مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538
المشاهدات: 218236
تحميل: 5037


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 218236 / تحميل: 5037
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-222-6
العربية

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي بطن خفيّات الاُمور، ودلّت عليه أعلام الظهور، وامتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تُنكره، ولا قلبُ من أَثْبَتَهُ يُبصره، سبق في العلوّ فلا شيء أعلى منه، وقرب في الدنوّ فلا شيء أقرب منه، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به، لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته، وهو الذي تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذي الجحود، تعالى الله عمّا يقول المشبّهون به والجاحدون له علوّاً كبيراً(١) .

نفتتح هذا الجزء ( السادس ) من أجزاء موسوعتنا « مفاهيم القرآن الكريم » بهذه الخطبة المباركة، المنقولة عن أمير البيان والبلاغة، وسيّد الموحّدين وقدوة العارفين، وفيها براعة استهلال لما نرومه في هذا الجزء، وهو البحث عن أسمائه وصفاته وإثباتها له سبحانه في عين التنزيه، وتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان مع التوصيف.

__________________

(١) اقتباس من خطبة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب7 ( نهج البلاغة، الخطبة ٤٩ ).

٣

إنّ البحث عن أسمائه وصفاته سبحانه من أجلّ المعارف القرآنية التي لم تبلغها عقول ذوي الأفكار ولم تحم حولها أعين ذوي الإعتبار نقدّمه إلى القرّاء الكرام، تفسيراً لأسمائه وصفاته في ضوء القرآن الكريم وفي إطار التفسير الموضوعي، ونشكره سبحانه على توفيقه للغور في هذه المباحث الدقيقة، والإغتراف من هذه البحار العذبة إنّه حميد مجيد.

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق7

جعفر السبحاني

١٨ صفر المظفّر ١٤١٢

٤

التفكر العقلي والاستدلال المنطقي

في الذكر الحكيم

إنّ النظرة الفاحصة إلى المجتمع البشري تكشف من أنّ الإلهيين يشكّلون الأكثريّة الساحقة من الاُمم والشعوب، وهم الذين يعتقدون بوجود مبدأ أعلى للعالم وراء المادة وتخالفهم شرذمة قليلة تنكر ذلك بل تنكر كلّ ماوراء الطبيعة، وإنّما وصفناهم ـ بالقلّة ـ مع أنّهم يشكلّون جماعة كبيرة في العالم، ويسمّونها معسكر الشرق بفئاته المختلفة، لأنّ ذلك المعسكر قد فرض على تلك الشعوب الالحاد والماديّة، بحيث لو ارتفع الضغط لترى كيف خالط الإيمان ضميرهم، وأنّهم ما برحوا على صلة وثيقة بالدين بفطرتهم، ولو تظاهروا بالماديّة، فإنّما يتظاهرون تحت ضغط القوى المسيطرة عليهم التي ألجأتهم إلى ذلك(١) .

وقد كان المتوقع من الإلهيين أن يشكلّوا صفاً واحداً وأن لايختلفوا في ما يتعلّق بالمبدأ إلّا أنّهم - مع الأسف - إختلفوا في أبسط المسائل فضلاً عن العميقة منها، وتفرّقوا إلى مذاهب وشيع، والسبب الأساسي ـ لهذا الإختلاف هو تنازعهم في أسمائه سبحانه وصفاته وأفعاله، وهذا هو المنشأ الحقيقي لإفتراق الالهيين وظهور الديانات والمذاهب في المجتمع الإلهي.

__________________

(١) ترى أنّ غوربا تشوف لـمّا منح الحرّية النسبية لشعب الاتّحاد السوفيتي ارتفعت من جديد أصوات المآذن في أجواء ذلك البلد، وأقبل الناس حتّى الشباب منهم على القضايا الدينية، حتّى انّ وكالات الأنباء نقلت أخباراً عن بناء مساجد جديدة، وقيام اجتماعات دينية واسعة، والمطالبة بمنح المزيد من الحرّيات الدينية والاعتقادية.

