مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 273481 / تحميل: 6506
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

١
٢

بسم الله الرحمٰن الرحيم

عواطف ساخنة ومشاعر تقدير

من أرض الذكريات الإسلاميّة: الحبشة ( أثيوبيا )

وصلنا كتاب من العالم الجليل الاُستاذ محمد كمال آدم المدرس في مدرسة أهل البيت يحمل في طيّاته عواطف ساخنة، حول« سلسلة مفاهيم القرآن » وما فيها من بحوث في التوحيد والنبوّة، وقد وجد فيها صاحب الرسالة ما يعالج مشاكل العصر التي تثيره الأقلّيّات الدينية في تلك الديار وإليك بعض ما ورد في الكتاب:

حضرة العالم العلّامة والحجّة الفهّامة، الاُستاذ جعفر سبحاني أطال الله بقاءه ذخراً للاسلام والمسلمين.

السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يسرّني غاية السرور ومزيد الفرحة أن تصل رسالتي هذه إليكم، وأنتم في تمام الصحّة والعافية وأتمنّى لكم النجاح والتوفيق في كل أعمالكم.

سيدي العزيز أنا أخوكم المسلم الأثيوبي محمد كمال آدم المدرس في مدرسة أهل البيت وإنّي أحد المتولّعين بمطالعة مؤلّفاتكم الكثيرة المفيدة، والرائعة، التي قمتم بتأليفها لمعالجة المسائل الإسلامية معالجة جديدة والدفاع عن حوزة الدين الإسلامي، في جميع جهات المعركة الفكرية مع الأعداء، فأوّل ما ظفرت به من مؤلّفاتكم هو كتاب« معالم التوحيد في القرآن الكريم » فطالعته سطراً بعد سطر فأثلج صدري بالفرح والسرور، والخطبة والحبور، وألفيته قد انطبق على مسمّاه اسمه، وتناسب تركيبه ورسمه.

٣

حقّاً إنّ هذا الكتاب يُسحر الألباب ويجذب الأحباب، يحقِّقُ ويبيِّن الصواب، ويفحم المتقوّل الكذّاب، حيث يقوم بتوضيح التوحيد الخالص، ويفنِّد مزاعم من يشوّهون مفاهيم الدين الإسلامي ويقومون بتكفير اخوانهم المسلمين. فقد جمع بين دفّتيه دراسات كثيرة ومناقشات عديدة، فيا بشراكم انّكم من الذين أدركوا حقيقة الدين الإسلامي، وحملتهم غيرتهم على دينهم إلى أن يطلعوا الآخرين على ثمرات الحقائق فجزاكم الله خير الجزاء.

اُستاذي الحبيب نحن في أثيوبيا نفتخر بكم وبمؤلّفاتكم القيّمة وأستشعر شعوراً بأنّكم الحجّة والبرهان للدفاع عن الدين الإسلامي في هذا الزمان، متّعنا الله بكم ووفّقنا لرؤيتكم.

وأخيراً نرجوا أن تزوّدنا بمعلومات يكشف عن عدد مؤلّفاتكم لنكون قادرين على متابعتها وجمعها، ونحن واثقون بأنّكم تحققون مطلبنا هذا في أسرع وقت ممكن، والله يجزيكم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ودمتم في رعاية الله وحفظه وتقبّلوا فائق تحيّاتنا.

أديس أبابا ـ أثيوبيا

محمد كمال آدم

٢٨ / ١٢ / ١٤١١ ه‍

الموافق ١٠ / ٧ / ١٩٩١ م

٤

تقدير واكبار

تفضل به الاُستاذ المجاهد والكاتب القدير: الشيخ حسن الصفار

من علماء المنطقة الشرقية في الجزيرة العربية ( قطيف ) حيّاه الله وبيّاه

سماحة العلّامة الحجة الشيخ جعفر السبحاني حفظه الله

السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومما جاء فيه:

كما أنّ الجيش في ميدان القتال يحتاج إلى دعم وامداد بالمؤنة والعتاد « الوجستيك » كذلك الدعاة إلى الله وطلائع الحركة الإسلامية، هم في أمسِّ الحاجة إلى من يرفدهم بالفكر العميق، والدراسات العلمية والبحوث الهادفة عن قضايا العقيدة ومفاهيم الإسلام.

فالاُمّة الإسلامية تخوض اليوم صراعاً حضارياً، فكريّاً ضارياً حيث يخشى الإستكبار العالمي من أن تعود للاُمّة ثقتها بدينها، وتبني صرح الحضارة الإسلامية من جديد على أنقاض الحضارة الماديّة التي ذاق الإنسان ويلاتها، واتّضح لدية فسادها وانحطاطها.

إنّ العدوان العسكري والحرب المفروضة التي شنّت على الجمهوريّة الإسلاميّة وحملات الإرهاب، والقمع الشرسة التي يواجهها المؤمنون الرساليون في كل مكان، واعاصير الإعلام المضلّل المناوئ للثورة والحركة الإسلامية هذه كلّها مظاهر ووسائل للمعركة الرئيسية والصراع الحقيقي بين الحضارة الإسلامية المرتقبة، والحضارة المادية المنحرفة.

وإذا كانت القيادة الميدانيّة، والإدارة اليومية لشؤون التحرّك والصراع مع الأعداء تأخذ كل وقت وجهد العلماء والمفكّرين الإسلاميين الواعين، فإنّ ذلك سيترك فراغاً خطيراً في مجال الدراسات العلمية العقائدية والعطاء الفكري.

٥

فلابدّ وأن تتوجّه ثلّة من العلماء والمفكّرين العارفين بأبعاد الصراع الحضاري، والمدركين لتطلّعات الاُمّة، ليقوموا بدور الإمداد والدعم الفكري والعلمي، خلف جبهة الصراع العسكري والسياسي والإعلامي.

وسماحتكم هو في طليعة من يطمئن ويعتمد عليه لملء هذا الفراغ الكبير وسدّ هذه الحاجة الماسَّة.

إنّ اهتمامكم باصدار البحوث العقائدية والفكرية الرائعة ليشكّل سنداً ودعماً ضرورياً لكل الرساليين المجاهدين لإعلاء كلمة الله وانقاذ العالم من حضيض الإنحطاط المادّي.

لقد قرأت العديد من أجزاء موسوعتكم ( التفسير الموضوعي للقرآن ) وبحثكم القيّم حول ( التوحيد والشرك ) فوجدت فيها الضالّة المنشودة من حيث الفكر العميق، والشموليّة الدقيقة والطرح الهادئ الموضوعي فشكر الله سعيكم وأدام توفيقكم ونفع المسلمين بفيض علمكم.

أرجو أن تتابعوا كتاباتكم وبحوثكم في مجال التفسير الموضوعي للقرآن كما أرى ضرورة الإسراع في ترجمة هذه البحوث إلى اللغات العالمية الحية، وخاصّة اللغة الإنكليزية، فهناك الكثيرون من المسلمين ممّن لا يجيدون اللغة العربية، يتطلّعون بفارغ الشوق إلى مثل هذه الدراسات العلمية، كما أنّ بعض مفكّري الغرب والشرق يهمّهم الإطّلاع على مفاهيم الإسلام من بعد ما لفتت الثورة الإسلامية المباركة أنظارهم نحو الإسلام.

