مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237034 / تحميل: 6086
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الاُستاذ « قدس الله سرّه » في تفسيره نأتي برمّته.

شاع بين الناس أنّه اسم لفظي من أسماء الله سبحانه إذا دعي به استجيب، ولا يشذ من أثره شيء، غير أنّهم لـمّا لم يجدوا هذه الخاصّة في شيء من الأسماء الحسنى المعروفة ولا في لفظ الجلالة، اعتقدوا أنّه مؤلّف من حروف مجهولة تأليفاً مجهولاً لنا، لو عثرنا عليه أخضعنا به لإرادتنا كلّ شيء.

وفي مزعمة أصحاب العزائم والدعوات، أنّ له لفظاً يدل عليه بطبعه لا بالوضع اللغوي، غير أنّ حروفه وتأليفها تختلف باختلاف الحوائج والمطالب، ولهم في الحصول عليه طرق خاصّة يستخرجون بها حروفه أوّلاً، ثمّ يؤلّفونها ويدعون بها على ما يعرفه من راجع فنَّهم.

وفي بعض الروايات الواردة إشعار مّا بذلك، كما ورد أنّ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ) أقرب إلى اسم الله الأعظم من بياض العين إلى سوادها، وما ورد أنّه في آية الكرسي وأوّل سورة آل عمران، وما ورد أنّ حروفه متفرّقه في سورة الحمد يعرفها الإمام وإذا شاء ألّفها ودعا بها فاستجيب له.

وما ورد أنّ آصف بن برخيا وزير سليمان دعا بما عنده من حروف « اسم الله الاعظم » فاحضر عرش ملكة سبأ عند سليمان في أقل من طرفة عين، وما ورد أنّ الاسم الأعظم على ثلاث وسبعين حرفاً قسّم الله بين أنبيائه اثنتين وسبعين منها، واستأثر بواحدة منها عنده في علم الغيب، إلى غير ذلك من الروايات المشعرة بأنّ له تأليفاً لفظيّاً.

والبحث الحقيقي عن العلّة والمعلول وخواصّها يدفع ذلك كلّه، فإنّ التأثير الحقيقي يدور مدار وجود الأشياء في قوّته وضعفه، والمسانخة بين المؤثّر، والاسم اللفظي إذا اعتبر من جهة خصوص لفظه، كان مجموعة أصوات مسموعة هي من الكيفيّات العرضيّة، وإذا اعتبر من جهة معناه المتصوّر كان صورة ذهنيّة لا أثر لها من حيث نفسها في شيء البتة، ومن المستحيل أن يكون صوت « أوجدناه من طريق

٦١

الحنجرة أو صورة خياليّة نصورها في ذهننا » يقهر بوجوده وجود كلّ شيء، ويتصرّف فيما نريده على ما نريده فيقلب السماء أرضاً، والأرض سماء، ويحوّل الدنيا إلى الآخرة وبالعكس وهكذا، وهو في نفسه معلول لارادتنا.

والأسماء الإلهية واسعة، واسمه الأعظم خاصّة وان كانت مؤثّرة في الكون بوسائطه وأسبابه لنزول الفيض من الذات المتعاليّة في هذا العالم المشهود، لكنّها إنّما تؤثر بحقائقها لا بالألفاظ الدالّة عليها، ولا بمعانيها المفهومة من ألفاظها المتصوّرة في الأذهان، ومعنى ذلك أنّ الله سبحانه هو الفاعل الموجد لكلّ شيء بماله من الصفة الكريمة المناسبة له التي يحويها الاسم المناسب لا تأثير اللفظ أو الصورة المفهومة في الذهن أو حقيقة اُخرى غير الذات المتعالية.

إلاّ أنّ الله سبحانه وعد اجابة دعوة من دعاه كما في قوله:( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ( البقرة / ١٨٦ )، وهذا يتوقّف على دعاء وطلب حقيقي، وأن يكون الدعاء والطلب منه تعالى لا من غيره ـ كما تقدّم في تفسير الآية ـ فمن انقطع عن كلّ سبب واتّصل بربّه لحاجة من حوائجه فقد اتّصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته فيؤثر الاسم بحقيقته ويستجاب له، وذلك حقيقة الدعاء بالاسم، فعلى حسب حال الاسم الذي انقطع إليه الداعي يكون حال التأثير خصوصاً وعموماً، ولو كان هذا الاسم هو الاسم الأعظم لإنقاد لحقيقته كلّ شيء، واستجيب للداعي به دعاؤه على الاطلاق. وعلى هذا يجب أن يحمل ما ورد من الروايات والأدعية في هذا الباب دون الاسم اللفظي أو مفهومه.

ومعنى تعليمه تعالى نبيّاً من أنبيائه أو عبداً من عباده اسماً من أسمائه أو شيئاً من الاسم الأعظم، هو أن يفتح له طريق الانقطاع إليه تعالى باسمه ذلك في دعائه ومسألته، فان كان هناك اسم لفظي وله معنى مفهوم فإنّما ذلك لأجل أنّ الالفاظ ومعانيها وسائل وأسباب تحفظ بها الحقائق نوعاً من الحفظ فافهم ذلك.

واعلم أنّ الاسم الخاص ربّما يطلق على ما لا يسمّى به غير الله سبحانه كما

٦٢

قيل به في الاسمين: الله، والرحمان.

أمّا لفظ الجلالة فهو علم له تعالى خاص به ليس اسماً بالمعنى الذي نبحث عنه.

وأمّا الرحمان فقد عرفت أنّ معناه مشترك بينه وبين غيره تعالى لما انّه من الأسماء الحسنى، هذا من جهة البحث التفسيري، وأمّا من حيث النظر الفقهي فهو خارج عن مبحثنا.

١٣ ـ صفاته عين ذاته لا زائدة عليه

قد عرفت عند البحث عن كثرة صفاته مع بساطة ذاته انّه يمكن انتزاع مفاهيم كثيرة عن البسيط غاية البساطة وانّ من منع ذلك فقد خلط بين التغاير المفهومي والمصداقي(١) .

وليس المراد وحدة الصفات مفهوماً بل المراد وحدتها تحقّقاً ومصداقاً، ولقد كان لهذا البحث صدى كبيراً في الأدوار السالفة وقد افترق فيه المسلمون إلى فرقتين فالقائلون بالاتّحاد سمّوا بنفاة الصفات، كما أنّ القائلين بالزيادة نوقشوا بالقول بالقدماء الثمانية، فيجب علينا تحقيق الحق في ذلك المجال مضافاً إلى ما ذكرناه في البحث السابق.

إنّ كيفية اجراء صفاته سبحانه على ذاته أوجد هوّة سحيقة بين متكلّمي المعتزلة والأشاعرة، فمشايخ الاعتزال لأجل حفظ التوحيد، ورفض تعدد القديم، وتنزية الخالق عن التشبيه، ذهبوا إلى أنّ ملاك اجراء هذه الصفات هو الذات، وليست هنا أيّة واقعيّة للصفات غير ذاته إلّا أنّ عقيدتهم في ذلك المجال تقرّر بوجهين :

__________________

(١) سبق الكلام عن المقام عند البحث عن « بساطة ذاته وكثرة أسمائه » وقد عرفت انّ البحثين وجهان لعملة واحدة وهما متّحدان جوهراً ومختلفان حيثيّة.

٦٣

الأوّل: ما نسبه إليه خصمهم أبو الحسن الأشعري من أنّ الله عالم، قادر، حي بنفسه، لا بعلم وقدرة وحياة(١) .

ومعنى هذا أنّه ليس هناك حقيقة العلم والقدرة والحياة، غير أنّ الآثار المترتّبة من الصفات مترتبة على الذات، مثلاً خاصية العلم اتقان الفعل وهي تترتب على نفس ذاته بلا وجود وصف العلم فيه وقد اشتهر بينهم: « خذ الغايات واترك المبادئ »، وهذا النظر ينسب إلى أبي علي وأبي هاشم الجبائيين، وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الصفات، ولا يخفى أنّ هذه النظرية لا يناسب ما تضافر عليه الكتاب من اثبات هذه الصفات عليه سبحانه بوضوح، كما تصادمه البراهين الفلسفية من انّه لا يشذ عن حيطة وجوده أي كمال وانّه بسيط الحقيقة مع كونه جامعاً لكلّ الكمالات وأصحاب تلك النظرية وإن صاروا إليها لأجل حفظ التوحيد والتحرّز عن تعدد القدماء، لكن عملهم هذا أشبه بعمل الهارب من المطر إلى الميزاب. أو من الرمضاء إلى النار، أفيصح في منطق العقل إنكار هذه الكمالات لله سبحانه بحجّة انّ اثباتها يستلزم التركيب ؟ فلو كان أصحاب تلك النظرية غير قادرين على الجمع بين بساطة الذات واثبات الصفات كان اللازم عليهم الأخذ بالواضح المعلوم وهو كونه سبحانه عالماً قادراً حيّاً والسكوت عن كيفيّة اثباتها وإمرارها عليه، واحالة العلم بكيفيتهما إلى الله سبحانه والراسخين في العلم.

الثاني: ما نقل عن أبي الهذيل العلّاف المعتزلي، فقد ذهب إلى ما ذهبت إليه الاماميّة تبعاً لإمامهم سيد الموحّدين عليّ بن أبي طالب٧ فأثبت أنّ لله علماً وقدرة وحياة حقيقية ولكنّها في مقام التحقق والعينيّة نفس ذاته، وإليك نصّ عبارته :

« هو عالم بعلم هو هو، هو قادر بقدرة هي هو، هو حي بحياة هي هو، ـ إلى أن قال ـ إذا قلت: إنّ الله عالم، أثبتّ له علماً هو الله ونفيت عن الله جهلاً، ودللت على معلوم كان أو يكون، وإذا قلت: قادر نفيت عن الله عجزاً، وأثبتّ له

__________________

(١) مقالات الاسلاميين: ج ١ ص ٢٢٤.

