مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237395 / تحميل: 6099
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ما كان عليه الأسلاف(١) .

وإليك ما ورد في ذلك المجال :

١ ـ روى الكليني بسند صحيح عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن٧ : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق. قال: فقال: الإرادة من الخلق، الضمير يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه، لا غير ذلك لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر، وهذه الصفات منفيّة عنه، وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك، يقول له كن فيكون بلا لفظ، ولا نطق بلسان، ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له(٢) .

٢ ـ وروي الشيخ الطوسي عن صفوان بن يحيى قال قلت لأبي الحسن: اخبرني عن الإرادة من الله تعالى قال: « إرادته احداثه الفعل لا غير ذلك لأنّه جلّ اسمه لا يهم ولا يتفكّر »(٣) .

٣ ـ روي الكليني عن الحسن بن عبد الرحمان الحماني، عن الامام الكاظم٧ في رواية قال: « إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق »(٤) .

روى الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام الكاظم٧ قال: « فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس »(٥) .

٤ ـ روى الكليني عن يعقوب بن جعفر، عن الإمام الكاظم٧ في حديث: « ولكن كما قال الله تعالى كن فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس »(٦) .

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ١٩.

(٢) الكافي: ج ١ باب الاراده الحديث ٣، ورواه البرقي في المحاسن: ص ٢٤٤.

(٣) أمالي الطوسي: ص ٢١٤.

(٤) الكافي: ج ١ باب النهي عن الجسم والصورة الحديث ٦ ص ١٠٦.

(٥) الاحتجاج: ج ٢ ص ١٥٦.

(٦) الكافي: ج ١ باب الحركة والانتقال ص ١٢٥ الحديث ١.

٨١

والجواب: إنّ هذه الروايات وإن كانت صريحة في كون إرادته سبحانه فعله، لكنّها ليست بصدد سلب كون الإرادة صفة الذات حتّى بالمعنى المناسب لذاته عنه على الاطلاق، وانما هي بصدد أنّ الإرادة الإمكانية الموجودة في الإنسان لا تصلح لذاته سبحانه لأنّها تقترن بالتردّد والتروّي والتفكّر والهمّ والكلّ من سمات الامكان والحدوث وهو سبحانه منزّه عن ذلك.

وفرق بين نفي أصل الإرادة عن ذاته سبحانه، ولو بمعنى غير مستلزم لكون ذاته معرضاً للحوادث، والإرادة الموجودة في الإنسان والحيوان وبما أنّه كلّما أطلقت الإرادة لا يراد منها سوى المعنى المتعارف من التفكّر والهم ّوالقصد، وصرّح الإمام بنفي الإرادة بذلك المعنى عن ذاته وارجاعها فيه سبحانه إلى صفة الفعل، حتّى يصدر السائل عن حضوره بشيء مقنع وبما أنّ عقليّة بعض الرواة في ذلك العصر لا تتحمّل كثيراً من المعارف الدقيقة اقتنع الامام بتفهيم ما تتحمله عقليته، وبما أنّ قسماً من الإرادة صفة للفعل، وقسم منها صفة للذات كعلمه سبحانه، فإنّ قسماً منه صفة للفعل، وقسم منه صفة للذات، اكتفى الامام ببيان أحد القسمين دون الآخر.

وهذا أصل مطرّد في باب المعارف، فهم صلوات الله عليهم يكلّّمون الناس على قدر عقولهم ولا يكلّّفونهم بما هو خارج عن طاقة شعورهم.

هذا هو سيد الموحّدين عليّ٧ ينهي عن الغور في القدر ويقول :

« طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسر الله فلا تتكلّفوه »(١) .

ومع ذلك فهو صلوات الله عليه بحث عن القضاء والقدر ويشهد لذلك ما رواه الرضي في نفس نهج البلاغه(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة قسم الحكم الرقم ٢٨٧.

(٢) نهج البلاغة قسم الحكم الرقم ٧٨.

٨٢

والحاصل لـمّا كان المتبادر في ذهن الراوي وأمثاله من الإرادة، هو المعنى المعروف من الهم ّو التفكّر والعزم وكان جعل الإرادة من صفات الذات ـ في ذهن الراوي ـ مستلزماً لكون إرادته سبحانه مثل الإرادات الامكانية، رأى الإمام أن يعلّمه أحد القسمين من إرادته وهو الإرادة الفعلية كالعلم الفعلي، وأضرب عن القسم الآخر، ويعرب عن ذلك قوله في الروايات الثلاث الأخيرة، حيث قال :

« إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته، من غير كلام ولا تردّد في نفس ».

وهذا يعرب من أنّ الإمام بصدد صيانة الراوي عن الوقوع في الخطأ في تفسير الرواية، ولم يكن بصدد تفسير الإرادة بجميع مراتبها وأقسامها، فلو كان هناك للإرادة قسما آخر يناسب ذاته سبحانه كما أوضحناه لما كانت هذه الروايات نافية لها.

هناك وجه آخر لجعل الإرادة من صفات الفعل وهو انّ الإرادة في الإنسان لا ينفك عن المراد، فلو جعلت الإرادة فيه سبحانه من صفات الذات ربّما يستنتج الراوي منه قدم العالم، فلأجل صيانة ذهن الراوي عن الخطأ فسّرت الإرادة بالأحداث والايجاد، ويشهد على ذلك الوجه بعض الروايات :

١ ـ روى الصدوق في توحيده عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله٧ قال: « المشيئة محدثة »(١) .

٢ ـ روى الصدوق عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله٧ قال: « قلت له لم يزل الله مريداً » ؟! فقال: « إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه بل لم يزل عالماً قادراً ثم أراد »(٢) .

٣ ـ روى الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري قال: قال الرضا٧ : « المشيئة والإرادة من صفات الأفعال فمن زعم أنّ الله تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد »(٣) .

__________________

(١) و (٢) و (٣) التوحيد للصدوق: ص ٣٣٨ ـ ١٤٦ ـ ٣٣٦.

٨٣

وهذه الأحاديث تعرب من أنّ جعل الإرادة صفة الفعل إنّما هو لأجل صيانة ذهن الراوي عن توهّم قدم العالم وانّه لم يزل كان مع الله سبحانه، وإن شئت قلت: إنّ الإرادة التي سأل عنها الراوي كان يراد منها العزم على الفعل الذي لا ينفك عن المراد، فاراد الإمام هدايته إلى أنّ الإرادة بهذا المعنى لا يوصف بها سبحانه لأنها تستلزم قدم المراد أو حدوث المريد، ولأجل أن يتلقّى الراوي معنى صحيحاً للإرادة يناسب مستوى تفكيره، فسّرها الامام بالمعنى الذي يجري عليه سبحانه في مقام الفعل، وقال في جواب سؤال السائل :

« لم يزل الله مريداً ؟: إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه، لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد »(١) .

عصر الإمام الكاظم ٧ والمذاهب الكلاميّة

كان عصر الإمام الكاظم٧ ( ت ١٢٨ ـ م ١٨٣ ) عصر إزدهار المذاهب الكلامية وكانت الأمصار وحواضرها الكبرى ميداناً لمطارحات الفرق المختلفة.

فمن سلفيّ يقتصر في توصيفه سبحانه على الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ويأخذ بمعانيها الحرفية من دون إمعان وتدبّر، ويرفع عقيرته بأنّ لله يداً ووجها وأنّه مستو ومستقرّ على عرشه وأنّ له رجلاً و

إلى معتزلي يجعل للعقل قسطاً أوفر في مجال العقائد والمعارف ويتجاوز حدّه فيؤوّل الكتاب والسنّة فيما لا يوافق معتقده وعقليّته.

إلى مرجئيّ يكتفي في الإيمان بالقول ويقدّمه ويؤخّر العمل، ولا يحكم على

__________________

(١) الكافي: ج ١ ص ١٠٩، باب الارادة.

٨٤

مرتكب الكبيرة بعقوبة.

إلى مُحكِّم يكفّر كلّ الطوائف الاسلامية غير أهل نحلته الذين يبغضون الخليفتين عثمان وعليّاً ويكفّرون الصدّيق الاعظم عليّاً٧ .

إلى غير ذلك من المذاهب الإسلاميّة التي ظهرت في القرن الثاني.

ويعرب عن تشتت الفرق وتكثّرها ما رواه الكشّي عن محمد بن عيسى العبيدي، عن يونس، عن هشام، أنّه لـمّا كان أيّام المهدي، شدّد على أصحاب الهوى، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً، ثمّ قرأ الكتاب على الناس، فقال يونس :

قد سمعت الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة واُخرى بمدينة الوضّاح(١) .

ولم يكن الخلاف مقتصراً على معتقدات الطوائف الماضية بل كان عصر الإمام يتّسم بموجات رهيبة من النزعات الشعوبية والاتجاهات التي لاتمت إلى الاسلام بصلة، ولأجل ذلك يجب إمعان النظر في الروايات الواردة عن الكاظم٧ وغيره مع ملاحظة الظروف السائدة عليه، فإذا كان هذا عصر الإمام والأئمّة بعده فلابدّ أن تكون رواياتهم متضمّنة ردّ أصحاب الأهواء ودعاة الضلال، وأكثر ما ورد في المقام عن الإمامين الكاظم والرضا٨ حول الإرادة وأنّها صفة فعله سبحانه لا ذاته إنّما ورد في تلك الظروف المحرجة.

