مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 273784 / تحميل: 6523
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٨٩ ).

روى الطبرسي عن معاذ بن جبل، وبشر بن البراء: إنّهما خاطبا معشر اليهود وقالا لهم: اتّقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث، فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو بالذي كنّا نذكر لكم، فنزلت هذه الآية(١) .

وعن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أنّه لما كثر الحيّان ( الأوس والخزرج ) بالمدينة، كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أمّا لو بعث محمد لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا، فلمّا بعث الله محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله آمنت به الأنصار، وكفرت به اليهود، وهو قوله تعالى:

( وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٢) .

وبالرغم من أخذ الميثاق من الاُمم، وبالرغم من تعرّف تلك الاُمم على النبي الخاتم، عمد أصحاب الأهواء منهم إلى كتمان البشائر به، واخفاء علائمه، وسماته الواردة في كتبهم كما يقول سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( البقرة / ١٧٤ ).

وقال سبحانه:

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) ( البقرة / ١٥٩ ).

والمعنيّ بالآية نظراء كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وابن صوريا وغيرهم

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ١٥٨.

(٢) تفسير العياشي: ج ١ ص ٥٠.

٢١

من علماء اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ونبوّته وهم يجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل مثبّتاً فيهما.

قال(١) العلاّمة الطباطبائي: المراد بالكتمان وهو الإخفاء أعمّ من كتمان أصل الآية وعدم إظهارها للناس، أو كتمان دلالتها بالتأويل، أو صرف الدلالة بالتوجيه كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوّة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه، وما يعلم به الناس يؤوّلونه بصرفه عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وقال سبحانه:

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) .

والضمير في « لتبيّننّه » إمّا عائد إلى النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله المفهوم من سياق الآية، أو إلى الكتاب المذكور قلبه، وعلى كل تقدير يدخل في الآية، بيان أمر النبي لأنّه في الكتاب، والظاهر أنّ الآية مطلقة تعمّ كل ما يكتمونه من بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات.

النبي الأكرم ودعاء الخليل

أمر سبحانه إبراهيم الخليل بتعمير بيته، وقد قام الخليل بما اُمر، وبمساهمة فعليّة من ابنه « إسماعيل » وقد حكى سبحانه دعاءه عند قيامه بهذا العمل وقال:

( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ١٩٥.

(٢) الميزان: ج ١ ص ٣٩٤.

٢٢

الحَكِيمُ ) ( البقرة / ١٢٧ ـ ١٢٩ ).

فقد دعا إبراهيم لذرّيته من نسل إسماعيل القاطنين في مكّة وحواليها، ولم يبعث سبحانه من تتوفّر هذه الأوصاف الواردة في الآية من تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة والتزكية سوى النبي الأكرم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والآية تدلّ على أنّ إبراهيم واسماعيل دعيا لنبيّنا بجميع شرائط النبوّة لأنّ تحت التلاوة الأداء، وتحت التعليم البيان، وتحت الحكمة السنّة، ودعوا لاُمّته باللطف الذي لأجله تمسّكوا بكتابه وشرعه فصاروا أزكياء، وبما أنّ المرافق والمشارك في الدعاء مع إبراهيم هو ابنه، فيجب أن يكون النبي من نسل إبراهيم من طريق ابنه، ولم يكن في ولد إسماعيل نبيّ غير نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد الأنبياء.

وقد استجاب الله سبحانه دعاء الخليل وابنه إذ بعث في ذرّيته رسولاً وقال:

( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( آل عمران / ١٦٤ ).

وقال تعالى:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة / ٢ ).

ولقد نقَّب علماء الإسلام في العهدين ( التوراة والإنجيل ) وجمعوا البشارات الواردة فيهما على وجه التفصيل، ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى الكتب المعدّة لذلك(١) . ونحن نعرض عن نقل تلكم البشائر في هذه الصحائف لأنّ نقلها يوجب الاسهاب في الكلام والخروج عن وضع المقال.

__________________

(١) مثل أنيس الأعلام في نصرة الإسلام لفخر الاسلام الشيخ محمد صادق، في ستة أجزاء واظهار الحق تأليف الشيخ رحمة الله الهندي وهو كتاب ممتع، والهدى إلى دين المصطفى تأليف الشيخ العلّامة محمد جواد البلاغي، وفي كتاب بشارات العهدين غنى وكفاية.

٢٣
٢٤

(٢)

ثقافة قومه وحضارة بيئته

إنّ الإنسان مهما بلغ من الكمال لا يستطيع أن يجرّد نفسه وفكره، ومنهجه الإصلاحي عن معطيات بيئته، فهو يتأثّر عن لا شعور بثقافة قومه، وحضارة موطنه، ولكن إذا راجعنا تفكير إنسان وشخصيته فوجدناها منقطعة عن تأثيرات الظروف التي نشأ فيها، ومباينة لمقتضياتها، بل كانت على النقيض منها، فتكشف أنّ لما جاء به من التشريع والتقنين ولما قدّمه إلى اُمّته من مبادئ الإصلاح خلفيّة سماويّة غير خاضعة لثقافة قومه، وتقاليد قبيلته.

وهذا نجده في ما حمله رسول الإسلام إلى قومه وإلى البشرية جمعاء من عقائد واخلاق وتشريعات.

وللوقوف على هذه الحقيقة نقدّم عرضاً خاطفاً عن حياة العرب في عصره قبل ميلاده وبعده، ومن المعلوم أنّ الإسهاب في ذلك يتوقّف على الغور في التاريخ والسيرة وهو خارج عن هدفنا، بل نقدّم موجزاً ممّا يذكره القرآن عن حياتهم المنحطّة البعيدة عن الحضارة، وستقف أيّها القارئ الكريم من خلال ذلك على أنّ الذي جاء به رسول الإسلام الكريم، من عقائد وأخلاق وسنن، تضاد مقتضيات ظروفه، فهو بدل أن يؤكّد تفكير قومه وطقوس قبيلته وتقاليد وسطه الذي كان يعيش فيه، بدأ يكافحها ويفنّدها بالإسلوب المنطقي.

لقد نشأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين قومه وقد كانوا منقطعين عن الأنبياء وبرامجهم حيث لم يبعث فيهم نبيّ، قال سبحانه في هذا الصدد:

٢٥

( وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( القصص / ٤٦ ).

يقول تعالى:

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) ( السجدة / ٣ ).

وقال سبحانه:

( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس / ٦ ).

وهذه الآيات تعرب من أنّ اُمّ القرى وما حولها لم يبعث فيها أي بشير أو نذير، والآيات تعني هذه المناطق والقاطنين فيها، ولا تعني العرب البائدة التي بعث فيها أنبياء عظام كهود وصالح وشعيب، ولا عامّة المناطق في الجزيرة العربيّة ولا عامّة القبائل من القحطانيين والعدنايين، وقد كان فيهم بشير ونذير كخالدبن سنان العبسي وحنظلة على ما في بعض الروايات والأخبار.

ومن المعلوم أنّ الاُمّة البعيدة عن تعاليم السماء خصوصاً في العصور البعيدة التي كانت المواصلات فيها ضعيفة بين الاُمم، وكانت عقلية البشر في غالب المناطق قاصرة عن تنظيم برنامج ناجح للحياة الإنسانية، فحياتهم لا تتعدّى عن حياة الحيوانات بل الوحوش في الغابات، ولا يكون لهم من الإنسانية شيء إلّا صورتها، ولا من الحضارة إلّا رسمها.

وهذا هو القرآن يصفهم بأنّهم كانوا على شفا حفرة من النار، ولم يكن بين سقوطهم واقتحافهم فيها إلّا خطوات ودقائق بل لحظات لولا أنّ النبيّ الأكرم أنقذهم من النار، قال تعالى:

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ) ( آل عمران / ١٠٣ ).

٢٦

وقد تضمّن قوله سبحانه:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ ) استعارة بليغة حيث صوّر قوم النبيّ كالساقطين في قعر هوَّةِ سحيقة لا يقدورن على الخروج، وفي يد النبيّ حبل ألقاه في قعر تلك الهوّة يدعوهم إلى التمسّك به حتّى يستنقذهم من الهلكة.

هذا ما يصف به القرآن الكريم بيئة النبيّ وعقلية عشيرته، على الوجه الكلّي، ولكنّه يصفهم في الآيات الأُخر بالإنحطاط والإنهيار بشكل مفصّل.

وإليك بيان ذلك في ضوء الآيات القرآنية.

١ ـ الشرك أو الدين السائد

كان الدين السائد في العرب في الجزيرة العربية عامّة، ومنطقة أُمُ القرى خاصّة، هو الشرك بالله سبحانه، فهم وإن كانوا موحّدين في مسألة الخالقيّة، وكان شعارهم هو أنّ الله هو الخالق للسماوات والأرض، ولكنّهم كانوا مشركين في المراحل الاُخرى للتوحيد.

