مفاهيم القرآن الجزء ٨

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 167158 / تحميل: 5805
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٨

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-١٤٨-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الحقائق العلوية.

حيث يقول: دلّ العقل علىٰ أنّ سعادة النفوس في معرفة الله تعالى ومحبته، وعلىٰ أنّ سعادة الأبدان في إدراك المحسوسات، ودلّ الاستقراء على أنّ الجمع بين هاتين السعادتين في الحياة الدنيا غير ممكن، وذلك أنّ الإنسان حال استغراقه في تجلّي أنوار عالم الغيب لا يمكنه الالتفات إلى اللّذات الحسية، وإن أمكن كان علىٰ ضعف جداً بحيث لا يعد التذاذاً، وبالعكس، لكن تعذر ذلك، سببه، ضعف النفوس البشرية هنا، فمع مفارقتها واستمدادها الفيض من عالم القدس تقوى وتشرق، فمع إعادتها إلى أبدانها غير بعيد أن تصير هناك قوية على الجمع بين السعادتين على الوجه التام وهو الغاية القصوىٰ في مراتب السعادة. قالوا: وهذا لم يقم علىٰ امتناعه برهان، فلذلك أثبتوا المعادين.(١)














__________________

١. اللوامع الإلهية: ٣٧٨.

١٤١





الفصل الحادي عشر :

المعاد الجسماني والتناسخ

التناسخ مأخوذ من نسخ وهو يتضمن معنيين، التحوّل والانتقال أوّلاً، والتعاقب بين الظاهرتين ثانياً، يقول الراغب في مفرداته: النسخ إزالة شيء بشيء يتعاقبه، كنسخ الشمسِ الظلَّ، والظلُّ الشمسَ، والشيبُ الشبابَ.

غير أنّ التناسخ الذي يبحث عنه في المعاد لا يتضمن إلّا القيد الأوّل وهو الانتقال، وأمّا التعاقب ومجيئ الظاهرة الثانية بعد الظاهرة الأُولىٰ فليس هو شرطاً، نعم هو شرط في النسخ الشرعي، حيث إنّ نسخ حكم يلازم تشريع حكم ثان يزيله وينسخه، وإليك أنواع الانتقال :

الأوّل: انتقال النفس الإنسانية من النشأة الأُولىٰ إلى النشأة الآخرة.

الثاني: انتقال النفس في هذه النشأة من مرتبة إلىٰ مرتبة أفضل في ظل الحركة الجوهرية كما هو الحال في الطفل الوليد.

الثالث: انتقال النفس بعد خروجها عن هذه الدنيا إلىٰ خلية نباتية أو نطفة حيوانية أو جنين إنساني.

وفي الحقيقة لا يراد من التناسخ المصطلح إلّا الثالث، وحقيقته أنّ الإنسان بعد موته ينتقل إلى هذه النشأة، سواء انتقلت إلى جسم نباتي أو حيواني أو إنساني ،

١٤٢

ولازم ذلك أنّ الروح بعدما تكاملت وتبدّلت قواها إلى الفعلية تأخذ بالقوس النزولي فيتعلق بالنبات والحيوان والجنين فتبدأ حياتها من جديد، فَتُجزى حسب أعماله في الحياة السابقة، هذا هو التناسخ المصطلح بين الإسلاميين وفلاسفة الاغريق.

وكثيراً ما يلتجئ إلىٰ هذه الفرضية من ينكر المعاد، لأنّ رجوعه إلى عالم الدنيا لأجل الجزاء، ومعه لا حاجة إلى المعاد.

ذهب القائلون بالتناسخ إلى أنّ الإنسان في هذه الدنيا بين محسن ومسيء فيعود إلى الدنيا ليجزىٰ المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فما يرىٰ من ابتلاء طائفة بالمصائب والمتاعب فإنّما هي جزاء أعمالها السيئة، بخلاف طائفة أُخرى حيث ترغد بالعيش والرفاه التي هي نتيجة أعمالها الحسنة.

وثمة نكتة جديرة بالذكر وهي أنّ أكثر من يروّج تلك الفكرة هم أصحاب السلطة والنفوذ الذين يمتلكون المال والجاه الواسع، يروّجون التناسخ ليبرّروا به الأعمال الجائرة التي يقترفونها والأوضاع السيئة التي يعاني منها الفقراء والمساكين. فنعيماً على الطائفة الأُولى وبؤساً على الطائفة الثانية، جزاءاً بما كانوا يعملون في الحياة الأُولى، هذا هو منطقهم الواهي.

