مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن13%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 273782 / تحميل: 6523
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

هي أنّه تعلّقت مشيئته سبحانه على نزول الوحي نجوماً ـ أي فترة بعد فترة ـ حسب المقتضيات والأسباب الموجبة لنزوله أوّلاً، وتثبيت فؤاد النبي بذلك ثانياً، قال سبحانه مشيراً إلى مشيئته الحكيمة:

( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) ( الأسراء / ١٠٦ ). وقال سبحانه مشيراً إلى أنّ من بواعث نزول الوحي تدريجيّاً كونه سبباً لتثبيت فؤاده:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان / ٣٢ ) فعلى ضوء ذلك لم يكن هناك إلّا مسألة طبيعية على صعيد الوحي وهو نزوله تدريجيّاً لا دفعة واحدة، غير أنّ المشركين الجاهلين بمشيئته سبحانه وأسرار نزول الوحي تدريجيّاً، كانوا يترقّبون نزول الوحي عليه دوماً وفي كل يوم وساعة، أو نزول مجموع الشريعة دفعة واحدة كما نزلت التوراة على موسى. قال سبحانه:( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) ( الأعراف / ١٤٥ ). فلمّا شاهدوا خلاف ما كانوا يترقّبونه من مدّعي النبوّة إنصرفوا إلى اتّهام النبي بأنّه ودّعه ربّه الذي ينزّل عليه الوحي أو الشيطان الذي يلهمه على حدّ تعبيرهم.

فحصيلة البحث: انّه لم يكن هناك إنقطاع ولا فتور ولا سبب من الأسباب المذكورة في الروايات بل كان مجرّد توهّم توهّموه.

ثُمّ إنّ المعروف بين المفسّرين أنّ سورة الضحى حسب الترتيب النزولي، السورة الحادية عشرة، وكانت الاُولى هي العلق، فالقلم، فالمزّمّل، فالمدّثّر، فلهب، فالتكوير، فالأعلى، فالإنشراح، فالعصر، فالفجر، فالضحى(١) .

والظاهر ممّن ينقل مسألة إنقطاع الوحي وفتوره أنّها نزلت في بدء الوحي بعد إنقطاعه أي نزل بعد العلق أو بعد المدثّر مع أنّها نزلت متأخّرة، وكان الوحي ينزل على النبي تترى حسب مقتضيات الظروف والمناسبات والوقائع والأحداث.

__________________

(١) تاريخ القرآن للزنجاني: ص ٣٦.

١٢١

نعم ذكر اليعقوبي أنّ سورة « الضحى » هي السورة الثالثة، ولعلّه متفرّد في ذلك القول(١) .

مراحل الدعوة الثلاث

نزل الأمين جبرئيل مبشّراً النبي الأكرم بالنبوّة والرسالة، وألقى على عاتقه مقاليد مهامّها هداية الاُمّة، التي يصوّرها قوله سبحانه:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) ( المزّمّل / ٥ ).

وقوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) ( المدّثّر / ١ ـ ٣ ) وأيّ مسؤولية أثقل من مسؤولية هداية الاُمّة الغارقة في ظلمات الجهل وأوحال عبادة الأصنام والأوثان، المنغمسة في الدنيا، المعرضة عن الآخرة، فقام الرسول مؤدّياً رسالته مستضيئاً بهدى الوحي قد قطعت رسالته مراحل ثلاث حتّى تكلّلت بالنجاح وبلغت الغاية المنشودة، وإليك تبيين هذه المراحل التي أشار إليها القرآن الكريم في مواضع متفرّقة.

المرحلة الاُولى: السرّية في الدعوة

إتّخذ الرسول الدعوة السرّية خطوة اُولى خطاها في سبيل تحقيق إنجاح الدعوة الإلهيّة، ولم يكن الغرض من التركيز على السرّيّة في الدعوة الخوف على نفسه وصيانتها من كيد الأعداء، بل هذه هي الخطّة الرائجة بين الدعاة المخلصين، فلا يجهرون بالدعوة، ولا يعلنونها بادئ بدء، بل يبدأون بعرض الدعوة سرّاً على الأفراد الذين يطمئنّون لهم ـ ولأجل ذلك ـ بدأ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالدعوة السرّية إلى الاسلام فدخل تحتها عدّة من الشباب، فتعلّموا الفرائض والسنن سرّاً وكانوا يذهبون إلى شعاب مكّة فيقيمون الفرائض فيها.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي: ج ٢، ص ٣٣.

١٢٢

وهذه الثلّة القليلة الّتي تشرّفت باعتناق الإسلام، هم الذين يعبّر عنهم القرآن الكريم بقوله:( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ *أُولَٰئِكَ المُقَرَّبُونَ ) ( الواقعة / ١٠ و ١١ ).

فكان النبي الأكرم يعرض دعوته على من يتفرّس فيه علائم قبول الإسلام ولذلك لـمّا هبط من غار حراء عرضه على زوجته خديجة وابن عمّه عليّ، وقد تمكّن الإسلام بذلك في قلوب عدّة سجّلت أسماؤهم في التاريخ(١) مثل زيد بن حارثة وعثمان بن مظعون وقدامة بن مظعون وغيرهم. يقول ابن هشام في تفسير قوله:( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) أي بما جاءك من الله من نعمته وكرامته، من النبوّة فحدّث أي أذكرها، فادع إليها، فجعل رسول الله يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوّة سرّاً إلى من يطمئنّ إليه من أهله(٢) .

وليس في الذكر الحكيم آية تكشف عن أحداث هذه المرحلة غير ما ذكرنا من الآيتين، فمن أراد التفصيل فيجب عليه أن يرجع إلى كتب السيرة النبويّة، ولنكتف ببعض ما جاء في المقام.

١ ـ روى ابن هشام عن ابن إسحاق أنّه ذكر بعض أهل العلم: انّ رسول الله كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه عليّ بن أبي طالب مستخفياً من أبيه ومن جميع أعمامه وسائر قومه فإذا أمسيا رجعا ومكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ثمّ أسلم زيد بن حارثة وكان أوّل ذكر أسلم وصلّى بعد عليّ بن أبي طالب(٣) .

٢ ـ روى الطبري عن جابر قال: بعث النبي يوم الاثنين وصلّى عليٌّ يوم الثلاثاء، وروي عن زيد بن أرقم قال: أوّل من أسلم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالب، ويقول عليٌّ: أنا عبد الله وأخو رسوله أنا الصّدّيق الأكبر

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٢٤٧ ـ ٢٦٢.

(٢) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٢٤٣.

(٣) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٢٤٦.

١٢٣

لا يقولها بعدي إلّا كاذب مفتر صلّيتُ مع رسول الله قبل الناس بسبع سنين(١) .

ولعلّ بعض هذه السنين يرجع إلى ما قبل البعثة حيث إنّ الرسول كان يتعبّد لله سبحانه في غار حراء في كل سنة.

٣ ـ يقول ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا صلّوا ذهبوا في الشعاب فاستخْفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقّاص في نفر من أصحاب رسول الله في شعب من شعاب مكّة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقّاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحى بعير، فشجَّه، فكان أوّل دم أهريق في الإسلام(٢) .

اتّخاذ النبي دار الأرقم مركزاً لنشر الدعوة.

كان النبي يؤدّي رسالته مستخفياً من قريش بمكّة ويعرض الإسلام لمن يطمئن إليه، وقد ألجأته الظروف إلى اتّخاذ بيت لتبليغ تعاليمه، وإقامة المؤمنين فيها فرائضهم، وقد وقع الإختيار على دار الأرقم بمكّة على الصفا(٣) مركزاً لهذه المهمّة فدخلصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه مستخفين فيها بعد وقوع الصدام بين سعد ابن أبي وقّاص وبعض المشركين، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه يقيمون الصلاة بها ويعبدون الله فيها إلى أن أمره الله تعالى بالإعلان عنها، فامتثل صادعاً بما اُمر، وقد اختلفت كلمة أصحاب السيرة في مدّة هذه المرحلة بين ثلاث سنين إلى خمس سنين، كما اختلفوا في مدّة اقامتهم في دار زيد بن الأرقم بين كونه

__________________

(١) تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٥٦، وفيه نصوص اُخرى على أنّهعليه‌السلام أوّل من آمن برسول الله.

(٢) السيرة النبويّة: ج ١، ص ٢٦٢.

(٣) هي المعروفه الآن بدار الخيزران عند الصفا، اشتراها الخليفة المنصور وأعطاها ولده المهدي، ثمّ أعطاها المهدي للخيزران اُمّ ولديه: موسى الهادي وهارون الرشيد. لاحظ: السيرة الحلبيّة: ج ١، ص ٢٨٣.

١٢٤

شهراً أو أزيد، كما اختلفت كلمتهم في عدد المؤمنين بالنبي في تلك المرحلة فقد أنهاه ابن هشام في سيرته معتمداً على سيرة ابن إسحاق بما يربو على خمسين بين رجل وامرأة وإن كان الأكثر هم الرجال، ولأجل أن يقف القارئ على هؤلاء الأشخاص وأسمائهم نستعرض ذكرهم إجمالاً على النحو التالي.

