مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 273792 / تحميل: 6523
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

عطاء بن أبي سلمة الخراساني

وأمّا عطاء بن أبي سلمة الخراساني ، الذي ذكره السيوطي ـ بعد عطاء بن أبي رباح ـ ، فلم أجده في الكتب الرجاليّة ، نعم ، لا يبعد أنْ يكون مراده عطاء ابن أبي مسلم الخراساني ، فإنّه على ما في( فتح الباري ) وغيره كان له مصنَّف في التفسير ، وقد وثّقه غير واحدٍ من الأعلام .

لكنْ في( ميزان الاعتدال ) في ترجمته :

( وذكره العُقيلي في الضعفاء ، متشبّثاً بهذه الحكاية التي رواها حمّاد بن زيد عن أيّوب ، حدّثني القاسم بن عاصم ، قلت لسعيد بن المسيّب : إنّ عطاء الخراساني حدّثني عنك أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الذي واقع أهله في رمضان بكفّارة الظهار فقال : كذب ، ما حدّثته ، إنّما بلغني أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : تصدّق تصدّق .

وقد ذكر البخاري عطاء الخراساني في الضعفاء ، فروى له هذا عن سليمان بن حرب عن حمّاد .

أحمد بن حنبل : ثنا عفّان ، ثنا همام ، أنا قتادة : أنّ محمّداً وعوناً حدّثاه أنّهما قالا لسعيد : إنّ عطاء الخراساني حدّثنا عنك في الذي وقع بأهله في رمضان ، فأمره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنْ يعتق رقبة ، فقال : كذب عطاء ، إنّما قال له : تصدّق تصدّق .

وقال ابن حبّان في الضعفاء : أصله من بلخ ، وعداده في البصريّين ، وإنّما قيل له الخراساني ؛ لأنّه دخل خراسان وأقام بها مدّة طويلة ثمّ رجع إلى العراق ، فنسب إلى خراسان ، وكان من خيار عباد الله ، غير أنّه كان رديّ الحفظ ، كثير الوهم ، يخطئ ولا يعلم ، فيحمل عنه ، فلمّا كثُر ذلك في روايته بطل الاحتجاج به ) .

٢٢١

( قال الترمذي في كتاب العلل : قال محمّد يعني البخاري : ما أعرف لمالك رجلاً يروي عنه يستحقّ أن يترك حديثه، غير عطاء الخراساني قلت : ما شأنه ؟ قال : عامّة أحاديثه مقلوبة )(١) .

وهذا أيضاً رأي السمعاني فيه ، حيث قال :

( وكان من خيار عباد الله ، غير أنّه كان رديّ الحفظ ، كثير الوهم ، يخطئ ولا يعلم فحمل عنه ، فلمّا كثر ذلك في روايته بطل الاحتجاج به )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ٧٤ ـ ٧٥/ ٥٦٤٢ .

(٢) الأنساب ٢ : ٣٣٧ ( الخراساني ) .

٢٢٢

أبو العالية

وأمّا أبو العالية ، الذي جاء بترجمته من ( رجال المشكاة ) للدهلوي :

( قالت حفصة بنت سيرين : سمعته يقول : قرأت القرآن على عمر ثلاث مرّات ، وزهد في الدنيا ، وحجَّ خمساً وستّين حجّة )(١) .

وفي( مرآة الجنان ) :

( أبو العالية ، رفيع بن مهران الرياحي ، مولاهم ، البصري ، المقرئ المفسّر ، وقد دخل على أبي بكر ، وقرأ القرآن على أُبي قال أبو العالية : كان ابن عبّاس يرفعني على السرير وقريش أسفل ، وقال أبو بكر ابن أبي داود : ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن مِن أبي العالية ، وبعده سعيد بن جُبير )(٢) .

وكذا في( تدريب الراوي ) (٣) ، فقد أورده في( الميزان ) وقال :

( قال ابن عدي : تُكلّم فيه من أجل حديث الضحك في الصّلاة )(٤) ، بل عن الشافعي أنّه تكلّم في حديثه كلّه وقال :

( حديث أبي العالية الرياحي رياح )(٥) .

ـــــــــــــــــــ

(١) تحصيل الكمال في أسماء الرجال رجال المشكاة ، للشيخ عبد الحق الدهلوي .

(٢) مرآة الجنان ١ : ١٤٧ السنة ٩٣ .

(٣) انظر تدريب الراوي ٢ : ٤٠٠ .

(٤) ميزان الاعتدال ٤ : ٥٤٣/ ١٠٣٤٤ .

(٥) ميزان الاعتدال ٢ : ٥٤/ ٢٧٩٠ .

٢٢٣

وهذا الكلام ـ وإنْ حاول الذهبي تأويله ـ يدلُّ على سقوط كافّة روايات الرجل وعدم اعتباره عند الشافعي ، ولذا قال السمعاني : ( كان الشافعي سيّئ الرأي فيه وفي رواياته )(١) .

وفي( رسالة ترجيح مذهب الشافعي ) للفخر الرازي :

( استدلّوا على ضعف حرام بن عثمان بقول الشافعي : حديثُ حرامٍ كاسمهِ حرامٌ ، وحديث الرياحي رياح ، ومَن رَوى عن أبي جابر البياضي بيّض الله عينيه ، ولمّا ثبت أنّ العلماء رجعوا إلى فتواه في الجرح والتعديل ، علمنا أنّ تقدّمه في علم الحديث كان معروفاً مسلّماً فيما بين النّاس ) .

وتكلّم ابن سيرين أيضاً في أبي العالية ، بما لا يقبل الحمل والتأويل ، فقد جاء في( العناية ) بعد ما يرونه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديث :( لا وضوء على من نام قائماً أو قاعداً ) :

( فإنْ قيل : هذا الحديث غير صحيح ؛ لأنّ مداره على أبي العالية ، وهو ضعيف عند النقَلَة ، رُوي عن ابن سيرين أنّه قال : حدّث عمّن شئت إلاّ عن أبي العالية ، فإنّه لا يُبالي عمّن أخذ ، أي : لا يُبالي أنْ يروي عن كلّ أحد...)(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الأنساب ٣ : ١١١ الرياحي .

(٢) العناية في شرح الهداية ١ : ٤٤ ط هامش فتح القدير .

٢٢٤

الضحّاك بن مزاحم

وأمّا الضحاك بن مزاحم ، فإنّهم وإنْ وثّقوه ، وذكروا له مناقب كما في( مرآة الجنان ) و( ميزان الاعتدال ) وغيرهما من كتب الرجال(١) .

لكنْ عن يحيى بن سعيد القطّان ـ الذي كان رأساً في الجرح والتعديل ـ أنّه ضعّفه .

قال في( الميزان ) :

( قال يحيى بن سعيد : الضحاك ضعيفٌ عندنا... وكذا ابن عدي فإنّه قال : الضحّاك بن مزاحم إنّما عُرف بالتفسير ، وأمّا رواياته عن ابن عبّاس وأبي هريرة وجميع من روى عنه ، ففي ذلك كلّه نظر )(٢) .

وكذا شعبة ، ففي( الكاشف ) :

( وقال شعبة : كان عندنا ضعيفاً )(٣) .

بل السيوطي نفسه نقل عن ابن الجوزي تضعيفه وأقرّه على ذلك ، كما في( اللآلي المصنوعة ) في نزول قوله تعالى :( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً... ) الآية : ( الضحاك ضعيف ، ولم يَسمع مِن ابن عبّاس ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) مرآة الجنان ١ : ١٦٩ السنة ١٠٢ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٣٢٥/ ٣٩٤٢ ، تهذيب التهذيب ٤ : ٣٩٧/ ٧٩٤ .

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ٣٢٦/ ٣٩٤٢ .

(٣) الكاشف ٢ : ٣٦/ ٢٤٥٨ .

٢٢٥

عطيّة بن سعد العوفي

وأمّا عطيّة ، فإنّه وإنْ ذكره السيوطي في عداد قدماء المفسّرين ، إلاّ أنّ نَقَدَة الحديث والرجال قد تكلّموا فيه ، ويكفي إيراد كلام الذهبي بترجمته من( ميزان الاعتدال ) فإنّه قال :

( عطيّة بن سعد العوفي الكوفي ، تابعي شهير ، ضعيف ، عن ابن عبّاس وأبي سعيد وابن عمر ، وعنه : مسعر وحجاج بن أرطاة وطائفة وابنه الحسن .

قال أبو حاتم : يكتب حديثه ، ضعيف ، وقال سالم المرادي : كان عطيّة يتشيّع ، وقال ابن معين : صالح ، وقال أحمد : ضعيف الحديث ، وكان هُشيم يتكلّم في عطيّة .

وروى ابن المديني عن يحيى قال : عطيّة وأبو هارون وبشر بن حرب عندي سواء ، وقال أحمد : بلغني أنّ عطيّة كان يأتي الكلبي فيأخذ منه التفسير ، وكان يكنّيه بأبي سعيد فيقول : قال أبو سعيد ، قلت : يعني يُوهم أنّه الخدري .

وقال النسائي وجماعة : ضعيف )(١) .

