مفاهيم القرآن الجزء ٨

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 167257 / تحميل: 5818
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٨

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-١٤٨-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الدَّارِ ) (١) وقال عزّ من قائل:( سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) .(٢)

فإذا كان المعاد عودَ الإنسان بالبدن العنصري فيكون عوداً إلى النشأة الأُولى لا النشأة الأُخرى، وعوداً إلى الدار الأُولى لا إلىٰ عقبى الدار.

والجواب: انّ صدق العناوين المتقدّمة ليس رهن أنّ المعاد مثالي أو روحي، بل تصدق وإن كان المعاد عنصريّاً وماديّاً، ويكفي في تسمية أحدهما بالأُولىٰ والآخر بالأُخرىٰ، انّ الأُولىٰ دار العمل والسعي، والثانية دار الحصاد، يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : « وإنّ اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل ».(٣)

أضف إلى ذلك أنّ تسمية أحدهما بالأُولىٰ والآخر بالأُخرىٰ لأجل أنّ الإنسان في الدار الآخرة أكمل ممّا عليه في دار الدنيا، لأنّ تعلّق النفس بالبدن في النشأة الأُولىٰ تعلّق تدبيري فيكون ارتباطها بالبدن ارتباطاً وثيقاً إذ لولاها لفسد البدن، وهذا بخلاف دار الآخرة فانّ تعلّقها بالبدن بغية نيل الجزاء المادي، أو نيل الثواب والعقاب، ولذلك تختلف الحياة في النشأة الأُخرى عن الحياة في النشأة الدنيا من حيث الكمال.

والحاصل: انّ الدنيا والآخرة موطنان للإنسان غير أنّ أحدهما أكمل وألطف من الآخر.

الشبهة الخامسة: لزوم التناسخ

إنّ للتناسخ أقساماً، والمراد هنا تعلّق نفسين ببدن واحد، لأنّ إعادة الإنسان

__________________

١. الرعد: ٢٢.

٢. الرعد: ٢٤.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ٤٢.

١٢١

بعينه وجمع أشلائه وأعضائه وصيرورته إنساناً سويّاً من حيث الظاهر استعد لأن يفاض عليه من الله سبحانه نفس، هذا من جانب، ومن جانب آخر تتعلّق به نفسه المستنسخة لأجل نيل الثواب أو العقاب، فيلزم تعلّق نفسين ببدن واحد.

يقول صدر المتألّهين: إنّ مفسدة التناسخ بحسب المعنىٰ ـ كما ذكره ـ واردة هاهنا بلا مرية، وهي لزوم كون بدن واحد ذا نفسين، فانّ تلك الأجزاء لو كانت قابليتها لتعلّق النفس حين التفرّق باقية، لم تفارق عنها النفس، فكان زيد حال الموت حياً وقد فرض ميتاً، وإن لم تكن باقية فاحتاجت في قبولها للنفس إلى انضمام أمر إليها به يستعد للقبول فإذا انضم إليها ذلك الأمر وصارت مستعدة باستعداد آخر جديد لابدّ أن يفاض عليها من المبدأ الجواد فيض جديد وروح مستأنف، فإذا تعلّق بها الروح المعاد أيضاً كان لبدن واحد روحان وهو ممتنع.(١)

يلاحظ عليه: أنّ هذه الشبهة إنّما تتم بناء علىٰ خلق الأرواح قبل الأبدان، ، فلو قلنا بهذا الأصل لكان للشبهة مجال، لأنّ إحياء الإنسان وجمع أشلائه وأعضائه يستدعي تعلّق الروح به من العالم العلوي فلو تعلّقت به النفس المستنسخة لكان تناسخاً.

وأمّا لو قلنا بأنّ الروح هي نتيجة الحركة الجوهرية للمادة، وأنّ الجنين في مدارج تكامله وحركته يصل إلى مرتبة يتبدل إلىٰ أمر مجرّد، دون أن ينقص من المادة شيء، فليست الروح شيئاً مخلوقاً من ذي قبل، وإنّما هي نتيجة تكامل المادة وتحولها إلىٰ أمر مجرد له صلة بالمادة، ويتكامل حسب تكامل الجنين في رحم أُمّه، كما يتكامل بعد خروجه منه.

وهذا هو الذي ارتضاه صدر المتألّهين وهو صدر الآراء، وعلىٰ ضوء هذا فالشبهة لا تصمد أمام النقاش، لأنّه لو كان المعاد أمراً تدريجياً وعود الإنسان إلىٰ

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٧٠.

١٢٢

عالم الحياة نظير نشأته في هذه الدنيا يلزم هنا التناسخ وتعلّق نفسين، إحداهما نتيجة الحركة الجوهرية الثانية والتكامل التدريجي للمادة، والأُخرى نفسه المستنسخة المتكونة من الحركة الجوهرية الأُولىٰ للمادة.

وأمّا إذا كان المعاد أمراً دفعياً كما هو الظاهر من الآيات الكريمة، فليس هناك إلّا نفس واحدة وهي نفسه المستنسخة، وأمّا النفس الأُخرى فهي وليدة الحركة والتكامل التدريجي، والمفروض أنّه لم يكن هناك أي حركة وتدريج وتكامل، بل كان إنشاءً ثانياً للبدن السوي بحيث يصلح لتعلّق النفس به.

ويدل علىٰ أنّ المعاد، دفعي لا تدريجي آيات الذكر الحكيم :

قال سبحانه:( فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) .(١)

وقال تعالى:( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ) .(٢)

وقال عزّ من قائل:( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) .(٣)

وقال سبحانه:( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) .(٤)

وقال:( هَلْ يَنظُرُونَ إلّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .(٥)

إلى غير ذلك من الآيات.

نعم لو قلنا بما ذهب إليه المشّاء من خلق الأرواح قبل الأبدان، فإذا صارت

__________________

١. يس: ٥١.

٢. القمر: ٧.

٣. المعارج: ٤٣.

٤. الزمر: ٦٨.

٥. الزخرف: ٦٦.

١٢٣

النطفة بدناً سوياً تتعلّق بها الروح من العالم العلوي، وعند ذلك يلزم تعلّق نفسين إحداهما النفس المستنسخة، والثانية النفس التي استعدت لهبوطها إلى البدن.

ولكن الشبهة طبقاً لهذا الأصل أيضاً غير صحيحة، إذ لا صلة بين الروح الثانية وهذا البدن، مع وجود الصلة بين البدن السوي والروح المستنسخة.

وعلى كلّ حال، فلنعطف أنظار القارئ إلىٰ هذه النكتة وهي أنّ المعاد العنصري خالٍ عن المفاسد المترتبة على القول بالتناسخ.

لأنّ القول بالتناسخ منطق المنكرين للمعاد، فعود الإنسان إلىٰ هذه الدار مرّة تلو أُخرى سيَخْلِفُ القول بالمعاد ويغني عن الإيمان به، ولا أثر لهذا المنطق في القول بالمعاد في النشأة الأُخرى.

كما أنّ القول بالتناسخ يستلزم تعلّق نفسين ببدن واحد، لأنّ التناسخ هو عود الإنسان عن طريق تعلّق الروح بالنطفة وتكاملها وحركتها وبلوغها إلىٰ أن تتبدل إلى روح مجرّدة فهذا يستلزم تعلّق نفسين ببدن واحد، إحداهما النفس المستنسخة، والأُخرى النفس المتولّدة من الحركة الجوهرية الثانية. وهو محال، لأنّ النفس المستنسخة حينما تركت البدن كانت نفساً كاملة مدركة للكليات، فكيف يمكن أن تتعلّق تلك النفس مع ما لها من المنزلة، بخلية في الرحم أي بالعلقة والمضغة حتى تمرّ على هذه المراحل ويكون البدن سوياً قابلاً لتعلّق المستنسخة به ؟!

والعجب انّهقدس‌سره قد تنبه إلى بعض ما ذكرنا، حيث قال: إنّ منشأ حدوث النفس وما يجري مجراها هو الحركة الجوهرية الذاتية الاستكمالية لمادة ما في الصور الجوهرية علىٰ سبيل الترقي من الأدنىٰ إلى الأعلىٰ حتىٰ يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس وما بعدها.(١)

__________________

١. الأسفار: ٩ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

١٢٤

الشبهة السادسة: المعاد العنصري وظواهر الآيات

إنّ ظواهر بعض الآيات وإن كانت تنسجم مع المعاد الجسماني، غير أنّ ثمة آيات أُخرى لا تنسجم مع كون المعاد هو البدن العنصري السابق، وذلك لأنّه سبحانه يستخدم لفظة « انشأ » و « مثل »، ومن الواضح أنّ الإنشاء عبارة عن الإيجاد بلا مثال سابق، كما أنّ لفظة « مثل » تحكي عن كون المعاد ليس نفس المنشأ أوّلاً، بل مثله، قال سبحانه:( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ *عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ ) (١) ، وقال عزّمن قائل:( نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ) .(٢)

قال صدر المتألّهين بعد تفسير الآيات: ولا يخفى علىٰ ذي بصيرة أنّ النشأة الثانية طور آخر من الوجود يباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين، وانّ الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلى الله أو القرب منه لا العود إلى الخلقة المادية والبدن الترابي الكثيف الظلماني.(٣)

والجواب: انّ مادة الإنشاء كما تستعمل في الإيجاد بلا مثال تستعمل في مطلق الإيجاد أيضاً، وإن كان له مثال سابق، قال سبحانه :

( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) (٤) فإنّ إنشاء السحاب بمعنى إيجاد فهو بالنسبة إلى شخصها إيجاد، وبالنسبة إلى نظائرها إيجاد مع سبق مثال له، وعلى ذلك فإطلاق الإنشاء علىٰ إعادة الإنسان بملاك الإيجاد وانّه خلق ثان وإيجاد بعد الإيجاد.

