلى السماء. واحتمال إلحاق القسم الأخير له يوجب سقوطه عن الاعتبار، لاحتمال تطرّق التحريف إلى غير الأخير أيضاً.

ثالثاً: إنّهم يعرّفون الثالوث المقدس بقولهم: « الطبيعة الإلهية تتألّف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر، أي الأب والابن وروح القدس، والأبّ هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن، والابن هو الفادي، وروح القدس هو المطهر. وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة وعمل واحد ».

فنسأل: ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة فإنّ لها صورتين لا تناسب أيّة واحدة منهما ساحته سبحانه :

١ ـ أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجوداً مستقلاً عن الآخر بحيث

٤٨٧

يظهر كل واحد منها في تشخّص ووجود خاص، ويكون لكل واحد من هذه الأقانيم أصل مستقل وشخصيّة خاصّة متميّزة عمّا سواها.

لكن هذا شبيه الشرك الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية وقد تجلّى في النصرانية بصورة التثليث. وقد وافتك أدلّة وحدانية الله سبحانه.

٢ ـ أن تكون الأقانيم الثلاثة موجودة بوجود واحد، فيكون الإله هو المركّب من هذه الاُمور الثلاثة، وهذا هو القول بالتركيب، وسيوافيك أنّه سبحانه بسيط غير مركّب، لأنّ المركّب يحتاج في تحقّقه إلى أجزائه، والمحتاج ممكن غير واجب.

هذا هي الإشكالات الأساسية المتوجّهة إلى القول بالتثليث.

تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية

إنَّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ـ بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم ـ إلى الشرك والوثنيّة، تحت تأثير المضلّين، وبذلك كانوا ينحرفون عن جادّة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي والغاية القصوى لبعثهم، إنَّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب موسى٧ ، أفضل نموذج لما ذكرناه، وهو ممّا أثبته القرآن والتاريخ. وعلى هذا فلا داعي إلى العجب إذا رأينا تسرّب خرافة التثليث إلى العقيدة النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح٧ وغيابه عن أتباعه.

إنّ مرور الزمن رسّخ موضوع التثليث وعمّق في قلوب النصارى وعقولهم، بحيث لم يستطع أكبر مصلح مسيحي ـ أعني لوثر ـ الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات، وأسّس المذهب البروتستاني، أن يبعد مذهبه عن هذه الخرافة.

إنَّ القرآن الكريم يصرّح بأن التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح من المذاهب السابقة عليها، حيث يقول تعالى:( وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ

٤٨٨

ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) ( التوبة / ٣٠ ).

لقد أثبتت الأبحاث التاريخية أنَّ هذا التثليث كان في الديانة البَرَهْمانية قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين. فقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر وآلهة :

١ ـ بَرَاهما ( الخالق ).

٢ ـ فيشنو ( الواقي ).

٣ ـ سيفا ( الهادم ).

وقد تسرّبت من هذه الديانة البراهمانيّة إلى الديانة الهندوكيّة، ويوضّح الهندوس هذه الاُمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي :

« براهما » هو المبتدئ بإيجاد الخلق، وهو دائماً الخالق اللاهوتي، ويسمّى بالأب.

« فيشنو » هو الواقي الذي يسمّى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

« سيفا » هو المُفْنِي الهادم المعيد للكون إلى سيرته الاُولى.

وبذلك يظهر قوّة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي « غستاف لوبون » قال: « لقد واصلت المسيحيّة تطورها في القرون الخمسة الاُولى من حياتها، مع أخذ ما تيسّر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية، وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الاُوروبية حوالي القرن الأوّل الميلادي، فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوّناً من الأب والإبن وروح القدس، مكان التثليث القديم المكوّن من « نروبي تر » و « وزنون » و « نرو »(١) .

__________________

(١) قصة الحضارة.

