مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 273299 / تحميل: 6502
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

موتها !

عند ذلك ، يجتمع اقرباءهم ومعارفهم في البيت ويعقدون مجالس عزاء وبكاء و أمّا الفتاة التي شفيت واُمها والنسوة اللاتي معهنّ فيركبن الىٰ طهران ، وللمرة الثانية تبرق الاُم خبر حركتها وابنتها الىٰ طهران ، لكن خبر موت الفتاة كان من القوة بحيث لم يصدق اهلها البرقية الثانية ، الىٰ ان يتأكدوا من صحتها وانها شفيت ! فيتجمعون في محطة بهشهر لاستقبال تلك القافلة الصغيرة والمباركة القادمة من مشهد !

ينتشر الخبر بسرعة في بهشهر ، فيأتي الاطباء الذين راجعتهم من قبل ويصدقون شفاءها التام. وقد مضىٰ علىٰ الحادث اربعة سنوات فقط ، والفتاة لا تزال بصحة جيدة دون اية علامات مرضية حتىٰ جزئية ، كما ان الاطباء الذين عالجوها في بهشهر وساري وبابل وطهران وكذلك الجراحون الذين اجروا لها عمليتين جراحيتين ، لا يزالون علىٰ قيد الحياة ، وهكذا الفحوصات والصور الشعاعية لا تزال موجودة.

هذه ثلاث حوادث غير طبيعية ولا تنسجم والاسباب والعلل العادية ، وهي من المعاجز التي وقعت في السنوات الاخيرة ، وجميعها كنت شخصياً قريباً منها ، ولو اردت ان اذكر لكم ما سمعته ، فأن مجلسي يطول اشهراً وسنوات !

المعجزات من الزاوية الطبيّة والعلميّة

من حسن الحظ ليس لدىٰ العلوم العصرية دليلاً قطعياً ينفي وجود

١٢١

المعجزة والاُمور الخارقة ، بل ان تلك الحوادث غير الطبيعية والتي لا تتفق مع أي علة او سبب طبيعي كثيرة في بلدان العالم للحدّ الذي لفتت انتباه كبار علماء العصر واجبرتهم علىٰ الاعتراف بها صراحةً.

الدكتور الكسيس كارل(1) الفيزيولوجي(2) وعالم الاحياء(3) أوّل من حاز علىٰ جائزة نوبل(4) في الولايات المتحدة ، والذي يشغل منصب رئاسة العديد من المراكز الطبية والعلمية في اوروبا وعضو في الكثير منها ، يقول في كتابه « الانسان ذلك المجهول » :

هناك من يؤمن بالمعجزات والعلاجات السريعة في الاماكن المقدسة في كل عصر ومكان ، اما اليوم فقد ضعفت اسس تلك العقائد ، كما ان بعض الاطباء ينفون وجود المعجزة بشكل تام ، ومع ذلك يجب التأمل في تلك الامور التي نمتلك عنها مشاهدات !

وقد تم جمع العديد من تلك المشاهدات بواسطة مؤسسة لورد(5) الطبية ، ومعلوماتنا في التأثير السريع الذي يتركه الدعاء في شفاء المرضىٰ لا يتجاوز احوال المرضىٰ الذين كانوا يعانون امراضاً مختلفة ، مثل : السل والسرطان الجذام و وقد شفوا بالدعاء.

اما كيفية ذلك فلا تخلتف كثيراً عن بعضها فالغالب يعانون من آلام حادة

________________

(1) Dr. Alexis Carrel

(2) Phsiologist

(3) Biologie

(4) Nobel

(5) Lourde ، مأخوذة من محل يحج إليه الزوار المسيح للزيارة والدعاء.

١٢٢

وعوارض مرضية ، يشفون منها بسرعة ، وما هي الّا دقائق او ساعات حتىٰ تلتئم الجروح وتغيب علامات المرض وتفتح شهية المريضة ، وفي بعض الاحيان تختفي الاختلالات العملية قبل الصدمات العضوية.

في حين انه ومن اجل تغير شكل العظام في مرض البوت(1) او العقد اللنفاوية المصابة بالسرطان وعودتها الىٰ حالتها الطبيعية ، يحتاج في الاغلب الىٰ يومين أو ثلاثة !

وهذا الشفاء الاعجازي ، يصاحبه سرعة عجيبة في التئام الاصابات العضوية ، ولا شك ان ميزان هذا الألتئام والشفاء اسرع واكثر من الحدّ الطبيعي.

ويقول الدكتور الكسيس كارل أيضاً في كتاب « الدعاء » :

لقد قدمت مؤسسة لورد الطبية خدمات كثيرة في المجالات العلمية ، حيث اثبتت حقيقة هذه العلاجات ، فللدعاء بعض الاحيان تأثيرات عجيبة ، لقد كان هناك العديد من المرضىٰ يعانون آلاماً لا تنقطع جرّاء الجذام أو السرطان وتعفن الكلىٰ والسل الرئوي او العظمي و ، لكنهم شفوا بعد ذلك.

اصدقائي الاعزاء!

تلاحظون كيف يعترف الدكتور الكسيس كارل في كتابيه ، وكيف تنفي

________________

1 ـ Patt

١٢٣

المشاهدات القطعية والوثائق التي تم جمعها في كلية لورد الطبية ، نظريات بعض الاطباء ، وهذا الاعتراف من شخصية علمية كبيرة مثل الدكتور الكسيس كارل جديرة بالاهتمام ، لان العالم المذكور ليس كبعض المتدينين يتكلم فيما سمعه فقط ، وانما هو شخصية علمية معروفة ، لكلامه قيمة عالية في جميع انحاء الغرب ، كما ان لكلامه قيمة علمية خاصة.

هذا الرجل وبتلك المكانة العلمية التي يمتلكها ، يعترف بصراحة بالمعجزات استناداً الىٰ وثائق قطعية !

ويعترف الدكتور الكسيس كارل في كتابيه المذكورين بصراحة ؛ بأن بعض الامراض مثل البوت او سرطان الغدد اللمفاوية مع فرض علاجها فأنه يصاحبها تغيير في شكل العظام ، او يحتاج ذلك الىٰ ايام من اجل التئام الجروح او تحسن بعض الصدمات العضوية ، في حين ان هذا النوع من الشفاء ، تلتئم فيه الجروح بثواني او ساعات قليلة علىٰ ابعد مدىٰ ، وتزول فيه الصدمات العضوية.

ومن اعجب واخطر الامراض التي ذكرها الدكتور كارل ، هو مرض السرطان ، الذي لا يزال العلم عاجز عن علاجه ، او اكتشاف دواء له ، للحد الذي مات فيه قبل سنة وزير خارجية امريكا ، دالاس بهذا المرض وهو في اكثر البلدان تطوراً في مجال الطب ، وهذا المرض الذي عجز العلم حتىٰ اليوم عن علاجه عدّة الدكتور كارل من جملة الامراض التي شفيت بالمعاجز والكرامات ؟!

١٢٤

وينقل الدكتور فرانك باخ(1) في كتابه « الدعاء اكبر قوة في الكون » مواضيع كثيرة ، تحت عنوان « الدعاء لأئمة العالم » او عناوين اخرىٰ ، وقد نقل الدكتور لاباخ بدوره قسم من تلك المواضيع عن صحيفة « يونايتد پرس » الامريكية المعروفة ، وقسم آخر منها عن شخصيات عديدة ، مثل : الجنرال كينك والجنرال مك آرثر ، والجنرال روي. اس. كايغر قائد القوة البحرية.

ولمزيد الاطلاع يمكن للسادة المحترمين الرجوع الىٰ كتابه المذكور وكذلك الىٰ الكراس الذي اعدّه البروفيسور ليونيان ، بعنوان « ما هي المعجزة ؟ ».

اذن فحدوث المعجزة او الامور غير العادية ، امر غير مرفوض حتىٰ في البلدان الغربية ، وقد اعترف بذلك كبار العلماء واهم المراكز الطبية بمنتهىٰ الصراحة ، وعلىٰ حدّ قول الدكتور الكسيس كارل : لقد خدمة مؤسسة لورد الطبية العلم كثيراً بأن اثبتت حقيقة مثل هذا الاستعلاج والشفاء.

ولادة عيسىٰعليه‌السلام بدون أب من منظار العلوم العصرية

الدكتور : كلامك مقنع جداً ، خاصة في استنادك الىٰ اقوال الدكتور كارل والدكتور فرانك لاباخ وبروفيسور ليونيان ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان كلام هؤلاء واعتراف مؤسسة لورد الطبية هو حول الامور الخارقة وغير الطبيعية

________________

(1) Dr. Frank Lawbach

١٢٥

الشائعة والتي تحدث عدة مرات في السنة الواحدة في اماكن التبرك والزيارة ، وليس كلامهم حول قضية اعجازية وغريبة يؤمن بها المسلمون ، وللأسف فان القرآن هو مصدرها ، في حين ان الايمان بمثل هذا الامر لا يمكن تفسيره علمياً بأي شكل !