__________________

١. الواقعة: ٦١.

٢. الإنسان: ٢٨.

٣. الأسفار: ٩ / ١٥٣.

٤. الرعد: ١٢.

١٢٥

وأمّا لفظ « مثل » فلا يدل إلّا علىٰ وجود التغاير بين المثلين، و إلّا انتفت الاثنينية، وأمّا تفسير التفاوت بالقول بانّ الإيجاد الأوّل عنصريّ، والثاني غير عنصري فهذا مما لا يدل عليه استعمال المثل في الآية، بل غاية ما يستفاد منها هو وجود التغاير والاثنينية، وأمّا ما هو ملاك التفاوت والاثنينية فلا تدل الآية عليه.

الشبهة السابعة: المعاد العنصري عود إلى الدنيا

إذا كان المعاد عنصرياً، وعاد الإنسان إلى الحشر بنفس البدن الدنيوي فهذا يكون عوداً إلى الدنيا بعد خروجه عنها، ولا يكون رجوعاً إلى الله وقرباً منه، وكيف يعد ذلك المعاد غاية للخلقة ؟ وهذا ما أشار إليه صدر المتألّهين، بقوله: ولم يتفطنوا بأنّ هذا حشر في الدنيا لا في النشأة الأُخرىٰ وعود إلى الدار الأُولى، دار العمل والتحصيل لا إلى الدار العقبىٰ ودار الجزاء والتكميل.(١)

إنّ كون المعاد رجوعاً إلى الله أو اقتراباً منه وغاية للخلقة يعود إلىٰ نفسه لا إلىٰ بدنه، فهي التي تتحمل هذه الصفات لا بدنه، فسواء تعلّقت بالبدن العنصري أو البدن المثالي، فرجوعها إلى الله رهن تكاملها لا خروجها من البدن العنصري وتعلّقها بالبدن المثالي، وإن استغربت من هذا الكلام فلاحظ النفس في هذه الدار فالنفس موجود طبيعي لها أصل في الطبيعة، كما أنّ إدراكها الصورة الجسمية المجرّدة يجعلها موجوداً مثالياً لها أصل في عالم المثال، كما أنّ إدراكها للكليات والحقائق المرسلة موجود عقلائي لها أصل في عالم العقول.

وبالجملة كون الحياة الأُخروية غاية ورجوعاً إلى الله يتبلور في أمرين متحققين في الحياة الأُخروية.

أ. تجسم أعماله وتبلور أفعاله وما تواجه من جزاء الخير والشر.

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٥٣.

١٢٦

ب. انتهاء القوىٰ والاستعدادات إلى الكمال، ووقوف الحركة الاستكمالية للإنسان.

وهذان الأمران غير متحققين في الدنيا وإنّما يتحققان في الآخرة، كما أنّهما ينسجمان مع حشر البدن العنصري، أمّا تجسّم الأعمال وتبلورها فهو ينسجم مع الحشر المثالي أو البرزخي، وأمّا توقّف الحركة عن الاستكمال، فلما عرفت من أنّ تعلّق النفس بالبدن في اليوم الآخر لأجل نيل الثواب والعقاب لا للتدبير، وبذلك يختلف تعلّقها بالبدن في الآخرة عن تعلّقها به في الدنيا، وبالتالي لا ينفك ذلك التعلّق عن الحركة الاستكمالية في النشأة الأُولى ولكن تنتهي الحركة الاستكمالية في النشأة الأُخرى، وما ذلك إلّا لتغاير التعلّقين.

الشبهة الثامنة: النفس يوم القيامة قائمة بذاتها

إنّما سمّي يوم الآخرة بيوم القيامة، لأنّ الروح فيه تنسلخ عن هذا البدن الطبيعي مستغنياً عنه في وجوده قائماً بذاته، والبدن الأُخروي قائم بالروح في تلك النشأة والروح قائمة بالبدن الطبيعي هاهنا لضعف وجودها الدنيوي وقوة وجودها الأُخروي، وعلىٰ ذلك فلا يمكن أن يكون البدن الأُخروي مثل البدن الدنيوي لما عرفت أنّ الروح لأجل ضعف وجودها الدنيوي قائمة بالبدن الطبيعي بخلاف الروح بوجودها الأُخروي فانّها لقوة وجودها قائمة بنفسها، والبدن قائم بالروح.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ النفس في يوم القيامة قائمة بذاتها لا بالبدن علىٰ خلاف ما في الدنيا، أمر لم يقم عليه برهان، وإنّما اتخذه المستدل أصلاً موضوعياً وبنىٰ عليه الدليل، من خلال إطلاق لفظة « القيامة » والتي توحي إلى قيام النفس بذاتها، مع أنّه لا دليل عليه بل إطلاق القيامة علىٰ ذلك اليوم لأجل

١٢٧

قيام الحساب والاشهاد والروح ( الروح الأمين ) والناس، قال سبحانه :

١.( يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ ) .(١)

٢.( يَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) .(٢)

٣.( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلائِكَةُ صَفًّا ) .(٣)

٤.( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) .(٤)

وهذه الآيات تفسر وجه تسمية ذلك اليوم، بيوم القيامة وانّ التسمية جاءت لأجل قيام الحساب وغيره.

الشبهة التاسعة: استغراب الحياة المثالية

لـمّا كان إثبات نحو آخر من الوجود يخالف هذا الوجود الطبيعي الوضعي، وإثبات نشأة أُخرى باطنة تباين هذه النشأة الظاهرة، أمراً صعب الإدراك مستعصياً علىٰ أذهان أكثر الناس جحدوه وأنكروه، وأيضاً لألفهم بهذه الأجساد وشهواتها ولذّاتها يصعب عليهم تركها وطلب نشأة تضاد هذه النشأة، ولذلك لم يتدبروا في تحقيقها وكيفيتها بل أعرضوا عنها وعن آياتها، كما قال تعالى:( وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) (٥) ، ورضوا بالحياة الدُّنيا واطمأنّوا بها وأخلدوا إلى الأَرض كما قال تعالى:( وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) (٦) .

__________________

١. إبراهيم: ٤١.

٢. غافر: ٥١.

٣. النبأ: ٣٨.

٤. المطففين: ٦.

٥. يوسف: ١٠٥.

٦. الأعراف: ١٧٦.

١٢٨

ونحن رأينا كثيراً من المنتسبين إلى العلم والشريعة انقبضوا عن إثبات عالم التجرّد واشمأزّت قلوبهم عن ذكر العقل والنفس والروح، ومدح ذلك العالم وخدمة الأجساد وشهواتها المحسوسة ودثورها وانقطاعها وأكثرهم توهموا الآخرة كالدنيا ونعيمها كنعيم الآخرة، إلّا أنّها أوفر وأدوم وأبقى.(١)

وحاصل هذه الشبهة يرجع إلى أمرين :

أ. انّ إنكار المشركين المعاد لأجل كون الحياة الأُخروية فوق الحس، وهذا لا ينسجم مع كون المعاد عنصرياً.

ب. هؤلاء المنكرون لفرط حبهم بالبدن وآثاره كان من الصعب عليهم تركها وطلب نشأة تضاد هذه النشأة.

يلاحظ على الأمر الأوّل: أنّ المشركين كانوا يستوحشون من إحياء البدن العنصري تارة أُخرى، ولأجل ذلك كانوا ينسبون القائل بذلك إلىٰ الجنون و الخلط.

إنّ إحياء الأموات ليس أمراً سهلاً حتى يصدقه كلّ من خوطب به، بل أمر يصعب فهمه على السذج من العقول يقول سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ *أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) (٢) فالذي كانت تستغربه الأفهام الساذجة هو إحياء البدن البالي، وهذا ينسجم مع المعاد العنصري.

ولأجل رفع تعجبهم وتقريب المطلب إلى أفهامهم يضرب القرآن بكلّ مثل في هذا الباب كما سبق ذكره.

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

٢. سبأ: ٧ ـ ٨.

١٢٩

وأمّا الأمر الثاني ، فلأنّ إنكارهم لم يكن مبنياً علىٰ أنّ المعاد الذي يدعو إليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يعد مغايراً لهذه الحياة الدنيا، بل كان إنكارهم لأجل خوفهم من سوء الحساب والجزاء لا من تغاير الحياتين واختلافهما، يقول سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) (١) وقال سبحانه:( إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا ) .(٢)

والحاصل أنّ التغاير بين الحياتين لا يكون داعياً إلى الإنكار خصوصاً إذا كانت الحياة الثانية أكمل من الأُولى وأنّ الذي يجر المنكر إلى إنكار المعاد هو خوفه من نصب الموازين بالقسط والجزاء بما عمل، إنْ خيراً فخير وإنْ شراً فشر.