٥

الاختلاف في الأسماء والصفات سبب تعدد الديانات

الثنوية بعد تسليمها بوجوده سبحانه تميّزت عن سائر الإلهيين بإنكار صفة من صفاته سبحانه أعني التوحيد فهم بين ثنويّ في الذات وثنويّ في الفعل، فتارة يصوّر للعالم مبدأً غير واحد وهذا هو الثنوي في الذات، واُخرى يوحّد المبدأ ويقول بإلٰه واحد ولكنه يفترض استقلالاً للمخلوقات فى البقاء دون الحدوث، وثالثة تفترض الاستقلال في الفعل والايجاد كمن زعم أنّ وجود الممكنات قائم بالله لكنّها مستقلاّت في أفعالها، غير محتاجات إلى الإلٰه في الإيجاد والإبداع، وعلى كلّ تقدير فهم يمتازون عن سائر الفرق في وصفه سبحانه وهو كونه واحداً في الذات لا شريك له فيها كما هو واحد في الفعل لا موجد غيره، ولو كان هناك إيجاد منسوب إلى غيره فإنّما هو بارادته ومشيئته وحوله وقوّته.

والثنوية بالمعنى الأوّل هي السائدة في الديار الهنديّة والصينيّة وشائعة بين البراهمة والبوذيين والهندوس، كما أنّ الثنوية بالمعنى الثاني ذائعة بين القائلين بالتفويض، وانّه سبحانه فوّض أمر الخليقة إلى جماعة مخصوصة أو فوّض أمر الإنسان إلى نفسه فهو يقوم بالفعل بلا استعانة، فالإنسان محتاج في ذاته دون فعله، ولو أنّ الطائفتين درسوا التوحيد على ما هو عليه وميّزوا بين الممكن والواجب لاتّحدت الصفوف وتراصّت.

والمسيحية وإن افترقت إلى يعقوبيّة وإلى نسطورية وإلى ملكانيّة لكن الكلّ متمسّكون بالتثليث أي تصوير إله العالم الواحد بصور ثلاث « الإله الأب » و « الإله الإبن » و « روح القدس » وبذلك نزّلوا الإله القدّوس إلى عالم المادّة حتى جسّدوه في المسيح الذي صلب ليخلّص الناس من « عقدة الإثم » الذي ورثوه من أبيهم آدم ولو أنّ القوم فقهوا توحيده سبحانه، لتقاربت الخطىٰ وقلّ التباعد، يقول سبحانه ـ ويأمر نبيّه أن يتلو عليهم قوله ـ:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

٦

والمسلمون تفرّقوا إلى طوائف وشعوب وجلّ اختلافهم يرجع إلى أسمائه سبحانه وصفاته وأفعاله.

فالعدليه منهم يصرّون على تنزيهه وتوحيده وهم « المعتزلة » و « الإمامية » و « الزيدية » بفرقهم المختلفة، فالله سبحانه عندهم ليس بجسم ولا جسماني لا تحيطه جهة ولا مكان ليس بجوهر ولا عرض إلى غير ذلك من الصفات الجلاليّة كما أنّه سبحانه عندهم حكيم لا يصدر عنه قبيح، لا يظلم ولا يجوز عليه الظلم وإن كان قادراً عليه.

ولكن « أهل الحديث » و « والحنابلة » لابتعادهم عن البحوث العقلية، وقعوا في مهالك التجسيم والتشبيه، وتجويز نسبة القبيح إليه سبحانه بحجّة أنّه ليس للعبد فرض شيء على الله سبحانه، فله الحكم وله المشيّة، وقد أصبحت الدعوة السلفيّة شعاراً لمن يريد التخلّص من مخالب الإختلاف، والإبتعاد عن التفكّر والتدبّر في المعارف.

وصفوة القول: إنّك إذا لاحظت الكتب الكلامية تقف على أنّ اُصول الاختلاف في الديانات والمذاهب ترجع إلى اختلافهم في أسمائه وصفاته وأفعاله وشئونه فهذا هو الذي أوجد مدارس كلاميّة شتّى واتجاهات متغايرة بين الالهيين فلازم علينا أنْ ندرس هذا الجانب دراسة موضوعيّة دون تحيّز إلى فئة دون فئة.

الإنسان يأنس المحاكاة والتشبيه

الإنسان محبوس في إطار المادّة والماديّات، ولابث بين جدران الزمان والمكان، يأنس بالتعرف على الأشياء عن طريق التشبيه والمحاكاة، فيصعب عليه تصوّر موجود ليس له جسم، وليس له جهة ولا مكان، ولا يحوطه زمان ولا يوصف بالكيف والكم، فلأجل ذلك نرى كثيراً من الالهيين لا ينفكّون عن تشبيه ماوراء الطبيعة بما فيها، وكأنّ تفكيرهم أصبح أسير المادة والجسمانية وقلّ من نجى من مخاطر التشبيه، ومخالب التجسيم.

