مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237132 / تحميل: 6088
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ما كان عليه الأسلاف(١) .

وإليك ما ورد في ذلك المجال :

١ ـ روى الكليني بسند صحيح عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن٧ : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق. قال: فقال: الإرادة من الخلق، الضمير يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه، لا غير ذلك لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر، وهذه الصفات منفيّة عنه، وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك، يقول له كن فيكون بلا لفظ، ولا نطق بلسان، ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له(٢) .

٢ ـ وروي الشيخ الطوسي عن صفوان بن يحيى قال قلت لأبي الحسن: اخبرني عن الإرادة من الله تعالى قال: « إرادته احداثه الفعل لا غير ذلك لأنّه جلّ اسمه لا يهم ولا يتفكّر »(٣) .

٣ ـ روي الكليني عن الحسن بن عبد الرحمان الحماني، عن الامام الكاظم٧ في رواية قال: « إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق »(٤) .

روى الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام الكاظم٧ قال: « فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس »(٥) .

٤ ـ روى الكليني عن يعقوب بن جعفر، عن الإمام الكاظم٧ في حديث: « ولكن كما قال الله تعالى كن فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس »(٦) .

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ١٩.

(٢) الكافي: ج ١ باب الاراده الحديث ٣، ورواه البرقي في المحاسن: ص ٢٤٤.

(٣) أمالي الطوسي: ص ٢١٤.

(٤) الكافي: ج ١ باب النهي عن الجسم والصورة الحديث ٦ ص ١٠٦.

(٥) الاحتجاج: ج ٢ ص ١٥٦.

(٦) الكافي: ج ١ باب الحركة والانتقال ص ١٢٥ الحديث ١.

٨١

والجواب: إنّ هذه الروايات وإن كانت صريحة في كون إرادته سبحانه فعله، لكنّها ليست بصدد سلب كون الإرادة صفة الذات حتّى بالمعنى المناسب لذاته عنه على الاطلاق، وانما هي بصدد أنّ الإرادة الإمكانية الموجودة في الإنسان لا تصلح لذاته سبحانه لأنّها تقترن بالتردّد والتروّي والتفكّر والهمّ والكلّ من سمات الامكان والحدوث وهو سبحانه منزّه عن ذلك.

وفرق بين نفي أصل الإرادة عن ذاته سبحانه، ولو بمعنى غير مستلزم لكون ذاته معرضاً للحوادث، والإرادة الموجودة في الإنسان والحيوان وبما أنّه كلّما أطلقت الإرادة لا يراد منها سوى المعنى المتعارف من التفكّر والهم ّوالقصد، وصرّح الإمام بنفي الإرادة بذلك المعنى عن ذاته وارجاعها فيه سبحانه إلى صفة الفعل، حتّى يصدر السائل عن حضوره بشيء مقنع وبما أنّ عقليّة بعض الرواة في ذلك العصر لا تتحمّل كثيراً من المعارف الدقيقة اقتنع الامام بتفهيم ما تتحمله عقليته، وبما أنّ قسماً من الإرادة صفة للفعل، وقسم منها صفة للذات كعلمه سبحانه، فإنّ قسماً منه صفة للفعل، وقسم منه صفة للذات، اكتفى الامام ببيان أحد القسمين دون الآخر.

وهذا أصل مطرّد في باب المعارف، فهم صلوات الله عليهم يكلّّمون الناس على قدر عقولهم ولا يكلّّفونهم بما هو خارج عن طاقة شعورهم.

هذا هو سيد الموحّدين عليّ٧ ينهي عن الغور في القدر ويقول :

« طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسر الله فلا تتكلّفوه »(١) .

ومع ذلك فهو صلوات الله عليه بحث عن القضاء والقدر ويشهد لذلك ما رواه الرضي في نفس نهج البلاغه(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة قسم الحكم الرقم ٢٨٧.

(٢) نهج البلاغة قسم الحكم الرقم ٧٨.

٨٢

والحاصل لـمّا كان المتبادر في ذهن الراوي وأمثاله من الإرادة، هو المعنى المعروف من الهم ّو التفكّر والعزم وكان جعل الإرادة من صفات الذات ـ في ذهن الراوي ـ مستلزماً لكون إرادته سبحانه مثل الإرادات الامكانية، رأى الإمام أن يعلّمه أحد القسمين من إرادته وهو الإرادة الفعلية كالعلم الفعلي، وأضرب عن القسم الآخر، ويعرب عن ذلك قوله في الروايات الثلاث الأخيرة، حيث قال :

« إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته، من غير كلام ولا تردّد في نفس ».

وهذا يعرب من أنّ الإمام بصدد صيانة الراوي عن الوقوع في الخطأ في تفسير الرواية، ولم يكن بصدد تفسير الإرادة بجميع مراتبها وأقسامها، فلو كان هناك للإرادة قسما آخر يناسب ذاته سبحانه كما أوضحناه لما كانت هذه الروايات نافية لها.

هناك وجه آخر لجعل الإرادة من صفات الفعل وهو انّ الإرادة في الإنسان لا ينفك عن المراد، فلو جعلت الإرادة فيه سبحانه من صفات الذات ربّما يستنتج الراوي منه قدم العالم، فلأجل صيانة ذهن الراوي عن الخطأ فسّرت الإرادة بالأحداث والايجاد، ويشهد على ذلك الوجه بعض الروايات :

١ ـ روى الصدوق في توحيده عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله٧ قال: « المشيئة محدثة »(١) .

٢ ـ روى الصدوق عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله٧ قال: « قلت له لم يزل الله مريداً » ؟! فقال: « إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه بل لم يزل عالماً قادراً ثم أراد »(٢) .

٣ ـ روى الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري قال: قال الرضا٧ : « المشيئة والإرادة من صفات الأفعال فمن زعم أنّ الله تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد »(٣) .

__________________

(١) و (٢) و (٣) التوحيد للصدوق: ص ٣٣٨ ـ ١٤٦ ـ ٣٣٦.

٨٣

وهذه الأحاديث تعرب من أنّ جعل الإرادة صفة الفعل إنّما هو لأجل صيانة ذهن الراوي عن توهّم قدم العالم وانّه لم يزل كان مع الله سبحانه، وإن شئت قلت: إنّ الإرادة التي سأل عنها الراوي كان يراد منها العزم على الفعل الذي لا ينفك عن المراد، فاراد الإمام هدايته إلى أنّ الإرادة بهذا المعنى لا يوصف بها سبحانه لأنها تستلزم قدم المراد أو حدوث المريد، ولأجل أن يتلقّى الراوي معنى صحيحاً للإرادة يناسب مستوى تفكيره، فسّرها الامام بالمعنى الذي يجري عليه سبحانه في مقام الفعل، وقال في جواب سؤال السائل :

« لم يزل الله مريداً ؟: إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه، لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد »(١) .

عصر الإمام الكاظم ٧ والمذاهب الكلاميّة

كان عصر الإمام الكاظم٧ ( ت ١٢٨ ـ م ١٨٣ ) عصر إزدهار المذاهب الكلامية وكانت الأمصار وحواضرها الكبرى ميداناً لمطارحات الفرق المختلفة.

فمن سلفيّ يقتصر في توصيفه سبحانه على الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ويأخذ بمعانيها الحرفية من دون إمعان وتدبّر، ويرفع عقيرته بأنّ لله يداً ووجها وأنّه مستو ومستقرّ على عرشه وأنّ له رجلاً و

إلى معتزلي يجعل للعقل قسطاً أوفر في مجال العقائد والمعارف ويتجاوز حدّه فيؤوّل الكتاب والسنّة فيما لا يوافق معتقده وعقليّته.

إلى مرجئيّ يكتفي في الإيمان بالقول ويقدّمه ويؤخّر العمل، ولا يحكم على

__________________

(١) الكافي: ج ١ ص ١٠٩، باب الارادة.

٨٤

مرتكب الكبيرة بعقوبة.

إلى مُحكِّم يكفّر كلّ الطوائف الاسلامية غير أهل نحلته الذين يبغضون الخليفتين عثمان وعليّاً ويكفّرون الصدّيق الاعظم عليّاً٧ .

إلى غير ذلك من المذاهب الإسلاميّة التي ظهرت في القرن الثاني.

ويعرب عن تشتت الفرق وتكثّرها ما رواه الكشّي عن محمد بن عيسى العبيدي، عن يونس، عن هشام، أنّه لـمّا كان أيّام المهدي، شدّد على أصحاب الهوى، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً، ثمّ قرأ الكتاب على الناس، فقال يونس :

قد سمعت الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة واُخرى بمدينة الوضّاح(١) .

ولم يكن الخلاف مقتصراً على معتقدات الطوائف الماضية بل كان عصر الإمام يتّسم بموجات رهيبة من النزعات الشعوبية والاتجاهات التي لاتمت إلى الاسلام بصلة، ولأجل ذلك يجب إمعان النظر في الروايات الواردة عن الكاظم٧ وغيره مع ملاحظة الظروف السائدة عليه، فإذا كان هذا عصر الإمام والأئمّة بعده فلابدّ أن تكون رواياتهم متضمّنة ردّ أصحاب الأهواء ودعاة الضلال، وأكثر ما ورد في المقام عن الإمامين الكاظم والرضا٨ حول الإرادة وأنّها صفة فعله سبحانه لا ذاته إنّما ورد في تلك الظروف المحرجة.

الإشكال الثالث: الإرادة يتوارد عليها النفي والاثبات

كيف نعد الإرادة من صفات الذات ؟ مع أنّ الملاك الذي ذكره الكليني لا ينطبق

__________________

(١) رجال الكشي: ترجمة هشام بن الحكم رقم ١٣١ ص ٢٢٧، ولعلّ هذا الكتاب أوّل ما اُلّف في المذاهب الاسلامية.

٨٥

عليه بل ينطبق على كونها من صفات الفعل وحاصله :

إنّ كلّ وصف يقع في إطار النفي والاثبات فهو من صفات الفعل مثل قولنا: يعطي ولا يعطى، وما لا يقع في إطارهما، بل يكون اُحادية التعلّق من صفات الذات فيقال « يعلم » ولا يقال « لا يعلم ».

وعلى ضوء هذا تكون الإرادة من صفات الفعل لأنّها ممّا يتوارد عليه النفي والاثبات. يقول سبحانه:( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ( البقرة / ١٨٥ ).

والجواب على هذا السؤال بوجهين :

أحدهما: إنّ الإرادة التي يتوارد عليها النفي والاثبات هي الإرادة في مقام الفعل، وأمّا الإرادة في مقام الذات التي فسّرناها بكمال الإرادة وهو الاختيار، فلا تقع في إطار النفي والاثبات.