هنا ينظر الحاضرون جميعاً! الىٰ الدكتور بتعجب ، فيما الشيخ ينصت له بإمعان ، لكي يعرف الموضوع الغريب الذي يعتبر القرآن مصدر الايمان به ، لكن الشيخ فقد صبره في النهاية وقطع كلام الدكتور قائلاً :

سعادة الدكتور ! ارجو ان تقول لنا بسرعة ما هو الموضوع الذي جعلك تعجب الىٰ هذا الحدّ !

الدكتور : الموضوع هو عقيد المسلمين ( مثل المسيح ) بعيسىٰ ، لان المسلمين أيضاً وتبعاً للقرآن الكريم يؤمنون ان عيسىٰ ولد بدون أب ! مع ان هذا الكلام مردود من منظار العلم.

الاصدقاء جميعهم : نظرية الدكتور صحيحة تماماً ونحن جميعاً نؤيدها ، لان ولادة طفل بدون أب من المواضيع التي لا تنسجم واية واحدة من الاُصول العلمية ، ولذلك تجد المسلمين لا يتحدثون بذلك إلّا حول عيسىٰ فقط.

الشيخ : اساساً ، هذا الموضوع الذي يراه السادة الاعزاء غريباً يتطابق والقواعد العلمية والاكتشافات العصرية ، ولكن من اجل توضيح المسألة التي ترونها عجيبة ومردودة ، أودُّ الاستماع الىٰ كلامي بدقّة.

الاصدقاء جميعاً : اطمئن يا عمّ ، كلنا آذان صاغية.

١٢٦

الشيخ : من اجل تشكيل الجنين في الرحم ، لا يكفي فقط وجود الأب ، كما يتصوّر اغلب الناس ، بل يحتاج أيضاً الىٰ الخلايا الحيّة الموجودة في بويضة المرأة ، فالحيمن الموجود في نطفة الرجل والذي يسمىٰ« اسبرما توزويد »(1) يلتقي ببويضة المرأة التي تسمىٰ « اوفل »(2) بعد عبوره من المهبل وعنق الرحم ، وفي الرحم أو في أنابيبه ( انبوبا فالوب ) يتمُّ لقاح البويضة ، ويتّحد معها الحيمن وينتج عن ذلك كائن جديد يتحول الىٰ جنين في الرحم.

اذن ، ليس فقط يشترك الرجل والمراة في التركيبة الاولية لجسم الطفل والتي تمسىٰ « النواة » ، بل ان حصة المرأة في تلك الخلية الاولية ( النواة ) وعلىٰ حدّ اعتراف الدكتور كارل وعلماء آخرين ، اكثر من الرجل ، لان البروتوبلاسم الذي يحيط بهذه النواة يأتي من المرأة ولا يشترك معها الرجل في ذلك !

خلاصة الكلام ، هو ان اهمية نطفة المراة في التشكيل الاولي لجسم الطفل بحدّ يمكن معه تهيئة المواد الموجودة في نطفة الرجل من الخارج وبذلك تنتفي الحاجة لنطفة الرجل في تكوين الجنين ، استناداً لشهادة العلوم والاكتشافات العصرية ، في حين ان الحاجة لنطفة المرأة اساسياً ولا يمكن استبدالها بغيرها.

يقول عالم الاحياء « الدكتور الكسيس كارل » :

عندما افكر في حصة كل من الاب والام في التكاثر ، عليَّ ان اتذكر

________________

(1) Spermatozoide

(2) Ovel

١٢٧

تجارب لوب(1) باتايون(2) حيث تمكنا من ايجاد ضفدعة من بويضة غير ملحقة ودون تدخل حيمن وذلك عن طريق تقنيات خاصة ، وبهذا الشكل يمكن استبدال الحيمن بعوامل كيميائية او فيزيائية ، في حين انه لا يمكن الاستغناء عن بويضة المرأة بأي حال(3) .

وبالاضافة الىٰ ذلك فنظرية « ولادة الباكر » مطروحة علمياً علىٰ المستوىٰ العالمي ، وهي حقيقة يذعن لها الطب.

ايها السادة !

تلاحظون كيف يعترف الدكتور كارل صراحة انه يمكن استبدال حيمن الرجل بعامل فيزيائي او كيميائي ، بل ان لوب وباتايون قد جربّوا هذه النظرية العلمية فيما يخص الضفدع ، وكانت النتيجة ايجابية.

ومع الاخذ بما ذكرناه اعلاه ، فهل من التعجب او الغريب ان يستطيع خالق الكون الذي منح القوة للانسان ودلّه علىٰ آلاف القوانين التي تسيّر الكون ان يخلق طفلاً ( عيسىٰ ) من امرأة ( مريم ) بدون أب ؟ في حين ان الانسان الذي هو مخلوق تلك القوة الجبارية يمكنه ان يوجد جنيناً من خلال ادخال عوامل فيزيائية او كيمياوية علىٰ بويضة المرأة ودون الحاجة الىٰ حيمن الرجل ، علىٰ الرغم من محدودية عقله وامكانياته ؟!

________________

(1) Loeb

(2) Bataillon

(3) الانسان ذلك المجهول.

١٢٨

واستناداً الىٰ تلك التجربة العلمية القطعية ، فهل من الصحيح القول : ان ايمان المسلمين في ولادة عيسىٰ ـ عليه وعلىٰ نبينا وآله السلام ـ بدون اب ، لا ينسجم والاصول والقواعد العلمية ؟!

١٢٩

ما تحدّث به علماء اوروبا حول نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله

الدكتور : لقد استفدنا كثيراً من المواضيع التي طرحتها ، ونحن مسرورون بلقائنا رجلاً عالماً مثلك ، لذا نطلب منك ان تتحدث عن الموضوع الثالث الذي وعدتنا به ، اي نفوذ نبي الاسلام في العصر الحاضر.

الشيخ : بعد شكري لشعوركم النبيل ، ابدأ كلامي في الموضوع الثالث الذي وعدتكم به.

اصدقائي !

أي شخص يمتلك اقل اطلاع عن مقولات كبار العلماء والمستشرقين أو انه رأىٰ كتاباتهم ، تتضح له هذه الحقيقة دون اي شك ، وهي : ليس هناك عالم منصف او شخص يمتلك اقل المعلومات حول نبي الاسلام ، إلّا وعظّمه واحترمه واجلّه ونظر اليه نظرة جديرة بشخصية عالمية عظيمة في تاريخ البشرية ، والحقيقية هي ان الاقلام غير المفرضة والصادقة عندما تريد الكتابة عن احوال افضل شخص في عالم الانسانية ، كتبت عن حياة رسول الاسلام المليئة بالفخر والاعتزاز.

ونستطيع القول : ما عدا مجموعة قليلة من اشباه العلماء الذين وظّفوا

١٣٠

علومهم للتقرب غير المشروع الىٰ اجهزة السلطات القوىٰ العظمىٰ الدنيئة ، وما عدىٰ اقلام السوء التي تتحرك للابقاء والمحافظة علىٰ سلطات البابا والقساوسة الذين نسوا الله وتاهوا في بحر الضلال ، وما عدىٰ اولئك الذين باعوا شرفهم وانسانيتهم مقابل حفنة من الدنانير والدراهم ، وبشكل عام ، ما عدىٰ اولئك الذين يعدّون عار تاريخ البشرية ، لا يوجد انسان حرّ وصاحب نظرة ثاقبة وسليمة او عالم مطلع في اي من الاديان والمذاهب ، إلّا ويحني رأسه امام عظمة رسول الاسلام الكريم ، وذكره بأفضل الكلمات والتعابير.

لا اتكلم عبثاً

ولكي يعلم اصدقائي ، ان كلامي ليس عبثاً وانما يستند الىٰ دليل ، ومن اجل ان يعرفوا ان نفوذ نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله العلمي في القلوب الطاهرة لاكثر العلماء غير المسلمين ليست هي بأقل من نفوذه في قلوب اتباعه ، سأذكر لكم اقوال بعض اشهر علماء العالم حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( للحد الذي يسمح به وقت سفرنا القصير ).

ولكن قبل ان ابدأ بنقل كلام اولئك العلماء ، اود ان الفت انتباه اصدقائي الاعزاء الىٰ اهمية الموضوع ، وهو انه ليس عجيباً لو قام شخص مسلم بمدح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والثناء عليه لانه علىٰ اي حال من اتباعه.