٧

يقول العلّامة الطباطبائي :

« إنّ مزاولة الإنسان للحسّ والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادة، عوّده أن يمثّل كلّ ما يتعقّله ويتصوّره تمثيلاً حسّياً، وإن كان المتصوّرةُ المعقول لا طريق للحسّ والخيال إليه البتة، كالكلّيات والحقائق المنزّهة عن المادّة. على أنّ الإنسان إنّما ينتقل إلى المعقولات من طريق الإحساس والتخيل فهو أنيس الحسّ وأليف الخيال، فقد قضت العادة اللازمة على الإنسان أن يصوّر لربه صوراً خياليّة على حسب ما يألفه من الأمور المادية الحسّية وقلَّ أن يتفق لإنسان أن يتوجه إلى ساحة العزة والكبرياء ونفسه خالية عن هذه المحاكاة(١) .

هذا هو الأصل الذي توحي إليه ظروف الحياة وملابسات الإدراك والناس أمام هذا الأصل على طوائف نشير إلى الأركان منها :

١ ـ « المشبّهة »

إنّ البسطاء من المجتمع الإنساني الذين سادت عليهم ظروف الحياة وليست لهم قدرة عقليّة كافية للتخلّص عمّا تفرض عليهم تلك الملابسات، بنوا عقائدهم الدينيّة على هذا الأساس فلاينفكّون عن وصفه سبحانه تشبيهاً وتجسيماً فيقولون إنّ له جسماً وإنّه على صورة إنسان، وله لحم ودم وشعر وعظم، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين، وانّ له وفرة سوداء وله شعر قطط، غير أنّ بعضهم أراد التظاهر بالتنزيه بأقلّ ما يمكن فقال: « اعفوني عن الفرج واللحية، واسئلوني عما وراء ذلك »(٢) .

فهذه هي المجسّمة والمشبّهة لا يتورّعون عن وصفه بكلّ ما توحي إليهم القوّة الخيالية الأسيرة لعالم الحسّ والمادّة.

__________________

(١) الميزان: ج ١٠ ص ٢٧٣.

(٢) الملل والنحل: ج ١ ص ١٠٠ ـ ١٠٤.

٨

٢ ـ المعطّلة (١)

وهناك طائفة اُخرى عطلوا العقول عن الوصول إلى المعارف نتيجة كون الإنسان يعيش في عالم الطبيعة وقد تطبّع تفكيره على الماديّات والمحسوسات فلا يمكنه إدراك ماوراء ذلك فلابد من التوقف وتعطيل العقول، وهم الذين يقولون: إنّ كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه(٢) .

وقد بنيت الدعوة السلفية في العصور السابقة واللاحقة على هذا الأساس وكأنّ القرآن نزل للتلاوة والقراءة دون التفكّر والإمعان والتدبّر.

مع أنّه سبحانه يقول:( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد / ٢٤ ).

ويقول:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( ص / ٢٩ ).

والعجب أنّ بعض هؤلاء يتفلسف قائلاً إنّما اُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبيّة فمن شغل ما اعطى لإقامة العبوديّة بإدراك الربوبيّة، فاتته العبوديّة ولم يدرك الربوبيّة(٣) .

والقائل بهذا الكلام يفسّر العبوديّة بالقيام والقعود والامساك والصيام التي هي من واجبات الأعضاء ولكنّنا نقول لهم: إنّ العبوديّة تقوم على ركنين ركن منه يرجع إلى فرائض الأعضاء وواجباتها، وركن آخر يرجع إلى العقل واللبّ، فتعطيل العقول عن معرفة المعبود بالمقدار الذى يستطيع الإنسان الوصول إليه، تعطيل لاقامة العبودية أو لجزئها.

__________________

(١) « المعطّلة » لقب المعتزلة في كتب الأشاعرة لتعطيلهم الذات عن التوصيف بالصفات غير أنّها لا تتناسب مع عقيدتهم، والحق أنّ المعطّلة هم الذين وصفناهم هنا.

(٢) الرسائل الكبرى: لابن تيمية ج ١ ص ٣٢ ـ نقله عن سفيان بن عيينة.

(٣) علاقة الاثبات والتفويض نقلا عن الحجّة في بيان المحجّة ص ٣٣.