٦٤

قدرة هي الله سبحانه ودللت على مقدور، فإذا قلت: « الله حي أثبتّ له حياةً وهي الله ونفيت عن الله موتاً »(١) .

والفرق بين الرأيين جوهري، فالرأي الأوّل يركز على أنّ الله عالم قادر حي بنفسه لا بعلم ولا قدرة ولا حياة، وأمّا الثاني وهو يركز على كونه سبحانه موصوفاً بهذه الصفات وإنّه عالم بعلم، وقادر بقدرة، ولكنها تتّحد مع الذات في مقام الوجود والعينيّة.

هذا هو الذي فهمنا من عبارة أبي الهذيل العلّاف وإن أصرّ القاضي عبد الجبّار على ارجاع مقالته إلى ما يفهم من عبارة أبي علي وابنه أبي هاشم، وقال: إنّه لم تتلخص له العبارة، وهذه النظرية هي المروية عن عليٍّ٧ في خطبه وكلماته، ونأتي منها بما يرتبط بالمقام :

١ ـ « كمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة انّها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصفة »(٢) .

٢ ـ « ولا تناله التجزئة والتبعيض »(٣) . وقد مضى بعض الاحاديث التي تتعلق بهذا الشأن عند البحث عن بساطة الذات وكثرة الصفات.

وبذلك يعلم أنّ ما ردّ به أبو الحسن الأشعري نظرية وحدة الصفات مع ذات، إنّما ينسجم مع نظرية النيابة لا مع نظرية أبي الهذيل: « قال إنّ الزنادقة قالوا: إنّ الله ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، وقول من قال من المعتزله: إنّه لا علم لله ولا قدرة له، معناه: إنّه ليس بعالم ولا قادر والتفاوت في الصراحة والكناية »(٤) .

__________________

(١) شرح الاصول الخمسة: للقاضي عبد الجبار المعتزلي ص ١٨٣، ومقالات الاسلاميين ص ٢٢٥.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ١ ـ طبع عبده ـ.

(٣) نهج البلاغة: الخطبة٨١ ـ طبع عبده ـ.

(٤) الابانة: ص ١٠٨.

٦٥

و هذا النقد ـ لو سلّم ـ فإنّما يتوجّه إلى النظرية الاُولى لا الثانية، ومع ذلك يمكن لأصحاب النظرية الاُولى الدفاع عن أنفسهم أيضاً قائلين بالفرق بين قول الزنادقة وهذه النظرية، فالزنادقة ينفون المبادئ على الاطلاق، والمعتزله ينفون المبادئ لكن يقيمون الذات مقام الصفات في الأثر والغاية.

نعم ما أجاب به الأشعري عن النظرية الثانية ساقط جداً حيث قال لو كان علم الله هو الله يلزم أنْ يصح أن نقول يا علم الله اغفر لي وارحمني(١) .

وهذا النقد يعرب عن عدم تفريق الشيخ بين الوحدة المفهوميّة والوحدة المصداقيّة والمعتزلة أعني أبا الهذيل ومن تبعه أو من سبقه لا يدّعون الوحدة المفهومية حتى يصحّ أن نقول: يا علم الله اغفر لي، وإنّما يقولون بالوحدة المصداقية واتّحاد العلم مع الذات لا يسوّغ استعمال العلم في الذات.

أدلّة القائلين بعينيّة صفاته مع ذاته

القائلون بوحدة صفاته مع ذاته يستدلّون بدليلين واضحين :

أحدهما: إنّ القول بالزيادة يستلزم تركيب الذات مع الصفات، والتركيب آية حاجة المركّب إلى كلّ واحد من الجزئين، والحاجة حليف الامكان، والممكن لا يكون واجباً.

ثانيهما: إنّ القول بالزيادة يستلزم تعدّد القدماء، لأنّ المغايرة حقيقية واقعيّة لا مفهوميّة، وأدلّة وحدة الواجب تضادها، فلا محيص من القول بالتوحيد، وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين٧ :

« وكمال الاخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه لشهادة كلّ صفة انّها غير

__________________

(١) نفس المصدر: ص ١٠٨.

٦٦

الموصوف، وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصفة فمن وصف الله ( أي بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه ( أي قرن ذاته بشيء غيرها ) ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه ومن جزّأه فقد جهله »(١) .

وأيّ برهان أوضح من هذا البيان فإنّ القول بالاتّحاد يوجب تنزيهه عن التجزئة ونفي الحاجة عن ساحته، ولكن إذا قلنا بالتعدّد والغيريّة، فذلك يستلزم التركيب ويتولّد منه التثنيه، والتركيب آية الحاجة والله الغني المطلق لا يحتاج إلى ما سواه.

قال الصادق٧ : « لم يزل الله جلّ وعزّ ربّنا، والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور »(٢) .

هذا ويمكن الاستدلال على الوحدة بالذكر الحكيم، نرى أنّه سبحانه يقول في سورة التوحيد:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ويقول في آخرها:( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

فلو قلنا بأنّ الصدر ناظر إلى نفي المثليّة يلزم التكرار، وأمّا لو قلنا بأنّه ناظر إلى بساطة الذات وعدم تركبه فعندئذ يكون الصدر دليلاً على نفي التركيب، والذيل دليلاً على نفي المثليّة.

وهناك كلمة قيّمة لأمير المؤمنين في جواب أعرابي يوم الجمل: فقال يا أمير المؤمنين أتقول انّ الله واحد ؟ قال ( الراوي )، فحمل الناس عليه قالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب، فقال أمير المؤمنين٧ : دعوه، فإنَّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثمّ قال: يا أعرابي، اِنَّ القول في أنَّ الله واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ، ووجهان يثبتان فيه ـ إلى أن قال ـ: « وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١.

(٢) التوحيد للصدوق: ص ١٣٩.

٦٧

واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا. وقول القائل: إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم. كذلك ربّنا »(١) .

وهذا الحديث العلوي يركّز على البساطة ونفي توهّم الجزئية على الاطلاق سواء كان مبدأ التركيب هو زيادة الصفات على الذات أو غيرها كما هو الحال في تثليث المسيحيّين.

وأمّا أدلة القائلين بالزيادة فتبتني على أنّ واقعيّة الصفة هي البينونة، فيجب أن يكون هناك ذات وعرض ينتزع من إتصاف الاُولى بالثاني، عنوان العالم والقادر. فالعالم من له العلم، والقادر من له القدرة، لا من ذات نفسهما فيجب أن يفترض ذات غير الوصف(٢) .

يلاحظ عليه: إنّ الشيخ الأشعري يريد اقتناص الحقائق الفلسفيّة عن طريق اللّغة فإنّه لا شك أنّ لفظ العالم والقادر ظاهر فيما ذكر إلّا أنّه يجب رفع اليد عن هذا الظاهر بالبرهان العقلي، وعدم وقوف العرف على هذا المصداق من العالم والقادر لا يمنع من صحّة اطلاقهما عليه.

أضف إلى ذلك إنّ الفرق بين القول بالعينيّة والقول بالزيادة، كالفرق بين قولنا زيد عدل وزيد عادل، فالاُولى من القضيتين آكد في اثبات المبدأ من الآخر ولأجل ذلك كان القول بالعينية آكد في اثبات العلم له سبحانه من القول بالزيادة، فلو بلغ وجود امكاني إلى مبلغ من الكمال، بأن صار ذاته علماً وقدرة فهو اُولى بالاتّصاف بهما ممّن يغاير ذاتُه صفتَه، وعدم وقوف العرف على هذا النوع من الصفات لا يضرّ بالاتّصاف.

__________________

(١) التوحيد للصدوق: ص ٨٣ ـ ٨٤.

(٢) اللمع للشيخ الاشعري: ص ٣٠ بتقرير منّا.

٦٨

مضاعفات القول بالزيادة

إذا كان في القول بعينيّة الصفات مع الذات، نوع مخالفة لظاهر صيفة الفاعل اُعني العالم والقادر، كان في القول بالزيادة مضاعفات، لا يقبلها العقل السليم، ونشير إلى بعضها :

١ ـ تعدّد القدماء بعدد الأوصاف الذاتيّة، فلو كانت النصرانية قائلة بالتثليث، فالقائلون بالزيادة يقولون بقدماء كثيرة.

نعم القائلون بالزيادة يتمحّلون في رفع الاشكال بأنّ « المراد من الزيادة هو أنّها ليست ذاته ولا غيرها » ولكنّك ترى أنّه كلام صوري ينتهي عند الدّقة إلى ارتفاع النقيضين.

إنّ القول بأنّ له سبحانه صفات زائدة على الذات، قديمة مثله، ممّا لا يجترئ عليه مسلم واع، ولم يكن أحدٌ متفوّهاً بهذا الشرك من المسلمين غير الكلابية، وعنهم أخذ الأشعري.

قال القاضي عبد الجبار: « وعند الكلّابيّة أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزليّة وأراد بالأزليّ: القديم، إلّا أنّه لـمّا رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله لم يتجاسر على اطلاق القول بذلك، ثمّ نبغ الأشعري وأطلق القول: بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة، لوقاحته وقلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين »(١) .

__________________

(١) الاصول الخمسة: ص ١٨٣، ط مصر.