١ ـ خديجة بنت خويلد ( زوجة النبي ). ٢ ـ عليّ بن أبي طالب. ٣ ـ زيد بن حارثة. ٤ ـ أبو بكر. ٥ ـ عثمان بن عفّان. ٦ ـ عبد الرحمن بن عوف. ٧ ـ الزبير بن العوّام. ٨ ـ سعد بن أبي وقّاص. ٩ ـ طلحة بن عبيد الله. ١٠ ـ أبو عبيدة. ١١ ـ أبو سلمة. ١٢ ـ أرقم. ١٣ ـ قدامة بن مظعون. ١٤ ـ عبد الله بن مظعون. ١٥ ـ عبيدة بن الحارث. ١٦ ـ سعيد بن زيد. ١٧ ـ امرأته ( فاطمة بنت الخطاب ). ١٨ ـ أسماء بنت أبي بكر. ١٩ ـ خبّاب بن الأرت. ٢٠ ـ عمير بن أبي وقّاص. ٢١ ـ عبد الله بن مسعود. ٢٢ ـ مسعود بن القارئ. ٢٣ ـ سليط بن عمرو. ٢٤ ـ حاطب بن عمرو. ٢٥ ـ عيّاش بن أبي ربيعة. ٢٦ ـ أسماء بنت سلامة. ٢٧ ـ خنيس بن حذافة. ٢٨ ـ عامر بن ربيعة. ٢٩ ـ عبد الله بن جحش. ٣٠ ـ أبو أحمد بن جحش. ٣١ ـ جعفر بن أبي طالب. ٣٢ ـ أسماء بنت عميس. ٣٣ ـ حاطب بن الحارث. ٣٤ ـ حطّاب بن الحارث ٣٥ ـ معمّر بن الحارث. ٣٦ ـ سائب بن عثمان بن مظعون. ٣٧ ـ مطلب بن أزهر. ٣٨ ـ زوجته ( رملة بنت أبي عوف ). ٣٩ ـ نعيم بن عبد الله. ٤٠ ـ عامر بن فهيرة. ٤١ ـ خالد بن سعيد. ٤٢ ـ اُميّة بنت خلف. ٤٣ ـ أبو حذيفة. ٤٤ ـ واقد بن عبد الله. ٤٥ ـ خالد بن بكير. ٤٦ ـ عامر بن بكير. ٤٧ ـ عاقل بن بكير. ٤٨ ـ اياس بن بكير. ٤٩ ـ عمّار بن ياسر ٥٠ ـ صهيب بن سنان(١) .

هذا ما ذكره ابن هشام، وقد ذكر في ثنايا كلامه ممّن آمن في تلك الفترة عائشة بنت أبي بكر، وهو غير صحيح جدّاً لأنّها ولدت في السنة الرابعة من البعثة، وقد عقد عليها النبي في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين وهي بنت ست سنين، وبنى بها رسول

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١، ص ٢٦٢.

١٢٥

الله وهي بنت تسع بالمدينة في شوال في السنة الاُولى من الهجرة، فكيف تكون من المؤمنات في المرحلة السرّية ؟(١) .

أضف إلى ذلك أنّ أبا ذر من السابقين إلى الإسلام وقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن طريق أبي ذر، قال: كنت في الإسلام خامساً، وفي لفظ أبي عمرو وابن الاثير: « أسلم بعد أربعة »، وفي لفظ آخر يقال: « أسلم بعد ثلاثة »، ويقال: « بعد أربعة »، وفي لفظ الحاكم: « كنت رابع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع »، وفي لفظ أبي نعيم: « كنت رابع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة وأنا الرابع »، وفي لفظ المناوي: « أنا رابع الإسلام »، وفي لفظ ابن سعد من طريق ابن أبي وضّاح البصري: « كان إسلام أبي ذر رابعاً أو خامساً »(٢) .

وقد ذكر الشيخان في الصحيحين وابن سعد في طبقاته كيفيّة إسلامه ومن أراد فليرجع إليهما.

المرحلة الثانية: دعوة الأقربين

إجتازت الدعوة المحمّدية المرحلة السرّية إلى مرحلة ثانية بعد ما آمن به جماعة من قريش وغيرهم ودخل الناس في الإسلام آحاداً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكّة، فتحدّث به القريب والنائي، فعندئذٍ أمر سبحانه بدعوة الأقربين، بقوله:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) ( الشعراء / ٢١٤ ـ ٢١٦ ).

إنّ المعاجلة والمسارعة لدعوة العشيرة الأقربين قبل البدء بإعلان الدعوة العامّة يمكن أن يكون فيها سرّ إجتماعي وتوضيحه بما يلي:

__________________

(١) لاحظ: أعلام النساء: ج ٣ ص ١١ نقلاً عن طبقات ابن سعد وسنن النسائي وصحيح البخاري وشرح الزرقاني على المواهب والسمط الثمين.

(٢) الغدير: ج ٨ ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

١٢٦

أوّلاً: إنّ النبي الأكرم كان مطّلعاً على أنّ قومه سوف يجابهونه بالعنف والشدّة ويتآمرون للقضاء عليه قبل تمكّنه من تحقيق اُمنيته، فصيانة الدعوة من مكائد الأعداء مرهونة بوجود قوّة داخلية تحصّنها من غوائلهم ولا يمكن تصوّرها إلّا في قومه وعشيرته من آل هاشم.

وثانياً: إنّ إنقياد قومه لدعوته وعشيرته لدعوته لدليل واضح على قداسته ونزاهته وصدق كلامه وانّهم ما رأوا منه إلا الصدق والصلاح طيلة أربعين سنة فأجابوا دعوته وصدّقوا كلامه. فإنّ الإنسان مهما كان فطناً مهتمّاً بستر عيوبه وزلاّته لا يتمكّن من سترها عن بطانته وخاصّته، فإيمان البطانة وقبولهم دعوته دليل واضح على صفاء سريرته، فلأجل ذلك بدأ بدعوة العشيرة قبل إعلان الدعوة العامّة، وهذا بطبيعة الحال يكون مؤثّراً في إعداد الأرضية الصالحة لقبول المرحلة الاُخرى. وبعبارة ثانية: إنّ ضمان نجاح المصلحين في الدعوة العامّة يكمن في نجاحهم في دعوة اُسرتهم، فلو افترضنا أنّ الداعي لم ينجح في دعوة اُسرته، يكون حظّ نجاحه في الدعوة العامّة طفيفاً لأنّ رفض الاُسرة لدعوة المصلح وعدم إيمانها به، سوف يتّخذ ذريعة إلى تقوّل الآخرين وسخريتهم بأنّه لو كان الصادع محقّاً في كلامه فاُسرته أولى بقبول دعوته.

وقد نقل المفسّرون وأهل السير في تفسير قوله سبحانه:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) كيفيّة دعوة الاُسرة، وإليك نصّ ما ذكره الطبري في تاريخه عن عليّعليه‌السلام : لـمّا نزلت هذه الآية على رسول الله فقال لي: يا عليُّ ! إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنّي متى أبدأهم بهذا الأمر أرىٰ منهم ما أكره، فصمّمت عليه حتى جاءني جبرئيل، فقال: يا محمّد إنّك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عِسّاً من لبن ثمّ إجمع لي بني عبد المطّلب(١) ، حتى اُكلّمهم واُبلّغهم ما اُمرت به، ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب، فلمّا إجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي

__________________

(١) وفي البداية والنهاية: ج ٣ ص ٤٠ « بني هاشم » وهو الأصح.

١٢٧

صنعت لهم، فجئت به، فلمّا وضعته تناول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حذية من اللحم فشقّها بأسنانه ثمّ ألقاها في نواحي الصفحة ثمّ قال: خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم، ثمّ قال: إسق القوم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وأيم الله إنْ كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقد سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال في الغد: يا عليُّ إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن اُكلّمهم، فعد لنا بمثل ما صنعت ثمّ اجمعهم ـ إلى أن قال ـ: ففعلت، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، ثمّ قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثمّ تكلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا بني عبد المطّلب إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت ـ وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمضهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً ـ: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه ؟ فأخذ برقبتي ثمّ قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(١) .

هذا هو النصّ الذي رواه الطبري حول حادثة بدء الدعوة وقد ذكره غيره، فمن أراد الوقوف على مصادر الحديث فليرجع إلى كتاب الغدير(٢) .

إنّ الحديث يستفاد منه اُمور عن تاريخ بدء الدعوة نشير إليها بالنقاط التالية:

١ ـ إنّ الخلافة تتمشّى مع النبوّة جنباً إلى جنب وإنّهما لا يفترقان أبداً لأنّ النبيّ يوم صدع بالرسالة أعلن خلافة عليٍّعليه‌السلام وكانت الخلافة تعدّ إكمالاً

__________________

(١) تاريخ الطبري: ج ١ ص ٦٣.

(٢) الغدير: ج ٢ ص ٢٧٨ ـ ٢٨٤.

١٢٨

لوظائف الرسالة وإنّ الخليفة يقوم بتكميل وظائف النبي حيث يبيّن ما أجمله ويفصّل ما أوجزه.

٢ ـ إنّ عليّاً في ذاك اليوم وإن كان صغيراً لا يتجاوز عمره الحلم لكنّه كان في القوّة والمقدرة على حدّ قام بتضييف مجموعة كبيرة تربو على أربعين نفراً فقد صنع لهم طعاماً ودعاهم إلى الضيافة، وهذا العمل كما يكشف عن مرحلة من النضوج البدني يكشف عن تفتّح عقله وشعوره حيث قام بأمر لا يقوم بأعبائه إلّا الرجال الكبار.