بل ادّعى ابن الجوزي الإجماع على تضعيفه في كتاب( الموضوعات ) (٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ٧٩ ـ ٨٠/ ٥٦٦٧.

(٢) الموضوعات ١ : ١١٤ باب عظمة الله عزّ وجل .

٢٢٦

قتادة

وأمّا قتادة ، فإنّه وإنْ وُصف بـ ( الحافظ أحد الأئمّة الأعلام )(١) وأنّه ( ثقةٌ ثَبتٌ )(٢) وذُكر بتراجمه مناقبٌ كثيرة(٣) بل قيل أنّهم أجمعوا على جلالته وتوثيقه وحفظه وإتقانه وفضله(٤) ...

كان يتّهم بالقدر

لكنّ المحقّقين النقَدَة منهم لم يستحيوا مِن قول الحق وإظهار الحقيقة ، فقالوا : كان يتّهم بالقدر ، وقد عرفت أنّه الكفر والضلال عندهم ، وأضاف بعضهم أنّه كان حاطب ليلٍ ، وهو من عبائر التضعيف والقدح... قال الذهبي :

( كان قتادة يتّهم بالقدر .

وقال ابن المديني : قلت ليحيى بن سعيد : إنّ عبد الرحمان يقول : أترك [كلّ] من كان رأساً في بدعة يدعو إليها .

قال: كيف يصنع بقتادة وابن أبي رواد وعمر بن ذر، وذكر قوماً ، ثمّ قال يحيى : إنْ ترك هذا الضرب ترك ناساً كثيراً .

ـــــــــــــــــــ

(١) فيض القدير ١ : ١٥٦.

(٢) تقريب التهذيب ٢ : ١٣٠/ ٦١٩٩ .

(٣) تهذيب الكمال ٢٣ : ٤٩٨/ ٤٨٤٨ ، مرآة الجنان ١ : ١٩٧ السنة ١١٧ تهذيب التهذيب ٨ : ٣١٥/ ٦٣٧ .

(٤) تهذيب الأسماء واللغات ٢ : ٥٧/ ٦٦ .

٢٢٧

كان كحاطب ليل

وقال جرير بن عبد الحميد عن مغيرة عن الشعبي قيل له : هل رأيت قتادة ؟ قال : نعم رأيته كحاطب ليل .

وقال سفيان بن عيينة : قال الشعبي لقتادة : حاطب ليل قال سفيان : قال لي عبد الكريم الجزري : ما حاطب ليل ؟ قلت : إلاّ أنْ ، تخبرني قال : هو الرجل يخرج في الليل يحتطب ، فتقع يده على أفعى فتقتله هذا مثل ضرب لطالب العلم ، إنّ طالب العلم إذا حمل من العلم ما لا يطيقه قتله علمه، كما قتل الأفعى حاطب ليل )(١) .

كان يدلّس

والذهبي نسب إليه التدليس أيضاً حيث قال في( الميزان ) :

( قتادة بن دعامة السدوسي ، حافظٌ ثقةٌ ثبتٌ ، لكنّه مدلّس ورُمي بالقدر ، قاله يحيى بن معين ، ومع هذا فاحتجّ به أصحاب الصحاح ، لا سيّما إذا قال حدّثنا. مات كهلاً )(٢) .

وقال ابن خلكان :

( قال معمر : سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله تعالى :( وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) فلم يجبني ، فقلت : إنّي سمعت قتادة يقول : مُطيقين ، فسكت ، فقلت له : ما تقول يا أبا عمرو ؟ فقال : حسبك قتادة ، فلولا كلامه في القدر ـ وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا ذكر القدر فأمسكوا ـ لما عدلت به أحداً من أهل

ـــــــــــــــــــ

(١) انظر سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٧٨ و٢٧٢/ ١٣٢ .

(٢) ميزان الاعتدال ٣ : ٣٨٥/ ٦٨٦٤ .

٢٢٨

دهره )(١) .

قصّة أبي حنيفة معه

هذا، وقد جاء في( تاريخ بغداد ) ما نصّه :

( ودخل قتادة الكوفة ونزل في دار أبي بردة ، فخرج يوماً ـ وقد اجتمع إليه خلق كثير ـ فقال قتادة : والله الذي لا إله إلاّ هو ، ما سألني اليوم أحد عن الحلال والحرام إلاّ أجبته .

فقام إليه أبو حنيفة فقال : يا أبا الخطّاب ! ما تقول في رجل غاب عن أهله أعواماً ، فظنّت امرأته أنّ زوجها مات ، فتزوّجت ، ثمّ رجع زوجها الأوّل ، ما تقول في صداقها ؟ وقال لأصحابه الذين اجتمعوا إليه : لئن حدّث بحديث ليكذبّن ، ولئن قال برأيه ليخطئنّ .

فقال قتادة : ويحك ! أوقعت هذه المسألة ؟

قال : لا.

قال : فلم تسألني عمّا لم يقع ؟

قال أبو حنيفة : إنّا نستعدّ للبلاء قبل نزوله ، فإذا وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه .

[فقال] قتادة : والله لا أُحدّثكم بشيء من الحلال والحرام ، سلوني عن التفسير .

فقام إليه أبو حنيفة فقال له : يا أبا الخطّاب ! ما تقول في قوله تعالى:( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) وفيات الأعيان ٤ : ٨٥/ ٥٤١ .

٢٢٩

قال : نعم ، هذا آصف بن برخيا بن سمعيا كاتب سليمان بن داود ، كان يعرف اسم الله الأعظم .

فقال أبو حنيفة : وهل كان يعرف الاسم سليمان ؟

قال : لا .

قال : فيجوز أنْ يكون في زمن نبيّ مَن هو أعلم من النبيّ ؟

قال قتادة : والله لا أُحدّثكم بشيء مِن التفسير ، سلوني عمّا اختلف فيه العلماء .

قال : فقام إليه أبو حنيفة فقال : يا أبا الخطّاب ! أمؤمنٌ أنت ؟

قال : أرجو .

قال : ولِمَ ؟

قال : يقول إبراهيمعليه‌السلام :( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) .

فقال أبو حنيفة : هلاّ قلت كما قال إبراهيمعليه‌السلام :( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى ) فهلاّ قلت : بلى ؟

قال : فقام قتادة مغضباً ودخل الدّار ، وحلف أنْ لا يُحدّثهم )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد ١٣ : ٣٤٨ ـ ٣٤٩/ ٧٢٩٧.

٢٣٠

زيد بن أسلم

وأمّا زيد بن أسلم ، فيكفي عن ذكر مناقبه كما في( تهذيب الأسماء ) (١) كونه مولى عمر بن الخطّاب ؛ لأنّ هذه العلقة ـ كما ذكر الدهلوي في( التحفة ) ـ توجب الاتّحاد بين المالك والمولى في العقيدة والطريقة .

والأهم مِن ذلك دعواهم حضور الإمام عليّ بن الحسين السجّادعليه‌السلام عنده للاستفادة ، حتّى قيل له : ( غفر الله لك ، أنت سيّد النّاس وأفضلهمْ ، تذهب إلى زيد بن أسلم وهو مولى فتجلس معه ؟ ) فقال : ( ينبغي للعلم أنْ يبتغى حيث هو ) !! قالوا: ( وكان يتخطّى حلق قومه حتّى يأتي زيد بن أسلم فيجلس عنده ويقول : إنّما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه ) .

هكذا في( تحصيل الكمال في أسماء الرجال ) (٢) .

وأعوذ بالله من هذا البهتان الذي افتراه أهل الضّلال ، تنقيصاً من شأن الإمامعليه‌السلام .

كما لا يخفى على أولي الأبصار والأفهام...

لكن ابن عدي أدرج زيداً في كتاب( الكامل ) (٣) الذي صنّفه في أسماء الضعفاء ، وهو كما قال المناوي في( فيض القدير ) :

ـــــــــــــــــــ

(١) تهذيب الأسماء واللغات ١ : ٢٠٠/ ١٨٥ .

(٢) تحصيل الكمال في أسماء رجال المشكاة للشيخ عبد الحق الدهلوي ـ ترجمة زيد بن أسلم .

(٣) الكامل في ضعفاء الرجال ٤ : ١٦٣/ ٧٠٤ .

٢٣١

 ( أصلٌ مِن الأُصول المعوّل عليها المرجوع إليها ، طابق اسمه معناه ، ووافَق لفظه فحواه ، مِن عينه انتجع المنتجعون ، وبشهادته حكم الحاكمون ، وإلى ما قاله رَجَع المتقدّمون والمتأخّرون )(١) .

وهذا ما أزعج الذهبي فقال :

( زيد بن أسلم مولى عُمر ، تناكد ابن عدي بذكره في الكامل ، فإنّه ثقةٌ حجّة ، فروى عن حمّاد بن زيد قال : قدمت المدينة وهم يتكلّمون في زيد بن أسلم ، فقال لي عبيد الله بن عمر : ما نعلم به بأساً إلاّ أنّه يُفسّر القرآن برأيه )(٢) .