أمّا كونهم موحّدين في مجال الخالقيّة فلقوله سبحانه:( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) ( لقمان / ٢٥ )(١) .

وأمّا كونهم مشركين في المراتب الاُخرى للتوحيد فيكفي في ذلك كونهم مشركين في أمر الربوبية ( تدبير العالم ) هو أنّ الوثنية دخلت مكّة وضواحيها، بهذا اللون من الشرك ( الشرك في الربوبية ).

روى ابن هشام عن بعض أهل العلم أنّه قال: « كان عمرو بن لُحَي أوّل من أدخل الوثنية إلى مكّة ونواحيها، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام اُناساً يعبدون الأوثان وعندما سألهم عمّا يفعلون، قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها، فتمطرنا، ونستنصرها، فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها فأسير بها إلى أرض

__________________

(١) ولهذا المضمون آيات اُخر لاحظ العنكبوت / ٦١، الزمر / ٣٨، والزخرف / ٩ و ٧٨.

٢٧

العرب فيعبدوه، فاستصحب معه إلى مكّة صنماً باسم « هبل » ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعى الناس إلى عبادتها »(١) .

وأمّا الشرك في العبادة: فقد كان يعمّهم قاطبة إلّا أُناساً لا يتجاوز عددهم عن عدد الأصابع، فالأغلبيّة الساحقة كانوا يعبدون الأصنام مكان عبادته سبحانه زاعمين أنّ عبادتهم تقرّبهم إلى الله، قال سبحانه:

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلّا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الزمر / ٣ ).

والقرآن شدّد النكير على فكرة الشرك أكثر من كل شيء، وفنّدها بأساليب علميّة وعقليّة، ولقد صوّر واقع الشرك ووضع المشرك ببعض التشبيهات البليغة التي تقع في النفوس بأحسن الوجوه قال سبحانه:

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ( العنكبوت / ٤١ ).

وقال تعالى:

( وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) ( الحجّ / ٣١ ).

فالمعتمد على الحجر، والخشب الذي لا يبصر، ولا يسمع، ولا ينفع، ولا يضرّ، كالمعتمد على بيت العنكبوت الذي تخرقه قطرة ماء، وتحرقه شعلة نار وتكسحه هبّة ريح.

٢ ـ إنكار الحياة بعد الموت

الإعتقاد بالحياة بعد الموت هو الرصيد الكامل للتديّن، وتطبيق العمل على الشريعة، ولكن العرب كانت تنزعج من نداء الدعوة إلى الإيمان بها، لأنّ الإيمان

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٧٩.

٢٨

بالحياة المستجدة، يستدعي كبح جماح الشهوات، ووضع السدود والعوائق دون المطامح والمطامع، وأين هذا من نزعة الاُمّة المتطرّفة التي لا تهمّها إلّا غرائزها الطاغية ورغباتها الجامحة.

وبما أنّ ذكر الموت والحياة بعده يلازمان الحساب والجزاء، لهذا كان العرب يقابلون النبيّ بالسبّ والشتم واتّهامه بالجنون، لأجل إنبائه عن أمر غير مقبول، وحادث غير معقول، قال سبحانه:

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ *أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) ( سبأ / ٧ ـ ٨ )

٣ ـ عقيدتهم في الملائكة والجنّ

ومن عقائدهم: إنّ الملائكة بنات الله سبحانه، وفي الوقت نفسه كانوا يكرهون البنات لأنفسهم، يقول سبحانه:

( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ *أَمْ خَلَقْنَا المَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ *أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ *وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ( الصافّات / ١٤٩ ـ ١٥٤ ).

والآية ترد عليهم وتفنّد عقيدتهم بوجوه:

١ ـ إنّ تصوير الملائكة بناتاً لله سبحانه يستلزم تفضيلهم عليه سبحانه ـ حسب عيقدتهم ـ لأنّهم يفضلّون البنين على البنات، ويشمئزون منهنّ، ويئدونهنّ، فكيف تجعلون البنات لله وإليه أشار بقوله سبحانه:

( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) ؟.

٢ ـ إنّهم يقولون شيئاً لم يشاهدوه، فمتى شاهدوا الأُنثويّة للملائكة ؟ وإليه

٢٩

يشير بقوله:( أَمْ خَلَقْنَا المَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ) ؟.

٣ ـ إنّ توصيف الملائكة بناتاً لله يستدعي أنّه سبحانه ولدهنّ وهو منزّه عن الإيلاد والاستيلاد، وإليه يشير قوله:( لَيَقُولُونَ *وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) .

ثمّ إنّهم كانوا يتخيّلون وجود نسب بين الله والجنّ، والوحي يحكي ذلك على وجه الإجمال قوله سبحانه:

( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) ( الصافات / ١٥٨ ).

وقد ذكر المفسّرون وجوهاً مختلفة لتبيين ذلك النسب أظهرها بالاعتبار أنّهم قالوا: صاهر الله الجنّ فوجدت الملائكة تعالى الله عن قولهم(١) .

٤ ـ سيادة الخرافات

إنّ الأمّة البعيدة عن تعاليم السماء، وهداية الأنبياء يعيشون غالباً في خِضمِّ الخرافة، ويستسلمون في مجال العقيدة إلى الأساطير والقصص الخرافية، وكذلك كانت الأمّة العربية عصر نزول القرآن، فقد كانت غارقة في الخرافات والأساطير، وقد جمع « الآلوسي » تقاليدهم الإجتماعية، وطقوسهم الدينيّة في كتابه « بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب » حيث يجد القارئ فيها تلًّا من الأوهام والخرافات، وقد ذكر القرآن الكريم نماذج من عقائدهم، ونحن نشير إلى بعض ما وقفنا عليه في القرآن.

أ ـ كانت العرب في عصر حياة النبي قبل البعثة تحكم على بعض الأصناف من الأنعام بأحكام خاصّة تنشأ عن نيّة التكريم وقصد التحرير لها، غير أنّ تلك الأحكام كانت تؤدِّي إلى الإضرار بالحيوان، وتلفه وموته عن جوع وعطش، وقد حكى سبحانه تلك الأحكام عنهم وقال:( مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَٰكِنَّ

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٤ ص ٤٦.

٣٠

الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ( المائدة / ١٠٣ ).

والآية تعرب من أنّهم كانوا ينسبون أحكامهم في هذه الحيوانات والأنعام الأربعة إلى الله سبحانه، ولأجل ذلك وصف سبحانه تلك النسبة بالإفتراء عليه، وثلاثة منها أعني « البحيرة » و « السائبة » و « الحامي » من الإبل، والوصيلة من الشاة، وقد اختلف المفسّرون في تفسير هذه الكلمات، ولكن الجميع يشتركون في أنّ الأحكام المترتبة عليها كانت مبنيّة على تحريرها والعطف عليها، ونحن نذكر تفسيراً واحداً لهذه الكلمات، ومن أراد التبسّط والتوسّع فليرجع إلى كتب التفسير.

١ ـ البحيرة: هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكراً، شقُّوا اُذنها شقّاً واسعاً وامتنعوا من ركوبها ونحرها، ولا تطرد عن ماء، ولا تمنع عن مرعى، فإذا لقيها المعيي لم يركبها.

٢ ـ السائبة: وهي ما كانوا يسيبونه من الإبل، فإذا نذر الرجل للقدوم من السفر أو للبرء من علّة أو ما أشبه ذلك، قال: ناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها، ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى.

٣ ـ الحامي: وهو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن، قالوا: قد حمى ظهره، فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

٤ ـ الوصيلة: وهي في الغنم، كانت الشاة إذا ولدت اُنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكراً واُنثى، قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم(١) .

وقد أشار القرآن إلى أنّ الدافع لإتّباع هذه الأحكام حتّى بعد نزول الوحي هو تقليد الآباء، وقد أشار إليه بقوله:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللهُ وإلى الرَّسُولِ

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٥٢، ولم نذكر سائر التفاسير لاشتراك الجميع في أنّ الأحكام كانت مبتنية على تسريحها واظهار العطف لها.

٣١

قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( المائدة / ٤ ).

ثمّ إنّ هذه الأحكام وإن كانت لغاية تسريحها وإظهار العطف عليها لكنّها كانت تؤدّي بالمآل إلى موتها وهلاكها عن جوع وعطش، لأنّ تسريحها في البوادي والصحاري من دون حماية راع ولا رائد كان ينقلب إلى هلاكها.

ب ـ إنّ القرآن الكريم يحكي عن العرب المعاصرين لنزول الوحي خرافة أُخرى في مجال الأطعمة إذ قال سبحانه:

( وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إلى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( الأنعام / ١٣٦ ).

والآية تحكي من أنّ المشركين كانوا يخرجون من الزرع والمواشي نصيباً لله ونصيباً للأوثان، فما كان للأصنام لا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى الأصنام.

وقد إختلف المفسّرون في كيفيّة هذا التقسيم الجائر فنذكر تفسيراً واحداً.