٣ ـ إنّ الطبري في تاريخه نقل القصّة كما مرّ ولكنّه جنى على الحقيقة في تفسيره، فذكر القصة ولكنّه عندما وصل إلى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي حرّفه وجاء مكانه بقوله: « فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا »(١) .

فما معنى هذا التحريف أهكذا تصان الأمانة التاريخية ويتحفّظ في نقل الحديث ؟!

وإن تعجب فعجب عمل ابن كثير فإنّه وضع تاريخه على غرار تاريخ الطبري حذو النعل بالنعل، ولكنّه لـمّا وصل إلى هذا المقام من تاريخه أعرض عن نقل نصّ الطبري في تاريخه واعتمد على النصّ الذي ذكره الطبري في تفسيره، وما هذا إلّا لأنّه رآه دليلاً قاطعاً على خلافة عليٍّ ووصايته، وأعجب منه عمل محمد حسنين هيكل في تاريخه فإنّه ارتكب جناية مفضوحة وأثبت الحديث في الطبعة الاُولى من كتابه واكتفى منه بسؤال النبي بقوله: « فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم » واغفل ذكر جواب النبي لعليٍّ عندما قام، ولم يذكر منه شيئاً، لكنّه في الطبعة الثانية أسقط جميع ما يرجع إلى أمير المؤمنين من كلام

__________________

(١) تفسير الطبري: ج ١٩ ص ٧٤، وقد رواه العلاّمة الأميني في غديره: ٢ / ٢٧٩ ـ ٢٨٤.

والعلاّمة السيد جعفر مرتضى في كتابه، الصحيح من سيرة النبي: ج ٢ ص ١٢ عن مصادر كثيرة تعرب عن تضافر الرواية وتواترها.

١٢٩

النبي(١) .

٤ ـ إنّ ابن تيميّة لـمّا رأى دلالة الحديث على خلافة الإمام عليٍّعليه‌السلام عكف على المناقشة في سند الحديث، وأنّه يشتمل في رواية الطبري على أبي مريم الكوفي، وهو مجمع على تركه، وقال أحمد: ليس بثقة، واتّهمه ابن المديني بوضع الحديث(٢) .

ولكنّه ترك توثيق الآخرين لأبي مريم، فقد قال ابن عدي: سمعت ابن عقدة يثني على أبي مريم ويطريه وتجاوز الحدّ في مدحه، واثنى عليه شعبة، وقال الذهبي: كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال(٣) .

وأظنّ أنّ تضعيف الرجل لغاية تشيّعه وحبّه للوصي، فإنّ التشيّع بالمعنى العام ( من يحب عليّاً ويبغض أعدائه الذين خرجوا عليه في حروبه الثلاثة ) أحد المضعّفات عند القوم، ومع ذلك فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن الشيعة كثيراً، وقد قام العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين بوضع قائمة لأسماء، من روى عنهم الشيخان وغيرهما في صحيحيهما من الشيعة(٤) .

على أنّ أحمد قد روى الحديث بسند آخر وجميع رجاله رجال صحاح بلا كلام، وهم عفّان بن مسلم، عن أبي عوانه، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق ( مسلم الكوفي )، عن ربيعة بن ناجذ(٥) وبهذا السند والمتن أخرجه الطبري في تاريخه وغيره(٦) .

__________________

(١) لاحظ حياة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الطبعة الاُولى: ص ١٠٤ ـ والطبعات الاُخر: ص ١٤٢.

(٢) منهاج السنّة: ج ٤ ص ٨١.

(٣) الصحيح من سيرة النبي الأعظم: ج ٢ ص ١٤.

(٤) المراجعات: ص ٤٢ ـ ١٠٥، وما جاء فيها يشكّل رسالة أسماها شيخ الأزهر سليم البشري: « أسناد الشيعة في أسناد السنة ».

(٥) مسند أحمد: ج ١ ص ١٥٩.

(٦) تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٦٣.

١٣٠

٥ ـ وهناك مناقشات أو مشاغبات لابن تيميّة حول الحديث نبعت من موقفه تجاه فضائل الإمام أمير المؤمنين، فإنّه يردّ كثيراً من فضائل عليٍّعليه‌السلام ويضعّفه جزافاً وممّا قال في حقّ الحديث:

« إنّ مجرّد الإجابة للمعاونة على هذا الأمر لا يوجب أن يكون المجيب وصيّاً وخليفة بعده، فإنّ جميع المؤمنين أجابوه إلى الإسلام وأعانوه على هذا الأمر، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيله، كما أنّه لو أجابه الأربعون أو جماعة منهم فهل يمكن أن يكون الكل خليفة له ؟ »(١) .

إنّ هذا الإشكال يرجع إلى أمرين:

الأوّل: إنّ مجرّد الإجابة للمعاونة لا يلازم أن يكون المجيب وصيّاً، ولكنّه غفلة عن التدبّر في الرواية، فإنّه لم يجعل مطلق الإجابة دليلاً على كون المجيب وصيّاً حتى يقال: إنّ جميع المؤمنين أجابوا إلى الإسلام بل جعل الإجابة من العشيرة فقط علّة للوصاية، فلا يشمل المؤمنين الخارجين عن دائرة إطارهم.

الثاني: لو افترضنا أنّ الكل أجابوه، فهل يكون الكل خليفة ؟

والجواب: انّ النبي الأكرم كان مطّلعاً على أنّه لا يجيبه غير عليّ، لأنّهم لم يكونوا مطّلعين على مبادئ رسالته، وخصوصيّات شريعته، فلا يبادرون بالإجابة بخلاف عليّعليه‌السلام فإنّه قد نشأ وتربّى في أحضان النبي وتغذّى بلبانه، وقد صلّى مع النبي قبل الناس بسنين، فكان سبقه أمراً طبيعيّاً بالنسبة له.

إنّ كتب السيرة تذكر أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاطبهم في هذا الإجتماع بقوله: « إنّ الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلّا هو، إنّي لرسول الله إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزونّ بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءاً، فإنّها الجنّة أبداً

__________________

(١) منهاج السنة: ص ٨٣.

١٣١

ولنار أبداً. يا بني عبد المطلب ما أعلم شابّاً جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به إنّي قدجئتكم بخير الدنيا والآخرة »، فتكلّم القوم كلاماً ليّناً غير أبي لهب، فإنّه قال: « يا بني عبد المطلب هذه والله لسوأة خذوا على يديه وامنعوه عن هذا الأمر بحبس أو غيره قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن التمسوه حينئذ ذلّلتم وإن منعتموه قتلتم »، فقالت اُخته صفيّة عمّة رسول الله اُمّ الزبير: « أي أخي ! أيحسن بك خذلان ابن أخيك ؟ فو الله ما زال العلماء يخبرون أنّه يخرج من ضئضئ ( الأصل ) عبد المطلب نبي فهو هو » قال أبولهب: « هذا والله الباطل والأماني، وكلام النساء في الحجال، فإذا قامت بطون قريش وقامت العرب معها بالكلاب فما قوّتنا بهم ؟ فو الله ما نحن عندهم إلّا أكلة رأس »، فقال أبوطالب: « والله لنمنعنّه ما بقينا »(١) .

وهل النبي خطب بهذه الخطبة في الدعوة الاُولى أو الثانية ؟ فلو صحّت فهي بالدعوة الاُولى ألصق لما تضافر أنّ أبا لهب لم يكن مدعوّاً في الدعوة الثانية، ويظهر من سيرة زيني دحلان أنّه خطب بها في الدعوة الاُولى فلمّا أصبح رسول الله بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب، فلمّا أخبرهم بما أنزل الله عليه، أسمعه أبو لهب ما يكره وقال: تبّاً لك، ألهذا جمعتنا ؟ وأخذ حجراً ليرمي به، وقال: ما رأيت أحداً جاء بني أبيه وقومه بأشرّ ممّا جئتهم به، فسكت رسول الله ولم يتكلّم في ذلك المجلس.

الدعوة العامة وكسح العراقيل الماثلة أمامه

كان للدعوة السرية أوّلاً ودعوة الاُسرة ثانياً دور خاص في استقطاب لفيف من الناس واستمالة قلوب طائفة منهم إلى الإسلام، وقد أوجد هذا الإقبال أرضيةً صالحةً لمرحلة ثالثة من الدعوة وهي التي يصحّ وصفها بالدعوة العامّة، وكانت تهدف إلى توسيع نطاقها، فقام النبي الأكرم بها إمتثالاً لقوله تعالى:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ) ( الحجر / ٩٤ ).

__________________

(١) سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبيّة: ج ١ ص ١٩٤.

١٣٢

إنّ هذه الآية تناسب الدعوة العامّة بقرينة قوله:( إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) ( الحجر / ٩٥ ).

نقل الطبري عن سعيد بن جبير أسماء المستهزئين برسول الله وهم خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة، والحرث بن عيطلة، والأسود بن قيس، وكلّهم هلكوا قبل بدر(١) .

وقد حكى أصحاب السير خطبة النبي في بدء تلك المرحلة، قالوا:

١ ـ دعا النبي جميع قريش وهو قائم على الصفا وقال: إن أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج من صفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذّبوني ؟ قالوا: والله ما جرّبنا عليك كذباً، فقال: « يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئاً إنّي لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد ».

٢ ـ وفي رواية: « إنّ مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف: يا صباحاه ! يا صباحاه ! أتيتم أتيتم أنا النذير العريان(٢) الذي ظهر صدقه »(٣) .