٩

ولو اقتصر الإنسان في إقامة العبوديّة بالقيام والقعود من دون ادراك للمعبود بصفات الجمال والجلال ولما هناك من أسماء وصفات ; لكانت عبوديّته كعبوديّة الحيوان والنبات والجماد، فهؤلاء أيضا يقومون بواجبهم الجسماني بل ربّما تكون عبوديته أنزل من عبوديتهم كيف وقد قال سبحانه :

( وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( البقرة / ٧٤ ).

فالحجر يستشعر بعظمته سبحانه حسب مقدرته، ولكن الإنسان تفرض عليه تلاوة كتابه سبحانه والسكوت ثم السكوت عليه ؟

إنّ الدعوة السلفية التي عادت إلى الساحة الاسلامية من جديد مبنية على هذا الأساس، وهؤلاء وإن كانوا لا يقرّون بالتشبيه والتجسيم بملئ أفواههم وألسنتهم، ولكنّهم لا يفترقون عن المشبهة إلّا في التصريح والتلميح.

قال ابن خزيمة: إنما نثبت لله ما أثبته لنفسه نقر بذلك بألسنتنا ونصدّق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين(١) .

قال ابن قدامة المقدسي: « وعلى هذا درج السلف والخلف فهم متّفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنّة رسوله من غير تعرّض لتأويله(٢) .

قال ابن تيمية ـ مثير الدعوة السفلية بعد إندراسها ـ: إنّ لله يدين مختصّتين به، ذاتيتين له كما يليق بجماله، وإنّه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس وإنّه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماء بيده اليمنى(٣) .

يقول الخطّابي: « وليس اليد عندنا الجارحة وإنّما هي صفة جاء بها التوقيف

__________________

(١) علاقة الاثبات والتفويض: ص ٥٨.

(٢) و (٣) نفس المصدر: ص ٥٩.

١٠

ونحن نطلقها على ما جاء ولا نكيّفها »(١) .

هذه العبارات ونظائرها التي ملأ بها مؤلّف « علاقة الاثبات والتفويض » كتابه المنشور في مهد الدعوة السلفية، ترمي إلى أحد الأمرين: إمّا التجسيم والتشبيه وإمّا تعطيل العقول عن معرفة الكتاب العزيز، فانّ اليد والوجه والرجل موضوعات في اللّغة العربية للأعضاء الخاصّة، فإن اُريد منها المعنى الحقيقي وهو الذي يطلق عليه المعنى الكيفي، فيلزم التشبيه، وإن اطلق عليه بلا هذا القيد، فيلزم التأويل، وهم يفرّون منه فرار المزكوم من المسك، فإنّ القول بأنّ له سبحانه وجهاً بلا كيف مهْزلة وشعار خادع، إذ ليس هما معنى ثالث تلتجئ إليه السلفية فالأمر يدور بين اثنين، وثالثهما غير متصوّر.

١ ـ اليد بما له من الكيفيّة الخاصّة فيلزم منه التشبيه.

٢ ـ تأويله بالمعنى المجازي فيكون كناية عن القوّة والقدرة.

وأمّا الثالث أعني الوجه بلا كيف، فهو أشبه بأسد لا ذنب له ولا رأس ولا

فإنّ واقعية اليد قائمة بكيفيّتها، فسلب الكيفية سلب لحقيقتها، فلا يمكن حفظ أصله ورفض كيفيّته، فحذف الكيفيّة يلازم حذف أصل المعنى فقوامه بكيفيتها وعماده وسناده نفس هوّيتها الخارجية.

وأظن ـ وظن الألمعي صواب ـ: إنّ هٰؤلاء هم المشبّهة والمجسّمة ولكنّهم يخجلون من التفوّه بالتجسيم فيأتون به في قوالب خدّاعة، وعبارات معقّدة، أو أنّهم هم المعطّلة فإنّ امرار الصفات واثباتها على حسب ما جاء في الكتاب بلا توضيح لما يراد منه، نفس التعطيل أي تعطيل العقول عن المعارف، فهم بين مجسّمة تخفي عقيدتها، أو معطّلة لا تريد الرقي من سلّم المعارف درجة، فتكتفي بالألفاظ ولقلقة اللسان.

__________________

(١) فتح الباري: ج ١٣ ص ٤١٧.

