مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن6%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 272938 / تحميل: 6489
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

( قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا (١) أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( القصص / ٤٩ ).

ويدلّ على هذه الحقيقة مضافاً إلى ذلك ما روي عن أبي السكيت أنّه قال لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام :

« لماذا بعث الله موسى بن عمرانعليه‌السلام بالعصا، ويده البيضاء، وآلة السحر ؟ وبعث عيسى بآلة الطب ؟ وبعث محمداً ـ صلى الله عليه وآله وسلّم وعلى جميع الأنبياء ـ بالكلام والخطب ؟.

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : إنّ الله لـمّا بعث موسىعليه‌السلام كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم. وانّ الله بعث عيسىعليه‌السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات، واحتاج النّاس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجّة عليهم.

وانّ الله بعث محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام. وأظنّه قال: الشعر، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجّة عليهم »(٢) .

أضف إلى ذلك أنّ نبوّة الرسول الأكرم نبوّة خالدة ورسالته رسالة أبدية فهو خاتم الأنبياء والمرسلين كما أنّ كتابه خاتم الكتب، ورسالته خاتمة الرسالات، فيجب أن تقترن الرسالة الأبديّة بمعجزة خالدة حتّى تتمّ الحجّة على مرّ الأجيال والعصور، ولا يختلق الجاهل عذراً يبرّر له رفضه لتلك الرسالة بعد رحيل الصادع بها، وتباعد العهد وطول الشقّة الزمنيّة.

__________________

(١) الضمير راجع إلى التوراة والقرآن.

(٢) الكافي: ج ١ « كتاب العقل والجهل » الرواية ٢٠.

١٦١

كلّ ذلك كان حافزاً لدعم دعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن الكريم الّذي ما أفلت أنواره منذ أن بزغ نجمه في أوّل مرّة.

٧ ـ لماذا لا ينزلّ عليه ملك ؟!

وهذا الإعتراض يحكيه عنهم قوله سبحانه:( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) ( الأنعام / ٨ ) وما كانوا يقصدون به أنّه لماذا لا ينزل الملك إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه كان يدّعي نزول الملك عليه والقرآن أيضاً يصدّقه في ذلك بقوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٣ و ١٩٤ ).

وقال سبحانه:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) ( التكوير / ١٩ ـ ٢١ ) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ الوحي ينزل على النّبيّ بتوسّط الملك، ومع هذا التصريح فما معنى قوله:( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) ؟.

أقول: إنّ الاقتراحات الّتي تقدّم بها المشركون في نزول الملك معه أو إليه كانت على أنحاء:

الأوّل: إنّهم كانوا يطلبون المشاركة في امتيازات مقام النبوّة ويقولون: إنّه لو صحّ نزول الملك على النبيّ فلماذا لا ينزل علينا مباشرة على جهة الاستقلال ؟ وقد ورد في ذلك آيات نحو قوله تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ) ( الفرقان / ٢١ ) وقال سبحانه:( إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ إلّا تَعْبُدُوا إلّا اللهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( فصّلت / ١٤ ).

إنّ هذا القسم من الآيات مبني على إعتقادهم بأنّه لا يصحّ لأحد من البشر ولو كان أرقاهم عقلاً وخلقاً وأدباً أن يكون رسولاً وواسطة بين الله وعباده، لأنّهم يأكلون ويشربون وفي ذلك قال سبحانه حاكياً عنهم:( مَا هَٰذَا إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ *وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا

١٦٢

لَّخَاسِرُونَ ) ( المؤمنون / ٣٣ ـ ٣٤ ).

الثاني: كانوا يطلبون أن ينزل مع النبيّ ملكٌ يصدّقه، وقد ورد هذا المعنى في عدّة آيات، قال سبحانه:( وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ) ( الفرقان / ٧ ) فالغاية من نزول الملك إلى النبي كونه نذيراً معه ومصدّقاً له، قال سبحانه:( فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) ( الزخرف / ٥٣ ) وقال سبحانه:( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( هود / ١٢ ).

وعلى ذلك يحمل قوله سبحانه:( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) ( الأنعام / ٨ ).

ويحتمل أن يكون المراد مشاهدة الملك معه فقط سواء أنذر معه أو لا ؟ فيدخل في القسم الثالث الآتي.

ثمّ إنّ إنزال الملك مع النبيّ ليصدّق دعوته وينذر معه يتصوّر على وجهين:

أ ـ أن ينزل الملك بصورته الواقعية ـ وسيوافيك في القسم الثالث ـ إنّ نتيجة ذلك هو موت المنذرين لأنّهم لا يحتملون رؤيته ومشاهدته بحسب طاقتهم البشريّة إلّا بالانسلاخ عن الماديّة والإنتقال إلى مرحلة أعلى منها.

ب ـ أن ينزل الملك لا بصورته الواقعيّة بل يتمثّل بصورة إنسان وهذا لا يفيد شيئاً لأنّهم باستطاعتهم أن يتّهمونه بأنّه بشر مثل النبيّ وليس بملك.

وبعبارة اُخرى: لو جعله ملكاً في صورة بشر لجزموا ببشريّته لأنّهم لا يدركون منه إلّا صورته الظاهرية وصفاته البشريّة التي تمثّل بها، وحينئذ لا يصدّقونه ويرجع الأمر كما كان في بادئ ذي بدء، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) ( الأنعام / ٩ ) أي لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما

١٦٣

لحق، وهذا إحتجاج عليهم بأنّ الّذي طلبوه لا يزيدهم بياناً بل يكون الأمر عبثاً ولغواً لا طائل وراءه(١) .

الثالث: كانوا يطلبون مشاهدة الملك عياناً على أن يكون الإتيان بالملك، إحدى معاجزه مثل قوله سبحانه:( أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) ( الإسراء / ٩٢ )، قال سبحانه:( لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ( الحجر / ٧ )، قال سبحانه:( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / ١١١ ).

ويردّ القرآن على هذا الاحتجاج:( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) ( الأنعام / ٨ ) أي يكون هلاكهم قطعيّاً على ما يوضّحه النص التالي:

إنّ نفوس المتوغّلين في عالم المادّة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرف الملائكة فلو ارتفع الناس إلى المرتبة الوجودية للملائكة لم يكن ذلك إلّا إنتقالاً منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراءها وهو الموت كما قال تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا *يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ) ( الفرقان / ٢١ و ٢٢ )(٢) . قال ابن عباس: ولو أتاهم ملك في صورته لأهلكناهم ثمّ لا يؤخّرون(٣) .

٨ ـ التفاؤل بغلبة فارس على الروم

قد نشبت حرب دامية بين الروم والفرس، والنبيّ والمسلمون بمكّة حوالي سنة سبع من البعثة، فغلبت الفرس على الروم فتفألت بذلك قريش بحجّة أنّ الفرس

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ٧٦ و ٧٧.

(٢) الميزان: ج ٧ ص ١٦.

(٣) دلائل النبوّة للبيهقي: ج ٢ ص ٣٣٢.

١٦٤

وثنيّون والروم أهل كتاب فقالوا: الروم أهل كتاب وقد غلبتهم الفرس وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الّذي اُنزل على نبيّكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم، فأنزل الله سبحانه:( ألم *غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ *بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ( الروم / ١ ـ ٥ ).

والآية تتضمن خبراً غيبياً بل خبرين حيث يخبر عن غلبة الروم على الفرس أوّلاً في بضع سنين أي في مدة لا تتجاوز تسع سنين، وأنّه في ذلك اليوم ينزل النصر على المؤمنين أيضاً وقد تحقّق الخبران يوم ظهر المسلمون على مشركي قريش يوم بدر. قال عطية: وسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك فقال: التقينا مع رسول الله ومشركي العرب، والتقت الروم وفارس فنصرنا الله على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس ففرحنا بنصر الله إيّانا على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس، وذلك قوله:( يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ *بِنَصْرِ اللهِ ) (١) .