الشبهة العاشرة: تعلّق النفس بالبدن العنصري رهن مرجّح

إنّ تعلّق النفس بالبدن أمر طبيعي منشأه الملازمة التامة والاستعداد الكامل للمادة المخصِّص لها بهذه النفس دون غيرها، ولابدّ أن يكون هذا التخصص والاستعداد ممّا لم يوجد إلّا لهذه المادة الواحدة بالقياس إلى النفس المعينة الواحدة لئلا يلزم التخصص بلا مخصص، أو تعلّق نفس واحدة ببدنين، على أنّ منشأ حدوث النفس وما يجري مجراها هو الحركة الذاتية الاستكمالية لمادة ما في الصور الجوهرية على سبيل الترقي من الأدنىٰ إلى الأعلىٰ حتى يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس وما بعدها، فعلىٰ هذا لا معنى لبقاء المناسبة الذاتية للأجزاء الترابية إليها.(٣)

والجواب: أنّ المناسبة بين النفس والأجزاء الترابية وإن كانت منتفية إلّا أنّها

__________________

١. ص: ٢٦.

٢. النبأ: ٢٧.

٣. الأسفار: ٩ / ٢٠٦.

١٣٠

موجودة بين النفس والبدن المـــُعاد. وبما أنّ المـُعاد في دار العقبىٰ هو نفس البدن الدنيوي الذي تعلّقت به النفس في هذه النشأة، فتتعلّق به النفس في النشأة الآخرة.

نعم البدن المعاد وإن لم يكن عين البدن الدنيوي إلّا أنّه مثله، فيشتمل علىٰ كافة الخصوصيات الموجودة في البدن الدنيوي، وهذه الخصوصيات كافية في إيجاد المرجح لتعلّق النفس بذلك البدن دون الآخر.

فاللّه سبحانه عندما يُعيد البدن الدنيوي فإنّما يعيده بكافة الخصوصيات المتحقّقة في هذه النشأة غير النفس، وهذا المقدار يكفي في المرجحية وإخراج التعلّق عن كونه تعلّقاً بلا مرجح.

الشبهة الحادية عشرة: رجوع الفعلية إلى القوة

إنّ النفس الإنسانية تتكامل شيئاً فشيئاً في الحياة الدنيا تحت ظل الحركة الجوهرية فتصل من الأدنى إلى الأعلى حتى تقع انتهاء الأكوان الصورية من النفس وعند ذلك تتبدل قواها إلى الفعلية وطاقاتها إلى الوجود الواقعي، فلو أُعيد إلى الدنيا يلزم رجوع الفعلية إلى القوة وهو أمر علىٰ خلاف الحكمة.

يقول صدر المتألّهين: إنّ النشأة الثانية طور آخر من الوجود يباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين، وانّ الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلى الله أو القرب منه لا العود إلى الخلقة المادية والبدن الترابي الكثيف الظلماني.(١)

إنّ هذا الإشكال أي استلزام المعاد العنصري رجوع الفعليات إلى القوى لا يختص بالمعاد، بل يعم الخلقة الابتدائية عند من يقول بخلق الأرواح قبل الأبدان، فانّ الروح المجرّد موجود متكامل نفذ طاقاته وانقلب قواه إلى الفعلية، فلو تعلّق

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٥٣.

١٣١

بالجنين السويّ يلزم تنزله من المقام الأعلىٰ إلى المقام الأدنى حتى ينسجم مع البدن، و إلّا لكان التعلّق أمراً محالاً لعدم الإنسجام بين البدن والروح. وهذا الإشكال هو الذي حاول الشيخ الرئيس أن يجيب عنه بعدما طرح الإشكال مبسطاً، وقال في قصيدته المعروفة بالعينيّة :

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزِّز وتمنِّع

محجوبة عن كلّ مقلة عارف

وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما

كرهت فراقك وهي ذات تفجع

انفت وما ألفت فلمّا واصلت

ألفت مجاورة الخراب البلقع

واظنها نسيت عهوداً بالحمى

ومنازلاً بفراقها لم تقنع(١)

إلى آخر ما قال

إنّ الإشكال مبني علىٰ أنّ الروح بخروجها عن البدن موجود متكامل ومجرّد محض، ليس فيها أيّة قوة وطاقة فلذلك تفقد ملاك تعلّقها بالبدن، وأمّا إذا قلنا بانّ النفس في هذه الدنيا مجرّد ممزوج مع القوة، فهي بما انّها تتأثر باللذائذ والآلام المادية، موجود طبيعي، وبما أنّها تخلق صوراً بلا مادة كالصورة الذهنية موجود مثالي، وبما انّها تدرك المفاهيم الكلية والحقائق المرسلة موجود عقلاني.

فعلىٰ ذلك فإنّ النفس لها أُصول في العوالم الثلاثة، فلا مانع من أن تتعلّق بالبدن المادي والهوية الطبيعية.

لا شكّ أنّ الحياة الأُخروية أكمل من الحياة الدنيوية، لكن مدار الكمال ليس كون إحداهما مادية والأُخرى مجرّدة كاملة، وإنّما يتحقّق التفاوت بأُمور أُخرى

__________________

١. الكنى والألقاب: ١ / ٣٢١.

١٣٢

نظير ما يلي :

١. انّ الخمر في هذه الحياة مسكر ومطفئ لمصباح العقل بخلافه في الدار الآخرة.

قال سبحانه:( يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ *بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ *لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ) .(١)

٢. انّ الفواكه واللبن وما أشبهها يتسارع إليها الفساد في هذه الدنيا بخلافه في الدار الآخرة، قال سبحانه:( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ) .(٢)

٣. انّ الحياة في النشأة الأُولى منقطعة، بخلاف الآخرة فانّ الحياة فيها خالدة، قال سبحانه:( لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلّا المَوْتَةَ الأُولَىٰ ) .(٣)

وقال سبحانه:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) .(٤)

٤. انّ الإنسان في هذه النشأة يمتلك الحواس التي يستعين بها للارتباط بمحيطه كالإحساس بالحرارة والبرودة مثلاً مع أنّها في الآخرة ليست كذلك، قال سبحانه:( لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ) .(٥)

وعلى ضوء ذلك فالاختلاف بين الحياتين ليس رهن كون إحداهما مادية

__________________

١. الصافات: ٤٥ ـ ٤٧.

٢. محمد: ١٥.

٣. الدخان: ٥٦.

٤. فاطر: ٣٦.

٥. الدهر: ١٣.

١٣٣

والأُخرى مجردة مثالية، بل يكفي كونها من سنخ واحد ولكن على نحو أكمل ممّا نشاهده في هذه الدنيا.

كيف يمكن أن يقال إنّ خروج النفس عن البدن آية تكاملها ونفاد قواها واستعدادها مع أنّ أكثر أنواع الموت انتشاراً هو الموت الاخترامي لا الطبيعي ؟

وللسيد العلّامة الطباطبائي كلام مفصل في نقد هذه الشبهة، إذ يقول :

إنّ عود الميت إلىٰ حياته الدنيا ثانياً في الجملة وكذا المسخ ليسا من مصاديقه، بيان ذلك: أنّ المحصل من الحس والبرهان أنّ الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فانّه يتحرك إلى الحيوانية، فيتصور بالصورة الحيوانية، وهي صورة مجرّدة بالتجرّد البرزخي، وحقيقتها إدراك الشيء نفسه بإدراك جزئي خيالي وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي وفعلية لهذه القوّة تلبس بها بالحركة الجوهرية ومن المحال أن ترجع يوماً إلى الجوهر المادي فتصير إيّاه إلّا أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسداً لاحراك به.

ثمّ إنّ الصورة الحيوانية مبدأ لأفعال إدراكية تصدر عنها، وأحوال علمية تترتب عليها، تنتقش النفس بكلّ واحد من تلك الأحوال بصدورها منها، ولا يزال نقش عن نقش، وإذا تراكمت من هذه النقوش ماهي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد وصار صورة ثابتة غير قابلة للزوال، وملكة راسخة، وهذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيواني فتصير حيواناً خاصاً ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس وغير ذلك وإذا لم تحصل ملكة بقي النفس على مرتبتها الساذجة السابقة، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتاً ولم يخرج إلى الفعلية الحيوانية، ولو أنّ النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أوّل وجودها لكنّها تتكامل بواسطة أفعالها الإدراكية المتعلّقة

١٣٤

بالمادة شيئاً فشيئاً حتى تصير حيواناً خاصاً إنْ عمّر العمر الطبيعي أو قدراً معتداً به، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية، ثمّ إنّ الحيوانية إذا وقعت في صراط الإنسانية وهي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلاً كلياً مجرداً عن المادة ولوازمها من المقادير والألوان وغيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرّد العقلي، وتحققت له صورة الإنسان بالفعل، ومن المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوتها التي هي التجرد المثالي على حدّ ما ذكر في الحيوان.