أسأل الله لكم دوام الصحّة والنشاط ولكلّ العاملين المؤمنين التوفيق والنجاح.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حسن موسى الصفار

القطيف

٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

شخصية النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته

في القرآن الكريم

كانت حياة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ ولادته ونعومة أظفاره، وحتى ساعة رحلته، ولقائه ربّه، طافحة بالحوادث، زاخرة بالوقائع، وقد لفتت تلك الحوادث والوقائع أنظار المفكّرين والباحثين ودفعتهم إلى ضبط كلّ جليل ودقيق منها، وهم بين مؤمن بدينه ورسالته، وشريعته وكتابه، ومنكر لصلته بالله سبحانه وبعثته من قبله ولكن مذعن بشخصيته الفذَّة، وحياته المثالية، فلا تجد شخصية في التاريخ وقعت محطّاً للبحث والدراسة، ولفتت نظر الباحثين كشخصية رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولو اُتيح لإنسان أن يقوم باستقصاء ما أُلِّف حول حياته طيلة هذه القرون، أو ما جادت به القرائح من القصائد والأراجيز، لعثر على مكتبة ضخمة حافلة بآلاف الكتب والرسائل، والدواوين، ولاُذعن ـ عندئذٍ ـ كلّ قريب وبعيد، وكل صديق ومناوئ بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نسيج وحده، لم تسمع اُذنُ الدنيا بأحد مثله ولم تر عين الدهر نظيراً له.

وقد خدم المؤرخون الاُمّة الاسلاميّة بل البشريّة جمعاء بتآليفهم وتصانيفهم حول حياته وشخصيّته وجهوده ومساعيه في سبيل إنقاذ البشريّة من أغلال الوثنيّة

٧

والجنوح إلى كلّ معبود سوى الله تعالى، غير أنَّ نظر كلّ مؤلِّف كان إلى زاوية خاصّة من زوايا حياته، وإلى بعد واحد من أبعاد سيرته.

فمن باحث عن أخلاقه المثاليّة، ورأفته، وعبادته وتهجّده، وحسن سلوكه مع الناس، وأمانته التي أقرَّ بها العدو والصديق.

إلى آخر يهتمَّ ببيان كيفيّة نزول الوحي عليه، وقيامه ـ بمفرده ـ بنشر دعوته، والإجهار برسالته، والصمود في سبيل عقيدته، وتحمّل المشقّة كالجبل الراسخ لا تحرّكه العواصف.

إلى ثالث يُلقي الضوء على الجانب السياسي من حياته، فيجمع رسائله الموجّهة إلى الملوك والساسة ورؤساء القبائل، كوثائق وكتب سياسية.

إلى رابع أعجبه ذكر مغازيه وبعثه للسرايا، وجهاده ضدّ المشركين والمنافقين والخونة من أهل الكتاب.

إلى خامس ركّز اهتمامه على الجليل والدقيق من حياته من دون أن يجنح لجانب دون جانب لكنّه جمع وحشّد من دون تحقيق ولا تنقيب، فكتب كلّ ما عثر عليه في هذه المجالات.

شكر الله مساعي الجميع حيث خدموا البشريّة ببحثهم عن هذه الفريدة وهذه الحلقة الأخيرة من سلسلة الأنبياء والمرسلين، الّتي خصّها الله سبحانه بكتابه الخاتم، ودينه الخالد، وشريعته الأبديّة.

ولقد استند هؤلاء في تصوير حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ووصف ما جرى عليه قبل البعثة، وبعدها، أو ما واجهه من الأحداث والوقائع، إلى الروايات المرويّة عن الصحابة والتابعين الذين شاهدوا نور الرسالة كما شاهدوا القضايا والحوادث باُمّ أعينهم.

ولكن هناك طريقاً آخر أمثل وأشرف من الطريق الأوّل لم يهتم به الباحثون اهتماماً كافياً ولازماً، وان التفتوا إليه في بعض الأحيان، وهو الإستضاءة ـ في

٨

تدوين معالم حياته ـ بكتاب الله الكريم، المنزّل على قلبه، ففيه تصريحات بمعالم حياته، وإشارات إلى خصوصيّاتها.

والقرآن الكريم وان لم يكن كتاب تاريخ، بل هو كما وصف نفسه( هُدًى لِّلنَّاسِ ) أي كتاب هدي لجميع الناس إلى أن تقوم الساعة، ولكنّه ربّما يتعرّض في بعض المناسبات لخصوصيّات حياته وأفعاله، وجهوده ومساعيه، ومن خلال ذلك يستطيع الإنسان المتتبّع أن يستخرج صورة وضّاءة لحياته بالتدبّر في هذا القسم من الآيات ويقف على خلقه وسلوكه وسائر شؤونه، وبالتالي تتجلّى لنا حياته من أوثق المصادر وأمتنها، فيرى القارئ صورته في مرآة القرآن كما ترى سيرته في ثنايا الكتب والسير، مع الفارق الكبير بين الصورتين، والمرآتين.

وهذا ما نقوم به في هذا الجزء من موسوعتنا القرآنية « مفاهيم القرآن » ونحن نعترف بأنّ هذا عبء لا يقوم به إلّا لجنة تفسيريّة تتناول الموضوع بصورة شاملة وموسّعة ومعمّقة غير أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، وما نقوم به عمل فردي ليس له من المزايا ما للعمل الجماعي، ولكن « ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ». وتوخّياً للتسهيل، خصّصنا لكلّ موضوع وما يناسبه فصلاً.

وفي الختام نتقدّم بالشكر الجزيل، إلى العالم الجليل والكاتب القدير، الشيخ محسن آل عصفور ـ حفظه الله ـ حيث ساعدنا في تأليف هذه الجزء وتحريره وترصيفه وتقريره حتى خرج بهذه الصورة البهيّة. شكر الله مساعيه الجميل.

نسأله سبحانه أن يوفّقنا في هذا السبيل ويصوننا عن الزلل والخطأ في فهم كتابه إنّه مجيب الدعاء. ويكتب التوفيق لكلّ مجاهد في سبيل القرآن، ومخلص في خدمة الذكر الحكيم.

قم ـ مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام

جعفر السبحاني

٩
١٠

(١)

بشائره في الكتب السماويّة

لقد تعلّقت مشيئة الله الحكيمة ببعث رجال صالحين لإنقاذ البشرية من الجهالة والضلالة، وسوقهم إلى مرافئ السعادة، وأنزل عليهم شرائع فيها أحكامه وتعاليمه، وهذه الشرائع وإن كانت تختلف بعضها عن البعض الآخر، لكنّها تتّحد جوهراً وحقيقة، ولو أنّها تفترق صورة وشكلاً كما يشير إليه قوله سبحانه:( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ ) ( آل عمران / ١٩ ). وقوله:( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران / ٦٧ )(١) .

فالدين النازل من الله سبحانه إلى كافّة البشر في جميع الأجيال والقرون أمر واحد، وهو الإسلام، وقد اُمر بتبليغه جميع رسله وأنبيائه من غير فرق بين السالفين واللاّحقين.