٩ ـ طلب رفع العذاب

لـمـّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الناس إدباراً فقال: أللّهم سبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاءه أبوسفيان وناس من أهل مكّة فقالوا: يا محمّد، إنّك تزعم أنّك بعثت رحمة وأنّ قومك قدهلكوا فادع الله لهم، فدعا رسول الله فسقوا فأطبقت عليهم سبعاً، فشكى الناس كثرة المطر، فقال: أللّهم حوالينا ولا علينا، فانحدرت السحابة عن رأسه فسقى الناس حولهم(٢) .

وروى السيوطي: انّ قريشاً لـمّا استعصيت على رسول الله وأبطأؤا عن الإسلام قال: أللّهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم جهد وقحط حتّى أكلوا العظام

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٤ ص ٢٩٥.

(٢) دلائل النبوّة: ج ٢ ص ٣٢٦.

١٦٥

فجعل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع فأنزل الله:( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ *يَغْشَى النَّاسَ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( الدخان / ١٠ و ١١ ) فاُتي النبيّ فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر، فاستسقى لهم فسقوا فأنزل الله:( إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) ( الدخان / ١٥ )، فلمّا أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله:( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ) ( الدخان / ١٦ ) فانتقم الله منهم يوم بدر(١) .

١٠ ـ كيف يمكن إحياء العظام البالية ؟

مشى اُبيّ بن خلف إلى رسول الله بعظم بال قد اُرفت فقال: يا محمّد إنّك تزعم أنّ الله يبعث هذا بعدما أرم ؟ ثمّ فتّه بيده، ثمّ نفخه في الريح، فقال رسول الله: نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإيّاك بعدما تكون هكذا ثمّ يدخلك الله النار، فأنزل الله تعالى فيه:( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) ( يس / ٧٨ ـ ٨٠ )(٢) .

١١ ـ هل المسيح حصب جهنّم ؟!

جلس رسول الله مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث، حتّى جلس معهم في المجلس وفي المجلس غير واحد من رجال قريش فتكلّم رسول الله، فعرض له النضر بن الحارث، فكلّمه رسول الله حتّى أفحمه ثمّ تلى عليه وعليهم:( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ *لَوْ كَانَ

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٦ ص ٢٨.

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٣٦١ و ٣٦٢. وسيوافيك جميع حججهم الواهية حول المعاد في الجزء المختص به بإذن الله، ولذلك آثرنا في المقام الإختصار.

١٦٦

هَٰؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ *لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) ( الأنبياء / ٩٨ ـ ١٠٠ ).

فأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتّى جلس فقال الوليد بن مغيرة لعبد الله ابن الزبعري: والله قد زعم محمّد إنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنّم. فقال عبد الله بن الزبعري: أمّا والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمداً أكلُّ ما يعبد من دون الله في جهنّم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنّصارى تعبد عيسى بن مريم، فعجب الوليد ومع من كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنّه قد احتجّ وخاصم فذكر ذلك لرسول الله من قول ابن الزبعري فأنزل الله تعالى عليه:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) ( الأنبياء / ١٠١ و ١٠٢ ) أي عيسى بن مريم وعزيراً ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتّخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله.

فنزل فيما يذكرون أنّهم يعبدون الملائكة، وإنّهنَّ بنات الله:( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ *لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ـ إلى قوله ـوَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذَٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) ( الأنبياء / ٢٦ ـ ٢٩ ).

ونزل في ما ذكر من أمر عيسى بن مريم أنّه يعبد من دون الله. وعجب الوليد ومن حضر من حجّته وخصومه( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ إِنْ هُوَ إلّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ *وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ *وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) ( الزخرف / ٥٧ و ٥٩ ـ ٦١ ).

* * *

١٦٧

خاتمة المطاف:

دعاء النّبيّ على سبعة من قريش

استقبل رسول الله البيت فدعا على نفر من قريش سبعة فيهم أبو جهل، واُميّة ابن خلف، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن أبي معيط، قال عبد الله بن مسعود اُقسم بالله لقد رأيتهم صرعى على بدر، قد غيّرتهم الشمس وكان يوماً حارّاً(١) .

وقد نزلت آيات في حقّهم وحقّ غيرهم تقدّم بعضها وإليك البقية الباقية منها:

١ ـ لـمّا أرادت قريش البطش بالنبيّ أخذوا يتناولونه بالنبز واللمز والهمز وصور الاستهزاء المختلفة وجعل القرآن ينزل في قريش يخبر عن أعمالهم وعدائهم، فمنهم من سمّي لنا، ومنهم من لم يسمّ، وممّن سمّي لنا من قريش عمّه أبو لهب بن عبد المطلب وامرأته اُم جميل بنت حرب بن اُميّة، حمّالة الحطب، وإنّما سمّاها الله تعالى حمّالة الحطب، لأنّها كانت ـ تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حيث يمرّ، فأنزل الله تعالى فيهما:( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) (٢) .

٢ ـ إنّ اُميّة بن خلف كان إذا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، همزه ولمزه، فأنزل الله تعالى فيه:( وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ *الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ *يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ *كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ *نَارُ اللهِ المُوقَدَةُ *الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ *إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ *فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ) ( الهمزة / ١ ـ ٩ )(٣) .

__________________

(١) دلائل النبوة: ج ٢ ص ٣٣٥.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام: ج ١ ص ٣٥٥.

(٣) المصدر السابق: ج ١ ص ٣٥٦.

١٦٨

٣ ـ لقى أبو جهل بن هشام رسول الله فقال له: والله يا محمّد لتتركنّ سب آلهتنا أو لنسبنّ إلهك الذي تعبد، فأنزل الله تعالى:( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( الأنعام / ١٠٨ )(١) .

لـمّا نزل قوله سبحانه:( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ *لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ *لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ *عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) ( المدثر / ٢٦ ـ ٣٠ )، قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم اُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم بأنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنّم، فقال أبو الأسد الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر، عشرة على ظهري، وسبعة على بطني، فاكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله:( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ) ( المدثر / ٣١ )(٢) .

لـمـّا ذكر الله عزّ وجلّ شجرة الزقوم ترهيباً بها وقال:( أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ *إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ *إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الجَحِيمِ *طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ *فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ *إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ *ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجَحِيمِ ) ( الصافات / ٦٢ ـ ٦٨ ).

قال أبو جهل: يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزّقوم الّتي يخوّفكم بها محمّد ؟ قالوا: لا، قال: عجوة يثرب بالزبد، والله لئن استمكنّا منها لنتزقمنّها تزقّماً. فأنزل الله تعالى فيه:( إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الأَثِيمِ *كَالمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ *كَغَلْيِ الحَمِيمِ ) ( الدخان / ٤٣ ـ ٤٦ ).

__________________

(١) المصد السابق: ج ١ ص ٣٥٧.

(٢) لاحظ مجمع البيان: ج ٥ ص ٣٨٨. والميزان: ج ٢٠ ص ١٧٠، والمقصود ما أخبرنا عن عدّتهم انّها تسعة عشر إلّا ليكون فتنة للذين كفروا، وفي الوقت نفسه يكون سبباً لاستيقان أهل الكتاب، لأنّهم يجدونه موافقًا لما جاء في كتابهم كما يكون سبباً لزيادة إيمان المؤمنين بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك.

١٦٩

قال ابن هشام: المهل كلّ شيء أذبته من نحاس أو رصاص، أو ما أشبه ذلك، فيما أخبرني أبا عبيدة: قال: كان عبد الله بن مسعود والياً لعمر بن الخطاب على بيت مال الكوفة وأنّه أمر يوماً بفضة فاُذيبت فجعلت تلوّن ألواناً، فقال: هل بالباب من أحد ؟ قالوا: نعم. قال: فاُدخلوهم، فاُدخلوا، فقال: إنّ أدنىٰ ما أنتم راوون شبهاً بالمهل كهذا(١) .