فلو قيل بأنّ الدين أفيون الشعوب، فإنّما يصحّ في حقّ هذا النوع من الدين الذي يبرر به أعمال تلك الطغمة الغاشمة.

والعجب أنّ هذه الفكرة تسرّبت إلى أُمّة تعيش بين غنىٰ مفرط وفقر مدقع كالهنود، فأضحت تلك الفكرة ونشرها بين الضعفاء عائقاً يمنعهم عن أيّ ثورة عارمة ضد الظلم والعدوان بزعم أنّ الثائرين أحقّ بالوضع الموجود، كما أنّ أصحاب السلطة أحقّ بما هم عليه.

وعلى أيّة حال فلنتناول الموضوع بالبحث من منظار القواعد الفلسفية العقلية.

١٤٣

أقسام التناسخ

التناسخ عند القائلين به على أقسام نطرحها علىٰ طاولة البحث :

أ. التناسخ المطلق أو اللا محدود

يطلق التناسخ ويراد منه خروج النفس من بدن إلىٰ بدن آخر على وجه الاستمرار وذلك، لأنّ النفوس البشرية عند خروجها من البدن ليست مجرّدة كاملة، فلا مانع من تعلّقها ببدن آخر، وثالث، ورابع، وهكذا تستمر في تقمصها الأبدان.

يقول شارح حكمة الإشراق: ومن القدماء من يقول بعدم تجرّد جميع النفوس بعد المفارقة، وهم المترفون بـ‍ « التناسخية » فانّهم يزعمون أنّ النفوس جرمية دائمة الانتقال في الحيوانات، وهؤلاء أضعف الحكماء وأقلّهم تحصيلاً.

ثمّ أورد عليه بأنّ العناية الإلهية تقتضي إيصال كلّ ذي كمال إلى كماله، وكمال النفس الناطقة العلمي، صيرورتها عقلاً مستفاداً فيها جميع صور الموجودات، والعملي تجرّدها عن العلائق البدنية، فلو كانت دائمة الانتقال كانت ممنوعة عن كمالها أزلاً وأبداً، وهو محال.(١)

وهذا النوع من التناسخ على طرف النقيض من القول بالمعاد، إذ لا ينقطع تعلّقها بالبدن الدنيوي مادامت موجودة، فلا مجال للمعاد عندئذٍ.

ب. التناسخ النزولي المحدود

القائل بهذا النوع من التناسخ يدّعي أنّ النفوس علىٰ صنفين، فصنف يبلغ

__________________

١. شرح حكمة الإشراق: شمس الدين محمد الشهرزوري: ٥١٩، بتحقيق حسين الضيائي التربتي.

١٤٤

في الحكمة العلمية والعملية بمكان لا تعود حينها النفس إلى هذه النشأة بعد خروجها من البدن بل تلتحق بعالم المجرّدات والمفارقات، ولا مسوِّغ لرجوعها إلى الدنيا لبلوغها الكمال المطلوب.

وثمّة صنف آخر لم يكتسب من الكمال العلمي والعملي إلّا شيئاً يسيراً، ولذا استدعت الحاجة إلى عود النفس إلى النشأة الأُولىٰ بغية بلوغها الكمال المطلوب، وذلك من خلال الانتقال بين الأبدان.

وهذا القسم من التناسخ ينقطع ببلوغ النفس المرتبة الكاملة من العلم والعمل بعودها إلى الدنيا مرّة بعد أُخرى.

والفرق بين القسم الأول وهذا القسم من التناسخ من وجهين :

الأوّل: هو عمومية الأوّل وشموليته لكافة الأفراد، بخلاف الثاني فانّه يختص بغير الكمَّلين في العلم والعمل.

الثاني: استمرار التناسخ عبْر الزمان دون أن يقف إلىٰ حدّ معيّن في الأوّل، دون الثاني، الذي ربّما ينتهي ببلوغ النفس المستنسخة الكمالَ المطلوب في العلم والعمل.