هذا وقد يتفنّن القرآن الكريم في التعبير عن وحدة الشرائع من حيث الاُصول والمبادئ واختلافها شكليّاً بتصوير الدين نهراً كبيراً يجري فيه ماء الحياة المعنويّة، والاُمم كلّها قاطنة على ضفَّة هذا النهر يردونه ويصدرون عنه، وينهلون منه حسب حاجاتهم واقتضاء ظروفهم، وكل ظرف يستدعي حكماً فرعيّاً خاصّاً.

قال سبحانه:

( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ( المائدة / ٤٨ ).

فالحقيقة ماء عذب، والاختلاف في المشرعة والمنهل، والطريقة والمنهاج.

__________________

(١) لاحظ سورة البقرة / ١٣٢ والزخرف / ٢٨.

١١

إنّ وحدة الشرائع جوهراً، واختلافها شكلاً وعَرْضا، لا تعني ما يلوكه بعض الملاحدة من جواز التديّن بكلّ شريعة نازلة من الله سبحانه إلى اُمّة من الاُمم في العصور السابقة حتى أنّه يسوّغ التديّن بشريعة إبراهيم في زمن بعثة الكليم، أو التمسّك بشريعة اليهود في عهد المسيح، أو التديّن بالشرائع السابقة في عهد بعثة النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل المفروض على كلّ اُمّة أن تتمسّك بالشريعة التي جاء بها نبيّها، فلا يجوز لليهود سوى تطبيق التوراة، ولا للنصارى سوى العمل بما جاء به المسيح، ولا للاُمّة المتأخّرة عنهما إلّا العمل بالقرآن والسنّة النبويّة، وذلك لأنّ للشكل والعَرْض سهماً وافراً في إسعاد الاُمّة ورقيّها، فلكلّ اُمّة قابليات ومواهب فلا تسعدها إلّا الشريعة التي تناسبها وتتجاوب معها.

فربّ اُمّة متحضّرة تناسبها سنن وانظمة خاصّة لا تناسب اُمّة اُخرى لم تبلغ شأنها في التكامل والتحضّر.

وهذا هو السبب في إختلاف الشرائع السماويّة في برامجها العباديّة والإجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة، فكانت كلّ شريعة كاملة بالنسبة إلى الأمّة التي نزلت لهدايتها وإسعادها، ولكنّها لا تتجاوب مع حاجات الاُمم المتأخّرة ولا تكفي لإحياء قابلياتها وترشيد مواهبها، فكأنَّ الاُمم التي خُصّت بالشرائع الالهيّة تلاميذ صفوف مدرسة واحدة، وكلّ شريعة برنامج لصفّ خاصّ، فما زالت البشريّة ترتقي من صفّ إلى صفّ، وتتلقّى شريعة بعد شريعة، حتّى تنتهي إلى الصفّ النهائي والشريعة الأخيرة التي لا شريعة بعدها، وقد أوضحنا حقيقة ذلك الأمر عند البحث عن الخاتمية(١) .

أخذ الميثاق من النبيين على الإيمان به ونصره

إنّ وحدة الشرائع في الجوهر والحقيقة أدَّت إلى أخذ الميثاق من النبيين بأنّه سبحانه مهما آتاهم الكتاب والحكمة، وجاءهم رسول مصدّق لما معهم، يجب

__________________

(١) لاحظ مفاهيم القرآن: ج ٣ ص ١١٩ ـ ١٢٣.

١٢

عليهم الإيمان به ونصره، بل أخذ الإصر من اُممهم على ذلك، فكان من وظائف كل رسول تصديق النبي اللاحق والإيمان به، ونصره، عن طريق التبشير به وأمر اُمّته بالتصديق به ومؤازرته ـ إذا أدركوه ـ فعلى ذلك أخذ سبحانه من إبراهيم الخليل ذلك العهد بالنسبة إلى الكليم، ومن الكليم بالنسبة إلى المسيح، ومنه على النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن جهة اُخرى أخذ الميثاق من الجميع على الإيمان بنبوّة النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونصره، والتبشير به، ودعوة اُممهم إلى تصديق دعوته والإقرار بها.

والمعاصرون للأنبياء السابقين وان لم يدركوا عصر النبي الأكرم غير أنّ ذلك الهتاف العالمي وصل إلى أخلافهم وأولادهم فوجب عليهم تلبية النبي الخاتم بوصيّة من أنبيائهم، وهذا هو المتبادر من قوله سبحانه:

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) ( آل عمران / ٨١ ).

ظهور الآية فيما ذكرناه من أخذ الميثاق من كلّ متقدّم للمتأخّر، ومن الجميع للأخير يتوقّف على تفسير الآية وتحليلها جملة بعد جملة:

١ ـ قوله:( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ) .

إنّ المراد من النبيين هم المأخوذ منهم الميثاق، ويدلّ على ذلك قوله:( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) .

غير أنّ النبي الواقع في أوّل السلسلة يتمحّض في أنّهُ من أخذ منه الميثاق كنوحعليه‌السلام فإنّه من بُدء به نزول الشريعة، وهداية الناس وتعريفهم بوظائفهم وتكاليفهم السماوية، كما أنّ النبي الواقع في آخر السلسلة يتمحّض في أنّه ممّن اُخذ له الميثاق لأنّ المفروض أنّه لا نبيّ بعده.

١٣

وأمّا الأنبياء الواقعون في ثنايا السلسلة فهم من جهة أخذ منهم الميثاق ومأخوذ لهم الميثاق.

فالكليم مأخوذ منه الميثاق للمسيح ومأخوذ له الميثاق من الخليل وهكذا.

٢ ـ قوله سبحانه:( لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ) .

إنّ « ما » في هذه الجملة أشبه بالشرطيّة من الموصولة لوجود « اللام » في جزائها والمعنى: مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثُمَّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه.

والآية تهدف إلى أنّ الله سبحانه أخذ من الأنبياء الميثاق بأنّه لو جاء رسول إليهم مصدّق لدعوتهم إلى التوحيد ورفض الوثنيّة والإقرار بعبوديّة الكلّ لله تعالى، يلزم عليهم أمران:

الأوّل: الإيمان بهذا الرسول الـمـُـقْبِل.

الثاني: نصره.

فكأنّ إيتاء الكتاب والحكمة يلازم ـ عند تطابق الدعوتين ـ الإيمان بالداعي اللاحق ونصرته، وعلى ذلك فالضمير المجرور والمنصوب في قوله:( لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ) عائدان إلى الرسول الـمُقبِل.

٣ ـ قوله سبحانه:( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ) .

يعرب هذا عن أنّه سبحانه لم يأخذ الميثاق من النبيّين وحدهم بل فرض عليهم أخذ الميثاق من اُممهم على ذلك، ولأجل ذلك يخاطبهم بقوله:( أَأَقْرَرْتُمْ ) أنتم يا معشر النبيين، وهل أخذتم على ذلك عهدي ؟ فأجابوا بالإقرار.

وإنّما اقتصر في الجواب بإقرار الأنبياء فقط، ولم يذكر أخذ الإصر من اُممهم للإكتفاء بقوله:( فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) لظهور الشهادة في أنّها على

١٤

الغير، فإذا كان الله سبحانه مع أنبيائه شهوداً فيجب أن يكون هناك مشهوداً عليهم وهو اُممهم.

فظهر أنّ الآية تهدف إلى أخذ العهد والإصر من الأنبياء، واُممهم على الإيمان والنصرة.