وثانيهما: ما أجاب به صدر المتألّهين قائلاً بأنّ لله سبحانه إرادة بسيطة مجهولة الكنه وأنّ الذي يتوارد عليه النفي والإثبات، الإرادة العددية الجزئية المتحقّقة في مقام الفعل، وأمّا أصل الإرادة البسيطة، وكونه سبحانه فاعلاً عن إرادة لا عن اضطرار وايجاب، فلا يجوز سلبه عن الله سبحانه، وإنّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الإرادة البسيطة في مقام الذات التي لا تتعدّد ولا تتثنّى، وبين الإرادة العددية المتحقّقة في مقام الفعل التي تتعدّد وتتثنّى ويرد عليها النفي والاثبات.

قال: « الفرق بين الإرادة التفصيلية العددية التي يقع تعلّقها بجزئي من اعداد طبيعية واحدة أو بكلّ واحد من طرفي المقدور، كما في القادرين من الحيوانات، وبين الإرادة، البسيطة الحقّة الإلهية التي يكلّ عن ادراكها عقول أكثر الحكماء فضلاً عن غيرهم »(١) .

__________________

(١) الاسفار: ج ٦ ص ٣٢٤.

٨٦

الإشكال الرابع: لو كانت الإرادة صفة للذات، لزم قدم العالم

هذا هو الإشكال الرابع في طريق جعل الإرادة من صفات الذات وحاصله: إنّ صفات الذات متّحدة معها، فلو كانت الإرادة صفة للذات، يلزم قدم العالم لأنّ الإرادة لا تنفك عن مرادها فقدم الذات يلازم قدم الإرادة وهو يلازم قدم المعلول وهو العالم.

يلاحظ عليهأوّلاً: انّ الإشكال لا يختصّ بمن جعل الإرادة بمعناها الحقيقي وصفاً لذاته سبحانه، بل الإشكال يتوجه أيضاً على من فسّر إرادته بالعلم بالأصلح، لاستناد وجود الأشياء إلى العلم بالنظام الأتم الذي هو عين ذاته، واستحالة انفكاك المعلوم عن العلّة أمر بيّن من غير فرق بين تسمية هذا العلم إرادة أو غيرها، فلو كان النظام الأصلح معلولاً لعلمه، والمفروض انّ علمه قديم، لزم قدم النظام لقدم علّته.

وثانياً: إذا قلنا بأنّ إرادته سبحانه عبارة عن كونه مختاراً غير ملزم بواحد من الطرفين، لا يلزم عندئذ قدم العالم إذا اختار ايجاد العالم متأخّراً عن ذاته.

وثالثاً: إنّ لصدر المتألّهين ومن حذا حذوه في الاعتقاد بالإرادة الذاتية البسيطة المجهولة الكنه، أن يجيب بأنّ جهلنا بحقيقة هذه الإرادة وكيفيّة إعمالها، يصدّنا عن البحث عن كيفيّة صدور فعله عنه، وأنّه لماذا خلق العالم حادثاً ولم يخلقه قديماً ؟

وها هنا نكتة نعلّقها على هذا البحث بعد التنبيه على أمر وهو: انّ الزمان كمّ متّصل ينتزع من حركة الشيء وتغيّره من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن صورة نوعية إلى اُخرى، فمقدار الحركة عبارة عن الزمان، فلولا المادة وحركتها لما كان للزمان مفهوم حقيقي، بل كان له مفهوم وهمي. هذا ما أثبتته الأبحاث العميقة في الزمان والحركة، وقد كان القدماء يزعمون: إنّ الزمان يتولد من حركة

٨٧

الافلاك والنيّرين وغيرهما من الكواكب السيارة، ولكن الحقيقة أنّ كلّ حركة حليفة الزمان وراسِمته ومولدته، وإنّ التبدّلات عنصريّة كانت أو أثيرية، مشتملة على أمرين :

الأوّل: حالة الانتقال من المبدأ إلى المنتهى، سواء كان الانتقال في الوصف، أو في الذات.

الثاني: كون ذلك الإنتقال على وجه التدريج والسيلان لا على نحو دفعي.

فباعتبار الأمر الأوّل توصف بالحركة، وباعتبار الأمر الثاني توصف بالزمان، فكأن شيئاً واحداً باسم التغير والتبدل والانتقال، يكون مبدأ لانتزاع مفهومين منه، لكن كلّ واحد منهما باعتبار خاص، هذا من جانب.

ومن جانب آخر إنّ المادّة تتحقق على نحو التدريج والتجزئة ولا يصحّ وقوعها بنحو جمعي، لأنّ حقيقتها حقيقة سيّالة متدرّجة أشبه بسيلان الماء، فكلّ ظاهرة مادية تتحقق تلو سبب خاص، وما هذا حاله يستحيل عليه التحقق الجمعي أو تقدّم جزء منه أو تأخّره بل لا مناص عن تحقّق كلّ جزء في ظرفه وموطنه، وبهذا الاعتبار تشبه الأرقام والأعداد، فالعدد مثل « الخمسة » ليس له موطن إلّا الوقوع بين « الأربعة » و « الستة » وتقدّمه على موطنه كتأخّره عنه مستحيل، وعلى ذلك فالأسباب والمسبّبات المترتبة بنظام خاص، يستحيل عليها خروج أي جزء من أجزائها عن موطنه ومحله.

إذا عرفت هذا الأمر، نرجع إلى بيان النكتة وهي ماذا يريد القائل من قوله « لو كانت الإرادة صفة ذاتية لله سبحانه، يلزم قدم العالم ؟ » فان أراد أنّه يلزم تحقّق العالم في زمان قبله وفي فترة ماضية فهذا ساقط بحكم المطلب الأوّل، لأنّ المفروض انّه لا زمان قبل عالم المادة لما عرفت من أنّ حركة المادة ترسم الزمان وتولّده.

وإن أراد لزوم تقديم بعض أجزائه على البعض الآخر أو على مجموع العالم

٨٨

فقد عرفت استحالته فإنّ اخراج كلّ جزء عن إطاره أمر مستحيل مستلزم لانعدامه.

ما هو المراد من الحدوث الزماني للعالم ؟

اتّفق الالهيّون على أنّ العالم حادث ذاتاً بمعنى أنّه مسبوق بعدم حقيقي وانّه لم يكن فكان والفاعل المتخلّل في قولنا: « لم يكن فكان » هو الفاصل بين الواجب والممكن نظير الفصل بين حركة اليد وحركة المفتاح، فالحركتان واقعتان في زمان واحد غير أنّ الثانية متأخّرة عن الاُولى رتبة لأنّها ناشئة من الاُولى، وحركة اليد نابعة من ذاتها، وحركة المفتاح ناشئة من حركتها، فهي في طول الحركة الاُولى.

نعم هنا فرق بين المثال والممثّل له، فالعلّة والمعلول في المثال زمانيان دون الممثّل له فالعلّة هنا منزّهة عن الزمان والزماني وهذا مما لا شبهة فيه، إنّما الكلام في اثبات حدوث آخر للعالم وهو الحدوث الزماني.

إنّ المتشرّعة تثبت للعالم وراء الحدوث الذاتي حدوثاً زمانياً بمعنى كونه مسبوقاً بعدم زماني واقعي مثلا كما أنّ حوادث اليوم مسبوقة بالعدم الزماني حيث إنها لم تكن قبل ذلك اليوم ثم حدث، فهكذا العالم لم يكن في وقت ثم حدث. وهذه المسألة ممّا تصرّ عليها المتشرّعة حتى انّ الشيخ الأعظم الأنصاري في الفرائد عند البحث عن حجّية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة يقول: « أجمعت الشرايع السماويّة على انّ العالم حادث زماناً(١) .

ولكن تصوير الحدوث الزماني لكلّ جزء من أجزاء العالم بالنسبة إلى الزمان المتقدّم عليه أمر سهل يصدّقه البرهان والحسّ ف‍ « زيد » المتولّد في هذا اليوم، مسبوق بعدم زماني يوم أمس.

__________________

(١) الفرائد، رسالة حجّية القطع.

٨٩

إنّما الكلام في اثبات الحدوث الزماني لمجموع العالم إذا أخذ صفقة واحدة ولوحظ شيئاً واحداً، فإنّ اثبات الحدوث الزماني أمر لا يخلو من خفاء وذلك ببيانين :

١ ـ إنّ الزمان مقدار الحركة، وكلّ حركه تعانق زماناً ما يعدّ مقداراً لها، وليس في العالم زمان واحد يتولّد من حركة الفلك أو الشمس والقمر بل كلّ حركة مولد زماناً فيكون ذلك الزمان مقداراً لها كما حقّق في محلّه، فإذا كان الزمان وليد الحركة ونتيجة سيلان المادّة إلى الغاية فكيف يمكن أن نقول بأنّه كان وقت حقيقي لم يكن العالم فيه ثمّ حدث ووجد ؟ لأنّ المفروض أنّ هذا الوقت نتيجة حركة المادة التي لم تخلق بعد، فلا يتصوّر شيء بمعنى الوقت والزمان قبل إيجاد العالم حتّى يتضمّن عدمه.

٢ ـ إنّه ينقل الكلام إلى نفس الزمان فهل هو حادث ذاتي وقديم زماناً أو لا ؟

فعلى الأوّل يجب الاعتراف بممكن حادث ذاتاً وقديم زماناً، فلو كان القول بالقدم الزماني مقبولاً فيه فليكن مقبولاً في مجموع العالم إذا لوحظ شيئاً واحداً أو في الجزء الأوّل منه. وعلى الثاني يلزم أن يكون للزمان زمان حتّى يتضمّن الزمان الثاني عدم الزمان الأوّل في حاقّه، وعندئذ إمّا يتوقّف تسلسل الزمان فيلزم كون الزمان الثاني قديماً زمانيّاً وإن لم يتوّقف يلزم التسلسل.

فلأجل هذين الوجهين يعسر التصديق بالحدوث الزماني لمجموع العالم ويكتفى بالحدوث الذاتي، ثمّ إنّ الداعي إلى ذهابهم إلى الحدوث الزماني للعالم كلّه أمران :

أ: التركيز على التوحيد، وأنّه لا قديم سواه وأنّ كلّ ما في الكون فهو حادث زماني مسبوق بعدم زماني حقيقي، فحصر القديم في الله سبحانه يصدّهم عن الاعتراف بقدم العالم زماناً والاكتفاء بالحدوث الذاتي.