ولأن ذلك المسلم ومهما كان عالماً ، فانه ينظر اليه علىٰ انه رسول من قبل الله سبحانه وتعالىٰ ، وسيحكم علىٰ الرسول ، علىٰ اساس ايمانه هو بالنبوة.

١٣١

أمّا اذا امتدحه عالم غير مسلم وشخصية علمية كبيرة تعتنق ديانة وعقيدة اخرىٰ علىٰ الرغم من تعصبه الطبيعي الذي يحمله لمعتقده ، فذلك جدير بالاهتمام وله قيمته الخاصة ، لان ذلك الشخص ينظر بعين علمية مجردة الىٰ الرسول ويدرس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والديانة التي اتىٰ بها من الناحية القانونية ، وعلىٰ هذا الاساس يحق لنا ان نعجب اذا اعتبر احد علماء المسيحية ـ مثلاً ـ وهو الذي تَبعَ عيسىٰ المسيح ، ان رسول الاسلام شخصية كاملة وفذّة في تاريخ الانسانية وهو اكمل وافضل البشرية كمالاً وملكات اخلاقية وعلمية

وهنا ننقل لكم بعض ما قاله او كتبه العلماء غير المسلمين من الشرق الغرب ، حول نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله :

1 ـ ماذا يقول بك الخوري ؟!

بك الخوري احد كبار علماء المسيحية ، وفي احدىٰ التجمعات الرسمية التي اقيمت في دمشق. وضمن خطاب طويل ، قال :

هذا هو محمد ، اعظم عظماء الدنيا ، وسوف لن ترىٰ الدنيا مثيلاً له ، فدينه المقدس ، اكمل اديان العالم ، وشريعته المقدسة ، تحتوي علىٰ اربعة آلاف مسألة علمية واجتماعية وادبية وتشريعية(1) .

لقد دعىٰ رسول الاسلام الناس باسم الله المبارك الىٰ دينه ، والشريعة

________________

(1) الظاهر أن هذا العالم المسيحي لم يلحظ إلّا أربعة آلاف مسألة من المسائل الاسلامية وإلّا فأن هذا الرقم الصغير لا يكفي لبعض كتب الفقهاء لوحدهم.

١٣٢

المقدسة التي اتىٰ بها هذا الرجل الكامل للانسانية ، لابد ان يصدقها اي عالم ومشرّع منصف ، لان هذا الدين يخطوا الىٰ الامام الىٰ جانب العلم ، وهو مطابق لاسمىٰ نظام كامل للحقائق العلمية.

محمد اعظم العظماء السابقين واللاحقين علىٰ الارض

لقد استطاع بشكل جيد ان يجعل من العرب الذين كانوا يعيشون الفرقة والجاهلية ، امة واحدة وموحدّة ، واستطاع ان يفتح العالم آنذاك ، ولقد اتىٰ بأكبر دين يحتوي علىٰ جميع الحقوق والواجبات والاصول في التعامل بين الناس علىٰ اساس ارقىٰ واكمل الاحكام في العالم.

2 ـ رسالة الدكتور شمّيل التاريخية ؟!

الدكتور شبلي شمّيل ، أحد كبار مفكري وفلاسفة مصر في القرن الاخير ، وهو من قادة المذهب المادي ولم يكن يعتنق اية ديانة ، يقول في احدىٰ رسائله الىٰ السيد محمد رشيد رضا ، صاحب تفسير ومجلة ( المنار ) :

« يا غزالي العصر ، أيُّها السيد محمد رشيد رضا ، انت تنظر الىٰ محمد كرسول وتراه عظيماً وجليلاً ، ولكني انظر اليه كأحد البشر ، أراه اكبر ممّا تتصوّره أنت ، مع اننا نختلف عقائدياً ، لكننا نتّفق علىٰ اساس العقل والصدق في الكلام وقول الحق والانصاف والحياد ثم يسرد قصيدة طويلة في آخر رسالته في مدح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا نذكرها هنا اختصاراً للكلام.

١٣٣

3 ـ كلام الدكتور غوستاف لوبون

الدكتور غوستاف لوبون الفرنسي ، من اشهر علماء اوروبا ، ويحمل شهادة في الطب والاجتماعيات والطبيعيات ، وقد جمع الكثير في كتابه « حضارة الاسلام والعرب » من خلال الجهود الكثيرة التي بذلها والدراسات التي قام بها ومن خلال سفره وسياحته التي افنىٰ عمره من اجلها ، حول عظمة نبي الاسلام والمسلمين واحكام الاسلام وقوانيه.

لقد تجاوز الدكتور لوبون في هذا الكتاب العصبية الدينية ونشر الكثير من الحقائق في اوروبا لصالح المسلمين ، وقد نقلنا فيما سبق كلاماً عن هذا العالم ، كما سننقل عنه لاحقاً ان شاء الله كلاماً كثيراً ، كل في محله المناسب.

4 ـ اعترافات توماس كارلايل(1)

توماس كارلايل الانجليزي ، هو أحد علماء اوروبا الاجلاء ، يقول في كتابه المترجم الىٰ العربية تحت عنوان « الابطال » اُموراً كثيرة في عظمة نبي الاسلام وشريعته المقدسة وقرآنه المجيد.

وقد جاء في قسم من الكتاب :

عندما نتأمل في بلاغه القرآن ، بغض النظر عن ان هذا الكتاب المبارك هو

________________

(1) Carrlaele

١٣٤

وحي سماوي والهي ، نرىٰ انه ابلغ كتاب دوّن بالعربية من حيث اللفظ والعبارة ، ولا احد يتدبر في القرآن الذي جاء به نبي الاسلام ، الّا ورأىٰ انه قريب من حقائق جوهرية ظاهرة ومعلومة عنده ، بمعنىٰ ان القرآن يعود الىٰ اصل حقيقي ومرتبط بمبدأ عالي ومقدس.

وهذه القضية واضحة وهي ان كل كلام حقيقي وصحيح وصادق له نفوذ وسلطة خاصة في القلوب ، والحق هو ان جميع الكتب ، سماوية وغيرها تتصاغر امام القرآن الكريم وعظمته ، وهذا الكتاب الذي هو الكتاب السماوي لنبي الاسلام خال من كل عيب أو نقص ومن كل باطل.

5 ـ ليون تولستوي(1)

ليون تولستوي من كبار علماء روسيا ، يقول في كتابه « حكم محمد » :

« من أراد ان يطلع علىٰ سهولة وبساطة الدين الاسلامي ، عليه ان يقرأ القرآن بدقّة ، لان القرآن يحتوي علىٰ احكام وتعاليم وحقائق واضحة وبينة وسهلة وبسيطة ، حيث يمكن لكل واحد من البشر الاستفادة منه.

وفي هذا الكتاب المقدس ، هناك آيات شريفة لها دلالة تامّة علىٰ سمّو منزلة هذا الدين وطهارة روح هذا الذي نزل عليه المقدّسة ، أي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

________________

(1) Lion Tolstue

١٣٥

6 ـ المسيو سافاري

المسيو سافاري من المستشرقين الفرنسيين ، وقد ترجم القرآن الىٰ الفرنسية أيضاً ، وفي مقدمة ترجمته يتحدث كثيراً عن القرآن المقدس وعظمة الذي نزل علىٰ صدره ، أي نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي هذه المقدمة أيضاً ، هاجم بشدة القساوسة وعلماء النصارىٰ المغرضين الذين كانوا يسعون للنيل من الاسلام المقدس والقرآن الكريم.

7 ـ المسيو سديل(1)

المسيو سديل من كبار المؤرخين الفرنسيين ، يقول في تاريخ حياة الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله حول الاسلام والقرآن الكريم :

« لم يترك القرآن شيئاً من الآداب والحكمْ لم يتطرق اليها ، وأساس هذا الكتاب المقدّس مبني علىٰ العدل والاحسان والحكمة ، وهو يهدي المجتمع البشري نحو الفضيلة والانسانية والكمال.

معارف الاسلام الوضاءة واحكام القرآن جعلت اعداءه يرغمون ويرضخون امامه ، ويكفي ان نقول في عظمة هذا الكتاب المقدس والنبي الذي جاء به ، انه جعل من عرب الصحراء المتوحشين الذين لم يكونوا يملكون أي امتياز ، بل كانوا غارقين في بحر الرذيلة ، اُناساً سعداء وبمستوىٰ هداة ومعلمي

________________

(1) Sidillat

١٣٦

البشرية ».