٣ ـ وفي رواية: دعا قريشاً فخصّ وعمّ وقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني زهرة أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، يا صفيّة عمّة محمد أنقذي

__________________

(١) تفسير الطبري: ج ١٤ ص ٤٩.

(٢) العريان: الذي أقبل عرياناً ينذر بالعدو. إنّه لا يتّهم بخلاف الذي لم يجرّد فإنّه قد يتّهم والمعنى أنا النذير الذي لا أتّهم.

(٣) سيرة زيني دحلان، على هامش السيرة الحلبيّة: ج ١ ص ١٩٤ ـ ١٩٥، والبداية والنهاية: ج ٣ ص ٣٨، وتاريخ الخميس: ج ١ ص ٢٨٨.

١٣٣

نفسك من النار، فإنّي لا أملك لكم من الله شيئاً(١) .

ولو كان المراد من فاطمة هي فاطمة بنت النبي فالرواية بأجمعها أو خصوص هذه الجملة موضوعة لأنّها ولدت في السنة الخامسة من الهجرة، وقد جاء في تاريخ الخميس توصيفها بـ ( بنت محمّد ) حيث قال: « يا صفيّة بنت عبد المطّلب، يا فاطمة بنت محمّد لا أغني عنكم من الله شيئاً، سلاني من مالي ما شئتم ».

ولذلك احتمل زيني دحلان أنّ فاطمة من خلط الرواة وانّما ذكرت في حديث آخر وقع بالمدينة جاء فيه الزوجات والبنات وقال لهنَّ: « لا أغني عنكنّ من الله شيئاً » حثّاً لهنّ على صالح الأعمال.

__________________

(١) تاريخ الخميس: ج ١ ص ٢٨٨، وسيرة زيني دحلان على هامش السيرة الحلبية: ج ١ ص ١٩٣.

١٣٤

(٦)

الإيجابيات والسلبيات

تجاه الدعوة المحمّدية

لم تكن الدعوة المحمّدية بدعاً من الرسالات السماويّة، فقد واجهت ما واجهته سائر الرسالات فحظيت بالقبول من بعض، بينما حاربتها الأكثرية الساحقة، شأنها شأن ما سلفها من الدعوات الإصلاحية حذو القذة بالقذّة، ومن سَبَر تاريخ الأنبياء وتاريخ الدعوات الإصلاحية بإمعان يقف على أنّ النجاح لم يكن حليفهم خصوصاً في الوهلة الاُولى من دعوتهم بل كان الناس على مفرق طريقين، فهم بين مؤمن بالدعوة ومصدّق لها ومستنفد طاقته في سبيلها ومضحٍّ بنفسه ونفيسه، ومكذّب عنود يضع في طريق دعوة المصلحين الموانع والعراقيل الكفيلة بصدّهم عمّا يطمحون إليه من الغايات المنشودة.

وكانت هذه المجابهة والمحاربة المستميتة مع المصلحين وليدة حالة من الجهل والإنحطاط الفكري والثقافي، وكلّما كان القوم أبعد غوراً في تعصّبهم لآبائهم وأجدادهم وما كانوا يدينون به من العقائد الشنيعة والسخيفة كانت المكافحة أشدّ والمنابذة أقوى.

ولـمّا كانت الدعوة الإصلاحية سواء كانت سماوية أم أرضية، وضعية تؤدّي إلى تفويت مصالح بعض الطبقات الخاصّة كالإقطاعيين وذووا رؤوس الأموال الطائلة، لم تحظ الدعوة في أغلب صورها وحالاتها بقبول الرأي العام، وهذه هي الظاهرة المألوفة غالباً، فترى أنّ المسيطرين على المجتمع في كافّة الأجيال والأحقاب كانوا على طرف نقيض من الدعوة الإصلاحية، وكان التصويب بالإذعان والإيمان مختصّاً بالطبقة المحرومة المقهورة المستضعفة.

١٣٥

هذا هو جون. إف.كندي الذي تربّع على منصّة الحكم بالولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٦٠ م، بعد أن انتخب رئيساً بالغالبية العظمى، فلقد كان صاحب نظرة خاصّة في الملوّنين الأمريكيين، وكان بصدد اصلاح حياتهم المليئة بالبؤس والشقاء عن طريق منحهم بعض الحقوق والحريات استلهاماً من الفطرة الإنسانية، ولكن ما أن طلع نجمه إلّا وقد اُغتيل من جانب المتعصّبين العنصريين بشكل لم يعهد التاريخ له مثيل إلّا القليل النادر، فعلى الرغم من عظمة جهاز الاستخبارات الأمريكية وسطوته لم يعرف قاتله ولم يعثر له على أثر أو خبر يذكر، وكان التخطيط قد دبّر ليلاً.

وتصوّر لنا هذه الظاهرة في محكية عن قوم نوح بقوله تعالى:( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) ( هود / ٢٧ ).

هذه هي الظاهرة الملموسة في حياة الأنبياء وما لا قوّه في سبيل انجاح دعوتهم، وعلى ضوء ذلك فلا ينتابك العجب عندما تلقي بنظرة خاطفة على حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدء دعوته حيث كان الإيمان والانطواء تحت راية الرسالة مختصّاً برجال أحرار الفطرة أصفياء الطوية لم يعم بريق زخارف الدنيا وزينتها بصائرهم فلبّوا دعوة الرسول بصدر رحب.

إذا عرفت ذلك فلنركز على أمرين:

١ ـ ما هي الدوافع الروحيّة الباعثة على مخالفة النّبي الأكرم ؟

٢ ـ ماذا كان ردود فعل لهذه الدوافع ؟

١٣٦

الف: العراقيل والموانع تجاه دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

ظلّ النبي الأكرم في موطنه قرابة ثلاثة عشر عاماً ولم يكن النصر حليفه وما كان ذلك إلّا نتيجة الموانع والعراقيل التي حيكت ضدّه، وإليك لمحة خاطفة عنها:

١ ـ إنّ الرسالة المحمدية كسائر الرسالات الإلهية كانت تهدف إلى انتشال المستضعفين من حضيض التخلّف المادي والمعنوي والرقي بهم إلى حالة الإزدهار الحضاري، ومن المعلوم أنّ تلك الخطّة ما كانت تنسجم مع مطامع أصحاب السلطة والثروة الذين يسيطرون على المجتمع بسطوتهم وجبروتهم ويمتصّون دماء المحرومين بلا هوادة، يقول سبحانه:

( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ( الأنعام / ٥٢ ).

روى الثعلبي في تفسيره باسناده عن عبد الله بن مسعود، قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين وقالوا: يا محمّد ! أرضيت بهؤلاء من قومك، أفنحن نكون تبعاً لهم، أهؤلاء الذين منّ الله عليهم ؟ اطردهم عنك ولعلّك إن طردتهم اتّبعناك(١) .

٢ ـ التعصّب المقيت لسيرة الآباء والأجداد أمر جبلي للبشر يتنامى في اطار حياتهم القبلية، وكانت دعوة النبي على خلاف سيرتهم ولذلك اهتمّوا بمكافحته ومنازعته قائلين: بأنّ دعوتك تضاد سيرة آبائنا، ولم يكتفوا بذلك حتى استدلّوا على صحّة سيرتهم بأنّه لولا مشيئة الله سبحانه لما عبد الآباء الأصنام والأوثان، يقول سبحانه حاكياً عنهم:( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٠٥، طبع صيدا.

١٣٧

وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ المُبِينُ ) ( النحل / ٣٥ )، وقال سبحانه:( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) ( الزخرف / ٢٢ ) ويظهر من غير واحد من الآيات أنّ تلك الظاهرة الروحية لم تزل تعرقل خطى الدعوة في أكثر الرسالات السماوية، قال سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ *قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( الزخرف / ٢٣ و ٢٤ ).

٣ ـ لقد كانت الاُمّية والإنحطاط الثقافي متفشّية في شبه الجزيرة العربية آنذاك خصوصاً في أُمّ القرى وما حولها، فكانت العقلية الإنسانية التي تميّز الحق من الباطل والصالح من الفاسد متدهورة جدّاً. وهذا هو البلاذري يعكس لنا صورة هذا التدهور الثقافي بقوله في كتابه:

« دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب: عمر بن الخطّاب وعليّ بن أبي طالب »(١) .

وقال ابن خلدون:

« إنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول وقد تعرّفوا عليها قبيل ظهور الإسلام »(٢) .

فإذا كان هذا مبلغ تعرّفهم على الكتابة والقراءة، فليكن هذا مقياساً لثقافتهم ومدى ازدهار قواهم العقلية.

٤ ـ ارتكزت الدعوة المحمّدية على دعامتين أصيلتين:

أ ـ اختصاص العبودية لله سبحانه ورفض عبادة غيره.

__________________

(١) فتوح البلدان: ص ٥٧.

(٢) مقدمة ابن خلدون: ص ٣٤٨.

١٣٨

ب ـ الاعتقاد بيوم الحساب وأنّ وراء الحياة الدنيوية، حياة اُخرى تجزى فيها كل نفس بما عملت من خير وشر، وانّ الناس في ذلك اليوم على فئتين: فئة ضاحكة مستبشرة وفئة بائسة مكفهرّة، وانّ الظالمين والمتجاوزين سوف يحاسبون فيها أشدّ الحساب ودقيقه.

يقول سبحانه:( فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ *يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ *وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ *ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ *وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ *تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ *أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) ( عبس / ٣٣ ـ ٤٢ ).