الإشكال الثالث: الإرادة يتوارد عليها النفي والاثبات

كيف نعد الإرادة من صفات الذات ؟ مع أنّ الملاك الذي ذكره الكليني لا ينطبق

__________________

(١) رجال الكشي: ترجمة هشام بن الحكم رقم ١٣١ ص ٢٢٧، ولعلّ هذا الكتاب أوّل ما اُلّف في المذاهب الاسلامية.

٨٥

عليه بل ينطبق على كونها من صفات الفعل وحاصله :

إنّ كلّ وصف يقع في إطار النفي والاثبات فهو من صفات الفعل مثل قولنا: يعطي ولا يعطى، وما لا يقع في إطارهما، بل يكون اُحادية التعلّق من صفات الذات فيقال « يعلم » ولا يقال « لا يعلم ».

وعلى ضوء هذا تكون الإرادة من صفات الفعل لأنّها ممّا يتوارد عليه النفي والاثبات. يقول سبحانه:( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ( البقرة / ١٨٥ ).

والجواب على هذا السؤال بوجهين :

أحدهما: إنّ الإرادة التي يتوارد عليها النفي والاثبات هي الإرادة في مقام الفعل، وأمّا الإرادة في مقام الذات التي فسّرناها بكمال الإرادة وهو الاختيار، فلا تقع في إطار النفي والاثبات.

وثانيهما: ما أجاب به صدر المتألّهين قائلاً بأنّ لله سبحانه إرادة بسيطة مجهولة الكنه وأنّ الذي يتوارد عليه النفي والإثبات، الإرادة العددية الجزئية المتحقّقة في مقام الفعل، وأمّا أصل الإرادة البسيطة، وكونه سبحانه فاعلاً عن إرادة لا عن اضطرار وايجاب، فلا يجوز سلبه عن الله سبحانه، وإنّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الإرادة البسيطة في مقام الذات التي لا تتعدّد ولا تتثنّى، وبين الإرادة العددية المتحقّقة في مقام الفعل التي تتعدّد وتتثنّى ويرد عليها النفي والاثبات.

قال: « الفرق بين الإرادة التفصيلية العددية التي يقع تعلّقها بجزئي من اعداد طبيعية واحدة أو بكلّ واحد من طرفي المقدور، كما في القادرين من الحيوانات، وبين الإرادة، البسيطة الحقّة الإلهية التي يكلّ عن ادراكها عقول أكثر الحكماء فضلاً عن غيرهم »(١) .

__________________

(١) الاسفار: ج ٦ ص ٣٢٤.

٨٦

الإشكال الرابع: لو كانت الإرادة صفة للذات، لزم قدم العالم

هذا هو الإشكال الرابع في طريق جعل الإرادة من صفات الذات وحاصله: إنّ صفات الذات متّحدة معها، فلو كانت الإرادة صفة للذات، يلزم قدم العالم لأنّ الإرادة لا تنفك عن مرادها فقدم الذات يلازم قدم الإرادة وهو يلازم قدم المعلول وهو العالم.

يلاحظ عليهأوّلاً: انّ الإشكال لا يختصّ بمن جعل الإرادة بمعناها الحقيقي وصفاً لذاته سبحانه، بل الإشكال يتوجه أيضاً على من فسّر إرادته بالعلم بالأصلح، لاستناد وجود الأشياء إلى العلم بالنظام الأتم الذي هو عين ذاته، واستحالة انفكاك المعلوم عن العلّة أمر بيّن من غير فرق بين تسمية هذا العلم إرادة أو غيرها، فلو كان النظام الأصلح معلولاً لعلمه، والمفروض انّ علمه قديم، لزم قدم النظام لقدم علّته.

وثانياً: إذا قلنا بأنّ إرادته سبحانه عبارة عن كونه مختاراً غير ملزم بواحد من الطرفين، لا يلزم عندئذ قدم العالم إذا اختار ايجاد العالم متأخّراً عن ذاته.

وثالثاً: إنّ لصدر المتألّهين ومن حذا حذوه في الاعتقاد بالإرادة الذاتية البسيطة المجهولة الكنه، أن يجيب بأنّ جهلنا بحقيقة هذه الإرادة وكيفيّة إعمالها، يصدّنا عن البحث عن كيفيّة صدور فعله عنه، وأنّه لماذا خلق العالم حادثاً ولم يخلقه قديماً ؟

وها هنا نكتة نعلّقها على هذا البحث بعد التنبيه على أمر وهو: انّ الزمان كمّ متّصل ينتزع من حركة الشيء وتغيّره من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن صورة نوعية إلى اُخرى، فمقدار الحركة عبارة عن الزمان، فلولا المادة وحركتها لما كان للزمان مفهوم حقيقي، بل كان له مفهوم وهمي. هذا ما أثبتته الأبحاث العميقة في الزمان والحركة، وقد كان القدماء يزعمون: إنّ الزمان يتولد من حركة

٨٧

الافلاك والنيّرين وغيرهما من الكواكب السيارة، ولكن الحقيقة أنّ كلّ حركة حليفة الزمان وراسِمته ومولدته، وإنّ التبدّلات عنصريّة كانت أو أثيرية، مشتملة على أمرين :

الأوّل: حالة الانتقال من المبدأ إلى المنتهى، سواء كان الانتقال في الوصف، أو في الذات.

الثاني: كون ذلك الإنتقال على وجه التدريج والسيلان لا على نحو دفعي.

فباعتبار الأمر الأوّل توصف بالحركة، وباعتبار الأمر الثاني توصف بالزمان، فكأن شيئاً واحداً باسم التغير والتبدل والانتقال، يكون مبدأ لانتزاع مفهومين منه، لكن كلّ واحد منهما باعتبار خاص، هذا من جانب.

ومن جانب آخر إنّ المادّة تتحقق على نحو التدريج والتجزئة ولا يصحّ وقوعها بنحو جمعي، لأنّ حقيقتها حقيقة سيّالة متدرّجة أشبه بسيلان الماء، فكلّ ظاهرة مادية تتحقق تلو سبب خاص، وما هذا حاله يستحيل عليه التحقق الجمعي أو تقدّم جزء منه أو تأخّره بل لا مناص عن تحقّق كلّ جزء في ظرفه وموطنه، وبهذا الاعتبار تشبه الأرقام والأعداد، فالعدد مثل « الخمسة » ليس له موطن إلّا الوقوع بين « الأربعة » و « الستة » وتقدّمه على موطنه كتأخّره عنه مستحيل، وعلى ذلك فالأسباب والمسبّبات المترتبة بنظام خاص، يستحيل عليها خروج أي جزء من أجزائها عن موطنه ومحله.

إذا عرفت هذا الأمر، نرجع إلى بيان النكتة وهي ماذا يريد القائل من قوله « لو كانت الإرادة صفة ذاتية لله سبحانه، يلزم قدم العالم ؟ » فان أراد أنّه يلزم تحقّق العالم في زمان قبله وفي فترة ماضية فهذا ساقط بحكم المطلب الأوّل، لأنّ المفروض انّه لا زمان قبل عالم المادة لما عرفت من أنّ حركة المادة ترسم الزمان وتولّده.

وإن أراد لزوم تقديم بعض أجزائه على البعض الآخر أو على مجموع العالم

٨٨

فقد عرفت استحالته فإنّ اخراج كلّ جزء عن إطاره أمر مستحيل مستلزم لانعدامه.

ما هو المراد من الحدوث الزماني للعالم ؟

اتّفق الالهيّون على أنّ العالم حادث ذاتاً بمعنى أنّه مسبوق بعدم حقيقي وانّه لم يكن فكان والفاعل المتخلّل في قولنا: « لم يكن فكان » هو الفاصل بين الواجب والممكن نظير الفصل بين حركة اليد وحركة المفتاح، فالحركتان واقعتان في زمان واحد غير أنّ الثانية متأخّرة عن الاُولى رتبة لأنّها ناشئة من الاُولى، وحركة اليد نابعة من ذاتها، وحركة المفتاح ناشئة من حركتها، فهي في طول الحركة الاُولى.

نعم هنا فرق بين المثال والممثّل له، فالعلّة والمعلول في المثال زمانيان دون الممثّل له فالعلّة هنا منزّهة عن الزمان والزماني وهذا مما لا شبهة فيه، إنّما الكلام في اثبات حدوث آخر للعالم وهو الحدوث الزماني.

إنّ المتشرّعة تثبت للعالم وراء الحدوث الذاتي حدوثاً زمانياً بمعنى كونه مسبوقاً بعدم زماني واقعي مثلا كما أنّ حوادث اليوم مسبوقة بالعدم الزماني حيث إنها لم تكن قبل ذلك اليوم ثم حدث، فهكذا العالم لم يكن في وقت ثم حدث. وهذه المسألة ممّا تصرّ عليها المتشرّعة حتى انّ الشيخ الأعظم الأنصاري في الفرائد عند البحث عن حجّية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة يقول: « أجمعت الشرايع السماويّة على انّ العالم حادث زماناً(١) .

ولكن تصوير الحدوث الزماني لكلّ جزء من أجزاء العالم بالنسبة إلى الزمان المتقدّم عليه أمر سهل يصدّقه البرهان والحسّ ف‍ « زيد » المتولّد في هذا اليوم، مسبوق بعدم زماني يوم أمس.