٦٩

٢ ـ إنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته، يستلزم غناه في العلم بماوراء ذاته، من غيره فيعلم بذاته كلّ الأشياء من دون حاجة إلى وراء الذات. وهذا بخلاف القول بالزيادة إذ عليه يعلم سبحانه بعلم سوى ذاته، ويخلق بقدرة خارجة عن ذاته، وكون هذه الصفات أزليّة، لا يدفع الفقر والحاجة عن ساحته سبحانه، مع أنّ وجوب الوجود يلازم الغنا عن كل شيء.

إنّ « الصفاتيّة » في علم الكلام وتاريخ العقائد هم الأشاعرة ومن لفّ لفّهم في القول بالاُوصاف الزائدة، كما أنّ المعطّلة هم نفاة الصفات وهم المعتزلة ( حسب زعم الأشاعرة ) حيث عطّلوا الذات عن التوصيف بالأوصاف الكمالية، وقالوا بالنيابة.

وقد عرفت أنّه ليس في القول بوحدة الصفات مع الذات « لا القول بالنيابة » أيّ تعطيل لتوصيف الذات بالصفات الكمالية.

إلى هنا انتهى البحث عن صفاته الثبوتية ووحدتها مع الذات، بقي هنا بحثان :

الأوّل: البحث عن صفاته الفعلية وإنّ الإرادة والتكلّم هل هما من صفات الفعل أو من صفات الذات ؟

الثاني: عن كيفيّة حمل الصفات الخبرية عليه سبحانه، وقد كان لهذا البحث دويّ في القرون الاولى الاسلامية، وإليك بيان الأوّل، ونؤخّر بيان الثاني إلى أن نفرغ عن تفسير أسمائه في القرآن.

٧٠

١٤ ـ الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟

قد تعرّفت على أنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتية وفعلية، وعرفت الملاك فيهما غير أنّه وقع البحث في بعض الصفات وأنّها هل هي من صفات الذات أو من صفات الفعل ؟ ونخصّ بالذكر صفتي الإرادة والتكلّم فنقول :

الإرادة والكراهة كيفيّتان نفسانيّتان كسائر الكيفيّات النفسانيّة حاضرتان لدى النفس بلا توسيط شيء مثل اللّذة والألم فتكونان معلومتين للنفس بعلم حضوري لا حصولي كما هو الحال في كلّ الاُمور الوجدانية، والمهم تبيين ماهية الإرادة في الإنسان ثمّ البحث عن إرادته سبحانه.

فنقول: إنّ في إرادة الإنسان آراء مختلفة نشير إليها(١) .

أ ـ رأي المعتزلة في الإرادة

الإرادة عبارة عن اعتقاد النفع، والكراهة عبارة عن اعتقاد الضرر، ونسبة القدرة إلى طرفي الفعل والترك متساوية، فإذا حصل في النفس الاعتقاد بالنفع في أحد الطرفين، يرجّح بسببه ذلك الطرف ويصير الفاعل مؤثّراً فيه.

يلاحظ عليه: انّه تفسير للإرادة والكراهة ببعض مبادئهما فإنّ الإرادة تنبثق عن الاعتقاد بالنفع كما أنّ الكراهة تنبثق عن الاعتقاد بالضرر، ولكن الاعتقاد غير الإرادة بشهادة أنّ الاعتقاد بالنفع لا يستتبع إرادة في جميع المجالات.

ب ـ الإرادة: الشوق النفساني

يظهر من بعض المشايخ « إنّ الإرادة هو الشوق النفساني الحاصل في النفس من الاعتقاد بالنفع ».

__________________

(١) لاحظ: الوقوف على آراء المتكلمين في حقيقة الإرادة: شرح المواقف: ج ٨ ص ٨١ ـ ٨٢.

٧١

يلاحظ عليه: أنّ تفسير الإرادة بالشوق تفسير ناقص إذ ربّما تتحقّق الإرادة ولا تكون هناك أيّة شوق كما في تناول الأدوية المرّة لأجل العلاج، وربّما يتحقّق الشوق المؤكّد ولا تكون هناك إرادة كما في مورد المحرمات للرجل المتّقي فالنسبة بين الشوق والإرادة عموم وخصوص من وجه.

ج ـ الإرادة هي العزم والجزم

الإرادة لدى البعض عبارة عن كيفيّة نفسانيّة متخلّلة بين العلم الجازم والفعل ويعبر عنه بالقصد والعزم تارة، وبالإجماع والتصميم اُخرى، وليس القصد من مقولة الشوق كما انّه ليس من مقولة العلم ـ رغم حضوره لدى النفس كسائر الكيفيّات النفسانيّة ـ وبإختصار: الإرادة هي القصد وإجماع النفس على الفعل والعزم القاطع هذا هو حقيقة الإرادة في الإنسان.

الإرادة الامكانية تلازم الحدوث

وعلى كلّ تقدير الإرادة في الإنسان بأيّ معنى فسّرت ظاهرة تظهر في لوح النفس تدريجيّة فيتقدّمها اُمور من تصوّر الشيء والتصديق بما فيه من الفائدة ثمّ حصول الاشتياق إليه في موارد خاصّة، ثمّ رفع الموانع عن طريق ايجاد الشيء وأخيراً حالة التصميم والقصد القطعي المحرّك للعضلات نحو المقصود.

وهذا أمر واضح يقف عليه الإنسان إذا تدبّر في حالات نفسه، ومن المعلوم انّ الإرادة بهذا المعنى لا يمكن توصيفه سبحانه به لأنّه يستلزم كونه موجوداً مادياً يطرأ عليه التغير والتبدل، والتكامل من النقص إلى الكمال، ومن الفقدان إلى الوجدان وما هذا شأنه لا يليق بساحة البارئ.

الإرادة ملاك الاختيار

إنّ الإرادة ملاك الإختيار، فالفعل إنّما يوصف بالاختيار إذا صدر عن مشيئة

٧٢

الفاعل وإرادته سواء أقلنا إنّ نفس الإرادة أيضاً أمر اختياري أو خارج عنه، وهذا لا يهمنا في هذا البحث، وإنّما المهم إناطة اختياريّة الفعل بسبق الإرادة عليها والفاعل المريد المختار أكمل من الفاعل غير المريد المختار، وعلى ضوء ذلك لا يمكن سلب الإرادة والاختيار عنه سبحانه لأنّ فقدان الإرادة يستلزم أمرين :

١ ـ كونه فاعلاً غير مريد وبالتالي غير مختار.

٢ ـ كونه فاعلاً غير كامل لأنّ المريد أكمل من غيره وبالتالي المختار أفضل من غيره.

وإن شئت قلت: إنّه سبحانه أمّا ان يكون فاعلاً فاقداً للعلم.

أو يكون عالماً فاقداً للإرادة.

أو يكون عالماً ومريداً لكن عن كراهة لفعله لأجل جبر خارجي عليه يقهره على الإرادة.

أو يكون عالماً ومريداً وراضياً بفعله غير مكره.

والثلاثة الأوّل غير لائقة بساحته، فيتعيّن كونه فاعلاً مريداً مالكاً لزمام فعله وعمله، ولا يكون مقهوراً في الإيجاد والخلق، لأجل وجود جبر قاهر عليه.

إذا وقفت على ذلك فالباحث عن إرادته سبحانه وكونها صفة الذات أو صفة الفعل واقع بين أمرين متخالفين :

فمن جهة إنّ حقيقة الإرادة لا تنفكّ عن الحدوث والتدريج يستحيل أن يكون ذاته سبحانه محلاً للحوادث، لاستلزامه طروء الفعل والانفعال على ذاته سبحانه وهو محال، ولأجل ذلك ذهب كثير من المتكلّمين إلى انّ الإرادة من صفات فعله، فارادته هو إيجاده كما انّ خالقيته عبارة عن فعله وإيجاده، ورازقيّته عبارة عن انعام الخلق بنعمه.

ومن جهة اُخرى انّ سلب الإرادة عن ذاته وحصر إرادته في الفعل والايجاد

٧٣

يستلزم كونه فاعلا غير مختار وتصور فاعل أكمل منه وهو لا يليق بساحته وإليك البيان.

هل الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟

إنّ الإرادة بما أنّها آية الاختيار تستلزم أن تعدّ من صفات الذات فإنّ سلبها عن مقام الذات يستلزم سلب كمال منها غير أن أمام هذا موانع تمنع عن عدّها من صفاتها وإليك بيانه :

١ ـ إنّ الإرادة لا تنفك عن الحدوث والتدريج، فيستحيل أن تكون ذاته سبحانه محلاً للحوادث لاستلزامه طروء الفعل والانفعال على ذاته وهو محال.

٢ ـ إنّ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت: تفسّر الإرادة بنفس الفعل والايجاد، وهذا يكشف عن كونها صفة الفعل. وسيوافيك بيان هذه الأحاديث.

٣ ـ إنّ الملاك الذي ذكره الكليني لتمييز صفة الذات عن صفة الفعل، يستلزم عدّها من صفات الفعل لا من صفات الذات، فإنّ صفات الفعل تقع تحت النفي والاثبات ويقال: « يَخلق ولا يُخلق » « يَغفر ولا يُغفر » بخلاف صفة الذات فإنّها تقع تحت الاثبات دون النفي، يقال: « يعلم ويقدر » ولا يقال: « لا يعلم ولا يقدر »، وعلى ضوء هذا فبما أنّه سبحانه يريد الحق ولا يريد الباطل، يريد إيجاد شيء مطابق للحكمة ولا يريد إيجاد ما يخالفها، فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات(١) .

٤ ـ لو كانت الإرادة نفس ذاته ; لزم قدم العالم لأنّها متّحدة مع الذات والذات موصوفة بها وهي لا تنفك عن المراد، فيلزم أن لا ينفكّ العالم عن الذات.

فهذه هي الموانع الأربعة أمام عدّ الإرادة من صفات الذات فالقائل بكونها من

__________________

(١) الكافي: ج ١ ص ١٠٩.