قالوا: إنّهم كانوا يزرعون لله زرعاً، وللأصنام زرعاً، وكان إذا زكى الزرع الذي زرعوه لله، ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام، جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها، ويقولون: إنّ الله غني، والأصنام أحوج، وان زكى الزرع الذي جعلوه للأصنام، ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله، لم يجعلوا منه شيئاً لله، وقالوا: هو غنيّ، وكانوا يقسّمون النعم فيجعلون بعضه لله، وبعضه للأصنام، فما كان لله أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم(١) .

ج ـ ومن تقاليدهم: إنّه إذا ولدت الأنعام حيّاً يجعلونه للذكور ويحرمون النساء منه، واذا ما ولد ميّتاً أشركوا النساء والرجال، وإليه يشير قوله سبحانه:

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٧٠.

٣٢

( وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / ١٣٩ ).

وعلى ضوء الآية فأجنّة البحائر والسيب كانت مختصّة بالرجال إذا ولدت حيّة، واذا ولدت ميّتةً أكله الرجال والنساء، فما وجه هذا التقسيم غير التفكير الخرافي ؟

د ـ كانوا يقسّمون الأنعام إلى طوائف، فطائفة يجعلونها لآلهتهم واوثانهم، وطائفة يحرّمون الركوب عليها، وهي السائبة والبحيرة والحامي، وطائفة لا يذكرون اسم الله عليها.

كل ذلك تقاليد باطلة ردّها الوحي الإلهي بقوله:( وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إلّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( المائدة / ١٣٨ ).

والحجر بمعنى الحرام وهو ما خصّوه بآلهتهم ولا يطعمونه إلّا من شاؤوا.

هذا بعض ما وقفنا عليه من تقاليد العرب الخرافية الباطلة قبل الإسلام وحين ظهوره ممّا جاء ذكره في القرآن الكريم.

* * *

٥ ـ ثقافة قومه

يصف القرآن الكريم قوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بل القاطنين في اُمّ القرى ومن حولها بالاُمّية ويقول:

( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) ( الجمعة / ٢ ).

وقال:( لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا

٣٣

فَقَدِ اهْتَدَوا ) ( آل عمران / ٢٠ ).

وقد بلغت الاُمّيّة عند العرب إلى حد اشتهروا بذلك حتّى وصفهم أهل الكتاب بها كما يحكي عنه سبحانه بقوله:

( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) ( آل عمران / ٧٥ ).

والاُمّيّون جمع الاُمّي وهو المنسوب إلى الاُم، قال الزجّاج: الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب، قال عليه الصلاة والسلام: إنّا اُمّة اُمّيّة لا نكتب ولا نحسب(١) .

فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان كذلك، فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّيّاً(٢) .

وقال البيضاوي: الاُمّي من لا يكتب ولا يقرأ.

قال ابن فارس: الاُمّي في اللّغة، المنسوب إلى ما عليه جبلّة الناس لا يكتب فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه(٣) .

والزمخشري يفسّر قوله تعالى:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة / ٧٨ ). بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة ويتحقّقوا ما فيها.

هذا هو معنى الاُمّي وقد أصفقت عليه أئمّة اللّغة في جميع الأعصار إلى أن جاء الدكتور عبد اللطيف الهندي فزعم للاُمّي معان اُخرى لا توافق ما اتّفقت عليه أئمّة اللّغة، وسنذكر آراءه الساقطة في معنى « الأُمّي » عند البحث عن أوصاف النبي، ومنها أنّه « اُمّي » فانتظر.

__________________

(١) إيعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه: ج ١ ص ٣٢٧ عن النبي أنّه قال: إنّا اُمّة

(٢) مفاتيح الغيب: ج ٤ ص ٣٠٩.

(٣) مقاييس اللغة: ج ١ ص ٢١٨.

٣٤

والعرب في اُمّ القرى وما حولها كانت اُمّيّة لا تقرأ ولا تكتب، وقد نشأ النبيّ بينهم، ويؤيّد ذلكَ ما ذكره الإمام البلاذري في « فتوح البلدان » حيث أتى بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة فما تجاوز عن سبعة عشر رجلاً في مكّة، وعن أحد عشر نفراً في يثرب(١) .

وعلى ضوء ذلك فالسائد على تلك المنطقة كانت هي الاُمّيّة المطلقة إلّا من شذّ.

نعم، ما ذكرنا من سيادة الاُمّيّة على العرب لا ينافي وجود الحضارة في عرب اليمن حيث كانوا على أحسن ما يكون من المدنيّة، فقد بنوا القصور المشهورة، وشيّدوا الحصون، وكانت لهم مدن عظيمة، قال في كتابه الكريم:

( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) ( سبأ / ١٥ ).

وكان لهم ملوك واقيال دوّخوا البلاد، واستولوا على كثير من أقطار الأرض، ولكن تلك الحضارة زالت وبادت بسيل العرم، قال سبحانه:

( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ *ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلّا الْكَفُورَ ) ( سبأ / ١٦ و ١٧ ).

وأمّا بنو عدنان ومن جاورهم من عرب اليمن فقد اختلّ أمرهم وتغيّر حالهم بعد أن فرّقهم حادث سيل العرم، فمن ذلك اليوم فشى الجهل بينهم، وقلّ العلم فيهم، واضاعوا صنائعهم وتشتّتوا في الأطراف والأكناف، ووقع التنازع والتشاجر بين القبائل، وتكاثرت البغضاء بينهم، فلم يبق عندهم علم منزل، ولا شريعة موروثة من نبي، ولا العلوم كالحساب والطب، وانحصر عملهم بما سمحت قرائحهم من الشعر والخطب، أو ما حفظوه من أنسابهم وايامهم، أو ما احتاجوا

__________________

(١) فتوح البلدان ص ٤٥٧.

٣٥

إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم وصنع آلات الحرب وغير ذلك(١) .

فالمثقّف عندهم من جادت قريحته بالشعر، أو قدر على إلقاء الخطب والوصايا ارتجالاً، أو من عرف أنساب الناس، أو عرف أخبار الاُمم وبالأخص أيام العرب.

نعم كان عند بعض العرب علم الفراسة والكهانة والعرافة، ويراد من الأوّل من يستدل بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله على أخلاقه وسجاياه وفضائله ورذائله، ولعلّه إليه يشير قوله سبحانه:

( تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ) ( البقرة / ٢٧٣ ).

( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) ( محمّد / ٣٠ ).

ويراد من الثاني من يتنبّأ بما سيقع من الحوادث في الأرض.

والعرّافة هو قسم من الكهانة، لكنّها تختصّ بالاُمور الماضية وكأنّه يستدل ببعض الحوادث الغابرة على الحوادث القادمة.

هذا هو عرض خاطف عن ثقافة قوم النبي عصر نزول القرآن أتينا به ليكون دليلاً واضحاً على انقطاع شريعة النبي عن تعاليم بيئته وتقاليدها.

والقرآن الكريم يصف ذلك العصر في غير واحد من الآيات بالجاهليّة، يقول سبحانه:( أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) ( المائدة / ٥٠ ).

ويقول سبحانه:( يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران / ١٥٤ ).

ويقول سبحانه:( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَىٰ ) ( الأحزاب / ٣٣ ).

ويقول تعالى:( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ ) ( الفتح / ٢٦ ).

__________________

(١) بلوغ الارب: ج ٣ ص ٨٠ ـ ٨١، ومن أراد أن يقف على ثقافة العرب عامّة، قحطانيهم وعدنانيهم، فليرجع إلى ذلك الكتاب.

٣٦

وأغلب المفسّرين يفسّرون الجاهليّة بفساد العقيدة في جانب الدين فقط، ولكنّه تخصيص بلا جهة، فكان القوم يفقدون العلم الناجع كما يفقدون الدين الصحيح.

٦ ـ الإنهيار الخلقي

طبيعة العيش في الصحراء تفرض على الإنسان نزاهة خاصّة في الخلق، تصون نفسه عن الإنهيار الخلقي، ولأجل ذلك نرى أنّ الفساد في المناطق المتحضّرة أكثر منها في البدو وسكّان الصحاري.

وقد كان من المترقّب من سكنة أُمّ القرى وما حولها النزاهة عن المجون والفساد، غير أنّ في الآيات القرآنية أخباراً عن شيوع الفساد الخلقي بينهم.

فهذا القرآن الكريم يركّز على النهي عن الفحشاء ظاهره وباطنه، والفحشاء وإن فسّر بما عظم قبحه من الأفعال والأقوال الذميمة ولكنها منصرفة إلى الزنا وكناية عنها، قال سبحانه:

( إلّاأَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ) ( النساء / ١٩ ).

وقال سبحانه:( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ ) ( النساء / ١٥ ).

وقال سبحانه:( وَلا يَخْرُجْنَ إلّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ) ( الطلاق / ١ ).

وكل هذا يعرف عن شيوع هذا العمل الشنيع المنكر بينهم.