__________________

(١) الفرائد، رسالة حجّية القطع.

٨٩

إنّما الكلام في اثبات الحدوث الزماني لمجموع العالم إذا أخذ صفقة واحدة ولوحظ شيئاً واحداً، فإنّ اثبات الحدوث الزماني أمر لا يخلو من خفاء وذلك ببيانين :

١ ـ إنّ الزمان مقدار الحركة، وكلّ حركه تعانق زماناً ما يعدّ مقداراً لها، وليس في العالم زمان واحد يتولّد من حركة الفلك أو الشمس والقمر بل كلّ حركة مولد زماناً فيكون ذلك الزمان مقداراً لها كما حقّق في محلّه، فإذا كان الزمان وليد الحركة ونتيجة سيلان المادّة إلى الغاية فكيف يمكن أن نقول بأنّه كان وقت حقيقي لم يكن العالم فيه ثمّ حدث ووجد ؟ لأنّ المفروض أنّ هذا الوقت نتيجة حركة المادة التي لم تخلق بعد، فلا يتصوّر شيء بمعنى الوقت والزمان قبل إيجاد العالم حتّى يتضمّن عدمه.

٢ ـ إنّه ينقل الكلام إلى نفس الزمان فهل هو حادث ذاتي وقديم زماناً أو لا ؟

فعلى الأوّل يجب الاعتراف بممكن حادث ذاتاً وقديم زماناً، فلو كان القول بالقدم الزماني مقبولاً فيه فليكن مقبولاً في مجموع العالم إذا لوحظ شيئاً واحداً أو في الجزء الأوّل منه. وعلى الثاني يلزم أن يكون للزمان زمان حتّى يتضمّن الزمان الثاني عدم الزمان الأوّل في حاقّه، وعندئذ إمّا يتوقّف تسلسل الزمان فيلزم كون الزمان الثاني قديماً زمانيّاً وإن لم يتوّقف يلزم التسلسل.

فلأجل هذين الوجهين يعسر التصديق بالحدوث الزماني لمجموع العالم ويكتفى بالحدوث الذاتي، ثمّ إنّ الداعي إلى ذهابهم إلى الحدوث الزماني للعالم كلّه أمران :

أ: التركيز على التوحيد، وأنّه لا قديم سواه وأنّ كلّ ما في الكون فهو حادث زماني مسبوق بعدم زماني حقيقي، فحصر القديم في الله سبحانه يصدّهم عن الاعتراف بقدم العالم زماناً والاكتفاء بالحدوث الذاتي.

٩٠

يلاحظ عليه: أنّ تنزيه الحق عن الشرك والنّد لا يتوقف على اثبات الحدوث الزماني للعالم، بل يكفي هنا القول بأنّه سبحانه قديم بالذات وإنّ غيره حادث كذلك سواء أكان له حدوث زماني أو لا، وبعبارة اُخرى التنزيه ونفي الشرك يحصل بحصر ضرورة الوجود في الله سبحانه وإنّ وجوده نابع من صميم ذاته بخلاف غيره فإنّ وجوده مستعار ومكتسب من جانبه سبحانه.

ب: ما ورد في الروايات من أنّه كان الله ولم يكن معه شيء مستظهراً بأنّ المراد من الكينونة لله سبحانه، وعدم غيره، هو كونه في وقت مقروناً بعدم كون شيء فيه.

يلاحظ عليه: انّ الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت خصوصاً ما روي عن الإمام الكاظم٧ وأبي جعفر٧ يعرب من أنّ المراد غير ذلك وأنّ ما يتبادر من هذه الجملة في الأذهان البسيطة غير مراد، ويعلم ذلك بسرد الروايات عنهم صلوات الله عليهم :

١ ـ روى الصدوق عن يعقوب بن جعفر الجعفري، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر٨ أنّه قال: إنّ الله تبارك وتعالى كان لم يزل، بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان(١) .

٢ ـ ما روي عن أبي جعفر٧ أنّه قال: إنّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره، نوراً لا ظلام فيه، وصادقاً لا كذب فيه، وعالماً لا جهل فيه، وحيّاً لا موت فيه، وكذلك هو اليوم، وكذلك لا يزال أبداً(٢) .

٣ ـ ما ذكره الإمام الرضا٧ في جواب عمران الصابئي حيث سأله الصابئي بقوله: أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق. قال الرضا٧ سألت فافهم: « أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه، بلا حدود، ولا اعراض، و

__________________

(١) مسند الامام الكاظم٧ ج ١ ص ٢٧٠ ـ نقلاً عن توحيد الصدوق ص ١٧٨.

(٢) التوحيد للصدوق ـ باب صفات الذات وصفات الفعل ـ الحديث ٥ ص ١٤١.

٩١

لا يزال كذلك(١) .

والذي يجب إمعان النظر فيه هو هذه الجمل التالية في حديث الإمام الكاظم٧ وغيره.

أ: قوله في الحديث الاول: « وهو الآن كما كان ».

ب: قوله في رواية أبي جعفر٧ : « وكذلك هو اليوم فكذلك لا يزال أبداً ».

ج: قوله في كلام الرضا٧ : « ولا يزال كذلك ».

فهذه الأحاديث تعرب من أنّ توصيفه سبحانه بالجملة التالية: « كان الله ولم يكن معه شيء » لا يختص بالآزال قبل خلق العالم بل هذا الوصف مستمر له إلى الآن حتى بعد ما خلق العالم، ومن المعلوم أنّه لو كان المراد من قوله: « كان الله ولم يكن معه شيء » أنّه كان وقت، ولم يكن في ذلك الوقت شيء من الممكنات، يجب ان يخصّص هذا الوصف بظرف خاص وهو قبل خلق العالم، وأمّا بعده فلا يمكن أن يقال: إنّه مستمر إلى زماننا هذا لفرض تكوّن أشياء وتحقّقها مع تحقّق الله سبحانه.

وهذا يعرب: أنّ المراد من أنّه سبحانه قد كان ولم يكن معه شيء مستمراً إلى زماننا هذا، هو كونه سبحانه في درجة رفيعة من الوجود ورتبة متقدّمة على معلوله فهو في كلّ ظرف وزمان، كائنٌ، وليس معه في هذه الرتبة شيء من الممكنات من غير فرق بين مرحلة خلق العالم وقبله، لأنّ العلّة لعلوّ مقامه وشموخ درجته على وجه لا يتجافى المعلول عن رتبته، حتى يكون معه، ولا شيء معه في هذا المقام مطلقاً سواء قبل خلق العالم أم بعده.

__________________

(١) التوحيد: باب ذكر مجلس الرضا (ع) ص ٤٣٠.

٩٢

والحاصل: أنّ هذه الروايات تركّز على نكتة فلسفيّة تغيب عن أذهان المتوسّطين وهو أنّه سبحانه واحد ليس معه شيء، وأنّ هذا التوحيد مستمر في جميع الأوقات والأزمان ومن المعلوم أنّ الاعتراف بهذا النوع من التوحيد والتنزيه، ونفي أن يكون شيء معه لا يتم إلّا بالاعتراف بالحدوث الذاتي للعالم، وأنّ وجوده نابع من وجوده سبحانه، فليس في ذلك المقام أثر من الإمكان من غير فرق بين قبل التجلّي وبعده، فالمعلوم أقصر من أن يصل إلى مقام العلّة ويجتمع معها.

هذا ما وصلنا إليه بعد التدبّر في الروايات.

نعم، إنّ صدر المتألّهين وتلامذة منهجه حاولوا في المقام أن يثبتوا للعالم حدوثاً زمانيّاً وراء الحدوث الذاتي، فمن أراد التبسّط فعليه المراجعة إلى كلامهم(١) ولكنّهم وإن بذلوا جهوداً كبيرة في تصوير الحدوث الزماني لكنّه لا يثبت ما ترومه المتشرّعة إذ أقصى ما يثبت بيانهم أنّ كلّ جزء من العالم مسبوق بعدم زماني بالنسبة إلى الجزء المتقدّم، وهو ليس موضع بحث ونقاش وإنّما البحث في اثبات الحدوث لجملة العالم.

ثمّ إنّ لبعض المحقّقين ممّن عاصرناه كلاماً في المقام لا يخلو من فائدة، فنأتي به برمته، قال :

« إعلم أنّ الذي يظهر لي في هذا المقام العويص، هو أن يقال: إنّ المراد من العالم ( بمعنى ما سوى الله ) إمّا يكون هو هذا العالم المشهود لنا من السماء والسماويّات والعنصر والعنصريّات، وإمّا يكون مطلق ما سوى الله ممّا يتصوّر من عالم مادي أو مجرّد، فالأوّل أعني هذا العالم المحسوس، فالحق انّه ليس على قدمه دليل، ولا في القول بحدوثه محذور بل هو حادث زماني أعني مسبوقاً بالعدم

__________________

(١) الاسفار: ج ٦ ص ٣٦٨.