١١

وبذلك تقف على قيمة ما روي عن الامام مالك عند ما سئل عن معنى قوله سبحانه( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) فقال الاستواء معروف، والكيفيّة مجهولة، والسؤال بدعة، والإيمان به واجب(١) .

ولا أدري كيف جمع بين قوله « الاستواء معلوم » و « الكيفيّة مجهولة » إذ ليس للاستواء إلّا معنى واحد وكيفيته هو حقيقته، فلو جُهلت الكيفية، جُهل الأصل فلا معنى للاستواء ( وهم يفسّرونه بالجلوس والاستقرار لا بالاستيلاء والاستعلاء ) مع القول بجهالة الكيفية فإنّ الكيفيّة والحقيقة متساويتان.

أضف إلى ذلك أنّه لم يعلم وجه قوله: « وإنّ السؤال عنه بدعة » مع أنّ السائل يريد تفسير الآية والتدبّر فيها ؟ وهل السؤال عن مفهوم الآية بقصد التعلم بدعة ؟

وبهذا عطّلوا العقول عن التدبّر في الكتاب العزيز وتفسير أسمائه وصفاته وأفعاله مع قدرتها على التعرف على ما هناك من الكمال والبهاء والجمال والجلال.

٣ ـ المعطّلة بثوبها الجديد

وقد ظهر التعطيل أي تعطيل العقول عن المعارف والالهيات بثوبها الجديد في العصر الأخير، وقد حمل رايتها المغترّون بالعلوم الطبيعية، وقد صبغوا نظريتهم بصبغة مادية خدعوا بها عقول البسطاء.

قال « فريد وجدي » :

« بما أنّ خصومنا يعتمدون على الفلسفة الحسّية والعلم الطبيعي في الدعوة إلى مذهبهم، فنجلعهما عمدتنا في هذه المباحث بل لا مناص لنا من الاعتماد عليهما لأنّهما اللذان أوصلا الإنسان إلى هذه المنصّة من العهد الروحاني »(٢) .

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني: ج ١ ص ٦٥، والرسائل الكبرى لإبن تيمية: ص ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) على أطلال المذهب المادي: ج ١ ص ١٦.

١٢

وقال « الندوي » :

« وقد كان الأنبياء: أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله وعن بداية هذا العالم ومصيره وما يهجم على الناس بعد موتهم، وآتاهم الله علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بلا تعب، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها ولا مقدّماتها الّتي يبنون عليها بحثهم ليتوصّلوا إلى مجهول لأنّ هذه العلوم وراء الحسّ والطبيعة لا تعمل فيها حواسهم، ولا يؤدّي إليها نظرهم، وليست عندهم معلوماتها الأوّلية الذين خاضوا في الالهيات من غير بصيرة وعلى غير هدى جاؤوا في هذا العلم بآراء فجّة، ومعلومات ناقصة، وخواطر سانحة، ونظريات مستعجلة فضلّوا واضلّوا(١) .

ويلاحظ على كلا التقريرين :

أوّلا: إنّ الاعتماد على الفلسفة الحسّية والتركيز على الحسّ من بين أدوات المعرفة، مقتبس من الفلسفة المادية التي ترفض الاعتماد على العقل وأدواته ولا يعترف إلّا بالحسّ وتحسبه أداة منحصرة للمعرفة، والعجب أن يلهج بهذا الأصل من يدّعي الصلة بالإسلام ويعد من المناضلين ضد الفلسفة الماديّة، ففي القول بهذا ابطال للشرائع السماوية، فانّها مبنية على النبوّة والوحي ونزول الملك وسائر الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ التي لا تدرك إلّا بالعقل والبرهنة، فمن العجيب أن يلعب فريد وجدي ومقلد الدعوة السلفية « ابوالحسن الندوي » بحبال المادية من غير شعور ولا استشعار.

وثانياً: إنّه لو صحّ قول « الندوي » إنّ هذه العلوم وراء الحسّ والتجربة لا تعمل فيها حواسّهم، ولا يؤدّي إليها نظرهم، وليست عندهم معلوماتها الأوّليه، فلما ذا يطرح الذكر الحكيم لفيفاً من المعارف، ويحرّض على التدبّر فيها وهي ممّا

__________________

(١) ماذا خسر العالم: ص ٩٧.

١٣

يقع وراء الحسّ والطبيعة، وليست الغاية من طرحها هو التلاوة والسكوت حتى تصبح الآيات لقلقة لسان لا تخرج عن تراقي القارئ بدل أن تتسلّل إلى صميم الذهن وأعماق الروح.