٩٠

يلاحظ عليه: أنّ تنزيه الحق عن الشرك والنّد لا يتوقف على اثبات الحدوث الزماني للعالم، بل يكفي هنا القول بأنّه سبحانه قديم بالذات وإنّ غيره حادث كذلك سواء أكان له حدوث زماني أو لا، وبعبارة اُخرى التنزيه ونفي الشرك يحصل بحصر ضرورة الوجود في الله سبحانه وإنّ وجوده نابع من صميم ذاته بخلاف غيره فإنّ وجوده مستعار ومكتسب من جانبه سبحانه.

ب: ما ورد في الروايات من أنّه كان الله ولم يكن معه شيء مستظهراً بأنّ المراد من الكينونة لله سبحانه، وعدم غيره، هو كونه في وقت مقروناً بعدم كون شيء فيه.

يلاحظ عليه: انّ الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت خصوصاً ما روي عن الإمام الكاظم٧ وأبي جعفر٧ يعرب من أنّ المراد غير ذلك وأنّ ما يتبادر من هذه الجملة في الأذهان البسيطة غير مراد، ويعلم ذلك بسرد الروايات عنهم صلوات الله عليهم :

١ ـ روى الصدوق عن يعقوب بن جعفر الجعفري، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر٨ أنّه قال: إنّ الله تبارك وتعالى كان لم يزل، بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان(١) .

٢ ـ ما روي عن أبي جعفر٧ أنّه قال: إنّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره، نوراً لا ظلام فيه، وصادقاً لا كذب فيه، وعالماً لا جهل فيه، وحيّاً لا موت فيه، وكذلك هو اليوم، وكذلك لا يزال أبداً(٢) .

٣ ـ ما ذكره الإمام الرضا٧ في جواب عمران الصابئي حيث سأله الصابئي بقوله: أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق. قال الرضا٧ سألت فافهم: « أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه، بلا حدود، ولا اعراض، و

__________________

(١) مسند الامام الكاظم٧ ج ١ ص ٢٧٠ ـ نقلاً عن توحيد الصدوق ص ١٧٨.

(٢) التوحيد للصدوق ـ باب صفات الذات وصفات الفعل ـ الحديث ٥ ص ١٤١.

٩١

لا يزال كذلك(١) .

والذي يجب إمعان النظر فيه هو هذه الجمل التالية في حديث الإمام الكاظم٧ وغيره.

أ: قوله في الحديث الاول: « وهو الآن كما كان ».

ب: قوله في رواية أبي جعفر٧ : « وكذلك هو اليوم فكذلك لا يزال أبداً ».

ج: قوله في كلام الرضا٧ : « ولا يزال كذلك ».

فهذه الأحاديث تعرب من أنّ توصيفه سبحانه بالجملة التالية: « كان الله ولم يكن معه شيء » لا يختص بالآزال قبل خلق العالم بل هذا الوصف مستمر له إلى الآن حتى بعد ما خلق العالم، ومن المعلوم أنّه لو كان المراد من قوله: « كان الله ولم يكن معه شيء » أنّه كان وقت، ولم يكن في ذلك الوقت شيء من الممكنات، يجب ان يخصّص هذا الوصف بظرف خاص وهو قبل خلق العالم، وأمّا بعده فلا يمكن أن يقال: إنّه مستمر إلى زماننا هذا لفرض تكوّن أشياء وتحقّقها مع تحقّق الله سبحانه.

وهذا يعرب: أنّ المراد من أنّه سبحانه قد كان ولم يكن معه شيء مستمراً إلى زماننا هذا، هو كونه سبحانه في درجة رفيعة من الوجود ورتبة متقدّمة على معلوله فهو في كلّ ظرف وزمان، كائنٌ، وليس معه في هذه الرتبة شيء من الممكنات من غير فرق بين مرحلة خلق العالم وقبله، لأنّ العلّة لعلوّ مقامه وشموخ درجته على وجه لا يتجافى المعلول عن رتبته، حتى يكون معه، ولا شيء معه في هذا المقام مطلقاً سواء قبل خلق العالم أم بعده.

__________________

(١) التوحيد: باب ذكر مجلس الرضا (ع) ص ٤٣٠.

٩٢

والحاصل: أنّ هذه الروايات تركّز على نكتة فلسفيّة تغيب عن أذهان المتوسّطين وهو أنّه سبحانه واحد ليس معه شيء، وأنّ هذا التوحيد مستمر في جميع الأوقات والأزمان ومن المعلوم أنّ الاعتراف بهذا النوع من التوحيد والتنزيه، ونفي أن يكون شيء معه لا يتم إلّا بالاعتراف بالحدوث الذاتي للعالم، وأنّ وجوده نابع من وجوده سبحانه، فليس في ذلك المقام أثر من الإمكان من غير فرق بين قبل التجلّي وبعده، فالمعلوم أقصر من أن يصل إلى مقام العلّة ويجتمع معها.

هذا ما وصلنا إليه بعد التدبّر في الروايات.

نعم، إنّ صدر المتألّهين وتلامذة منهجه حاولوا في المقام أن يثبتوا للعالم حدوثاً زمانيّاً وراء الحدوث الذاتي، فمن أراد التبسّط فعليه المراجعة إلى كلامهم(١) ولكنّهم وإن بذلوا جهوداً كبيرة في تصوير الحدوث الزماني لكنّه لا يثبت ما ترومه المتشرّعة إذ أقصى ما يثبت بيانهم أنّ كلّ جزء من العالم مسبوق بعدم زماني بالنسبة إلى الجزء المتقدّم، وهو ليس موضع بحث ونقاش وإنّما البحث في اثبات الحدوث لجملة العالم.

ثمّ إنّ لبعض المحقّقين ممّن عاصرناه كلاماً في المقام لا يخلو من فائدة، فنأتي به برمته، قال :

« إعلم أنّ الذي يظهر لي في هذا المقام العويص، هو أن يقال: إنّ المراد من العالم ( بمعنى ما سوى الله ) إمّا يكون هو هذا العالم المشهود لنا من السماء والسماويّات والعنصر والعنصريّات، وإمّا يكون مطلق ما سوى الله ممّا يتصوّر من عالم مادي أو مجرّد، فالأوّل أعني هذا العالم المحسوس، فالحق انّه ليس على قدمه دليل، ولا في القول بحدوثه محذور بل هو حادث زماني أعني مسبوقاً بالعدم

__________________

(١) الاسفار: ج ٦ ص ٣٦٨.

٩٣

الزماني العرضي، ويكون وعاء عدمه زماناً منتزعاً من عالم قبله وهو أي العالم الذي قبله أيضاً حادث زماني مسبوق بعدمه، الواقع في عالم ثالث قبل ذاك العالم الثاني، وليس هذا شيء يخالفه العقل، بل الهيئة الجديدة ناطقة بأنّ الامر كذلك، إذ شمسنا التي تدور حولها أرضنا مع بقية الكواكب عندهم عالم من العوالم، حادث، مسبوق بعدم واقعي، قد انقضى الأكثر من عمره وما بقي منه إلّا صبابة كصبابة الاناء، وهو مع جميع توابعه مسبوق بعدم واقعي متأخّر عن عالم متألّف من شمس اُخرى مع ما حولها من كواكبها، وهكذا كلّ كوكب من الثوابت شمس وكم انقضى منها وكم لم يوجد بعد، وكم من موجود منها لم نشاهده ذلك تقدير العزيز الحكيم.

هذا بالقياس إلى حكم العقل ولم يثبت في الشرع ما يدل على خلافه بل لعل فيه ما يدل على وفاقه من أنّ قبل هذا الخلق خلق، وقبل هذا العالم عوالم إلى ثلاثين ألف، الكاشف عن كثرتها(١) وقول الحكماء بانحصار العالم المحسوس في هذا العالم من فلك الأفلاك إلى الأرض وقدم أفلاكه مادّة وصورة وأعراضاً حتى بالنسبة إلى أصل الحركة وأصل الوضع إلّا في جزئيات الحركة والوضع، قول محض لا شاهد عليه إلّا حدسيات أبطلتها الهيئة الجديدة.

والثاني أعني مطلق العوالم وجملة ما سواه، فالحق انّ حدوثه بهذا المعنى شيء لم يتّفق عليه الملّيون ولم يثبت له الحدوث بهذا المعنى في شرعنا المقدّس كيف وقد عرفت ورود ما يدل على وجود العوالم قبل عالمنا وكذا بعد خرابه، وهو الموافق مع الحكمة ويطابقه العقل الصريح ويلائم مع كونه تعالى دائم الفضل على البريّة وباسط اليدين بالعطية ولا امساك له عن الفيض، وعلى هذا فيمكن أن يكون

__________________

(١) قال أبو جعفر الباقر٧ : ولعلّك ترى أنّ الله تعالى إنّما خلق هذا العالم الواحد، وترى أنّ الله تعالى لم يخلق بشراً غيركم بلى والله لقدخلق الله تعالى الف الف عالم، وألف ألف آدم، أنت في آخر تلك العوالم واُولئك الاُمّيين. قال الحكيم السبزواري بعد نقل الحديث: والمراد من العدد الكثرة. « شرح الأسماء الحسنى : ص ٢٤٠ ».

٩٤

النزاع في حدوث العالم وقدمه لفظيّاً إلّا على قول الحكماء بقدم هذا العالم من أفلاكه وفلكياته وعناصره البسيطه حيث إنّ النزاع في قدمه وحدوثه معنوي كما لا يخفى.

وأمّا بالنسبة إلى ما سوى هذا العالم فالحكماء ينكرون أصل وجوده، ويزعمون انحصار العالم في عالمنا، ولو كان له وجود قبل عالمنا فلا محالة يكون عالمنا حادثاً بالحدوث الزماني المسبوق بالعدم الواقعي، كما أنّ الاعتراف بوجود العقول وعالم الجبروت يساوق الاعتراف بوجود الممكن القديم بالزمان كما لا يخفى(١) .

١٥ ـ تكلّمه وكلامه سبحانه

قد تعرّفت على أنّ صفة التكلّم ممّا وقع فيه الكلام وأنّه هل هو صفة فعل أو صفة ذات، وقد أثارت هذه المسألة في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ضجّة كبيرة بين المسلمين، وأوجدت محنة في التاريخ سمّيت بمحنة أحمد، وقد بالغت شيعة أحمد كإبن الجوزي في مناقبه في تحرير هذه المحنة وتحليلها فجاء بقصص وروايات لم يروها غيره وجعل منه بطلاً دينيّاً، مجاهداً من أجل عقيدته وآرائه. وعلى كلّ تقدير فنحن نبحث عنها على ضوء البرهان وهدى الكتاب والسنّة.

أجمع المسلون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً وقد شغلت هذه المسألة بال العلماء والمفكّرين في العصور المتقدّمة ووقع الجدال في موضعين :

الأوّل: ما هو المراد من هذا الوصف ؟

الثاني: هل كلامه ( القرآن ) حادث أو قديم ؟

__________________

(١) درر الفوائد: للمحقق الشيخ محمد تقي الآملي١ ج ١ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٤.