فإنّنا نرى أنّ الله سبحانه ينهي عن إتخاذ الخدن ويقول:

( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) ( النساء / ٢٥ ).

ويقرب منها قوله في سورة المائدة، الآية ٥.

و « الأخدان » جمع « خدن » وهو يطلق على الصاحب والصاحبة بأن يكون

٣٧

للمرأة صاحب أو خليل يزني بها سرّاً، وهكذا في جانب الرجل، فالخدن يطلق على الذكر والأُنثى، وكان الزنا في الجاهلية على قسمين: سرّ وعلانية، عامّ وخاصّ.

فالخاص السري هو أن يكون للمرأة خدن يزني بها سرّاً، ولا تبذل نفسها لكلّ أحد.

والعام الجهري هو المراد بالسفاح كما قال ابن عبّاس وهو البغاء.

وكان البغاء من الإماء وكنّ ينصبن الرايات الحمر لتعرف منازلهن وبيوتهن.

روى ابن عبّاس: إنّ أهل الجاهلية كانوا يحرّمون ما ظهر من الزنا، ويقولون: إنّه لوم، ويستحلّون ما خفي ويقولون: لا بأس به، ولتحريم القسمين يشير قوله سبحانه:

( وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) ( الأنعام / ١٥١ )(١) .

وممّا يعرب عن رسوخ الإنحلال الخلقي فيهم ما نقله « تميم بن جراشة » وهو ثقفي، قال قدمت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في وفد ثقيف، فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط، فقال: اكتبوا ما بدا لكم، ثمّ ائتوني به، فسألناه في كتابه أن يحلّ لنا الربا والزنا، فأبى عليّرضي‌الله‌عنه أن يكتب لنا، فسألناه خالد بن سعيد بن العاص، فقال له عليّ: تدري ما تكتب ؟ قال: اكتب ما قالوا ورسول الله أولى بأمره، فذهبنا بالكتاب إلى رسول الله، فقال للقارئ إقرأ، فلمّا انتهى إلى الربا، فقال: ضع يدي عليها في الكتاب، فوضع يده، فقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ) ( البقرة / ٢٧٨ ). ثمّ محاها، وألقيت عليها السكينة فما راجعناه، فلمّا بلغ الزنا، وضع يده عليها، وقال:

__________________

(١) المنار: ج ٥ ص ٢٢، وزاد في المصدر قوله: وهذان النوعان معروفان الآن في بلاد الافرنج والبلاد التي تقلّد الافرنج في شرور مدنيّتهم كمصر والاستانة وبعض بلاد الهند، ويسمّي المصريّون الخدن الرفيق، ومن هؤلاء الافرنج والمتفرنجون من هم كأهل الجاهلية يستحسنون الزنا السرّي، ويستقبحون الجهري.

٣٨

( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) ( الاسراء / ٣٢ ).

ثمّ محاها وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا(١) .

وممّا يدل على الإنحلال الخلقي في أمر النساء قوله سبحانه:

( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( النور / ٣٣ ).

فالآية تعرب عن الإنهيار الخلقي الذي كان يعاني منه بعضهم حتّى بعد هجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة، وقد رووا: أنّ عبد الله بن أُبي كان له ستّ جوارٍ كان يكرههنّ على الكسب عن طريق الزنا، فلمّا نزل تحريم الزنا، أتين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فشكين إليه، فنزلت الآية(٢) .

٧ ـ معاقرة الخمور وإرتياد نواديها

كان الاستهتار بمعاقرة الخمور رائجاً بين العرب منذ زمن بعيد، وقد بلغ شغفهم بها حتّى أنّهم جعلوها أحد الأطيبين مع أنّ النبي الأكرم كان قد حرّم الخمر حتّى قبل هجرته إلى المدينة، ولكنّه لم يتحقّق ما أمر به إلّا بعد مضي سنوات من هجرته، ونزول آيات مختلفة الاُسلوب متنوّعة البيان وإليك بيان هذا التدرّج:

١ ـ قال سبحانه:( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( النحل / ٦٧ ) والآية مكّيّة نزلت في ظروف قاسية لا تتحمّل إنذاراً أكثر وأشد من هذا، ولهذا اكتفى فيه بعد اتّخاذ السكر ضد الرزق الحسن.

__________________

(١) اُسد الغابة: ج ١ ص ٢١٦ ترجمة تميم بن جراشة.

(٢) مجمع البيان: ج ٤ ص ١٤١.

٣٩

٢ ـ قال سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) ( البقرة / ٢١٩ ).

فالآية تشير إلى أنّه لو كان هناك لذّة وطرب لشارب الخمر، أو مال للاعب الميسر حيث يفوز به من غير كدّ ولا مشقّة، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما.

فلأجل ذلك يجب ترك النفع القليل في مقابل الضرر الكبير، والآية مدنيّة كافية في التحريم، وذلك لأنّها تصرّح بوجود الإثم في الخمر والميسر، وقد حرّم الوحي الإلهي الإثم على وجه القطع واليقين قبل هجرة النبي، قال سبحانه:

( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ ) ( الأعراف / ٣٣ ).

وأيّ بيان أوضح لتحريم الخمر إذا قرنت الآيتان: الواحدة إلى الأُخرى ؟ فالآية الأُولى تحقّق الصغرى وهو أنّ الخمر إثم، والآية الثانية تصرّح بالكبرى، وهي أنّ الله سبحانه حرّم الإثم، فيستنتج منهما أنّه سبحانه حرّم الخمر.

والعجب أنّ القوم ( مع أَنَّ الآية الثانية التي تحرّم الإثم على وجه الحتم والبت نزلت بمكّة )، لم يتنزّهوا من هذا العمل المزيل للعقل، والمضاد للكرامة الإنسانية، فكانوا يشربون الخمر في نواديهم حتّى وافاهم الوحي الإلهي بتحريم الصّلاة وهم في حال السكر، إذ قال سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) ( النساء / ٤٣ ).

وهذه الآيات الثلاث التي تعرّفت عليها تلقّاها بعض الصحابة بأنّها ليست بياناً وافياً، فظلّ يترصّد البيان الأوفى حتّى وافى الوحي الإلهي، وقال سبحانه:( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) ؟ ( المائدة / ٩٠ و ٩١ ).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

مخلوقات ضعيفة كالأصنام ، لا هم حققوا لأنفسهم الراحة في هذا العالم ، ولا هم ضمنوا ذلك في الحياة الآخرة ، فتقول الآية :( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) ، أين هم ، لماذا لا يأتون اليوم لإنقاذهم؟ لماذا لا يظهر أي حول ولا يبدون أية قوّة؟

ألم تكونوا تتوقعون منهم أن يعينوكم على حل مشكلاتكم؟ فلما ذا ـ إذن ـ لا نرى لهم أثرا؟

فيستولي على هؤلاء الرعب والخوف ويبهتون ولا يحيرون جوابا ، سوى أن يقسموا بالله إنّهم لم يكونوا مشركين ، ظنا منهم أنّهم هناك أيضا قادرون على إخفاء الحقائق :( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

حول معنى «فتنة» ثمّة كلام بين المفسّرين ، منهم من قال : إنّها بمعنى الاعتذار ، وقال آخرون : إنّها بمعنى الجواب : وقالوا أيضا : إنّها الشرك(1) .

هنالك احتمال آخر في تفسير هذه الآية ، وهو القول بأنّ «الفتنة» من «الافتتان» أي الوله بالشيء ، فيكون المعنى أن افتتانهم بالشرك وعبادة الأصنام ، بشكل يغشى عقولهم وأفكارهم ، قد أدى إلى أن يدركوا يوم القيامة ـ يوم يزاح الستر ـ خطأهم الكبير ، ويستقبحوا أعمالهم وينكروها تماما.

يقول الراغب في «المفردات» : أن أصل «الفتن» إدخال الذهب النّار لتظهر جودته من رداءته ، فقد يكون هذا المعنى ممّا تفسر به الآية المذكورة ، أي أنّهم عند ما تحيط بهم شدّة يوم القيامة يستيقظون ويقفون على خطأهم ، فينكرون أعمالهم طلبا للنجاة.

الآية الثّالثة ، ومن أجل أن يعتبر الناس بمصير هؤلاء الأفراد تقول :( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) .

__________________

(1) إذا أخذناها على إنّها بمعنى الاعتذار والجواب ، فلا حاجة فيهما للتقدير ، أمّا إذا أخذت بمعنى الشرك ، فينبغي أن نقدر كلمة «نتيجة» أي أنّ نتيجة شركهم كانت أن يقسموا إنّهم لم يكونوا مشركين.

٢٤١

وتنهار المساند التي اختاروا الاستناد عليها وجعلوها شريكة لله ، وخابوا في مسعاهم( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

* * *

لا بدّ هنا من ملاحظة النقاط التّالية :

1 ـ لا شك أنّ المقصود بعبارة «انظر» هو النظر بعين العقل ، لا بالعين الباصرة إذا لا يمكن أن ترى مشاهد يوم القيامة رأي العين في هذه الدنيا.