ويقول عزّ اسمه في سورة اُخرى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ) ( الحج / ١ و ٢ ).

كانت هذه الندءات الربّانيّة تبعث الرعب والهلع في قلوب المشركين، لأنّهم يجدون أنفسهم أمام عذاب أليم لا مناص منه ولا مفرّ عنه، وبما أنّهم كانوا يعانون من تبنّي هذه الفكرة بل من سماعها واحتمال صدقها، فجنحوا إلى إراحة أنفسهم من هذا العذاب الآجل بإنكار الدعوة وتكذيبها من الأساس.

إنّ هؤلاء الجناة كانوا معتادين أن ينحروا للأصنام طلباً لمحو سيئاتهم ثمّ تتركهم في القتل والنهب وارتكاب الفحشاء وغيرها في مستقبل حياتهم، وأمّا الدعوة التي لا تقبل الرشوة والمهادنة وترفض القرابين والنحور فلا تحقّق أملهم ولا تلقي إليهم بالضوء الأخضر حتّى يقترفوا ما يشاؤوا.

٥ ـ إنّ المترفين والملأ كانوا يكافحون دعوة الأنبياء وينابذونها والقرآن قد سجّل أعمالهم الإجرامية في غير واحد من الآيات، قال سبحانه:( قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ) ( الأعراف / ٨٨ ).

١٣٩

ويقول سبحانه في حق المترفين:( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( سبأ / ٣٤ ).

إنّ طبيعة الترف وانبساط النعمة والعيش الرغيد تؤدّي إلى الجموح والطغيان والتغافل عن كل ما من شأنه أن يحول بينه وبين شهواته وميوله وغرائزه، يقول سبحانه:( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ *أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ) ( العلق / ٦ و ٧ ).

أين هذه الفكرة من طبيعة الشريعة السماوية التي تفرض على الإنسان الاعتدال في الشهوات وسلوك الجادة القويمة، فلا ينسفها من رأس ولا يرخي لها العنان.

فلأجل ذلك نرى أنّ الملأ في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحاب المجون والترف عارضوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وخالفوا لـمّا رأوا أنّه يريد أن يضع حدوداً في طريق ميولهم والحيلولة دون اشباع نهم غرائزهم المستعرة، فلذلك قاموا بتكثيف الجهود في وجه الدعوة المحمّدية.

٦ ـ إنّ الحسد والتنافس والتنازع من العوامل التي تصطنع حجباً أمام البصائر فلا تتمكّن من رؤية الحقائق على ما هي عليه ومثله الكبر والغرور فيصدّان الإنسان عن رؤية الحقيقة بل يبعثان إلى اختلاف أعذار واهية للتنكّب عن قبول الحقّ والإذعان به، فنحن نرى ذلك العامل في وجه الدعوة النبويّة حيث إنّ قريشاً كانت تشعر بأنّ النبوّة مقام شامخ إلهي يستعقب عزّة الصادع بها وقومها على القبائل الاُخر، فكان ذلك رادعاً عن قبول عدّة من أكابر قريش الدعوة الإلهيّة قائلين: لماذا لم ينزل هذا القرآن على الوليد بن المغيرة وهو أحقّ به من النبي بزعمهم.

يقول سبحانه:( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ *أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف / ٣١ و ٣٢ ).

هذه هي الموانع التي اصطنعتها قريش في وجه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

١٤٠

( الشوقيات ) تعطينا أوضح الصور عن شاعريته فهو صاحب نهج البردة التي مطلعها:

ريم على القاع بين البان والعلم

أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم

وصاحب الهمزية النبوية التي مطلعها:

ولد الهدي فالكائنات ضياء

وفم الزمان تبسم وثناء

وصاحب ذكري المولد التي مطلعها:

سلوا قلبي غداة سلا وتابا

لعل على الجمال له عتابا

وهو الذي يقول في مطلع احدى روائعه:

رمضان ولّى هاتها يا ساقي

مشتاقة تهفو إلى مشتاق

وله:

حفّ كأسها الحبب

فهي فضة ذهب

وهو القائل في مطلع قصيدة تكريم:

قم للمعلم وفّه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا

فنراه محلّقاً بكل ألوان الشعر وضروبه وهو مسلم مقتنع بالإسلام ومتأثر به تأثراً كلياً هتف بأعلى صوته وردد أنغامه وحرك الأحاسيس وأثار الشعور وملك العواطف وهاك قطع ينقد بها المجتمع:

رأيت قومي يذم بعض

بعضاً إذا غابت الوجوه

وان تلاقوا ففي تصاف

كأن هذا لذا أخوه

كريمهم لا يسدّ سمعاً

ووغدهم لا يسدّ فوه

وكلهم عاقل حكيم

وغيره الجاهل السفيه

وذا ابن من مات عن كثير

وذا ابن مَن قد سما أبوه

وذا بإسلامه مدلٌ

وذا بعصيانه يتيه

١٤١

وكلهم قائم بمبدأ

ومبدأ الكل ضيّعوه

فمذ بدا لي أن قد تساوى

في ذلك الغرّ والنبيه

وليس من بينهم نزبه

ولا أنا الواحد النزيه

جعلت هذا مرآة هذا

أنظر فيه ولا أفوه

وشوقي - كما قال مترجموه - عاش في نعمة وترف وسعة في الحال والمال لما كان يغدق عليه الامراء والأثريا فجاء شاعر من شعراء لبنان وهو الشيخ نجيب مروة يقول:

ولو أني جلست مكان شوقي

لفاض الشعر من تحتي وفوقي

وهي أُمنية شاعر والتمني رأس مال المفلس.

وشوقي يجلّ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأي مسلم لا يحبهم وهل تقبل الأعمال بغير حبهم ومودتهم التي هي فريضة من الله ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) فتراه في ثنايا أشعاره يتفجع لما أصابهم ويتفجر ألماً لرزاياهم فتراه في منظومته الرائعة ( دول العرب وعظماء الإسلام ) يقول:

هذا الحسين دمه بكربلا

روّى الثرى لما جرى على ظما

واستشهد الأقمار أهل بيته

يهوون في الترب فرادى وثُنا

ابن زياد ويزيدُ بغيا

والله والأيام حربُ مَن بغى

لولا يزيد بادئاً ما شربت

مروانُ بالكاس التي بها سقى

ويقول في رواية ( مجنون ليلى ): كان الحسين بن علي كعبة القلوب والأبصار في جزيرة العرب بعد أن قتل أبوه علي ومات أخوه الحسن. وكذلك ظل الحسين قائماً في نفوس الناس هناك صورة مقدسة لبداوة الإسلام تستمد أنضر ألوانها من صلته القريبة بجده رسول الله وبنوّته لرجل كان أشدّ الناس زهداً واستصغاراً لدنياه، وكذلك ظهرت بلاد العرب وقلبها يخفق بإسم الحسين.

١٤٢

ويقول أيضاً في مسرحيته ( مجنون ليلى ):

حنانيك قيسُ إلى مَ الذهول

أفق ساعة من غواشي الخبَل

صهيلُ البغال وصوتُ الحداء

ورنة ركب وراء الجبل

وحاد يسوق ركاب الحسين

يهزّ الجبال إذا ما ارتجل

فقم قيسُ واضرع مع الضارعين

وأنزل بجنب الحسين الأمل

ويطيب له أن يربط الحوادث بيوم الحسين الذي لا يغيب عن خاطره فتراه في رثاء الزعيم مصطفى كامل باشا مؤسس الحزب الوطني والمتوفى سنة 1908 م. يقول:

المشرقان عليك ينتحبان

قاصيهما في مأتم والداني

ومنها:

يُزجون نعشك في السناء وفي السنا

فكأنما في نعشك القمران

وكأنه نعش الحسين بكربلا

يختال بين بكىً وبين حنان

ويقول في اخرى عنوانها ( الحرية الحمراء ):

في مهرجان الحق أو يوم الدم

مهج من الشهداء لم تتكلم

يبدو عليها نور نور دماتها

كدم الحسين على هلال محرم

يوم الجهاد بها كصدر نهاره

متمايلُ الأعطاف مبتسمُ الفم

وهناك عبارات لا يطلقها إلا المتشيع لأهل البيت تجري على لسانه وقلمه كقوله: رضيع الحسينعليه‌السلام ، فان كلمةعليه‌السلام من متداولات شيعة أهل البيت وقوله:

ما الذي نفرّ عني الضبيات العامرية

ألأني أنا شيعيٌ وليلى أموية

اختلاف الرأي لا يفسد للود قضيّه

وعندما يخاطب الرسول الأعظم يطيب له أن يقول:

ابا الزهراء قد جاوزت قدري

بمدحك بيد أن لي انتسابا

وعندما يمرّ بالخلفاء الراشدين ويأتي الدور للامام علي يقول:

العمران يرويان عنه

والحسنان نسختان منه

١٤٣

الشيخ محمد حسين الحُلّي

المتوفى 1352

خليلي هل من وقفة لكما معي

على جدث أسقيه صيّب أدمعي

ليروى الثرى منه بفيض مدامعي

لأن الحيا الوكاف لم يك مقنعي

لأن الحيا يهمي ويقلع تارة

وإني لعظم الخطب ما جفّ مدمعي

خليليّ هبّا فالرقاد محرم

على كل ذي قلب من الوجد موجع

هلُما معي نعقر هناك قلوبنا

إذا الحزن أبقاها ولم تتقطع

هلما نقم بالغاضرية مأتما

لخير كريم بالسيوف موزع

فتىً أدركت فيه علوج امية

مراماً فألقته ببيداء بلقع

وكيف يسام الضيم مَن جده ارتقى

إلى العرش حتى حل أشرف موضع

فتى حلّقت فيه قوادم عزه

لاعلى ذرى المجد الأثيل وأرفع

ولما دعته للكفاح أجابها

بأبيض مشحوذ وأسمر مشرع

وآساد حرب غابها أجم القنا

وكل كميٍ رابط الجأش أروع

يصول بماضي الحدّ غير مكهّمٍ

وفي غير درع الصبر لم يتدرع

إذا ألقح الهيجاء حتفاً برمحه

فماضي الشبا منه يقول لها ضعي

وإن أبطأت عنه النفوس إجابة

فحدّ سنان الرمح قال لها اسرعي

إلى أن دعاهم ربهم للقائه

فكانوا إلى لقياه أسرعَ مَن دُعي

وخروا لوجه الله تلقا وجوههم

فمن سجّد فوق الصعيد وركع

وكم ذات خدر سجفتها حماتها

بسمر قنا خطية وبلمّع

١٤٤

أماطت يد الأعداء عنها سجافها

فاضحت بلا سجف لديها ممنّع

لقد نهبت كفّ المصاب فؤادها

وأيدي عداها كل برد وبرقع

فلم تستطع عن ناظريها تستراً

بغير أكفٍّ قاصرات وأذرع

وقد فزعت مذ راعها الخطب دهشة

وأوهى القوى منها إلى خير مفزع

فلما رأته بالعراء مجدلاً

عفيراً على البوغاء غير مشيّع

دنت منه والأحزان تمضغ قلبها

وحتّت حنين الواله المتفجع

عليّ عزيز أن تموت على ظمأ

وتشرب في كأس من الحتف مترع

تلاكُ بأشداق الرماح وتغتدي

لواردة الأسياف أعذب مكرع

وفي آخرها:

بني غالب هبّوا لأخذ تراثكم

فلم يُجدكم قرع لناب بأصبع

امثل حسين حجة الله في الورى

ثلاث ليال بالعرا لم يشيّع

ومثل بنات الوحي تسرى بها العدى

إلى الشام من دعي إلى دعي

الشيخ محمد حسين ابن الشيخ حمد الحلي وربما يعرف ب‍ ( الجباوي ) احدى محلات الحلة، عالم معروف يشهد عارفوه له بالفضل والتضلّع. ولد في الحلة سنة 1285 ه‍ ودرس على جملة من أفاضلها منهم الشيخ محمدبن نظر علي وفي سنة 1303 غادر الحلة مهاجراً إلى النجف لاكمال الدراسة وأقام فيها أكثر من ثلاثين سنة فحضر عند الشيخ آية الله الشيخ حسن المامقاني والفاضل الشربياني ثم لازم العالم الشهير الشيخ علي رفيش فكان من أول أنصاره والملازمين له أثناء مرجعيته ثم بعد انكفاف بصره، وفي خلال ذلك تخرّج على يده جملة من الطلاب الروحيين إلى أن كانت سنة 1337 ه‍. عاد إلى مسقط رأسه الحلة بطلب من وجهائها وأقام فيها مرجعاً دينياً محترم الجانب تستفيد الناس من

١٤٥

معارفه وكمالاته وفي آخر أيامه مرض ولازم الفراش حتى الوفاة، ذكره الشيخ النقدي في ( الروض النضير ) فقال: عالم مشهور في الفضل والكمال والمعرفة وله اليد الطولى في صناعتي النظم والنثر والنصيب الوافر في علمي الفصاحة والبلاغة. توفي في الحلة عام 1352 ه‍. ونقل جثمانه إلى النجف ودفن في الصحن الشريف ورثاه جمع من العشراء منهم الشيخ ناجي خميّس.

كتب وألّف في الفقه والأصول وكتب رحلته إلى الحج ورسالة في التجويد والقراءات وجملة من تقريرات أستاذته العلماء الأعلام ولم ينشر له سوى ( الرحلة الحسينية ) وهي التي روى فيها رحلته مع جماعة من الفضلاء إلى زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام سنة 1321 ه‍. ومنها يظهر ذوقه الأدبي ورقة طبعه وأريحيته، طبعت هذه الرحلة بمطبعة ( الحبل المتين ) بالنجف سنة 1329 ه‍. وختمها بالقصيدة التي هي في صدر الترجمة.

١٤٦

الشيخ جواد البلاغي

المتوفى 1352

شعبان كم نعمت عين الهدى فيه

لولا المحرم يأتي في دواهيه

وأشرق الدين من أنوار ثالثه

لولا تغشاه عاشور بداجيه

وارتاح بالسبط قلب المصطفى فرحاً

لو لم يرعه بذكر الطف ناعيه

رآه خير وليد يستجار به

وخير مستشهد في الدين يحميه

قرت به عين خير الرسل ثم بكت

فهل نهنيه فيه أو نعزيه

ان تبتهج فاطم في يوم مولده

فليلة الطف أمست من بواكيه

أو ينتعش قلبها من نور طلعته

فقد اديل بقاني الدمع جاريه

فقلبها لم تطل فيه مسرّته

حتى تنازع تبريح الجوى فيه

بشرىً أبا حسن في يوم مولده

ويوم أرعب قلب الموت ماضيه

ويوم دارت على حرب دوائره

لولا القضاء وما أوحاه داعيه

ويوم أضرم جو الطف نار وغىً

لو لم يخر صريعاً في محانيه

يا شمس أوج العلى ما خلت عن كثب

تمسى وأنت عفير الجسم ثاويه

فيا لجسم على صدر النبي ربي

توزعته المواضي من أعاديه

ويا لرأس جلال الله توجّه

به ينوء من المياد عاليه

وصدر قدس حوى أسرار بارئه

يكون للرجس شمرمن مراقيه

١٤٧

ومنحر كان للهادي مقبله

أضحى يقبله شمر بماضيه

يا ثائراً للهدى والدين منتصراً

هذي أُمية نالت ثارها فيه

أنى وشيخك ساقي الحوض حيدرة

تقضي وأنت لهيف القلب ضاميه

ويا إماماً له الدين الحنيف لجا

لوذاً فقمت فدتك النفس تفديه

أعظم بيومك هذا في مسرته

ويوم عاشور فيما نالكم فيه

يا من به تفخر السبع العلى وله

إمامة الحق من إحدى معاليه

أعظم بمثواك في وادي الطفوف علاً

يا حبذا ذلك المثوى وواديه

له حنيني ومنه لوعتي وإلى

مغناه شوقي واعلاق الهوى فيه

الشيخ جواد أو الشيخ محمد جواد ابن الشيخ حسن ابن الشيخ طالب البلاغي النجفي ينتهي نسبه إلى ربيعة. مولده ووفاته في النجف ولد سنة 1285 ه‍. وتوفي سنة 1352 ه‍. ليلة الاثنين الثاني والعشرين من شعبان في النجف الأشرف ودفن فيها في المقبرة المقابلة لباب المراد.

وآل البلاغي بيت علم وفضل وأدب، كان المترجم له نابغة من نوابغ العصور وجهاده بقلمه ولسانه يذكر فيشكر، له عشرات المؤلفات وكلها قيّمة ذات فائدة لا زالت تتلاقفها الأيدي ويعتز بها أهل العلم اذكره يحضر مجالس العلم فاذا اشتد الجدال حول مسألة من مسائل العلم كان يقول: عندي بيان أرجو أن تسمحوا لي باستماعه فإني مريض وإذا رفعت صوتي أخاف أن أقذف من صدري دماً.

كانت تأتيه المسائل من بلاد الغرب فيجيب عنها. وبين أيدينا من مؤلفاته: الرحلة المدرسية، الهدى إلى دين المصطفى جزآن، تفسير القرآن، أنوار الهدى، رسالة التوحيد والتثليث، البلاغ المبين رسالة في الرد على الوهابية.

تعلم العبرية وأتقنها خطاً وقراءة ونطقاً حتى تمكن من المقارنة بين اصولها وبين المترجم إلى اللغة العربية فأظهر كثيراً من مواقع الاختلاف في الترجمة

١٤٨

التي قصد بها التضليل. كانت ترد عليه الرسائل والأسئلة باللغة الانجليزية فشرع يتعلمها لولا أن يفاجأه الأجل المحتوم. كان تحصيله ودراسته على أعلام عصره أمثال الملا كاظم الخراساني والشيخ اغا رضا الهمداني ومن تراثه الأدبي قصيدته التي عارض بها الرئيس ابن سينا في النفس.