٧٤

صفاتها يجب عليه حلّ عقدها ورفع مشاكلها، ولأجل ذلك نطرحها على بساط البحث فنقول :

الاشكال الأوّل: الإرادة أمر تدريجي حادث

لو كانت الإرادة صفة الذات، يلزم كون الذات محلاًّ للحوادث فنقول: قد اُجيب عن هذا الاشكال بامور نشير إليها :

أ ـ إرادته سبحانه، علمه بالذات

إنّ إرادته سبحانه عبارة عن علمه بالنظام الأصلح والأتم والأكمل، قال صدر المتألهين: « معنى كونه مريداً: إنّه سبحانه يعقل ذاته، ويعقل نظام الخير الموجود في الكلّ من ذاته، وإنّه كيف يكون ؟ وذلك النظام يكون لا محالة كائناً ومستفيضاً وهو غير مناف لذات المبدأ الأوّل »(١) .

وقال أيضاً :

« إنّ إرادته سبحانه هي العلم بنظام الكلّ على الوجه الأتمّ وإذا كانت القدرة والعلم شيئاً واحداً مقتضياً لوجود الممكنات على النظام الأتمّ، كانت القدرة والعلم والإرادة شيئاً واحداً في ذاته، مختلفاً بالاعتبارات العقليّة(٢) .

وقال الحكيم السبزواري: « الواجب جلّ مجده حيث يتعالى من أن يفعل بآلة، ومن أن يكون له شوق إلى ما سواه، إذ هو موجود غير فقيد، لكونه تامّاً وفوق التمام، ومن أن يكون علمه انفعاليّاً، فإنّ علمه تعالى فعلي غير معلّل بالأغراض الزائدة فالداعي، والإرادة، والقدرة، عين علمه العنائي وهو عين ذاته(٣) .

__________________

(١) الأسفار الأربعة: ج ٦ ص ٣١٦.

(٢) نفس المصدر: ص ٣٣١.

(٣) شرح الأسماء الحسنى: ص ٤٢.

٧٥

مناقشة هذه النظرية

لا شك انّه سبحانه عالم بذاته، وعالم بالنظام الأكمل والأتم والأصلح، ولكن تفسير الإرادة بالعلم، يرجع إلى انكار حقيقة الإرادة فيه سبحانه، فانكارها في مرتبة الذات، مساوق لانكار كمال فيه، إذ لا ريب أنّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد، فلو فسّرنا إرادته سبحانه بعلمه بالنظام، فقد نفينا ذلك الكمال عنه، وعرّفناه فاعلاً يشبه الفاعل المضطر في فعله، وبذلك يظهر النظر فيما أفاده صدر المتألّهين والسبزواري. حيث تصوّرا أنّ الإرادة والعلم شيء واحد بذاته، مختلف بالاعتبار، ولأجل عدم صحّة هذا التفسير نرى أنّ أئمة أهل البيت: ينكرون تفسيرها بالعلم. قال بكير بن أعين: قلت لأبي عبد الله الصادق٧ : « علمه ومشيئته مختلفان أو متّفقان » ؟

فقال٧ : « العلم ليس هو المشيئة، ألا ترى أنّك تقول سأفعل كذا إن شاء الله، ولا تقول سأفعل كذا إن علم الله »(١) .

وإن شئت قلت: « إنّ الإرادة صفة مخصّصة لأحد المقدورين، أي الفعل والترك، وهي مغايرة للعلم والقدرة، لأنّ خاصيّة القدرة صحّة الإيجاد واللا إيجاد، وذلك بالنسبة إلى جميع الأوقات وإلى طرفي الفعل والترك على السواء، فلا تكون نفس الإرادة التي من شأنها تخصيص أحد الطرفين، واخراج القدرة عن كونها متساوية بالنسبة إليهما.

وأمّا العلم فهو من المبادئ البعيدة للإرادة، والإرادة من المبادئ القريبة إلى الفعل، فلا معنى لعدّهما شيئاً واحداً.

نعم، كون علمه بالمصالح والمفاسد مخصّصاً لأحد الطرفين، وإن كان أمراً معقولاً، لكن لا تصحّ تسميته إرادةً وإن اشترك مع الإرادة في النتيجة وهي تخصيص

__________________

(١) الكافي: ج ١ ص ١٠٩ باب الارادة.

٧٦

الفاعل قدرته بأحد الطرفين، إذ الاشتراك في النتيجة لا يوجب أن يقوم العلم مقام الإرادة ويكون كافياً لتوصيفه بذلك الكمال أي الإرادة.

ب ـ إرادته سبحانه ابتهاجه بفعله

إنّ إرادته سبحانه ابتهاج ذاته المقدّسة بفعلها ورضاها به، وذلك لأنّه لـمّا كانت ذاته سبحانه صرف الخير وتمامه، فهو مبتهج بذاته أتمّ الابتهاج، وينبعث من الابتهاج الذاتي ابتهاج في مرحلة الفعل، فإنّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره ولوازمه، وهذه المحبّة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل، وهي التي وردت في الأخبار التي جعلت الإرادة من صفات فعله، فللإرادة مرحلتان: إرادة في مقام الذات، وإرادة في مقام الفعل، فابتهاجه الذتي إرادة ذاتيّه، ورضاه بفعله إرادة في مقام الفعل.

يلاحظ عليه: إنّ هذه النظرية كسابقتها لا ترجع إلى محصّل، فإنّ حقيقة الإرادة غير حقيقة الرضا وغير حقيقة الابتهاج، وتفسير أحدهما بالآخر إنكار لهذا الكمال في ذاته سبحانه، وقد مرّ أنّ كون الفاعل مريداً ـ في مقابل كونه فاعلاً مضطراً موجباً ـ، أفضل وأكمل فلا يمكن نفي هذا الكمال عن ذاته على الاطلاق.

ج ـ الإرادة: إعمال القدرة

وربّما تفسر إرادته سبحانه بإعمال القدرة كما عن بعضهم. قال قائل :

« إنّا لا نتصوّر لإرادته تعالى معنى غير إعمال القدرة والسلطنة، ولـمـّا كانت سلطنته تعالى تامّة من جميع الجهات، ولا يتصوّر فيه النقص أبداً فبطبيعة الحال يتحقّق الفعل في الخارج، ويوجد بصرف إعمال القدرة من دون توقّفه على أيّة مقدّمة اُخرىٰ كما هو مقتضي قوله سبحانه:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( يس / ٨٢ )(١) .

__________________

(١) المحاضرات: ج ٢ ص ٣٨.

٧٧

يلاحظ عليه: إنّ إعمال القدرة والسلطنة إمّا فعل اختياري له سبحانه أو اضطراري، ولا سبيل إلى الثاني لأنّه يستلزم أن يكون تعالى فاعلاً مضطراً ولا يصح توصيفه بالقدرة ولا تسميته بالقادر، وعلى الأوّل فما هو ملاك كونه فاعلاً مختاراً ؟ لأنّه لابد أن يكون هناك قبل إعمال السلطنة وتنفيذ القدرة، شيء يدور عليه كونه فاعلاً مختاراً، فلا يصحّ الاكتفاء في مقام تفسير الإرادة، بإعمال القدرة.

وباختصار: إنّ الاكتفاء باعمال القدرة من دون إثبات وصف الاختيار له في المقام بنحو من الأنحاء غير مفيد، والمعروف انّ ملاك الاختيار هو الإرادة، نعم لعلّ ما ذكره ( دام ظله ) يرجع إلى ما سنذكره.

د ـ إرادته، كونه مختاراً بالذات

الحق إنّ الإرادة من الصفات الذاتية وتجري عليه سبحانه على التطوير الذي ذكره المحقّقون في توصيفه بالحياة، ولأجل توضيح المطلب نأتي بكلمة جارية في جميع صفاته سبحانه وهي :

يجب على كلّ إلهي ـ في إجراء صفاته سبحانه عليه ـ تجريدها من شوائب النقص وسمات الإمكان، وحملها عليه بالمعنى الذي يليق بساحته مع حفظ حقيقتها وواقعيّتها حتّى بعد التجريد.

مثلاً، انّا نصفه سبحانه بالعلم، ونجريه عليه مجرّداً عن الخصوصيّات والحدود الإمكانية، ولكن مع حفظ واقعيّته، وهو حضور المعلوم لدى العالم، وأمّا كون علمه كيفاً نفسانيّاً أو إضافة بين العالم والمعلوم، فهو منزّه عن هذه الخصوصيّات، ومثل ذلك الإرادة، فلا شك انّها وصف كمال له سبحانه وتجري عليه مجرّدة عن سمات الحدوث والطروء والتدرّج والانقضاء بعد حصول المراد، فإنّ ذلك كلّه من خصائص الإرادة الامكانية وإنّما يراد من توصيفه بالإرادة كونه فاعلاً مختاراً في مقابل كونه فاعلاً مضطراً، وهذا هو الأصل المتبع في إجراء صفاته سبحانه.