وإن كنت في ريب من وجود هذه المعارف العليا في الكتاب العزيز فلاحظ الآيات التاليه :

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ( الشورى / ١١ ).

( وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَىٰ ) ( النحل / ٦٠ ).

( لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( طه / ٨ ).

( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ( البقرة / ١١٥ ).

( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الحديد / ٣ ).

( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / ٤ ).

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ) ( الطور / ٣٥ ).

( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام / ٧٥ ).

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الانبياء / ٢٢ ).

( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( المؤمنون / ٩١ ).

إلى غير ذلك من الآيات التي وردت فيها اُصول المعارف الإلهية التي تقع وراء الحسّ والطبيعة وليس عندنا حسب فرض الندوي معلوماتها الأوّلية.

هذا وإنّ القرآن يحثّ المجتمع البشري على تحصيل البرهان في كلّ ما يعتقدونه في المبدئ والمعاد ويقول :

١٤

( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) ( الأنبياء / ٢٤ ).

كلّ ذلك يعرب عن عناية القرآن بتفهيم الإنسان المعارف والاصول التي هي خارجة عن اطار الحسّ والمادّة بقناعة كاملة لا بلقلقة اللسان.

إنّ هناك اُصولاً يعتقدبها الالهيّون وفي مقدّمتهم المسلمون البارعون، عن طريق العقل والبرهنة، ولا يمكن للعلوم الطبيعيّة أن تساعدهم في فهمها ولا أن تهدي إليها البشر. كالبحث من انّ المصدر لهذا العالم والمبدئ له، أزلي أو حادث، واحد أو كثير، بسيط أو مركّب، جامع لجميع صفات الجمال والكمال أم لا ؟ هل لعلمه حدّ ينتهى إليه أم لا ؟ هل لقدرته نهاية أم لا ؟ هل هو أوّل الأشياء وآخرها أم لا ؟ هل هو ظاهر الأشياء وباطنها أم لا ؟

فالاعتقاد بهذه المعارف عن طريق العلوم الطبيعية والحسّية غير ممكن والاعتماد على الوحي للتعرف عليها غير مقدور لكلّ إنسان، مضافاً إلى أنّه يجب معرفتها قبل معرفة النبي فكيف يتعرّف عليها عن طريق النبي والوحي المنزل.

وثالثا: نرى أنّه سبحانه يذكر الفؤاد إلى جانب السمع والبصر.

ويقول :

( وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( النحل / ٧٨ ).

والمراد من الشكر في ذيل الآية صرف النعمة في مواضعها فشكر السمع والبصر هو ادراك المسموعات والمبصرات بهما، وشكر الفؤاد هو درك المعقولات وغير المشهودات به، فالآية تحّرض على استعمال الفؤاد والقلب والعقل في ما هو خارج عن اطار الحسّ وغير واقع في متناول أدواته، ولأجل ذلك يتّخذ القرآن في بعض المجالات موقف المعلّم فيعلّم المجتمع البشري كيفية البرهنة العقليّة على

١٥

توحيد الخالقيّة والتدبير فيقول :

( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ *أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ *ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ *ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ *إِنَّا لَمُغْرَمُونَ *بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ *أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ *ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ *لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ *أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ *ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ ) ( الواقعة / ٥٧ و ٧٢ ).

إنّ تعطيل العقول عن المعارف الإلهية يجر الإنسان إلى التشبيه والتجسيم، وإن تبرأ منهما وإنبرى إلى نفي هذه الوصمة عن نفسه وأهل ملّته، هذا هو ابن تيمية محيي الدعوة السلفيّة في القرن الثامن يقول :

« أهل السنّة والجماعة يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ( تأويل ) ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ( تشبيه )، بل هم الوسط في فرق الاُمّة كما أنّ الاُمّة هي الوسط في الاُمم، فهم وسط كما في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل ( الجهميّة ) وأهل التمثيل ( المشبّهة )(١) .

والقارئ الكريم يتصوّر أنّه مشي على هذا الأصل إلى آخر كتابه ولكنّه يقف على أنّه سرعان ما انقلب على وجهه وارتدّ على أدباره وغرق في التشبيه والتجسيم ونادى به وقال :

( وممّا وصف الرسول به ربّه في الأحاديث الصحاح التي تلقّاها أهل المعرفة بالقبول ووجب الايمان بها قوله (ص): « ينزل ربّنا إلى سماء الدنيا كلّ ليلة حين يبقى ثلث اللّيل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ ومن يستغفرني فأغفر له ؟ وقوله يضحك الله إلى رجلين: أحدهما يقتل الآخر كلاهما

__________________

(١) مجموعة الرسائل: ص ٤٠٠.