فقد اعترض الذهبي على ابن عدي ذكره في الضعفاء ، إلاّ أنّه أضاف إلى ذلك ( تكلّم أهل المدينة في زيد بن أسلم ) ، وروى عن عبيد الله بن عمر أنّه ( كان يفسّر القرآن برأيه ) ، وهذا يكفي لسقوط تفسيره عن الاعتبار ، وقد أخرج الترمذي .

( عن سعيد بن جُبير عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( اتّقوا الحديث عنّي إلاّ ما علمتم ، فمن كذب علَيّ متعمّداً فليتبوّء مقعدهُ من النّار ، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوّء مقعده من النّار ) هذا حديث حسن)(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) فيض القدير في شرح الجامع الصغير ١ : ٢٨ ـ ٢٩ .

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ٩٨/ ٢٩٨٩ .

(٣) صحيح الترمذي ٥ : ١٩٩/ ٢٩٥١ كتاب تفسير القرآن الباب ١ .

٢٣٢

مُرّة بن شراحيل

وأمّا مرّة بن شراحيل ، فلا يجوز الاعتماد عليه والأخذ بتفسيره ؛ لأنّه كان مِن المعاندين ، لأمير المؤمنينعليه‌السلام في حربه ضدّ الناكثين... قال أبو نعيم :

( حدّثنا عبد الله بن محمّد قال : ثنا أحمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن إبراهيم الدروقي قال : حدّثني عبد الرحمان بن غزوان قال : ثنا محمّد بن طلحة ابن مصرف عن زبيد الأيامي قال : قيل لمُرّة بن شراحيل : ألا تلحق بعليّ بصفّين ؟ قال : إنّ عليّاً سبقني بخير أعماله ، بدرٍ وذواتها ، وأنا أكره أنْ أشركه فيما هان فيه )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) حلية الأولياء ٤ : ١٦٣/ ٢٦٩ .

٢٣٣

عبد الرحمان بن زيد بن أسلم

وأمّا عبد الرحمان بن زيد بن أسلم ، فقد أورده الذهبي في( الميزان ) فقال :

( عبد الرحمان بن زيد بن أسلم العمري مولاهم المدني ، أخو عبد الله وأُسامة .

قال أبو يعلى الموصلي : سمعت يحيى بن معين يقول : بنو زيد بن أسلم ليسوا بشيء ، وروى عثمان الدارمي عن يحيى : ضعيف ، وقال أحمد : عبد الله ثقةٌ ، والآخران ضعيفان )(١) .

وفي( الكاشف ) : ( ضعفّوه له تفسير )(٢) .

وفي( حاشية الكاشف ) :

( قال البخاري وأبو حاتم : ضعّفه ابن المديني جدّاً وقال : أولاد زيد بن أسلم كلّهم ضعيف وأمثلهم عبد الله ، وقال النسائي : ضعيفٌ ، وقال يحيى : ليس بشيء ، وقال أحمد : ضعيف )(٣) .

وقال ابن حجر: ( ضعيف )(٤) .

وقال ابن القيّم في( زاد المعاد ) : ( قال الترمذي : ليس في ولد زيد بن أسلم ثقة ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٢ : ٥٦٤/ ٤٨٦٨ .

(٢) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستّة ٢ : ١٦٠/ ٣٢٢٨ .

(٣) حاشية الكاشف ـ مخطوط .

(٤) تقريب التهذيب ١ : ٤٤٨/ ٤٣١٢

٢٣٤

الطبقة الثالثة

قال السيوطي :

ثمّ بعد هذه الطبقة ، اُلّفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين ، كتفسير سفيا بن عيينة ، ووكيع بن الجرّاح ، وشعبة بن الحجّاج ، ويزيد بن هارون ، وعبد الرزّاق ، وآدم بن أبي أياس ، وإسحاق بن راهويه ، وروح بن عبادة ، وعدب بن حميد ، وسُنيد ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وآخرين(١)

أقول :

وتفاسير هذه الطبقة أيضاً مقدوحةٌ مطعونٌ فيها ، وكتب الرجال بجوارح أصحابها مشحونة ، وإليك أحوال بعضهم :

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٤٢ .

٢٣٥

سفيان بن عيينة

أمّا سفيان بن عيينة ، فقد ذكروا :

كان يدلّس

إنّه كان يدلّس... قال القاري في( شرح شرح نخبة الفكر ) :

( قال الشيخ شمس الدين محمّد الجزري : التدليس قسمان : تدليس الإسناد ، وتدليس الشيوخ أمّا تدليس الإسناد ، فهو أنْ يروي عمّن لَقِيه أو عاصره ما لم يسمعه منه ، موهماً أنّه سمعه منه ، ولا يقول : أخبرنا وما في معناه ، بل يقول : قال فلان ، أو عن فلان ، أو إنّ فلاناً قال ، وما أشبه ذلك ، ثمّ قد يكون بينهما واحد ، وقد يكون أكثر ، وربّما وربّما لم يسقط المدلّس شيخه ، لكن يسقط من بعده رجلاً ضعيفاً أو صغير السنّ ، يحسّن الحديث بذلك وكان الأعمش والثوري وابن عيينة وابن إسحاق وغيرهم يفعلون هذا النوع ، ومن ذلك ما حكى ابن خشرم : كنّا يوماً عند سفيان بن عيينة فقال : عن الزهري ،... فقيل له : حدّثك الزهري ؟ فسكت ، ثمّ قال : قال الزهري ، فقيل له : سمعته من الزهري ؟ فقال : حدّثني عبد الرزّاق ، عن معمر ، عن الزهري )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) شرح شرح نخبة الفكر : ٤٢٠ .

٢٣٦

من كلماتهم في ذمّ التدليس

هذا ، وقد نقلنا سابقاً كلمات بعض أعلام القوم في ذمّ التدليس وتقبيحه وتحريمه ، وعن شعبة : أنّه أشدّ من الزنا وأخو الكذب ، قال السيوطي في أقسام التدليس :

( وأمّا القسم الأوّل فمكروه جدّاً ، ذمّه أكثر العلماء ، وبالغ شعبة في ذمّه فقال : لأنْ أزني أحبُّ إليَّ من أنْ أُدلّس وقال : التدليس أخو الكذب )(١) .

وأمّا قول ابن الصلاح من أنّ هذا إفراط ، محمولٌ على الزجر والتنفير مِن التدليس ، كما نقله السيوطي ، ففيه : إنّه إنْ أراد صرف كلام شعبة عن ظهوره في حرمة التدليس ، فلا سبيل إليه أصلاً ، وقد تقدّم تصريح النووي بحرمته ، وتقدّم أنّه من تلبيس إبليس كما نصّ عليه ابن الجوزي ، على أنّ جماعةً من المحدّثين ذهبوا إلى أنّ ارتكاب التدليس ـ ولو كان مرّةً واحدة ـ يوجب الجرح وتُردّ به الرواية ، كما في( تدريب الراوي ) حيث قال :

( ثمّ قال فريقُ منهم ، من أهل الحديث والفقهاء : مَن عرف به صار مجروحاً مردود الرواية مطلقاً وإنْ بيّن السماع )(٢) .

ومراده من ( مطلقاً ) هو عدم الفرق بين التدليس مرّةً أو أكثر ، وهذا ما نصَّ عليه شرّاح( نخبة الفكر ) .

وقال ابن جماعة الكناني في( المنهل الروي ) :

( النوع الرابع : التدليس ، وهو قسمان : تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ .

ـــــــــــــــــــ

(١) تدريب الراوي ـ شرح تقريب النواوي ١ : ٢٢٨ .

(٢) تدريب الراوي ـ شرح تقريب النواوي ١ : ٢٢٩ .

٢٣٧

الأوّل : تدليس الإسناد ، وهو أنْ يروي عمّن لَقِيه أو عاصره ما لم يسمعه منه ، مُوهماً أنّه سمعه منه ، ولا يقول أخبرنا وما في معناه ونحوه ، بل يقول : قال فلان أو عن فلان أو إنّ فلاناً قال ، وشبه ذلك ، ثمّ قد يكون بينهما واحد ، وقد يكون أكثر .

وهذا القسم من التدليس مكروهٌ جدّاً ، وفاعله مذموم عند أكثر العلماء ، ومَن عرف به مجروح عند قومٍ لا تُقبل روايته ، بيّن السماع أو لم يُبيّنه )(١) .

وتلخّص : إنّ سفيان بن عيينة عند هذا الفريق من الفقهاء والمحدّثين مجروحٌ مردودُ الرواية ، وعند الأكثر مذمومٌ مطعونٌ فيه .

اختلط في آخر عمره

ثمّ إنّه قد اختلط في أواخر حياته ، كما نصّ عليه علماء الرجال ، قال الذهبي :

( روى محمّد بن عبد الله بن عمّار الموصلي ، عن يحيى بن سعيد القطّان قال : أشهد أنّ سفيان بن عيينة اختلط سنة ١٩٧ ، فمن سمع منه فيها فسماعه لا شيء ) .