٤٨٩

القرآن ونفي التثليث

إنَّ القرآن الكريم يذكر التثليث ويبطله بأوضح البراهين وأجلاها، يقول:( مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) ( المائدة / ٧٥ ). وهذه الآية تبطل اُلوهيّة المسيح واُمّه، التي كانت معرضاً لهذه الفكرة الباطلة، بحجّة أنّ شأن المسيح شأنُ بقية الأنبياء وشأن الاُمّ شأن بقية الناس، يأكلان الطعام، فليس بين المسيح واُمّه وبين غيرهما من الأنبياء والرسل وسائر الناس أي فرق وتفاوت، فالكل كانوا يأكلون عندما يجوعون ويتناولون الطعام كلّما أحسّوا بالحاجة إليه. وهذا العمل منضمّاً إلى الحاجة إلى الطعام آية المخلوقيّة.

ولا يقتصر القرآن على هذا البرهان، بل يستدل على نفي اُلوهيّة المسيح بطريق آخر، وهو قدرته سبحانه على إهلاك المسيح واُمّه ومن في الأرض جميعاً، والقابل للهلاك لا يكون إلهاً واجب الوجود.

يقول سبحانه:( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ) ( المائدة / ١٧ ). وهذه الآية ناقشت اُلوهيّة المسيح وأبطلتها عن طريق قدرته سبحانه على إهلاكه. ويظهر من سائر الآيات أنَّ اُلوهيّته كانت مطروحة بصورة التثليث، قال سبحانه:( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) ( المائدة / ٧٣ ).

وعلى كل تقدير، فقدرته سبحانه على إهلاك المسيح٧ أدل دليل على كونه بشراً ضعيفاً، وعدم كونه إلهاً، سواء طرح بصورة التثليث أو غيره.

ثم إنَّ القرآن الكريم كما يُفَنّد مزعمة كون عيسى بن مريم إلهاً ابناً لله في الآيات المتقدّمة، يرد استحالة الابن عليه تعالى أيضاً على وجه الإطلاق سواء كان عيسى هو الابن أو غيره، بالبيانات التالية :

٤٩٠

١ ـ إنَّ حقيقة البنوّة هو أن يجزّئ واحد من الموجودات الحيّة شيئاً من نفسه ثمّ يجعله بالتربية التدريجية فرداً آخر من نوعة مماثلاً لنفسه يترتّب عليه من الخواص والآثار ما كان يترتّب على الأصل، كالحيوان يفصل من نفسه النطفة، ثمّ يأخذ في تربيتها حتى تصير حيواناً. ومن المعلوم أنّه محال في حقّه سبحانه، لاستلزامه كونه سبحانه جسماً مادّياً له الحركة والزمان والمكان والتركّب(١) .

٢ ـ إنّ لإطلاق اُلوهيّته وخالقيته وربوبيته على ما سواه لازم أن يكون هو القائم بالنفس وغيره قائماً به، فكيف يمكن فرض شيء غيره يكون له من الذات والأوصاف والأحكام ما له سبحانه من غير افتقار إليه ؟

٣ ـ إنّ تجويز الاستيلاد عليه سبحانه يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه، وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادّة والحركة وهو خلف، بل يقع ما شاء دفعة واحدة من غير مهلة ولا تدريج.

والدقّة في الآيتين التاليتين يفيد كل ما ذكرنا، قال سبحانه :

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ *بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( البقرة / ١١٦ و ١١٧ ).

فقوله سبحانه( اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) إشارة إلى الأمر الأوّل.

وقوله سبحانه:( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) ، إشارة إلى الأمر الثاني.

وقوله سبحانه:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ ) ، إشارة إلى الأمر الثالث(٢) .

__________________

(١) ستوافيك أدلة استحالة كونه جسماً أو جسمانياً وما يستتبعانه من الزمان والمكان والحركة.

(٢) لاحظ الميزان: ج ٣، ص ٢٨٧.

٤٩١

إنَّ القرآن الكريم يفنّد مزعمة « التثليث » ببراهين عقليّة اُخرى، فمن أراد الوقوف على الآيات الواردة في هذا المجال وتفسيرها، فليرجع إلى الموسوعات القرآنية.