٩٥

وقبل البحث في كلا الأمرين نقدّم النصوص القرآنية التي تضافرت الآيات على توصيفه به، قال تعالى:( مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ) ( البقرة / ٢٥٣ ).

وقال تعالى:( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) ( النساء / ١٦٤ ).

وقال سبحانه:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) ( الأعراف / ١٤٣ ).

وقال تعالى:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى / ٥١ ).

وقد بيّن تعالى انّ تكليمه الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية :

١ ـ وحياً.

٢ ـ من وراء حجاب.

٣ ـ يرسل رسولاً.

فقد أشار بقوله: « إلّا وحياً » إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء كما أشار بقوله: « أو من وراء حجاب » إلى الكلام المسموع لموسى٧ في البقعة المباركة قال تعالى:( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( القصص / ٣٠ ).

وأشار بقوله سبحانه:( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) إلى الإلقاء الذي يتوسّط فيه ملك الوحي.

قال سبحانه:( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٢ ـ ١٩٤ ).

ففي الحقيقة « الموحي » هو الله سبحانه وهو تارة يوحي بلا واسطة عن طريق الالقاء في الروع، أو عن طريق التكلّم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت ولا يرى

٩٦

الموحي واُخرى بواسطة الرسول، فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّه اختلفت كلمة المتكلّمين والحكماء في حقيقة كلامه إلى نظريات :

١ ـ نظرية المعتزلة

قالت المعتزلة كلامه تعالى أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي. قال القاضي عبد الجبار :

« حقيقة الكلام: الحروف المنظومة والأصوات المقطعة وهذا كما يكون منعماً بنعمة توجد في غيره، ورازقاً برزق يوجد في غيره، فهكذا يكون متكلّما بايجاد الكلام في غيره وليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه فعلاً(١) .

والظاهر أنّ كونه سبحانه متكلّما بهذا المعنى لا خلاف فيه إنّما الكلام في حصر التكلّم في هذا المعنى. قال السيد الشريف :

« هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره بل نحن نقوله ونسمّيه كلاماً لفظياً ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ولكن نثبت أمرا وراء ذلك »(٢) .

ونزيد في الملاحظة: انّ تفسير كلامه سبحانه بايجاد الحروف والأصوات في الأشياء أو الالقاء في الروع إنّما يصحّ في ما إذا كان لكلامه سبحانه مخاطباً معيّناً كما في تكليمه الأنبياء وغيرهم كاُمّ موسى قال سبحانه :

( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) ( القصص / ٧ ).

__________________

(١) شرح الاُصول الخمسة: ص ٥٢٨، وشرح المواقف: ج ٨، ص ٤٩٥.

(٢) شرح المواقف: ج ٨ ص ٩٣.

٩٧

وقال سبحانه:( فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا إلّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا *وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ) ( مريم / ٢٤ و ٢٥ ).

وأمّا إذا لم يكن هناك مخاطب خاص لجهة الخطاب فلابد أن يكون كلامه سبحانه على وجه الاطلاق معنى آخر سنذكره فيما بعد.

٢ ـ نظريّة الحكماء

لا شك أنّ الكلام في انظار عامّة الناس هو الحروف والأصوات الصادرة من المتكلّم القائمة به، وهو يحصل من تموّج الهواء واهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج غاب الكلام عنه، ولكن الإنسان الاجتماعي يتوسّع في اطلاقه فيطلقه على الخطبة المنقولة أو الشعر المروي عن شخص، ويقول هذا كلام النبي٦ أو شعر إمرئ القيس مع أنّ كلامهما قد زالا بزوال الموجات والاهتزازات، وما هذا إلّا من باب التوسّع في الاطلاق ومشاهدة ترتّب الأثر على المرويّ والمنقول وعلى هذا يتوسّع بأزيد من هذا، فكلّ فعل من المتكلّم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه اللفظي يسمّيه كلاماً لاشتراكهما في ابراز ما يضمره المتكلّم في قرارة ذهنه من المعاني والحقائق، وبذلك تكون اللوحة الفنيّة كلاماً لرسّامها حتى انّ البناء الشامخ كلام يعرب عن نبوغ البنّاء والمعمار والمهندس، فلأجل ذلك نرى انّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بأنّه كلمة الله ألقاها إلى مريم العذراء فيقول:( يَا أهل الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) ( النساء / ١٧١ ).

وكيف لا يكون سيّدنا المسيح كلمة الله مع أنّه كاشف عن قدرته العظيمة على خلق الإنسان في الرحم من دون لقاح بين اُنثى وذكر، ولأجل ذلك عدّ وجوده آية ومعجزة.

وفي ضوء هذا البيان يظهر وجه عدّ جميع ما في الكون كلمات الله سبحانه ،

٩٨

قال :

( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) ( الكهف / ١٠٩ ).

ويقول سبحانه:( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( لقمان / ٢٧ ).

فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلامه وتخبر عمّا في المبدأ من كمال وجمال وعلم وقدرة، وبذلك يكون العالم بموجوداته الكتاب التكويني.

وقال علي٧ :

« يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفّظ، ويريد ولا يضمر، يحب ويرضى من غير رقّة، ويبغض ويغضب من غير مشقّة يقول لمن أراد كونه، « كن » فيكون، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً »(١) .

وعلى هذين المعنيين فالتكلّم من صفات فعله سبحانه لا من صفات الذات نعم، حاولت الأشاعرة أن تجعل كلامه سبحانه صفة ذاته وجاءت بنظرية معقدة غير واضحة سمّتها بالكلام النفسي، وإليك بيانها :

٣ ـ نظرية الأشاعرة

ذهبت الأشاعرة إلى كون التكلّم من صفات الذات بالقول بالكلام النفسي

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٨٤.

٩٩

القائم بذات المتكلّّم، وهذه النظرية مع اشتهارها من الشيخ أبي الحسن الأشعري لم نجدها في « الإبانة » و « اللمع » وإنّما ركّز فيهما على البحث عن المسألة الثانية، وهو كون كلامه حادثاً أو قديماً، ولكن أتباعه المتأخّرين نقلوها عنه. قال « الشهرستاني » :

« وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنّ للكلام معنى قائماً بالنفس الإنسانية وبذات المتكلّم وليس بحروف ولا أصوات وإنّما هو القول الذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده »(١) .

وقال الآمدي :

« ذهب أهل الحق من الإسلاميين إلى كون الباري تعالى متكلّما بكلام قديم أزلي نفساني أحدي الذات، ليس بحروف ولا أصوات، وهو مع ذلك مغاير للعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات »(٢) .

وقال « الايجي » بعد نقل نظرية المعتزلة :

« وهذا لا ننكره لكنّا نثبت أمراً وراء ذلك، وهو المعنى القائم بالنفس ونزعم انّه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام بل قد يدلّ عليه بالإشارة والكتابة إلى أن قال: « وهو غير العلم »(٣) .

وقد حارت العقول في فهم المقصود من الكلام النفسي، ولأجل ذلك قام رجال من الأشاعرة بتبيينه. فأوضحه « الشهرستاني » بقوله :

« العاقل إذا راجع نفسه وطالع ذهنه وجد من نفسه كلاماً وقولاً يجول في قلبه تارة إخباراً عن اُمور رآها على هيئة وجودها أو سمعها من مبتدئها إلى منتهاها على وفق ثبوتها، وتارة حديثاً مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير

__________________

(١) نهاية الاقدام: ص ٣٢٠.

(٢) غاية المرام: ص ٨٨.

(٣) المواقف: ص ٢٩٤.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

القسم الثالث

أضواء على الموقف

١ ـ عرض الخلافة، ورفض الإمام.

٢ ـ قبول ولاية العهد بعد التهديد.

٣ ـ مدى جدية عرض الخلافة.

٤ ـ موقف الإمام.

٥ ـ خطة الإمام..

عرض الخلافة، ورفض الإمامعليه‌السلام

نصوص تاريخية:

تحدثنا كتب التاريخ: أن المأمون كان قد عرض الخلافة على الإمام أولاً..(١) لكنهعليه‌السلام رفض قبولها أشد الرفض، وبقي مدة يحاول إقناعه بالقبول، فلم يفلح. وقد ورد أن محاولاته هذه، استمرت في مرو وحدها أكثر من شهرين والإمامعليه‌السلام يأبى عليه ذلك(٢) .

بل لقد ورد أنهعليه‌السلام كان قد أجاب المأمون بما يكره، فقد: قال المأمون للإمام: (.. يا ابن رسول الله، قد عرفت فضلك، وعلمك، وزهدك، وورعك، وعبادتك، وأراك أحق بالخلافة مني..).

فقال الإمامعليه‌السلام :((.. بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله..)) .

____________

(١) كما نص عليه في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٥٠، والفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٧، وغاية الاختصار ص ٦٧، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٨٤، ومقاتل الطالبيين، وغير هؤلاء كثير.. وسنشير في آخر هذا الفصل إلى طائفة منهم أيضاً..

لكن السيوطي قال في تاريخ الخلفاء (.. حتى قيل: أنه هم أن يخلع نفسه، ويفوض الأمر إليه..) أما رفضه لذلك، فهو أشهر من أن يذكر كما سيأتي..

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤، وينابيع المودة وغير ذلك.

٢٤١

قال المأمون: فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك، وأبايعك؟!.

فقال الإمامعليه‌السلام :((إن كانت هذه الخلافة لك، فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله، وتجعله لغيرك،وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك)) (١) .

قال المأمون: لا بد لك من قبول هذا الأمر!!

فقال الإمامعليه‌السلام :((لست أفعل ذلك طائعاً أبداً..)) .

فما زال يجهد به أياما، والفضل والحسن(٢) يأتيانه، حتى يئس من قبوله..

وخرج ذو الرئاستين مرة على الناس قائلاً: وا عجبا! وقد رأيت عجباً! رأيت المأمون أمير المؤمنين يفوض أمر الخلافة إلى الرضا.

____________

(١) عبارة تاريخ الشيعة ص ٥١، ٥٢ هكذا: ((.. إن كانت الخلافة حقاً لك من الله، فليس لك أن تخلعها عنك، وتوليها غيرك. وإن لم تكن لك، فكيف تهب ما ليس لك.)) وهذه أوضح وأدل.

(٢) لا ندري ما الذي أوصل الحسن بن سهل إلى مرو، مع أنه كان آنئذٍ في العراق، ولعل ذكر الحسن اشتباه من الراوي، واحتمل السيد الأمين في أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٢٠: أن يكون المأمون قد استدعى الحسن بهذه المناسبة إلى خراسان، فلما تم أمر البيعة عاد إلى بغداد.