نعُمت بأن جاءت بخلق المبدع

ثم السعادة أن يقول لها ارجعي

خلقت لأنفع غاية يا ليتها

تبعت سبيل الرشد نحو الأنفع

الله ( سواها وألهمها ) فهل

تنحو السبيل إلى المحلّ الأرفع

ورائعته التي شارك بها في الحلبة الأدبية عن الحجة المهدي صاحب العصر والزمان التي أثبتها في كتابه الفقهي(1) وأثبتها السيد الأمين في ترجمته في الأعيان. ترجم له صاحب الحصون المنيعة والشيخ اغا بزرك الطهراني في ( نقباء البشر ) والشيخ السماوي في ( الطليعة ) وله مراسلات شعرية مع الشيخ توفيق البلاغيرحمه‌الله ورثاء للسيد محمد سعيد الحبوبي والكثير من شعره يخص أهل البيت ومنه نوحيته الشهيرة التي يرددها الخطباء في شهر المحرم ومطلعها:

يا تريب الخد في رمضا الطفوف

ليتني دونك نهباً للسيوف

وله من الشعر في ميلاد الحجة المهدي المولود ليلة النصف من شعبان سنة 1256 ه‍. وأولها:

حي شعبان فهو شهر سعودي

وعد وصلي فيه وليلة عيدي

ترجم له الزركلي في ( الاعلام ) وعدد بعض مؤلفاته وقال: وله مشاركة في حركة العراق الاستقلالية وثورة عام 1920 م، انتهى. أقول وآل البلاغي من أقدم بيوت النجف وأعرقها في العلم والفضل والأدب، أنجبت هذه الأسرة عدة من رجال العلم والدين وسبق أن ترجمنا في هذه الموسوعة للشيخ محمد علي البلاغي المتوفى سنة 1000 ه‍. ويقول الشيخ اغا بزرك الطهراني في نقباء البشر أن المترجم له ولد سنة 1282 كما أخبره صاحب الترجمة نفسه بمولده

__________________

1 - وهو تعليقة على مباحث البيع من مكاسب الشيخ الانصاري.

١٤٩

وحيث أن الشيخ الطهراني من أخدانه واخوانه وكانت تجمعهما وحدة البلد في سامراء أولاً عند استاذهما المغفور له الميرزا محمد تقي الشيرازي ثم النجف ثانياً فقد ألّم بترجمته إلمامة كافية وافية كما كتب عنه الكثير من الباحثين ونشرت المجلات والصحف عن جهاده ومؤلفاته وأكبروا منتوجه العلمي ودفاعه عن الإسلام ومواقفه الصلبة بوجه المادية ودعاتها والطبيعيين وآرائهم.

وشيخنا البلاغي كان على جانب من عظيم من الخلق الاسلامي الصحيح فهو لا يماري ولا يداهن ولا تلين له قناة في سبيل الحق، وكان مع علوّ نفسه متواضعاً يكره السمعة ويشنأ الرفعة، وفي أغلب مؤلفاته يغفل اسمه الصريح فكانت الرسائل تأتيه باسم ( كاتب الهدى النجفي ) ومن العجيب أنه نشر جملة من الرسائل والمقالات باسم غيره، ومؤلفاته تزيد على الثلاثين، ترجم بعضها إلى الفارسية والانجليزية، وقد ذكر الشيخ اغا بزرك في ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) أكثر هذه الكتب.

ولا زالت أندية النجف تتحدث عن قوة إيمانه وصلابة دينه وشدة ورعه ومنها موقفه في مجلس عقد في النجف ويقتصر على القادة أمثال الشيخ محمد جواد الجواهري والشيخ عبد الكريم الجزائري وفي مقدمتهم الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاءقدس‌سره كما حضر المرحوم السيد محمد علي بحر العلوم والشيخ عبد الرضا آل الشيخ راضي قدس الله أرواحهم وذلك حول الدخول في وظائف الدولة ونظام المدارس الرسمية فكان صوته المجلّي ينبعث عن قلب مكلوم مطالباً باصلاح المدارس والاشراف عليها والتركيز على الأخلاق قبل العلم. انطفأ ذلك المصباح ليلة الاثنين 22 شعبان سنة 1352 ه‍. وكان لنعيه أثر عظيم في العالم الإسلامي وعقدت له مجالس التأبين في البلاد الاسلامية وفي النجف خاصة في جامع الهندي وأنشدت القصائد الرنانة وقد دفن في احدى غرف الصحن الحيدري من الجهة الجنوبية وفي مقدمة القصائد قصيدة المرحوم السيد رضا الهندي وأولها:

إن تمس في ظلم اللحود موسدا

فلقد أضأت بهن ( أنوار الهدى )

١٥٠

السيد حسن بحر العلوم

المتوفى 1355

شطر بيتين في مدح الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقال:

( قل لمن والى علي المرتضى )

نلت في الخلد رفيع الدرجات

أيها المذنب إن لذت به

( لا تخافنّ عظيم السيئات )

( حبه الاكسير لو ذرّ على )

رمم حلّت بها روح الحياة

وإذا ما شملت ألطافه

( سيئات الخلق صارت حسنات )

ثم ذيلها برثاء الحسينعليه‌السلام ومدح الإمام علي بن أبي طالب (ع):

حبّه فرض على كل الورى

وهو في الحشر أمان ونجاة

كل من والاه ينجو في غد

من لظى النار وهول العقبات

فهو الغيث عطاءً وهبات

وهو الليث وثوباً وثبات

وهو نور الشمس في رأد الضحى

وهو نبراس الهدى في الظلمات

كم بوحي الذكر في تفضيله

صدعت آيات فضل بيّنات

آية التصديق من آياته

حين أعطى في الركوع الصدقات

فهو بالنص وصي المصطفى

وأبو الغر الميامين الهداة

ثم يذكر مصاب الحسين (ع) بقوله:

لهف نفسي حينما استسقاهم

جرعوه من أنابيب القناة

خرّ للموت على وجه الثرى

عينه ترعى النساء الخفرات

١٥١

ثم رضّوا حنقاً صدر الذي

فيه أسرار الهدى منطويات

بأبي ملقى ثلاثاً بالعرى

عارياً تسقي عليه الذاريات

ورضيع يتلظى عطشا

قد رَمى منحره أشقى الرماة

لهف نفسي لربيبات الابا

أصبحت بعد حماها ثاكلات

هجم القوم عليهن الخبا

فغدت بين الأعادي حاسرات

السيد حسن ابن السيد ابراهيم بن الحسين بن الرضا ابن السيد مهدي الشهير ببحر العلوم أديب معروف وعالم جليل ولد في النجف عام 1282 ونشأ على والده المشهور بأدبه وفضله وعلمه وكماله، ومن يشابه أبه فما ظلم، لقد ورت أكثر سجايا أبيه من عزة وإباء وعفة وورع حضر على علماء النجف أمثال شيخ الشريعة الأصفهاني والسيد محمد كاظم اليزدي ذلك إلى جنب براعته الأدبية وديوانه يعطينا صورة عن نبله وفضله وبراعته في التاريخ مشهود بها. ترجم له الخاقاني في شعراء الغري وذكر ألواناً من شعره من مديح ورثاء وتهان وتواريخ. توفي بالنجف 19 جمادى الاولى سنة 1355 ه‍. ودفن بمقبرة الاسرة وهو والد العلامة التقي الورع السيد محمد تقي بحر العلوم والعلامة الجليل البحاثة السيد محمد صادق بحر العلوم.

١٥٢

الحاج محمد الخليلي

المتوفى 1355

يا رب عوّضتَ الحسين

بكربلا عما أصابه

إن الذي من تحت قبته

دعاك له استجابه

يممت مرقده لما

أيقنت باب الله بابه

صُبّت على قلبي الهموم

وناظري أبدى انسكابه

وتمثّلت لي كربلا

وحسين ما بين الصحابه

مثل الأضاحي في الثرى

سلب العدى حتى ثيابه

مالي دعوتُ بها فلم

أرَ منك يا رب الإجابه

والقلب مني لاهب

هلا تسكّن لي التهابه

الحاج محمد ابن الحاج ميرزا حسين الخليلي، عالم ورع وأديب شاعر ولد في النجف ونشأ بها على أبيه ودرس المقدمات على اساتذة مشهورين فنال حظوة كبيرة من العلم واتصل بحلقة الامام الخراساني مضافاً إلى دراسته عند والده العالم الجليل حتى حصل على إجازة اجتهاد من جملة من اعلام عصره واشتهر بالزهد والورع حتى خلف أباه في إمامة الصلاة بالناس واءتمّ به الأتقياء والأولياء والصلحاء ثم انصرف عن ذلك لأنه خاف الرياء والزهو وعكف على الطاعة في زوايا المساجد وحرم الامام أمير المؤمنين (ع) وحفظ القرآن من كثرة

١٥٣

تلاوته له، وإلى جنب ذلك فهو مرح إلى أبعد حدود المرح ولا يكاد جليسه يملّ مجلسه ألّف في الفقه كتاب الطهارة، والخمس، وغريب القرآن رتّبه على حروف المعجم وبناه على ثلاثة أعمدة: الأول اسماء السور، الثاني الكلمات العربية، الثالث التفسير المستقى من أشهر التفاسير.