٤ ـ إنّ اُبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط كانا متصافيين، حسناً ما بينهما، فكان عقبة قد جلس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسمع منه، فبلغ ذلك اُبيّاً، فأتى عقبة فقال ( له ): ألم يبلغني إنّك جالست محمّداً وسمعت منه وجهي من وجهك حرام أن اُكلّمك ـ واستغلظ من اليمين ـ إن أنت جلست إليه أو سمعت منه، أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله. فأنزل الله تعالى فيهما:( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ) إلى وقوله تعالى:( لِلإِنسَانِ خَذُولاً ) ( الفرقان / ٢٧ ـ ٢٩ ).

٥ ـ ابن أخنس بن شريف الذهبي حليف بني زهرة، كان من أشراف القوم وممّن يستمع منه، وكان يصيب من رسول الله ويرد عليه، فأنزل الله تعالى فيه:( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ *هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ *مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ ) ( القلم / ١٠ ـ ١٣ ).

قال ابن هشام: ولم يقل « زنيم » لعيب في نسبه وإنّ الله لا يعيب أحداً بنسب ولكنّه حقّق بذلك نعته ليعرف. والزنيم: العديد ( الدعيّ ) للقوم(٢) .

٦ ـ إنّ العاص بن وائل كان من أعداء النبيّ وكان خبّاب بن الأرتّ، صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قيناً بمكّة يعمل السيوف، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفاً عملها له حتى كان عليه مال، فجاءه يتقاضى، فقال له

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٦٢ و ٣٦٣.

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٣٦٠.

١٧٠

يا خبّاب أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أنّ في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب، أو فضّة، أو ثياب، أو خدم. قال خبّاب: بلى. قال: فانظرني إلى يوم القيامة يا خبّاب حتى أرجع إلى تلك الدار فاقضيك هنالك حقّك، فوالله لا تكون أنت وصاحبك يا خبّاب آثر عند الله منّي، ولا أعظم حظّاً في ذلك. فأنزل الله تعالى فيه:( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا *أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا *كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا *وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ) ( مريم / ٧٧ ـ ٨٠ ).

٧ ـ وقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله ورسول الله يكلّمه وقد طمع في إسلامه، فبينما هو في ذلك إذ مرّ به ابن اُم مكتوم الأعمى فكلّم الأعمى رسول الله وجعل يستقرئه القرآن، فشقّ ذلك منه على رسول الله حتى اُضجره وذلك أنّه شغله عمّا كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه، فأنزل الله تعالى فيه:( عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ *أَن جَاءَهُ الأَعْمَىٰ *وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ *أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ *أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ *فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ *وَمَا عَلَيْكَ إلّا يَزَّكَّىٰ *وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ *وَهُوَ يَخْشَىٰ *فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ *كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ *فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ) ( عبس / ١ ـ ١٢ )(١) .

وما ذكره ابن هشام وغيره وان كان ينطبق على ظاهر الآيات ولكنّه لا يتفق مع خلق النبي الذي وصفه سبحانه بقول:( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

وفي بعض الروايات أنّ العباس المتولّي، رجل من بني اُميّة، كان عند النبي فدخل على النبي ابن اُم مكتوم فعبس الرجل وقبض وجهه فنزلت الآيات.

قال العلّامة الطباطبائي: وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أنّ المراد بها هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بل خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه، بل فيها ما يدل على أنّ المعنيُّ بها غيره، لأنّ العبوس ليس من صفات النبي ( صلى الله عليه

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٣٦٣، وأكثر التفاسير نقلوا هذا المضمون.

١٧١

وآله وسلم ) مع الأعداء فضلاً عن المؤمنين به والموالين له، وعلى كلّ تقدير، فإنّ توصيفه بأنّه يميل للأغنياء ويعرض عن الفقراء لا يتناسب مع أخلاقه الكريمة كما عن المرتضىرحمه‌الله .

وقد أوضحنا الحال في الجزء الخامس من هذه الموسوعة(١) .

٨ ـ كان العاص بن وائل السهمي ـ إذا ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال: دعوه، فإنّما هو رجل أبتر لا عقب له، لو مات لانقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله في ذلك:( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ما هو خير لك من الدنيا وما فيها، والكوثر: العظيم.

إنّ هذه الآية تتضمّن خبراً غيبيّاً وهو أنّه سيكثر نسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ تعيير العدو يرجع إلى نفسه، وعلى الرغم من أنّ أهل بيته لاقوا من الاُمّة ما لاقوا من القتل والتشريد والتنكيل، ومع ذلك نجد نسل الرسول قد بلغ من التصّور ما بلغ. قال الرازي: « فانظر كم قتل من أهل البيت ثمّ العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بين اُميّة في الدنيا أحد يعبأ به، ثمّ انظر كم فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا: والنفس الزكية وأمثالهم »(٢) .

هذا ما يقوله الرازي في القرن السابع أو أواخر القرن السادس، ونحن في أوائل القرن الخامس عشر، وقد ملأ العالم نسل البتول، وهذه بلاد المغرب وتونس والجزائر ومصر والشام وتركيا وايران والعراق زاخرة بالشرفاء من أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فصدق قول الله العلي العظيم:( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) .

إنّ منصب نقابة الطالبين في عصر الرضاعليه‌السلام وبعده إلى عصر الشريف الرضي الذي تصدّر هذا المنصب عام ٣٨٠ ه‍، لأوضح دليل على كثرة

__________________

(١) مفاهيم القرآن: ج ٥ ص ١٣٠ عند البحث عن عصمة النبي.

(٢) مفاتيح الغيب: ج ٨ ص ٤٩٨ ( طبع مصر ـ ١٣٠٨ ).

١٧٢

الطالبيين من نسل البتول إلى حد عيّن لهم نقيب كالإمام الرضا والشريف الرضي، والمسؤولية الملقاة على عاتقه، ضبط مواليدهم ووفياتهم وأنسابهم والقيام بمهام اُمورهم وهدايتهم وإرشادهم إلى ما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم على حد ما ذكره الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية(١) .

__________________

(١) الأحكام السلطانية: ص ٨٢ ـ ٨٦.

١٧٣

ج ـ الإقتراحات الباطلة لقبول الرسالة

الدارج والمألوف بين الدبلوماسيين إذا كانوا بصدد رفع ما بينهم من خصومة ومرافعة، هو الجلوس على طاولة المفاوضات وإبداء بعض التنازلات عن المصالح الجزئية لقاء الحفاظ على مصالح اُخرى أكثر أهميّة بالنسبة لهم مع سعيهم الحثيث للحفاظ على حرمة الاُصول المبدئية للطرفين.

ولكن القوم لتشبّثهم بما كانوا عليه، وغربتهم عن العلم باُصول دعوة الأنبياء وأهدافها السامية، كانوا يطلبون من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اُموراً مختلفة: منها ما يضاد الاُصول التي بنيت عليها الشرائع السماوية، ومنها ما يدخل في المحالات بالذات، ومنها ما هو خارج عن نطاق وظائف الرسل والأنبياء، ولا يمت بصدق دعوتهم ورسالتهم، وإليك جملة من هذه الطلبات التي تقدّموا بها على ضوء الكتاب العزيز:

١ ـ التشريك في العبادة

روى المفسّرون أنّ نفراً من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي، والعاص ابن أبي وائل، والوليد بن المغيرة وغيرهم، قالوا: اتبع ديننا نتبع دينك، ونشركك في أمرنا كلّه، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً ممّا بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظّنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً ممّا في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظّك منه، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : معاذ الله أن اُشرك به غيره. قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك فقال: حتى انظر ما يأتي من عند ربي، فنزل:( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) فعدل رسول الله

١٧٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم، ثمّ قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا عند ذلك، فآذوه وآذوا أصحابه، قال ابن عباس: وفيهم نزل قوله:( قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ ) ( الزمر / ٦٤ )(١) .