فإذا راجعنا القرآن الكريم نرى أنّ المسيح قام بمسؤوليته الكبيرة حيث بشّر بالنبيّ وقال ـ كما حكى عنه سبحانه:( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الصف / ٦ ).

وليس المسيح نسيج وحده في هذا المجال بل الأنبياء السابقون قاموا بنفس هذه الوظيفة، يقول سبحانه:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( البقرة / ١٤٦ ).

والضمير في « يعرفونه » يرجع إلى النبيّ الأكرم وهو المفهوم من سياق الآية بشهادة تشبيه عرفانهم إيّاه بعرفان أبنائهم.

وما زعمه بعض المفسّرين من أنّ الضمير راجع إلى الكتاب الوارد في الآية لا يناسب هذا التشبيه، والآية بصدد بيان أنّهم يعرفون النبيّ بما في كتبهم من البشارة به، ومن نعوته وأوصافه وصفاته التي لا تنطبق على غيره، وبما ظهر من آياته وآثار هدايته، كما يعرفون أبناءهم الذين يتولّون تربيتهم وحياطتهم حتّى لا يفوتهم من أمرهم شيء، قال عبد الله بن سلام ـ وكان من علماء اليهود وأحبارهم ـ: أنا أعلم به منّي بابني(١) .

فالمراد من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وكانت الأغلبية في المدينة اليهود، والآية تعرب من أنّ الكليم قام بنفس ما قام به المسيح من التعريف بالنبيّ الخاتم حتّى عرّفهم النبيّ الخاتم بعلائم واضحة عرفته به اُمّتهُ عرفانَها بأبنائها.

__________________

(١) المنار: ج ٢ ص ٢٠.

١٥

وعلى ضوء ذلك فالدّين السماوي دين موحّد، والمبلِّغون له رجال صالحون، متلاحقون، موحّدون في الهدف والغاية، مختلفون في الشريعة والمنهل، والجميع يبشّرون بالحلقات التالية بأمانة وصدق وإخلاص.

وهذه الآية وان كانت تركّز على أخذ الميثاق من السابقين على اللاحقين ولكن الآية التالية تعرب بفحوى الكلام على أنّ المتأخّر أيضاً كان مأموراً بتصديق السابق، ولأجل ذلك قال المسيح عند بعثته:

( مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ( الصف / ٦ ).

وقد أمر النبيّ اُمتّه بالإيمان بما اُنزل على من سبقه من الأنبياء، وقال سبحانه:

( قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران / ٨٤ ).

ثمّ إنّ القرآن الكريم يذكر ذلك الميثاق في آية اُخرى على وجه الاختصار ويقول:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ (١) وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) ( الأحزاب / ٧ ).

__________________

(١) وقد ذكر سبحانه النبيين بلفظ عام يشمل الجميع ثمّ سمّى خمسة منهم بأسمائهم بالعطف عليهم، ولم يخصّهم بالذكر إلّا لعظمة شأنهم ورفعة مكانتهم، فإنّهم أصحاب الشرائع، وقد عدّهم على ترتيب زمانهم لكن قدّم النبي وهو آخرهم زماناً لفضله وشرفه، وتقدّمه على الجميع، وسمّى هذا الميثاق بالميثاق الغليظ، إذ به تستقر كلمة التوحيد ورفض الوثنية في المجتمع البشري، فلو لم يؤمن نبي سابق باللاحق ولم ينصره، كما أنّه لم يصدّق نبي لاحق النبي السابق لفشلت الدعوة الإلهية من الإنتشار وسادت الفوضى في الدين. وفي الآية إحتمال آخر، وهي إنّها ناظرة إلى ميثاق آخر مأخوذ من الأنبياء وهو أخذ الوحي من الله وأدائه إلى الناس من دون تصرّف، ويشهد على ذلك قول الإمام عليّعليه‌السلام في حقّهم: « واصطفى سبحانه من ولده أنبياء، أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ».نهج البلاغة، الخطبة / ١.

١٦

إنّ إضافة الميثاق إلى النبيّين ( ميثاقهم ) يعرب عن كون المراد الميثاق هو الميثاق الخاص بهم، كما أنّ ذكرهم بوصف النبوّة مشعر بذلك فهناك ميثاقان:

ميثاق مأخوذ من عامّة البشر وهو الذي يشير إليه قوله:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) ( الأعراف / ١٧٢ ).

وميثاق مأخوذ من النبيّين خاصّة بما أنّهم أنبياء وهو الذي تدل عليه الآية وهي وإن كانت ساكتة عن متعلّق الميثاق لكن تبيّنه الآية السابقة، وهو أخذ الميثاق من النبيّين عامّة على أنّه إذا جاءهم رسول مصدّق لما معهم، يفرض عليهم الإيمان به والنصرة له.

هذا وإنّ الهدف الأسمى من فرض الإيمان والنصرة هو تأييد بعضهم ببعض حتّى تستقرّ في ظل وحدة الكلمة، كلمة التوحيد في المجتمع البشري ويكون الدّين كلّه لله سبحانه كما قال:( إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ( الأنبياء / ٩٢ ). وقال:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى / ١٣ ).

ولأجل اتّفاق الأنبياء في الهدف والغرض يعدّ سبحانه قوم نوح مكذّبين للمرسلين، وقال:( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ ) ( الشعراء / ١٠٥ و ١٠٦ ).

مع أنّهم لم يكذّبوا إلّا واحد منهم وهو نوحعليه‌السلام ، وذلك لأجل أنّ دعوتهم واحدة وكلمتهم متّفقة على التوحيد، فيكون المكذّب للواحد منهم، مكذّباً للجميع، ولذا عدّ الله سبحانه الإيمان ببعض رسله دون بعض، كفراً بالجميع، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلاً *أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ

١٧

حَقًّا ) ( النساء / ١٥٠ ـ ١٥١ )(١) .

وبما أنّ رسالة النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله رسالة عالميّة خاتمة لجميع الرسالات اُخذ من جميع الأنبياء الميثاق على الايمان به، ونصرته، والتبشير به ليسدَّ باب العذر على جميع الاُمم حتّى يتظلّل الكلّ تحت لواء رسالته ويسيّر البشر عامّة تحت قيادته إلى السعادة.

ويشهد على ما ذكرنا ما روي عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: « إنّ الله أخَذَ الميثاق على الأنبياء قَبْلَ نبيّنا أن يخبروا اُممهم بمبعثه ورفعته ويبشّروهم به ويأمروهم بتصديقه »(٢) .

ورويا الطبري والسيوطي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: « لم يبعث الله نبيّاً آدم فمن بعده إلّا أخذ عليه العهد في محمّد، لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه، وأمره بأن يأخذ العهد على قومه » ثمّ تلى هذه الآية:( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ) (٣) .

ويظهر من بعض الروايات أنّه أخذ الميثاق منهم على وصيّ النبيّ الخاتم.

روى الحديث المحدّث البحراني عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال:

لم يبعث الله نبيّاً ولا رسولاً إلّا وأخذ عليه الميثاق لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة ولعليّعليه‌السلام بالإمامة(٤) .