٧٨

إنّ الإرادة صفة كمال لا لأجل كونها حادثة طارئة منقضية بعد حدوث المراد، وإنّما هي صفة كمال لكونها رمز الإختيار وسمة القاهريّة حتى أنّ الفاعل المريد المكره له قسط من الاختيار، حيث يختار أحد طرفي الفعل على الآخر تلو محاسبات عقليّة فيرجّح الفعل على الضرر المتوعّد به، فإذا كان الهدف والغاية من توصيف الفاعل بالإرادة هو اثبات الاختيار وعدم المقهوريّة فتوصيفه سبحانه بكونه مختاراً غير مقهور في سلطانه، غير مجبور في إعمال قدرته، كاف في جري الإرادة عليه، لأنّ المختار واجد لكمال الإرادة على النحو الأتمّ والأكمل، وقد مرّ أنّه يلزم في اجراء الصفات ترك المبادئ والأخذ بجهة الكمال، فكمال الإرادة ليس في كونها طارئة زائلة عند حدوث المراد، أو كون الفاعل خارجاً بها عن القوّة إلى الفعل، أو من النقص إلى الكمال، بل كمالها في كون صاحبها مختاراً، مالكاً لفعله آخذاً بزمام عمله فلو كان هذا هو كمال الإرادة، فالله سبحانه واجد له على النحو الاكمل إذ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه،( وَاللهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ) ( يوسف / ٢١ )، وليس هذا بمعنى انّها وصف سلبي وهو كونه تعالى غير مغلوب ولا مستكره، كما نقل عن النجّار(١) بل هي وصف وجودي هو نفس ذاته والتعبير عنه بوصف سلبي لا يجعله أمراً سلبياً كتفسير العلم بعدم الجهل، والقدرة بعدم العجز.

إجابة عن سؤال :

ويمكن أن يقال: إنّ تفسير الإرادة بالاختيار يستلزم نفس ما يستلزمه تفسير الإرادة بالعلم فعلى كلا التفسيرين الإرادة بمفهومها الحقيقي منفيّة عن الذات الإلهية.

والإجابة عن هذا السؤال واضح بملاحظة ما قدّمناه من التحليل في تفسير صفاته سبحانه فإنّ الصفات الكماليّة تحمل على الله سبحانه بحذف نقائصها وزوائدها لا بالمفهوم الحرفي الابتدائي الذي يتبادر إلى الأذهان مثلاً إنّا نصفه سبحانه بالحياة وإنّه حي، ومن المعلوم أنّ ما يتبادر من الحياة هو ما نعرفه في النبات بالدفع

__________________

(١) كشف المراد: ص ١٧٧.

٧٩

والجذب وانتاج المثل، وفي الحيوان بإضافه الحس والحركة، وفي الإنسان بزيادة التعقل والتفكر، ومن المعلوم انّ الحياة بهذا المعنى غير قابل للحمل على الله سبحانه لكونها نقصاً.

فكما أنّ تفسير الحياة في العلوم الطبيعية بما ذكرنا لا ينافي توصيفه سبحانه بالحياة لأنّه يؤخذ منه اللبّ ويحذف القشر، فكونه سبحانه عالما قادراً أي درّاكاً، فعّالاً، يكفي في توصيفه بالحياة فهكذا توصيف الإرادة بالعزم والجزم الطارئين على النفس بعد مقدمات، لا ينافي توصيفه سبحانه بالإرادة لكن على التحليل الذي بيّنّاه وهو طرد القشر والأخذ باللب، فبما أنّ الإرادة آية الإختيار، والإختيار جوهر الإرادة وروحها، فيكفي في توصيفه بالإرادة، تفسيره بالإختيار وأين هذا من تفسير الإرادة بالعلم الذي لا صلة بينهما إلّا على وجه بعيد ؟

فكما أنّ ما ذكر من الخصائص للحياة من الحسّ والحركة وغيرهما ليس عنصراً مقوّماً للحياة، وإنّما هي تجلّيات لوجود عنصر الحياة في الإنسان، فهكذا الإرادة تجلّ لوجود عنصر الاختيار في الذات، فإذا كان ما يتجلّى به غير لائق لتوصيفه سبحانه به، ينحصر التوصيف باللب والتجلّي بالمفهوم وهو الاختيار.

إلى هنا تمّ البحث حول المانع الأوّل وبقي الكلام في الموانع الاُخرى.

الإشكال الثاني: الروايات تعدّ الإرادة من صفات الفعل

كيف تعدّ الإرادة من صفات الذات، مع أنّ الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت: تفسّره بالإيجاد مشيرة إلى أنّها من صفات الفعل كالخالقيّة والرازقيّة.

قال المفيد: إنّ إرادة الله تعالى لأفعاله هي نفس أفعاله، وإرادته لأفعال خلقه، أمره بالأفعال، وبهذا جاءت الآثار عن أئمّة الهدى من آل محمد: وهو مذهب سائر الإماميّة إلّا من شذّ منها عن قرب، وفارق

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الألفاظ المختلفة في كلمة واحدة ومعنى واحد، وإن شئت فقل: سبع لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة ومعنى واحد، نحو: هلمّ وأقبل وتعال وعجّل وأسرع وقصدي ونحوي، فهذه ألفاظ سبعة معناها واحد هو: طلب الإقبال.

وهذا القول منسوب لجمهور أهل الفقه والحديث، منهم: سفيان، وابنه وهب، وابن جرير الطبري، والطحاوي».

قال: «إنّ أصحاب هذا القول - على جلالة قدرهم ونباهة شأنهم - قد وضعوا أنفسهم في مأزق ضيق، لأنّ ترويجهم لمذهبهم اضطرّهم إلى أن يتورّطوا في أمور خطرها عظيم، إذ قالوا: إنّ الباقي الآن حرف واحد من السبعة التي نزل عليها القرآن، أمّا الستّة الاخرى فقد ذهبت ولم يعد لها وجود ألبتّة، ونسوا أو تناسوا تلك الوجوه المتنوّعة القائمة في القرآن على جبهة الدهر إلى اليوم.

ثمّ حاولوا أن يؤيّدوا ذلك فلم يستطيعوا أن يثبتوا للأحرف السّتة التي يقولون بضياعها نسخاً ولا رفعاً، وأسلمهم هذا العجز إلى ورطة اخرى هي: دعوى إجماع الامّة على أن تثبت على حرف واحد وأن ترفض القراءة بجميع ما عداه ما الاحرف الستّة، وأنّى يكون لهم هذا الإجماع ولا دليل عليه؟!

هنالك احتالوا على إثباته بورطة ثالثة وهي: القول بأنّ استنساحخ المصاحف في زمن عثمان - رضي الله عنه - كان إجماعاً عن الامّة على ترك الحروف الستذة والإقتصار على حرف واحد هو الذي نسخ عثمان المصاحف عليه.

إلاّ إنّ هذه ثغرة لا يمكن سدّها، وثلمة يصعب جبرها، وإلاّ فكيف يوافق أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على ضياع ستّة

٢٠١

حروف نزل عليها القرآن دون أن يبقوا عليها مع أنّها لم تنسخ ولم ترفع؟!

وقصارى القول: إنّنا نربأ بأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكونوا قد وافقوا أو فكّروا فضلاً في أن يتآمروا على ضياع أحرف القرآن الستّة دون نسخ لها، وحاشا عثمان - رضي الله عنه - أن يكون قد أقدم على ذلك وتزعّمه ...»(1) .

قلت: ومثل هذا كثير، يجده المتتبّع لكلماتهم وآرائهم في كتب الفقه والحديث والتفسير والقراءات.

وعن الثوري(2) أنّه قال: «بلغنا أنّ ناساً من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يقرأون القرآن اصيبوا يوم مسيلمة فذهبت حروف من القرآن»(3) .

وقال ابن الخطيب في كتابه (الفرقان)(4) تحت عنوان «لحن

__________________

(1) مناهل العرفان 1: 244.

(2) سفيان بن سعيد الثوري، الملقّب عندهم بـ «أمير المؤمنين في الحديث» والموصوف بـ «سيّد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى» وغير ذلك. أنظر ترجمته في حلية الأولياء 6: 356، تهذيب التهذيب 4: 111، تاريخ بغداد 9: 151، وغيرها.

(3) الدرّ المنثور 5: 179.

(4) طبع هذا الكتاب بمطبعة دار الكتب المصرية سنة 1367 - 1948، وصاحبه من الكتاب المصريّين المعاصرين، وهو يشتمل على بحوث قرآنية في فصول تناول فيها بالبحث مسالة القرءآت، والناسخ والمنسوخ، ورسم المصحف وكتابته، وترجمة القرآن إلى اللغات. إلى غير ذلك، وله في هذا الكتاب آراء وأفكار أهمّها كثرة الخطأ في القرآن ووجوب تغيير رسمه وجعل ألفاظه كما ينطق بها اللسان وتسمعها الآذان، فطلب علماء الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب، فاستجابت له وصادرته، وسنذكر رأينا في خصوص ما ذكره حول خطأ الكتّاب، في بحوثنا الآتية.

٢٠٢

الكتّاب في المصحف»: «وقد سئلت عائشة عن اللحن الوارد في قوله تعالى:( إنّ هذان لساحران ) وقوله عزّ من قائل:( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) وقوله جلّ وعزّ:( إنّ الذّين آمنوا والّذين هادوا والصابئون ) . قالت: هذا من عمل الكتّاب، أخطأوا في الكتاب.

وقد ورد هذا الحديث بمعناه بإسناد صحيح على شرط الشيخين.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي خلف - مولى بني جمع - أنّه دخل على عائشة فقال: جئت أسألك عن آية في كتاب الله تعالى كيف يقرؤها رسول الله؟ قالت: أيّة آية؟ قال: الّذين يأتون ما أتوا. أو: الّذين يؤتون ما آتوا! قالت: أيّهما أحبّ إليك؟ قال: والذي نفسي بيده، لإحداهما أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً. قالت: أيّتهما؟ قال: الّذين يأتون ما أتوا. فقالت: أشهد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كذاك كان يقرأها وكذلك انزلت، ولكنّ الهجاء حرّف.

وعن سعيد بن جبير، قال: في القرآن أربعة أحرف لحن: والصّابئون. والمقيمين. فاصّدّق وأكن من الصالحين. إنّ هذان لساحران.