2 ـ وقوله سبحانه( كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) إمّا أن يعني أنّهم خدعوا أنفسهم في الدنيا وخرجوا عن طريق الحقّ ، وإمّا أن يراد منه يوم القيامة حيث يقسمون على أنّهم لم يكونوا مشركين ، والحقيقة أنّهم بهذا يكذبون على أنفسهم ، فقد كانوا مشركين فعلا.

3 ـ يبقى سؤال آخر ، وهو أنّ الآية المذكورة تفيد أنّ المشركين ينكرون شركهم يوم القيامة مع أنّ ظروف يوم القيامة لا يمكن أن تسمح لأحد أن يجانب الصدق وهو يرى تلك الحقائق الحسية ، كما لو كان أحد يريد أن يغطي على الشمس في رابعة النهار ، ليقول كذبا : إنّ الدنيا ظلام ، ثمّ إن هناك آيات أخرى تفيد بأنّهم يوم القيامة يعترفون صراحة بشركهم ولا يخفون أمرا :( وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً ) (1) .

يمكن أن نذكر لهذا السؤال جوابين :

أوّلا : ليوم القيامة مراحل ، ففي المراحل الأولى يظن المشركون أنّهم بالكذب يستطيعون التملص من عذاب الله الأليم ، لذلك يرجعون إلى عادتهم القديمة في التوسل بالكذب ، ولكن في المراحل التّالية يدركون أن لا مهرب لهم أبدا ،

__________________

(1) النساء ، 42.

٢٤٢

فيعترفون بأعمالهم.

يبدو أنّ الأستار يوم القيامة ترفع ـ بالتدريج ـ عن عين الإنسان ، وفي البداية ـ عند ما لا يكون المشركون قد درسوا ملفات أعمالهم جيدا بعد ـ يركنون إلى الكذب ، ولكن في المراحل التّالية حيث ترتفع فيها الأستار أكثر ويرون كل شيء حاضرا ، لا يجدون مندوحة عن الاعتراف تماما ، مثل المجرمين الذين ينكرون كل شيء في بداية التحقيق ، حتى معرفتهم بأصدقائهم ولكنّهم عند ما يرون الأدلة المادية والمستندات الحيّة التي تفضح جريمتهم ، يدركون أنّ الأمر من الوضوح بحيث لا يحتمل الإنكار ، فيعترفون ويدلون بإفادة كاملة ، وقد ورد هذا الجواب في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام (1) .

وثانيا : إنّ الآية المذكورة تتحدث عمّن لا يرى نفسه مشركا مثل المسيحيين الذين قالوا بالآلهة الثلاثة واعتقدوا أنّهم موحدون ، أو مثل الذين يدّعون التوحيد ، لكن أعمالهم ملوثة بالشرك ، لأنّهم كانوا يعرضون عن تعاليم الأنبياء ، ويعتمدون على غير الله وينكرون ولاية أولياء الله هؤلاء يقسمون يوم القيامة على أنّهم كانوا موحدين ، ولكنّهم سرعان ما يدركون أنّهم في الباطن كانوا مشركين ، هذا الجواب أيضا قد ورد في عدد من الرّوايات نقلا عن الإمام عليعليه‌السلام والإمام الصادقعليه‌السلام (2) .

وكلا الجوابين مقبولان.

* * *

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 708.

(2) تفسير «نور الثقلين» ، ج 1 ، ص 708.

٢٤٣

الآيتان

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) )

التّفسير

حجب لا تقبل الاختراق :

في هذه الآية إشارة إلى الوضع النفسي لبعض المشركين ، فهم لا يبدون أية مرونة تجاه سماع الحقائق ، بل أكثر من ذلك ـ يناصبونها العداء ، ويقذفونها بالتهم ، فيبعدون أنفسهم وغيرهم عنها ، عن هؤلاء تقول الآية :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ) (1) .

في الواقع كانت عقولهم وأفكارهم منغمسة في التعصب الجاهلي الأعمى ، وفي المصالح المادية والأهواء ، بحيث أصبحت وكأنّها واقعة تحت الأستار

__________________

(1) «أكنة» جمع «كنان» وهو كل ستار أو حاجز ، و «الوقر» بمعنى ثقل السمع.

٢٤٤

والحواجز ، فلا هم يسمعون حقيقة من الحقائق ، ولا هم يدركون الأمور إدراكا صحيحا.

سبق أن قلنا مرارا أنّ نسبة هذه الأمور إلى الله ، إنّما هو إشارة إلى قانون «العلة والمعلول» وخاصية «العمل» ، أي أنّ أثر الاستمرار في الانحراف والإصرار على المعاندة والتشاؤم يظهر في اتصاف نفس الإنسان بهذه المؤثرات ، وفي تحولها إلى مثل المرآة المعوجة التي تعكس صور الأشياء معوجة منحرفة ، لقد أثبتت التجربة أنّ المنحرفين والمذنبين يحسون أوّل الأمر بعدم الرضا عن حالهم ، ولكنّهم يعتادون ذلك بالتدريج ، وقد يصل بهم الأمر إلى اعتبار أعمالهم القبيحة لازمة وضرورية ، وبتعبير آخر : هذا واحد من أنواع العقاب الذي يناله المصّرون على العصيان ومعاداة الحقّ.

وهؤلاء وصلوا حدّا تصفه الآية فتقول :( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ) ، بل الأكثر من ذلك أنّهم عند ما يأتون إليك ، لا يفتحون نوافذ قلوبهم أمام ما تقول ، ولا يأتون ـ على الأقل ـ بهيئة الباحث عن الحقّ الذي يسعى للعثور على الحقيقة والتفكير فيها ، بل يأتون بروح وفكر سلبيين ، ولا هدف لهم سوى الجدل والاعتراض :( حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ ) أنّهم عند سماعهم كلامك الذي يستقي من ينابيع الوحي ويجري على لسانك الناطق بالحقّ ، يبادرون إلى اتهامك بأنّ ما تقوله إنّما هو خرافات اصطنعها أناس غابرون :( يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

الآية التّالية تذكر أنّ هؤلاء لا يكتفون بهذا ، فهم مع ضلالهم يسعون جاهدين للحيلولة دون سلوك الباحثين عن الحقيقة هذا الطريق بما يشيعونه ويروجونه من مختلف الأكاذيب ، ويمنعونهم أن يقتربوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) ، ويبتعدون عنه بأنفسهم :( وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) (1) ، دون أن يدركوا أنّ من يصارع الحقّ

__________________

(1) «ينأون» من «نأى» بمعنى ايتعد.

٢٤٥

يكن صريعه ، وأخيرا ، وبحسب قانون الخلق الثابت ، يظهر وجه الحقّ من وراء السحب ، وينتصر بماله من قوّة ، ويتلاشى الباطل كما يتلاشى الزبد الطافي على سطح الماء ، وعليه فإنّ مساعيهم سوف تتحطم على صخرة الإخفاق والخيبة وما يهلكون غير أنفسهم ، ولكنّهم لا يدركون الحقيقة :( وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ) .

الصاق تهمة عظيمة بأبي طالب مؤمن قريش :

يتّضح ممّا قيل في تفسير هذه الآية أنّها تتابع الكلام على المشركين المعاندين وأعداء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الألداء ، والضمير «هم» يعود بموجب قواعد الأدب واللغة ـ إلى الذين تتناولهم الآية بالبحث ، أي الكفار المتعصبين الذين لم يدخروا وسعا في إيذاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووضع العثرات في طريق الدعوة إلى الإسلام.

ولكن ـ لشديد الأسف ـ نرى بعض المفسّرين من أهل السنة يخالفون جميع قواعد اللغة العربية ، فيقطعون الآية الثّانية من الآية الاولى ويقولون : إنّها نزلت في أبي طالب والد أمير المؤمنين عليعليه‌السلام .

أنّهم يفسرون الآية هكذا : هناك فريق يدافعون عن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنّهم في الوقت نفسه يبتعدون عنه :( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) وهم يستشهدون في توكيد رأيهم ببعض الآيات الأخرى من القرآن ، ممّا سنتناوله في موضعه ، مثل الآية (114) من سورة التوبة والآية (56) من سورة القصص.

لكن جميع علماء الشيعة وجمع من علماء أهل السنة ، ومثل ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة والقسطلاني في «إرشاد الساري» وزيني دحلان في حاشية السيرة الحلبية ، ويعتبرون أبا طالب من مؤمني الإسلام ، وهناك في المصادر الإسلامية الأصيلة دلائل كثيرة على هذا.

ومن يطالع هذه الأدلة يندفع للتساؤل بدهشة : ما السبب الذي حدا ببعضهم

٢٤٦

إلى كره أبي طالب وتوجيه مثل هذا الاتهام الكبير إليه؟!

كيف يكون هدفا لمثل هذا الاتهام من كان يدافع بكل كيانه ووجوده عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولطالما وقف هو وابنه في مواقع الخطر يدر آن عن حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل خطر؟!