وتخصيص الميثاق في هذه الروايات بالإيمان بالنبي الخاتم لا ينافي ما ذكرنا من عموميّة مفاد الآية، وأنّها تعمّ جميع الأنبياء فالمتقدّم منهم كان مفروضاً عليه التبشير بالمتأخّر عن طريق الإيمان به ودعوة اُمّته إلى نصرته، واقتفائه كائناً من كان ،

__________________

(١) الميزان: ج ١٩ ص ٣٢١.

(٢) مجمع البيان: ج ٢ ص ٤٦٨ ( طبع صيدا ).

(٣) تفسير الطبري: ج ٣ ص ٢٣٧، والدر المنثور: ج ٢ ص ٢٧، ورواه الرازي في مفاتيح الغيب: ج ٢ ص ٥٠٧ ( طبع مصر )، والطبرسي في مجمعه: ج ٢ ص ٤٦٨.

(٤) تفسير البرهان: ج ١ ص ٢٩٤.

١٨

لكن وجه التخصيص في تلك الروايات بالنبي الخاتم، لأجل وقوعه آخر السلسلة وبه ختم باب وحي السماء إلى الأرض، فكأنَّ الكلّ بعثوا للتبشير به والدعوة إلى الإيمان به ونصرته.

بشائر النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في الكتب السماويّة

لا تجد إنساناً سالماً في نفسه وفكره يقبل دعاوي الآخرين بلا دليل يثبتها، وهذا أمر بديهي فطري جُبِل الإنسان عليه، يقول الشيخ الرئيس: « من قبل دعوى المدّعي بلا بيّنة وبرهان فقد خرج عن الفطرة الإسلامية »(١) .

على هذا فيجب أن تقترن دعوى النبوّة بدليل يثبت صحّتها وإلّا كانت دعوى فارغة غير قابلة للإذعان والقبول، لكن طرق التعرّف على صدق الدعوى ثلاث:

١ ـ التحدّي بالأمر الخارق للعادة على الشرائط المقرّرة في محلّه ( الإعجاز ).

٢ ـ تصديق النبيّ السابق بنبوّة النبيّ اللاحق.

٣ ـ جمع القرائن والشواهد من حالات المدّعي، والمؤمنين به ومنهجه والأداة التي استعان بها في نشر رسالته، إلى غير ذلك من القرائن التي تفيد العلم بكيفيّة دعوى المدّعي صدقاً وكذباً.

وقد استدلّ القرآن على صدق النبي الخاتم بتنصيص أنبياء الاُمم على نبوّته، وقد عرفت تنصيص المسيح عليه بالاسم والتبشير به(٢) كما عرفت أنّ سماته الواردة في العهدين كانت في الكثرة والوفور إلى درجة كانت الاُمم تعرفه على وجه دقيق كما تعرف أبناءها(٣) .

وقد صرّح القرآن بأنّ أهل الكتاب يجدون اسم النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله

__________________

(١) نقله سيدنا الاُستاذ الإمام القائد الراحل في درسه ولم يذكر مصدره.

(٢) الصف / ٦.

(٣) البقرة / ٤٦.

١٩

وسلم ) مكتوباً في التوراة والإنجيل، قال عزّ من قائل:

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ) ( الأعراف / ١٥٧ ).

وقد آمن كثير من اليهود والنصارى بنبوّة النبيّ الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته ومماته لصراحة البشائر الواردة في التوراة والإنجيل، بل لم يقتصر سبحانه على ذكر اسمه وسماته في العهدين، بل ذكر سمات أصحابه وقال:

( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح / ٢٩ ).

كما لم يقتصر على أخذ العهد من النبيين ببيان البشائر به، بل أخذ الميثاق من أهل الكتاب على تبيين بشائره للناس وعدم كتمانها، قال سبحانه:

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) ( آل عمران / ١٨٧ ).

وهذه الآية تؤيّد ما استظهرناه من قوله سبحانه:( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ) وإنّ أخذ الميثاق لم يكن مختصّاً بالأنبياء، بل أخذ سبحانه الميثاق من اُممهم بواسطتهم، وممّا أخذ منهم الميثاق عليه هو تبيين سمات الرسول الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم كتمانها.

وقد كان ظهور النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بين الاُمّيين على وجه كان اليهود يستفتحون به على مشركي الأوس والخزرج، وكانوا يقولون لمن ينابذهم: هذا نبيّ قد أطلّ زمانه ينصرنا عليكم، قال سبحانه:

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

المرصد السّادس

في العدل

وفيه مطالب

١٦١

١٦٢

[المطلب] الأوّل

في الحسن والقبح العقليّين

الفعل إن لم يكن له صفةٌ زائدةٌ على حدوثه فهو كحركة السّاهي والنّائم. وإن كان، فهو إمّا حسنٌ لا صفة زائدة له على حسنه، وهو المباح؛ أو له صفةٌ زائدةٌ، فإن أوجبت الذّمّ على التّرك فهو الواجبُ، وإلاّ النّدبُ؛ وإمّا قبيحٌ، وهو ما يستحقّ فاعله العالمُ بحاله الذّمّ.

واتّفقت المعتزلة على أنّ من الأشياء ما يُعلم كونه حسناً وقبيحاً بالضّرورة، كحسن الصّدق النافع والإنصاف والإحسان وشكر المُنعم وقبح الكذب الضّارّ والظلم والفساد وتكليفِ ما لا يُطاق؛ ومنها ما يعلم حسنه وقبحه بنظر العقل، كحُسن الصّدق الضّارّ وقبح الكذب النّافع، ومنها ما يُعلم من جهة الشّرع، لا بمعنى أنّه علّةٌ في الحُسن والقبح، بل إنّه كاشف لجزم من لم يعتقد الشّرعُ به، ولأنّه لولاه لجاز إظهار المعجزة (1) على يد الكاذب، والخُلف في وعده ووعيده. والتّعذيب على الطاعة والإثابة على المعصية، فينتفي فائدةُ التّكليف ولأُفحِمَتِ الأنبياءُ.

____________________

(1) ألف: المعجز.

١٦٣

وقالت الأشاعرة: إنهما شرعيّان، فالحسنُ ما أمر الشّارعُ به، والقبيحُ ما نهى عنه؛ لأنّ العلمُ به ليس نظريّاً إجماعاً ولا ضروريّاً، وإلاّ لساوى العلم بأنّ الكلّ أعظمُ من الجزء. والتّالي باطلٌ قطعاً، فكذا المقدّمُ، ولأنّ الكذبَ قد يحسنُ إذا اشتمل على مصلحة، كتخليص نبيّ من ظالم، أو قال: لأكذبنّ غداً، ولأنّه - تعالى - كلّف من علم عدمَ إيمانه، وخلافُ معلوم الله - تعالى - مُحال، وكلّف أبا لهب بالإيمان بجميع ما أخبر به. ومن جملة ما أخبر (1) أنّه لا يؤمنُ، فقد كلّفه بأن يؤمن بأن لا يؤمن. وهو جمعٌ بينَ النّقيضين؛ ولأنّ أفعال العبد اضطراريّةٌ، فلا حسنَ ولا قبحَ.