٩٣

الزماني العرضي، ويكون وعاء عدمه زماناً منتزعاً من عالم قبله وهو أي العالم الذي قبله أيضاً حادث زماني مسبوق بعدمه، الواقع في عالم ثالث قبل ذاك العالم الثاني، وليس هذا شيء يخالفه العقل، بل الهيئة الجديدة ناطقة بأنّ الامر كذلك، إذ شمسنا التي تدور حولها أرضنا مع بقية الكواكب عندهم عالم من العوالم، حادث، مسبوق بعدم واقعي، قد انقضى الأكثر من عمره وما بقي منه إلّا صبابة كصبابة الاناء، وهو مع جميع توابعه مسبوق بعدم واقعي متأخّر عن عالم متألّف من شمس اُخرى مع ما حولها من كواكبها، وهكذا كلّ كوكب من الثوابت شمس وكم انقضى منها وكم لم يوجد بعد، وكم من موجود منها لم نشاهده ذلك تقدير العزيز الحكيم.

هذا بالقياس إلى حكم العقل ولم يثبت في الشرع ما يدل على خلافه بل لعل فيه ما يدل على وفاقه من أنّ قبل هذا الخلق خلق، وقبل هذا العالم عوالم إلى ثلاثين ألف، الكاشف عن كثرتها(١) وقول الحكماء بانحصار العالم المحسوس في هذا العالم من فلك الأفلاك إلى الأرض وقدم أفلاكه مادّة وصورة وأعراضاً حتى بالنسبة إلى أصل الحركة وأصل الوضع إلّا في جزئيات الحركة والوضع، قول محض لا شاهد عليه إلّا حدسيات أبطلتها الهيئة الجديدة.

والثاني أعني مطلق العوالم وجملة ما سواه، فالحق انّ حدوثه بهذا المعنى شيء لم يتّفق عليه الملّيون ولم يثبت له الحدوث بهذا المعنى في شرعنا المقدّس كيف وقد عرفت ورود ما يدل على وجود العوالم قبل عالمنا وكذا بعد خرابه، وهو الموافق مع الحكمة ويطابقه العقل الصريح ويلائم مع كونه تعالى دائم الفضل على البريّة وباسط اليدين بالعطية ولا امساك له عن الفيض، وعلى هذا فيمكن أن يكون

__________________

(١) قال أبو جعفر الباقر٧ : ولعلّك ترى أنّ الله تعالى إنّما خلق هذا العالم الواحد، وترى أنّ الله تعالى لم يخلق بشراً غيركم بلى والله لقدخلق الله تعالى الف الف عالم، وألف ألف آدم، أنت في آخر تلك العوالم واُولئك الاُمّيين. قال الحكيم السبزواري بعد نقل الحديث: والمراد من العدد الكثرة. « شرح الأسماء الحسنى : ص ٢٤٠ ».

٩٤

النزاع في حدوث العالم وقدمه لفظيّاً إلّا على قول الحكماء بقدم هذا العالم من أفلاكه وفلكياته وعناصره البسيطه حيث إنّ النزاع في قدمه وحدوثه معنوي كما لا يخفى.

وأمّا بالنسبة إلى ما سوى هذا العالم فالحكماء ينكرون أصل وجوده، ويزعمون انحصار العالم في عالمنا، ولو كان له وجود قبل عالمنا فلا محالة يكون عالمنا حادثاً بالحدوث الزماني المسبوق بالعدم الواقعي، كما أنّ الاعتراف بوجود العقول وعالم الجبروت يساوق الاعتراف بوجود الممكن القديم بالزمان كما لا يخفى(١) .

١٥ ـ تكلّمه وكلامه سبحانه

قد تعرّفت على أنّ صفة التكلّم ممّا وقع فيه الكلام وأنّه هل هو صفة فعل أو صفة ذات، وقد أثارت هذه المسألة في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ضجّة كبيرة بين المسلمين، وأوجدت محنة في التاريخ سمّيت بمحنة أحمد، وقد بالغت شيعة أحمد كإبن الجوزي في مناقبه في تحرير هذه المحنة وتحليلها فجاء بقصص وروايات لم يروها غيره وجعل منه بطلاً دينيّاً، مجاهداً من أجل عقيدته وآرائه. وعلى كلّ تقدير فنحن نبحث عنها على ضوء البرهان وهدى الكتاب والسنّة.

أجمع المسلون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً وقد شغلت هذه المسألة بال العلماء والمفكّرين في العصور المتقدّمة ووقع الجدال في موضعين :

الأوّل: ما هو المراد من هذا الوصف ؟

الثاني: هل كلامه ( القرآن ) حادث أو قديم ؟

__________________

(١) درر الفوائد: للمحقق الشيخ محمد تقي الآملي١ ج ١ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٤.

٩٥

وقبل البحث في كلا الأمرين نقدّم النصوص القرآنية التي تضافرت الآيات على توصيفه به، قال تعالى:( مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ) ( البقرة / ٢٥٣ ).

وقال تعالى:( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) ( النساء / ١٦٤ ).

وقال سبحانه:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) ( الأعراف / ١٤٣ ).

وقال تعالى:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى / ٥١ ).

وقد بيّن تعالى انّ تكليمه الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية :

١ ـ وحياً.

٢ ـ من وراء حجاب.

٣ ـ يرسل رسولاً.

فقد أشار بقوله: « إلّا وحياً » إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء كما أشار بقوله: « أو من وراء حجاب » إلى الكلام المسموع لموسى٧ في البقعة المباركة قال تعالى:( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( القصص / ٣٠ ).

وأشار بقوله سبحانه:( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) إلى الإلقاء الذي يتوسّط فيه ملك الوحي.

قال سبحانه:( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٢ ـ ١٩٤ ).

ففي الحقيقة « الموحي » هو الله سبحانه وهو تارة يوحي بلا واسطة عن طريق الالقاء في الروع، أو عن طريق التكلّم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت ولا يرى

٩٦

الموحي واُخرى بواسطة الرسول، فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّه اختلفت كلمة المتكلّمين والحكماء في حقيقة كلامه إلى نظريات :

١ ـ نظرية المعتزلة

قالت المعتزلة كلامه تعالى أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي. قال القاضي عبد الجبار :

« حقيقة الكلام: الحروف المنظومة والأصوات المقطعة وهذا كما يكون منعماً بنعمة توجد في غيره، ورازقاً برزق يوجد في غيره، فهكذا يكون متكلّما بايجاد الكلام في غيره وليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه فعلاً(١) .

والظاهر أنّ كونه سبحانه متكلّما بهذا المعنى لا خلاف فيه إنّما الكلام في حصر التكلّم في هذا المعنى. قال السيد الشريف :

« هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره بل نحن نقوله ونسمّيه كلاماً لفظياً ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ولكن نثبت أمرا وراء ذلك »(٢) .

ونزيد في الملاحظة: انّ تفسير كلامه سبحانه بايجاد الحروف والأصوات في الأشياء أو الالقاء في الروع إنّما يصحّ في ما إذا كان لكلامه سبحانه مخاطباً معيّناً كما في تكليمه الأنبياء وغيرهم كاُمّ موسى قال سبحانه :

( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) ( القصص / ٧ ).

__________________

(١) شرح الاُصول الخمسة: ص ٥٢٨، وشرح المواقف: ج ٨، ص ٤٩٥.

(٢) شرح المواقف: ج ٨ ص ٩٣.

٩٧

وقال سبحانه:( فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا إلّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا *وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ) ( مريم / ٢٤ و ٢٥ ).

وأمّا إذا لم يكن هناك مخاطب خاص لجهة الخطاب فلابد أن يكون كلامه سبحانه على وجه الاطلاق معنى آخر سنذكره فيما بعد.

٢ ـ نظريّة الحكماء

لا شك أنّ الكلام في انظار عامّة الناس هو الحروف والأصوات الصادرة من المتكلّم القائمة به، وهو يحصل من تموّج الهواء واهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج غاب الكلام عنه، ولكن الإنسان الاجتماعي يتوسّع في اطلاقه فيطلقه على الخطبة المنقولة أو الشعر المروي عن شخص، ويقول هذا كلام النبي٦ أو شعر إمرئ القيس مع أنّ كلامهما قد زالا بزوال الموجات والاهتزازات، وما هذا إلّا من باب التوسّع في الاطلاق ومشاهدة ترتّب الأثر على المرويّ والمنقول وعلى هذا يتوسّع بأزيد من هذا، فكلّ فعل من المتكلّم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه اللفظي يسمّيه كلاماً لاشتراكهما في ابراز ما يضمره المتكلّم في قرارة ذهنه من المعاني والحقائق، وبذلك تكون اللوحة الفنيّة كلاماً لرسّامها حتى انّ البناء الشامخ كلام يعرب عن نبوغ البنّاء والمعمار والمهندس، فلأجل ذلك نرى انّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بأنّه كلمة الله ألقاها إلى مريم العذراء فيقول:( يَا أهل الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) ( النساء / ١٧١ ).

وكيف لا يكون سيّدنا المسيح كلمة الله مع أنّه كاشف عن قدرته العظيمة على خلق الإنسان في الرحم من دون لقاح بين اُنثى وذكر، ولأجل ذلك عدّ وجوده آية ومعجزة.

وفي ضوء هذا البيان يظهر وجه عدّ جميع ما في الكون كلمات الله سبحانه ،

٩٨

قال :

( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) ( الكهف / ١٠٩ ).

ويقول سبحانه:( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( لقمان / ٢٧ ).

فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلامه وتخبر عمّا في المبدأ من كمال وجمال وعلم وقدرة، وبذلك يكون العالم بموجوداته الكتاب التكويني.