هنا يرى المحققون المدققون أنّ التيار المناوئ لأبي طالب تيار سياسي ينطلق من عداء «شجرة بني أمية الخبيثة» لمكانة عليعليه‌السلام .

ذلك لأنّ أبا طالب ليس الوحيد الذي تعرض لمثل هذه الهجمات بسبب قرابته من أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، بل إنّنا نلاحظ على امتداد تاريخ الإسلام أنّ كل من كان له بأي شكل من الأشكال نوع من القرابة من أمير المؤمنين عليعليه‌السلام لم ينج من هذه الحملات اللئيمة ، وفي الحقيقة كان ذنب أبي طالب الوحيد أنّه والد الشخصية الإسلامية الكبرى عليعليه‌السلام .

ونذكر هنا بإيجاز مختلف الأدلة التي تثبت إيمان أبي طالب ، تاركين التفاصيل للكتب المختصة في الموضوع.

1 ـ كان أبو طالب يعلم ، قبل بعثة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّ ابن أخيه سوف يصل إلى مقام النبوة ، فقد كتب المؤرخون أنّه في رحلته مع قافلة قريش إلى الشام اصطحب معه ابن أخيه محمّدا البالغ يومئذ الثّانية عشرة من العمر ، وفي غضون الرحلة رأى منه مختلف الكرامات ، ثمّ عند ما مرّت القافلة بالراهب (بحيرا) الذي أمضى سنوات طوالا في صومعته على طريق القوافل التجارية ، استلف محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظر الراهب الذي راح يدقق في وجهه وملامحه ، ثمّ التفت إلى الجمع سائلا : من منكم صاحب هذا الصبي؟ فأشار الجمع إلى أبي طالب الذي قال له : هذا ابن أخي ، فقال بحيرا : إنّ لهذا الصبي شأنا ، إنّه النّبي الذي أخبرت به وبرسالته الكتب السماوية ، وقد قرأت فيها تفاصيل ذلك كله(1) .

__________________

(1) ملخص ما ورد في سيرة ابن هشام ، ج 1 ، ص 191 ، وسيرة الحلبي ، ج 1 ، ص 131 ، وكتب أخرى.

٢٤٧

ولقد كان أبو طالب قبل ذلك قد أدرك من الوقائع والقرائن التي رآها من ابن أخيه أنّه سيكون نبي هذه الأمّة.

وبموجب ما يذكره الشهرستاني صاحب «الملل والنحل» وغيره من علماء السنة أنّ سماء مكّة قد جست بركتها عن أهلها سنة من السنين ، فواجه الناس سنة ـ جفاف شديد ، فأمر أبو طالب أنّ يأتوه بابن أخيه محمّد ، فأتوه به وهو رضيع في قماطه ، فوقف تجاه الكعبة ، وفي حالة من التضرع والخشوع أخذ يرمي بالطفل ثلاث مرات إلى أعلى ثمّ يتلقفه وهو يقول : يا ربّ بحق هذا الغلام اسقنا غيثا مغيثا دائما هطلا ، فلم يمض إلّا بعض الوقت حتى ظهرت غمامة من جانب الأفق وغطت سماء مكّة كلّها وهطل مطر غزير كادت معه مكّة أن تغرق.

ثمّ يقول الشهرستاني : هذه الواقعة ، التي تدل على علم أبي طالب بنبوة ابن أخيه ورسالته منذ طفولته تؤكّد إيمانه به ، وهذا أبيات أنشدها أبو طالب بعد ذلك بتلك المناسبة :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة

ووزان صدق وزنه غير عائل

إنّ حكاية إقبال قريش على أبي طالبرحمه‌الله عند الجفاف ، واستشفاع أبي طالب إلى الله بالطفل قد ذكرها غير الشهرستاني عدد آخر من كبار المؤرخين ، وقد أورد العلّامة الاميني قدس سرّه صاحب كتاب «الغدير» هذه الحكاية وذكر أنّه نقلها من «شرح البخاري» و «المواهب اللدنية» و «الخصائص الكبرى» و «شرح بهجة المحافل» و «السيرة الحلبية» و «السيرة النبوية» و «طلبة الطالب»(1) .

2 ـ إضافة إلى كتب التّأريخ المعروفة ، فإنّ بين أيدينا شعرا لأبي طالب جمع في «ديوان أبي طالب» ، ومنه الأبيات التّالية :

__________________

(1) «الغدير» ، ج 7 ، ص 346.

٢٤٨

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي

ولقد دعوت وكنت ثمّ أمينا

ولقد علمت بأنّ دين محمّد

من خير أديان البرية دينا

كما قال أيضا :

ألم تعلموا أنا وجدنا محمّدا

رسولا كموسى خط في أوّل الكتب

وإنّ عليه في العباد محبّة

ولا حيف في من خصّه الله بالحبّ(1)

يذكر ابن أبي الحديد طائفة كبيرة من أشعار أبي طالب (التي يقول عنها ابن شهر آشوب في «متشابهات القرآن» أنّها تبلغ ثلاثة آلاف بيت) ثمّ يقول : إن هذه الأشعار لا تدع مجالا للشك أنّ أبا طالب كان يؤمن برسالة ابن أخيه.

3 ـ ثمّة أحاديث منقولة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تؤكّد شهادته بإيمان عمه الوفي أبي طالب ، من ذلك ما ينقله لنا صاحب كتاب «أبو طالب مؤمن قريش» فيقول : عند ما توفي أبو طالب رثاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو على قبره ، قائلا : «وا أبتاه! وا أبا طالباه وا حزناه عليك! كيف أسلو عليك يا من ربيتني صغيرا ، واجبتني كبيرا ، وكنت عندك بمنزلة العين من الحدقة والروح من الجسد»(2) .

وكثيرا ماكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما نالت منّي قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب»(3) .

4 ـ من المتفق عليه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر بقطع كل رابطة صحبة له بالمشركين ، وكان ذلك قبل وفاة أبي طالب بسنوات ، وعليه فإنّ ما أظهره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحبّ والتعلق بأبي طالب يدل على أنّه كان يرى في أبي طالب

__________________

(1) هاتان القطعتان وردتا في «خزانة الأدب» و «وتاريخ ابن كثير» و «شرح ابن أبي الحديد» و «فتح الباري» و «بلوغ الارب» و «تاريخ أبي الفداء» و «السيرة النبوية» وغيرها نقلا عن «الغدير» ، ج 8.

(2) «شيخ الأباطح» نقلا عن «أبو طالب مؤمن قريش».

(3) الطبري ، نقلا عن «أبو طالب مؤمن قريش».

٢٤٩

تابعا لمدرسة التوحيد ، وإلّا فكيف ينهى الآخرين عن مصاحبة المشركين ، ويبقى هو على حبّه العميق لأبي طالب؟

5 ـ في الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيتعليهم‌السلام أدلة وافرة على إيمان أبي طالب وإخلاصه ، ولا يسع المجال هنا لذكرها ، وهي أحاديث تستند إلى الاستدلال المنطقي والعقلي ، كالحديث المنقول عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام الذي قال ـ بعد أن سئل عن إيمان أبي طالب وأجاب الإيجاب ـ : «إنّ هنا قوما يزعمون أنّه كافر وا عجبا كل العجب! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد نهاه الله أن تقرّ مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن (أي في أكثر من آية) ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها من المؤمنات السابقات ، فإنّها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالبرضي‌الله‌عنه »(1) .

6 ـ وإذا تركنا كل هذا جانبا ، فاننا قد نشك في كل شيء إلّا في حقيقة كون أبي طالب كان على رأس حماة الإسلام ورسول الإسلام ، وكانت حمايته تتعدى الحدود المألوفة بين أبناء العشيرة والعصبيات القبلية ولا يمكن تفسيرها بها.

ومن الأمثلة الحيّة على ذلك حكاية (شعب أبي طالب) يجمع المؤرخون على أنّه عند ما حاصرت قريش النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين محاصرة اقتصادية واجتماعية وسياسية شديدة وقطعت علائقها بهم ، ظل أبو طالب الحامي والمدافع الوحيد عنهم مدّة ثلاث سنوات ترك فيها كل أعماله ، وسار ببني هاشم إلى واد بين جبال مكّة يعرف بشعب أبي طالب فعاشوا فيه ، وقد بلغت تضحياته حدا أنّه ، فضلا عن بنائه الأبراج الخاصّة للوقوف بوجه أي هجوم قد تشنه قريش عليهم ، كان في كل ليلة يوقظ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نومه ويأخذه إلى مضجع آخر يعده له ويجعل ابنه الحبيب إليه علياعليه‌السلام في مكانه ، فإذا ما قال له ابنه عليعليه‌السلام : يا أبة ، إنّ هذا سيوردني موارد الهلكة ، أجابه أبو طالبعليه‌السلام : ولدي عليك بالصبر ، كل حي إلى ممات ، لقد

__________________

(1) كتاب «الحجة» و «الدرجات الرفيعة» نقلا عن «الغدير» ج 8 ، ص 380.