والجوابُ: المنعُ من الملازمة فإنّ التّصديقات الضّروريّة تتفاوتُ بتفاوت التّصوّرات في الكمال والنّقصان، ومن بطلان التّالي، والكذب ليس بحسن مطلقاً. ويجب التّوريةُ لتخليص النّبيّ، فينتفي الكذبُ، أو يأتي بصورة الإخبار من غير قصد له، بل للاستفهام. ويجبُ ترك الكذب في الغد، لاشتماله على وجهي حسن، هما ترك الكذب وترك إتمام العزم عليه وإن اشتمل على وجه قبح، وهو أولى من الكذب المشتمل على وجهي قبح هُما الكذب وإتمام العزم عليه، وعلى وجه حَسن وهو الصدق، والعلم تابعٌ، فلا يؤثّرُ في المتبوع.

ونمنع إخباره عن أبي لهب بعدم الإيمان. والسّورةُ اشتملت (2) على

____________________

(1) ج: أجزائه.

(2) ج: إنه اشتملت.

١٦٤

ذمّه، لا على الإخبار بعدم إيمانه. ويُحتَملُ نزولها بعدَ موته. ويؤيّده قوله تعالى: ( مَا أَغْنَى‏ عَنْهُ ) (1) وقوله تعالى: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنذرتهم ) (2) يُحتَمل نزولها بعدَ موتهم أو حالَ غفلتهم. والغافل غير مكلّف. وسيأتي بيانُ اختيار العبد.

تذنيبٌ

القبائحُ إنّما قبحت لما هي عليه. وكذا الواجباتُ، فإنّ العقلاء متى علموا الظلمَ، أو منعَ ردّ الوديعة، أو ترك شكر المنعم، (3) ذمّوا فاعل ذلك، ومتى علموا ردّ الوديعة أو شكر النّعمة مدحوا فاعله. فإذا طلب منهم العلّة بادروا إلى ذكر الظّلم أو منع الوديعة أو كفران النّعمة أو فعل الشّكر أو الرّدّ. فلو لا علمهم الضّروريّ بالعلم لما بادروا إليها وللدوران، فإنّ الضّرر متى كان ظلماً كان قبيحاً. وإذا انتفى الظلم انتفى قبحه فكان علّةً.

____________________

(1) المسد: 111/2.

(2) البقرة: 2/6.

(3) ب، ج: النعمة.

١٦٥

المطلب الثاني

في أنّه - تعالى - لا يفعل القبيح ولا يُخلّ بالواجب

يدلّ عليه أنّ له صارفاً عن القبيح، لأنّه غنيٌّ عنه وعالمٌ بقبحه، ولا داعيّ له إليه، لانتفاء داعي الحاجة والحكمة، فلا يصدرُ الفعل عنه قطعاً.

والأشاعرة أسندوا القبائح إليه - تعالى عن ذلك -، لأنّه كلّف الكافر مع علمه بامتناع الإيمان منه، وتكليفُ ما لا يُطاقُ قبيحٌ عندكم، ولأنّه - تعالى - جمع بين الرّجال والنّساء في الدّنيا ومكّن بعضَهم من بعض، وجعل لهم ميلاً إلى الاجتماع وحرّمه، وذلك قبيح، كما يقبح منّا جمع العبيد والإماء،

وقد بيّنا أنّ العلمَ تابعٌ، والغرضُ في التّكليف هو التّعريض على معنى أنّه يجعله بحيثُ يتمكن من الوصول إلى النّفع وقد حصل الغرضُ، والجامع بينَ العبيد والإماء إذا نهاهم عن وصول بعضهم إلى بعض وتوعّدهم عليه بعظيم الضّرر، وفعل بهم ما يُقرّبهم من الامتثال ويُبعّدهم عن المخالفة، ونصب لهم من يؤدّبهم إذا أخلّوا بما أُمروا به عاجلاً ووعدهم على الامتثال بعظيم النّفع الّذي لا يمكن الوصول إليه إلاّ به لم يكن قبيحاً.

١٦٦

المطلب الثّالث

في خلق الأعمال

ذهب جهم بنُ صفوان إلى أن لا فاعل إلاّ الله - تعالى - وقالت الأشاعرةُ والنّجّاريّة، إنّ المُحدِثَ هو الله - تعالى - والعبدَ مكتسبٌ، وأنّه - تعالى - يخلقُ قدرة للعبد والفعل معاً. واختلفوا في الكسب، فقال الأشعريّ: هو إجراء العادة بإيجاد الله - تعالى - الفعل والقدرة معاً عندَ اختيار العبد، ولا أثرَ لقدرة العبد. وقال بعضُ أصحابه، معناه تأثيرُ قدرة العبد في كون الفعل طاعةً أو معصيةً أو عبثاً وغيرها من صفات الفعل الّتي يتناولها التّكليف وبها يستحقّ المدح والذّمّ. وقال آخرون: إنّه غيرُ معلوم.

وذهب أهل العدل إلى أنّ للحيوان أفعالاً تقعُ بقدرتهم (1) واختيارهم، فعندَ أبي الحسين ومن تابعه أنّ العلمَ به ضروريٌّ. وهو الحقّ. وعند باقي مشايخ المعتزلة ومن تابعهم من شيوخ الإماميّة أنّه كسبيٌّ.

لنا أنّ كلّ عاقل يعلمُ بالضّرورة حُسنَ المدح على الإحسان والذّمّ على الإساءة، وهو يتوقفُ على كون الممدوح والمذموم فاعلاً، ولأنّ أفعالنا

____________________

(1) ألف، ب: بقدرهم.

١٦٧

واقعةٌ بحسب قصودنا ومنتفية بحسب صوارفنا. وهو معنى الفاعل. ولأنّ الضّرورة قاضية بالفرق بينَ حركاتنا الاختياريّة والاضطراريّة، ولقبح منه - تعالى - الأمر والنّهي كما يقبح أمرُ الجماد ونهيه؛ وللسّمع.

احتجّ الخصمُ بأنّ العبدَ حالَ الفعل إن لم يمكنه التّرك فهو الجبر؛ وإن أمكنه: فإن لم يتوقّف التّرجيحُ على مرجّح لزم ترجيحُ الممكن من غير مرجّح، وإن توقّف، فإن كان منه عاد البحث، وإلاّ لزم الجبر، لامتناع الفعل من دونه ووجوبه عنده، ولأنّه لو كان موجداً لفعله لكان عالماً بتفاصيله، فإنّ القصد (1) الكلّيّ لا يكفي في حصول الجزئيّ لتساوي نسبته إلى الجميع. والتّالي باطل قطعاً، لعدم العلم بقدر السّكنات المتخلّلة في الحركات البطيئة، ولأنّه لو أراد العبدُ حركةَ جسم وأراد الله - تعالى - تسكينه، فإن وقعا أو لم يقعا لزم المُحال، وإن وقع أحدهما كان ترجيحاً من غير مرجّح، لاستقلال كلّ منهما؛ ولأنّه - تعالى - إن علم الوقوعَ وجب وإلاّ امتنع، فلا قدرةَ.

والجوابُ: أنّه متمكنٌ من التّرك نظراً إلى القدرة وغيرُ متمكّن نظراً إلى الدّاعي ولا يخرجه عن القدرة، لتساوي الطرفين بالنّسبة إلى القدرة وحدَها، وهو آتٍ في حقّ واجب الوجود. والعلم الإجماليّ كافٍ في الإيجاد. والقصد الكلّيّ قد ينبعث عنه الفعل الجزئيّ باعتبار تخصيصه

____________________

(1) ألف: الفصل.