وقال علي٧ :

« يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفّظ، ويريد ولا يضمر، يحب ويرضى من غير رقّة، ويبغض ويغضب من غير مشقّة يقول لمن أراد كونه، « كن » فيكون، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً »(١) .

وعلى هذين المعنيين فالتكلّم من صفات فعله سبحانه لا من صفات الذات نعم، حاولت الأشاعرة أن تجعل كلامه سبحانه صفة ذاته وجاءت بنظرية معقدة غير واضحة سمّتها بالكلام النفسي، وإليك بيانها :

٣ ـ نظرية الأشاعرة

ذهبت الأشاعرة إلى كون التكلّم من صفات الذات بالقول بالكلام النفسي

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٨٤.

٩٩

القائم بذات المتكلّّم، وهذه النظرية مع اشتهارها من الشيخ أبي الحسن الأشعري لم نجدها في « الإبانة » و « اللمع » وإنّما ركّز فيهما على البحث عن المسألة الثانية، وهو كون كلامه حادثاً أو قديماً، ولكن أتباعه المتأخّرين نقلوها عنه. قال « الشهرستاني » :

« وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنّ للكلام معنى قائماً بالنفس الإنسانية وبذات المتكلّم وليس بحروف ولا أصوات وإنّما هو القول الذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده »(١) .

وقال الآمدي :

« ذهب أهل الحق من الإسلاميين إلى كون الباري تعالى متكلّما بكلام قديم أزلي نفساني أحدي الذات، ليس بحروف ولا أصوات، وهو مع ذلك مغاير للعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات »(٢) .

وقال « الايجي » بعد نقل نظرية المعتزلة :

« وهذا لا ننكره لكنّا نثبت أمراً وراء ذلك، وهو المعنى القائم بالنفس ونزعم انّه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام بل قد يدلّ عليه بالإشارة والكتابة إلى أن قال: « وهو غير العلم »(٣) .

وقد حارت العقول في فهم المقصود من الكلام النفسي، ولأجل ذلك قام رجال من الأشاعرة بتبيينه. فأوضحه « الشهرستاني » بقوله :

« العاقل إذا راجع نفسه وطالع ذهنه وجد من نفسه كلاماً وقولاً يجول في قلبه تارة إخباراً عن اُمور رآها على هيئة وجودها أو سمعها من مبتدئها إلى منتهاها على وفق ثبوتها، وتارة حديثاً مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير

__________________

(١) نهاية الاقدام: ص ٣٢٠.

(٢) غاية المرام: ص ٨٨.

(٣) المواقف: ص ٢٩٤.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ولو ذكرنا ما سرده ابن الجوزيّ من أمثال هذه الحكايات الخوارق لكانت كتاباً ضخماً!

وإنّما نقلنا بعضاً قليلاً منها لنقول: إنّ الرجل ذكرها على أنّها مسلّمات، فيما أنكر حديث ردّ الشمس، وشايعه ابن تيميه على ذلك.

نكتفي بما ذكرناه بشأن الآية المباركة، فإنّ الأحاديث التي ذكرها: ابن عبّاس وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدريّ، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو الحمراء... كلّها في أنّ الآية في الخمسة أصحاب الكساء: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليّ وفاطمه والحسن والحسينعليهم‌السلام (1) .

يحيى بن سلاّم، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي داود، عن أبي الحمراء

____________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 1: 185 و 331 و 6: 292، وصحيح مسلم 7: 130، والمعارف لابن قتيبة 448، وسنن الترمذيّ 5: 361، وتفسير الطبريّ 22: 6، وتفسير الحبريّ 298، و 300 - 307، ومشكل الآثار للطّحاويّ الحنفيّ 321، والكنى والأسماء للدولابيّ 2: 254 / 2619 و 255 / 2622، وأسباب النزول للواحديّ 239، والمعجم الكبير للطبرانيّ 1: 128، والمعجم الصغير، له 1: 135، والمستدرك على الصحيحين للحاكم الشافعيّ، وبذيله التلخيص للذهبيّ الحنبليّ 2: 416، و 3: 146 - 147، وكفاية الطالب للكنجيّ الشافعيّ 276 و 373 - 375، وتفسير ابن أبي زمنين 2: 164، والسنن الكبرى للبيهقيّ 2: 152، وتاريخ بغداد 1: 278، ومناقب الإمام عليّعليه‌السلام لابن المغازليّ الشافعي 301 - 307 / الرقم 345 - 351، وتفسير ابن كثير الحنبليّ 3: 485، وتذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي الحنفي 248، وشواهد التنزيل / الرقم 712 - 713، ومناقب الإمام عليّ لابن مردويه 301 / 4754، ومطالب السؤول لابن طلحة الشافعي 8، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكيّ 12، والرياض النضرة للمحبّ الطبري 2: 269، وذخائر العقبى له: 25، والمحرّر الوجيز لابن عطيّة 4: 384.

١٢١

قال: «رابطتُ المدينة سبعة أشهر مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا طلع الفجر جاء إلى باب عليّ وفاطمة فقال: الصلاة - ثلاثاً -« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » (1) ».

قال: الرِّجْس، يعني: الشيطان، وقال بعضهم: الرِّجس الإثم. والرجس في اللّغة: كلّ مستنكرٍ مستقذرٍ من مأكولٍ أو عملٍ أو فاحشة.(2)

قال ابن عطيّة: الرجس اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص؛ فأذهب الله جميع ذلك عن «أهل البيت». وذكر حديث أمّ سلمة(3) .

عصمة أهل البيتعليهم‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله معصوم ضرورةً، وإلا لم يصلح للنبوّة! والآية المباركة زيادة بيانٍ في عصمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يَشرِكه فيها إلاّ أهل بيته: عليّ وفاطمة والحسن والحسين؛ فهم معصومون كذلك، لا يقربهم الشيطان، ولا يقارفون إثماً، ولا يأتون بفاحشة ولا تُصيبهم النجاسات التي أصابت غيرهم، وهم مُبَرّأون من كلّ نقصٍ وعيب ومن كلّ ما ينفّر؟ فكيف نفى ابن تيميه عصمة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ؟!

____________________

(1) المسند لابن أبي شيبة (720)، وتفسير ابن أبي زمنين (2 / 164)، ومختصر تاريخ دمشق (17: 342).

(2) المسند لابن أبي شيبة (720)، وتفسير الطبري (22/6)، وتفسير ابن أبي زمنين (2 / 164).

(3) المحرّر الوجيز لابن عطيّة الأندلسيّ 4 / 384.

١٢٢

حديث الثّقلين

وحديث الثّقلين دليل آخر علي عصمة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام .

يَرِد حديث الثّقلين من طُرقٍ عدّة تنتهي بجلّة الصّحابة وأمّهات المؤمنين.

عن زيد بن أرقم قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تاركٌ فيكم الثّقلين: كتاب الله وعِترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»(1) .

وقد تكلّمنا حول حديث الثّقلين في غير هذا الموضع كلاماً وافياً، وإنّما أردنا القول: إنّ تركة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اثنان: القرآن الكريم، وعِترتُه أهل بيته. ولما كان القرآن الكريم معصوماً مُصَاناً من قبل الله تعالى؛ فكذلك عِدْلُه الثّقل الثاني: أهل البيت: فهم معصومون، وعليّعليه‌السلام منهم، فأمير المؤمنين عليّ معصوم.

وبهذا الاستدلال، وما سبقه من آية التطهير؛ فإنّ عليّاًعليه‌السلام أفضل الجميع بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم ينزل نصّ من الله تعالى. ولا جاء حديث في نسخ العصمة أو الأفضليّة.

آية المباهلة

ومن أدلّة أفضليّة وعصمة أهل بيت الرحمة وموضع الرسالة قوله تعالى:

____________________

(1) الجامع الصحيح للترمذيّ 5: 328، وكتاب الولاية لابن عُقدة: 175، والمستدرك على الصحيحين 3: 148، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: 234 ح 281، وعن زيد أيضاً، وبلفظ آخر، في: مسند أحمد 4: 367، وصحيح مسلم 16: 180 - 181، وسنن الدارميّ 2: 431، وسنن البيهقيّ 2: 148، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازلي: 236، وكنز العمّال 13: 641.

١٢٣

« تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ » (1) .

والآية في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي أخيه وعيبة علمه ونفسه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وابنته الطاهرة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وسبطَيه الحسن والحسينعليهما‌السلام .

وذلك أنّ وفد نصارى نجران حاجّوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بباطلهم، وأبَوُا الإسلام، فدعاهم إلى المباهلة، أي الملاعنة وإلى دعاء الله تعالى أن ينزل عقابه على الكاذبين، وهي سنّةٌ أمضاها الأنبياء من قبله، فنال العذاب العاجل المذنبين من أقوامهم. ورجال الدّين وأحبار النصارى يعلمون ذلك، فلمّا حان الموعد خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يباهلهم بعليٍّ؛ فكان نفس رسول الله، وببضعته الطاهرة فاطمة الزهراء، وبولديه الحسن والحسين: فلمّا رأى الوفد هذه الوجوه المقدّسة، استشعروا الهزيمة، وامتنعوا من المباهلة ورضوا بإعطاء الجزية(2) .