ثمّ انبرى الذهبي للدفاع عن روايات القوم عن سفيان ، مستبعداً كلام القطّان ، ومغلّطاً الموصلي في نقله ـ وقد قال الزهري في حقّه : صدوقٌ ثقة صاحب حديث(٢) ـ فقال :

ـــــــــــــــــــ

(١) المنهل الروي في علم أُصول حديث النبيّ : ٧٢ .

(٢) ميزان الاعتدال ـ ترجمة محمّد بن عبد الله بن عمّار ٣ : ٥٩٦/ ٧٧٥٣ وفيه : قال النسائي : ثقةٌ صاحب حديث .

٢٣٨

 ( قلت : سمع منه فيها محمّد بن عاصم صاحب ذاك الجزء العالي ، ويغلب على ظنّي أنّ سائر شيوخ الأئمّة الستّة سمعوا منه قبل سنة سبع ، فأمّا سنة ثمانٍ وتسعين ففيها مات ولم يلقه أحد فيها ؛ لأنّه توفّي [بمكّة] قبل قدوم الحاجّ بأربعة أشهر ، وأنا أستبعد هذا الكلام من القطّان وأعدّه غلطاً من ابن عمّار ، فإنّ القطّان مات في صفَر مِن سنة ثمانٍ وتسعين وقت قدوم الحاج ، ووقت تحدّثهم عن أخبار الحجاز ، فمتى تمكّن يحيى بن سعيد أنْ يسمع اختلاط سفيان ثمّ يشهد عليه بذلك ، والموت قد نزل به ، فلعلّه بلغه ذلك في أثناء سنة سبع ، مع أنّ يحيى متعنّت جدّاً في الرجال ، وسفيان ثقة مطلقاً ، والله أعلم )(١) .

لكنْ كيف يجتمع هذا التهجّم على يحيى بن سعيد القطّان مع تلك المناقب الجليلة ، والدرجات الرفيعة التي يذكرونها له في العلم والورع والإتقان ، حتّى قال أحمد بن حنبل : ( ما رأيت مثله في كلّ أحواله ) ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ـ ترجمة سفيان بن عيينة ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١/ ٣٣٢٧ .

٢٣٩

وكيع بن الجرّاح

وأمّا وكيع بن الجرّاح... والذي قال اليافعي في حوادث سنة ١٩٧ :

( وفيها توفّي الإمام العالم أبو سفيان وكيع بن الجراح روى عن الأعمش ، قال أحمد : ما رأيت أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع... وقال يحيى ابن أكثم : صحبت وكيعاً ، وكان يصوم الدهر ، ويختم القرآن كلّ ليلة ، وقال أحمد : ما رأت عيني مثل وكيع )(١) .

له قوادح

وقد ذكرت له قوادح ، وتكلّم فيه بعض الأكابر منهم ، ومن هنا ، فقد أورده الذهبي في( الميزان ) فقال :

( قال ابن المديني : كان وكيع يلحن ، ولو حدّثت بألفاظه لكانت عجباً ، كان يقول : ثنا شعبي عن عيشة ، وسُئل أحمد بن حنبل : إذا اختلف وكيع وعبد الرحمان ابن مهدي بقولِ مَن نأخذ ؟ فقال : عبد الرحمان يُوافق أكثر وخاصّةً في سفيان ، وعبد الرحمان يَسلم منه السلف ويجتنب شرب المُسكر ، وكان لا يرى أنْ تُزرع أرضُ الفرات قال ابن المديني فيالتهذيب : وكيع كان فيه تشيّعٌ قليل قال ابن حنبل : سمعت يحيى بن معين يقول : رأيت عند مروان بن معاوية لوحاً فيه فلان كذا وفلان رافضي ، ووكيع رافضي ، فقلت له :

ـــــــــــــــــــ

(١) مرآة الجنان ١ : ٣٥٠ ـ ٣٥١ .

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

بين العدوّ، وقد وضع المسلمون الأحجار إلى جانب الخندق، يرمون بها من أراد العبور، فعند ذلك قام حيي بن أخطب بمؤامرة اُخرى وهو فتح الطريق لدخول يثرب من ناحية اُخرى، وهو إقناع بني قريظة ( الطائفة الوحيدة المتبقّاة من اليهود في المدينة ) على رفض عهدها مع محمد، وانضمامها إلى الأحزاب، فاجتمع مع أكابر الأحزاب، وقال: إنّه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم محمداً والمسلمين، حتّى يقطعوا بذلك المدد والمير عنه، ويفتحوا الطريق لاجتياز الأحزاب من حصونهم إلى داخل المدينة، ولـمـّا سمعت ذلك قريش وقبائل غطفان فرحوا بذلك وزعموا أنّ هذه الخطوة سوف تكون ناجحة، وأنّها مفتاح الإنتصار، فخرج حيي بن أخطب حتّى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، ولـمـّا سمع كعب بحيي بن أخطب، أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له فناداه حينئذٍ: ويحك يا كعب، إفتح لي. قال: ويحك يا حيي إنّك رجل مشؤوم، وإنّي قد عاهدت محمداً ولست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلّا وفاءً وصدقاً. قال: ويحك إفتح لي اُكلّمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله إن أغلقت دوني إلّا خوفاً عن جشيشتك أن آكل معك منها، فعندئذ غضب كعب ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر وبحر طامّ(١) ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمداً ومن معه. قال: فقال له كعب: جئتني والله بذلّ الدهر، ويحك يا حيي ! فدعني وما أنا عليه، فإنّي لم أر من محمّد إلّا صدقاً ووفاءً. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب حتّى سمع له، على أن أعطاه عهداً ( من الله ) وميثاقاً: لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمّداً أن يدخل معه في حصنه حتّى يصيبه ما أصابه، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ ممّا كان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد بلغ المسلمين نبأ إنضمام قريظة إلى الأحزاب، فاهتزّوا وخافوا مغبّته فبعث رسول الله سعد بن معاذ، وهو سيد الأوس وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ومعهما لفيف من المسلمين، فقال: إنطلقوا حتّى تنظروا أحقٌ ما بلغنا عن هؤلاء

__________________

(١) يشير إلى الأحزاب المؤلّفة.

٣٠١

القوم أم لا ؟ فإن كان حقّاً فألحنوا لي لحناً(١) أعرفه، ولا تفتّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا غير ناقضين فأجهروا به للناس، قال فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم فيما نالوا من رسول الله وقالوا: مَن رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلاً فيه حدّه، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أعظم من المشاتمة، فأقبلا إلى رسول الله فسلّموا عليه، وقالوا: « عضل والقارة » أي غدروا كغدر عضل والقارة، وأصحاب الرجيع، فقال رسول الله: الله أكبر ! أبشروا يا معشر المسلمين. وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وذلك لأنّهم لو قطعوا المير والمدد وفتحوا الطريق للأحزاب، لدخلوا المدينة واستأصلوا أهلها، فما مضى وقت حتّى بدت بوادر النقض فقطعوا المدد والميرة عن المسلمين، وخرجوا يطيفون في أزقّة المدينة، يخوّفون النساء والصبيان. قالت صفيّة ـ وكانت في حصن « حسّان » ـ: مرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن، فقلت: يا حسّان ! إنّ هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإنّي والله ما آمنه أن يدلّ على عورتنا مَنْ وراءنا من يهود، وقد شغل عنّا رسول الله وأصحابهم، فانزل إليه فاقتله. قال: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب ! والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ! قالت: فلمّا قال لي ذلك، ولم أر عنده شيئاً احتجزت(٢) ثمّ أخذت عموداً ثمّ نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود، حتّى قتلته. قالت: فلمّا فرغت منه، رجعت إلى الحصن(٣) .

ثمّ إنّه سبحانه سلّط على الأحزاب البرد والريح الشديدة، وفرّق كلمتهم على وجه سيوافيك تفصيله، وتفرّقوا وجلوا عن جوانب المدينة ورجعوا إلى أوطانهم من دون أن ينالوا من المسلمين شيئاً. ولم يكن عود الأحزاب بعد فصل الشتاء أمراً غير بعيد في نظر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبنو قريظة هم الأعداء الغدرة، ومن الممكن أن يتكرّر التاريخ ويقع المسلمون في مغبّته، وبينما كان النبيّ يفكر في

__________________

(١) أي تكلّموا بالإشارة والتعريض، ولا توهنوا عزائم المسلمين.

(٢) شددت معجري.

(٣) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٢٢٨.