ثمّ إنّ لهذه الصورة أيضاً أفعالاً وأحوالاً تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الإنسانية إلى حدّ ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.

إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنّا لو فرضنا إنساناً رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدد لنفسه التعلق بالمادة وخاصة المادة التي كانت متعلّقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجرّدة قبل انقطاع العلقة ومعها أيضاً وهي مع التعلّق ثانياً حافظة لتجرّدها، والذي كان لها بالموت أنّ الأداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته والأدوات اللازمة لها، فإذا عادت النفس إلىٰ تعلّقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنية ووضعت ما اكتسبتها من الأحوال والملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرة وحاصلة لها من قبل واستكملت بها استكمالاً جديداً من غير أن يكون ذلك منها رجوعاً قهقري وسيراً نزولياً من الكمال إلى النقص، ومن الفعل إلى القوة.(١)

ولأجل إيضاح الموضوع نقول :

__________________

١. الميزان: ١ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

١٣٥

إنّ هناك فرقاً بين النفس المجرّدة التي كانت كذلك منذ بدء أمرها وبين النفس المجرّدة التي يكون تجردها حصيلة تكامل البدن ووقوعه في السير التكاملي للحركة الجوهرية، فالنفس على النحو الأوّل أي المخلوق مجرّداً من بدء خلقها لا يمكن تعلّقها بالبدن، لأنّها تفقد الانسجام المطلوب بينها وبين البدن، بخلاف النفس الثانية التي يكون تجردها حصيلة الحركة الجوهرية.

فانّها تحتفظ بشيء من استعداداتها وقابلياتها عند مفارقتها للبدن، وبذلك تحافظ على انسجامها عند تعلقها بالبدن.

أضف إلى ذلك أنّ تعلّق المجرّد بالمادي إنّما يعد نقصاً إذا صار سبباً لنزوله من الدرجة العالية إلى الدرجة السافلة، وأمّا إذا كان الشيء الواحد ذا درجات ومراتب فلا مانع من أن يتعلق بالمادة بمالها من الدرجة الدانية، وقد عرفت أنّ النفس في وحدتها موجود طبيعي مثالي عقلاني.

بل يمكن أن يقال: إنّ تعلّق النفس بالبدن العنصري يوم القيامة كتعلّق عالم الشهادة بعالم الغيب وعالم الطبيعة بعالم النفوس والعقول، فكما أنّ العالمين مدبرتان لعالم الطبيعة ومع ذلك لا يلزم وقوعهما في قوس النزول، فهكذا الحال عند تعلّق النفس بالبدن يوم القيامة لا يستلزم وقوعها في القوس النزولي.

على أنّ ثمّة احتمالاً آخر وهو أنّ تعلّق النفس بالبدن يوم القيامة لأجل إمكان درك الثواب والعقاب الماديين، إذ ثمة نوع من الثواب والعقاب لا يمكن أن تدركها النفس إلّا أن تكون متعلقة بالبدن وتكون كاللباس حين الخلع.

إلى هنا تمّ ما نرمي إليه من استعراض الشبهات المطروحة علىٰ هذا الصعيد مع نقدها ومناقشتها.

١٣٦





الفصل العاشر :

المعاد الروحاني من منظار الحكماء

قد مرّ آنفاً على أنّ ثمة محاور عديدة للبحث، وهي كالتالي :

١. أقوال الحكماء والمتكلّمين في المعاد.

٢. ما هو الملاك لوصف المعاد بالجسمانية والروحانية ؟

٣. المعاد من حيث الكيفية من منظار القرآن الكريم.

٤. آراء الحكماء والمتكلّمين في المعاد الجسماني.

٥. المعاد الروحاني من منظار الحكماء.

٦. المعاد الجسماني والتناسخ.

وقد استوفينا الكلام في المحاور الأربعة الماضية، وبقي الكلام في المحورين الأخيرين اللّذين سنعقد لهما الفصلين التاليين.

قد تقدّم أنّ للمعاد الروحاني ملاكين :

أحدهما: حشر الأرواح مجرّدة عن الأبدان.

والآخر: حشر الإنسان بغية إدراك اللذائذ العقلية.

وقد عرفت أنّ المعاد الروحاني بالمعنى الأوّل وإن كان ممكناً ولكنّه غير

١٣٧

واقع، لأنّ حشر الأرواح إنّما يتمُّ مع الأبدان. وأمّا المعاد الروحاني بالمعنى الثاني فملاك وصفه بالروحانية ليس هو حشر الروح مجرّدة عن البدن، بل الملاك دركه اللذائذ العقلية التي لا تدرك بالحواس سواء أكان المحشور هو الروح أو الروح والبدن، وهذا النوع من المعاد ممكن وواقع.

توضيحه: انّ مقتضى الحكمة الإلهية والرحمة الواسعة إيصال كلّ ممكن إلىٰ كماله المطلوب، فثمة فئة من الناس لا همَّ لها سوى نيل اللذائذ المادية وتتلخص السعادة عندها فيها، فليس لها معاد سوى الجسماني لا تتجاوز عنه، ولكن ثمة فئة أُخرى لها همة قعساء لكسب الكمالات المعنوية بغية التقرّب إلى الحقّ فمقتضى رحمته الواسعة إيصال هذه الفئة أيضاً إلىٰ كمالها المطلوب.

وبعبارة أُخرى: انّ السعداء والكُمّل في العلم والعمل يكتسبون حياة معنوية حسب ما يقومون به من صالح الأعمال، ولكن صلة الإنسان بالمادة تحول دون ظهور تلك الكمالات المعنوية، لكنّها تتجسد يوم القيامة عند رفع الحجب، فعندئذٍ يطلب القربة إلى الحقّ والاتصال بالموجودات النورانية في النشأة الآخرة.

وهذا النوع من الحياة المعنوية المنتهية إلى المشاهدات القلبية هو حصيلة المعرفة الدنيوية، ولذلك قيل: المعرفة بذر المشاهدة، وقد أشار إلى ما ذكرنا الحكيم السبزواري في كلامه هذا: انّ الخلق طبقات، فالمجازاة متفاوتة، فلكل منها محبوب ومرغوب وجزاء يليق بحالها، واللذائذ الحسية والمبتهجات الصورية للكُمّل في العلم والعمل كالظل غير الملتفت إليه بالذات والتفاتهم بباطن ذواتهم وما فوقهم.(١)

نعم هذا النوع من المعاد لا يعم جميع الناس لما عرفت من انقسام الناس إلى

__________________

١. شرح المنظومة، بحث المعاد، الفريدة الثانية.

١٣٨

قسمين بين من أخلد إلى الأرض ولا يبغي سوى نيل اللذات الحسية، وبين من لا يهمه إلّا اللذات العقلية وما يناسب تلك القوّة من الكمال.

ذهب المحقّقون من الحكماء إلى أنّ حقيقة اللذة هي الإدراك أي إدراك الشيء الملائم للمدرك، فلو كان المدرِك أمراً حسياً فكماله إدراك الأُمور الحسية، وإن كان المدرِك قوة عقلية ونفساً مجردة فكماله هو دركه الصور والمعاني الكلية وقربه من الحقّ ولقائه ومشاهدة الجواهر النورية.

يقول صدر المتألّهين: إنّ نفوسنا إذا استكملت وقويت وبطلت علاقتها بالبدن ورجعت إلى ذاتها الحقيقية وذات مبدعها، تكون لها من البهجة والسعادة ما لا يمكن أن يوصف أو يقاس به اللذات الحسية، وذلك لأنّ أسباب هذه اللذة أقوى وأتم وأكثر وألزم للّذات المبتهجة.

أمّا أنّها أقوى فلأنّ أسباب اللّذة هي الإدراك والمدرِك والمدرَك، وقوة الإدراك بقوة المدرِك، والقوة العقلية أقوى من القوة الحسية ومدركاتها أقوى.(١)

ويقول أيضاً: فانّ الصور العقلية إذا عقلها العقل يستكمل بها ويصير ذاتها كما علمت، بل كان بعضها قبل أن يقع الشعور به مقدماً لذات العقل وكان غافلاً عنه لاشتغاله بغيره فإذا استشعر وتنبّه يرى ذلك البهاء والجمال في ذاته فصار مبتهجاً بذاته غاية البهجة.

وهذه اللذة شبيهة بالبهجة التي للمبدأ الأوّل بذاته، وبلذات المقربين بذواتهم وذات مبدئهم ونحن لا نشتهي تلك اللذات مادمنا متعلّقين بهذه الأبدان.(٢)

إلى أن قال: إذا انقطعت العلاقة بين النفس والبدن وزال هذا الشوب

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٢٢.

٢. الأسفار: ٩ / ١٢٣.