٢٤٢

ورأيت الرضا يقول: لا طاقة لي بذلك، ولا قدرة لي عليه. فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها(١) .

____________

(١) راجع في جميع هذه النصوص بالإضافة إلى ما تقدم: روضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٧، ٢٦٨، ٢٦٩، وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعلل الشرايع ج ١ ص ٢٣٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، وأمالي الصدوق ص ٤٢، ٤٣، والإرشاد ص ٣١٠، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، ٦٦، ٦٦، ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٤٠. والمناقب ج ٤ ص ٣٦٣، والكافي ج ١ ص ٤٨٩، والبحار ج ٤٩ ص ١٢٩، ١٣٤، ١٣٦. ومعادن الحكمة، وتاريخ الشيعة، ومثير الأحزان ص ٢٦١، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٤، ١٦٥، وغاية الاختصار ص ٦٨.

٢٤٣

قبول ولاية العهد بعد التهديد

مع محاولات المأمون لإقناع الإمام:

الذي يبدو من ملاحظة كتب التاريخ والرواية، هو: أن محاولات المأمون لإقناع الإمام بما يريد، كانت متعددة، ومتنوعة، وأنها بدأت من حين كان الإمامعليه‌السلام لا يزال في المدينة. حيث كان المأمون يكاتبه، محاولاً إقناعه بذلك، فلم ينجح، وعلم الإمام أنه لا يكف عنه. ثم أرسل رجاء بن أبي الضحاك، وهو قرابة الفضل والحسن ابني سهل(١) ، فأتى بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو رغما عنه.. وبذل المأمون في مرو أيضاً محاولات عديدة، استمرت أكثر من شهرين. وكان يتهدد الإمام بالقتل، تلويحا تارة، وتصريحا أخرى، والإمامعليه‌السلام يأبى قبول ما يعرضه عليه.. إلى أن علم أنه لا يمكن أن يكف عنه، وأنه لا محيص له عن القبول، فقبل ولاية العهد مكرها، وهو باك حزين ـ على حد تعبير الكثيرين ـ، وكانت البيعة له في السابع من شهر رمضان، سنة (٢٠١ ه‍ )، كما يتضح من تاريخ ولاية العهد..

____________

(١) وقيل: أنه عمهما، وقد كان رجاء هذا من قواد المأمون، وقد ولاه المأمون خراسان مدة، لكنه أساء السيرة، فعزله.

٢٤٤

بعض ما يدل على عدم رضا الإمامعليه‌السلام :

والنصوص الدالة على عدم رضا الإمامعليه‌السلام بهذا الأمر كثيرة، ومتواترة، فقد قال أبو الفرج: (.. فأرسلهما ـ يعني الفضل والحسن ابني سهل ـ إلى علي بن موسى، فعرضا ذلك ـ يعني ولاية العهد ـ عليه، فأبى، فلم يزالا به، وهو يأبى ذلك، ويمتنع منه..

إلى أن قال له أحدهما: (إن فعلت ذلك، وإلا فعلنا بك وصنعنا، وتهدده، ثم قال له أحدهما: والله، أمرني بضرب عنقك، إذا خالفت ما يريد)!. ثم دعا به المأمون، وتهدده، فامتنع، فقال له قولاً شبيهاً بالتهديد، ثم قال له: (إن عمر جعل الشورى في ستة، أحدهم: جدك وقال: من خالف فاضربوا عنقه، ولا بد من قبول ذلك..)(١) !

ويروي آخرون: أن المأمون قال له: (.. يا ابن رسول الله، إنما تريد بذلك ـ يعني بما أخبره به عن آبائه من موته قبله مسموماً ـ التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: إنك زاهد في الدنيا..

فقال الرضا:((والله، ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لأعلم ما تريد؟!

فقال المأمون: وما أريد؟!

قال:الأمان على الصدق؟

قال: لك الأمان.

قال:تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى لم يزهد في

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٢، ٥٦٣، وقريب منه ما في إرشاد المفيد ص ٣١٠ وغير ذلك.

٢٤٥

الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه: ألا ترون: كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟!)) .

فغضب المأمون، وقال له: (إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه، وقد آمنت سطوتي، فبالله أقسم: لئن قبلت ولاية العهد. وإلا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت، وإلا ضربت عنقك..)(١) .

وقال الإمام الرضاعليه‌السلام في جواب الريان له، عن سر قبوله لولاية العهد:

((.. قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم. إلى أن قال:ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك، على إجبار وإكراه، بعد الإشراف على الهلاك ..)) إلخ(٢) .

وقال في دعاء له:((.. وقد أكرهت واضطررت، كما أشرفت من عبد الله المأمون على القتل، متى لم أقبل ولاية العهد..)) .

وقال في جواب أبي الصلت:((وأنا رجل من ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجبرني على هذا الأمر وأكرهني عليه..)) .

بل لقد أعرب عن عدم رضاه في نفس ما كتبه على ظهر وثيقة العهد، وأنه يعلم بعدم تمامية هذا الأمر، وإنما يفعل ذلك امتثالاً لأمر المأمون، وإيثاراً لرضاه..

____________

(١) راجع في ذلك. مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٠، وعلل الشرايع ج ١ ص ٢٣٨، ومثير الأحزان ص ٢٦١، ٢٦٢، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٧، والبحار ج ٤٩ ص ١٢٩، وغير ذلك.

وفي تاريخ الشيعة ص ٥٢: أنه بعد أن عرض عليه الخلافة، وأجابه بالجواب المتقدم في الفصل السابق، قال له: (.. إذن، تقبل ولاية العهد). فأبى عليه الإمام أشد الإباء، فقال له المأمون: (.. ما استقدمناك باختيارك، فلا نعهد إليك باختيارك، والله، إن لم تفعل ضربت عنقك..).

(٢) علل الشرايع ج ١ ص ٢٣٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، وأمالي الصدوق ص ٧٢، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٣٩.

٢٤٦

أما الباحثون وغيرهم فيقولون:

أما الباحثون، فلعلنا لا نكاد نعثر على باحث يتعرض لهذا الأمر ينسى أن يؤكد على رفض الإمامعليه‌السلام لهذا الأمر، واستيائه منه..

يقول أحمد أمين: (.. وألزم الرضا بذلك، فامتنع، ثم أجاب..)(١) .

وقال القندوزي: إنه قبل ولاية العهد، وهو باك حزين(٢) .

وقال المسعودي: (.. فألح عليه، فامتنع، فأقسم، فأبر قسمه الخ.)(٣) .

وعلى كل حال: فإن النصوص التاريخية الدالة على عدم رضاهعليه‌السلام بهذا الأمر، وأنه مكره مجبر عليه كثيرة جداً(٤) . وتضارعها كثرة أقوال الباحثين، الذين تعرضوا لهذا الموضوع. ولذا فليس من اليسير الإحاطة بها واستقصاؤها في مثل هذه العجالة.

ولهذا.. فإننا نكتفي هنا بهذا القدر، حيث إن المجال لا يتسع لأكثر من ذلك..

____________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤.

(٢) ينابيع المودة ص ٢٨٤.

(٣) إثبات الوصية ص ٢٠٥.

(٤) وإنه وإن كان سيمر معنا نصوص أخرى تدل على ذلك.. إلا أننا نحيل القارئ على بعض مظان وجودها، فراجع: ينابيع المودة ص ٣٨٤، ومثير الأحزان ص ٢٦١، ٢٦٢، ٢٦٣، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وأمالي الصدوق ص ٦٨، ٧٢، والبحار ج ٤٩ ص ١٢٩، ١٣١، ١٤٩، وعلل الشرايع ج ١ ص ٢٣٧، ٢٣٨، إرشاد المفيد ص ١٩١، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٩، و ج ٢ ص ١٣٩، ١٤٠، ١٤١، ١٤٩، وإعلام الورى ٣٢٠، والخرائج والجرائح، وغير ذلك..

٢٤٧

مدى جدية عرض الخلافة

عرض الخلافة ليس جدياً..

مر معنا أن المأمون كان قد عرض أولاً الخلافة على الإمام، وأنه ألح عليه بقبولها كثيراً، سواء وهو في المدينة، أو بعد استقدامه إلى مرو، وأنه تهدده فلم يقبلها، فلما يئس من قبوله الخلافة، عرض عليه ولاية العهد، فامتنع أيضاً. ولم يقبل إلا بعد أن تهدده بالقتل، وعرف الجد في ذلك التهديد!!

وهنا سؤال لا بد من الإجابة عليه، وهو:

هل كان المأمون جاداً في عرضه الخلافة على الإمام؟!.

ويتفرع على الإجابة على هذا السؤال سؤال آخر، وهو:

إذا لم يكن المأمون جاداً في عرضه ذاك، فماذا ترى سوف يكون موقف المأمون، لو أن الإمام قبل أن يتقلد الخلافة، ويضطلع بشؤونها؟!.

ومن أجل استيفاء الجواب عن هذين السؤالين، لا بد لنا من الإسهاب في المقال، بالقدر الذي يتسع لنا به المجال فنقول:

الإجابة على السؤال الأول:

أما عن السؤال الأول، فإن الحقيقة هي: أن جميع الشواهد والدلائل تدل على أنه لم يكن جاداً في عرضه للخلافة:

وقد قدمنا أننا لا يمكن أن نتصور المأمون الحريص على الخلافة حرصه على نفسه، والذي قتل من أجلها أخاه. وأتباعه، بل وحتى وزراءه هو وقواده، وغيرهم. وأهلك العباد، وخرب البلاد، حتى لقد خرب بغداد بلد آبائه، وأزال كل محاسنها ـ لا يمكن أن نتصور ـ المأمون، الذي فعل كل ذلك وسواه من أجل الحصول على الخلافة.. أن يتنازل عنها بهذه السهولة، بل ومع هذا الإلحاح والإصرار منه، لرجل غريب، ليس له من القربى منه ما لأخيه، ولا من الثقة به ماله بقواده، ووزرائه!.

أم يعقل أن تكون الخلافة أعز من هؤلاء جميعاً، والرضا فقط هو الأعز منها؟!.

وهل يمكن أن نصدق، أو يصدق أحد: أن كل ذلك، حتى قتله أخاه، كان في سبيل مصلحة الأمة ومن أجلها، ولكي يفسح المجال أمام من هو أجدر بالخلافة، وأحق بها من أخيه، ومنه؟!.

٢٤٨

وكيف يمكن أن نعتبر إصراره الشديد على الإمام، والذي استمر أشهراً عديدة، قبل استقدامه إلى مرو وبعده، والذي انتهى به إلى حد تهديده إياه بالقتل ـ كيف يمكن أن نعتبره رفقاً منه بالأمة، وحبا لها، وغيرة على صالحها.. مع أننا نسمعه من جهة ثانية هو نفسه يصرح: بأن نفسه لم تسنح بالخلافة، عندما عرضها على الإمام؟!(١) .