المائة والتاسع والعشرون: « الواسع »

قد ورد لفظ الواسع في الذكر الحكيم تسع مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثمانية.

قال سبحانه:( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة / ١١٥ ).

وقال سبحانه:( وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة / ٢٤٧ ).

وقال سبحانه:( ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( المائدة / ٥٤ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ ) ( النجم / ٣٢ ).

أمّا معناه فقد قال ابن فارس: هو كلمة تدل على خلاف الضيق والعسر، والوسع: الغنى، والله الواسع أي الغني، والوسع: الجدة ( الطاقة ).

أقول: لا شكّ أنّ الوسع خلاف الضيق ويختلف متعلّقه حسب المقامات.

ففي ما يقول سبحانه:( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ثمّ يعلّله إنّ الله واسع عليم يتبادر منه سعة وجوده وحضوره في جميع الأمكنة، فأينما يولّي الإنسان وجهه فقد توجّه إلى الله سبحانه، كما أنّه يتبادر منه في الموارد التالية سعة وصفه وفعله :

قال سبحانه:( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) ( طه / ٩٨ ) و( أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) ( الطلاق / ١٢ ) و( رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) ( الأعراف / ١٥٦ ) فَاللهُ سُبْحانَهُ

٤٩٢

واسع الوجود والذات، واسع الفعل، فلا يحدّ ذاته شيء، كما لا يحدّ وصفه شيء، ولا يحد فعله شيء.

المائة والثلاثون: « الوالي »

قد ورد لفظ « وال » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه:( وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ) ( الرعد / ١١ ).

وهو مأخوذ من الولي بمعنى القرب وقد تقدّم تفسيره عند البحث عن اسم المولى.

وذكرنا كيفيّة اشتقاق سائر المعاني منه، وقلنا: إنّ قرب إنسان من إنسان يحدث أولويّة أحدهما بالنسبة إلى الآخر، وإنَّ المولى والولي والوالي بمعنى واحد أي القائم بالأمر، وعلى هذا فالمراد من الوالي هو متولّي الأمر، وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال أي من ولي يباشر أمرهم، ويدفع عنهم البلاء، وبعبارة أُخرى فإذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم إلّا الله سبحانه لم يكن هناك أحد يردّ ما أراد الله بهم من سوء.

المائة والواحد والثلاثون: « الودود »

قد ورد لفظ « الودود » في الذكر الحكيم مرّتين ووقعا وصفاً له سبحانه.

وقال سبحانه:( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ( هود / ٩٠ ).

وقال سبحانه:( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ *وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) ( البروج / ١٣ و ١٤ ).

وأمّا معناه فقدذكر ابن فارس: إنّه يدلّ على المحبّة.

٤٩٣

« والودود » على وزن فعول، أمّا بمعنى المفعول فيرجع معناه أنّه سبحانه محبوب للأولياء والمؤمنين، أو بمعنى الفاعل ك‍ « غفور » بمعنى « غافر » ويرجع معناه إلى أنّه سبحانه يودّ عباده الصالحين ويحبّهم، والمناسب لإسم الرحيم كونه بمعنى الفاعل كما هو المناسب أيضاً لإسم الغفور وقد عرفت اقترانه في الآيتين بالإسمين.

وأمّا حظّ العبد من ذلك الاسم فله أن يتّسم باسمه فيكتسب ودّاً بين الناس بالأعمال الصالحة.

قال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا ) ( مريم / ٩٦ ).

المائة والثاني والثلاثون: « الوكيل »

قد ورد لفظ الوكيل في الذكر الحكيم ٢٤ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في ١٤ مورد.

قال سبحانه:( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران / ١٧٣ ).

وقال سبحانه:( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / ١٠٢ ).

وقال سبحانه:( وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلاً ) ( النساء / ١٣٢ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) ( الأسراء / ٦٥ ).

إلى غير ذلك من الآيات الوارد فيها هذا الإسم.