8 ـ غويته(1)

يقول الشاعر الالماني الشهير غويته :

«لقد ابعدنا قساوستنا الغافلون عن الله سنوات طويلة عن معرفة حقائق القرآن المقدس والذي جاء به ، لكننا ، كلما خطونا الىٰ الامام في طريق العلم والمعرفة ، ونفضنا عن انفسنا غبار العصبية الباطلة ، زاد تعجبنا بعظمة احكام الاسلام المقدسة الذي يعد القرآن المجموعة الكاملة لها.

وسيلتفت جميع العالم في القريب العاجل الىٰ عظمة هذا الكتاب ( القرآن ) الذي لا يوصف ، وسيكون له تأثير عميق في علوم العالم ومعارفة ، وبالنهاية سيكون محور العالم ».

9 ـ السيد بلر

السيد بلر من علماء اوروبا المعروفين ، تحدث كثيراً في كتابه حول نبي الاسلام وقوانينه النيّرة وقرآنه المجيد.

________________

(1) Guithe

١٣٧

10 ـ جون ديفنبورت(1)

جون ديفنبورت الانجليزي ، يقول في كتابه الذي اسماه « عذر التقصير الىٰ ساحة محمد والقرآن » :

« من المحيط الاطلسي وحتىٰ سواحل نهر كنغ لا يعد القرآن قانوناً فقهياً فحسب ، بل دستوراً يحتوي النهج القضائي والانظمة المدنية والجزائية ويحتوي ايضاً جميع القوانين التي تدبر جميع العمليات المالية للبشر.

وعقيدة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وايمانه خالية من الشوائب وسوء الظن والابهام والشكوك.

11 ـ اللورد بيدلي

يقول اللورد بيدلي في كتاب « نداء الاسلام في الغرب » :

« لمحمد طمأنينة ووقار وخصوصيات لا تحصىٰ وهو يعارض جميع الخرافات والاوهام والالحاد.

والقرآن هو دستور واساس الدين المقدس الذي جاء به محمد ، ويحتوي القرآن علىٰ جميع المسائل الاجتماعية والاحكام والقوانين الالهية ، من أجل سعادة البشر وراحتهم.

________________

(1) John Davenport

١٣٨

والبشر دائماً بحاجة الىٰ مرشد سواءً في الماضي او الحاضر ، لكي يصلوا الىٰ محل السعادة والحقيقة الابديتين. وقد ظهر هذا المرشد الكبير في شبه الجزيرة العربية ، وطرح للبشر كتاباً محكماً ، حيث كان يمتلك القدرة والجدارة في القيادة.

ونحن نطلب ان يوجد لنا الدين الالهي العدالة الاجتماعية والمساواة والحريّة التي لابد ان تسود بين جميع الاقوام.

والأناجيل الاربعة التي توجّه المسيحية ، لا يمكنها القيام بهذه المسؤولية ، لان من جملة حقوقنا الفردية والاجتماعية حق الحياة ، والحياة قصاص ، وهو ما سلبته منا الاناجيل الأربعة.

لكن القرآن المقدّس حارس وحافظ علىٰ اموال وارواح واعراض البشر ، وله احكام مؤكدة في استرداد الحقوق المغصوبة ».

12 ـ ماذا يقول اسير وليام موليس ؟

وهو من علماء بريطانيا ، يقول في كتاب « سيرة محمد » :

« قرآن محمد كتاب مليء بالدلائل الواضحة والمنطقية والعديد من المسائل العلمية والاحكام القضائية والقانونية والأوامر المؤكّدة من أجل الحفاظ علىٰ الحياة الاجتماعية والمدنية ، وقد جاءت في هذا الكتاب المقدس بعبارات بسيطة وفي نفس الوقت محكمة ومنظمة ، حيث تجذب القارئ اليها ».

١٣٩

13 ـ اعتراف غريب لفولتير(1)

المفكر الفرنسي المعروف فولتير ، يقول حول مارتين لوثر(2) :

ان لوثر ليس جديراً بان يحلّ خيط حذاء محمد.

14 ـ كلام من برناردشو(3)

يقول الفيلسوف الانجليزي المعروف ، برناردشو : « محمد اعظم الانبياء ، ولو كان يحكم دنيا اليوم لحلّ جميع العقد والمشاكل التي تعاني منها البشرية واحدة بعد اُخرىٰ بحكمته ودرايته ». ويضيف :

« أي انّ دين محمد هو الدين الوحيد الذي يتناسب وجميع ادوار الحياة البشرية ، وبأستطاعته ان يجذب إليه جميع الاجيال. لكني اتصوّر ان اوروبا في المستقبل ، ستقبل علىٰ دين محمد وآثار ذلك ظاهرة اليوم ، يجب ان نعتبر محمد منقذّ البشرية ».

________________

(1) Valtaire

(2) Martin Lather ، أحد قادة الاصلاح الديني المسيحي في القرن السادس عشر في أوروبا ( المانيا ) وكان هو شخصياً من الروحانيين المسيحيين الاحرار المثقفين ، اعترض على فساد الكنيسة الكاثوليكية وترجم الانجيل إلى الالمانية وأوجد مذهباً جديداً في المسيحية ( البروتستانية ). ( المترجم )

(3) Birnard Show

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

ثُمَّ إنّه سبحانه يبيح لهم ـ رحمة منه ـ ما تسلّط عليه المسلمون من أموال المشركين، وما أخذوا من الأسرى للفداء، ويقول:( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) وحاصل مضمون الآيات الثلاث عبارة عن:

١ ـ إنّ أخذ الأسرى قبل الاثخان غير مشروع في الشرائع السماويّة.

٢ ـ لولا كتابٌ من الله سبق، لمسّ المسلمين في أخذ الأسرى قبل الاثخان عذاب عظيم.

٣ ـ لقد أباح الله سبحانه الجميع من الأموال والأسرى رحمة منه.

الوعد الجميل للأسرى

إنّ فداء كل رجل من المشركين يوم بدر كان أربعين أوقية والأوقية أربعون مثقالاً، إلّا العبّاس فإنّ فداءه كان مائة مثقال، وكان اُخذ منه حين اُسر عشرون أوقية ذهباً، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ذلك غنيمة ففاد نفسك، وابني أخيك نوفلاً وعقيلاً. فقال: ليس معي شيء. فقال: أين الذّهب الّذي سلّمته إلى أم الفضل وقلت: إن حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد الله وقثم ؟ فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال: الله تعالى. فقال: أشهد أنّك رسول الله، والله ما اطّلع على هذا إلّا الله.

ثمّ إنّه سبحانه ـ رحمة منه ـ يعد الأسرى بأنّهم إن آمنوا، واتبّعوا الحق، يؤتهم خيراً ممّا اُخذ منهم، ويغفر لهم، ولكنّهم إن أرادوا خيانتك بعد اطلاق سراحهم بالفداء، والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد، فقد خانوا الله من قبل، فأمكنك منهم، وأقدرك عليهم، وهو قادر على أن يفعل بهم ذلك ثانياً، كما يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / ٧٠ ـ ٧١ ).

٣٤١

وروي أنّه قدم مال من البحرين يقدر بــــ « ثمانين » ألفاً، وقد توضّأ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لصلاة الظهر، فما صلّى يومئذ حتّى فرّقه، وأمر العباس أن يأخذ منه، ويحثي، فأخذ، فكان العبّاس يقول: هذا خير ممّا اُخذ منّا، وأرجو المغفرة(١) .

__________________

(١) لاحظ مجمع البيان: ج ٢ ص ٥٥٧ ـ ٥٦٠، والميزان: ج ٩ ص ١٣٦ ـ ١٤٠.

٣٤٢

٢ ـ غزوة أحد(١)

لقد كانت لغزوة « بدر » أصداء في عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وما بعده، وقد أوجد انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها خوفاً ووجلاً في قلوب المشركين، خصوصاً بعد ما شاع خبر أنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طرح أجساد قتلىٰ المشركين في القليب، ووقف عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخاطبهم بقوله: يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً، فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً. فلمّا قيل لرسول الله: أتكلّم قوماً موتى، أو أتنادي قوماً قد جيفوا ؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.

فلمّا بلغ خبر انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهزيمة المشركين إلى مكّة، ناحت قريش على قتلاها، ثمّ منعت النياحة بتاتاً في مكّة ونواحيها حذراً من شماتة المسلمين أوّلاً، واستنهاضاً لعزائمهم لأخذ الثأر ثانياً، فإنّ النياحة والبكاء وسكب الدّموع تهبّط العزائم، وتثبّط الهمم.

وكان الأسود بن عبد المطلب قد اُصيب له ثلاثة من ولده، وكان يحب أن يبكي على بنيه، ولكنّه كان يكبح جماح مشاعره حذراً من نقمة قريش، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل اُحلّ النحب لعلّي أبكي على أولادي، فإنّ جوفي قد احترق، فرجع الغلام وقال: إنّما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته.