٣٠٢

ذلك وقد صلّى الظهر، جاء جبرئيل وقال: إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، فأمر رسول الله مؤذناً فأذّن في الناس من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّين إلّا ببني قريظة(١) ولبس رسول الله السلاح والمغفر والدرع والبيضة وأخذ قناتاً بيده، وتقلّد الترس، وركب فرسه، وحفّ به أصحابه، وتلبّسوا السلاح وركبوا الخيل، وكانت ستّة وثلاثين فرساً، وكان رسول الله قد قاد فرسين وركب واحداً، وانتهى رسول الله إلى بني قريظة، فنزل على أسفل حرّة بني قريظة، وكان عليٌّعليه‌السلام قد سبق في نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو قتادة، وطلع رسول الله، فلّما رأى رسول الله عليّاً أمره بأخذ اللواء وكره أن يسمع رسول الله أذاهم وشتمهم، فتقدّمه أسيد بن حضير، قال: فقال: يا أعداء الله لا نبرح حصنكم حتّى تموتوا جوعاً. قال: يا بن الحضير نحن مواليكم دون الخزرج. قال: لا عهد بيني وبينكم ودنا رسول الله، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطواغيت أتشتموني ؟ قالوا: فجعلوا يحلفون بالتوراة التي أنزلت على موسى ما فعلنا وقالوا: نكلّمك، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم. فأنزلوا نباش بن قيس، وقالوا: يا محمّد ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير. لك الأموال والحلقة وتحقن دمائنا ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري ولنا ما حملت الإبل إلّا الحلقة فأبى رسول الله وقال: لا إلّا أن تنزلوا على حكمي. فرجع نباش إلى أصحابه بمقالة رسول الله ولـمـّا وقف القوم على عزم رسول الله بنزولهم على حكمه، عقدوا مجلساً للمشاورة إشترك فيها أكابر القوم، فاقترح كعب بن أسد عليهم عدّة إقتراحات، يعرب بعضها عن ضآلة تفكيره ويدلّ البعض الآخر على قسوته، وإليك تلك الإقتراحات:

١ ـ الإيمان بما جاء به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله

يا معشر بني قريظة إنّكم لتعلمون أنّ محمداً نبي الله وما منعنا من الدخول معه إلّا الحسد بالعرب، ولقد كنت كارهاً لنقض العقد والعهد، ولكنّ البلاء وشؤم

__________________

(١) قال الواقدي: صار إليهم النبيّ لسبع بقين من ذي القعدة، فحاصرهم خمسة عشر يوماً، ثمّ انصرف يوم الخميس سبع خلون من ذي الحجة سنة خمس.

٣٠٣

هذا الجالس(١) علينا وعلى قومه فتعالوا نصدّقه ونؤمن به، فنأمن على دمائنا وأبنائنا ونساءنا وأموالنا فنكون بمنزلة من معه، قالوا لا نكون تبعاً لغيرنا. نحن أهل الكتاب والنبوّة، فجعل كعب يردّ عليهم الكلام بالنصيحة لهم. قالوا: لا نفارق التوراة ولا ندع ما كنّا عليه من أمر موسى.

٢ ـ قتل النساء والأولاد

إذا كنتم كارهين للإيمان بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فهلمّوا نقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج وفي أيدينا السيوف إلى محمّد وأصحابه، فإن قتلنا قتلنا، وما وراءنا أمر نهتم به، وان ظهرنا لنتّخذن النساء والأبناء.

فصاح حيّي بن أخطب وقال: ما ذنب هؤلاء المساكين ؟ وقالت رؤساء اليهود: ما في العيش خير بعد هؤلاء.

٣ ـ الخروج على أصحاب محمّد ليلة السبت

إنّ محمّداً وأصحابه آمنين لنا فيها أن نقاتله، فنخرج فلعلّنا أن نصيب منه غرّة قالوا نفسد سبتنا وقد عرفت ما أصابنا فيه. قال حيّي: قد دعوتك إلى هذا وقريش وغطفان حضورٌ فأبيت أن تكسر السبت فإن أطاعتني اليهود فعلوا. فصاحت اليهود: لا نكسر السبت. قال نبّاش بن قيس: وكيف نصيب منهم غرّة وأنت ترى أنّ أمرهم كل يوم يشتدّ كانوا أوّل ما يحاصروننا إنّما يقاتلون بالنّهار ويرجعون بالليل، فهم الآن يبيتون الليل ويظلّون النهار، فأي غرّة نصيب منهم ؟ هي ملحمة وبلاء كتب علينا، فاختلفوا وسقط في أيديهم وندموا على ما صنعوا ورقّوا على النساء والصبيان وكنّ يبكين.

وعندئذٍ قال ثعلبة وأسيد إبنا سعيد وأسد بن عبيد عمّهم: يا معشر بني قريظة !

والله إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله، وأنّ صفته عندنا. حدّثنا بها علماؤنا

__________________

(١) يعني حيّي بن أخطب وقد وفى بعهده، بعد تفرّق الأحزاب، فدخل حصن بني قريظة ليشترك معهم في المصير.

٣٠٤

وعلماء بني النضير هذا أوّلهم يعني حيّي بن أخطب مع جبير بن الهيّبان. أصدق الناس عندنا وهو خبّرنا بصفته عند موته. قالوا: لا نفارق التوراة، فلمّا رآى هؤلاء النفر إباءهم، نزلوا في الليلة التي في صبحها نزلت قريظة، فأمنّوا على أنفسهم وأهلهم وأموالهم.

اقتراح رابع

واقترح عمرو بن سعد وقال: يا معشر اليهود إنّكم حالفتم محمداً على ما حالفتموه عليه، أن لا تنصروا عليه أحداً من عدوّه وأن تنصروه ممّن دهمه فنقضتم ذلك العهد الذي كان بينكم وبينه فلم أدخل فيه ولم أشرككم في عذركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه، فاثبتوا على اليهوديّة واعطوا الجزية، فو الله ما أدري يقبلها أم لا ؟ قالوا: نحن لا نقرّ للعرب بخرج في رقابنا يأخذوننا به، القتل خير من ذلك.

ولـمـّا طال الحصار وأذعنت بنو قريظة أنّ النبيّ الأكرم لا يتركهم إلّا أن ينزلوا على حكمه، بعثوا إلى رسول الله حتّى يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر، وكان حليف الأوس ليستشيروه في أمرهم، فأرسله رسول الله فلّما رأوه قام إليه الرجال، وبكت النساء والصبيان، فرقّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد ؟ فأشار بيده إلى حلقه، يعني أنّه الذبح.

ثمّ ندم أبو لبابة من إذاعة سرّ رسول الله، قال: فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله حتّى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال: لا أبرح مكاني هذا حتّى يتوب الله عليّ ممّا صنعت، وعاهد الله: أن لا أطأ بني قريظة أبداً ولا اُرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً، وفي ذلك نزل قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( الأنفال / ٢٧ ).

فمكث سبعة أيّام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتّى خرّ مغشياً عليه، ثمّ تاب الله عليه، فقيل له يا أبا لبابة قد تيب عليك، فقال: لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله هو الذي يحلّني، فجاءه فحلّه بيده، ثمّ قال أبو لبابة: إنّ من تمام توبتي أن

٣٠٥

أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي، فقال النبيّ: يجزيك السدس أن تصدّق به.

وقد نزل أيضاً في توبته قوله سبحانه:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / ١٠٢ )(١) .

فلمّا أصبحوا، نزلوا على حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت ( يريدون بني قينقاع ـ وكانوا حلفاء الخزرج ـ فسأله إيّاهم عبد الله بن أبي، فوهبهم له ) قال رسول الله: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا: نعم. قال رسول الله: فذلك إلى سعد بن معاذ، فلمّا حكّمه رسول الله أتاه قومه إلى رسول الله، فلمّا انتهى سعد إلى رسول الله قال ـ يخاطب الأوسيين ـ: قوموا إلى سيّدكم، قالت الأوس ـ الذين بقوا عند رسول الله ـ: يا أبا عمرو ! إنّ رسول الله قد ولّاك الحكم، فأحسن فيهم واذكر بلاءهم عندك، فقال سعد بن معاذ: أترضون بحكمي لبني قريظة ؟ قالوا: نعم، قد رضينا بحكمك وأنت غائب عنّا، قال سعد: عليكم عهد الله وميثاقه أنْ أحكم فيكم ما حكمت. قالوا: نعم، قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن يقتل من جرت عليه الموسى، وتسبى النساء والذريّة وتقسّم الأموال، وفي نقل آخر: أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسّم الأموال وتسبى الذراري والنساء، ورضي رسول الله بحكم سعد(٢) .

وقال ابن هشام: إنّ بني قريظة طلبوا من النبيّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، قال: إنّ عليّ بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: يا كتيبة الإيمان ! وتقدّم هو والزبير بن العوّام، فقال: والله لأذوقنّ ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم، فقالوا: يا محمّد ننزل على حكم سعد بن معاذ، واُجري الحكم حسبما رأى سعد.

__________________

(١) السيرة النويّة، لابن هشام: ج ٢ ص ٢٣٧، والمغازي للواقدي: ج ٢ ص ٥٠٥ ومجمع البيان: ج ٤ ص ٨٢٤.

(٢) المغازي للواقدي: ج ٢ ص ٥١٢.

٣٠٦

إنّ المستشرقين قد استغلّوا هذه الواقعة، فحاولوا أن يتّهموا قضاء سعد بن معاذ بالقسوة والخروج عن العدل، ولكنّهم نظروا إلى الواقعة بعين واحدة، فنظروا إلى ما حاق ببني قريظة من الذلّ والخزي، وقد أحاطت بهم نساؤهم وأطفالهم بالبكاء عليهم، فزعموا أنّ مقتضى العدل والرحمة هو الإغماض عنهم، وعن جريمتهم، ولأجل دعم أنّ العدل والحق كانا يقضيان بما قضى به سعد بن معاذ نشير للاُمور التالية.