١٣٩

صارت المعقولات مشاهدة، والشعور بها حضوراً، والعلم عيناً، والإدراك رؤية عقلية، فكان الالتذاذ بحياتنا العقلية أتم وأفضل من كلّ خير وسعادة، وقد عرفت أنّ اللذيذ بالحقيقة هو الوجود وخصوصاً الوجود العقلي لخلوصه عن شوب العدم، وخصوصاً المعشوق الحقيقي والكمال الأتم الواجبي لأنّه حقيقة الوجود المتضمنة لجميع الجهات الوجودية، فالالتذاذ به هو أفضل اللذات وأفضل الراحات بل هي راحة التي لا ألم معها.(١)

وقد تحصل من كل ذلك أنّ المانع من المشاهدات واللّذات العقلية هو تعلّق الإنسان بالبدن والخلود إلى الأرض، فإذا تخلّص منه حينها يفسح له المجال لدرك هذا النوع من الجزاء.

ويمكن أن يقال: إذا كان المانع من نيل هذه الدرجات هو تعلّق النفس بالبدن فهذا النوع من التعلّق موجود في النشأة الآخرة لما عرفت من أنّ المعاد عنصري لا مثالي ؟

والإجابة عن هذا السؤال واضحة، لأنّ البدن المحشور وإن كان عنصرياً ولكنّه أكمل وألطف من البدن الدنيوي فلا يكون مانعاً عن نيل ذلك النوع من الجزاء.

على أنّك وقفت على اختلاف التعلّقين، فتعلق النفس بالبدن في هذه النشأة لغاية التدبير ولكن تعلّقه في النشأة الأُخرىٰ استخدامه لأجل نيل الجزاء الحسي.

وهناك احتمال ثالث يذكره المتكلّم الطائر الصيت الفاضل المقداد ( المتوفّى عام ٨٢٨ ه‍ ) وهو أنّ النفس بعد انفكاكها عن البدن تتقوىٰ في عالم البرزخ في الفترة بين الموت والحشر، فبعد التعلّق بالبدن يكون استعدادها أقوى لتقبل

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٢٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

لينكل به ، وهذا نص كتابه :

« أما بعد : فانظر عبد الله بن هاشم بن عتبة فشدّ يده الى عنقه ثم ابعث به إليّ ».

ولما وصلت رسالة معاوية الى زياد قام فى طلبه وحينما علم بذلك عبد الله هرب واختفى منه ، وعلم به بعض الأوغاد فجاء الى معاوية ليتقرب إليه فأخبره انه قد اختفى عند امراة مخزومية ، فكتب معاوية الى زياد ما يلي :

« أما بعد : فاذا اتاك كتابي هذا فاعمد الى حي بنى مخزوم ففتشه دارا دارا حتى تأتي الى دار فلانة المخزومية فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها ، فاحلق راسه والبسه جبة شعر وقيّده وغل يده الى عنقه واحمله على قتب بغير وطاء ولا غطاء واقدمه إلي ».

وقام زياد ففتش حي بنى مخزوم حتى ظفر بعبد الله فحمله إليه بالكيفية التي ارادها وهو مهان الجانب ، محطم الكيان فوصل الى دمشق في يوم الجمعة وهو يوم القبول الذي اعده معاوية لمقابلة اشراف قريش ووجوه العراقيين ولم يشعر معاوية إلا وابن هاشم قد ادخل عليه فعرفه ولم يعرفه ابن العاص فالتفت معاوية إليه قائلا :

« يا أبا عبد الله ، هل تعرف هذا الفتى؟ » قال : لا.

فقال معاوية هذا الذي يقول أبوه يوم صفين :

إني شريت النفس لما اعتلا

وأكثر اللوم وما أقلا

أعور يبغي أهله محلا

قد عالج الحياة حتى ملا

لا بد أن يفل أو يفلا

أسلهم بذي الكعوب سلا

لا خير عندي في كريم ولى

٣٨١

فبهر ابن العاص وقال متمثلا :

وقد ينبت المرعى على دمن الثرى

وتبقى حزازات النفوس كما هيا

وتذكر ابن العاص مواقف أبيه يوم صفين فقال لمعاوية :

« دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب فاشخب اوداجه على أثباجه ولا ترده الى أهل العراق ، فانه لا يصبر على النفاق ، وهم أهل غدر وشقاق ، وحزب ابليس ليوم هيجانه ، وإن له هوى سيوديه ، ورأيا سيطغيه ، وبطانة ستقويه ، وجزاء سيئة سيئة مثلها.

فانبرى إليه عبد الله كالأسد الغضبان مسددا له سهاما من القول غير هياب له قائلا :

« يا عمرو ، إن أقتل فرجل اسلمه قومه ، وأدركه يومه ، أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال ونحن ندعوك الى النزال ، وأنت تلوذ بشمال النطاف(1) ، وعقائق الرصاف(2) كالأمة السوداء ، والنعجة القوداء ، لا تدفع يد لامس؟ »

فالتاع ابن العاص ولم يستطع أن يقول شيئا سوى التهديد والتوعيد له قائلا :

« أما والله لقد وقعت في لهازم شدقم(3) للأقران ذي لبد ، ولا أحسبك منفلتا من مخالب أمير المؤمنين ».

فأجابه ابن هاشم غير معتن بتهديده قائلا :

__________________

(1) النطاف : الماء القليل.

(2) العقائق : سهام الاعتذار. والرصاف : الحجارة التي توضع عند مسيل الماء ..

(3) اللهازم : جمع مفرده لهزم وهي الأنياب. والشدقم : الأسد.

٣٨٢

« أما والله يا ابن العاص إنك لبطر فى الرخاء ، جبان عند اللقاء ، غشوم إذا وليت ، هياب إذا لقيت ، تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجرى الشوك ، لا يستعجل في المدة ، ولا يرتجي في الشدة ، أفلا كان هذا منك إذ غمرك أقوام لم يعنفوا صغارا ، ولم يمزقوا كبارا لهم أيد شداد وألسنة حداد ، يدعمون العوج ، ويذهبون الحرج ، يكثرون القليل ، ويشفون الغليل ، ويعزون الذليل؟ »

فلم يطق ابن العاص جوابا وبقي يفتش في حقيبة مكره عيبا يوصم به عبد الله فلم يجد شيئا سوى افتعال الكذب فقال :

« أما والله لقد رأيت أباك يومئذ تخفق احشاؤه(1) وتبق أمعاؤه وتضطرب أصلاؤه(2) كأنما انطبق عليه ضمد ».

فانبرى إليه عبد الله مجيبا عن بهتانه وكذبه قائلا له :

« يا عمرو ، إنا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوبا غادرا ، خلوت بأقوام لا يعرفونك ، وجند لا يساومونك ، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ عليك عقلك(3) ، ولتلجلج لسانك ، ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود الذي أثقله حمله ».

والتفت إليهما معاوية فقطع حديثهما قائلا : « إيها عنكما » ثم أمر باطلاق سراح عبد الله ، فاستاء ابن العاص لهذا العفو ، وانبرى الى معاوية يحرضه على الفتك والبطش به ويذكره مواقف أبيه هاشم في أيام صفين وقد نظم ذلك بأبيات من الشعر قال :

__________________

(1) تخفق : أي تضطرب.

(2) الاصلاء : أواسط الظهر.

(3) جحظ عقله : أي نظر الى رأيه فرأى سوء ما ارتأى.

٣٨٣

أمرتك أمرا حازما فعصيتني

وكان من التوفيق قتل ابن هاشم

أليس أبوه يا معاوية الذي

أعان عليا يوم حز الغلاصم

فلم ينثن حتى جرت من دمائنا

بصفين أمثال البحور الخضارم

وهذا ابنه والمرء يشبه شيخه

ويوشك أن تقرع به سن نادم

فأجابه عبد الله :

معاوي إن المرء عمرا أبت له

ضغينة صدر غشها غير نائم

يرى لك قتلي يا ابن هند وإنما

يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم

على انهم لا يقتلون أسيرهم

إذا منعت منه عهود المسالم

وقد كان منا يوم صفين نقرة

عليك جناها هاشم وابن هاشم

قضى ما قضى منها وليس الذي مضى

ولا ما جرى إلا كأضغاث حالم

فان تعف عني تعف عن ذي قرابة

وإن تر قتلي تستحل محارمى

واندفع معاوية قائلا :

أرى العفو عن عليا قريش وسيلة

الى الله فى يوم العضيب القماطر

ولست أرى قتل العداة ابن هاشم

بادراك ثاري في لؤي وعامر

بل العفو عنه بعد ما بان جرمه

وزلت به إحدى الجدود العواثر

فكان أبوه يوم صفين جمرة

علينا فأردته رماح نهابر(1)

لقد روع عبد الله وأفزعه معاوية وهو لم يقترف ذنبا سوى ولائه لأمير المؤمنين (ع) الذي جعله ابن هند من أعظم الموبقات والجرائم ، وصرحت بعض المصادر أنه لم يعفو عنه بل أودعه فى ظلمات السجون.

3 ـ عبد الله بن خليفة الطائي.

وعبد الله بن خليفة الطائي ممن عرف بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 312 ـ 314 ، وشرح ابن أبي الحديد.

٣٨٤

فقد جاء إليه حينما توجه (ع) الى البصرة فقال له :

« الحمد لله الذي ردّ الحق الى أهله ، ووضعه في موضعه ، فان كره ذلك قوم فقد والله كرهوا محمدا (ص) ونابذوه وقاتلوه ، فرد الله كيدهم في نحورهم وجعل دائرة السوء عليهم ، والله لأجاهد معك في كل موطن تحفظا لحق رسول الله (ص) »(1) .