__________________

(١) وقعت غزوة اُحد يوم السبت لسبع خلون من شوّال في السنة الثالثة من الهجرة.

٣٤٣

فعند ذلك أنشأ يقول:

أتبكي أن يضل لها بعير

ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن

على بدر تقاصرت الجدود(١)

باتت قريش على تلك الحالة وصدورهم مليئة بالغيظ والحقد، وهم بصدد العزم على أخذ الثأر، وتحيّن الفرصة المناسبة لذلك.

ولأجل ذلك مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن اُميّة، في رجال من قريش ممّن اُصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلّموا أباسفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إنّ محمّداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال ( اشارة إلى العير الّتي أقبل بها أبوسفيان من الشام إلى مكّة ) على حربه، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا، ففعلوا، وفي ذلك نزل قوله سبحانه:

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) ( الأنفال / ٣٦ )(٢) .

فاجتمعت قريش لحرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن أطاعهم من قبائل كنانة، وأهل تهامة. وكان أبو عزّة عمرو بن عبد الله الجمحي قد منّ عليه رسول الله يوم بدر، وكان فقيراً، ذا عيال وحاجة، وكان في الأسارى، فقال: إنّي ذو عيال وحاجة، فامنن عليّ صلّى الله عليك ؛ فمنّ عليه رسول الله. فقال له صفوان ابن اُميّة: يا أبا عزّة إنّك إمرؤٌ شاعر، فأعنّا بلسانك، فاخرج معنا ؛ فقال: إنّ محمداً قد منّ عليّ، فلا اُريد أن أظاهر عليه. قال: بلىٰ، فاعنا بنفسك، فلك الله عليّ إنْ رجعت أنْ أغنيك، وإن أصبتَ أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهنَّ ما أصابهنَّ من عسر ويسر. فخرج أبو عزّة في تهامة.

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٦٤٨.

(٢) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٦٠، ومجمع البيان: ج ٢ ص ٨٣٢، نقلاً عن أبي إسحاق.

٣٤٤

خرجت قريش بحدّها وجدّها، وحديدها وأحابيشها(١) ومن تابعها من بني كنانة، وأهل تهامة، وخرجت معهم النساء في الهوادج التماس الحفيظة وألّا يفرّوا. فخرج أبوسفيان بهند بنت عتبة، وخرج عكرمة بأمّ حكيم، وهكذا.

فخرجوا حتّى نزلوا على شفير الوادي مقابل المدينة، وهم ثلاثة آلاف بمن انضم إليهم، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل، وخرجوا بعدّة وسلاح كثير، وقادوا مائتي فرس، وكان فيهم سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف بعير.

ثمّ إنّ العباس بن عبد المطّلب أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنيّة القوم، ومسيرهم نحو المدينة وعددهم وعُدّتهم، فكتب كتاباً وختمه، واستأجر رجلاً من بني غفار، واشترط عليه أن يسير ثلاثاً، فوجد رسول الله بقباء، فدفع إليه الكتاب، فقرأه عليهم اُبيّ بن كعب، واستكتم اُبيّاً ما فيه. فدخل منزل سعد بن الربيع، فأخبره بكتاب العباس، وجعل سعد يقول: يا رسول الله إنّي لأرجو أن يكون في ذلك خير.

فلمّا سمع رسول الله نزولهم على شفير الوادي، شاور قومه في الخروج عن المدينة، أو البقاء فيها، فاختلفت آراء أصحابه، فكان عبد الله بن اُبيّ وأصحابه يكرهون الخروج، فقالوا: يا رسول الله أقم بالمدينة لاتخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلّا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلّا أصبنا منه.

وكان الشّباب من أصحاب الرّسول يصرّون على الخروج، ويقولون: « أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنّا جبنا عنهم وضعفنا ».

فلمّا رآى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اصرار هم على الخروج. وهم يقولون: ( هي إحدى الحُسنيين إمّا الشهادة وإمّا الغنيمة )، صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الجمعة بالنّاس، ثمّ وعظهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثمّ صلّى العصر، وصفّ النّاس له ما بين منبره وحجرته، فجاء هم سعد بن معاذ، وأسيد بن

__________________

(١) الأحابيش من اجتمع إلى العرب وانضمّ إليهم من غيرهم.

٣٤٥

حضير، فقالا للنّاس: قلتم لرسول الله ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج، فردّوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، فبينا القوم على ذلك، إذ خرج رسول الله قد لبس لامّته ودرعه، وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم، فقالوا يا رسول الله: استكرهناك، ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلّى الله عليك، فقال رسول الله: ما ينبغى لنبيّ إذا لبس لامّته أن يضعها حتّى يقاتل، فخرج في ألف من أصحابه(١) .

عودة المنافقين القهقرى إلى المدينة:

كان عبد الله بن اُبيّ ممّن أبدى الإصرار على الإقامة في المدينة والتحصّن بها فلمّا رأى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ترك رأيه وأخذ برأي الآخرين، فقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا، فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والريب، وهم ثلث النّاس، واتّبعهم عبد الله بن عمرو، فقال: ياقوم اُذكّركم الله إلّا تخذلوا قومكم ونبيّكم عندما حضر من عدوّهم ؛ قال عبد الله بن اُبىّ: لو نعلم أنّكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنّا لا نرى أنّه يكون قتال.

فلمّا استعصوا عليه وأبوا إلّا الإنصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيّه.

وفي ذلك نزل قوله سبحانه:( وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران / ١٦٧ ).

وقد أوجد رجوع رئيس النفاق في أثناء الطريق شقاقاً وخلافاً بين أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على نحوين:

١ ـ فقال قوم من المسلمين: نقاتل قريشاً، وقال آخرون: لا نقاتلهم، وفي ذلك نزل قوله سبحانه( فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ

__________________

(١) المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢١٣، والسيرة النبويّة: ج ٢ ص ٦٣.

٣٤٦

أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) ( النساء / ٨٨ ).

فالآية تشير إلى أنّ المسلمين صاروا في أمر ما صار إليه المنافقون فرقتين مختلفتين، فمنهم من مال إلى مقالتهم ومنهم من يخالفهم في الرأي.

٢ ـ همّت طائفتان من المسلمين أن تأخذ برأي رئيس النفاق، ويرجعا في أثناء الطريق، وهما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار، وإليه يشير قوله سبحانه:

( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران / ١٢١ و ١٢٢ ).

نزول رسول الله أرض أحد:

لـمـّا انتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أحد، جعل جبل اُحد خلف ظهره، واستقبل المدينة، وجعل عينين عن يساره، وجعل الرماة وهم خمسون رجلاً على عينين(١) عليهم عبد الله بن جبير، فقال لرئيسهم: انضح الخيل عنّا بالنّبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فأثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.

ثمّ قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخطب النّاس وقال: إنّ جهاد العدو شديد، شديد كربه، قليل من يصبر عليه، إلّا من عزم الله رشده، فإنّ الله مع من أطاعه، وإنّ الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله(٢) .

وكان للمشركين كتيبتان ميمنة عليها خالد بن الوليد، وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل. وجعل رسول الله ميمنة، وميسرة، ودفع لواءه الأعظم إلى مصعب بن

__________________

(١) جبل باُحد له هضبتان بينهما معبر ينتهي إلى ساحة القتال.

(٢) راجع المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٢٢، وللخطبة صلة.

٣٤٧

عمير، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى سعد أو حباب بن المنذر، والرماة يحمون ظهورهم يرشقون خيل المشركين بالنّبل.

وعند ذلك دنا القوم بعضهم من بعض فقدّمت قريش صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة، وصفّوا صفوفهم، وأقاموا النساء خلف الرجال بالأكبار والدفوف، وهند وصواحبها يحرّضن ويَذْمُرن(١) الرجال ويذكرن من اُصيب ببدر.

وصاح طلحة بن أبي طلحة: مَن لبني عبد الدار ؟ وكانت راية قريش يوم ذلك بأيدي هؤلاء، فقال عليٌّعليه‌السلام : هل لك في البراز ؟ قال طلحة: نعم، فبرزا بين الصفين، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة، فالتقيا، فبدره عليٌّ، فضربه على رأسه، فمضى السيف حتّى فلق هامته حتّى انتهى إلى لحيته، فوقع طلحة، وانصرف عليٌّ(٢) .