نظم الشعر في صباه وتطرق إلى فنونه وأغراضه وأكثر من النظم في أهل البيتعليهم‌السلام فمن قوله في الإمام الحسينعليه‌السلام :

هل بعد ما طرد المشيب شبابي

أصبو لذكر كواعب أتراب

وأروح مرتاحاً بأندية الهوى

ثملاً كأبناء الهوى متصابي

وتئنّ نفسي للربوع وقد غدا

بيت النبوة مقفر الأطناب

بيت لآل محمد في كربلا

قد قام بين أباطح وروابي

وقال متوسلاً بالعباس بن عليعليهما‌السلام :

أبا الفضل هل للفضل غيرك يرتجى

وهل لذوي الحاجات غيرك ملتجى

قصدتك من أهلي وأهلي لك الفدا

وهل يقصد المحتاج إلا ذوي الحجى

وقال يعاتب بعض أصدقائه في رسالة أرسلها إلى النجف:

لي بالغري أحبّةٌ

ما أنصفوني بالمحبه

أخذوا الفؤاد وخلّفوا

جثمانه في دار غربه

يا دهر ما أنصفتني

كلفتني الأهوال صعبه

حملتني بُعد الديار

وبُعد من أشتاق قربه

قسماً بأيام مضت

في وصل مَن أهواه عذبه

لم يحلُ لي غير الغري

وغير أندية الاحبه

أوّاه هل لي للحمى

من بعد بُعد الدار أويه

لأقبّل الأعتاب من

مولى الورى وأشمّ تربه

١٥٤

حرمٌ ملائكة السما

لطوافها اتخذته كعبه

وبه نشاوى العارفون

قد احتسوا كأس المحبه

وله مستنهضاً أبناء يعرب:

بني يعرب أنتم أقمتم بعزكم

قواعد دين المصطفى أول الأمر

وشيدتم منه مبانيه بالضبا

وسجفتموه بالمثقفة السمر

يهون عليكم ما اشدتم بناءه

تهدده بالهدم رغما يد الكفر

وله راثيا ولده

فمن مخبري عن نبعة قد غرستها

بقلبي حتي اينعت جذها القضا

ومن مخبري عن فلذة من حشاشتي

برغمي قد حزت وما لي سوي الرضا

اريحانه الروح التي ان شممتها

وبي نزل الهم المبرح قوضا

ومصباح انسي ان علي تراكمت

حطوب بعيني سودت سعة الفضا

رحلت وقد خلفت بين جوانحي

لهيب جوي من دونه لهب الغضا

ورحت ولي قلب يقطعه الاسي

وطرف علي اقذي من الشوك غمضا

تمثلك الذكرى كأنك حاظرٌ

فانظر بدراً في الدياجر قد أضا

وقال من قصيدة:

شاقها الراح فجدّت في سراها

أملا تبلغ بالسير مناها

قرّبت كل بعيد شاسع

مذ غدت تذرع في البيد خطاها

قطعت قلب الفلا مذ واصلت

بالسرى سهل الفيافي برباها

يعملات ما جرت في حلبة

والصبا إلا الصبا ظلّ وراها

يا رعاها الله من سارية

كم رعت في سيرها من قد علاها

١٥٥

ويتخلص إلى ركب الإمام الحسينعليه‌السلام :

سادة كادت مصابيح الدجى

يهتدي فيها الذي في الغيّ تاها

وولاة الأمر في الخلق ومن

فرض الله على الخلق ولاها

غدرت فيهم بنو حرب وهم

أقرب الناس إلى المختار طاها

أخرجتهم عن مباني عزّهم

وبيوت طهّر الله فِناها

بالفيافي شتت شملهم

وعليهم ضيقت رحب فضاها

أنزلوهم كربلا حتى إذا

نزلوها منعوهم عذب ماها

بينهم والماء حالت ظلمة

من جموع عدّها لا يتناهى

توفي بالنجف ليلة الخميس 13 ذي الحجة سنة 1355 ه‍. ودفن بمقبرة والده رحمهما الله.

١٥٦

ملا علي الزاهر العوّامي

المتوفى 1355

قال يصف حالة الإمام الحسين (ع) عند فجيعته بأخيه العباس يوم عاشوراء:

أنست رزيتك الأطفال لهفتها

بعد الرجاء بأن تأتي وترويها

أراك يا بن أبي في الترب مُنجدلاً

عليك عين العلى تهمي أماقيها

هذا حسامك يشكو فقد حامله

إذ كنت فيه الردى للقوم تسقيها

وذا جوادك ينعى في الخيام وقد

أبكى بنات الهدى مَن ذا يسليها

شلّت يمين برت يمناك يا عضدي

وذي يسارك شل الله باريها

نامت عيون بني سفيان وافتقدت

طيب الكرى اعين كانت تراعيها(1)

الخطيب علي بن حسن بن محمد بن أحمد بن محسن الزاهر المتولد سنة 1298 ه‍. والمتوفى سنة 1355 ه‍. نائحة أهل البيت وداعيتهم وجاذب القلوب نحو واعيتهم فقد اشاد مؤسسة باسم ( الحسينية ) ولم تزل تعرف باسمه في ( العوامية ) نظم باللغتين: الفصحى والدارجة ومن قصائد قوله في مطلع حسينية نظمها من قلب قريح:

يا ليوث الحروب من آل طاها

أسرجوا الخيل يا ليوث وغاها

وديوانه المخطوط يضم جملة من أشعاره ..

__________________

1 - اعلام العوامية في القطيف.

١٥٧

الشيخ موسى العِصامي

المتوفى 1355

قال في قصيدة حسينية:

أحاطت به وبست الجهات

أحاط بها الخطر المرعبُ

فخيرها قبل حكم الضيا

ونقط الاسنة ما استصوبوا

فإما يعود إلى يثرب

ومن حيث جاء لها يطلب

واما الجبال وشعب الرمال

وظهر الفيافي لها يركب

واما يسير لبعض الثغور

يقيم بها مع من يصحب

فما رغبت منه في واحد

ولو أنصفت لم تكن ترغب

رأت منه قلّة أنصاره

فظنت بكثرتها ترعب

وسامته يخضع وهو الأبي

وأنى يقاد لها المصعب

فناجزها الحرب في فتية

لهم باللقا شهدت يعرب

بها ليل تحسب ان الردى

إذا جدّ ما بينها ملعب

لها الموت يحلو خلال الصفوف

وما مرّ من طعمه يعذب

سواء عليها الفنا والحياة

إذا استرجع التاج والمنصب

لهم دون مركزهم موقف

إلى الحشر ناديه يندب

أشادوا الهدى فوق تاج الأثير

ومبنى الضلال به خرّبوا

١٥٨

فما حزب طالوت ذو البيعتين

ولا أهل بدر وإن أنجبوا

ولا يوم احزابها يومهم

واحدٍ وما بعدها يعقب

ولا الجاهلية ذات الحروب

بحربهم حربها يحسب

بسبعين ألفاً خلال الوغى

تجول وأمدادها تلعب

رسوا كالجبال وهم واحد

وستين لكنهم ذرّب

أجالوا الوغى جولان الرحى

وللحشر نيرانها تلهب

سل الشام عنها وأهل العراق

فهل سلمت منه إذ تهرب

الشيخ موسى بن محسن بن علي بن حسين بن محمد بن علي بن حماد الشهير بالعصامي نسبة إلى بني عصام بطن من هوازن، لامعاً في عصره خطيب وشاعر، ولد في النجف الأشرف سنة 1305 ه‍. ونشأ بها يتعاهد تربيته أعمامه فدرس العربية والمنطق على أساتذة معروفين منهم السيد جواد القزويني كما درس البلاغة على العالم الجليل الشيخ يوسف الفقيه والشيخ عبد الرسول الحلبي والسيد حسين ابن السيد راضي القزويني.

ودرس الفقه والاصول على الشيخ عبد الكريم شرارة والشيخ صادق الحاج مسعود والشيخ المصلح الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وحضر عند الشيخ حسين الدشتي فأخذ عنه علم الحساب والهندسة والكلام والحكمة واشتهر بين أخدانه بالفضل وعرفه جمهور الناس من مواقفه الخطابية إذ كان خطيباً جماهيرياً ومرشداً مصلحاً يخطب ويكتب ويعظ ويرشد أينما حل، ولكن مجتمعه مصاب بداء الأنانية وأمة كما قيل فيها: لا تعمل ولا تحب أن يعمل أحد، لذاك ناوأه الكثير ووقفوا في طريق اصلاحه حتى ودع الحياة بكربلاء في آخر يوم من شهر رمضان عام 1355 ه‍. ونقل جثمانه للنجف حيث دفن رحمه الله.

١٥٩

آثاره العلمية:

1 - منظومة في الإمامة تناهز الثمانمائة بيتاً.

2 - البراءة والولاية، بحث دقيق.

3 - تاريخ الثورة العراقية.

4 - الدعوة الحسينية وأثرها.

5 - الضالة المنشودة في الحياة.

6 - الهدى والاتحاد، أهداه إلى أبطال الدستور في الاستانة بتوسط الصدر الأعظم طلعت باشا.

7 - الدراية في تصحيح الرواية.

8 - بحث في الحجاب، وغيرها مما يزيد على العشرين مؤلفاً، وديوانه الحافل بمختلف المواضيع وطرق سائر الأبواب ومن مراسلاته قصيدته التي أرسلها للشيخ خزعل خان أمير المحمرة ومطلعها:

لك الهنا ولي الأفراح والطرب

مذ ساعفتني بك الأيام والأرب

فقل لساقي الطلى نحيّ الكؤوس وإن

انيط عني في راحاتها التعب

هذا لماك وهذا ثغرك الشنب

فما الحميا وما الأقداح والحبب

أعطاف قدك تصمي لا القنا السلب

وسهم عينيك لا نبعٌ ولا غرب

ووجهك الصبح لكن فاته وضحاً

وثغرك البرق لكن فاته الشنب

ويلاي لا منك يا ريم العذيب فمن

عينيّ جاء لقلبي في الهوى العطب

وكلها بهذه القوة والمتانة والرقة والسلاسة، ومن مشهور غرامياته قوله:

طاف بكاس المدام أغيد

من فضة والسلاف عسجد

وزفّها في الدجى عروساً

توجّها اللؤلؤ المنضد

تلهبت في يديه لكن

بوجنتيه السنا توقد

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581