وقد دلّ حديثه على تبصره في دينه ، وعلى طيب عنصره ، وحسن رأيه ، ولعظيم ايمانه ووفور عقله ، كان من المقربين عند الإمام ومن الذين يستشيرهم في مهام اموره(2) .

وفي محنة حجر كان عبد الله في طليعة أصحابه ومن المعارضين للسياسة الأموية ، ومن المشتركين معه في ثورته ، ولما قبض زياد على حجر وأصحابه أمر شرطته أن يأتوه بعبد الله ، ففتشوا عنه فوجدوه ، فناجزهم عبد الله ، وبعد صراع جرى فيما بينهم لم يتمكن عبد الله على انقاذ نفسه منهم فاستولوا عليه ، فاستنجدت اخته النوار بقومها واسرتها فطلبت نصرة أخيها قائلة :

« يا معشر طيء أتسلمون سنانكم ولسانكم عبد الله بن خليفة؟ » فثار الطائيون على الشرطة فضربوهم وناجزوهم حتى انتزعوا منهم عبد الله فرجعت الشرطة الى زياد وأخبرته بالأمر فاستدعا زعيم طيء وعميدها عدي ابن حاتم فقال له :

« ائتني بعبد الله بن خليفة؟ »

وبعد حديث جرى بينهما أجابه ابن حاتم بمنطق الأحرار قائلا :

« لا والله لا أتاك به أبدا ، أجيئك بابن عمي تقتله؟ والله لو كان

__________________

(1) الفوائد المطبوع على هامش التعليقات ص 202.

(2) نفس المصدر.

٣٨٥

تحت قدمي ما رفعتهما عنه ».

فالتاع زياد وأمر به الى السجن ، ولم يبق بالكوفة يماني ولا ربعي إلا أتوا زيادا فكلموه في شأن عدي ، وأخبروه بعظم شأنه وشرفه ، فاضطر زياد الى اطلاق سراحه ، ولكنه شرط عليه أن يغيب ابن عمه عن الكوفة فوافق عدي على ذلك ، وأمر عبد الله أن يغادر الكوفة ويلحق با ( لجبلين ) ، فغادر عبد الله الكوفة ، وقد سرى الألم العاصف في محياه على بعده عن وطنه وعلى فراقه لأصحابه وأهله ، وقد أرسل الى عدي بعد نفيه قصيدة عصماء يرثي بها حجرا وأصحابه ويذكر فيها ما يعانيه من ألم الفراق فيقول في رثاء حجر :

ولاقى بها(1) حجر من الله رحمة

فقد كان أرضى الله حجر وأعذرا

ولا زال تهطال ملث وديمة

على قبر حجر أو ينادى فيحشرا

فيا حجر من للخيل تدمى نحورها

وللملك المغزى إذا ما تغشمرا(2)

ومن صادع بالحق بعدك ناطق

بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا

فنعم أخو الإسلام كنت وانني

لأطمع أن تؤتى الخلود وتحبرا

وقد كنت تعطي السيف في الحرب حقه

وتعرف معروفا وتنكر منكرا

ثم يسترسل فى رثاء حجر فيذكر صفاته ومواهبه وملكاته ويبكيه أمر البكاء وينتهي في قصيدته الى وصف محنته وبلواه والى ما يلاقيه من الألم والأسى في غربته فيقول :

فها أنا ذا آوي بأجبال طيء

طريدا فلو شاء الإله لغيرا

نفاني عدوي ظالما عن مهاجري

رضيت بما شاء الإله وقدرا

__________________

(1) الضمير يرجع الى مرج عذراء.

(2) تغشمرا : أي أخذ قهرا وظلما.

٣٨٦

وأسلمني قومى بغير جناية

كأن لم يكونوا لي قبيلا ومعشرا

وذكر الطبري وابن الأثير بقية قصيدته التي أعرب فيها عن شجونه وأحزانه ، وظل عبد الله منفيا حتى مات بالجبلين قبل موت زياد(1) .

4 ـ صعصعة بن صوحان :

وصعصعة بن صوحان من سادات العرب وفصحائهم النابهين وخطبائهم المفوهين كان من ذوي الفضيلة والدين ، أسلم على عهد رسول الله (ص) وهو صغير ولم يجتمع به لصغر سنه ، ووفد على عمر وكان يقسم أموال الغنائم وكان مقدارها ألف ألف درهم ففضها على المسلمين وبقيت منها فضلة فاختلفت الصحابة فيها فقام فيهم عمر خطيبا فقال في خطابه :

« أيها الناس ، قد بقيت لكم فضلة بعد حقوق الناس ، فما تقولون فيها؟ »

فانبرى إليه صعصعة منكرا عليه تحيره فى هذه المسألة البسيطة قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنما تشاور الناس فيما لم ينزل الله فيه قرآنا ، وأما ما أنزل الله به القرآن ووضعه مواضعه فضعه فى مواضعه التي وضعه الله تعالى ».

فاستحسن عمر رأيه وقال له : « صدقت أنت مني وأنا منك » ثم قسم المال بين المسلمين »(2) .

وكان صعصعة من صفوة أصحاب أمير المؤمنين (ع) ومن الملازمين له ، وقال الإمام الصادقعليه‌السلام في حقه : « ما كان مع أمير المؤمنين من يعرف حقه إلا صعصعة وأصحابه »(3) . ومرض صعصعة فعاده (ع) فقال له :

__________________

(1) الطبري 6 / 157 ، الكامل 3 / 241.

(2) الاستيعاب 2 / 189.

(3) التعليقات ص 183.

٣٨٧

« يا صعصعة ، لا تتخذ عيادتي لك أبهة على قومك!! »

ـ بلى والله أعدها منّة من الله وفضلا علي.

ـ إنك إن كنت على ما علمتك فأنت خفيف المؤنة حسن المعونة.

ـ وأنت والله يا أمير المؤمنين بالله عليما وبالمؤمنين رءوفا رحيما(1) .

ولحصافة رأيه ، وسداد منطقه كان الإمام (ع) يرسله فى مهامه فقد أرسله مرة الى معاوية ومعه كتاب منه ، فلما انتهى إليه قال معاوية مشيدا بنفسه ومبررا لأعماله :

« الأرض لله وأنا خليفة الله فما آخذ من مال الله فهو لي وما تركت منه كان جائزا لي ».

وثقل على صعصعة هذا الكلام الملتوي فانبرى إليه مجيبا.

تمنيك نفسك ما لا يكو

ن جهلا معاوي لا تأثم

فتألم معاوية وقال منددا به :

« تعلمت الكلام؟ »

ـ العلم بالتعلم ومن لا يعلم يجهل.

ـ ما أحوجك الى أن أذيقك وبال أمرك.

ـ ليس ذلك بيدك ، ذلك بيد الذي لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها.

ـ من يحول بيني وبينك؟

ـ الذي يحول بين المرء وقلبه.

ـ اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير.

ـ اتسع بطن من لا يشبع ، ودعا عليه من لا يجمع(2) .

__________________

(1) التعليقات.

(2) مروج الذهب 2 / 342.

٣٨٨

ودلت هذه المحاورة على قوة جنان صعصعة وانه ليس بالرعديد ولا الهياب ، فقد ردّ على معاوية مقالته بالمثل وقابله بالاستخفاف والاستهانة وهو غير خائف من سلطانه.

وخطب معاوية بعد ما تم له الأمر ، فقام إليه صعصعة فعلق على كل جملة من خطابه ، وفيما يلي خطاب معاوية مع رد صعصعة عليه.

قال معاوية :

ـ لو أن أبا سفيان ، ولد الناس كلهم كانوا أكياسا ..

ـ قد ولد الناس كلهم من هو خير من أبي سفيان آدم ، فمنهم الأحمق والكيّس!!

ـ إن أرضنا قريبة من المحشر.

ـ إن المحشر لا يبعد على مؤمن ، ولا يقرب من كافر.

ـ إن أرضنا أرض مقدسة.

ـ إن الأرض لا يقدسها شيء ، ولا ينجسها ، إنما تقدسها الأعمال.

ـ عباد الله اتخذوا الله وليّا ، واتخذوا خلفاءه جنة تحرزوا بها.

ـ كيف؟! وقد عطلت السنة ، واخفرت الذمة ، فصارت عشواء مطلخمة ، في دهياء مدلهمة ، قد استوعبتها الأحداث ، وتمكنت منها الانكاث.

فثار معاويه وصاح به :

ـ يا صعصعة ، لإن تقع على ضلعك خير لك من استبراء رأيك ، وإبداء ضعفك ، تعرض بالحسن بن علي ، ولقد هممت أن أبعث إليه ، فأجابه صعصعة قائلا :

« أي والله ، وجدتهم أكرمكم جدودا ، وأحياكم حدودا ، وأوفاكم

٣٨٩

عهدا ، ولو بعثت إليه لوجدته في الرأي أديبا ، وفي الأمر صليبا ، وفى الكرم نجيبا ، يلذعك بحرارة لسانه ، ويقرعك بما لا تستطيع إنكاره!! »

ولسع قوله معاوية فراح يهدده قائلا :

ـ لأجفينك عن الوساد ، ولأشردن بك في البلاد.