ثمّ أخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة، فقتله عليٌّ وسقطت الراية، فأخذها مسافع بن أبي طلحة، فقتله عليٌّ. حتّى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار، حتّى صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له: صوأب، فانتهى إليه عليٌّ، فقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليسرىٰ، فضرب يسراه فقطعها، فاعتنقها باليدين المقطوعتين، فضربه على رأسه فقتله، فسقط اللواء، فأخذته عمرة بنت علقمة الكنانية، فرفعتها(٣) .

وقد كان لعليٍّعليه‌السلام مواقف مشهودة كما كان لأبي دجانة، والزبير بن العوّام، وفي ظل بطولة هؤلاء، ولفيف من غيرهم انهزمت قريش هزيمة نكراء لايلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف، فلمّا انهزم المشركون تبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حتّى أخرجوهم عن الساحة ثمّ اشتغلوا بعد وضع سيوفهم على الأرض بنهب ما استولوا عليه في معسكرهم.

__________________

(١) أي يحضضن الرجال باللوم على الفرار.

(٢) المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٢٦.

(٣) مجمع البيان: ج ١ ص ٨٢٥.

٣٤٨

وعند ذلك قال بعض الرماة لبعض: لِمَ تقيمون ههنا في غير شيء ؟ قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم ينهبون معسكرهم، فادخلوا معسكر المشركين، فاغنموا مع إخوانكم. فقال بعض الرماة لبعض: ألم تعلموا أنّ رسول الله قال لكم: « إحموا ظهورنا، فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل، فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا، فلا تشركونا » فقال الآخر: لم يرد رسول الله هذا، وقد أذلّ الله المشركين وهزمهم، فادخلوا المعسكر، فانتهبوا مع إخوانكم، فلمّا اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن الجبير، وأمرهم بأن لايخالفوا لرسول الله أمراً، فعصوا، فانطلقوا فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد الله بن الجبير إلّا نفراً ما يبلغون العشرة، واشترك المنطلقون في النهب، واشتغلوا بما إشتغل به سائر المسلمين.

الهزيمة بعد الإنتصار:

قد كان الإنتصار حليف المسلمين في الغزوة، ولكن لـمّا خالف الرماة أمر رسول الله، وأخلوا مكانهم، رأى العدو أنّ جبل العينين قد أضحى خالياً من الرماة والمدافعين، وكان جبل العينين يقع على ضفّتين يتخللهما معبر، وينتهي مداه إلى المعسكر، وقد أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بوقوف الرماة على الضفّتين حتّى يمنعوا من دخول العدو من هذا المعبر على ساحة القتال، والحيلولة دون هجومه عليهم من خلفهم، ولـمـّا خالف الرماة باخلائهما، رأى العدو أنّ الفرصة مساعدة لمباغتة المسلمين، فأدار خالد بن الوليد ومن معه من وراء المسلمين(١) فورد المعسكر من هذا المعبر على حين غفلة من المسلمين بعد ما قتل من بقي من الرماة فوق الهضبة، وعند ذلك أثخنوا المسلمين ضرباً وقتلاً، فألقى كل مسلم ما كان بيده مما انتهب، وعاد إلى سيفه يسلّه ليقاتل به ولكنّ هيهات هيهات لقد تفرّقت الصفوف، وتمزّقت الوحدة، بعد أن كانت تقاتل تحت لواء قيادة قويّة حازمة حكيمة، وهي الآن أصبحت تقاتل ولا قيادة لها، فلم يكن عجباً أن ترى مسلماً يضرب مسلماً بسيفه، وهو لا يكاد يعرفه.

__________________

(١) ولعلّه نجح لذلك بإدارتهم على ظهر جبل اُحد حتّى دخل المعسكر من هذا المعبر.

٣٤٩

النداء بنعي النّبي:

والذي زاد في الطّين بلّة وأعان على تمّزق الصفوف، وتفرّق المسلمين عن ساحة الحرب، ولجوئهم إلى مخابئ الجبل وثناياه، سماعهم خبراً مكذوباً يهتف بموت النّبي، إذ نادى أحد المشركين أنّ محمّداً قد قتل، فعند ذلك سقط ما في أيدي المسلمين، وتفرّقوا في كل وجه، وصعدوا الجبل، والتجاؤا إلى المخابئ، فلم يبق إلّا الأقل القليل من أصحابه.

هذه هي الحالة التّي صار إليها المسلمون. وأمّا المشركون، فقد امتلأوا فرحاً وطرباً، واستنهضت هممهم كل يريد أن يشفي غليله بالمساعدة على الإجهاز على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي هذه المرحلة الرهيبة كيف يتصوّر حال النبيّ ؟ فهو بين تجرّع مرارة جلاء أصحابه من ساحة القتال، وبين مضض هجوم عدوّه بشراسة وحماسة تجاه موقعه وموضعه الّذي ربض فيه.

فلم يصمد معه في ساحة المعركة إلّا شرذمة قليلة، وعلى رأسهم ابن عمّه عليِّ بن أبي طالب، وأبو دجانة سمّاك بن خرشة، وكلّما حملت طائفة على رسول الله استقبلهم عليٌّعليه‌السلام ، فدفعهم عنه حتّى تقطّع سيفه، فدفع إليه رسول الله سيفه ذا الفقار، وانحاز رسول الله إلى ناحية جبل اُحد، فصار القتال من وجه واحد، فلم يزل عليٌّ يقاتلهم حتّى أصابه في رأسه ووجهه ويديه سبعون جراحاً. كان عليٌّ يدافع عن ساحة النّبي، والنّبي يريد اللجوء إلى جانب الجبل، كان النّبي على هذه الحالة إذ عرفه أحد أصحابه وهو كعب بن مالك، عرفه من عينيه وهما تزهران من تحت المغفر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فأشار إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أن أنصت(١) وإذا أردت أن تقف عن كثب على حقيقة الحال، وعلى ما حاق

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٨٣، والمغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٣٦.

٣٥٠

بالمسلمين من محنة وبلاء، وتقرّق وتشتّت، وهبوط معنويّاتهم، وخوار عزائمهم، فاستمع إلى هذا النص الّذي يرويه لنا ابن هشام حيث يقول:

انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدالله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: مايجلسكم ؟ قالوا: قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ استقبل القوم، فقاتل حتّى قتل، وبه سمّي أنس بن مالك(١) .

قد كان يوم أحد يوم بلاء ومحنة وتمحيص. أكرم الله تعالى فيه من أكرم بالشّهادة، ومحص فيه من لم يكن له ثبات عزم، وقوّة شكيمة في الدّفاع عن حريم الإسلام.

ولأجل فرار المسلمين، وجلائهم ساحة المعركة رشق العدو بالحجارة وجه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فاثقلوه جراحاً، فشجوا وجهه، وكسروا رباعيته، ولولا أنّ هنالك رجلاً مخلصين لنجدته، لقضي الأمر، ولكنّه سبحانه كتب على نفسه نصر المؤمنين، وإعزاز الرّسول، وتمكين دعوته.

إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مشى وحوله لفيف من أصحابه إلى فم الشعب، فلمّا استقرّ به الحال جاء عليٌّ بماء غسل عن وجه النبيّ الدّم، وصبَّ على رأسه وكان النبيّ يقول: اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه نبيّه، ونزع أبو عبيدة بن الجراح حلقتي المغفر من وجه الرّسول، فسقطت ثنيّتاه. ولـمـّا وقف المسلمون على أمر النبيّ، وعلموا موضعه تقاطروا عليه تترى من كل جانب، والتفّوا حوله.

وأمّا قريش فطارت بنصرها سروراً، وحسبت نفسها أنّها انتقمت لبدر أشدّ الإنتقام، حتّى بعد ما وقفوا على أنّ النبيّ حي لم يقتل، وحينما أراد أبوسفيان الإنصراف أشرف على الجبل ثمَّ صرخ بأعلى صوته فقال: إنّ الحرب سجال يوم بيوم

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٨٣.

٣٥١

أعل هبل ـ أي أظهر دينك ـ فأمر رسول الله أصحابه أن يقولواً: الله أعلى وأجلّ لا سواه، قتلانا في الجنّة، وقتلاكم في النار.

وقال أبوسفيان: « إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم ».

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيب أصحابه ويقولوا: « الله مولانا ولا مولى لكم ».