وإذا لم تسنح نفسه بالخلافة، فلماذا يهدده بالقتل إن لم يقبلها؟!.

وكيف يمكن أن نوفق بين تهديداته تلك، وجدية عرضه للخلافة.. وبين قوله: إنه لم يقصد إلا أن يوليه العهد، ليكون دعاء الإمام له، وليعتقد فيه المفتونون به الخ.. ما سيأتي؟!.

وإذا كان قد نذر أن يوليه (الخلافة)، لو ظفر بأخيه الأمين، حسبما ورد في بعض النصوص التاريخية، فلماذا، وكيف جاز له الاكتفاء بتوليته العهد؟!.

وكيف استطاع إجباره على قبول ولاية العهد، ولم يستطع إجباره على قبول الخلافة؟!

وأيضاً.. ولماذا بعد أن رفض الإمامعليه‌السلام العرض، لا يتركه وشأنه؟

وأين هي أنفة الملوك، وعزة السلطان؟!.

وإذا كان يأتي به المدينة ليجعله خليفة المسلمين، ويرفع من شأنه، فلماذا يأمره ويؤكد عليه في أن لا يمر عن طريق الكوفة وقم، وحتى لا يفتتن به الناس؟!.

وأيضاً.. هل يتفق ذلك مع إرجاعه للإمامعليه‌السلام عن صلاة العيد مرتين، لمجرد أنه جاءه من ينذره بأن الخلافة سوف تكون في خطر، لو أن الإمامعليه‌السلام وصل إلى المصلى؟!.. حتى لقد خرج هو بنفسه مسرعاً، وصلى بالناس، رغم تظاهره بالمرض، ورغم زعمه، أنه: كان يريد من الإمام أن يصلي بالناس، من أجل أن تطمئن قلوبهم على دولته المباركة ـ على حد تعبيره ـ بسبب مشاركة الإمامعليه‌السلام في ذلك..

____________

(١) قاموس الرجال ج ١٠ ص ٣٧١، وغيبة الشيخ الطوسي ص ٤٩.

٢٤٩

وأيضاً.. هل يتفق عرضه الخلافة على الإمام، وتنازله عنها له، ثم توليته العهد، وبكاؤه عليه حين وفاته، وبقاؤه على قبره ثلاثة أيام، حسبما سيأتي بيانه.. هل يتفق كل ذلك، مع كتابته لعامله على مصر: يأمره بغسل المنابر التي دعي عليها للإمامعليه‌السلام ، فغسلت؟!(١) .

وبعد.. وإذا كان الإمامعليه‌السلام حجة الله على خلقه، وأعلم أهل الأرض على حد تعبير المأمون، فلماذا يفرض عليه نظرية لا يراها مناسبة، ويتهدده، ويتوعده على عدم قبولها، والأخذ بها؟!.

وأخيراً.. هل يتفق ذلك كله، مع ما أشرنا، ولسوف نشير إليه، من ذلك السلوك اللاإنساني مع الإمامعليه‌السلام ، قبل البيعة، وبعدها، في حياة الإمام، وحين وفاته، وبعدها.. وكذلك سلوكه مع العلويين.

وإخوة الإمام الرضاعليه‌السلام بالذات، ذلك السلوك الذي يترفع حتى الأعداء عن انتهاجه، والالتزام به، إلى آخر ما هنالك مما عرفت، وستعرف جانباً منه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى..

المأمون يرتبك في تبريراته:

ولعل من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: هو أن المأمون لم يكن قد حسب حساباً للأسئلة التي سوف تواجهه في هذا الصدد، ولذا نرى أنه كان مرتبكاً جداً في تبريراته لما أقدم عليه، فهو تارة يعلل ذلك بأنه:

____________

(١) ولا منافاة بينهما في نظر المأمون، فإنه لم يكن يخشى من ردة الفعل في مصر، لأنها بالإضافة إلى بعدها، لم تكن من المناطق الحساسة في الدولة، ولم تكن أيضاً شديدة التعاطف مع العلويين، فهي إذن مأمونة الجانب.. وما كان يخشى منه قد أمنه، بتظاهره أمام الملأ بالحزن الشديد على الإمامعليه‌السلام ، حيث يكون بذلك قد طمأنهم، وأبعد التهمة عن نفسه في المنطقة التي يخشى منها في الوقت الحاضر.. وإلى أن تصل أخبار مصر إلى هذه المناطق الحساسة، فإنه يكون قد تجاوز المرحلة الخطيرة، ولم يعد يخشى شيئاً على الإطلاق..

٢٥٠

أراد مكافأة علي بن أبي طالب في ولده!(١) .

وأخرى: بأن ذلك كان منه حرصا على طاعة الله، وطلب مرضاته، ولما يعلمه من فضل الرضا، وعلمه، وتقاه. وأنه أراد بذلك الخير للأمة. ومصلحة المسلمين!(٢) .

وثالثة: بأنه أراد أن يفي بنذره: أنه إن أظفره الله بالمخلوع ـ يعني أخاه الأمين الذي قتله ـ أن يجعل ولاية العهد في أفضل آل أبي طالب!(٣) .

بل ورابعة: بأنه أراد أن يجعله ولي عهده، ليكون دعاؤه له، وليعتقد فيه المفتونون به إلخ(٤) .. ما سيأتي تفصيله.

مع تبريرات المأمون تلك:

ومن الواضح أن تلك العلل والتبريرات وسواها، مما كان يتعلل به المأمون، كانت مفتعلة قبل أوان نضجها، ولعله لما أشرنا إليه من أنه لم يكن قد حسب حساباً لهذه الأسئلة التي واجهته، فكانت أجوبته متناقضة، متضادة، من موقف لآخر، ومن وقت لآخر.. حتى أن التناقض يبدو في التبرير الواحد، إذ تراه مرة يقول: (إنه نذر أن يجعل الخلافة في ولد علي). وأخرى يقول: (إنه نذر أن يجعل ولاية العهد فيهم). وثالثة: يضيف إليهم آل العباس. وهكذا.

____________

(١) الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٩، والبحار ج ٤٩ ص ٣١٢، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٠٨، والتذكرة لابن الجوزي ص ٣٥٦، ونقل أيضاً: عن شذرات الذهب، لابن العماد، وغير ذلك..

(٢) صرح بذلك وفي وثيقة العهد، وفي الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٧، قال: (كان المأمون قد فكر في حال الخلافة بعده، وأراد أن يجعلها في رجل يصلح لها، كذا زعم..).

وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧ قال: (إن المأمون رأى علياً الرضا خير أهل البيت، وليس في بني العباس مثله، في علمه، ودينه، فجعله ولي عهده من بعده). ومثل ذلك كثير..

(٣) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ومقاتل الطالبيين ص ٥٦٣، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩، ص ١٤٣، ١٤٥، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١١٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وغير ذلك.

(٤) لكن هذا الكلام لم يكن إلا لخصوص العباسيين، كما عرفت وستعرف!!.

٢٥١

ولولا خوف الناس منه، ومن بطشه لوجدنا الكثيرين يسألونه: إنه إذا صح: أنه نذر الخلافة لولد علي، فلماذا قبل منه واكتفى بولاية العهد؟!، إذ قد كان عليه أن يجبره على قبول الخلافة، كما أجبره على قبول ولاية العهد.. وإذا صح أنه نذر له ولاية العهد، فلماذا عرض عليه الخلافة، وأصر عليه بقبولها.

وإننا وإن لم نجد لهذه الأسئلة، وسواها أثراً فيما بأيدينا من كتب التاريخ. إلا أننا رأينا الشواهد الكثيرة الدالة على أن الناس كانوا يشكون كثيراً في نوايا المأمون وأهدافه مما أقدم عليه.

وحسبنا هنا: ما رواه لنا الصولي، والقفطي، وغيرهما من قضية عبد الله بن أبي سهل النوبختي المنجم، حيث أراد اختبار ما في نفس المأمون، فأخبره أن وقت البيعة للإمامعليه‌السلام كان غير صالح، فأصر المأمون على إيقاع البيعة في ذلك الوقت، وتهدده بالقتل إن حدث تغيير في الوقت والموعد، وقد تقدمت القصة بكاملها تقريباً في فصل سابق، وقد ذهب إلى ذكره غير واحد من المؤلفين(١) .

____________

(١) تاريخ الحكماء ٢٢٢، ٢٢٣، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص ١٤٢، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١١٤. والبحار ج ٤٩، ص ١٣٢، ١٣٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٧، ١٤٨، وغير ذلك..

٢٥٢

الإمام يدرك أهداف المأمون من عرض الخلافة:

ولعلنا نستطيع أن نجد فيما قدمناه في هذا الكتاب ما يفسر لنا موقف الإمامعليه‌السلام من المأمون.. ذلك الموقف الذي لم يكن يتسم بالمهادنة، أو الموافقة أصلاً. بل كان قاسياً وعنيفاً في مقابل عرض المأمون للخلافة عليه، كما ألمحنا إليه في باب: (عرض الخلافة، ورفض الإمام).

وما ذلك.. إلا لأنه كان يعلم أنها لعبة خطيرة، تحمل في طياتها الكثير من المشاكل والأخطار، سواء بالنسبة إليهعليه‌السلام ، أو بالنسبة إلى العلويين، أو بالنسبة إلى الأمة بأسرها..

ولقد كانعليه‌السلام يدرك: أن المأمون كان يرمي من وراء هذا العرض إلى أن يعرض حقيقة نوايا الإمامعليه‌السلام ، ويستظهر دخيلة نفسه، حتى إذا ما رآه راغبا فيها رغبة حقيقية، سقاه الكأس، التي سقاها من قبل لمحمد بن محمد بن يحيى بن زيد، صاحب أبي السرايا، ومن بعد لمحمد بن جعفر، وطاهر بن الحسين، وغيرهم، وغيرهم.. وإنه كان يريد أن يجعل ذلك ذريعة لفرض ولاية العهد، وتمهيدا لإجباره على قبولها، لأن ما يحقق له مآربه، ويوصله إلى غاياته، التي تحدثنا عن جانب منها في فصل: ظروف البيعة.. هو قبول الإمام لولاية العهد، لا الخلافة.. كما أن هذا هو الذي يمكن أن يكون ممهدا لتنفيذ الجزء التالي من خطته، ألا وهو القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم.

ومن ثم.. وبعد كل ما تقدم.. تكون النتيجة هي: أن المأمون لم يكن جاداً في عرضه للخلافة، وإنما فقط كان جاداً في عرضه لولاية العهد.