١٦٨

بالمحلّ والوقت لا باعتبار القصد، وقدرته - تعالى - أقوى، فكان صدورُ فعله أولى، والوجوب المستند إلى العلم لاحقٌ. (1)

وكما أنّ فرضَ أحد النّقيضين يقتضي وجوبَه لاحقاً دونَ امتناع الآخر، كذا فرضُ العلم، لأنّه مطابقٌ له. والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم، مع أنّه آتٍ في حقّه تعالى. والكسب غيرُ مفيد، لأنّ تجويز صدور الاختيار يقتضي تجويز صدور غيره، لعدم الأولويّة؛ ولانسحاب أدلّتهم عليه، فإنّ اختيار المعصية مغايرٌ لاختيار الطاعة. فحصولُ أحدهما إن لم يكن لمرجّح لزم ترجيح أحد الطرفين لا لمرجّح، وإن كان لمرجّح تسلسل. وكذا باقي الأدلّة.

____________________

(1) ج: اللاحق.

١٦٩

المطلب الرّابع

في أنّه - تعالى - يريدُ الطاعات ويكره المعاصي

هذا مذهبُ العدليّة، خلافاً للأشاعرة، لأنّ له داعياً إلى الطاعة، ولا صارفَ له عنها، وله صارفٌ عن المعصية، ولا داعيَ له إليها، لأنّه حكيمٌ، والحكيمُ له داعٍ إلى الحَسَن، والطاعة حسنة، وله صارفٌ عن القبيح، والمعصية قبيحةٌ؛ ولأنّ إرادة القبيح قبيحةٌ، لاستحسان العقلاء ذمّ مريد القبيح، ولأنّه أمر بالطاعة ونهى عن المعصية. وهما يستلزمان الإرادة والكراهة؛ فإنّ الأمر إنّما هو أمرٌ باعتبار إرادة المأمور به؛ ولقوله تعالى: ( كُلّ ذلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِندَ رَبّكَ مَكْرُوهاً ) (1) وكذب من قال: ( لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا ) (2) وقوله: ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ ) (3) ، ( وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْفَسَادَ ) (4) ، ( وَلاَ يَرْضَى‏ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) (5) ، و ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (6) ، ( وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ) (7) .

____________________

(1) الإسراء: 17/38.

(2) الأنعام: 6/148.

(3) آل عمران: 3/108.

(4) البقرة: 2/205.

(5) الزمر: 39/7.

(6) الذاريات: 51/56.

(7) البيّنة: 98/5.

١٧٠

احتجّوا بأنّ إرادةَ الطاعة من الكافر تستلزم وقوعها وكراهةَ المعصية تستلزم عدمها؛ ولأنّ الأمر قد يوجد بدون الإرادة، كطالب العذر عن ضرب (1) عبده بعدم قبوله منه، فيأمره ولا يريد فعلَه، ليظهرَ عذره؛ وقوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلّهُمْ جَميعاً ) (2) .

والجوابُ: أنّه أراد إيقاعَها اختياراً وكره إيقاعَ المعصية اختياراً، لئلاّ يبطلَ التّكليف. والمولى يوجد صورةَ الأمر ولا طلب، كما لا إرادة، والآية يدلّ على القسر (3) .

____________________

(1) ج: بضرب العبد.

(2) يونس: 10/99.

(3) ج: على التخيير.

١٧١

المطلب الخامس

في التكليف

وهو إرادةُ من يجبُ طاعته على جهة الابتداء ما فيه مشقّةٌ بشرط الإعلام. وهو حسنٌ لأنّه من فعلِه تعالى، والله لا يفعل القبيح؛ ولابُدّ من غرضٍ، لقبح العبثِ، وليس عائداً إليه تعالى، لاستغنائه، ولا إلى غير المكلّف، لقبح إلزام المشقّة لنفع (1) الغير، ولا ضرر المكلّف لقبحه ابتداء، ولا نفعه، لانتقاضه بتكليف من علم كفره، ولا تعريضه للضرر لقبحه ولا لنفع يصحّ الابتداء به، لأنّه يصيرُ عبثاً، فهو التّعريضُ لنفع لا يمكن الابتداء به.

والأشاعرة نفوا الغرضَ في أفعاله، وإلاّ لكان ناقصاً في ذاته مستكملاً بذلك الغرض، إذ بحصوله يحصل له ما هو الأولى له. وليس بجيّد، وإلاّ لزم العبثُ وإبطال غايات المصنوعات الظاهرة حِكمها. (2) والاستفادةُ باطلة، كما في الخالقيّة.

وهو واجبٌ عندَ المعتزلة خلافاً للأشاعرة، وإلاّ لكان مغرياً بالقبيح،

____________________

(1) ج: منفعة.

(2) ج: حكمتها.

١٧٢

لأنّ للعاقل ميلاً إلى القبيح ونفوراً عن الحسن.

فلولا التّكليف الزّاجر عن القبيح لزم ارتكابه،

وشرطه كونُ المكلّف عالماً بصفة الفعل لئلاّ يكلّفَ بالقبيح أو المباح، وبقدر المستحقّ عليه من الثّواب ليؤمن انتفاء الظلم، والقدرة على الإيصال، وكونه منزّهاً عن فعل القبيح والإخلال بالواجب، وأن يكون ما كلّف به ممكناً، لقبح التّكليف بالمُحال، وكونه ممّا يستحقّ به الثّواب، كالواجب والنّدب وترك القبيح، وقدرة المكلّف عليه، مميّزاً بينَه وبينَ ما لم يكلّفه متمكناً من الآلة والعلم بما يحتاج إليه، والعلّة فيحسن تكليف المؤمن آتيةٌ في الكافر؛ فإنّ العلم غير مؤثر والتّعريض للنّفع ثابت فيه. واختيار الكفر (1) لا يُخرج الحَسن عن حُسنه.

____________________

(1) ب، ج: اختياره الكفر.

١٧٣

المطلب السّادس

في اللّطف

وهو ما كان المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعدَ من فعل القبيح، (1) ولم يكن له حظٌّ في التّمكين ولم يبلغ إلى حدّ الإلجاء، فالآلة ليست لطفاً؛ لأنّ لها مدخلاً في التّمكين. والإلجاء ينافي التّكليف، بخلاف اللّطف وهو واجبٌ خلافاً للأشعريّة، وإلاّ لزم نقض الغرض، فإنّه - تعالى - إذا علم أنّ المكلّف لا يختارُ الطاعة أو لا يكونُ أقرب إليها إلاّ عندَ فعل يفعله به وجب عليه فعلُه، وإلاّ كان مُناقضاً لغرضه، كمن قدّم طعاماً إلى غيره ويعلمُ أنّه لا يأكلُ (2) إلاّ إذا فعل معه نوعاً من التأدّب لا مشقّةَ فيه ولا غضاضةَ، فلو لم يفعله لم يكن مريداً لأكله.