ثُمَّ رجعت قريش إلى أثقالهم، وركّبوا الأثقال، فتركوا ساحة المعركة. فخرج المسلمون يتبّعون قتلاهم، فلم يجدوا قتيلاً إلّا مثلوا به، إلّا حنظلة كان أبوه مع المشركين فترك له، ووجدوا حمزة بن عبد المطلب عم النبيّ قد بقر بطنه، وحملت كبده، احتملها وحشي، وهو قتله، يذهب بكبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر. وأقبل المسلمون على قتلاهم يدفنونهم ثُمَّ رجعوا إلى المدينة. فلمّا دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أزقّتها إذا النوح والبكاء في الدور. فقال: ما هذا ؟ قالوا: هذه نساء الأنصار يبكين على قتلاهنّ. وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين سمع البكاء: لكنّ حمزة لا بواكي له، واستغفر له. فسمع ذلك سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن رواحة، فمشوا في دورهم، فجمعوا كل نائحة وباكية كانت بالمدينة للبكاء على حمزة.

وعند ذلك بدت شماتة اليهود وقالوا: لو كان نبيّاً ما ظهروا عليه، ولا اُصيب منه ما اُصيب. وقال المنافقون للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصاب الذي أصابوا منكم.

ثُمَّ قدم رجل من أهل مكّة على رسول الله، فاستخبرهم عن أبي سفيان وأصحابه، فقال: نازلتهم، فسمعتهم يتلاومون يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً أصبتم شوكة القوم وحدّهم، ثمّ تركتموهم ولم تبروهم، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فلمّا كان الغد من يوم اُحد أذّن مؤذّن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في المسلمين بطلب العدو، واستنفرهم لمطاردته على أن لايخرج إلّا من حضر الغزوة، وخرج المسلمون، فوقع في روع أبي سفيان أنّ أعداءه جاءوا من المدينة بمدد

٣٥٢

جديد، فخاف لقاءهم، وبلغ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حمراء الأسد(١) فأقام بها ثلاثة أيّام. فكان أبوسفيان وأصحابه بالروحاء، فمرّ به معبد الخزاعي، وكان قد مرّ بالنبيّ ومن معه، فسأل عن شأنهم، فقال: إنّ محمداً قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرّقون عليكم تحرّقاً، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق شيء لم أر مثله.فلمّا سمع أبو سفيان مقالة معبد، خاف على نفسه وأصحابه، فشدّ عزيمته على الرجوع قول صفوان بن اُميّة حيث قال: إنّ محمداً واصحابه قد غضبوا، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا، فرجعوا إلى مكّة.

وقد قتل من المسلمين في ساحة اُحد تسعة وأربعون رجلاً، وقتل من المشركين ستّة عشر رجلاً(٢) .

هذه إطلالة سريعة على غزوة اُحد تعرّضنا لذكرها ليكون معيناً على فهم ما ورد حول هذه الغزوة من آيات الذكر الحكيم، فانّ ما ورد في المغازي والسّيرة بمثابة القرائن التي يستعان بها على رفع إجمال الآيات وما اُبهم معناه منها. وإليك إستعراض ما ورد في الذكر الحكيم مع الاشارة إلى ما يستفاد منها من عبر وعظات:

١ ـ حنكة النبيّ العسكريّة:

قد أوضحت الخاتمة التي آل إليها مصير المسلمين قيمة ما ألزم به النبيّ الرماة حيث قال: « إحموا لنا ظهورنا فإنّا نخاف أن نؤتى من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه وإن رأيتمونا نهزمهم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا، ولا تدفعوا عنّا، أللّهم إنّي اُشهدك عليهم، واُرشقوا خيلهم بالنّبل ».

__________________

(١) موضع على ثمانية أميال من المدينة.

(٢) لاحظ السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٨٥ ـ ١٠٥، ومغازي الواقدي: ج ١، ٢٣٩ ـ ٢٤٩، ودلائل النبوة: ص ٢١٢ ـ ٢١٩ وغيرها.

٣٥٣

ولكنّ ياللأسف إنّ الرماة خالفوا الرّسول وعصوه، فبقيت ثلّة منهم في موقفهم، ونزل كثير منهم من الجبل للنّهب وجمع الثروة، حتّى جاء خالد بن الوليد، فقتل من بقي منهم، ثّم دخل ساحة المعركة من دون مقاومة تذكر، فأعمل السيف فيهم.

وهذا إن دَلّ على شيء فإنّما يدلّ على حنكة النبيّ العسكريّة أوّلاً، وعلى وجود حالة عدم الرضوخ التامّ بين أصحابه لأوامره ثانياً، حيث أوّلوا أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتأويلات لغاية إشباع نهم شهواتهم بجمع المال، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:

( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٥٢ ).

وإليك تحليل ما تضمّنته هذه الآية:

أقوله سبحانه:( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ) يدل على أنّه سبحانه وعدهم بالنصر، ولعلّ النصر هو ما ورد في قوله سبحانه:

( بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) ( آل عمران / ١٢٥ ).

نعم وعد سبحانه بالإنتصار بشرطين لا مطلقاً، وقد ألمحت الآية إليهما في قوله:

١ ـ( إِن تَصْبِرُوا ) .

٢ ـ( وَتَتَّقُوا ) .

ولكنّ الرماة المستقرّين على الهضبة لم يصبروا، ولم يتّقوا مغبّة مخالفة الرّسول، فآثروا حطام الدّنيا على الآخرة.

٣٥٤

ب ـ قوله سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ) يدلّ على أنّه طرأ الفشل عليهم، وتنازعوا في أمر البقاء والمغادرة، وعصوا أمر الرّسول، وكان منهم من يطمح في نيل حطام الدّنيا، ومنهم من آثر الآخرة وطاعة الرّسول على نيل شهوات الدّنيا.

ج ـ ولكنّ رحمته الواسعة شملتكم، فكفّكم عن المشركين بعد ظهور الفشل والتّنازع والمعصية، وعفى عن عصيانكم كما يدلّ عليه قوله:

( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ) .

د ـ ليبتليكم: أي كان هذا الخلاف مَحَكّاً قَويّاً لتمييز الطالب للدّنيا عن طالب الآخرة، بل لتمييز المؤمن عن المنافق، والمؤمن الراسخ في إيمانه الثّابت على عزيمته، من المتلوّن السريع الزوال، ومع ذلك فإنّ الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال:

( وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) .

٢ ـ تصدّع جيش المسلمين وإنحلال زمامه:

لقد مَرَّ بك أنّ خالد بن الوليد باغت المسلمين من ورائهم، وقد وضعوا سيوفهم على الأرض، والتهوا بجمع الغنائم، فعند ما رأوا سيوف العدو على رؤوسهم، وبريق أسنّة رماحهم أصابهم الذهول، وتفرّقوا في كلّ حدب وصوب، فتركوا ما كان بأيديهم، وصعدوا الجبل من دون أن يلتفتوا ورائهم إلى النبيّ والمؤمنين، وأنّهم تركوه أثناء المعركة الطاحنة، مع أنّ النبيّ كان يدعوهم بقوله: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، وهم لا يلتفتون، فعند ذلك ملأت قلوبهم الهموم بعضها أشّد من بعض، همّ الإنتكاسة الغير المرتقبة، ثمّ همّ فقد الأحبّة والأعزّة، ثمّ تعالى صوت الناعي بقتل النبيّ الأكرم، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:

( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا

٣٥٥

بِغَمٍّ لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / ١٥٣ ) وإليك تحليل ما تضمّنته الآية:

في قوله سبحانه:( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ ) تلويح بفرارهم عن ساحة الحرب كما أنّ قوله:( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ) إشارَة إلى النداءات الّتي تعالت من فم النبيّ في تلك الأثناء، تدعوهم للصمود والثّبات في المعركة:

وقوله:( فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ) إشارة إلى تراكم الغموم والهموم والآلام على قلوب المسلمين، وقوله:( لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ ) إشعار بأنّ الغموم بلغت حدّاً نسوا معه ما فاتهم من الغنائم.

٣ ـ على أعتاب الردّة

لم تكن زلّة القوم منحصرة بالفرار وإخلاء ساحة المعركة، وترك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بين يدي المشركين، ومخالفة الرماة أوامره، بل بلغ أمرهم إلى أبعد من ذلك غوراً، حيث طرأ على قلوبهم ظنون أهل الجاهليّة، فظنّوا من الظنون الّتي لا يليق بتصوّرها إلّا أهل الجاهلية، حيث انتابتهم حالة من الشكّ، وإلى ذلك ونحوه يشير قوله سبحانه:( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( آل عمران / ١٥٤ ).

ولأجل الوقوف على المزيد ممّا تضمّنته الآية الشريفة السابقة نتناول التعرّض لها جملة بعد جملة.

١ ـ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ) .

٣٥٦

النّعاس ما يسبق النوم من فتور واسترخاء، وربّما يسمّى بالنّوم الخفيف، وقد نزل النّعاس، وغشى طائفة من القوم ولم يعمّ الجميع بقرينة قوله:( يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ) ، وكان هذا النّعاس بمثابة الرحمة بعد الغمّ الذي اعتراهم، فأزال عنهم الخوف بغلبة النوم ليستردّوا ما فقدوا من القوّة، وما عرض لهم من الإرهاق والتّعب والضعف.