يقول شارح حكمة الإشراق: وأمّا الحكماء الأوائل كهرمس وانباذقلس وفيثاغورس وسقراط وإفلاطون وغيرهم من حكماء يونان ومصر وفارس والهند والصين، وهم القائلون بتجرّد النفوس الكاملة بعد المفارقة البدنية، إلى العالم العقلي المذكور، وأمّا الناقصون فانّهم لا يتجرّدون بالكلية بل تتناسخ أرواحهم في أبدان الحيوانات الصامتة بحسب الهيئات الرديئة التي لهم ومناسبة أخلاقهم لأخلاق الحيوانات المنتقلة إليها.(١)

__________________

١. شرح حكمة الإشراق: ٥١٩.

١٤٥

ج. التناسخ الصعودي

إنّ النبات أكثر استعداداً من غيره من الأجسام لكسب الفيض، كما أنّ الإنسان له قدر كبير من الاستعداد لإفاضة الحياة عليه بعد الحياتين: النباتية والحيوانية، فعلى ضوء ذلك فقد تعلّقت مشيئته سبحانه على تعلّق الحياة في سيرها التكاملي بالنبات الأقرب إلى الحيوان، ثمّ تنتقل منها إلى عالم الحشرات، ومنها إلى الحيوانات هي أقرب إلى الإنسان، ومنها تنتقل الحياة قفزة إلى الإنسان للاستكمال.(١)

التناسخ والمعاد

التناسخ بالمعنى الأوّل: أي التناسخ المطلق اللامحدود على طرف النقيض من المعاد، فالاعتقاد به يصدُّ الإنسان عن الإيمان بالمعاد.

وهذا بخلاف التناسخ النزولي فقد عرفت أنّه ليس أمراً عامّاً لجميع أفراد البشر، فالكاملون في العلم والعمل يلتحقون بعالم المجرّدات النورانية والمفارقات، والناقصون فيهما يتكاملون شيئاً فشيئاً عبر الرجوع إلى الدنيا وانتقال أرواحهم بين الأبدان مرّة تلو أُخرى حتى تصل تلك الأرواح إلى كمالها المطلوب فلا تعود حينها إلى الدنيا.

وأمّا التناسخ بالمعنى الثالث ـ أعني: التناسخ الصعودي ـ فلا ينافي القول بالمعاد، وإنّما أخطأوا في تفسير تكامل النفس حيث جعلوا مدارج الكمال منفصلة بعضها عن بعض.

فالنفس تارة تعيش في النبات الأقرب إلى الحيوان ثمّ تستقر في أوكار

__________________

١. أسرار الحكم.

١٤٦

الحيوان ثمّ تنتقل إلى الإنسان، وهي ترافق البدن حتى تنفصل عنه ويكون مصيرها إلى المعاد.

والقائل بتلك النظرية لو جعل مدارج الكمال متصلة لشكّلت نقطة التقاء واضحة مع نظرية صدر المتألّهين، فانّ النفس بناء على نظريته تمرّ بمراحل النبات والحيوان والإنسان بنحو مستمر دون أن يتخلّل في الوسط انفصال وخلاء في الموضوع ثمّ تعرج نحو المعاد.

التناسخ المطلق والعناية الإلهية

١. إنّ القائلين بالتناسخ المطلق أطاحوا بالمعاد زعماً منهم بأنّ القول به يغني عن الإيمان بالحياة الأُخرى، لأنّ غاية المعاد هو الجزاء، وهو حاصل بالقول بالتناسخ، ولكن عزب عنهم أنّ الغاية من المعاد لا تنحصر في الجزاء، بل هو ضرورة في عالم التكوين لإيصال كلّ موجود إلى كماله المطلوب، وهذا لا يحصل إلّا بانتقال الإنسان إلى النشأة الأُخرى. وقد أقمنا براهينه الستة في صدر الكتاب.

٢. إنّ النفس على القول بالتناسخ المطلق ( أي انتقال النفس من بدن إلى بدن ) لا تخلو إمّا أن تكون عرضاً منطبعة في البدن الأوّل قائمة به، أو تكون جوهراً، لها حظ من التجرّد، وإن كان لها علقة بالمادة.

ففي الصورة الأُولى يلزم انتقال العرض من موضوع إلى موضوع، وهو أمر محال، لأنّ واقع العرض عبارة عن قيامه بالموضوع، وهذا لا ينفك عنه أبداً، فهناك أُمور ثلاثة :

أ. النفس في البدن الأوّل.