ويبقى هنا سؤال:

(لو أن الإمام قبل عرض الخلافة، فماذا ترى سوف يكون موقف المأمون؟!.

والجواب:

أولاً: وقد يمكن الاقتناع بالجواب هنا لو قيل: بديهي أن المأمون كان قد أعد العدة لأي احتمال من هذا النوع..

وقد كان يعلم أنه يستحيل على الإمام، خصوصاً في تلك الظروف: أن يقبل عرض الخلافة، من دون إعداد مسبق لها، وتعبئة شاملة لجميع القوى، وفي مختلف المجالات، ولسوف يكون قبوله لها بدون ذلك عملاً انتحارياً، لا مبرر له، ولا منطق يساعده.

٢٥٣

إذ من البديهي أن الإمام الذي كان يعلم كم كان للقائد الحقيقي، والمصلح الواعي، من أثر في حياة الأمة، وفي مستقبلها، وكيف يمكن أن تتحد في ظله قدرات الأمة ـ أفراداً وجماعات ـ وإمكاناتها المادية، والفكرية وغيرها في طريق صلاحها، وإصلاحها..

ويعلم أيضاً: كيف يكون الحال، لو كان القائد فاسداً، حتى بالنسبة لما يبدو من تصرفاته في ظاهره صحيحاً وسليماً..

إن الإمام الذي كان يعلم ذلك وسواه ـ وبصفته القائد الحقيقي للأمة، لو حكم، فلا بد له أن يقيم دولة الحق والعدل، ويحمل الناس على المحجة، ويحكم بما أنزل الله، كما حكم جده محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبوه عليعليه‌السلام من قبل.. وحكمه هذا سوف يكون مرفوضاً جملة وتفصيلاً، لأن الناس، وإن كانوا عاطفياً مع أهل البيتعليهم‌السلام ، إلا أنهم حيث لم يتربوا تربية إسلامية صحيحة، وصالحة، إذا أراد العلويون، أو غيرهم حملهم على المحجة، فلسوف لا ينقادون لهم بسهولة، ولا يطيعونهم بيسر، ولسوف يكون الحكم بما أنزل الله غريبا على أمة اعتادت

على حياة خلفاء بني العباس، ومن قبلهم بني أمية المليئة بالانحرافات والموبقات.

أولئك الخلفاء الذين كانوا في طليعة المستهترين، والمتحللين من كل قيود الدين والإنسانية، والذين كانوا يتساهلون في كل شيء، ما دام لا يضر بوجودهم في الحكم..

نعم.. في كل شيء على الإطلاق، حتى في الدين وأحكامه، والأخلاق، والمثل العليا، وما ذلك إلا لأنهم لم يكن همهم إلا الحكم، والتسلط، وامتصاص دماء الشعوب، ولا يهمهم ـ بعد ـ أن يفعل الناس ما شاءوا. ليتستروا بالدين، ليكفروا بالله، ليتحللوا من الأخلاق والفضائل الإنسانية، ليأكل بعضهم بعضاً، ليكونوا أنعاماً سائمة، أو ليكونوا وحوشاً ضارية، فإن ذلك كله لا يضر.

والذي يضر فقط هو: أن يتعرضوا للحكم، ويفكروا بالسلطان، كيفما كان التعرض، وأياً كان التفكير. وإذا كان الإمام عليعليه‌السلام عندما أراد أن يحكم بما أنزل الله تعالى، قد لاقى ما لاقى مما لا يجهله أحد.. رغم ما سمعته الأمة من فم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة في حقه، وقرب عهدها به. فكيف بعد أن مرت عشرات السنين، وأصبح الانحراف عادة جارية، وسنة متبعة، واتخذ نحواً من الأصالة في حياة الأمة، وروحها، وأصبح ـ للأسف ـ جزءاً لا يتجزأ من كيانها وواقعها..

وأيضاً.. إذا كان أبو مسلم قد قتل ست مئة ألف نفس صبراً، عدا مئات الألوف الأخرى، التي ذهبت طعمة للسيوف في المعارك.

٢٥٤

وإذا كانت ثورة أبي السرايا قد كلفت المأمون (٢٠٠) ألف جندي، من جنوده هو.. وإذا كان العصيان ما انفك يظهر من كل جانب ومكان، رغم أن

الحكم كان أولاً وآخراً مع أهواء الناس، ومصالحهم الشخصية..

فهل يمكن مع هذا.. أن لا يتعرض الإمامعليه‌السلام لعصيان أصحاب الأهواء ـ وما أكثرهم ـ والكيد من قبل الأعداء، الذين سوف يزيد عددهم، وتتضاعف قوتهم. عندما يحاول الإمامعليه‌السلام أن يفرض عليهم حكماً ما اعتادوه، وسلوكاً ما ألفوه؟!..

إن من الواضح: أن الناس وإن كانت قلوبهم معه، إلا أن سيوفهم سوف تنقلب لتصير عليه، كما انقلبت على آبائه وأجداده من قبل، وذلك عندما لا ينسجم حكمهعليه‌السلام مع رغائبهم. وأهوائهم، وانحرافاتهم. حيث إن الإمامعليه‌السلام إذا أراد أن يحكم، فلسوف يواجه ـ بطبيعة الحال ـ تلك العناصر القوية، ذات النفوذ، وأولئك المستأثرين بكل الأموال والأقطاع، من أصحاب الأطماع، والمصالح الشخصية، وجهاً لوجه.. إذ أننا لا يمكن أن ننتظر من حكومة الإمام، التي هي على الفرض حكومة الحق، والعدل: أن تقرهم على ما هم عليه، فضلاً عن أن توفر لهم الحماية لتصرفاتهم المشبوهة، وغير المنطقية، بل حتى ولا الأخلاقية أيضاً. إن حكومة الإمامعليه‌السلام ، إذا أرادت أن تقوم بعمل أساسي في سبيل استئصال كل جذور الانحراف والفساد.. فإن عليها أولاً، وقبل كل شيء، أن تقوم بقطع أيدي أولئك الغاصبين لأموال الأمة، والمتحكمين بمقدراتها. وإبعاد كل أولئك الذين كانوا يستغلون مناصبهم، التي وصلوا إليها عن طريق الظلم، والغطرسة، والابتزاز ـ يستغلونها ـ لمآربهم الشخصية، وانحرافاتهم اللاأخلاقية. ثم. قطع أعطيات ذلك الفريق من الناس، الذين كانوا يعيشون على حساب الأمة، ويأكلون خيراتها. ثم لا يقومون في مقابل ذلك بأي عمل، أو نشاط يذكر.

وأيضاً.. منع المحسوبيات، والوساطات، من أصحاب الوجاهات، الذين كانت تسيرهم الروح القبلية، ويهيمن عليهم الشعور الطبقي في دولة الأطماع والمزايدات، أو دولة التهديد، والعسف، والإرهاب.

يضاف إلى ذلك كله.. أنه إذا أراد الإمامعليه‌السلام أن ينطلق في كل نصب وعزل من مصلحة الأمة، لا من مصلحة الحاكم والقبيلة، فطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إثارة القبائل ضده، ويؤلبهم عليه.. فزعماء القبائل سواء كانوا عرباً أو فرساً كانوا يلعبون دوراً هاماً في إنجاح أية ثورة وقيام أية دعوة واستمرار ونجاح أي حكم.

٢٥٥

وبعد كل ذلك، فإن من الطبيعي إذن: أن يستفحل الصراع بينه، وبين العناصر القوية، ذات النفوذ، من أصحاب الأهواء، والمصالح الشخصية، وأولئك الذين يعتمل في نفوسهم طموح كبير، نحو زبارج الدنيا، وبهارجها. وذلك عندما يعطي القيمة الحقيقية لهؤلاء جميعاً، ويجعلهم في المستوى الذي يجب أن يكونوا فيه، ويحدد ويقيِّم لهم واقعهم الذي لن يرضوا أبداً بتحديده وتقييمه. وعلى الأقل لن تساعده تلك العناصر على تصحيح الوضع، وإقرار النظام.. هذا إن لم تكن هي العقبة الكأداء، التي تحول بينه وبين ما يصبو إليه، وتمنعه من تحقيق ما يريد..

يضاف إلى ذلك كله: أن القيادة القبلية كانت قد فسدت آنذاك، واعتاد رؤساء القبائل على نكث العهود والمواثيق التي يعطونها، فكانوا يؤيدون هذه الدعوة، وهذا القائم بها، إلى أن يجدوا من يستفيدون منه، ويغدق عليهم أكثر من الأموال، ويخصهم بما يفضل ما يخصهم به ذاك من المناصب. وكان للقيادات القبلية دور كبير في إنجاح أية دعوة، وانتصار أية ثورة..

وبعد.. فإنه إذا كان الإمامعليه‌السلام لن يحابي أحداً على حساب دينه ورسالته.. وإذا كان ـ من الجهة الأخرى ـ مركزه ضعيفاً في الحكم. وإذا كان ليس لديه القوة والقدرة الكافية لمواجهة مسؤولياته كاملة.

فلسوف ينهار حكمه وسلطانه أمام أول عاصفة تواجهه، ولن يستطيع أن يبقى محتفظاً بوجوده في الحكم، أو على الأقل بمركز يخوله أن يفرض الحكم الذي يريد على المجتمع، بجميع فئاته، ومختلف طبقاته.

إلا أن يكون حاكماً مطلقاً، لا تحد سلطته حدود، ولا تقيدها قيود، وأنى له بذلك.

وبعد كل ما تقدم، فإن النتيجة تكون، أن الإمامعليه‌السلام ، وإن كان يمتلك القدرة على الإصلاح، لكن الأمة لم تكن لتتحمل مثل هذا الإصلاح، خصوصاً وأن الحكام ـ بوحي من مصالحهم الخاصة ـ كانوا قد أدخلوا في أذهان الناس صوراً خاطئة عن الحكم، وعن الحكام، الذين يفترض فيهم أن يقودوا الأمة في مسيرها إلى مصيرها.

هذا كله.. لو فرض ـ جدلاً ـ سكوت العباسيين والمأمون عنه، مع أن من المؤكد أنهم سوف يعملون بكل ما لديهم من قوة وحول، من أجل تقويض حكمه، وزعزعة سلطانه.

وإذا كان يستحيل على الإمامعليه‌السلام ، في تلك الفترة على الأقل: أن يتسلم زمام السلطة إلا أن يكون حاكماً مطلقاً كما قدمنا. فمن الواضح أن سؤالاً من هذا النوع لا مجال له بعد. ولن يكون في تجشم الإجابة عليه كبير فائدة، أو جليل أثر.