وكلمة( نُّعَاسًا ) يدلّ من قوله( أَمَنَةً ) للملازمة بين الأمنة والنوم، وقد قيل: الأمن منوّم والخوف مسهّر، وأمّا من هؤلاء الّذين غشيهم النّعاس دون غيرهم ؟ فيحتمل أن يكونوا هم الّذين رجعوا إلى رسول الله بعد الإنهزام والانكسار لـمّا ندموا وتحسّروا، فهؤلاء بعض القوم، وهم النادمون على ما فعلوا، الراجعون إلى النبيّ، المحتفّون به، وكان ذلك حينما وصل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فم الشعب، ووقفت تلك الطائفة على أنّ النبيّ لا زال على قيد الحياة لم يقتل، فرجعوا إليه يتقاطرون تترىٰ.

٢ ـ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) وهذه طائفة اُخرىٰ من المؤمنين لا من المنافقين، فإنّهم فارقوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه في أثناء الطريق وانخذلوا، ولهم شأن آخر سينبّئ الله سبحانه بهم بعد ذلك، وهذه الطائفة الثانية الموصوفة بـ( أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الاُولى من العفو، وإثابة الغمّ ثمّ الأمنه والنّعاس، بل وكّلهم إلى أنفسهم، ونسوا كلّ شيء، ولم يهتمّوا إلّا بأنفسهم.

وهذه الطائفة قد استولى عليهم الخوف، وذهلوا عن كلّ شيء سواهم، ولـمـّا لم يكن الوثوق بالله ووعده رسوله وصل إلى قرارة أنفسهم، لأنّهم كانوا مكذّبين للرّسول في قلوبهم لا جرم عظّم الخوف لديهم، وحقّ عليهم ما وصفهم الله به:

أ ـ( يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) فكانوا يبطنون في قرارة أنفسهم: « لو كان محمد نبيّاً حقّاً ما سلّط الله عليه الكفّار » وهذه مقالة لا يتفوّه بها إلّا من دان بالكفر.

٣٥٧

ب ـ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ) والظّاهر أنّ المراد من الأمر هو الظّفر والنّصر في كلا الموردين، والمقصود من الضمير في( لَنَا ) هؤلاء بما أنّهم يشكّلون جزءاً من المسلمين وإن لم يكونوا منهم حقيقة، والمعنى:

يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار والإستهجان: « هَلْ لَنَا مِنَ النَّصْرِ وَالفَتْحِ والظّفر نصيب » ؟! يعنون أنّه ليس للمسلمين ( لنا ) من ذلك شيء، وإنّ الله سبحانه لا ينصر محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله وبما أنّ النّصر وكون الدّين حقّاً كانا متلازمين عندهم، فاستنتجوا أنّ الدعوة المحمّديّة ليست حقّاً.

ثمّ إنّه سبحانه أجابهم في معرض تناول ذكرهم بقوله:

( إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ ) أي كلّ الاُمور بيده سبحانه حتّى النّصر والهزيمة، وإليه دعى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو معتقد المسلمين، ولكن بمقتضىٰ حكمته وسننه الّتي وضعها لتسيير شؤون الخلق، وربط فيها الأسباب بالمسبّبات، فهو وإن وعد رسله بقوله:

( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( المجادلة / ٢١ ).

وقال:( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) ( الصافّات / ١٧٣ ).

ولكنّ تحقّق هذا الوعد مرهون بتوفّر الأسباب الكفيلة بالنصر، فإنّه سبحانه هو الذي وضع سنّة الأسباب والمسبّبات، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحقّ والباطل والخير والشر والهداية والضلالة والعدل والظلم، ولا فرق فيه بين المؤمن والكافر، والمحبوب والمبغوض، ومحمد وأبي سفيان، ولأجل ذلك كلّما توافقت الأسباب العاديّة على تقدّم هذا الدين وظهور المؤمنين كان النصر حليفهم، وحيث لم تتوافق الأسباب كتحقّق نفاق أو معصية لأمر النبيّ أو فشل أو جزع كانت الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين، وكذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع النّاس.

وإنّكم أيّها المنضوون تحت لواء المسلمين قد عصيتم أمر الرسول،

٣٥٨

ولم تأتمروا بأمره، فأخليتم مواقعكم عاصين لأمره وآثرتم حطام الدّنيا والأدنى الخسيس، ومع ذلك تترقّبون النصر لكم والهزيمة للعدو ! فكيف يقتطف الثمرة من لم يغرس شجرتها أو غرسها ولم يقم بأمرها ؟

ثم إنّه سبحانه بعد هذه الإجابة يأخذ بتبيين ما كان يخامرهم من الأفكار الفاسدة.

ج ـ( يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) .

الظّاهر أنّ قولهم:( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ ) تفسير للموصول في( مَّا لا يُبْدُونَ ) والفرق بين ما كانوا يظهرونه وما يضمرونه واضح، فقد كانوا يتظاهرون بالاستفسار في قولهم: « هل لنا من الأمر شيء » لغاية التشكيك، وهي وإن كانت فكرة خاطئة ولكن لـمّا غلّفت بطابع الإستفسار لم تكن ذات بأس شديد.

ولكنّهم كانوا يخفون قولهم:( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) يريدون بذلك الاستدلال على بطلان الدعوة المحمّدية بحجّة الانكسار لأنّ النبيّ الأكرم كان يقول: الأمر بيد الله وأنا رسوله، فلو كان ما يدّعيه حقّاً بأنّ الأمر كان بيد الله لا بيد الآلهة والأرباب المعبودة بين الناس وكان محمّد من جانبه لعمّنا النصر، ولكنّه النهاية كانت على العكس من ذلك، فكيف يمكن أن يكون الأمر بيد الله غير مقسّم على الآلهة والأرباب المدبّرة للاُمور بزعمهم.

ولأجل أنّ تلك الفكرة كانت فكرة أهل الشرك والوثنيّة سمّاها سبحانه( ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) .

ولكنّهم تناسوا ما جرت عليه سنّته الحكيمة، فإنّ الأمر بيد الله ولكنّها تجري وفق الأسباب والمسبّبات، فمن لم يأخذ بأسباب النصر لم يكن حليفه.

ثمّ إنّه سبحانه أجاب عن تلك الفكرة بوجوه ثلاثة:

٣٥٩

الأوّل: ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ) فالآجال محدودة والأعمار مؤقتّة بوقت لا تتعدّاه، فإن قتل من قتل منكم في المعركة ليس دليلاً على عدم كون الأمر بيد الله أو أنّ الدعوة المحمّديّة ليست على حق، بل لأجل القضاء الإلهي الّذي لا مناص من الوقوع في نفوذه وامضائه، فقد كان في قضائه اضطجاع هؤلاء في هذه المضاجع، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفرّ من الأجل المسمّى الّذي إذا حان لا يتقدّم ساعة ولا يتأخّر.

الثاني والثالث: ( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ) أي وقع ما وقع في غزوة اُحد لظهور ما انطوت عليه سريرة كلّ نفس حتّى يتميّز المؤمن من المنافق والمجاهد من المتقاعد، وقد جرت سنّة الله على عموم الابتلاء والتمحيص وهي حاكمة على جميع الاُمم لغاية التمحيص.

نعم ليست الغاية من ابتلائه سبحانه لعباده هو التعرّف لما يكمن في ضمائرهم فإنّه سبحانه عليم بالسرائر مطّلع على الضمائر لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، بل الغاية هي الإبتلاء والتمحيص ووصول كلّ ما بالقوّة إلى الفعل من الكفر والإيمان، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وحصيلة البحث: انّ هذه الآية تشير إلى فريقين من المسلمين والمؤمنين الملتفّين حول الرسول المتنكّبين عَن المنافقين.

( أحدهما ): طائفة وهبهم الله عزّ وجلّ بعد الغمّ نعاساً أمنة منه لإزالة ما انتابهم من الروع والخوف والتفّوا حول الرسول بعد الندم.

( ثانيهما ): طائفة شغلتهم أنفسهم لا يتجاوز تفكيرهم نطاق ذاتهم من دون أن يتوجّهوا قيد طرفة صوبَ قائدهم ونبيّهم، وقد اعترتهم هواجس الجاهليّة الاُولى، فتارة يتفوّهون بها علانية بنحو من الشك والترديد والاستفسار بقولهم:( هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْء ) واُخرى بصورة الجزم والقطع واليقين بنحو الاخفاء والاسرار

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581