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس »: فهو في الأصل يدل على إعتماد غيرك في أمرك، وسمّي الوكيل وكيلاً لأنه يوكل إليه الأمر، وقال « الراغب »: التوكيل أن تعتمد

٤٩٤

على غيرك وتجعله نائباً عنك، والوكيل فعيل بمعنى مفعول.

قال تعالى وكفى بالله وكيلاً أي اكتف به أن يتولّىٰ أمرك ويتوكّل لك.

ثُمَّ إنّ كونه سبحانه وكيلاً ليس بمعنى كونه نائباً عن العباد في الأفعال ولا بمعنى الاعتماد عليه، بل هو معنى أقوىٰ وأشدّ من ذلك وهو إيكال الأمر إليه لكونه سبحانه وحده كافياً في إنجاز الأمر.

قال سبحانه ناقلاً عن لسان الأولياء:( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران / ١٧٣ ).

ثُمَّ إنّه ربّما يستعمل ببعض المناسبات في معنى الحفيظ.

قال سبحانه:( اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) ( الشورى / ٦ )، كما أنّه ربّما يستعمل في المسيطر.

قال سبحانه:( وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) ( الزمر / ٤١ ).

قال العلّامة الطباطبائي في تفسير قوله:( وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) ( الاسراء / ٦٥ ).

أي قائماً على نفوسهم وأعمالهم، حافظاً لمنافعهم، ومتولّياً لاُمورهم، فإنّ الوكيل هو الكافل لاُمور الغير، القائم مقامه في تدبيرها وإدارة رحاها(١) .

ثُمَّ إنّ وكالة إنسان لإنسان تقوم بأمرين :

الأوّل: إنصراف الموكّل عن المباشرة إمّا لعجزه وإمّا لصارف آخر.

الثاني: كون الموكول إليه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والبراعة والنزاهة عن الخيانة.

__________________

(١) الميزان: ج ١٣، ص ١٥٦.

٤٩٥

وأمّا ايكال الإنسان الاُمور إلى الله سبحانه فهو مبني على اعترافه بالعجز بالقيام أوّلاً وكونه عالماً وقادراً ورحيماً ثانياً وهذه الصفات وهذا النحو غير حاصل إلّا لله سبحانه الحي، فلا جرم أن يكون وكيلاً بمعنى أنّ العباد العارفين يفوّضون اُمورهم إليه.

قال سبحانه:( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) ( الفرقان / ٥٨ ).

وقال سبحانه:( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) ( الطلاق / ٣ ).

ثُمَّ إنّ إيكال الأمر إليه ليس بمعنى عدم القيام بفعل، بل معناه أنّه يجب على العبد بذل ما في مقدرته من الأفعال والأعمال ثُمَّ إيكال الأمر إليه حتى تصل إلى النتيجة، ولأجل ذلك ورد الأمر بالتوكّل في الحروب والمغازي التي يجب للإنسان بذل ما يملك من النفس والنفيس فيها.

قال سبحانه:( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران / ١٢١ و ١٢٢ ).

المائة والثالث والثلاثون: « الولي »

قد ورد هذا اللفظ في الذكر الحكيم مضافاً وغير مضاف أربعاً وأربعين مرّة ووقع وصفاً له سبحانه خمس وثلاثون مرّة منطوقاً ومفهوماً.

قال سبحانه:( وَكَفَىٰ بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللهِ نَصِيرًا ) ( النساء / ٤٥ ). هذا على وجه المنطوق.

وأمّا على وجه المفهوم فقد قال سبحانه:( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ) ( السجدة / ٤ ).

وقد مضى معنى « الولي » عند البحث عن اسم « المولى » فلاحظ.

٤٩٦

المائة والرابع والثلاثون: « الوهّاب »

قد ورد لفظ « الوهّاب » في الذكر الحكيم ثلاث مرّات.

قال سبحانه:( وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ( آل عمران / ٨ ).

وقال سبحانه:( أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) ( ص / ٩ ).

وقال سبحانه:( وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ( ص / ٣٥ ).

قال الراغب: واللفظ من الهبة وهي أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض.