٢٥٦

ولكن.. مع ذلك، وحتى لا نفرض على القارئ وجهة نظر معينة، إذ قد يرى أن من حقه أن يفترض ـ وإن أبى واقع الأحداث مثل هذا الافتراض ـ أنه كان على الإمامعليه‌السلام : أن يجاري، ويداري في بادئ الأمر، من أجل الوصول إلى أهداف فيها خير الأمة ومصلحتها، من أجل ذلك.. نرى لزاماً علينا أن نجاريه في هذا الافتراض، ونتجه إلى الإجابة على ذلك السؤال بنحو آخر، فنقول:

وثانياً: إنه إذا كان المأمون في تلك الفترة هو الذي يمتلك القدرة والسلطان.. وإذا كانت كل أسباب القوة والمنعة متوفرة لديه بالفعل، فإنه سوف يسهل عليه ـ إذا لم يكن حكم الإمامعليه‌السلام على وفق ما يشتهي، وحسبما يريد ـ: أن يأخذ على ذلك الحكم: (الذي يرى نفسه، ويرى الناس أنه مدين للمأمون) أقطار الأرض، وآفاق السماء. ولن يصعب عليه تصفيته، والتخلص منه من أهون سبيل، حيث إنه حكم لا يزال، ولسوف يسعى المأمون لأن يبقيه في المهد، يستطيع المأمون أن ينزل به الضربة القاصمة القاضية متى شاء، دون أن تعطى له الفرصة لحشد قدراته، وتجميع قواه في أي من الظروف والأحوال.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الإمامعليه‌السلام سوف يكون بين خيارين لا ثالث لهما: فإما أن يحاول تحمل المسؤولية الحقيقية، بكل أبعادها، وتبعاتها، باعتباره القائد الحقيقي للأمة، ويقدم على كل ما تقدمت الإشارة إليه من إصلاحات جذرية في جميع المجالات، وعلى مختلف المستويات، مما سوف يكون من نتائجه أن يعرض نفسه للهلاك، حيث لا يستطيع الناس، والمأمون وأشياعه تحمل ذلك، والصبر عليه، ويكون له ولهم كل العذر في تصفيته، والتخلص منه.

وإما أن لا يتحمل مسؤولية الحكم، ولا يأخذ على عاتقه قيادة الأمة، وإنما تكون مهمته، وما يأخذه على عاتقه هو فقط تنفيذ إرادات المأمون، وأشياعه من المنحرفين. ويكون هو الواجهة التي يختفي وراءها الحكام الحقيقيون، المأمون ومن لف لفه..

وواضح: أن نتيجة ذلك سوف تكون أعظم خطراً على الإمام، وعلى العلويين، وعلى الأمة بأسرها، وأشد فداحة من نتيجة الخيار السابق، حيث يكون قد قضى بذلك على كل آمال الأمة، وكل توقعاتها. وذلك هو كل ما يريده المأمون، ويسعى من أجل الحصول عليه، بكل ما أوتي من قوة وحول.

٢٥٧

وثالثاً: إن من الواضح: أن عرض المأمون التنازل عن الخلافة للإمامعليه‌السلام ، لا يعني أبداً أن المأمون سوف لا يحتفظ لنفسه بأي من الامتيازات، التي تضمن له ـ في نظره ـ نصيباً من الأمر(١) . ولسوف يرى الناس كلهم أن له كل الحق في ذلك.

كما أن ذلك لا يعني أنه سوف لا يعود له نفوذ في الأوساط ذات النفوذ والقوة. بل إنني أعتقد أنه سوف يكون في تلك الحال أقوى بكثير منه في غيرها، حتى أن المنصب للإمامعليه‌السلام ، قد يكون شكلياً، ومركزه صورياً، لا حول له فيه ولا قوة.

وحينئذٍ.. وإذا كان المأمون سوف يبقى له نفوذ وقوة، وإذا كان سوف يشترط لتنازله عن الخلافة للإمام، ما يضمن له استمرار تلك القوة، وذلك النفوذ، بل وعودة الخلافة له في نهاية الأمر. فلسوف لا يصعب عليه كثيراً أن يدبر ـ وهو الداهية الدهياء ـ في الإمامعليه‌السلام بما يحسم عنه مواد بلائه، على حد تعبير المأمون.

وليطمئن ـ من ثم ـ خاطره، ويهدأ باله، حيث يكون قد حقق كل ما كان يصبو ويطمح إلى تحقيقه. كما أنه يكون قد أصبح يمتلك اعترافاً من العلويين بشرعية خلافته.. بل يكون العلويون على يد أعظم شخصية فيهم، هم الذين رفعوه على العرش وسلموا إليه أزمة الحكم والسلطان..

إلى آخر ما هنالك مما قدمناه، ولا نرى ضرورة لإعادته.

وفي النهاية:

والآن.. وبعد أن ألقينا نظرة سريعة على مدى جدية المأمون، في عرضه للخلافة على الإمامعليه‌السلام ، وتحدثنا عن الوضع الذي سوف ينتج لو أن الإمام قبل ذلك العرض.. فإن من الطبيعي أن نتطلع لنعرف ما هو موقف الإمام من تلك اللعبة ـ لعبة ولاية العهد ـ وما هي خطته في مواجهة ما يعلمه من خطط المأمون، وأهدافه الشريرة.

فإلى الفصل التالي، والذي بعده..

____________

(١) كأن يشترط أن يكون هو الوزير، أو ولي العهد مثلاً.

٢٥٨

موقف الإمامعليه‌السلام

سؤال يطرح نفسه:

هل يعقل أن رجلاً تعرض عليه الخلافة، أو ولاية العهد، بل ما هو أقل منهما بمراتب، ويعرف جدية العرض، ثم يرفض ذلك رفضاً قاطعاً، ثم يهدد، فلا يقبل إلا بما هو أبعد منالا، وأقل احتمالاً ـ بالنسبة إلى سنه ـ وبشروط تبعده كل البعد عن مسرح السياسة والحكم، وتجعل من كل شيء مجرد إجراءات شكلية، لا أثر لها.

هل يعقل أن رجلاً من هذا القبيل ـ يسلم من أن ينسب إلى ما لا يرضى أحد بأن ينسب إليه؟!. اللهم إلا إذا كان هناك ما هو أعظم، وأدهى وأخطر من ذلك المنصب، وإلا إذا علم أنه سوف يدفع ثمن ذلك غالياً، وغالياً جداً، ألا وهو نفسه التي بين جنبيه!.

والإمام. الذي نعرف، ويعرف كل أحد: أنه ذلك الرجل الجامع لكن صفات الفضل والكمال: من العلم، والعقل، والحكمة، والدراية، والتقى، شهد له بذلك أعداؤه ومحبوه، على حد سواء ـ هذا الإمام. قد رفض كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد.. رفضهما رفضاً باتاً وقاطعاً، ولم يقبل ولاية العهد إلا على كره وإجبار منه، وإلا وهو باك حزين، وعاش بعد ذلك في ضيق شديد، ومحنة عظيمة، حتى إنه كان يدعو الله بالفرج بالموت!.

وعليه.. أفلا يكفي موقف الإمام هذا، وسائر مواقفه من مختلف تصرفات المأمون، لأن يضع علامة استفهام كبيرة حول طبيعية هذا الحدث؟!.

ألم يكن من الواجب أن يكون الإمامعليه‌السلام مستبشراً مبتهجاً كل الابتهاج لما سيؤول إليه أمره. ومدافعاً عن المأمون، ونظام حكمه، ومناصراً له، بكل ما أوتي من قوة وحول؟!.

ثم ألا يفهم من ذلك كله: أنهعليه‌السلام كان يدرك ما يكمن وراء قبوله لأي من العرضين من مشاكل، وما ينتظره من أخطار؟!.

وأن ذلك ليس إلا شركاً يقصد إيقاعه به، ومن بعده كل العلويين وشيعتهم، للقضاء عليه وعليهم، وإلى الأبد!!.

٢٥٩

وإذا كان الإمامعليه‌السلام يعرف الحقيقة.. فهل يمكن أن نتصور أن يكون راضيا بأن يجعله المأمون وسيلة لأغراضه، وآلة لتحقيق مآربه وأهدافه!!. سيما إذا لاحظنا أنه يعرف أكثر من أي إنسان آخر ما لتلك اللعبة من عواقب سيئة، وما تحمله في طياتها من آثار، ليس عليه هو، وعلى العلويين، والمتشيعين لهم فحسب. وإنما على الأمة بأسرها إن حاضراً، وإن مستقبلاً!؟.

هذا كله عدا عن أن هذه اللعبة سوف تكون بمثابة قطع الطريق عليه في أي تحرك يقوم به، وأي نشاط إصلاحي يمارسه، حيث لم يعد يستطيع أن يكون في المستقبل قائداً للحركة المضادة للمأمون، ونظام حكمه، القائم على غير أساس شرعي، ومنطقي سليم(١) .

لا يرضى الإمامعليه‌السلام ، ولا يقتنع المأمون:

لا.. لا يمكن أن يرضى الإمام بذلك، وخصوصاً بعد أن تلقى العلم عن آبائه الصادقين، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: بأن ذلك شيء لا يتم، وأوضح ذلك بما كتبه على وثيقة العهد الآتية بخط يده، حيث قال: (والجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك، لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين.).

لا.. لا يمكن أن يرضى ببيعة يعلم أنها لا تتم له، وإنما تخدم مصالح آخرين. وتحقق لهم مأربهم، على حساب الدين، والأمة، ولهذا رفض بشدة وعنف، وأصر عليه المأمون بشدة وعنف أيضاً. ولم يكن ليقنع المأمون شيء، بعد أن كان يرى أن القضية بالنسبة إليه قضية مصير ومستقبل، وهو مستعد لأن يضحي بكل شيء في سبيل مصيره ومستقبله، كما ضحى بأخيه وأشياعه من قبل.

وإنه إذا تأكد لديه رفض الإمامعليه‌السلام القاطع، وتصور ما سوف تؤول إليه حاله نتيجة لذلك الرفض، فلسوف لا يألو جهداً، ولا يدخر وسعاً في الانتقام لنفسه من الإمامعليه‌السلام ، ومن كل من تصل إليه يده، ممن له بهعليه‌السلام أية صلة أو رابطة.

____________

(١) وفي كتاب: الإمامة للشيخ محمد حسن آل ياسين ص ٨٦، قال إنهعليه‌السلام وافق على فكرة ولاية العهد، لتكون فترة امتحان وتجربة للمأمون. ولا يخفى ما فيه، فإن كل الدلائل والشواهد كانت تشير إلى أن الإمامعليه‌السلام كان يعلم بحقيقة نوايا المأمون وأهدافه، ولم تكن ثمة حاجة إلى امتحان وتجربة، كما اتضح وسيتضح إن شاء الله تعالى.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538