وروى أبو حفص الصائغ عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام قالوا: نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة، فأنزل الله عليه:( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) (٢) .

نظراً لابتعاد هؤلاء عن النبوّة والأنبياء يخالون أنّ برامج الأنبياء في رسالاتهم برامج بشرية يسوغ لهم المساومة فيها وإبداء التنازلات عنها، ولأجل ذلك نزل الوحي رادّاً على تلك الفكرة الخاطئة وقال:( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ *لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ *وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ *وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) .

إنّ الدعوة إلى التوحيد في العبادة ورفض عبادة الغير هو الحجر الأساس الذي تهدف إليه الدعوة الإلهية المتمثّلة في رسالات الأنبياء، ولم يبعث نبي قط إلّا وكان هذا هو المحور المهمّ في صلب دعوته، فكيف يخوّل له التنازل عن هذا الأصل الأصيل. قال سبحانه:( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( النحل / ٣٦ ).

ويعرب أيضاً عن وجود مثل هذا الاقتراح قوله سبحانه:( وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً *وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً *إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) ( الأسراء / ٧٣ ـ ٧٥ ).

هذه الآيات تفصح عن شدة مكر المشركين وتماديهم في إنكار التوحيد حيث

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٥، ص ٢٥٢.

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٣٦٢، بحار الأنوار: ج ٧ ص ٢٣٩.

١٧٥

أرادوا أن يفتنوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن بعض ما اُوحي إليه أن يميل إلى الركون إليهم بعض الميل، ولكنّهم لم يحظوا بما كانوا يصبون إليه ويرمون تحقيقه من ميل النبي إليهم وافتتانه عن بعض ما اُوحي إليه والشاهد على ذلك أمران:

١ ـ قوله سبحانه:( وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) وهو صريح في أنّه لم يتحقّق الإفتتان.

٢ ـ قوله عزّ وجلّ:( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ) والمراد من التثبيت هو العصمة ولأجل ذلك قال:( لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ) ولم يقل: « كنت » والمراد القرب من الركون وأنّه لولا التثبيت لقرب ركونه إليهم ولكنّه لم يحصل القرب فضلاً عن الركون لأجل التثبّت.

٢ ـ تبديل القرآن بغيره

وقد كان من جملة الإقتراحات التي قدّمت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أزاء قبول دعوته هو تبديل القرآن لأنّه يشتمل على تخطئة ما كانوا هم وآباؤهم عليه من الإعتقاد والعمل، فاقترحوا عليه أن يأتي بقرآن خالي من ذلك، قال سبحانه في محكية عنهم:( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ) ( يونس / ١٥ ).

وهذا الإقتراح على غرار ما سبق ينبع عن جهل بمبادئ النبوّة والرسالة التي يتحمّلها الرسول من خلال دعوته وابلاغه وليس له حق في تحويره وابداله بل هو مأمور لا تتجاوز وظيفته حد الإبلاغ.قال سبحانه مشيراً إلى هذا الجواب:( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إلّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) ( يونس / ١٥ ).

فهذه الآية تفسّر حقيقة النبوّة وتبيّن حدود وظيفة النبي، فإنّه خاضع للوحي وليس له إلّا إبلاغ ما يوحى إليه وإنّ تبديل الموحى إليه عمل إجرامي لا يغتفر

١٧٦

وعصيان للرب موجب للثبور والخسران.

ثمّ إنّه سبحانه يرشد النبي إلى أن يستدل عليهم بأنّ القرآن ليس كلامه وإنّما هو وحي يوحى إليه من خلال تسليط الضوء على سيرته بينهم حيث عاش فيهم عمراً ولم يسمعوا منه شيئاً ممّا يشبه القرآن، فلو كان القرآن حصيلة فكره ونتاج عقله لبدر منه شيء طيلة أربعين سنة من عمره المنصرم إذ ( مَا أَضْمَرَ أحَدٌ شَيْئاً إلّا ظَهَرَ في صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ )(١) .

فامساكه في هذه الحقب والأعوام عن التفوّه بما يماثل ذلك لأوضح دليل على أنّه وحي اُوحى إليه في حاضر دعوته فكيف تقترحون عليه أن يأتي بقرآن غير هذا إذ ليس القرآن رهن إشارته وطوع اختياره وارادته حتى يأتي بطائفة منه ويعزف عن طائفة اُخرى واليه يشير قوله سبحانه:

( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس / ١٦ ).

فهؤلاء القوم مرضى القلوب والضمائر وضعفاء العقول والبصائر، يقترحون على الطبيب الإلهي أن يكتب لهم الوصفة العلاجية لدائهم المزمن حسبما تشتهي أنفسهم وأهواؤهم.

٣ ـ شروط تعجيزية

قد بلغ عناد القوم ولجاجهم في وجه الدعوة المحمديّة حدّاً كانوا يقترحون عليه اُموراً تارةً تدخل في حيّز المستحيلات ولا تتعلّق بها القدرة وإن بلغت ما بلغت، واُخرى اُموراً ممكنة ولكنّها خارجة عن نطاق وظائف النبي في دعوته ورسالته وتضاد أهدافها ولا تمت بالاستدلال على صدقها بصلة ولا تعد دليلاً على

__________________

(١) مقتبس من كلام لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام في قصار حكمه ( رقم ٢٦ ) من نهج البلاغة.

١٧٧

ربانيّة رسالته(١) .

وقد تعرّض القرآن الكريم لهذه الشروط المستحيلة أو الصعبة بأشكالها المختلفة في ضمن الآيات التالية:

( وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ :

١ ـحَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا

٢ ـأَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا

٣ ـأَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا

٤ ـأَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ

٥ ـوَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً

٦ ـأَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ

٧ ـأَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ

٨ ـوَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) .

هذا تصوير لجملة شروط القوم، وأمّا الجواب عنها فقد أوجزه في كلمتين:

١ ـ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي

٢ ـهَلْ كُنتُ إلّا بَشَرًا رَّسُولاً ) ( الأسراء / ٩٠ ـ ٩٣ )

هذه مطالبهم وإليك تفصيل القول فيها:

إنّ هذه المطالب بين محال لا تدخل في نطاق القدرة، وبين ما هو خارج عن وظيفة الرسول ورسالته، وبين ما هو يضادّ أهداف دعوته، أو لا يمت بصلة إلى صدق دعوته، كما سبق ذكره، وإليك بيانها بمزيد من التفصيل:

__________________

(١) لاحظ السيرة النبويّة: ج ١ ص ٢٩٦ و ٢٩٧ و ٣٠٩.

١٧٨

أمّا الأول: أعني تفجير الينبوع من الأرض فهو يحتمل معنيين:

١ ـ أن يفجّر الينبوع من الأرض وفق رغبتهم لنفسه حتى يكون رجلاً ثريّاً.

٢ ـ أن يفجّر الينبوع من الأرض لأجل هؤلاء حتى تصبح أراضيهم ومراتعهم مخضرّة مزهرة يانعة الثمار.

أمّا الإحتمال الأول: فلا يعد دليلاً على صدق الدعوة، ولو اُريد الثاني فهو على خلاف السنّة الإلهية فقد تعلّقت مشيئته الحكيمة بتحصيل هذه المواهب المادّية عن طريق الكدح والجد في ظل أعمال الطاقات البشرية، بالإضافة إلى أنّه خارج عن وظائف الرسالة، فإنّ الأنبياء قد بعثوا لهداية الناس إلى ما فيه سعادتهم في الدارين باراءة الطريق الموصل إليها، وأمّا القيام بتفجير الينبوع من الأرض فهو أمر خوّل إلى الناس أنفسهم.