ـ والله إن فى الأرض لسعة ، وإن فى فراقك لدعة.

ـ والله لأحبسن عطاءك.

ـ إن كان ذلك بيدك فافعل ، إن العطاء وفضائل النعماء في ملكوت من لا تنفذ خزائنه ، ولا يبيد عطاؤه ، ولا يحيف في قضيته.

ـ لقد استقتلت!!

ـ مهلا ، لم أقل جهلا ، ولم أستحل قتلا ، لا تقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ومن قتل مظلوما كان الله لقاتله مقيما ، يرهقه أليما ، ويجرعه حميما ، ويصليه جحيما(1) ...

وانصرف صعصعة وترك معاوية يتميز غيظا وكمدا ، وعمد بعد ذلك الى سجنه مع جماعة من أصحابه ، وبقوا فى سجنه مدة من الزمن فدخل عليهم قائلا لهم :

« نشدتكم بالله إلا ما قلتم حقا وصدقا ، أي الخلفاء رأيتموني؟ ».

فانبرى إليه عبد الله بن الكواء قائلا :

« لو لا انك عزمت علينا ما قلنا ، لأنك جبار عنيد ، لا تراقب الله فى قتل الأخيار ، ولكنا نقول : قد علمنا أنك واسع الدنيا ضيق الآخرة قريب الثرى ، بعيد المرعى ، تجعل الظلمات نورا والنور ظلمات!! »

فقال معاوية له : « إن الله أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابين عن

__________________

(1) تاريخ ابن عساكر 6 / 425.

٣٩٠

بيضته ، التاركين لمحارمه ، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله ، والمحلين ما حرم الله ، والمحرمين ما أحل الله ».

فأجابه ابن الكواء : « يا ابن أبي سفيان ، إن لكل كلام جوابا ونحن نخاف جبروتك ، فان كنت تطلق السنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها فى الله لومة لائم ، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا على فرجه ».

فقال له معاوية : « لا والله لا يطلق لك لسان ».

وسكت عبد الله فتكلم صعصعة :

« تكلمات يا ابن أبي سفيان فأبلغت ، ولم تقصر عما أردت ، وليس الأمر كما ذكرت ، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ، ودانهم كبرا واستولى بأسباب الباطل كذبا ومكرا!! أما والله مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمى وما كنت فيه إلا كما قال القائل : « لا حلي ولا سيري »(1) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول الله (ص) وإنما أنت طليق ابن طليق أطلقكما رسول الله (ص) فانى تصلح الخلافة لطليق؟ »

وامتلأ قلب معاوية غيظا وكمدا فالتفت إليهم :

« لو لا أني أرجع الى قول أبي طالب حيث يقول :

قابلت جهلهم حلما ومغفرة

والعفو عن قدرة ضرب من الكرم

لقتلتكم »(2) .

وكان صعصعة من جملة الأشخاص الذين طلب لهم الإمام الحسن (ع)

__________________

(1) أصل هذا المثل ( لا حاء ولا ساء ) ومعناه أنه ليس لك فيه أمر ولا نهي ، جاء ذلك في مجمع الأمثال 2 / 158.

(2) مروج الذهب 2 / 341.

٣٩١

من معاوية الأمن وعدم التعرض لهم بسوء ومكروه(1) ولكن معاوية لم يف بذلك فقد روعه وأفزعه وأودعه في سجنه كما روع غيره من زعماء الشيعة ، وصرحت بعض المصادر ان المغيرة نفى صعصعة بأمر معاوية من الكوفة الى الجزيرة أو الى البحرين أو الى جزيرة ابن كافان فمات بها معتقلا منفيا عن وطنه وبلاده وفي رثائه يقول المرزباني(2) :

هلا سألت بني الجارود أي فتى

عند الشفاعة والبان ابن صوحانا

كنا وكانوا كأم أرضعت ولدا

عق ولم نجز بالإحسان إحسانا(3)

5 ـ عدي بن حاتم :

وعدي بن حاتم من أهم الشخصيات الرفيعة الفذة في العراق ، فقد كان قبل الإسلام يتمتع بمجد أصيل وشرف أثيل ، فهو ابن حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، وبالإضافة الى مجده الموروث فقد كان في الإسلام من ابطال العقيدة ، ومن عيون المؤمنين ، ومن رجال الإسلام البارزين ، وقد تقدم في هامش هذا الكتاب شيء موجز عن ترجمته ، والمهم التعرض الى ما لاقاه من الهوان والاستخفاف من قبل ابن هند لأجل ولائه واخلاصه لأمير المؤمنين (ع) فقد دخل يوما على معاوية فقال له متشمتا به :

__________________

(1) رجال الكشي ص 46.

(2) المرزباني : بفتح الميم وسكون الراء وضم الزاء وفتح الباء الموحدة وهو جد من انتسب إليه من الأعيان جاء ذلك في اللباب 3 / 124 ، وجاء فى وفيات الأعيان 3 / 443 ، أن لفظ المرزبان لفظ فارسي معناه صاحب الحد ، فان مرز معناه الحد وبان معناه صاحب ، وهو في الأصل عندهم اسم لمن كان دون الملك.

(3) الاصابة 2 / 192.

٣٩٢

ـ ما فعلت الطرفات؟(1) .

ـ قتلوا مع علي.

ـ ما أنصفك علي قتل أولادك وأبقى أولاده!!.

ـ ما أنصفك علي إذ قتل وبقيت بعده.

فتألم ابن هند من مقال عدي وقال مهددا له :

« أما إنه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلا دم شريف من أشراف اليمن ـ يعني به عديا ـ ».

فانبرى إليه عدي وهو غير مكترث بتهديده قائلا له :

« والله إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا ، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن أدنيت إلينا من الغدر فترا ، لندنين إليك من الشر شبرا ، وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم(2) لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي ، فسلم السيف يا معاوية لباعث السيف ».

فراوغ معاوية على عادته وقال :

« هذه كلمات حكم فاكتبوها ».

ثم أقبل عليه يحدثه كأنه لم يخاطبه بشيء(3) ثم قال له :

« صف لي عليا ».

ـ إن رأيت أن تعفيني.

ـ لا أعفيك.

فأخذ عدي في وصف أمير المؤمنين فقال :

__________________

(1) الطرفات : أولاد عدي وهم طريف وطارف وطرفة.

(2) الحيزوم : وسط الظهر.

(3) مروج الذهب 2 / 309.

٣٩٣

« كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول عدلا ، ويحكم فصلا تتفجر الحكمة من جوانبه ، والعلم من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل ووحشته ، وكان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يحاسب نفسه إذا خلا ، ويقلب كفيه على ما مضى ، يعجبه من اللباس القصير ، ومن المعاش الخشن ، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ، ويدنينا إذا أتيناه ، ونحن مع تقريبه لنا ، وقربه منا لا نكلمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته ، فان تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويتحبب الى المساكين ، لا يخاف القوي ظلمه ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل فى محرابه وأرخى الليل سرباله ، وغارت نجومه ، ودموعه تتحادر على لحيته ، وهو يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأني الآن أسمعه وهو يقول :

« يا دنيا ، إليّ تعرضت أم إليّ أقبلت؟ غري غيري لا حان حينك قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، فعيشك حقير ، وخطرك يسير ، آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، وقلة الأنيس ».

فوكفت عينا معاوية ، وجعل ينشفهما بكمه وهو يقول :

« يرحم الله أبا الحسن ، كان كذلك ، فكيف صبرك عنه؟ »

ـ كصبر من ذبح ولدها في حجرها فهي لا ترقأ دمعتها ، ولا تسكن عبرتها.

ـ فكيف ذكرك له؟

ـ وهل يتركني الدهر أن أنساه؟(1) ،

وقد دل هذا الحديث على ولاء عدي لأمير المؤمنين ومن أجل ولائه

__________________

(1) المحاسن والمساوي 1 / 32.

٣٩٤

واخلاصه فقد روع وأفزع ، وقد تقدم أن زيادا أودعه في السجن حفنة من الأيام من أجل عبد الله بن خليفة الطائي ولم يراع شخصيته الكريمة ، ومكانته الاجتماعية ، وعظم منزلته ، وإنما فعل ذلك به ليقضي على شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام .

6 ـ جارية بن قدامة :

ووفد معاوية بن قدامة السعدي على معاوية ، فقال له معاوية :

ـ أنت الساعي مع علي بن أبي طالب ، والموقد النار في شعلك ، تجوس قرى عربية تسفك دماءهم؟

ـ يا معاوية دع عنك عليا ، فما أبغضنا عليا منذ أحببناه ، ولا غششناه منذ صحبناه.

ـ ويحك يا جارية!! ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية!!

ـ أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية(1) !

ـ لا أمّ لك.

ـ أم ما ولدتني(2) ، إن قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا.