لا شك أنّ عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره ومناظر الصبيان ونساء بني قريظة، وأوضاع رجالهم وملاحظة الرأي العام ( الأوسيين )، كان يثير الإشفاق لهم والإغماض عن جريمتهم. كلّ هذه الإعتبارات كانت تقتضي أن تجعل القاضي فريسة العاطفة، ويبرّئ بني قريظة الجناة الخونة وأن يخفّف من عقوبتهم أكبر قدر ممكن، لكنّ منطق العقل وحرّية القاضي واستقلاله، وقبل كلّ شيء مراعاة المصالح العامّة، قاده إلى الحكم بقتل رجالهم الخونة وسبي نسائهم وأطفالهم، ولقد استند الحاكم في حكمه إلى الاُمور التالية:

١ ـ إنّ يهود بني قريظة كانوا قد تعهّدوا للنّبي ـ عند نزوله بالمدينة ـ بأنّهم لو تآمروا ضدّ الإسلام والمسلمين وناصروا أعداء التوحيد وألّبوهم على المسلمين، كان للنبيّ أن يقوم بقتلهم وسبي نسائهم، وإليك نقل هذه الإتفاقيّة: إلّا يعينوا على رسول الله، ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار. الله عليهم بذلك شهيد، فإن فعلوا فرسول الله في حلّ من سفك دماءهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وأخذ أموالهم(١) .

إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدة وكان الذي تولّى أمر بني النضير: حيي بن أخطب وهو الذي رغّب رئيس بني قريظة على نقض العهد ورفضه، كما أنّ الذي تولّى أمر بني قريظة هو كعب بن أسد،

__________________

(١) بحار الأنوار: ج ١٩ ص ١١١، ونقله الصدوق في كمال الدين، وأخرجه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره.

٣٠٧

الذي نقض عهد النبي وسبّه بمحضر من أصحابه من سعدين وغيرهما.

فلو حكم سعد بن معاذ على قتل رجالهم وسبي نسائهم فإنّما استند إلى هذه الاتفاقية التي تولّى أمرها رؤساؤهم وأكابرهم، فلو كان سعد حاكماً بغير ما ورد فيها، فقد بخس حق المسلمين وظلمهم، فالعدل في القضاء كان يقتضي عدم الخضوع لحكم العاطفة.

٢ ـ ارتكبت بنو قريظة جريمة عظيمة في ظروف حرجة عندما لم يبق بين المسلمين، وإبادتهم واستئصالهم واستيلاء الأحزاب عليهم ونسفهم من رأس إلّا خطوة أو خطوتان لولا أنّ الله بدّد شمل الكفّار، وسخّر عليهم الرياح والبرد، وفرّق كلمتهم، ونشر فيهم سوء الظن بحلفائهم.

هذا ما قد كان، ولكنّ التاريخ يمكن أن يعيد نفسه ويرجع الأحزاب في العام القابل أو بعد برهة من الزمن مستمدّين في إستيلائهم من هذا الطابور الخامس المتواجد بين المسلمين، ولم يكن ذلك الاحتمال أمراً بعيداً في نظر القاضي بل أمراً قريباً جدّاً، فلو كان حكم عليهم بالعفو لخان بمصالح المسلمين العامّة وجعلهم في دائرة الخطر.

إنّ بني قريظة قد جسّدوا العداوة بين اليهود والمسلمين وأثبتوا أنّ بني إسرائيل لا تطيب نفوسهم إلّا باستئصال المسلمين، فلو عادت الأحزاب إلى المدينة من جديد لعادوا إلى مشاركة العرب وقريش في حربهم ضدّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أفهل يمكن للقاضي العادل أن ينظر إلى هذا الاحتمال بعين التساهل ؟!

٣ ـ من المحتمل جداً أنّ سعد بن معاذ رئيس قبيلة الأوس الموالين ليهود بني قريظة كان واقفاً على قانون العقوبات لدى اليهود. فإنّ التوراة تنصّ على ما يلي:

« حين تقرب من مدينة لكي تحاربها إستدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها، يكون لك للتسخير ويستعبد لك ،

٣٠٨

وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الربّ إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة كلّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك »(١) .

٤ ـ والّذي نتصوّره أنّ أكبر أسباب هذا الحكم هو أنّ سعد بن معاذ رأى باُمّ عينيه أنّ رسول الله عفا عن بني قينقاع ونزل على طلب الخزرجيين منه العفو منهم، واكتفى من عقابهم بإخراجهم من المدينة، ولكنّ تلك الزمرة ما غادرت أراضي الإسلام حتّى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضد الإسلام، فذهب كعب بن الأشرف إلى مكّة وأخذ يتباكى دجلاً وخداعاً على قتلى بدر ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد الرسول، وكانت نتيجة تلك المؤامرة وقعة اُحد الّتي استشهد فيها أزيد من سبعين صحابيّاً من خيرة أبناء الإسلام.

هكذا عفا الرسول عن بني النضير المتآمرين واكتفى من عقابهم بمجرّد الإجلاء، ولكنّهم قابلوا هذا الموقف الإنساني بتأليب القبائل العربية ضد الإسلام، حتّى أنّهم عقدوا إتّحاداً عسكريّاً فيما بينهم، وكانت من أخطر المعارك على الإسلام لولا منّه سبحانه وحنكة رسوله وتضحيات أصحابه.

وقد أعطت هاتان الواقعتان للقاضي دروساً كافية، فوقف على أنّ الإفراج عن بني قريظة ـ هذه الشرذمة الباغية والطغمة الظالمة ـ سوف يثير على المسلمين ما كانوا يجتنبون عنه، فسوف يقومون باتّحاد عسكري أوسع ويؤلّبون العرب على الإسلام.

والّذي يكشف عن إخلاص ونواياه الحسنة أنّ قومه الأوسيين كانوا مصرّين على العفو عن بني قريظة والحنان لهم، وكان الرئيس أحوج ما يكون إلى تأييد قومه، وكانت مخالفتهم توجّه إليه أكبر ضربة، ولكنّ القاضي الحر أدرك أنّ جميع هذه الشفاعات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين، فانطلق من منطق العقل ورفض رضا قومه فأخذ برضا الله.

__________________

(١) التوراة، سفر التثنية الفصل العشرون / ١٠ ـ ١٤.

٣٠٩

٤ ـ غزوة خيبر أو بؤرة الخطر:

كانت منطقة خيبر منطقة واسعة خصبة تقع على بعد ١٧٦ كيلومتراً من المدينة وكانت تسكنها قبائل من اليهود مشتغلين فيها بالزراعة وجمع الثروة، وكانوا متسلّحين بأقوى الوسائل الدفاعيّة، حيث كان عدد نفوسهم يقارب عشرين ألف نسمة بينهم عدد كبير من الأبطال الشجعان(١) .

إنّ النبي الأكرم قد أجلى بني قينقاع وبني النضير من المدينة، وأباد بني قريظة، وظلّ السلام يخيّم على المدينة وأطرافها، غير أنّه كان بقرب المسلمين حصن حصين ليهود خيبر، وهم الذين شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الإسلامية والقضاء عليها، فلم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يضرب الصفح عنهم ولا يفكّر فيهم، وهم الذين موّنوا جيش العرب بأموالهم، وثرواتهم، ووعدوهم بثمار المدينة.

وبما أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عقد الصلح مع قريش في السنة السادسة من الهجرة واطمئنّ من جانبهم، وبما أنّه راسل الملوك والسلاطين ودعاهم جميعاً إلى الإسلام، فلم يكن من المستبعد أن يستغلّ كسرى وقيصر يهود خيبر فيتعاونوا على القضاء على الإسلام.

ومن هنا رأى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يضيّع هذه الفرصة حيث انّ قريش صالحت رسول الله على أن لا تتعاون عليه، فقد فرغ باله من جانبهم، فلو دخل هو في محاربة اليهود، لما ساعدتهم قريش، ولكن كان من الممكن أن تقوم قبائل النجد بمساعدتهم، فخطّط رسول الله للإستتار، وفاجأهم على وجه لم يعلموا به حتّى وجدوا جيش المسلمين أمام حصونهم.

__________________

(١) تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٤٦، السيرة الحلبية: ج ٣ ص ٣٦.

٣١٠

غادر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة وأمر أن ينادى فيها بأنّه لا يخرج معي إلّا راغب في الجهاد، أمّا الغنيمة فلا، واستخلف فيها نميلة بن عبد الله الليثي، فأخذ يسير إلى شمال المدينة، وكان المسلمون يظنّون أنّه يريد غزو قبائل غطفان وقزارة الذين تعاونوا مع قريش في معركة الأحزاب، ولكنّه عندما وصل أرض الرجيع، عرّج بجيشه صوب خيبر، وبهذا قطع الطريق على أيّة إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر، وحال بين قبائل غطفان وقزارة ويهود خيبر، فعلى الرّغم من أنّ الحصار إمتدّ على اليهود قرابة شهر لم تستطع القبائل المذكورة أن تمدّ حلفاءهم اليهود بأيّ شيء(١) .