ومن هنا كان عليّ وفاطمة والحسن والحسين: معجزة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم

____________________

(1) آل عمران / 61.

(2) مسند أحمد 2: 300، وتفسير الطبريّ 3: 192، والجامع الصحيح للترمذيّ 5: 301، وصحيح مسلم 15: 176، وأسباب النزول للواحديّ 67، وتفسير 1: 114، وتفسير ابن العربي 1: 230، وشواهد التنزيل 1: 20 - 129 / 168 - 175، وأحكام القرآن لابن العربيّ 1: 331، والتفسير الكبير للفخر الرازيّ 2: 299، والمستدرك على الصحيحين 3: 163 / 4719، ودلائل النبوّة لابي نعيم 297، وتفسير ابن كثير 1: 370، وكفاية الطالب 142 ووافقه الذهبيّ في التلخيص، ومصابيح السّنّة للبغويّ 2: 454، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ 318 / 362، والمناقب للخوارزميّ 108، والكشّاف للزمخشريّ 1: 368، والسّنن الكبرى للبيهقيّ 7: 63.

١٢٤

المباهلة ولو قامت الحجّة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وحلّ العذاب بساحته؛ لبطلت معجزته وانتهت رسالته، فدلّ ذلك على أفضليّتهم وعصمتهم، إذ لم يختر غيرهم. وبدوام الآية في القرآن يتلوها المؤمنون، دامت أفضليّتهم وعصمتهم! ولو عَلِم الله أنّ في الأرض عباداً أكرم منهم وأفضل، لأمر نبيّه أن يباهل بهم.

تتويج أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وليّاً للمسلمين

ونختم حديثنا في أفضليّة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وعصمته بما كان من تتويج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام وليّاً وخليفةً للمسلمين بأمر الله تعالى؛ وذلك قوله عزّ وجلّ:

« يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ » (1) .

نزلت يوم الثامن عشر من ذي الحجّة سنة (10 هـ) وتسمّى حجّةَ الوداع، إذ هي آخر حجّة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يلبث بعدها طويلاً فتوفّي سنة (11 هـ). ولمّا قفلصلى‌الله‌عليه‌وآله راجعاً، وبلغ غدير خمّ أتاه جبرئيل بهذه الآية، فنادىصلى‌الله‌عليه‌وآله : الصلاة جامعة، فاجتمع الحجيج، وخطب رسول الله وبلّغ أمر الله تعالى، وأخذ بيد عليّعليه‌السلام وقال: «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه».

وقد تكلّمنا بما لا مزيد عليه حول الحادثة في غير هذا الموضع وتضمّن شعرحسّان بن ثابت في ذلك، ورُواة حديث الغدير ومصادره، كان فيهم (87)

____________________

(1) المائدة: 67.

١٢٥

صحابيّاً، ومن التابعين (62) تابعيّاً، وأمّا مصادره فتربو على (70) مصدراً.

الاستدلال بالحديث

ودلالة حديث الغدير مثل الآيات والأحاديث التي ذكرناها من حيث ظهورها في أفضلية أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وديمومتها، وعصمته. فالآية المباركة وتبليغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بما ينبغي عليهم من طاع أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام امتثالاً منهم لأمر الله تعالى؛ هو تتويجٌ لما سبق من حثّه إيّاهم في أكثر من مناسبة على وجوب ملازمة عليّعليه‌السلام ، والآية الولاية: الآية 55 من سورة المائدة، وقد مضى الكلام حولها وأنّها في أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام .

والكلام في الغدير هو نفسه في الكلام حول آية الولاية إذ لم ينزل بيان ينسخها؛ فكذلك الحال في آية التبليغ يوم الغدير، فعليّعليه‌السلام أفضل الجميع بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو لا ذلك لَمَا اختاره الله تعالى أميراً للمؤمنين وخليفةً لرسول ربّ العالمين، لم يدم على هذا الاختيار طويلاً حتّى رحل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ربّه تبارك وتعالى.

ولا يعقل أن يكون خليفة رسول الله والقائم مقامه في التبليغ بعده غير من عصمه الله سبحانه، لئلاّ يركب بالأُمّة سبيل الخطل، فعليّ معصوم والمعصوم دائم الأفضليّة.

حديث المنزلة

وحديث المنزلة من الأدلّة الساطعة في أفضليّة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام

١٢٦

الدائمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعصمته وإمامته قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي».

وظهور الحديث فيما ألمحنا إليه جليّ، ذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو سيّد الأنبياء والرُّسُل، ورسالته خاتمة الرسالات؛ فوصيّه خير الأوصياء، وهارونعليه‌السلام نبيّ معصوم؛ فمنزلة عليّعليه‌السلام بمنزلة نبيّ وإن لم يكن نبيّاً.

والحديث يرد عن: أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، وعن فاطمة ابنة عليّ عن أسماء بنت عميس، وزين العابدين عليّ بن الحسين، وجعفر بن محمّد عن أبيه وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، ومحدوج بن زيد الذّهليّ، وأبي سعيد الخدريّ، وسعد بن أبي وقّاص، وسعيد بن المسيّب، وأبي أيّوب الأنصاريّ، وجابر بن سمرة، ومجاهد، وأمّ سلمة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبي هريرة، وأنس بن مالك.

مصادر حديث المنزلة

وقد ذكرته كتب الحديث والتراجم في موارد كثيرة، نقتصر على ذكر المصادر وبعض الموارد:

مسند أبي داود (ت 204 هـ) الحديث 205.

المصنّف لعبد الرزّاق (ت 211 هـ) 2: 420 / 3579، و 3: 586 / 6159.

الطبقات الكبرى لابن سعد (ت 230 هـ) 3: 24، ومواضع أُخرى.

المصنّف لابن أبي شيبة (ت 235 هـ) الحديث 12 من فضائل عليّعليه‌السلام .

صحيح البخاريّ، كتاب فضائل أصحاب النبيّ - باب مناقب عليّ. كما

١٢٧

أخرجه في كتاب المغازي، باب غزوة تبوك.

تاريخ البخاريّ الكبير 3 / 48: 179.

صحيح مسلم (ت 261 هـ) 15: 174 - 176.

مسند أحمد؛ مسند أبي سعيد / الحديث 10879، ومواضع أخرى.

الفضائل لأحمد / الحديث 142.

تاريخ الثّقات للعجليّ (ت 261 هـ) 522 / 2106.

خصائص أميرالمؤمنين عليعليه‌السلام للنّسائي / الحديث 43 - 56، و 59 - 60 و 68.

سنن التّرمذيّ: 5، كتاب المناقب، باب مناقب عليّ 21.

مشكل الآثار للطحاويّ الحنفيّ (ت 321 هـ) 2 / 213: 1903.

مسند أبي يعلى (ت 307 هـ).

مسند سعد 2: 66 - 132، وغيره.

مسند ابن حبّان (ت 354 هـ) 15 / 369 / 6926.

المعجم الكبير للطبرانيّ (ت 360 هـ) 24 / 146 / 384.

سنن ابن ماجة (ت 275 هـ) 1: 42 حديث 115.

الكامل لابن عديّ 2 / 416 / ترجمة حرب بن شدّاد.

مناقب الإمام عليّعليه‌السلام ، لابن المغازلي الشافعي (ت 483 هـ) 34 / الحديث 51.

أنساب الأشراف للبلاذريّ 1: 346.

١٢٨

تاريخ بغداد 3: 289 / 1376.

مناقب عليّ بن أبي طالب، لابن مردويه (ت 410 هـ) 61 / 28 - 29 و 112 / 130.

حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهانيّ (ت 430 هـ) 7 / 194.

المناقب للخوارزمي الموفّق الحنفيّ (ت 568 هـ) 133 / 148.

مناقب الإمام عليعليه‌السلام لمحمّد بن سليمان الكوفيّ «القرن الرابع» 1: 561 / 418.

مختصر تاريخ دمشق 17 / 243 - 248.

تهذيب الكمال للمزّيّ السّلفيّ 35 / 263.

مسند البزّار / الحديث 1074.

حديث الطّير

وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهدي إليه طير، فدعا الله تعالى أن يأتيه بأحبّ الخلق إليه ليأكل معه، فجاء عليّعليه‌السلام فأكل معه.

وقد احتجّ به أميرالمؤمنين في جملة ما احتجّ به يوم الشورى، قال: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحدٌ قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللّهمّ ائتني بأحبّ الخلق

١٢٩

إليك وإليّ، وأشدّهم حبّاً لك وحبّاً لي، يأكل معي من هذا الطائر(1) » فأتاه فأكل معه، غيري؟ قالوا: اللّهمّ لا.

وأحبّ الخلق إلى الله بعد رسول الله هو أفضلهم من غير مراء، ولم ينقض هذا الحديث حديث فيما بعد، وإنّما ترادفت الأحاديث في ترسيخ هذا الحبّ وتلك الفضيلة الظاهرة في العصمة والإمامة حتّى تُوّج ذلك بحديث الولاية يوم غدير خمّ، فأعلن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية عليّعليه‌السلام   المتفرّعة من ولايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وألزمهم إيّاها، ودعا الله تعالى: أن ينصر من نصره، وأن يخذل من خذله!