وأمّا الثاني: فهو أن يكون للنبيّ جنّة من نخيل وعنب تجري الأنهار خلالها فلا صلة له بصدق الدعوة إذ أقصى ما يستدلّ به على أنّه رجل عاقل عارف بشؤون الفلاحة والتجارة أو رجل له مكانة مرموقة في المجتمع ولا تدلّ كثرة الأموال والإنتعاش الإقتصادي على صدق الدعوة، وقد مرّ تحقيق ذلك في تفسير قوله:( لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) .

وأمّا الثالث: أعني إسقاط السماء على رؤوسهم فهو يضادّ هدف الدعوة، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث لهداية الناس ورحمة بهم لا لإهلاكهم، نعم يمكن تصوّر ذلك إذا تمّت الحجّة عليهم ولم يبق لهم عذر في عدم قبول الدعوة، فربّما يشملهم العذاب وهو خارج عن موضوع البحث.

أمّا الرابع: أعني الإتيان بالله فهو طلب أمر محال، فهؤلاء كانوا يطلبون رؤية الله سبحانه قبيلاً ومواجهة. والله فوق الزمان والمكان لا يحيط به شيء، ولا يمكن أن تراه العيون بمشاهدة الأبصار وإنّما تراه القلوب بحقائق الإيمان.

١٧٩

وأمّا الخامس: أعني الإتيان بالملائكة قبيلاً ومشاهدتهم بانقلاب الغيب شهوداً فهو من المعاجز التي لو تحقّقت ولم يترتب عليها منهم إيمان واذعان لعمّهم العذاب ولا ينظرون، وقد مرّ ذلك في تفسير قوله:( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) ( الأنعام / ٨ ).

وأمّا السادس: وهو أن يكون له بيت من ذهب فلا صلة له بصدق الدعوة.

وأمّا السابع: وهو الرقي في السماء فهو أشبه باقتراح الصبيان ولو فرض تحققه عن طريق الإعجاز لما آمنوا به بشهادة قولهم في الإقتراح الثامن:( وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) . حيث صرحوا بأنّ رقيه في السماء غير كاف في إيمانهم وإذعانهم بل يجب أن يقترح عليه أمراً ثامناً وهو أن ينزل عليهم كتاباً يقرؤونه، ولعلّ مقصودهم أن ينزّل كتاباً فيه اسمه ورسالته.

إنّ هذه الإقتراحات التعجيزية أوضح شاهد على أنّ القوم لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة وتحرّي الواقع والصدق، ولو افترضنا النبي قد امتثل لبعض اقتراحاتهم الممكنة لوجدناهم يأتون بحجج واهية اُخرى بقصد التعجيز لا غير، ولأجل ذلك يقول سبحانه في حق هؤلاء وأشباههم:( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الأنعام / ٧ ).

ويقول سبحانه:( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَىٰ بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ) ( الرعد / ٣١ ). وهذه الآية ونظائرها تدلل بشواهد صادقة لا يشوبها الريب على أنّ القوم لم يكونوا بصدد الوقوف على الحقيقة واستكشافها ولأجل ذلك كانوا يقترحون على النبي اُموراً تنم عن روح العناد والمكابرة، وأمّا الذكر الحكيم فقد أجاب عنه بوجهين:

١ ـ( سُبْحَانَ رَبِّي ) ولعلّه جواب عن قولهم أو يأتي بالله، والله سبحانه منزّه عن المادّة وآثارها وليس للبشر تصحّ رؤيته بحاسة الأبصار. قال سبحانه:( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / ١٠٣ ).

١٨٠

٢ ـ( هَلْ كُنتُ إلّا بَشَرًا رَّسُولاً ) ومعناه أنّه بشر مأمور لا يستطيع القيام بالممكن من هذه الاُمور إلّا بإذنه سبحانه، شأن كل رسول في إنجاز رسالته.

وبعبارة اُخرى إنّكم إن كنتم تطلبون هذه الاُمور منّي بما أنا بشر، فالممكن منها خارج عن إطار قدرة البشر، وإن كنتم تطلبون مني بما أنني رسول مبلغ فلا أستطيع التصرف بلا إذن ورخصة منه سبحانه، وعلى كل تقدير فهؤلاء الجهلة المجادلون ما كانوا ليؤمنوا ولو جاءهم النبي بأضعاف ما لم يطلبوا به. قال تعالى:( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / ١١١ ).

والمراد من قوله:( إلّاأَن يَشَاءَ اللهُ ) هو المشيئة القاهرة التي تجبر الناس على الإيمان بالرسالة، وعندئذ لا يقام لمثل هذا الإيمان وزن ولا قيمة(١) .

* * *

٤ ـ طلب طرد الفقراء

روى الثعلبي باسناده عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقال: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أفنحن نكون تبعاً لهم ؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم ؟ أطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله تعالى:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ) (٢) .

__________________

(١) لقد بسطنا الكلام في الجزء الرابع من هذه الموسوعة في تحديد الشروط التي يجب للنبي دونها القيام بالمعجزة وبيّنّاه في مفاد الآيات النافية للإعجاز، لاحظ: ص ٩٥ ـ ١٥٤ من ذلك الجزء.

(٢) مجمع البيان: ج ٤ ص ٣٠٥.

١٨١

قال ابن هشام: وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا جلس في المسجد وجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب وعمّار وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن اُميّة بن محرث وصهيب وأشباههم من المسلمين، هزأت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق ؟ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصّهم الله به دوننا، فأنزل الله تعالى فيهم:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ *وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ *وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / ٥٢ ـ ٥٤ )(١) .

وقد ذكر في شأن نزول الآية وجه آخر يناسب كونها مدنيّة لا مكيّة، علماً بأنّ جميع آيات السورة مكيّة وهذا يبعد أن تكون هذه الآية وحدها مدنيّة مع أنّ لحن الآية يناسب كونها مكّية.

ومثله قوله سبحانه:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف / ٢٨ ).

والسورة مكيّة ومفاد الآية يشبه مفاد الآيات المكيّة، وقد ذكر في شأن نزولها أيضاً ما يعرب عن كونها مدنيّة، وإليك النص الدال على ذلك:

روى السيوطي في الدر المنثور: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي قاعداً مع بلال وصهيب وعمّار وخباب في اُناس ضعفاء من المؤمنين فلمّا رأوهم حقّروهم، فأتوه فخلوا به فقالوا: إنّا نحب أن تجعل

__________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام: ج ١ ص ٣٩٢ و ٣٩٣.

١٨٢

لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلاً، فإنّ وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمه معنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت، قال نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) إلى قوله( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فألقى رسول الله الصحيفة من يده، فأتيناه وهو يقول:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فكنّا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) قال: فكان رسول الله يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم(١) .

يقول العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد: « إستفاضت الروايات على نزول سورة الأنعام دفعةً، هذا والتأمل في سياق الآيات لا يبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنّما هي من قبيل ما نسمّيه تطبيقاً، بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الإنطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعدّوا القصّة سبباً لنزول الآية لا بمعنى أنّ الآية انّما نزلت وحدها دفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها، بل بمعنى أنّ الآية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) الآية، فإنّ الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنّها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة وعنده في كل مرّة عدّة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية إنعطاف إلى هذه الإقتراحات أو بعضها(٢) .

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٣ ص ١٣، ونقله في مجمع البيان عند تفسير الآيتين فلاحظ.

(٢) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٣

ويضيف قائلاً: « إنّ ما اقترح المشركون على النبي نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم على رسلهم من أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين تعزّزاً وتكبّرا وقد حكى الله سبحانه عن قوم نوح فيما حكى من محاجّتهعليه‌السلام حجاجاً يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى:( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) إلى أن قال:( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ *وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( هود / ٢٧ و ٢٩ و ٣٠ )(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٤

د ـ تعذيب النبيّ وأصحابه

قد كان إيقاع الأذى على الدعاة المصلحين من سنن المجتمعات الجاهلية حيث قد كان أهلها يخالونهم أعداء لأنفسهم ومصالحهم فكانوا يقابلونهم بالإيذاء والشتم والضرب والقتل فلم يكن النبي فيما لاقاه من الأذى والسب والتنكيل به وبأصحابه بدعاً من الاُمور.