قال تعالى:( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ) ( الأنعام / ٨٤ ) و ( الأنبياء / ٧٢ )،( الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) ( إبراهيم / ٣٩ ) ويوصف الله بالواهب والوهّاب بمعنى أنّه يعطي كلاًّ على استحقاقه.

إنّ الهبة لها ركنان: الأوّل التمليك، والآخر كونه بغير عوض وهو فعل لله سبحانه على الحقيقة لأنّه مالك الملك والملكوت بإيجاده، وأمّا غيره فإنّما يملك بتمليك منه وملكيته في طول ملكيته سبحانه. هذا حال الركن الأوّل.

وأمّا الركن الثاني فكل ما يتّفق أن يهب الإنسان ولا يطلب عوضاً وعلى الأقل المدح في العاجل والثواب في الآجل، أو لإرضاء العواطف الإنسانية.

نعم هو صادق في حقّه سبحانه الغني عن كلّ شيء.

قال سبحانه:( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) ( الفرقان / ٧٧ ).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن لا يعتمد على الدنيا وما فيها، ويهب ما يملك على النحو الذي أمر به الذكر الحكيم وقال سبحانه:( الَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ) ( الفرقان / ٦٧ ).

٤٩٧
٤٩٨

حرف الهاء

المائة والخامس والثلاثون: « الهادي »

وقد ورد لفظ الهادي في القرآن الكريم عشر مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في موردين :

قال سبحانه:( وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الحج / ٥٤ ).

وقال سبحانه:( وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( الفرقان / ٣١ ).

وربّما يستفاد من بعض الآيات عن طريق المفهوم مثل قوله سبحانه:( وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ( الرعد / ٣٣ ) وغيره.

إنّ الهداية الإلهية من المسائل الهامّة التي اهتمّ بها القرآن اهتماماً بالغاً.

وربّما يتبادر في بادئ النظر منها التعارض والتخالف، ومبدأ هذا هو الاكتفاء بآية واحدة والغض عن سائر الآيات الواردة في الكتاب العزيز، فلا تحل عقدة هذه المسألة وأمثالها إلّا بجمع الآيات في مورد واحد واستنطاقها حتى يشهد بعضها على بعض، ولأجل أهمّيّة هذه المسألة نفيض الكلام فيها على وجه الاختصار حتى يظهر معنى قوله سبحانه:( وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) .

٤٩٩

ما معنى كون الهداية والضلالة بيده سبحانه ؟

دلّت الآيات القرآنية على أنَّ الهداية والضلالة بيده سبحانه، فهو يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء. وقد وقع بعض الناس في شبهة الجبر وقالوا: إذا كان أمر الهداية مرتبطاً بمشيئته، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية ولا في الضلالة، فالضّال يعصي بلا اختيار، والمهتدي يطيع كذلك وهذا بالجبر، أشبه منه بالإختيار.

قال سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم / ٤ ).

وقال سبحانه:( وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( النحل / ٩٣ ).

وقال سبحانه:( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) ( فاطر / ٨ ).

ولنا نقاش وجواب، فنقول: إنّ تحليل أمر الهداية والضلالة الذي ورد في القرآن الكريم من المسائل الدقيقة المتشعّبة الأبحاث ولا يقف على المحصّل من الآيات إلّا من فسّرها عن طريق التفسير الموضوعي، بمعنى جمع كل ما ورد في هذين المجالين في مقام واحد، ثمّ تفسير المجموع باتّخاذ البعض قرينة على البعض الآخر. وبما أنَّ هذا المنهج من البحث لا يناسب وضع الكتاب، نكتفي بما تمسّك به الجبريّون في المقام من الآيات لإثبات الجبر، وبتفسيرها وتحليلها يسقط أهم ما تسلّحوا به من العصور الاُولى.

حقيقة الجواب تتّضح في التفريق بين الهداية العامّة التي عليها تبتنى مسألة الجبر والإختيار، والهداية الخاصّة التي لاتمت إلى هذه المسألة بصلة.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538