وقد سئل أبان بن عثمان كيف صارت:( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) ما بين يديها وما خلفها رفع وهي نصب؟ قال:من قبل الكاتب، كتب ما قبلها ثمّ سأل المملي: ما أكتب؟ قال: أكتب المقيمين الصلاة، فكتب ما قيل له لا ما يجب عربّيةً ويتعيّن قراءةً.

وعن ابن عبّاس في قول تعالى:( حتى تستأنسوا وتسلّموا ) قال: إنّما هي خطأ من الكاتب، حتى تستأذنوا وتسلّموا.

وقرأ أيضاً: أفلم يتبيّن الّذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس

٢٠٣

جميعاً. فقيل له: إنّها في المصحف:( أفلم ييأس ) ؟ فقال: أظنّ أن الكاتب قد كتبها وهو ناعس.

وقرأ أيضاً: ووصّى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وكان يقول: إنّ الواو قد التزقت بالصاد.

وعن الضحّاك: إنّما هي: ووصّى ربّك، وكذلك كانت تقرأ وتكتب، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد، ثمّ قرأ:( ولقد وصّينا الّذين اوتوا الكتاب من قبلكم وإيّاكم أن اتّقوا الله ) .( ووصّينا الإنسان بوالديه ) . وقال: لو كانت «قضى» من الربّ لم يستطع أحد ردّ قضاء الربّ تعالى. ولكنّها وصيّة أوصى بها عباده.

وقرأ ابن عبّاس أيضاً: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء. ويقول: خذوا الواو من هنا واجعلوها ها هنا عند قوله تعالى:( الّذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) يريد بذلك أن تقرأ: والّذين قال لهم الناس.

وقرأ أيضاً: مثل نور المؤمن كمشكاة، وكان يقول: هي خطأ من الكتاب، هو تعالى أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة.

وذكر ابن أشتة بأنّ جميع ما كتب خطأ يجب أن يقرأ على صحّته لغةً لا على رسمه، وذلك كما في «لا أوضعوا، لا أذبحنّه» بزياده ألف في وسط الكلمة. فلو قرء ذلك بظاهر الخطّ لكان لحناً شنيعاً يقلب معنى الكلام ويخلّ بنظامه، يقول الله تعال:( إنّا نحن الذكر وإنّا له لحافظون ) .

ومعنى حفظ القرآن: إبقاء شريعته وأحكامه إلى يوم القيامة وإعجازه أبد الدهر، بحيث يظلّ المثل الأعلى للبلاغة والرصانة والعذوبة، سهل النطق على اللسان، جميل الوقع في الآذان، يملك قلب القارئ ولبّ

٢٠٤

السامع.

وليس ما قدّمنا من لحن الكتّاب في المصحف بضائره أو بمشكّك في حفظ الله تعالى له، بل إنّ ما قاله ابن عبّاس وعائشة وغيرهما من فضلاء الصحابة وأجلاّء التابعين أدعى لحفظه وعدم تغييره وتبديله. وممّا لا شك فيه أنّ كتّاب المصحف من البشر، يجوز عليهم ما يجوز على سائرهم من السهو والغفلة والنسيان. والعصمة لله وحده، ومثل لحن الكتّاب كلحن المطابع، فلو أنّ إحدى المطابع طبعت مصحفاً به بعض الخطأ - وكثيراً ما يقع هذا - وسار على ذلك بعض قرّاء هذا المصحف، لم يكن ذلك متعارضاً مع حفظ الله تعالى له وإعلائه لشأنه»(1) .

قال: «وإنّما الذي يستسيغه العقل ويؤيّده الدليل والبرهان أنّه إذا تعلّم فرد الكتابة في امّة اميّة، فإنّ تعلّمه لها يكون محدوداً ويكون عرضة للخطأ في وضع الرسم والكلمات، ولا يصحّ والحال كما قدّمنا أن يؤخذ رسمه هذا انموذجاً تسير عليه الامم التي ابتعدت عن الاميّة بمراحل، وأن نوجب عليها أخذه على علاّته وفهمه على ما فيه من تناقض ظاهر وتنافر بيّن، وذلك بدرجة أنّ العلماء الّذين تخصّصوا في رسم المصحف لم يستطيعوا أن يعلّلوا هذا التباين إلاّ بالتجائهم إلى تعليلات شاذة عقيمة»(2) .

هذا ومن المناسب أن ننقل في المقام ما ذكره الحجّة شرف الدين بهذا الصدد، فقد قال ما نصه:

«وما أدري - والله - ما يقولون فيما نقله عنهم في هذا الباب

__________________

(1) الفرقان: 41 - 46 ملخصاً.

(2) الفرقان: 58.

٢٠٥

غير واحد من سلفهم الأعلام كالإمام أبي محمد بن حزم، إذ نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري في ص 207 من الجزء الرابع من (الفصل) أنّه كان ويقول:

إنّ القرآن المعجز إنّما هو الذّي لم يفارق الله عزّ وجلّ قطّ، ولم يزل غير مخلوق ولا سمعناه قطّ ولا سمعه جبرائيل ولا محمدعليهما‌السلام قطّ، وإلى آخر ما نقله عن الإمام الأشعري وأصحابه - وهم جميع أهل السنّة - حتى قال في ص 211 ما هذا لفظة:

«وقالوا كلّهم: إنّ القرآن لم ينزل به قطّ جبرائيل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، وإنّما نزل عليه شيء آخر هو العبارة عن كلام الله، وإنّ القرآن ليس عندنا ألبتّة إلاّ على هذا المجاز، وإنّ الذي نرى في المصاحف ونسمع من القرآن ونقرأ في الصلاة ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن ألبتّة، ولا شيء منه كلام الله ألبتة بل شيء آخر، وإنّ كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله عزّ وجلّ».

ثمّ استرسل في كلامة عن الأشاعرة حتى قال في ص 210: «ولقد أخبرني علي بن حمزة المرادي الصقلي: أنّه رأى بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله، قال: فأكبرت ذلك وقلت له: ويحك! هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى؟! فقال لي: ويلك! والله ما فيه إلاّ السخام والسواد، وأمّا كلام الله فلا».

قال ابن حزم: «وكتب إليّ أبو المرحي بن رزوار المصري: أنّ بعض ثقات أهل مصر من طلاّب السنن أخبره: أنّ رجلاً من الأشعرية قال له مشافهة: على من يقول: إنّ الله قال: قل هو الله أحد الله الصمد، ألف لعنة» إلى آخر ما نقله عنهم، فراجعه من ص 204 إلى ص 226 من

٢٠٦

الجزء الرابع من (الفصل) ...»(1) .

طائفة يروون ويردّون أو يؤوّلون

وهم الّذين لم يأخذوا بما دلّت عليه تلك الأحاديث ولم يتّبعوا الصحابة فيما تحكيه عنهم تلك الآثار، وهم بين رادّ عليها الردّ القاطع، وبين مؤوّل لها على بعض الوجوه وقد انصبّت كلمات الردّ والنقد - في الأغلب - على الآثار المحكيّة - التي ذكرنا بعضها في الفصل الأول تحت عنوان «كلمات الصحابة والتابعين في وقوع الحذف والتغيير والخطأ في القرآن المبين» - بالطعن في الراوي أو الرواية أو الصحابي على تفاوت فيما بينها في المرونة والخشونة ...

ردّ أحاديث الخطأ في القرآن

قال الطبري بعد ذكر مختاره: «وإنّما اخترنا هذا على غيره لأنّه قد ذكر أنّ ذلك في قراءة اُبيّ بن كعب (والمقيمين) وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا، فلو كانذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كلّ المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا، وفي اتّفاق مصحفنا ومصحف اُبيّ ما يدلّ على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أنّ ذلك لو كان خطأ من جهة الخطّ لم يكن الّذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلّمون من علّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن، ولأصلحوه بالسنتهم ولقّنوه للامّة تعليماً على

__________________

(1) أجوبة مسائل جار الله: 36.

٢٠٧

وجه الصواب، وفي نقل المسلمين جميعاً ذلك - قراءة على ماهو به في الخطّ مرسوماً - أدلّ دليل على صحّة ذلك وصوابه، وأن لا صنع في ذلك للكاتب»(1) .

وقال الداني: «فإن قال قائل: فما تقول في الخبر الذي رويتمره عن يحيى ابن يعمر وعكرمة مولى ابن عبّاس عن عثمان أنّ المصاحف لمّا نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: أتركوها فإنّ العرب ستقيمها - أو ستعربها - بلسانها. إذ ظاهره يدلّ على خطأ في الرسم.

قلت: هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجّة، ولا يصحّ به دليل من جهتين، إحداهما: أنّه - مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه - مرسل، لأنّ ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئاً، ولا رأياه، وأيضاً، فإنّ ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان، لما فيه من الطعن عليه، مع محلّة من الدين ومكانه من الإسلام، وشدّة اجتهاده في بذل النصيحة، واهتباله بما فيه الصلاح للأمّة. فغير متمكّن أن يقول لهم ذلك وقد جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقيار الأبرار نظراً لهم ليرتفع الإختلاف في القرآن بينهم، ثمّ يترك لهم فيه مع ذلك لحناً وخطأً يتولّى تغييره من يأتي بعده، ممّن لا شكّ أنّه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهد. هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله، ولا يحلّ لأحد أن يعتقده.

فإن قال: فما وجه ذلك عندك لو صحّ عن عثمان؟

قلت: وجهه أن يكون عثمان أراد باللحن المذكور فيه التلاوة

__________________

(1) تفسير الطبري 6: 19.

٢٠٨

دون الرسم»(1) .

وقال الزمخشري: «( والمقيمين ) نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع قد ذكره سيبويه على أمثله وشواهد، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خطّ المصحف، وربّما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الإختصاص من الإفتنان، وغبّي عليه أنّ السابقين الأوّلين الّذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم ...»(2) .