وقد أدار المشركون رحى الشر عليهم طيلة لبثهم في مكة فجاء الوحي يحثّهم على الصبر والثبات بتعابير وأساليب مختلفة وإليك توضيح ذلك:

١ ـ نزل الوحي مسلّياً بقوله:( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ ) ( الأنعام / ٣٤ ) وقوله:( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ( النحل / ١٢٧ ).

٢ ـ ومحفزاً تارة اُخرى بتذكيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجَلَد أولى العزم في إداء رسالاتهم بقوله:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف / ٣٥ ).

٣ ـ وثالثة داعياً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله تفويض الأمر إلى الله والتريّث حتى يأتي موعده بقوله:( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / ١٠٩ ).

٤ ـ ورابعاً مروّضا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قبال ما يكال إليه من

١٨٥

صنوف الايذاء بقوله:( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ) ( المزمل / ١٠ ).

٥ ـ وخامساً منبّهاً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتجنب ما وقع فيه النبيّ يونس بقوله سبحانه:( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ) ( القلم / ٤٨ ).

فهذه الآيات ونظائرها تعرب عن عظم درجة الايذاء والوصب الذي عاناه النبي في سبيل إرساء قواعد دعوته حيث قابلها برحابة صدر وسعة نفس، وعلى الرغم من كل ذلك فلم تتحرك شفتاه بطلب إنزال العذاب عليهم. سواء عندما كان في مكة أم بعد مغادرتها إلى المدينة فكان يقابل تزمّت قومه وعنادهم بالحكمة والموعظة الحسنة ما وجد لذلك سبيلاً.

المضطهدون في صدر البعثة

وقد جاء في كتب السيرة أسماء الذين عذّبوا بيد قريش من صحابة النبي الأكرم وعلى رأسهم « ياسر » و « سميّة » أبوا عمّار، و « صهيب » و « بلال » و « خباب » وقد اُستشهد أبو عمّار واُمّ عمّار بتعذيب المشركين وأمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا منه وبقي قلبه مطمئن بالإيمان وعندما جاء خبر تعذيب قريش لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يزل يلهج بهم ويدعو لهم ويقول: إصبروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أبشروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أللّهم اغفر لآل ياسر وقد فعل.

يقول ابن هشام: وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار وأبيه واُمّه وكانوا أوّل أهل بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة يعذّبونهم برمضاء مكّة فيمر بهم رسول الله فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة. صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة(١) .

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ١ ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

١٨٦

يروي أبو نعيم عن عثمان بن عفان قال: لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالبطحاء فأخذ بيدي فانطلقت معه، فمرّ بعمّار واُمّ عمار وهم يعذّبون، فقال: صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة.

وروى أيضاً عن مجاهد: أوّل من أظهر الإسلام سبعة، فعدّ منهم عمّار وسميّة ـ اُمّ عمّار ـ.

وكانوا يلبسونهم أدراع الحديد ثمّ يسحبونهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلمّا كان من العشيّ أتاهم أبوجهل ـ لعنه الله ـ ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبّخهم(١) .

ثمّ إنّ المشركين أصابوا عمّار بن ياسر فعذّبوه ثمّ تركوه ( لأنّه أعطاهم ما يطلبون ) فرجع إلى رسول الله فحدّثه بالذي لقي من قريش.

وفي رواية: أخذ بنو المغيرة فغطّوه في بئر ميمون وقالوا: أكفر بمحمّد، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره.

وفي رواية ثالثة: أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكى ذلك إلى النبي، فقال النبي: كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإن عادوا فعد، فنزل قوله سبحانه:( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل / ١٠٦ ).

فأخبر الله سبحانه أنّه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب أليم، وأمّا من أكره وتكلّم بها لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه، لأنّ الله سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم(٢) .

__________________

(١) حلية الأولياء: ج ١ ص ١٤٠.

(٢) تفسير الطبري: الجزء ١٤، ص ١٢٢.

١٨٧

لقد تطرّق إلى بعض القلوب أنّ عمّاراً كفر، فقال النبي: إنّ عمّاراً مِلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال: ما وراءك ؟ فقال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، وأضاف الطبرسي أنّ ياسراً وسميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام(١) .

إنّ الأساليب التي أنتهجتها وتبنّتها قريش لشل حركة تقدم الدعوة النبويّة لـمّا أضحت فاشلة، إضطرّت إلى اللجوء إلى أسلوب آخر وهو اثارة الضوضاء والضجيج، للحيلولة دون بلوغ القرآن إلى مسامع الناس.

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن

كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي وكانت العرب تعرف بفطرتها أنّه كلام فوق كلام البشر، وأنّ له لحلاوة وأنّ عليه لطلاوة وأنّ أعلاه لمثمر وأنّ أسفله لمغدق وأنّه يعلو وما يعلى عليه(٢) .

هكذا وصف القرآن بعض أعداء النبي، وقد كانت الشباب من قريش وغيره يدركون حلاوة القرآن بذوقهم السليم فيندفعون إلى الإعتناق به حيث كان القرآن يأخذ بمجامع قلوبهم ويوردهم المنهل العذب من الإيمان، فلم ير أعداء النبي بدّاً من نهي العرب عن الاستماع إليه وقد كان النبي يجهر بالقرآن في الأشهر الحرم في المسجد الحرام، فاحتالوا بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله حتى لا يسمع صوته ولا يعلم كلامه، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصّلت / ٢٦ ). حتى يصدّوا بذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٨٨.

(٢) اقتباس من كلام الوليد بن المغيرة، راجع مجمع البيان: ج ٥ ص ٣٨٧، والسيرة النبويّة: ج ٥ ص ٣٨٢.

١٨٨

من اَراد استماعه، فإذا لم يسمع ولم يفهم لا يتبعه فيغلبون بذلك محمداً(١) . فأوعدهم الله سبحانه بقوله:( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ولقد تحقّق وعده سبحانه في الدنيا يوم بدر فقتل منهم من قتل وأسر منهم من اُسر، فنالوا جزاء أعمالهم، وبقي عليهم العذاب الأكبر الذي يجزون به في يوم البعث. يقول سبحانه:( ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) ( فصّلت / ٢٧ و ٢٨ ).

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة

وأقصى ما كان عند قريش من العذر لتبرير عملهم وعدم إعتناقهم لدين النبي، هو أنّهم كانوا يخافون من مشركي الجزيرة العربيّة حيث إنّهم كانوا على خلاف التوحيد بل على عبادة الأصنام، فقالوا: لو اعتنقنا دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ورفضنا الأصنام والأوثان، لثار الجميع علينا، وهذا ما يحكيه عنهم قوله سبحانه:( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) ( القصص / ٥٧ ) والآية تعطي أنّهم كانوا واقفين على أنّ دين النبي حقٌّ ولكن الذي منعهم عن اتباع الهدى مخافة أن تتخطّفهم العرب من أرضهم وليس لهم طاقة بهم(٢) .

فردّه الوحي بأنّ الله سبحانه جعل بهم مكّة دار أمن وأمان ودفع ضرّ الناس عنهم عندما كانوا مشركين فإذا آمنوا واعتنقوا دين الله يعمّهم الأمن والسلامة أيضاً لأنّهم في حالة الإيمان أقرب إلى الله سبحانه من حالة الكفر، فالخالق الذي قطع أيدي الأشرار عن بلدهم قادر في كلتا الحالتين، وإليه يشير قوله سبحانه:( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ٢٤ ص ٧٢.

(٢) التخطّف: أخذ الشيء على وجه الإضطراب من كل وجه، والمصطلح الدارج هو الإختطاف.

١٨٩

أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( القصص / ٥٧ ).