٢٥٠

جعلت فداء ابن عبد الله الحبيب ، فيرد عليعليه‌السلام : يا أبه ، ما قلت لك ذلك خوفا من الموت في سبيل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كنت أريدك أن تعلم مدى طاعتي لك واستعدادي للوقوف إلى جانب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

إنّنا نرى أن من يترك التعصب ، ويقرأ ـ بغير تحيز ـ ما كتبه التّأريخ بحروف من ذهب عن أبي طالب ، سيرفع صوته مع صوت ابن أبي الحديد منشدا :

ولو لا أبو طالب وابنه

لما مثل الدين شخصا وقاما

فذاك بمكّة آوى وحامى

وهذا بيثرب جس الحماما(2)

* * *

__________________

(1) الغدير ، ج 7 ، ص 357 ـ 358 بتصرف.

(2) الغدير ، ص 86.

٢٥١

الآيتان

( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) )

التّفسير

يقظة عابرة عقيمة :

في هاتين الآيتين إشارة إلى بعض مواقف عناد المشركين ، وفيهما يتجسد مشهد من مشاهد نتائج أعمالهم لكي يدركوا المصير المشؤوم الذي ينتظرهم فيستيقظون ، أو تكون حالهم ـ على الأقل ـ عبرة لغيرهم ، فتقول الآية :( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ) (1) لتبيّن لك مصيرهم السيئ المؤلم.

إنّهم في تلك الحال على درجة من الهلع بحيث أنّهم يصرخون : ليتنا نرجع إلى الدنيا لنعوض عن أعمالنا القبيحة ، ونعمل للنجاة من هذا المصير المشؤوم. ونصدق آيات ربّنا ، ونقف إلى جاب المؤمنين :( فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ

__________________

(1) «لو» شرطية ، وقد حذف الجواب لوضوحه.

٢٥٢

بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

الآية التّالية تؤكّد أن ذلك ليس أكثر من تمن كاذب ، وإنّما تمنوه لأنّهم رأوا في ذلك العالم كل ما كانوا يخفونه ـ من عقائد ونيات وأعمال سيئة ـ مكشوفا أمامهم ، فاستيقظوا يقظة مؤقتة عابرة :( بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ) .

غير أن هذه اليقظة ليست قائمة ثابتة ، بل إنّها قد حصلت لظروف طارئة ، ولذلك فحتى لو افترضنا المستحيل وعادوا إلى هذه الدنيا مرّة أخرى لفعلوا ما كانوا يفعلونه من قبل وما نهوا عنه :( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) لذلك فهم ليسوا صادقين في تمنياتهم ومزاعمهم( وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

ملاحظات :

1 ـ يتبيّن من ظاهر( بَدا لَهُمْ ) أنّهم لم يكونوا يخفون كثيرا من الحقائق عن الناس فحسب ، بل كانوا يخفونها حتى عن أنفسهم ، فتبدوا لهم جلية يوم القيامة ، وليس في هذا ما يدعو إلى العجب ، فالإنسان كثيرا ما يخفي عنه نفسه الحقائق ويغطي على ضميره وفطرته لكي ينال شيئا من الراحة الكاذبة.

إنّ قضية مخادعة النفس وإخفاء الحقائق عنها من القضايا التي تعالجها البحوث الخاصّة بنشاط الضمير ، فقد نجد الكثيرين من الذين يتبعون أهواءهم يتنبهون إلى أضرار ذلك عليهم ، ولكنّهم لكي يواصلوا أعمالهم تلك بغير أن تنغصها عليهم ضمائرهم ـ يحاولون إخفاء هذا الوعي فيهم بشكل من الأشكال.

غير أنّ بعض المفسّرين ـ دون الالتفات إلى هذه النكتة ـ فهموا من (لهم) ما

__________________

(1) ينبغي الانتباه إلى نقطة مهمّة في الآية : في القراءة المشهورة التي بين أيدينا «نردّ» مرفوعة و «ولا نكذب» و «نكون» منصوبتان ، مع أنّ الظاهر يدل على أنّهما معطوفتان على «نردّ» وخير تعليل لذلك هو القول بأنّ «نردّ» جزء من التمني ، و «ولا نكذب» جواب التمني ، و «الواو» هنا بمنزلة «الفاء» ومعلوم أن جواب التمني إذا وقع بعد الفاء كان منصوبا ، إن مفسرين كالفخر الرازي والمرحوم الطبرسي وأبي الفتوح الرازي أوردوا تعليلات أخرى ، ولكن الذي قلناه أوضح الوجوه ، وعليه فهذه الآية تكون شبيهة بالآية (58) من سورة الزمر :( لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) .

٢٥٣

ينطبق على الأعمال التي أخفاها المشركون عن الناس (تأمل بدقّة).

2 ـ قد يقال أنّ التمني ليس من الأمور يصح فيها أن تكون صادقة أو كاذبة ، فهي مثل «الإنشاء» الذي لا يحتمل الصدق والكذب ، إلّا أنّ هذا القول بعيد عن الصواب ، وذلك لأنّ «الإنشاء» كثيرا ما يصاحبه «الإخبار» ممّا يحتمل الصدق والكذب ، فقد يقول قائل أتمنى أن يعطيني الله مالا وفيرا فأعينك ، هذا من باب التمني بالطبع ، ولكن مفهومه هو أنّه إذا أعطاني الله مالا وفيرا فاني سوف أساعدك ، وهذا مفهوم خبري يحتمل أن يكون صادقا أو كاذبا ، فإذا كنت تعرف بخل المتمني وضيق نظرته فأنت تعرف أنّه كاذب حتى إن أعطاه الله ما يشاء من المال (هذا الموضوع مشهور كثيرا في الجمل الإنشائية).

3 ـ إنّ سبب ذكر الآية أنّهم لو عادوا إلى الدنيا لعادوا إلى تكرار أعمالهم السابقة هو أن كثيرا من الناس عند ما يشاهدون نتائج أعمالهم بأعينهم ، أي حينما يصلون إلى مرحلة الشهود ، يستنكرون ما فعلوا ويندمون آنيا ويتمنون لو يتاح لهم أن يجبروا ما كسروا ، إلّا أنّ هذه تمنيات عارضة تنشأ من مشاهدة نتائج الأعمال عيانا ، وتعرض لكل إنسان يشهد بأم عينه ما ينتظره من عذاب وعقاب ، ولكن ما أن تغيب تلك المشاهد عن نظره حتى يزول تأثيرها عنه ، ويعود إلى سابق عهده.

شأنهم في ذلك شأن عبدة الأصنام الذين دهمهم طوفان عظيم في البحر ورأوا أنفسهم على عتبة الهلاك ، فنسوا كل شيء سوى الله ، ولكن ما أن هدأت العاصفة ووصلوا إلى ساحل الأمان حتى عاد كل شيء إلى ما كان عليه(1) .

4 ـ ينبغي الالتفات إلى أنّ هذه الحالات تخص جمعا من عبدة الأصنام الذين مرّت الإشارة إليهم في الآيات السابقة لا كلهم ، لذلك كان لا بدّ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يواصل نصح الآخرين لإيقاظهم وهدايتهم.

* * *

__________________

(1) يونس ، 22.

٢٥٤

الآيات

( وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) )

التّفسير

في تفسير الآية الأولى احتمالان :

الأوّل : أنّها استئناف لأقوال المشركين المعاندين المتصلبين الذين يتمنون ـ عند ما يشاهدون أهوال يوم القيامة ـ أن يعودوا إلى دار الدنيا ليتلافوا ما فاتهم ، ولكن القرآن يقول إنّهم إذا رجعوا لا يتجهون إلى جبران ما فاتهم ، بل يستمرون على ما كانوا عليه ، وأكثر من ذلك فإنّهم يعودون إلى إنكار يوم القيامة( وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) (1) .

الاحتمال الثّاني : أنّ الآية تشرع بكلام جديد يخصّ نفرا من المشركين ممّن

__________________

(1) بحسب هذا الاحتمال «وقالوا» معطوفة على «عادوا» وهذا ما يقول به صاحب تفسير «المنار».

٢٥٥

كفروا بالمعاد كليا ، فقد كان بين مشركي العرب فريق لا يؤمنون بالمعاد ، وفريق آخر يؤمنون بنوع من المعاد.

الآية التّالية تشير إلى مصيرهم يوم القيامة ، يوم يقفون بين يدي الله :( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ ) ، فيكون جوابهم أنّهم يقسمون بأنّه الحقّ :( قالُوا بَلى وَرَبِّنا ) .

عندئذ :( قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) لا شك أنّ «الوقوف بين يدي الله» لا يعني إنّ لله مكانا ، بل يعني الوقوف في ميدان الحساب للجزاء ، كما يقول بعض المفسّرين ، أو أنّه من باب المجاز ، مثل قول الإنسان عند أداء الصّلاة أنّه يقف بين يدي الله وفي حضرته.