ب. النفس حالة الانتقال من البدن الأوّل إلى الثاني.

ج. النفس بعد الانتقال إلى البدن الثاني.

١٤٧

لا غبار في الأوّل والثالث لقيام العرض في موضوعه.

إنّما الكلام في واقع العرض حال الانتقال فيلزم في هذه الحال قيام العرض بلا موضوع، وهو من الاستحالة بمكان.

وأمّا في الصورة الثانية، أعني: تعلّق النفس التي لها حظ من التجرّد، بالبدن استمراراً، وهذا أيضاً محال، لأنّه يلزم أن لا يصل الموجود القابل، إلىٰ كماله مع أنّ له قابلية الوصول، لأنّ النفس مجرّدة ذاتاً ومادية فعلاً، فلو كان تعلّقها بالمادة دائمياً يلزم أن يكون فعله سبحانه على خلاف عنايته من إيصال كلّ موجود إلى كماله.

يقول صدر المتألّهين في بيان الشقين: إنّ النفس إمّا أن تكون منطبعة في الأبدان، أو مجرّدة، وكلاهما محال، أمّا الأوّل فلما عرفت من استحالة انطباع النفوس الإنسانية، ومع استحالته مناف لمذهبهم أيضاً لامتناع انتقال المنطبعات صوراً كانت أو اعراضاً من محلّ إلى محل آخر مبائن للأوّل.

وأمّا الثاني فانّ العناية الإلهية تأبىٰ ذلك، لأنّها مقتضية لإيصال كلّ موجود إلىٰ غايته وكماله، وكمال النفس المجردة إمّا العلمي فبصيرورتها عقلاً مستفاداً فيها صور جميع الموجودات، وإمّا العملي فبانقطاعها عن هذه التعلّقات وتخليتها عن رذائل الأخلاق ومساوئ الأعمال، وصفاء مرآتها عن الكدورات، فلو كانت دائمة التردد في الأجساد من غير خلاص إلى النشأة الأُخرى ولا اتصال إلى ملكوت ربّنا الأعلىٰ كانت ممنوعة عن كمالها اللائق بها أبد الدهر والعناية تأبى ذلك.(١)

وما ذكرهقدس‌سره في الفرض الثاني لا يخلو عن مناقشة، لأنّ تعلّق النفس بالبدن لا يكون مانعاً عن سيرها وصعودها نحو الكمال، و إلّا يلزم أن يكون تعلّق النفس بالبدن في النشأة الأُخرى مانعاً عن سيرها التكاملي، مع أنّك عرفت تضافر الآيات

__________________

١. الأسفار: ٩ / ٧.

١٤٨

علىٰ جسمانية الحشر.

والحقّ في الجواب أن يقال: إنّ القول بالتناسخ المستمر حتى فيما إذا كانت النفس جوهراً مجرداً يلزم نفي الحشر والمعاد، وقد عرفت تضافر الأدلّة علىٰ ضرورته وأنّه من لوازم الخلقة وغاياتها ولا يمكن إخلاء الكون عن تلك الغاية.

هذا كلّه حول التناسخ المستمر المطلق. وإليك البحث في القسمين الآخرين، أعني: التناسخ النزولي والتناسخ الصعودي.

المعاد والتناسخ النزولي

قد تقدّم أنّ الكاملين في العلم والعمل عند أصحاب هذا القول يلتحقون بالمفارقات والمجردات ولا يعودون إلى الدنيا، وإنّما ترجع الطائفة التي لم تنل من العلم والعمل نصيباً وافراً عن طريق التعلق بالخليّة النباتية أو الحيوانية أو النطفة الإنسانية.