كان على هؤلاء أن يعتبروا بأقوام متمرّدين الذين أعطوا المعيشة الواسعة، فلم يعرفوا حق النعمة وكفروا فعمّهم الهلاك وهذه ديار عاد وثمود وقوم لوط صارت خالية عن أهلها وهي قريبة منهم، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف وهو موضع بين اليمن والشمال وديار ثمود بوادي القرى، وديار لوط بسدوم وكانت قريش تمر بهذه المواضع في تجارتها، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ (١) مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / ٥٨ ).

هذا آخر ما كان عندهم من المبرّرات لعدم الإيمان بالدّعوة.

خرافة الغرانيق

كان اللازم علينا ضرب الصفح عن تناول هذه الخرافة التاريخية بالبحث لأَنّا قد اعتمدنا في سرد حوادث السيرة النبوية وفق ما ورد في القرآن الكريم، فما جاء في خلال آياته نذكره وما لم يرد نتركه إلى كتب السيرة والتاريخ، غير أنّ هذه القصة لـمّا الصقت بساحة القرآن الكريم القدسيّة بالإستناد إلى بعض الآيات الموهمة لذلك كذباً وزوراً، فصارت ذريعة في الآونه الأخيرة بيد أعداء الدين من المستشرقين ك‍ « بروكلمان » في كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية، ص ٣٤، وكتاب « الإسلام » لفرويد هيوم، لزم علينا التطرّق لتلك الخرافة وتحليلها تحليلاً علميّاً مؤيّداً بالبرهان الرصين والحجّة الدّامغة حتى لا يبقى لمشكك شكّ ولا لمريب ريب إلّا من أخذته العصبية العمياء فإنّها داء لا علاج له، خصوصاً ما نشاهده في المؤامرة الأخيرة التي حاكتها بريطانيا وغيرها من أذناب الكفر العالمي حيث زمّروا وطبّلوا لكتاب « الآيات الشيطانية » لمؤلّفه « سلمان رشدي » ومنحوا له جائزة أدبية في ذلك المجال، والرجل

__________________

(١) البطر: الطغيان عن النعمة.

١٩٠

هندي الأصل بريطاني الجنسيّة والدراسة وقد ترجم الكتاب بإيعاز من الدول المستعمرة إلى أكثر اللغات العالميّة مع أنّه ليس بكتاب أدبي ولا علمي ولا تاريخي، بل أشبه بأضغاث أحلام نسجها الخيال وروّج لها الإستعمار، وإليك القصّة على وجه الإجمال:

« جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) فقرأه رسول الله حتى إذا بلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) ألقى عليه الشيطان كلمتين:

« تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ لَشَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى » فتكلّم بها ثمّ مضى فقرأ السورة كلّها فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به، وقالوا: قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيباً، فنحن معك. قالا ( محمد بن كعب القرظي ومحمد ابن قيس ): فلمّا أمسى أتاه جبرئيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة فلمّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إفتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل !! فأوحى الله عليه:( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) . فما زال مغموماً مهموماً حتّى نزلت عليه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ )، قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة: إنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما يلقي الشيطان »(١) .

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ١٧، ص ١٣١.

١٩١

وتحقيق القوم في تلك القصّة يتوقّف على البحث عن سند الرواية التي أوردها الطبري في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور أوّلاً، ودراسة متنها وعرضه على العقل والقرآن ثانياً لكي يتجلّى الحق بأجلى مظاهره.

تحليل سند الرواية

إنّ هذه الروايات لا يمكن الإحتجاج بها لوجهين:

الأوّل: إنّ أسانيدها تنتهي إلى التابعين الذين لم يدركوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

من أمثال:

١ ـ محمد بن كعب القرظي ٢ ـ محمد بن قيس ٣ ـ أبو العالية ٤ ـ سعيد بن جبير ٥ ـ الضحّاك ٦ ـ ابن شهاب.

ولم يدرك واحد منهم النبي قطّ وهم قد ساقوا القصّة من دون أن يذكروا الواسطة بينهم وبينه، وإليك نصوص علماء الرجال في حقّهم:

الف ـ محمد بن كعب القرظي

قال ابن حجر: قال العجلي: مدني تابعي ...، وقال البخاري: إنّ أباه كان ممّن لم يَثْبُت يوم قريظة فترك، وما نقل من قتيبة من أنّه ولد في عهد النبي لا حقيقة له. إنّما الذي ولد في عهده، هو أبوه، وقد ذكروا انّه كان من سبي قريظة ممّن لم يحتلم ولم ينبت فخلّوا سبيله، حكي ذلك البخاري في ترجمة محمد، ويدلّ على ذلك إنّه مات سنة ١٠٨ ه‍ ق وقيل: ١١٧ ه‍ ق وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وجاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق أنّه قال: يخرج من أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده. قال ربيعة: فكنّا نقول: هو محمد بن كعب، والكاهنان قريظة والنضير ـ إلى أن يقول ـ:

١٩٢

... فكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف، فمات هو وجماعة معه(١) .

ب ـ محمد بن قيس

وهو محمد بن قيس المدني قاض عمر بن عبد العزيز، روى عن أبي هريرة وجابر، ويقال: مرسل، توفّي أيام الوليد بن يزيد. روى عنه أبو معشر ـ قال ابن معين: ليس بشيء لا يروى عنه(٢) .

ج ـ ابن شهاب

وهو محمد بن مسلم الزهري ـ كان يدلّس في النادر ـ وهو أحد التابعين بالمدينة، وقال ابن حجر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ابن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري وكنيته أبو بكر وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين [ بعد المائة ] وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين(٣) .

د ـ أبو العالية

وهو رفيع بن مهران الرياحي أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي بسنتين ودخل على أبي بكر وصلّى خلف عمر حتى قيل: إنّه أدرك عليّاً ولم يسمع منه(٤) .

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٢١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤١٤.

(٣) ميزان الإعتدال: ج ٤ ص ٤٠، وتقريب التهذيب: ج ٢ ص ٢٠٧، ووفيات الاعلام: ج ٤ برقم ٥٦٣.

(٤) تهذيب التهذيب: ج ٣ ص ٣٨٤.

١٩٣

ه‍ ـ سعيد بن جبير

فهو سعيد بن جبير الكوفي روى عن ابن عباس وابن الزبير وغيره، قتله الحجّاج صبراً سنة ٩٥(١) .

و ـ الضحّاك

وهو الضحّاك بن عثمان. قال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين(٢) .

هؤلاء الذين ينتهي إليهم السند كلّهم تابعون، نعم رواه الطبري أيضاً عن ابن عباس فهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ـ مات سنة ثمان وستين بالطائف وهو أحد المكثرين من الصحابة، ولكنّه لم يكن حاضراً في زمن القصة بل لم يكن متولّداً فيه ( لأنّ تاريخها يرجع إلى السنة الخامسة من البعثة وهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ) فتكون روايته مقطوعة.

وعلى كل تقدير فكل ما رواه الطبري في هذا المجال مراسيل أو مقطوعات لا يمكن الإحتجاج بها.

الثاني: إنّ الأسانيد تشتمل على رجال ضعاف لا يمكن الإحتجاج بهم سوى طريق سعيد بن جبير وقد عرفت أنّه أيضاً مرسل.

هذا ما لدى الطبري في تفسيره وأمّا ما نقله السيوطي فلا يقصر عمّا نقله الطبري في الضعف والإرسال، وقد رواه عن « أبي صالح » وأبي بكر بن عبد الرحمان ابن الحارث و « السدى » أيضاً.

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ١١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ٤٤٧.

١٩٤

أمّا الأوّل فهو مشترك بين ١٩ شخصاً لم يرو واحد منهم عن النبي فالجلّ لولا الكل تابعون(١) .

وأمّا الثاني فهو أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث ولد في خلافة عمر(٢) .