وما من مناسبة إلاّ وصدحصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الحبّ الذي صار علامة فارقة بين المؤمن والمنافق؛ فلينظر من ناصب عليّا البغضاء: أين يكون إذا حُشرت الخلائق للحساب؟!

أبو كريب محمّد بن العلاء الكوفيّ قال حدّثنا أبو معاوية - الضرير -، عن

____________________

(1) رواه: أنس خادم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ وعبد الله بن عبّاس، وسعيد بن المسيّب. يراجع: التاريخ الكبير للبخاريّ 1: 358، والجامع الصحيح للترمذيّ 2: 299، وأنساب الأشراف للبلاذريّ 2: 378، ومسند أبي يعلى 7: 626 / 3621، والمستدرك على الصحيحين 3: 142، وكتاب الولاية لابن عقدة - حديث المناشدة، الفقرة 10، وتاريخ بغداد 3: 171 و 369 و 8: 382 و 11: 376، وموضّح أوهام الجمع والتفريق، له 2: 298، ومناقب الإمام عليّعليه‌السلام لابن المغازليّ، ذكره بطرقٍ تنيف على العشرين، وتهذيب التهذيب 1: 303، وحليه الأولياء 6: 339، والمناقب للخوارزميّ 68، ومصابيح السّنن للبغويّ 4: 173 / 4770، وتذكرة الخواصّ 44، ولسان الميزان 5: 199، ومجمع الزوائد 9: 126، وتذكرة الحفّاظ 3: 112، وذخائر العقبى 61، وكنز العمّال 13: 167 / 36507.

١٣٠

الأعمش، عن عديّ بن ثابت، عن رزّ بن حبيش، عن عليّ كرّم الله وجهه قال: والله الذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، إنّه لعهد النبيّ الأمّيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ: أنّه لا يحبّني إلاّمؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق(1) .

احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل عليّعليه‌السلام

ناظر المأمون حشداً من الفقهاء في فضل أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وكان ممّا احتجّ به: حديث الطّير.

إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل، عن حمّاد بن زيد قال: بعث إليّ يحيى ابن أكثم وإلى عدّة من أصحابي، وهو يومئذ قاضي القضاة، فقال: إنّ أمير

____________________

(1) مسند الحميديّ (ت 219 هـ) 1 / 31، والمعيار والموازنة للإسكافيّ (ت 220 هـ) / 244، المصنّف لابن أبي شيبة (ت 235 هـ) 7 / 505، ومسند أحمد 1 / 84 - 95 - 128، وفضائل الصحابة، له 948 - 961، وصحيح مسلم 2 / 64، وسنن ابن ماجة 1 / 42 / 114، والسّنّة لعمرو بن أبي عاصم 2 / 598، وأنساب الأشراف للبلاذريّ 2 / 96، وخصائص أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام للنّسائي 101 / 97، والسُّنن، له 8 / 115 - 116، والمسند لأبي يعلي الموصليّ 1 / 84 - 95 - 128، وصحيح ابن حبّان 2 / 177 / 2، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ 241 / ح 225 - 226 و 228 و 231، والعقد الفريد لابن عبد ربّه 5: 354، وعلوم الحديث للحاكم / 180، وتاريخ بغداد 14 / 426 / 7785.

وللحديث طريق آخر عن أم سلمة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال «لا يُحبّ عليّاً منافق، ولا يبغضه مؤمن».

مسند أحمد بن حنبل 1: 84، ونذكر كتاب الفضائل له 143 / 208، والمصنّف لابن أبي شيبة 7: 505، وسنن ابن ماجة 1: 114، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ 137.

١٣١

المؤمنين [ يعني المأمون ] أمرني أن أُحضر معي غداً مع الفجر أربعين رجلاً كلّهم فقيه يَفْقَه ما يُقال له ويُحسِن الجواب، فسمّوا من تظنّونه يصلح لما يطلب أميرالمؤمنين. فسمّينا له عدّة، وذكر هو عدّة، حتى اكتمل العدد الذي أراد، وأمر بالبكور في السّحر، فغدونا عليه قبل طلوع الفجر، فقال: أحببت أن أُنْبئكم أنّ أميرالمؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه والذي يدين اللهَ به.

قلنا: فليفعل أمير المؤمنين، وفّقه الله.

فقال: إنّ أمير المؤمنين يدين الله على أنّ عليّ بن أبي طالب خيرُ خلق الله بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأولى الناس بالخلافة.

قال إسحاق: فقلت: يا أميرالمؤمنين، إنّ فينا من لا يعرف ما ذكر أميرالمؤمنين في عليّ، وقد دعانا أميرالمؤمنين للمناظرة.

فقال: يا إسحاق، اختر، إن شئت سألتك أسألك، وإن شئت أن تسأل فَقُلْ. قال إسحاق: فاغتنمتها منه فقلت: بل أسألك يا أميرالمؤمنين.

قال: سل. قلتُ: من أين قال أميرالمؤمنين أنّ عليّ بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله وأحقّهم بالخلافة بعده؟

قال: يا إسحاق، خبِّرني عن الناس بِمَ يتفاضلون حتّى يقال فلانٌ أفضل من فلان؟ قلت بالأعمال الصالحة.

قال: صدقت فأخبرني عمّن فضل صاحبه على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّ المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله، أيُلحق به؟

١٣٢

فقلت: لا يلحق المفضول على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الفاضل أبداً.

قال: فانظر يا إسحاق ما رواه لك أصحابك، ومَن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك، من فضائل عليّ بن أبي طالب؛ فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر، فإن رأيت فضائل أبي بكر تشاكل فضائل عليّ، فقل إنّه أفضل منه؛ لا والله، ولكن فقس إلى فضائله ما روي لك من فضائل أبي بكر وعمر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعليّ وحده، فقل إنّهما أفضل منه؛ ولا والله، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، فإن وجدتها مثل فضائل عليّ فقل إنّهم أفضل منه؛ لا والله، ولكن قس بفضائل العشرة الذين شهد لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجنة، فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنّهم أفضل منه.

ومضى المأمون يناظره بدءاً بالسبق إلى الإسلام.

وهكذا حتّى سأله عن حديث الطّير، قال المأمون:

فهل تعرف حديث الطّير؟

قلت: نعم.

قال: فحدّثني به.

قال: فحدّثته الحديث، فقال: يا إسحاق، إنّي كنت أكلّمك وأنا أظنّك غير معاند للحقّ، فأمّا الآن فقد بان لي عنادك؛ إنّك توقن أنّ هذا الحديث صحيح؟

قلت: نعم، رواه من لا يمكنني ردّه!

قال: أفرأيت من أيقن أنّ هذا الحديث صحيح، ثمّ زعم أنّ أحداً أفضل من

١٣٣

عليّ، لا يخلو من إحدى ثلاثة: من أن تكون دعوة(1) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عنه مردودةً عليه! أو أن يقول عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحبّ إليه! أو أن يقول إن الله عزّوجلّ لم يعرف الفاضل من المفضول!! فأيّ الثلاثة أحبّ إليك أن تقول؟ فأطرقت.

ثمّ قال: يا إسحاق لا تقل منها شيئاً؛ فإنّك إن قلت منها شيئاً استنبئتك، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله.

قلت: لا أعلم، وإنّ لأبي بكر فضلاً.

قال: أجل، لو لا أنّ له فضلاً لما قيل إنّ عليّاً أفضل منه.

والمناظرة طويلة انتهت بقول الفقهاء: كلّنا نقول بقول أميرالمؤمنين أعزه الله(2) وهذه فضيلة أخرى لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ثابتة، إذ دامت مع حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى رحلته... فعليّعليه‌السلام أفضل من غيره وإلاّ لما ضمّه إلى نفسه فآخاه؛ فلقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله في المؤاخاة يضمّ الشكل إلى شكله، والنظير إلى نظيره، فاختار عليّاً أخاً دون سواه، ولو كان غيره أفضل مه لآخاه ولم يقدّم عليّاً عليه.

قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال - فيما بلغنا، ونعوذ بالله من أن نقول عليه ما لم يقل -: «تآخوا في الله أخَوَينِ أخوين» ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب فقال: «هذا أخي».. فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين الذي ليس له خطير

____________________

(1) وهي دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيه الله تعالى بأحبّ الخلق إليه ليأكل معه من الطير.

(2) العقد الفريد 5: 349 - 359.

١٣٤

ولا نظير من العباد، وعليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه أخوين(1) .

وكلامنا في المؤاخاة نظير كلامنا في آية المباهلة؛ إذ أقامه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مقام نفسه الطاهرة المقدّسة، وذلك يوم التحدّي مع نصارى نجران، وما نزل فيها من قرآن ما زال يتلى حتّى قيام الساعة؛ وآية التطهير التي يتلوها المسلمون فيذكرون في كلّ واحدة منهما: عليّاً وزوجه البتول فاطمة وابنيهما الحسن والحسينعليهم‌السلام لا يشركهم في ذلك إلاّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فأفضليّة عليّعليه‌السلام وعصمته جارية وحيّة ما زال القرآن الكريم حيّاً محفوظاً، وقد تكفّل الله تعالى بحفظه وكفى به حافظاً ووكيلاً« إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (2) .

وكلامنا فيه مثل كلامنا في حديث الثّقلين: فالقرآن الكريم قرين عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته، وهم: عليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام . وظهوره في الأفضليّة والعصمة الجارية أمرها بيّن لمن آتاه الله عقلاً وقلباً سليماً« إِنّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى‏ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ » (3) .