١٦

يدخل الجنة، وقوله « لا تزال جهنّم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزّة فيها قدمه ينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: « قط قط » وهذه الأحاديث متّفق عليها ؟ )(١) .

نحن نسأل « ابن تيميّة » ومن لفّ لفّه: فهل يأخذ بظواهر هذه الأحاديث التي لو وردت في حقّ غيره سبحانه لقطعنا بكونه جسماً، كالإنسان له أعضاؤه، أو يحملها على غيرها، فعلى الأوّل يقع في مغبّة التشبيه، وعلى الثاني يقع في عداد المؤوّلين وهو يتبرّأ منهم.

والأخذ بظواهرها لكن بقيد « بلاتكييف » و « لا تشبيه » ـ مضافاً إلى أنّه لم يرد في النصوص ـ ما يوجب صيرورة الصفات مجملة غير مفهومة، فإنّ واقعيّة النزول والضحك ووضع القدم، إنّما هي بكيفيتها الخارجيّة، فحذفها يعادل عدمها. فما معنى الإعتقاد بشيء يصير في نهاية المطاف أمراً مجملاً ولغزاً غير مفهوم ؟ فهل يجتمع هذا مع بساطة العقيدة وسهولة التكليف التي تتبنّاها السلفيّة في كتبهم ؟

فلو صحّ تصحيح هذه الأحاديث والصفات الجسمانية بإضافة قولهم « بلا تمثيل » فليصحّ حمل كلّ وصف جسماني عليه باضافة هذا القيد بأن يقال: الله سبحانه جسم لا كهذه الأجسام، له صدر وقلب لا كمثل هذه الصدور والقلوب، إلى غير ذلك مما ينتهي الإعتقاد به إلى نفي الإله الواجب الجامع لصفات الجمال والجلال.

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد وتفسير القرآن والحديث، لا ينتج إلّا إجلاسه سبحانه على عرشه فوق السماوات، يقول « ابن قتيبة » ـ المدافع عن الحشوية وأهل الحديث ـ في تفسير قوله:( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) يستوحشون أن يجعلوا لله كرسيّاً أو سريراً ويجعلون العرش شيئاً آخر، والعرب لا تعرف العرش إلّا السرير، وما عرش من السقوف والابار. يقول الله( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) أي على السرير.

__________________

(١) نفس المصدر: ٣٩٨ ـ ٣٩٩.

١٧

واُميّة بن أبي الصلت يقول :

مجّدوا الله وهو للمجد أهل

ربّنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء الأعلى الذي سبق النا

س وسوّى فوق السماء سريرا

شرجعا(١) ما يناله بصر ال‍

عين ترى دونه الملائك صورا(٢) و (٣)

ترى أنّه يصور الله سبحانه ملكاً جبّاراً جالساً على عرشه، والخدم دونه ينظرون إليه بأعناق مائلة، وهو يتبجّح بذلك تبجّح المتكبّر باستصغار الناس وذلتهم.

ويقول أيضا :

« كيف يسوغ لاحد أن يقول: إنّه بكلّ مكان على الحلول مع قوله :

( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) أي استقر، كما قال:( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ) أي استقرت.

ومع قوله تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

كيف يصعد إليه شيء هو معه أو يرفع إليه عمل وهو عنده(٤) .

ثم إنّه يستشهد بكونه سبحانه في السماء بما ورد في الحديث :

« إنّ رجلاً أتى رسول الله بأمة أعجميّة، للعتق فقال لها رسول الله6 : أين الله تعالى ؟

فقالت: في السماء قال: فمن أنا ؟ قالت: أنت رسول الله فقال7 : هي مؤمنة وأمر بعتقها(٥) .

__________________

(١) أي طويلا.

(٢) جمع « أصور » وهو المائل العنق.

(٣) تأويل مختلف الحديث: ص ٦٧.

(٤) نفس المصدر: ص ٢٧١.

(٥) المصدر نفسه: ص ٢٧٢.