فلمّا نزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قرب خيبر مع ١٦٠٠ مقاتل والخيبريّون بين عشرين ألف نسمة، دعا بهذا الدعاء:

« أللّهم ربّ السموات وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها »(٢) .

وهذا الدعاء يكشف عن نوايا النبي وهو يدعو به أمام ١٦٠٠ من جنوده الشجعان الذين كان كل واحد منهم شعلة وهّاجة من الشوق إلى القتال في سبيل الله، ولكنّ هذا الدعاء أنار الهدف من هذا الغزو وأنّه يطلب خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ثمّ أمر بإحتلال المواقع والمواضع الحسّاسة ليلاً بحيث لم يقف واحد من الخيبريين، ولا القاطنين في أبراج حصونهم السبعة على قدوم المسلمين، واحتلالهم القلاع السبع، وصدّ الطريق على سائر القبائل، ولـمـّا طلع الشمس خرج الفلاّحون من الحصن مغادرين بيوتهم إلى مزارعهم وبساتينهم، ففوجئوا بجيش التوحيد، فرجعوا إلى حصونهم وهم يقولون: محمد والجيش معه. فبادروا إلى إغلاق أبواب الحصون. ثمّ عقدوا إجتماعاً عسكرياً داخل حصنهم المركزي، فلمّا رأى رسول الله مساحي اليهود، إستغلّ تلك المنظرة فقال:

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٣٠٣.

(٢) الكامل لابن الأثير: ج ٢ ص ١٤٧.

٣١١

« الله أكبر خربت خيبر. إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ».

وقد اتّخذت اللجنة العسكرية قراراً خاصاً، وهو أن يجعل الأطفال والنساء في واحد من الحصون، ويجعل الطعام والذخيرة في حصن آخر، ويستقرّ المقاتلون على الأبراج ويدافعوا عن كل حصن بالأحجار، ثمّ يخرج الأبطال الصناديد من كلّ حصن ويقاتلون المسلمين خارجه.

كانت هذه خطّة اليهود الدفاعيّة لمواجهة جنود الإسلام، وقد أصرّوا على تنفيذها حتّى آخر لحظة، وبهذا التخطيط استطاعوا أن يقاوموا الجيش الإسلامي قرابة شهر كامل، إلى أن وفّق الله تبارك وتعالى المسلمين بفتح هذه القلاع واحدة بعد اُخرى.

فكان أوّل حصن افتتح حصن ناعم، ثمّ القموص ( حصن بني أبي الحقيق ) وهكذا سائر الحصون افتتحت واحد بعد الآخر.

ثمّ إنّ الآيات الواردة في هذه الواقعة على قسمين:

قسم نزل في صلح الحديبيّة، حيث إنّ النبي الأكرم صالح قريشاً، وكانت تلك المصالحة مرّة في مذاق بعض الأصحاب، فنزل الوحي بأنّهم سوف يصيبهم مغانم كثيرة يريد بها غنائم خيبر. قال سبحانه:

( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا *وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الفتح / ١٩ ـ ٢١ ).

وهذه الآيات نزلت في قصّة الحديبيّة، وبذلك كسب النبي رضا بعض الصحابة الذين كان تهمّهم الغنيمة والفوز بالمال.

فإذا كان المراد من الآية:( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ) هو غنائم خيبر يكون المراد من قوله:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ ) هو قصّة الحديبيّة، فقد كان للمسلمين في

٣١٢

صلحها فوز عظيم، وإن لم يقف عليها السطحيون منهم، كما أنّ المراد من الناس في قوله:( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) هو قريش، وبذلك يعلم أنّ تفسير هاتين الجملتين بغزوة خيبر تفسير على وجه بعيد وإن اختاره أمين الإسلام في مجمعه.

ومن أمعن النظر في سورة الفتح يرى أنّ الجميع على سبيكة واحدة فركّز على قصّة الحديبيّة ويعد الفوز بمغانم كثيرة وليس هو إلّا غزوة غنائم خيبر.

وقسم آخر نزل عند مغادرة النبي المدينة قاصداً إلى خيبر وهو قوله سبحانه:

( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إلّا قَلِيلاً ) ( الفتح / ١٥ ).

قال الطبرسي:

« لـمّا انصرف المسلمون عام الحديبيّة بالصلح وعدهم الله تعالى فتح خيبر وخصّ بغنائمها من شهد الحديبية دون من تخلّف عنها فلمّا انطلقوا إليها، قال هؤلاء المخلّفون « ذرونا نتبعكم » يريدون بذلك تبديل كلام الله ومواعيده لأهل الحديبيّة بغنيمة خيبر خاصّة، فأرادوا بالمشاركة ابطال هذا النبأ، ثمّ قال سبحانه:

( قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ ) (١) .

قصّة فدك والتصالح مع أهالي وادي القرى ٰ

لـمـّا فرغ رسول الله من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل « فدك » حين بلغهم ما أوقع الله تعالى بأهل خيبر، فبعثوا إلى رسول الله يصالحونه على النصف من فدك فقدمت عليه رسلهم بخيبر، فقبل ذلك منهم رسول الله، فكانت فدك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خالصة لأنّه لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب(٢) .

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٥ ص ١١٤.

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٣٥٣.

٣١٣

قال سبحانه:( وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الحشر / ٦ ).

كانت فدك منطقة خصبة كثيرة الخير قرب خيبر وهي تبعد عن المدينة ما يقارب من خمس كيلومترات، فقد شاء الله تبارك وتعالى أن تكون ملكاً مطلقاً للرسول الأكرم يصرفه في مصالح الإسلام والمسلمين حسبما يشاء، ومن ثمّ وهب رسول الله فدكاً لابنته الطاهرة وذلك بعد ما نزل قوله سبحانه:

( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) ( الإسراء / ٢٦ ).

وأكّد المفسّرون من الشيعة والسنّة على أنّها نزلت في أقرباء رسول الله وبالأخص ابنته الزهراءعليها‌السلام فإنّها كانت أقوى مصاديق « ذى القربى » وكان المسلمون يعرفونها بأنّها هي المراد من الآية.

يقول السيوطي:

« كان عليّ بن الحسين السجّادعليه‌السلام في الشام بعد واقعة كربلاء فسأله بعض الشاميين عن نسبه، فتلى عليّ بن الحسينعليه‌السلام تلك الآية للتعريف عن نفسه، فقال الشامي متعجّباً: وإنّكم القرابة التي أمر الله أن يعطى حقّها » ؟!(١) .

نعم اختلفوا في أنّ النبي وهب ساعة نزول الآية فدكاً لابنته فاطمة أو لا ؟ فالشيعة على الأوّل ووافقهم جمع من السنّة، وإن خالف بعضهم الآخر.

ولـمّا أراد المأمون العباسي إعادة فدك إلى بني الزهراء كتب إلى المحدّث المعروف عبد الله بن موسى وطلب منه أن يرشده في هذا الأمر، فوافاه الجواب بالإيجاب، فأعاد المأمون فدكاً إلى أبناء الزهراء وذرّيتها(٢) .

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٤ ص ١٧٦، مجمع البيان: ج ٣ ص ٤١١.

(٢) مجمع البيان: ج ٣ ص ٤١١، وفتوح البلدان: ص ٤٦.

٣١٤

وقد جلس المأمون ذات يوم على كرسي خاصّ للإستماع إلى مظالم الناس وشكاياتهم، فكانت أوّل ما اُعطي له رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنّه يدافع عن الزهراء، فقرأ المأمون الرسالة وبكى مدّة، ثمّ قال: من هذا المحامي عن الزهراء، فقام شيخ كبير وقال: أنا هو ذا، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء إلى مجلس الحوار بينه وبين ذلك الشيخ ووجد نفسه محجوجاً لأدلّة الشيخ، فأمر رئيس ديوانه بالكتابة إلى عامله أن يردّ فدك إلى أبناء الزهراء، ثمّ وشّحه المأمون بتوقيعه، وفي ذلك يقول دعبل الخزاعي:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمونٍ هاشمَ فدكاً(١)

و ليست الشيعة بحاجة في ذلك المقام إلى إقامة الدلائل بأنّ فدكاً كانت ملكاً موهوباً لبنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويكفي في ذلك ما قاله الإمام عليّعليه‌السلام في رسالته إلى عثمان بن حنيف عامله بالبصرة:

« بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله ! »(٢) .

لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأوّل، وكان الحال على ذلك حتّى تسنّم معاوية سدّة الحكم، فوّزع فدكاً بين ثلاثة هم مروان بن الحكم وعمرو بن العثمان وابنه يزيد، ولـمـّا ولّى الأمر مروان بن الحكم، سيطر على فدك بصورة كاملة ووهبها لابنه عبد العزيز وهو وهبها لولده عمر بن عبد العزيز(٣) .

وهو أوّل من ردّ فدك إلى بني فاطمة، ثمّ انتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من أبناء الزهراء، وكانت بأيديهم حتّى انقرض حكم الأمويين.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: ج ١٦ ص ٢١٧.