لا يقال: الفعل بدون اللطف إن كان ممكناً لم يتوقّف على اللّطف، وإلاّ صار من جملة التّمكين، كالقدرة، ولأنّ وجه الوجوب غير كافٍ فيه ما لم ينتف عنه وجوه (3) القبح، فلم لا يجوزُ اشتمال اللّطف على وجه قبح، ولأنّ اللطف إن اقتضى رجحاناً مانعاً من النّقيض كان إلجاءً. وإن كان غير مانع لم

____________________

(1) ج: فعل المعصية.

(2) ج: لا يأكله.

(3) ج: وجوب القبح.

١٧٤

يكف في وجود الفعل، وإن لم يقتض رجحاناً البتة انتفت فائدته.

لأنّا نقول: الفعل يتوقّفُ على الدّاعي. واللّطفُ أمّا الدّاعي أو سببه أو مقوّيه، فيتوقّف عليه الفعل وليس تمكيناً. ووجوه القبح محصورة مضبوطة، لأنّا مكلّفون باجتنابها، وهي منفيّةٌ عن اللطف، واقتضاء الرّجحان المانع من النّقيض لا يستلزم الإلجاء، كالدّاعي الّذي يجب الفعل عنده، وإن كان غيرَ مانع كفى مع الدّاعي والقدرة.

واللطف إن كان من فعله - تعالى - وجب عليه فعله، وإن كان من فعل المكلّف وجب عليه - تعالى - أن يُعرّفه إيّاه ويُوجبه عليه، وإن كان من فعل غيرهما لم يجز أن يكلّفه فعلاً متوقّفاً على ذلك اللّطف إلاّ إذا علم أنّ ذلك يفعله قطعاً.

١٧٥

المطلب السّابع

في الآلام والأعواض

الألمُ منه قبيحٌ، وهو صادرٌ عنّا والعوض فيه علينا، ومنه حَسنٌ، فإن كان من فعلنا، مباحاً أو مندوباً أو واجباً فالعوض عليه تعالى، وإن كان من فعله - تعالى - فإمّا على وجه الاستحقاق بالعقاب، (1) وإمّا على جهة الابتداء.

واختلفَ فيه، فنفاه البكريّة، وقالت الأشاعرة لا عوضَ عليه - تعالى - في ما يفعله من الألم ولا في ما يأمر به. وقالت التّناسخيّة، إنّه - تعالى - يؤلمُ على وجه العقوبة لا غير. وعند العدليّة أنّه - تعالى - يؤلم ابتداءً بشرط اشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه، وهو اللّطف إمّا للمؤلم أو لغيره. وأن يكونَ في مقابلته عوضٌ للمؤلم يزيد عليه أضعافاً كثيرةً بحيثُ يختارُ المتألمُ العوضَ والألم؛ لأن عراءه عن العوض ظلمٌ وعن اللّطف عبثٌ.

والعوضُ، هو النّفعُ المستحقُّ الخالي من تعظيم وإجلال، فالمستحقّ علينا مساوٍ للألم، والمستحقّ عليه - تعالى - بفعله أو إباحته أو أمره أو تمكينه لغير العاقل زائدٌ عليه. واختلف أهل العدل في الأخير، فقال بعضهم بما

____________________

(1) ب، ج: كالعقاب.

١٧٦

تقدّم، وآخرون بأنّ العوضَ على الحيوان. والباقون قالوا: لا عوضَ هنا.

لنا، أنّه - تعالى - مكّنه وجعل فيه ميلاً شديداً إلى الإيلام ولم يخلق له عقلاً يزجره عن القبيح مع إمكانه.

احتجّ الخصمُ بقوله (عليه السلام): ((يُنتصفُ للجمّاء من القرناء)) (1) وإنّما يكون بأخذ العوض من الجاني وبقوله (عليه السلام): ((جُرحُ العجماء جبارٌ)) (2) والانتصاف بأخذ العوض إمّا من الجاني أو غيره، وصحّ أن يكونَ جباراً لانتفاء القصاص فيه.

والعوض واجبٌ، خلافاً للأشاعرة، وإلاّ لزم الظلمُ، واختلف الشّيوخُ، فقال أبو هاشم والبلخيّ: يجوزُ أن يُمكّن الله - تعالى - من الظلم من لا عوض له في الحال يوازي فعله.

ثمّ قال البلخيّ: يجوز أن يخرج من الدّنيا ولا عوضَ له، ويتفضّل الله - تعالى - عليه بالعوض، فيدفعه إلى المظلوم. ومنعه أبو هاشم وأوجب التّبقيةَ إلى أن يستحقّ عوضاً موازياً، لأنّ الانتصافَ واجبٌ والتّفضّل ليس بواجب، فلا يُعلّقُ عليه الواجبَ. قال المرتضى: التّبقيةُ أيضاً ليست واجبةً، فلا يعلّق عليها الانتصافَ الواجب. بل، يجب أن يكون له في حال ظلمه عوضاً موازياً.

____________________

(1) الاقتصاد: 91؛ كشف المراد: 455.

(2) الموطأ: 2/869؛ بحار الأنوار: 87/267.

١٧٧

المطلب الثّامن

في الآجال والأرزاق والأسعار

ألف - الأجل، هو الوقتُ الّذي يحدث فيه الشّيء. ويعنى بالوقت، الحادثُ الّذي جعل علماً لحدوث غيره. كما يقال: قدم زيدٌ عندَ طلوع الشّمس. وأجلُ الحياة هو الوقت الّذي يحدث فيه، وأجل الموت كذلك. فأيّ ميّتٍ مات على اختلاف أسباب الموت، فإنّ موته في أجله.

واختلف في المقتول لو لم يقتل فقيل: يعيشُ قطعاً، لأنّه لو مات قطعاً لكان ذابحُ غنم غيره محسناً إليه. وقيل: يموتُ قطعاً، وإلاّ لزم انقلابُ علمه - تعالى - جهلاً لو عاش.

والملازمةُ الأولى ممنوعةٌ، لأنّه فوّته العوضَ على الله تعالى. وهو أزيدُ من العوض عليه. (1)

والثّانيةُ أيضاً، لجواز تعلّق علم الموت بالقتل والحياة لولاه.

وأمّا الرّزقُ، فعند العدليّة ما صحّ الانتفاع به ولم يكن لأحد منعه منه،

____________________

(1) قال المصنّف في كشف المراد: 340: إذ لو ماتت الغنم استحق مالكها عوضاً زائداً على الله فقال، فبذبحه فوت عليه الاعواض الزائدة.

١٧٨

لقوله تعالى: ( وَأَنفِقُوا مِن مَا رَزَقْنَاكُم ) (1) والله - تعالى - لا يأمرُ بالحرام.

وعند الأشاعرة، الرّزق ما أكل وإن كان حراماً. ويجوز طلبُه إجماعاً. ولقوله تعالى: ( فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللّهِ ) (2) .

وأمّا السّعرُ، فهو تقدير البدل فيما يُباع به الأشياء. ولا يقال: هو البدل؛ لأنّ البدل هو الثّمن أو المثمنُ. وليس أحدهما سِعراً. وهو إمّا رخصٌ، وهو السّعرُ المنحطّ عمّا جرت به العادة، والوقت والمكان واحدٌ. وإمّا غلاءٌ، وهو ما يقابله، وكلّ منهما إمّا من الله تعالى أو من العباد.

____________________

(1) المنافقون: 63/10.

(2) الجمعة: 62/10.

١٧٩

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581