وقال الرازي: «وأمّا قوله:( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) ففيه أقوال؛ الأول: روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها. واعلم: أنّ هذا بعيد، لأنّ هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟!»(3) .

وقال الزمخشري في الآية( ... حتى تستأنسوا ... ) بعد نقل الرواية عن ابن عبّاس فيها: «ولا يعول على هذه الرواية»(4) .

وقال الرازي فيها: «واعلم أنّ هذا القول من ابن عبّاس فيه نظر، لأنّه يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر، ويقتضي صحّة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر، وفتح هذين البابين يطرق الشكّ في كل

__________________

(1) تاريخ القرآن - لمحمد طاهر الكردي - ص 65 عن المقنع.

(2) الكشّاف 1: 582.

(3) التفسير الكبير 11: 105 - 106.

(4) الكشاف 3: 59.

٢٠٩

القرآن، وأنّه باطل»(1) .

وقال النيسابوري: «روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها، ولا يخفى ركاكة هذا القول، لأنّ هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟!»(2) .

وقال ابن كثير في( ... حتى تستأنسوا ... ) بعد نقل قول ابن عبّاس: «وهذا غريب جدّاً عن ابن عبّاس»(3) .

وقال الخازن في( ... والمقيمين ... ) : «اختلف العلماء في وجه نصبه، فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان: أنّه غلط من الكتّاب، ينبغي أن تكتب: والمقيمون الصلاة. وقال عثمان بن عفّان: إنّ في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتهم، فقيل له: أفلا تغيّره؟! فقال: دعوه، فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحّرم حلالاً. وذهب عامّة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنّه لفظ صحيح ليس فيه خطأ من كاتب ولا غيره.

واجيب عمّا روي عن عثمان بن عفّان وعن عائشة وأبان بن عثمان: بأنّ هذا بعيداً جدّاً، لأنّ الّذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة والقدوة على ذلك، فكيف يتركون في كتاب الله لحناً يصلحه غيرهم، فلا ينبغي أن ينسب هذا لهم، قال ابن الأنباري: ما روي عن عثمان لا يصحّ لأنّه غير متصل، ومحال أن يؤخّر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره. وقال الزمخشري في الكشّاف: ولا يلتفت إلى ما

__________________

(1) التفسير الكبير 23: 196.

(2) تفسير النيسابوري 6 | 23 هامش الطبري.

(3) تفسير ابن كثير 3: 280.

٢١٠

زعموا ...»(1) .

وقال في( ... حتى تستأنسوا ... ) «وكان ابن عبّاس يقرأ: حتى تستأذنوا. ويقول: تستأنسوا خطأ من الكاتب، وفي هذه الرواية نظر لأنّ القرآن ثبت بالتواتر»(2) .

وقال الرازي في الآية( إن هذان لساحران ) :

«القرءة المشهورة إنّ هذان لساحران. ومنهم من ترك هذه القراءة، وذكروا وجوهاً اخر [ فذكرها ووصفها بالشذوذ، ثمّ قال: ] واعلم أنّ المحقّقين قالوا: هذا القراءات ال يجوز تصحيحها، لأنّها منقولة بطريق الآحاد والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر، إذ لو جوّزنا إثبات زيادة في القرآن بطرق الآحاد لما أمكننا القطع بأنّ هذا الذي هو عندنا كل القرآن، لأنّه لمّا جاز في هذه القراءات أنّه مع كونها من القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك، فثبت أنّ تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن، وذلك يخرج القرآن عن كونه حجّة، ولمّا كان ذلك باطلاً فكذلك ما أدّى إليه، وأمّا الطعن في القراءة المشهورة فهو أسوأ ممّا تقدّم من وجوه:

أحدها: أنّها لمّا كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن، وذلك يفضي إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كلّ القرآن، وأنّه باطل، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة.

وثانيها: أنّ المسلمين أجمعوا على أنّ ما بين الدفّتين كلام الله

__________________

(1) تفسير الخازن 1: 422.

(2) تفسير الخازن 3: 323.

٢١١

تعالى، وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً، فثبت فساد ما ينقل عن عثمان وعائشة أن فيه لحناً وغلطاً.

وثالثها: قال ابن الأنباري: إنّ الصحابة هم الأئمة والقدوة، فلو وجدوا في المصحف لحناً لما فوّضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم، مع تحذيرهم من الإبتداع وترغيبهم في الإتّباع ..»(1) .

وقال أبو حيّان الأندلسي في( ... والمقيمين ... ) بعدما ذكر عن عائشة وأبان بن عثمان فيها: «ولا يصحّ عنهما ذلك، لأنّهما عربيّان فصيحان»(2) .

وقال القنوجي: «وعن عائشة أنّها سئلت عن( المقيمين ) وعن قوله( إنّ هذان لساحران ) و( الصابئون ) في المائدة، قالت: يا ابن أخي، الكتّاب أخطأوا.

وروي عن عثمان بن عفّان أنّه فرغ عن المصحف واتي به قال: أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تغيّره؟! فقال: دعوه، فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً.

قال ابن الأنباري: وما روي عن عثمان لا يصحّ، لأنّه غير متّصل، ومحال أن يؤخّر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره، ولأنّ القرآن منقول بالتواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟!

وقال الزمخشري في الكشّاف: ولا يلتفت ...»(3) .

__________________

(1) التفسير الكبير 22: 74.

(2) البحر المحيط 3: 394.

(3) فتح البيان 6: 407 - 408.

٢١٢

وقال في( إنّ هذان لساحران ) : «فهذه أقوال تتضمّن توجيه هذه القراءة بوجه تصحّ به وتخرج به عن الخطأ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنّه غلط من الكاتب للمصحف»(1) .

وقال الآلوسي في( والمقيمين ) : «ولا يلتفت إلى من زعم أنّ هذا من لحن القرآن وأنّ الصواب (والمقيمون) بالواو كما في مصحف عبدالله وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي، إذ لا كلام في نقل النظم متواتراً فلا يجوز اللحن فيه أصلاً. وأمّا ما روي أنّه لمّا فرغ من المصحف أتي به إلى عثمان فقال: قد أحسنتم وأجملتم فقد قال السخاوي: إنّه ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع، فإنّ عثمان جعل للناس إماماً يقتدون به، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، وقد كتب عدّة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلاً إلاّ فيما هو من وجوه القراءات. وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع - وهم هم - كيف يقيمه غيرهم؟!»(2) .

أقول: فهذه كلمات في ردّ هذه الأحاديث، ويلاحظ أنّ بعضهم يكتفي «بالاستبعاد»، وآخر يقول: «فيه نظر»، وثالث يقول: «لا يخفى ركاكة هذا القول»، ورابع يقول: «لا يلتفت ...»، وخامس يقول: «غريب»

ومنهم من يتجرّأ على التضعيف بصراحة فيقول: «لا يصحّ» وفي( الإتقان ) عن ابن الانباري أنّه جنح إلى تضعيف هذه الروايات(3)

__________________

(1) فتح البيان 6: 49.

(2) روح المعاني 6: 13 - 14.

(3) الإتقان 2: 329.

٢١٣

وعليه الباقلاني في «نكت الإنتصار»(1) وجماعة.

لكنّ بعضهم يستدلّ ويبرهن على بطلان هذه الأحاديث، لأنّ القول بها يفضي إلى القدح في تواتر القرآن، والطعن في الصحابة وخاصة في جامعي المصحف وعلى رأسهم عثمان، فهذه الأحاديث باطلة لاستلزامها للباطل

وجماعة ذهبوا إلى أبعد من كل هذا، وقالوا بوضع هذه الأحاديث واختلاقها، من قبل أعداء الإسلام

فيقول الحكيم الترمذي(2) : «... ما أرى مثل هذه الروايات إلاّ من كيد الزنادقة ...»(3) .

ويقول أبو حيّان الأندلسي: «ومن روى عن ابن عبّاس أنّ قوله:( حتى تستأنسوا ) خطأ أو وهم من الكاتب، وأنّه قرأ حتى (تستأذنوا) فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين، وابن عبّاس بريء من هذا القول»(4) .

وهكذا عالج بعض العلماء والكتّاب المتأخّرين والمعاصرين هذه الأحاديث، فنرى صاحب «المنار» يقول:

«وقد تجرّأ بعض أعداء الإسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن، وعدّ رفع «الصابئين» هنا من هذا الغلط. وهذا جمع بين السخف والجهل، وإنّما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من

__________________

(1) نكت الانتصار: 127.

(2) وهو الحافظ أبو عبدالله محمد بن علي، صاحب التصانيف، من أئمّة علم الحديث، له ترجمة في تذكرة الحفّاظ 2: 645 وغيرها.

(3) نوادر الاصول: 386.

(4) البحر المحيط 6: 445.

٢١٤

قواعد النحو، مع جهل أو تجاهل أنّ النحو استنبط من اللغة ولم تستنبط اللغة منه ...»(1) .

ويقول: «وقد عدّ مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في أصحّ كلام وأبلغه، وقيل: إنّ (المقيمين) معطوف على المجرور قبله وما ذكرناه أولاً أبلغ عبارة وإن عدّة الجاهل غلطاً ولحناً. وروي أنّ الكلمة في مصحف عبدالله بن مسعود مرفوعة، فإن صحّ ذلك عنه وعمّن قرأها مرفوعة كمالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي كانت قراءةً، وإلاّ فهي كالعدم.