١٨

فقد غاب عن « ابن قتيبة » أنّ المراد من كونه سبحانه بكلّ مكان ليس هو حلوله فيه، بل المراد أنّ العالم بكلّ أجزائه وذرّاته قائم به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي وانّ وجوده سبحانه وجود فوق الزمان والزمانيّات والمكان والمكانيّات، غني عنهما، لا يحتاج إليهما، بل هو الخالق لهما، وأمّا الحديث الذي استدل به فليس فيه دلالة على تصديق رسول الله بكلّ ما تعتقده الاُمّة بل انّه6 اكتفى بما أظهرت من الاعتقاد الساذج بوجوده سبحانه ونبوّة نبيّه وان اخطأت في الحكم بأنّه في السماء ولم يكن الظروف - إذ ذاك - تساعد، أو لم تكن الاُمّة مستعدّه لتفهيمها إنّه سبحانه منزّه عن المكان والزمان والجهة، وإنّه ليس جسما ولا جسمانياً حتى يحلّ في السماء.

٤ ـ بين التشبيه والتعطيل

وهناك طائفة اُخرى يسلكون طريقاً وسطاً لا يوافقون أهل التشبيه - بصبّ المعارف العليا في قوالب جسميّة وصفات ماديّة - ولا أهل التعطيل فلا يسدّون نوافذ عقولهم وأفهامهم من التطلّع إلى ماوراء الطبيعة والوقوف على ما هناك من أسماء وصفات وحقائق رفيعه لا ينالها إلّا الأمثل فالأمثل من الإنسان، وهؤلاء يقولون: إنّه يمكن للإنسان التعرّف على ماوراء الطبيعة بما فيها من الجمال والكمال والعالم الفسيح، عن طريق التدبّر وامعان النظر، إمّا بترتيب الأقيسة المنطقية وتنظيم الحجج العقلية، أو بالنظر إلى ما يحتوي عالم الطبيعة من آثار ذلك الجمال وآياته، فعنذ ذلك يخرج الإنسان عن مهلكة التشبيه ومغبّة التعطيل، وإفراط المجسّمة وتفريط المعطّلة وهذا هو الذي يحصل به الجمع بين آيات القرآن والأحاديث الصحيحة وقد عرفت بعض الآيات الداعية إلى التدبّر والامعان في كلّ ما ورد في الكتاب من الحكم والمعارف(١) .

__________________

(١) ويكفيك أنّ الذكر الحكيم يستعمل مادّة التعقّل في مشتقّاته المختلفة ٤٧ مرّة والتفكّر ١٨ مرّة واللب ١٦ مرّة والتدبر ٤ مرّات والنهي مرّتين.

١٩

أمّا السنّة فقد قال عليٌّ7 : لم يطّلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته(١) .

يريد7 انّ العقول وان كانت غير مأذونة في تحديد صفاته، ولكنّها غير محجوبة عن التعرّف عليها إجمالا كيف وقال سبحانه( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ ) ( الذاريات / ٥٦ ).

والعبادة الصحيحة الكاملة لا تتيسّر إلّا بعد تحقّق المعرفة الكاملة الممكنة للعابد، وقال الامام عليّ بن الحسين8 : لـمّا سئل عن التوحيد: إنّ الله عزّ وجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون، فأنزل الله تعالى سورة قل هو الله أحد والآيات الستّ من سورة الحديد(٢) .

وكتب الامام الصادق7 في جواب سؤال « عبد الرحيم بن عتيك القصير » ـ عند ما سأله عن قوم بالعراق يصفون الله بالصورة وبالتخطيط ـ « سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبّهون الله بخلقه المفترون على الله. فاعلم رحمك الله أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله عزّ وجلّ، فانف عن الله تعالى البطلان والتشبيه، فلا نفى ولا تشبيه هو الله الثابت الموجود، تعالى الله عمّا يصفه الواصفون، ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان »(٣) .

وسئل الإمام أبوجعفر الثاني7 : يجوز أن يقال: إنه شيء ؟ قال: نعم، يخرجه من الحدّين: حد التعطيل وحد التشبيه(٤) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبه ٢٩.

(٢) الكافي: ج ١ باب النسبة ص ٩١ الحديث ٣، ونور الثقلين: ج ٥ ص ٢٣١.

(٣) الكافي: ج ١ باب « النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه » الحديث ١.

(٤) الكافي: ج ١ باب « اطلاق القول بأنّه شيء » الحديث ٢، ٥.

٢٠