الآية التي بعدها فيها ، إشارة إلى خسران الذين ينكرون المعاد ، فتقول :( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ ) ، إنّ المقصود بلقاء الله هو ـ كما قلنا من قبل ـ اللقاء المعنوي والإيمان الشهودي (الشهود الباطني) ، أو هو لقاء مشاهد يوم القيامة والحساب والجزاء.

ثمّ تبيّن الآية أنّ هذا الإنكار لن يدوم ، بل سيستمر حتى قيام يوم القيامة ، حين يرون أنفسهم فجأة أمام مشاهده الرهيبة ، ويشهدون بأعينهم نتائج أعمالهم ، عندئذ ترتفع أصواتهم بالندم على ما قصروا في حق هذا اليوم :( حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها ) .

و «الساعة» هي يوم القيامة ، و «بغتة» تعني فجأة وعلى حين غرة ، إذ تقوم القيامة دون أن يعلم بموعدها أحد سوى الله تعالى ، وسبب إطلاق «الساعة» على يوم القيامة إمّا لأنّ حساب الناس يجري سريعا فيها ، أو للإشارة إلى فجائية حدوث ذلك ، حيث ينتقل الناس بسرعة خاطفة من عالم البرزخ إلى عالم القيامة.

و «التحسر» هو التأسف على شيء ، غير أنّ العرب عند تأثرهم الشديد يخاطبون «الحسرة» فيقولون : «يا حسرتنا» ، فكأنّهم يجسدونها أمامهم ويخاطبونها.

٢٥٦

ثمّ يقول القرآن الكريم( وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ ) .

«الأوزار» جمع «وزر» وهو الحمل الثقيل ، وتعني الأوزار هنا الذنوب ، ويمكن أن تتخذ هذه الآية دليلا على تجسد الأعمال ، لأنّها تقول إنّهم يحملون ذنوبهم على ظهورهم ، ويمكن أيضا أن يكون الاستعمال مجازيا كناية عن ثقل حمل المسؤولية ، إذ أنّ المسؤوليات تشبه دائما بالحمل الثقيل.

وفي آخر الآية يقول الله تعالى :( أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ) .

في هذه الآية جرى الكلام على خسران الذين ينكرون المعاد ، والدليل على هذا الخسران واضح ، فالإيمان بالمعاد ، فضلا عن كونه يعد الإنسان لحياة سعيدة خالدة ، ويحثه على تحصيل الكمالات العلمية والعملية ، فان له تأثيرا عميقا على وقاية الإنسان من التلوث بالذنوب والآثام ، وهذا ما سوف نتناوله ـ إن شاء الله ـ عند بحث الإيمان بالمعاد وأثره البناء في الفرد والمجتمع.

* * *

ثمّ لبيان نسبة الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة ، يقول الله تعالى :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) فهؤلاء الذين اكتفوا بهذه الحياة ، ولا يطلبون غيرها ، هم أشبه بالأطفال الذين يودون أن لو يقضوا العمر كلّه في اللعب واللهو غافلين عن كل شيء.

إن تشبيه الحياة الدنيا باللهو واللعب يستند إلى كون اللهو واللعب من الممارسات الفارغة السطحية التي لا ترتبط بأصل الحياة الحقيقية ، سواء فاز اللاعب أم خسر ، إذ كل شيء يعود إلى حالته الطبيعية بعد اللعب.

وكثيرا ما نلاحظ أنّ الأطفال يتحلقون ويشرعون باللعب ، فهذا يكون «أميرا» وذاك يكون «وزيرا» وآخر «لصا» ورابع يكون «قافلة» ، ثمّ لا تمضي ساعة حتى ينتهي اللعب ولا يكون هناك «أمير» ولا «وزير» ولا «لص» ولا

٢٥٧

«قافلة»! أو كما يحدث في المسرحيات أو التمثيليات ، فنشاهد مناظر للحرب أو الحبّ أو العداء تتجسد على المسرح ، ثمّ بعد ساعة يتبدد كل شيء.

والدنيا أشبه بالتمثيلية التي يقوم فيها الناس بتمثيل أدوار الممثلين ، وقد تجتذب هذه التمثيلية الصبيانية حتى عقلاءنا ومفكرينا ، ولكن سرعان ما تسدل الستارة وينتهي التمثيل.

«لعب» على وزن «لزج» من «اللعاب» على وزن «غبار» وهو الماء الذي يتجمع في الفم ويسيل منه ، فإطلاق لفظة «اللعب» على اللهو والتسلية جاء للتشابه بينه وبين اللعاب الذي يسيل دون هدف.

ثمّ تقارن الآية حياة العالم الآخر بهذه الدنيا ، فتقول :( وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

فتلك حياة خالدة لا تفنى في عالم أوسع وعلى أرفع ، عالم يتعامل مع الحقيقة لا المجاز ومع الواقع ، لا الخيال ، عالم لا يشوب نعمه الألم والعذاب ، عالم كلّه نعمة خالصة لا ألم فيه ولا عذاب.

ولكن إدراك هذه الحقائق وتمييزها عن مغريات الدنيا الخداعة غير ممكن لغير المفكرين الذين يعقلون ، لذلك اتجهت الآية إليهم بالخطاب في النهاية.

في حديث رواه هشام بن الحكم عن الامام موسى بن جعفرعليه‌السلام قال : «يا هشام إنّ الله وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (1) .

غني عن القول أنّ هدف هذه الآيات هو محاربة الانشداد بمظاهر عالم المادة ونسيان الغاية النهائية ، أمّا الذين جعلوا الدنيا وسيلة للسعادة فهم يبحثون ـ في الحقيقة ـ عن الآخرة ، لا الدنيا.

* * *

__________________

(1) تفسير «نور الثقلين» ، ج 1 ، ص 711.

٢٥٨

الآيتان

( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) )

التّفسير

المصلحون يواجهون الصعاب دائما :

لا شك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نقاشاته المنطقية ومحاوراته الفكرية مع المشركين المعاندين المتصلبين ، كان يواجه منهم المعاندة واللجاجة والتصلب والتعنت ، بل كانوا يرشقونه بتهمهم ، ولذلك كله كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشعر بالغم والحزن ، والله تعالى في مواضع كثيرة من القرآن يواسي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصبّره على ذلك ، لكي يواصل مسيرته بقلب أقوى وجأش أربط ، كما جاء في هذه الآية :( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ) ، فاعلم أنّهم لا ينكرونك أنت ، بل هم ينكرون آيات الله ، ولا يكذبونك بل يكذبون الله :( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) .

ومثل هذا القول شائع بيننا ، فقد يرى «رئيس» أنّ «مبعوثه» إلى بعض الناس عاد غاضبا ، فيقول له : «هوّن عليك ، فان ما قالوه لك إنّما كان موجها إليّ ، وإذا

٢٥٩

حصلت مشكلة فأنّا المقصود بها ، لا أنت» وبهذا يسعى إلى مواساة صاحبه والتهوين عليه.

ثمّة مفسّرون يرون للآية تفسيرا آخر ، لكن ظاهر الآية هو هذا الذي قلناه ، ولكن لا بأس من معرفة هذا الاحتمال القائل بأن معنى الآية هو : إنّ الذين يعارضونك هم في الحقيقة مؤمنون بصدقك ولا يشكون في صحة دعوتك ، ولكن الخوف من تعرض مصالحهم للخطر هو الذي يمنعهم من الرضوخ للحق ، أو أنّ الذي يحول بينهم وبين التسليم هو التعصب والعناد.

يتبيّن من كتب السيرة أنّ الجاهليين ـ بما فيهم أشدّ المعارضين للدّعوة ـ كانوا يعتقدون في أعماقهم بصدق الدعوة ، ومن ذلك ما روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل ، فقيل له في ذلك ، فقال : والله إني لأعلم أنّه صادق ، ولكنا متى كنّا تبعا لعبد مناف! (أي أنّ قبول دعوته سيضطرنا إلى اتباع قبيلته).

وورد في كتب السيرة أنّ أبا جهل جاء في ليلة متخفيا يستمع قراءة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما جاء في الوقت نفسه أبو سفيان والأخنس بن شريق ، ولا يشعر أحد منهم بالآخر فاستمعوا إلى الصباح ، فلمّا فضحهم الصبح تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال كل منهم للآخر ما جاء به ، ثمّ تعاهدوا أن لا يعودوا ، لما يخافون من علم شبان قريش بهم لئلا يفتتنوا بمجيئهم ، فلمّا كانت الليلة الثّانية جاء كل منهم ظانا أنّ صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود ، فلمّا أصبحوا جمعتهم الطريق مرّة ثانية فتلاوموا ، ثمّ تعاهدوا أن لا يعودوا ، فلمّا كانت الليلة الثالثة جاؤوا أيضا ، فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودا لمثلها ، ثمّ تفرقوا فلمّا أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثمّ خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : اخبرني ـ يا أبا حنظلة ـ عن رأيك فيما سمعت من محمّد؟

قال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ، ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.

قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581