(٢) نهج البلاغة، الكتاب رقم ٤٥.

(٣) شرح نهج البلاغة: ج ١٦ ص ٢١٦.

٣١٥

وقد اضطرب أمر فدك اضطراباً عجيباً أيام الخلافة العباسية، فلمّا ولّي أبو العباس السفّاح ردّها على عبد الله بن الحسن بن الحسن، ثمّ قبضها أبو جعفر من بني الحسن، ثمّ ردّها محمد المهدي ابنه على ولد فاطمةعليها‌السلام ، ثمّ قبضها موسى الهادي بن المهدي وهارون أخوه، لأسباب سياسيّة خاصّة، حتّى وصل الدور إلى المأمون فردّها على الفاطميين أصحابها الشرعيّين ضمن تشريفات خاصة وبصورة رسمية، ثمّ اضطرب أمر فدك من بعده أيضاً، فربّما سلبت من أصحابها وربّما ردّت إليهم، وهكذا تراوحت بين السلب والردّ.

ولقد اُستغلّت فدك في عهد الأمويين والعباسيين في أغراض سياسّية بحتة قبل أن تستغل في أغراض إقتصاديّة.

فلقد كان الخلفاء في صدر الإسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية مضافاً إلى أنّهم إنتزعوها من يد الإمام عليّعليه‌السلام لغرض سياسي، ولكن في العصور المتأخّرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء وزادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك، ولهذا فإنّ عمر بن عبد العزيز لـمّا أعاد فدكاً إلى بني فاطمة إحتجّ عليه بنو اُميّة واعترضوا قائلين: « هجنت فعل الشيخين، وإن أبيت إلّا هذا فامسك الأصل واقسم الغلّة »(١) .

إنّ دراسة قصّة فدك وما ورد حولها من الأقوال والآراء يحتاج إلى بسط في الكلام وهو خارج عن مقاصد هذه الموسوعة، وقد أشبعنا الكلام فيها في بعض كتبنا الخاصّة ببيان سيرة الأئمّة الطاهرين وفي مقدّمتهم أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فمن شاء فليرجع إليه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج ١٦ ص ٢٧٨.

٣١٦

(١٠)

غزوات النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

١ ـ غزوة بدر

ليس الهدف في المقام تبيين غزوات النّبي وسراياه طيلة حياته، فإنّ ذلك يقع على عاتق كتب السير الوافرة، وإنمّا الهدف الإشارة إلى الغزوات الّتي قادها بعد هجرته، ولها جذور في القرآن الكريم، ولأجل ذلك نقتصر في عرض جهاده في سبيل الله على القليل منه الذي جاء ذكره في القرآن الكريم.

ومن أسمى مغازيه وأعظمها أثراً وأكبرها دويّاً غزوة بدر الكبرى التّي وقعت في « وادي بدر » المنسوب إلى « بدر بن يخلد بن نضر بن كنانة » ووادي بدر معروف، وبينه وبين المدينة قرابة (١٥٠) كيلومترا.

بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ أباسفيان بن حرب، مقبل من الشام في عير عظيمة لقريش، فيها أموال لهم وتجارة من تجاراتهم، فيها ثلاثون رجلاً من قريش أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص، فندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعلّ الله ينفلكموها(١) هذا ما يذكره أصحاب السير، وهو بظاهره يكشف عن جانب من جوانب القضيّة، ولكن كان هناك حافز آخر دفع النبي للتعرّض إلى عير قريش، وهو أنّ المسلمين في اُمّ القرىٰ، كانوا يعانون من ضغط المشركين وظلمهم، فقد كانوا يستبيحون دماءهم ويصادرون أموالهم ويخرجونهم من مساكنهم وديارهم ظلماً وبغياً، فأراد النبي أن

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام: ج ١ ص ٦٠٦ ـ ٦٠٧، ومغازي الواقدي: ج ١ ص ٢٠.

٣١٧

يوقف قريشاً على خطورة ما يفعلون، وأنهّم إذا تمادوا في أعمالهم الإجراميّة في مكّة، فسوف يقوم المسلمون بقيادة نبيّهم، بسد منافذ تجارتهم ومصادرة قوافلهم.

فخرج رسول الله في ثمان ليال خلون من شهر رمضان واستعمل عمرو بن اُم مكتوم على الصلاة بالناس، وردّ أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، فسلك طريقه من المدينة ـ وبعد ما قطع منازل ـ نزل على واد يقال له « ذفران ». وكان أبوسفيان حين دنا من الحجاز يتحسّس الأخبار ويسأل من لقى من الركبان حتّى أصاب خبراً من بعضهم أنّ النّبي قد استنفر أصحابه قاصداً إيّاه وعيره، فحذر عند ذلك، فاستأجر « ضمضم بن عمرو الغفاري » فبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أنّ محمّداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج « ضمضم بن عمرو » سريعاً إلى مكّة، ودخل وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، وقد جدع بعيره، وحوّل رحله، وشقّ قميصه، وهو يقول:

« يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث ».

فتجهّز الناس سراعاً وقالوا: أيظن محمد واصحابه أن تكون ( عيرنا ) كعير ابن الحضري، كلّا والله، ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين أمّا خارج وأمّا باعث مكانه رجلاً. وأوعبت قريش، فخرجوا كلّهم إلى الغزو، فلم يتخلّف من أشرافها إلّا أبا لهب فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة.

أقبل أبوسفيان بن حرب، وتقدّم العير حذراً، حتّى ورد الماء، فقال لـ‍ « مجدي بن عمرو »: هل أحسست أحداً. فقال: ما رأيت أحداً أنكره، إلّا إنّي قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن(١) لهما، ثم انطلقا، فأتى أبوسفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففتَّه فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى أصحابه سريعاً، فضرب وجه عيره عن الطريق وأخذ بها جهة

__________________

(١) أي قربة، وهي آلة حمل الماء.

٣١٨

الساحل وترك بدراً يساراً، وانطلق حتّى أسر ع.

ولـمّا رأى أبوسفيان أنّه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنّكم إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها الله، فارجعوا.

فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدراً ـ وكان بدر موسماً من مواسم العرب، يجتمع به سوق كل عام ـ فنقيم عليه ثلاثاً، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها.

فمضت قريش حتّى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي يتوسّط بينها وبين وادي البدر كثيب.

ثمّ إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش، فأظهر كل رأيه. فقال عمر بن الخطاب ـ مهوِّلاً خطورة الموقف ـ: إنّها والله قريش وعزّها، والله ما ذلّت منذ عزّت، والله ما آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزّها أبداً، ولتقاتلنّك، فاتّهب لذلك اُهبته، وأعد لذلك عدّته(١) .

ثمّ قام المقداد بن عمرر، فقال: « يا رسول الله، أمض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:( اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) . ولكن إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالّذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى بَرْك الغِماد(٢) ، لجادلنا معك من دونه حتّى تبلغه ». فقال له رسول الله خيراً ودعا له بخير.

ثمّ قال رسول الله: « أشِيروا عليّ أيّها الناس » وإنّما يريد ( رسول الله ) الأنصار، وكان يظن أنّ الأنصار لا تنصره إلّا في الدار، وذلك انّهم شرطوا له أن يمنعوه ممّا

__________________

(١) المغازي، للواقدي: ج ١ ص ٤٨.

(٢) موضع بناحية اليمن، وقيل هو أقصى حجر، وقيل إنّها مدينة في الحبشة.

٣١٩

يمنعون منه أنفسهم وأولادهم، وعند ذلك قام سعد بن معاذ، فقال: « أنا اُجيب عن الأنصار، وكأنّك تريدنا يا رسول الله ؟ » قال: « أجل » ; قال:

« فقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق، وآتيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطّاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الّذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، وإنّا لصبُرٌ في الحرب، صُدُق في اللقاء، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله ».

فسرّ رسول الله بقول سعد، ونشّطه ذلك، ثمّ قال: « سيروا وابشروا، فإنّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله كإنّي الآن أنظر إلى مصارع القوم ».

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى خروج قريش من مكّة وإصرارهم على إدامة السير إلى وادي بدر ليقيموا هناك أيّاماً يسقون الخمر وتعزف عليهم القيان بقوله سبحانه:( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) ( الأنفال / ٤٧ ).

روى ابن عباس في تفسيرالآية: « لـمّا رأى أبوسفيان أنّه أحرز عيره، أرسل إلى قريش أن ارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتّى نرد بدراً »(١) وقد تقدّم ذكره.

إنّ غزوة بدر، كانت أوّل غزوة قام بها المسلمون، ولم يكن لهم تدريب في الحرب، ولأجل ذلك كره فريق من المؤمنين الحرب، قال سبحانه:( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ *يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ) ( الأنفا ل / ٥ ـ ٦ ).

والآية ظاهرة في كراهة لفيف من المؤمنين للخروج من المدينة عند مغادرتها، ويحتمل أن تكون إشارة إلى كراهة بعضهم للخروج في مجلس المشورة في منطقة « ذفران »، وقد تعرّفت على بعض نصوص الكارهين.

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ٥٤٨.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581