وروي عن عثمان أنّه قال: إنّ في كتابة المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها، وقد ضعّف السخاوي هذه الرواية وفي سندها اضطراب وانقطاع. فالصواب أنّها موضوعة، ولو صحّت لما صحّ أن يعدّ ما هنا من ذلك اللحن، لأنّه فصيح بليغ ...»(2) .

وهو رأي الرافعي ومحمد أبو زهرة، فقد وصف محمد أبو زهرة هذه الأحاديث المنافية لتواتر القرآن بـ: «الروايات الغريبة البعيدة عن معنى تواتر القرآن الكريم، التي احتوتها بطون بعض الكتب كالبرهان للزركشي والإتقان للسيوطي، التي تجمع كما يجمع حاطب ليل، يجمع الحطب والأفاعي، مع أنّ القرآن كالبناء الشامخ الأملس الذي لا يعلق به غبار».

ثمّ استشهد بكلام الرافعي القائل: «... ونحسب أنّ أكثر هذا ممّا افترته الملحدة» وقال: «وإنّ ذلك الذي ذكره هذا الكاتب

____________

(1) المنار 6: 478.

(2) المنار 6: 64.

٢١٥

الإسلامي الكبير حقّ لا ريب فيه»(1) .

تأويل أحاديث الخطأ في القرآن

فهذا موقف هؤلاء من هذا القسم من الأحاديث والآثار، وعليه آخرون ممن لم نذكر كلماتهم هنا اكتفاءً بمن ذكرناه

وقد اغتاظ من هذا الموقف جماعة واستنكر بشدّة ومن أشهرهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، الذي تحامل على الزمخشري ومن كان على رأية قائلاً بعد الحديث عن ابن عبّاس «كتبها وهو ناعس»: «وأمّا ما أسنده الطبري عن ابن عبّاس فقد اشتدّ إنكار جماعة ممّن لا علم له بالرجال صحّته، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته - إلى أن قال - وهي والله فرية بلا مرية، وتبعه جماعة بعده، والله المستعان.

وقد جاء عن ابن عبّاس نحو ذلك في قوله تعالى:( وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه ) أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيّد عنه.

وهذه الأشياء - وإن كان غيرها المعتد - لكن تكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق»(2) .

لكنّ العجب من ابن حجر لماذا أحال التأويل اللائق إلى غيره وقد كان عليه أن يذكره بنفسه وهو بصدد الدفاع عن الأحاديث الصحاح؟!

نعم، نظر بعضهم في تأويله وذكرت وجوه، فقال الداني

__________________

(1) المعجزة الكبرى: 43.

(2) فتح الباري 8: 301.

٢١٦

بالنسبة إلى ما روي عن عثمان - على فرض صحّته -: «وجهه أن يكون أراد باللحن المذكور في التلاوة دون الرسم».

وأجاب ابن أشتة عن هذه الآثار كلّها بأنّ المراد: «أخطأوا في الإختيار وما هو الأولى للجمع عليه من الأحرف السبعة، لا أنّ الذي كتب خطأ خارج عن القرآن.

فمعنى قول عائشة: «حرّف الهجاء» القي إلى الكاتب هجاء غير ما كان الأولى أن يلقى إليه من الأحرف السبعة، وكذا معنى قول ابن عبّاس: «كتبها وهو ناعس» يعني: فلم: فلم يتدبّر الوجه الذي هو أولى من الآخر. وكذا سائرها»(1) .

وأتعب السيوطي نفسه في هذا المقام، فإنّه بعد أن أورد الآثار بيّن وجه الإشكال فيها وتصدّى لتأويلها ولننفل عبارته كاملة لننظر هل جاء «بما يليق»؟!

قال: «هذه الآثار مشكلة جدّاً، وكيف يظنّ بالصحابة أولاً: أنّهم يلحنون في الكلام فضلاً عن القرآن، وهم الفصحاء اللدّ؟! ثمّ كيف يظنّ بهم ثانياً: في القرآن الذي تلقّوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما انزل، وحفظوه وضبطوه واتقنوه؟! ثم كيف يظنّ بهم ثالثاً: اجتماعهم كلّهم على الخطأ وكتابته ثمّ كيف ظنّ بهم رابعاً: عدم تنبّههم ورجوعهم عنه؟!

ثمّ كيف يظنّ بعثمان: أنّه ينهى عن تغييره؟! ثمّ كيف يظنّ أنّ القراءة استمرّت على مقتضى ذلك الخطأ، وهو مروي بالتواتر خلفاً عن سلف؟! هذا ممّا يستحيل عقلاً وشرعاً وعادة.

__________________

(1) الإتقان 2: 329.

٢١٧

وقد أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أجوبة:

أحدها: أنّ ذلك لا يصحّ عن عثمان، فإنّ إسناده ضعيف مضطرب منقطع، ولأنّ عثمان جعل للناس إماماً يقتدون به، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، فإذا كان الّذين تولّوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهو الخيار فكيف يقيمه غيرهم؟! وأيضاً: فإنّه لم يكتب مصحفاً واحداً بل كتب عدّة مصاحف.

فإن قيل: إنّ اللحن إن وقع في جميعها فبعيد اتّفاقها على ذلك، أو في بعضها. فهو اعتراف بصحّة البعض، ولم يذكر أحد من الناس أنّ اللحن كا في مصحف دون مصحف، ولم تأت المصاحف قطّ مختلفة إلاّ فيما هو من وجوه القراءة، وليس ذلك باللحن.

الثاني: على تقدير صحّة الرواية، فإنّ ذلك محمول على الرمز والإشارة.

الثالث: أنّه مؤوّل على أشياء خالف لفظها رسمها وبهاذا الجواب وما قبله جزم ابن اشتة في كتاب «المصاحف».

وقال ابن الأنباري في كتاب (الردّ على من خالف مصحف عثمان) في الأحاديث المرويّة عن عثمان في ذلك: «لا تقوم بها حجّة، لأنّها منقطعة غير متّصلة، وما يشهد عقل بأنّ عثمان وهو إمام الامّة الذي هو إمام الناس في وقته وقدوتهم يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام، فيتبيّن فيه خللاً ويشاهد في خطّه زللاً فلا يصلحه، كلاّ والله ما يتوهّم عليه هذا ذو إنصاف وتمييز، ولا يعتقد أنّه أخّر الخطأ في الكتاب ليصلحه من بعده، وسبيل الجائين من بعده البناء على رسمه والوقوف عند حكمه.

ومن زعم - أنّ عثمان أراد بقوله: أرى فيه لحناً: أرى في خطّه

٢١٨

إذا أقمناه بألسنتنا كا الخطّ غير مفسد ولا محرّف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب - فقد أبطل ولم يصب، لأنّ الخطّ منبئ عن النطق، فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخّر فساداً في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتبٍ ولانطق، ومعلوم أنّه كان مواصلاً لدرس القرآن، متقناً لألفاظه، موفقاً على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي

ثم قال ابن أشتة. أنبأت محمد بن يعقوب، أنبأنا أبو داود سليمان بن الاشعث، أنبأنا أحمد بن مسعدة، أنبأنا إسماعيل، أخبرني الحارث بن عبد الرحمن، عن عبد الأعلى بن عبدالله بن عامر، قال: لمّا فرغ من المصحف اتي به

عثمان فنظر فيه فقال: أحسنتم وأجملتم، أرى شيئاً سنقيمه بألسنتنا.

فهذا الأثر لا إشكال فيه، وبه يتّضح معنى ما تقدّم، فكأنّه عرض عليه عقب الفراغ من كتابته فرأى فيه شيئاً كتب على لسان قريش، كما وقع لهم في (التابوة) و(التابوت)، فوعد بأنّه سيقيمه على لسان قريش، ثمّ وفى بذلك عند العرض والتقويم، ولم يترك فيه شيئاً. ولعلّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرّفها، ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان، فلزم منه ما لزم من الإشكال، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك. ولله الحمد.

وبعد، فهذه الأجوبة لا يصحّ منها شيء عن حديث عائشة. أمّا الجواب بالتضعيف فلأنّ إسناده صحيح كما ترى، وأمّا الجواب بالرمز وما بعده فلأنّ سؤال عروة عن الأحرف المذكورة يطابقه، فقد أجاب عنه ابن أشته - وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية - بأنّ معنى قولها «أخطأوا» أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه، لا أنّ الذي

٢١٩

كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز

وأقول: هذا الجواب إنّما يحسن لو كانت القراءة بالياء فيها والكتابة بخلافها، وأمّا والقراءة على مقتضى الرسم فلا.

وقد تكلّم أهل العربية عن هذه الأحرف ووجّهوها أحسن توجيه، أمّا قول:( إنّ هذان لساحران ) ففيه أوجه وأمّا قوله:( والمقيمين الصلاة ) ففيه أيضاً أوجه وأمّا قوله:( والصابئون ) ففيه أيضاً أوجه ...»(1) .

فهذا ما يتعلّق بـ «كلمات الصحابة والتابعين ...».

أحاديث جمع القرآن بين الردّ والتأويل

وأمّا الأحاديث التي رووها حول جمع القرآن، المتضاربة فيما بينها، والتي اعترف بعضهم كمحمد أبو زهرة بوجود روايات مدسوسة مكذوبة فيها(1) فقد يمكن الجمع بينها، ثمّ رفع التنافي بينها وبين أدلّة عدم التحريف والبناء على أنّ القرآن مجموع في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبأمرٍ منه وإليك بيان ذلك بالتفصيل:

مراحل الجمع

لقد تضاربت روايات أهل السنّة حول جمع القرآن، وعلى ضوئها اختلفت كلمات علمائهم والمتحصّل من جيمعها: أنّ الجمع للقرآن كان على مراحل ثلاث؛ الاولى: على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

(1) الاتقان 2: 320 - 326.

(2) المعجزة الكبرى: 33.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538