وكذلك: حديث المنزلة، وهو من أكثر الأحاديث من حيث احتفاء المصادر به، ممّا يُظهِر الموقعَ الخاصّ لأميرالمؤمنينعليه‌السلام .

فعليّعليه‌السلام هارون هذه الأمّة كما أنّ هارون النبيّعليه‌السلام أخو موسى النبيّعليه‌السلام ؛

____________________

(1) السيرة النبويّة، لابن هشام 2: 151.

(2) الحجر: 9.

(3) ق: 37.

١٣٥

فعليّعليه‌السلام له من حقّ الأخوّة والمنزلة الخاصّة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّعليه‌السلام أخو رسول الله في الدنيا والآخرة فأفضليّته لذلك متّصلة، لا منفصلة.

من طرق عدّة: آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين أصحابه، فآخى بين أبي بكر وعمر، وفلانٍ وفلان، فجاءه عليّرضي‌الله‌عنه فقال آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحدٍ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنت أخي في الدنيا والآخرة»(1) .

فمثلما خُلِّدَتْ عصمة عليّعليه‌السلام وأفضليّته فيما ذكرنا من نصوص قرآنيّة؛ كذلك كانت أخوّته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وذكره ابن أبي شيبة، ونصّه: «أنت أخي وصاحبي»(2) .

ونحيل القارئ الكريم إلى موضوع المؤاخاة، فقد بسطنا البحث هناك؛ وإنّما أوردناه بإيجاز ليكون واحداً من أدلّتنا على أفضليّة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام التي أنكرها ابن تيميه.

حديث رد الشمس

قال ابن تيميه: وحديث ردّ الشمس له - أيّ لعليٍّعليه‌السلام - قد ذكره طائفة: كالطحاويّ، والقاضي عياض، وغيرهما. وعدوّا ذلك من معجزات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن

____________________

(1) الجامع الصحيح، للترمذيّ 2 / 213، والاستيعاب، لابن عبد البَرّ 3 / 35، والمستدرك على الصحيحين 3 / 15 / 4288، والرياض النضرة 2 / 167.

(2) المصنّف، لابن أبي شيبة 7 / 508.

١٣٦

المحقّقون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أنّ هذا الحديث كذب موضوع. كما ذكره ابن الجوزيّ في «الموضوعات»، فرواه من عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسن عن أسماء بنت عميس قالت: - ثمّ ذكر الحديث -(1) .

قال: قال أبو الفرج - ابن الجوزيّ -: هذا الحديث موضوع بلا شكّ...(2) .

قال: وفضيل بن مرزوق ضعّفه يحيى، وقال أبو حاتم بن حبّان: يروي الموضوعات ويُخطئ على الثّقات(3) .

قال أبو الفرج: وهذا الحديث مداره على عبيد الله بن موسى عنه(4) .

قال: قال أبو الفرج: وقد روى هذا الحديث ابن شاهين:...، حدّثنا عبد الرحمان بن شريك، حدّثني أبي، عن عروة، عن عبيد الله بن قيس، قال: دخلت على فاطمة بنت عليّ فحدّثتني أنّ عليّ بن أبي طالب، - وذكر حديث رجوع الشّمس -.

قال أبو الفرج: وهذا حديثٌ باطل. أمّا حديث عبد الرحمان بن شريك؛ فقال أبو حاتم: هو واهي الحديث. قال: وأنا لا أتّهم بهذا الحديث إلاّ ابن عقدة؛

____________________

(1) منهاج السنّة النبويّة، ابن تيميه 4: 186.

(2) نفسه.

(3) نفسه.

(4) نفسه.

١٣٧

فإنّه كان رافضيّاً يحدّث بمثالب الصّحابة(1) .

قال: قال أبو الفرج: وقد رواه ابن مردويه من حديث: داود بن فراهيج، عن أبي هريرة. قال: وداود ضعيف ضعّفه شعبة. قلت: فليس في هؤلاء من يحتجّ به(2) .

قال: وأمّا الثاني: ببابل؛ فلا ريب أنّ هذا كذب، وإنشاد الحميريّ لا حجّة فيه؛ لأنّه لم يشهد ذلك(3) .

قال: وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي هريرة قال: غزا نبيٌّ من الأنبياء، فدنا من القرية حتّى صلّى العصر قريباً من ذلك، فقال للشّمس: أنت مأمورة وأنا مأمور؛ اللّهمّ احبِسها عليّ شيئاً. فحبست عليه حتّى فتح الله عليه. فإن قيل: فهذه الأمّة أفضل من بني إسرائيل، فإذا كانت ردّت ليوشع فما المانع أن تردّ لفضلاء هذه الأمة؟ فيقال: يوشع لم تردّ له الشّمس، ولكن تأخّر غروبها، طوّل له النهار... ولا مانع من طول ذلك، لو شاء الله لفعل ذلك...

قال: لكنّ يوشع كان محتاجاً إلى ذلك؛ لأنّ القتال كان محرّماً عليه بعد غروب الشّمس؛ وأمّا أمّة محمّدٍ فلا حاجة لهم إلى ذلك ولا منفعة لهم فيه، فإنّ الذي فاتته العصر إن كان مفرّطاً لم يسقط ذنبه إلاّ بالتوبة، ومع التوبة لا يحتاج إلى ردّه وإن لم يكن مفرّطاً كالنائم والناسي فلا ملام عليه في الصلاة بعد

____________________

(1) منهاج السنة 4: 186.

(2) نفسه.

(3) نفسه.

١٣٨

الغروب(1) .

(فصل) قال الرافضيّ: التاسع رجوع الشّمس له - أي لعليّعليه‌السلام - مرّتين: إحداهما في زمن النبيّ! والثانية بعده.

أما الأولى: فروى جابر وأبو سعيد - الخدريّ - أنّ رسول الله نزل عليه جبريل يوماً يناجيه من عند الله، فلمّا تغشّاه الوحي توسّد فَخِذَ أميرالمؤمنين، فلم يرفع رأسه حتّى غابت الشّمس، فصلّى عليّ العصر بالإيماء، فلمّا استيقظ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال له: سل الله تعالى يردّ عليك الشّمس لتصلّي العصر قائماً.

وأمّا الثانية: فلمّا أراد أن أن يعبر الفرات ببابل، استعمل كثير من أصحابه دوابّهم، وصلّى لنفسه في طائفةٍ من أصحابه وفات كثيراً منهم، فتكلّموا في ذلك؛ فسأل الله ردّ الشّمس فردّت ونظمه الحِمْيَريّ فقال:

ردّت عليه الشَّمس لما فاتهُ

وقت الصّلاة، وقد دنت للمغرب

حتّى تبلّج نورها في وقتها

للعصر ثمّ هوت هويّ الكوكب

وعليه قد حُبست ببابل مرّةً

أُخرى، وما حُبست لخلق معرب

إلاّ ليوشع أوْ لهُ، ولحبسها

ولردّها تأويلُ أمر مُعجب(2)

قال: وأمّا الإسناد الثاني، فمدارُه على فضيل بن مرزوق؛ وهو معروف بالخطأ على الثّقات وإن كان لا يتعمّد الكذب. قال فيه يحيى بن معين مرّةً: هو ضعيف، وهذا لا يناقضه قول أحمد بن حنبل فيه: لا أعلم إلاّ خيراً. وقول

____________________

(1) منهاج السنة 4: 186.

(2) الخبر والشّعر في خصائص أميرالمؤمنين للشريف الرضيّ سنعرض له فيما بعد.

١٣٩

سفيان: هو ثقةٌ.

ويحيى مرّةً - أخرى -: هو ثقة، فإنّه ليس ممّن يتعمّد الكذب ولكنّه يخطئ؛ وإذا روى له مسلم، ما تابعه غيره عليه، لم يلزم أن يروي ما انفرد به!(1)

قال: وروى من طريق أبي العبّاس بن عقدة؛ وكان مع حفظه جمّاعاً لأكاذيب الشّيعة!

قال: قال ابن عقدة: حدّثنا يحيى بن زكريّا، أخبرنا يعقوب بن معبد، حدّثنا عمرو بن ثابت قال: سألت عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ عن حديث ردّ الشّمس على عليّ...، فذكر حديث أسماء بنت عميس.

قال: وهذا الحديث، إن كان ثابتاً عن عمرو بن ثابت الذي رواه عن عبدالله بن حسن؛ فهو الذي اختلقه، فإنّه كان معروفاً بالكذب. قال أبو حاتم بن حبّان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال مرّة: ليس بثقة ولا مأمون. وقال النّسائي: متروك الحديث.(2)

قال: وأمّا رواية أبي هريرة: إسناده مظلم لا يثبت به شيء عند أهل العلم؛ بل يُعرف كذبه من وجوه: فإنّه وإن كان داود بن عبد الملك النّوفليّ، وهو الذي رواه عنه، قال البخاريّ: أحاديثه شبه لا شيء. وذكر ابن الجوزيّ أنّ ابن مردويه رواه من طريق داود بن فراهيج، وذكر ضعف ابن فراهيج(3) .

____________________

(1) منهاج السنّة 4: 192.

(2) نفسه 192 - 193.

(3) نفسه 193.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538