ـ إنك لتهددني؟

ـ إنك لم تملكنا قسرة ، ولم تفتحنا عنوة ، ولكن أعطيتنا عهودا ومواثيق ، فان وفيت لنا وفينا ، وإن ترغب الى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالا مدادا ، وأدرعا شدادا ، وأسنّة حدادا ، فان بسطت إلينا

__________________

(1) وفي رواية ابن عبد ربه ( ما كان أهونك على أهلك إذ سموك معاوية ) وهي الأنثى من الكلاب.

(2) وفي رواية ابن عبد ربه أمي ولدتني للسيوف.

٣٩٥

فترا من غدر ، زلفنا إليك بباع من ختر.

ـ لا كثر الله في الناس من أمثالك.

وتركه جارية والأسى ملأ اهابه(1) ، لقد لقي جارية هذا الهوان ، والتبكيت من أجل ولائه للعترة الطاهرة التي فرض الله مودتها على جميع المسلمين.

ترويع نساء الشيعة :

ولم يقتصر معاوية فى ارهابه واضطهاده على رجال الشيعة وزعمائهم فقد أخذ يتحرى نساءهم فما ذكرت له امرأة منهم ذات مكانة مهمة إلا وبعث خلفها فقابلها بالاستخفاف والاستهانة ، وأدخل الفزع والخوف فى نفسها ، وإذا وفدت عليه امرأة منهم قابلها بالإذلال ، وأظهر لها ما يكنه في نفسه من الحقد والبغض العارم للإمام أمير المؤمنين ولشيعته وها نحن نقدم الى القارئ الكريم أسماء بعض السيدات اللاتي بعث خلفهن ، واللاتي وفدن عليه مع ما جرى بينهن وبينه من الحديث :

1 ـ الزرقاء بنت عدي :

وكانت الزرقاء بنت عدي بن غالب ممن عرفت بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين (ع) ، وكانت من ربات البلاغة والفصاحة والرأي الصائب وكانت في واقعة صفين تدعو الجماهير الى نصرة أمير المؤمنين (ع) وتحرضهم على قتال عدوه ، ولما فجع الإسلام بقتل أمير المؤمنين وانتهى الأمر الى ابن هند كتب الى عامله بالكوفة أن يحمل إليه الزرقاء بنت عدي فبعث بها إليه ، فلما دخلت عليه رحب بها ثم قال لها :

__________________

(1) تأريخ الخلفاء ص 199.

٣٩٦

« هل تعلمين لم بعثت إليك؟ ».

ـ سبحان الله أنّى لي بعلم ما لم أعلم!! وهل يعلم ما فى القلوب إلا الله.

ـ بعثت إليك أن أسألك ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين بين الصفين توقدين الحرب ، وتحرضين على القتال ، فما حملك على ذلك؟

ـ يا أمير المؤمنين ، إنه قد مات الرأس ، وبتر الذنب ، والدهر ذو غير ، ومن تفكر أبصار ، والأمر يحدث بعده الأمر!!!

ـ صدقت فهل تحفظين كلامك يوم صفين؟

ـ ما أحفظه.

ـ ولكني والله أحفظه لله أبوك لقد سمعتك تقولين : أيها الناس إنكم فى فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن المحجة فيا لها من فتنة عمياء صماء تسمع لناعقها ، ولا تسلس لقائدها ، إن المصباح لا يضيء في الشمس وإن الكواكب لا تنير مع القمر ، وإن البغل لا يسبق الفرس وان الزف(1) لا يوازن الحجر ، ولا يقطع الحديد إلا الحديد ، ألا من استرشدنا أرشدناه ومن استخبرنا أخبرناه ، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها ، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار ، فكان قد اندمل شعب الشتات ، والتأمت كلمة العدل ، وغلب الحق باطله ، فلا يعجلن أحد فيقول : كيف العدل وأنى؟ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ألا إن خضاب النساء الحناء ، وخضاب الرجال الدماء ، والصبر خير عواقب الأمور ، إيها الى الحرب غير ناكصين ، ولا متشاكسين فهذا يوم له ما بعده.

وبعد ما تلى معاوية كلامها تأثر منه واندفع وهو مغيظ محنق فقال لها :

__________________

(1) الزف : الصغير من الريش.

٣٩٧

« والله يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه ».

« أحسن الله بشارتك ، وأدام سلامتك ، مثلك من بشر بخير وسر جليسه ».

« وقد سرّك ذلك؟ »

« نعم والله لقد سرني قولك فأنّى لي بتصديق الفعل!؟ »

فتبهر معاوية من اخلاصها لأمير المؤمنين فقال :

« والله لوفاؤكم له بعد موته احبّ إليّ من حبكم له فى حياته ، اذكري حاجتك؟ »

ـ إني قد آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه شيئا أبدا ومثلك أعطى من غير مسألة ، وجاد عن غير طلب.

ـ صدقت.

ثم أقطعها ضيعة وأوصلها وردها الى أهلها(1) .

إنه وإن أكرمها أخيرا ، وأجزل لها العطاء إلا أنه قد روعها وأفزعها أولا وأظهر لها الظفر والغلبة والنصر عليها.

2 ـ أم الخير البارقية :

كانت أم الخير بنت الحريش البارقية من سيدات النساء ومن البليغات البارعات ، وقد عرفت بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين (ع) ، وكانت في واقعة صفين تحرض الجماهير على حرب ابن هند ، وتحفزهم الى الذب عن أمير المؤمنين ونصرته ، وقد تألم معاوية من مواقفها ، وأضمر لها الحقد والعداء ، ولما انحسرت روح الإسلام باستيلائه على زمام الحكم كتب الى واليه على الكوفة يأمره بأن يحمل إليه أم الخير لينتقم منها ، فلما ورد

__________________

(1) بلاغات النساء لطيفور طبع النجف ص 32 صبح الأعشى ، المستطرف.

٣٩٨

الكتاب الى عامله بعثها إليه ، فلما دخلت على معاوية قالت :

« السلام عليك يا أمير المؤمنين ».

ـ وعليك السلام ، وبالرغم والله دعوتنى بهذا الاسم.

ـ مه يا هذا ، فان بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه.

ـ صدقت يا خالة ، وكيف رأيت مسيرك؟

ـ لم أزل في عافية وسلامة حتى أوفدت الى ملك جزل ، وعطاء بذل ، فأنا في عيش أنيق ، عند ملك رفيق.

ـ بحسن نيتي ظفرت بكم وأعنت عليكم.

ـ مه يا هذا ، لك والله من دحض المقال ما تردّى عاقبته.

ـ ليس لهذا أردناك.

ـ إنما أجرى فى ميدانك إذا أجريت شيئا أجريته ، فاسأل عما بدا لك؟

ـ كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟

ـ لم أكن والله رويته قبل ، ولا زورته بعد ، وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة ، فان شئت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت؟

ـ لا أشاء ذلك!!

ثم التفت الى أصحابه فقال لهم : أيكم حفظ كلام أم الخير؟ فانبرى إليه أحدهم فقال له : أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد فقال له : هاته ، فقال : كأني بها وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية وعلى جمل أرمك(1) وقد احيط حولها وبيدها سوط منتشر الضفر وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول :

« يا أيها الناس ، اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ، إن الله

__________________

(1) جمل أرمك : أي لونه كلون الرماد.

٣٩٩

قد أوضح الحق ، وأبان الدليل ، ونوّر السبيل ، ورفع العلم ، فلم يدعكم فى عمياء مبهمة ، ولا سوداء مدلهمة ، فإلى أين تريدون رحمكم الله! أفرارا عن أمير المؤمنين؟ أم فرارا من الزحف؟ أم رغبة عن الإسلام؟ أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله عز وجل يقول : « ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرون ونبلو أخباركم ».

ثم رفعت رأسها الى السماء وهي تقول : « اللهم قد عيل الصبر ، وضعف اليقين ، وانتشر الرعب ، وبيدك يا رب أزمة القلوب ، فاجمع الكلمة على التقوى ، والّف القلوب على الهدى ، ورد الحق الى أهله ، هلموا رحمكم الله الى الإمام العادل ، والوصي الوفي ، والصديق الأكبر ، إنها احن بدرية ، وأحقاد جاهلية ، وضغائن أحدية ، وثب بها معاوية حين الغافلة ، ليدرك بها ثارات بني عبد شمس ».

ثم قالت : « قاتلوا أئمة الكفر انهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون » صبرا معاشر المهاجرين والأنصار ، قاتلوا على بصيرة من ربكم ، قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة ، فرت من قسورة ، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض ، باعوا الآخرة بالدنيا ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وباعوا البصيرة بالعمى ، وعما قليل ليصبحن نادمين حين تحل الندامة فيطلبون الاقالة إنه والله من ضل عن الحق وقع فى الباطل ، ومن لم يسكن الجنة نزل النار ، أيها الناس إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها ، واستبطئوا مدة الآخرة فسعوا لها ، والله أيها الناس لو لا أن تبطل الحقوق ، وتعطل الحدود ، ويظهر الظالمون ، وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه ، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ عن ابن عم رسول الله (ص) وزوج ابنته وأبي ابنيه؟ خلق من طينته ، وتفرع من

٤٠٠

401

402

403