وأمّا الثالث فهو محمد بن مروان تابعي. قال ابن معين: ليس بثقه، قال ابن نمير: ليس بشيء وكان كذّاباً(٣) .

نعم رواه أيضاً عن سعيد بن جبير وابن عباس وقد عرفت حالهما، ورواه عن السدي وهو أيضاً تابعي.

مضافاً إلى إشتمال الإسناد على رجال ضعاف، وأمّا ما ذكره السيوطي من أنّه أخرج الطبراني والبزاز وابن مردويه والضياء في المختار بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فهو غير صحيح لما عرفت من أنّ المرسل والمقطوع لا يوصفان بالصحة على الإطلاق ولو وصفا بالصحّة فالمراد هو الصحّة النسبية، فلا يحتج بها.

إنّ علماء الإسلام وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد أشبعوا هذه الرواية نقضاً وردّاً وإبراماً فوصفها السيد مرتضى: بأنّها خرافة وضعوها(٤) .

وقال النسفي عند القول بها: غير مرضي. وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متّصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٥) .

__________________

(١) راجع تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣٣.

(٣) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٣٦ برقم ٧١٩.

(٤) تنزيه الأنبياء: ص ١٠٩.

(٥) الهدى إلى دين المصطفى: ج ١ ص ١٣٠.

١٩٥

وقال القاضي عياض: إنّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسنده سليم متصل، وإنّما أولع به المفسّرون، والمؤرّخون، المولعون بكل غريب، والمتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلا المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلّق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع أسناده واختلاف كلماته(١) .

وقال أمين الإسلام الطبرسي: أمّا الأحاديث المروية في هذا الباب فهي مطعونة ومضعّفة عند أصحاب الحديث، وقد تضمّنت ما ينزّه الرسل عنه، فكيف يجوز ذلك على النبي وقد قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) وقال:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ ) .

وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما تلا سورة والنجم وبلغ إلى قوله:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) علمت قريش من عادته أنّه كان يعيبها، قال بعض الحاضرين من الكافرين: ( تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى ) فظنّ الجهّال أن ذلك من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وقال السيّد الطباطبائي: إنّ الأدلّة القطعيّة على عصمته تكذّب متنها، وإن فرضت صحّة سندها، فمن الواجب تنزيه ساحته المقدّسة عن مثل هذه الخطيئة، مضافاً إلى أنّ الرواية تنسب إليه أشنع الجهل وأقبحه فقد تلا « تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى » وجهل أنّه ليس من كلام الله، ولانزل به جبرئيل، وجهل أنّه كفر صريح يوجب الإرتداد، ودام على جهله، حتى سجد وسجدوا في آخر السورة، ولم يتنبّه ثمّ دام على جهله حتى نزل عليه جبرئيل، وأمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه وأعاد الجملتين وهو مصرّ على جهله، حتى أنكره عليه جبرئيل، ثمّ أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع والخطيئة الفاضحة لجميع الأنبياء

__________________

(١) الشفاء: ج ٢ ص ١٢٦.

(٢) الطبرسي مجمع البيان: ج ٤ ص ٦١ و ٦٢.

١٩٦

والمرسلين وهي قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) .

لو جاز مثل هذا التصرّف من الشيطان في لسانه بالقائه جملة أو جملتين، في ثنايا الوحي، لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي، فكان من الجائز حينئذ أن تكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان فيلقي نفس هذه الآية( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) فيضعه في لسان النبي وذكره، فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبرئيل كما حسب حديث الغرانيق كذلك ـ إلى أن قال ـ وبذلك يرتفع الإعتماد والوثوق بكتاب الله من كل جهة، وتلغى الرسالة والدعوة النبويّة بالكليّة جلّت ساحة الحق من ذلك(١) .

هذا كلّه راجع إلى اسناد الرواية وكلمات العلماء بشأنه، وأمّا ما يرجع إلى متنها فنشير إلى أمرين كل واحد كاف لإبطال الرواية:

تحليل متن الرواية

١ ـ إنّ هذه الروايات أجمعت على أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ سورة والنجم فلمّا بلغ إلى قوله( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) وسوس إليه الشيطان بهاتين الجملتين ثمّ مضى في التلاوة حتى إذا بلغ آية السجدة في آخر السورة، سجد وسجد معه المشكرون.

فنقول: إنّ الذين كانوا في المسجد كانوا على قدر من الوعي والدراية فكيف يعقل منهم أنّهم سمعوا هاتين الجملتين، اللتين تتضمّنان مدح أصنامهم وأوثانهم، وغاب عن سمعهم ما يتضمّن التنديد والازراء بشأن آلهتهم، فإنّه قد جاء بعد هاتين الجملتين المدّعيتين قوله سبحانه:( إِنْ هِيَ إلّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن

__________________

(١) الطباطبائي، الميزان: ج ١٤ ص ٤٣٥ و ٤٣٦.

١٩٧

رَّبِّهِمُ الهُدَىٰ ) ( النجم / ٢٣ ).

فهل يتعقّل أن ينسب إلى أوتاد الفصاحة والبلاغة أنّهم أقنعوا بهاتين الجملتين، وفاتهم ما تضمّنته الآيات الكثيرة التي أعقبتها.

فهذه حجة بالغة على أنّ واضع القصة كان غافلاً عن تلك الآيات التي ترد على هاتين الجملتين بصلابة.

٢ ـ إنّ وجود التناقض في طيّات الرواية من جهات شتّى دليل واضح على كونها مختلقة حاكتها أيدي القصّاصين.

وأمّا بيان ذلك التناقض فمن وجوه:

أ ـ تروي الروايات أنّ النبي والمسلمين والمشركين سجدوا إلّا الوليد ابن المغيرة فإنّه لم يتمكّن من السجود لشيخوخته، وقيل: مكانه سعيد بن العاص، وقيل: كلاهما، وقيل: اُميّة بن خلف، وقيل: أبو لهب، وقيل: المطّلب.

ب ـ تضمّن بعضها أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأها وهو قائم يصلّي، وتضمّن البعض الآخر أنّه قرأها بينما هو جالس في نادي قومه.

ج ـ يقول بعضها: حدّث بها نفسه، وآخر: جرت على لسانه.

د ـ يقول بعضها: انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تنبّه لها حين تلاوتها، والآخر: انّه لم يتنبّه إلى المساء حتى جاء إليه جبرئيل فعرضها عليه ثمّ تبيّن له الخطأ، إلى غير ذلك من وجوه التناقض التي يقف عليها المتتبع عند التأمّل وامعان النظر في متون الروايات المختلفة التي جمعها ابن جرير والسيوطي في تفسيرهما.

فحصيلة الكلام: إنّ الرواية بشتّى طرقها وصورها لا تصحّ الإحتجاج بها لكون إسنادها مراسيل ومقاطيع من جانب، وكونها متضاربة المضمون من جانب آخر، والذي يسقط الرواية عن الحجّية أنّها تنتهي إلى قصّاصين نظير محمد بن كعب

١٩٨

القرظي ومحمد بن قيس، وهما مولعان بذكر كل صحيح وسقيم في أنديتهم ومجالسهم، لأنّ لكل غريب لذّة، ليس في غيره، خصوصاً أنّ محمد بن كعب ابن بيت يهودي أباد النبي قبيلته، ولم يبق منه إلّا نفراً قليلاً، فمن المحتمل جداً أنّه حاكها على نول الوضع لينتقم من النبي الأكرم وليشوِّه عصمته، والآفة كل الآفة من هؤلاء المستسلمين مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه.

ثمّ إنّ الآية التي زعمت الرواية أنّها نزلت في تلك الواقعة أعني قوله سبحانه:

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ ). وقد فرغنا من تفسيره في هذه الموسوعة عند البحث عن عصمة الأنبياء فلا نعيد(١) .

__________________

(١) مفاهيم القرآن: ج ٤ ص ٣٤٨ ـ ٤٥٠.

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581