قال في شرح حكمة الإشراق: النور الاسفهبد إذا فارق البدن الإنساني ولم يكتسب فيه الكمالات العقلية والهيئات الخلقية الفاضلة، بل اكتسب فيه أضداد ذلك من الجهالات المركبة، والأخلاق المذمومة، فلا يشتاق إلى المبادئ النورانية والأُمور العقلية بل شوقه إلىٰ ما تمكن فيه من الهيئات الظلمانية والآثار الجسمانية فينجذب لذلك بعد الموت إلىٰ بعض الحيوانات المنتكسة الرؤوس التي أخلاقها مناسبة لتلك الهيئات الرديئة البدنية المتمكنة في ذاته.(١)

والتناسخ بهذا المعنى غير صحيح، لأنّ النفس الإنسانية في هذه النشأة إذا مكثت أربعين سنة مرافقة للبدن فسوف تكتسب فعليات ويتحول استعدادها إلىٰ كمالات، وعندئذ فلو تعلّقت بخلية من الخلايا الثلاث فإمّا أن تتعلّق بها مع حفظ

__________________

١. شرح حكمة الإشراق: ٥٢٢.

١٤٩

كمالاتها وفعلياتها، أو تتعلّق بحذفها وسلبها عن نفسها.

أمّا الصورة الأُولى فهي غير معقولة، لأنّه يشترط في تدبير النفس للبدن وجود الانسجام الكامل بينهما وهو مفقود في النفس التي رافقت البدن طيلة ٤٠ سنة وتعلّقت بخلية ليس لها من الفعلية سوى كونها قوة للكمال، فكيف تكون تلك النفس مدبرة لها ؟

وأمّا الصورة الثانية: فهي أيضاً كالصورة الأُولىٰ، لأنّ سلب تلك الكمالات رهن عامل داخلي أو خارجي، أمّا الداخلي فهو غير ممكن إذ معنىٰ ذلك أنّ الحركة من الكمال إلى النقص خصيصة الشيء وهو غير متصوّر.

وأمّا الخارجي فهو أيضاً كالأوّل، لأنّ عنايته سبحانه تعلّقت بإرسال القوى إلى الكمال وإيصال كلّ ممكن إلىٰ غايته المنشودة، لا سلب الكمالات والفعليات عنه.

وهذا هو الذي أشار إليه صدر المتألّهين في كلام مبسّط وما ذكرناه هو حصيلة مراده، حيث قال: العمدة في بطلان التناسخ علىٰ جهة النزول، أنّ الموجودات الصورية كالطبائع والنفوس متوجهة نحو غاياتها الوجودية خارجة عمّا لها من القوة الاستعدادية إلى الفعلية، والنفس مادامت في بدنها يزيد بجوهرها وفعليتها فيصير شيئاً فشيئاً أقوىٰ وجوداً وأشد تحصلاً سواء أكانت من السعداء في النشأة الأُخرىٰ أو من الأشقياء، وقوة الوجود يوجب الاستقلال في التجوهر والاستغناء عن المحل أو المتعلّق به حتى يصير المتصل منفصلاً والمقارن مفارقاً، فكون النفس الإنسانية حين حدوثها في البدن مجردة الذات مادية الفعل، وعند فساد البدن بحيث صارت مادية الذات والفعل جميعاً، كما يلزم من كلامهم في نفوس الأشقياء حيث تصير بعد فساد البدن نفساً حيوانية غير مجردة ذاتاً وفعلاً، كما رأوه، ممّا يحكم البرهان علىٰ فساده، ويصادمه القول بأنّ للأشياء غايات

١٥٠

ذاتية وانّها بحسب الغايات الزمانية طالبة لكمالاتها مشتاقة بغرائزها إلى غاياتها، فهذه الحركة الرجوعية في الوجود من الأشد إلى الأنقص، ومن الأقوىٰ إلى الأضعف بحسب الذات، ممتنع جدّاً.(١)

التناسخ الصعودي

التناسخ الصعودي عبارة عن تكامل النفس عبْر قنوات النباتية ثمّ الحيوانية ثمّ الإنسانية، بنحو يكون بينها فصل حقيقي يتخلّله الزمان. ولكن التناسخ بهذه الصورة من الوهن بمكان، فانّ النفس لا تخلو عن حالتين :

إمّا أن تكون صورة منطبعة في النبات أو الحيوان أو الإنسان، أو تكون أمراً مجرداً.

فعلى الأوّل، تكون للنفس هناك حالات ثلاث :

١. وجودها منطبعة في الموضوع المتقدّم.

٢. وجودها منطبعة في الموضوع المتأخر.

٣. حالة الانتقال من الأوّل إلى الثاني.

والحالتان الأُوليتان لا غبار عليهما، إنّما الإشكال في الحالة الثالثة لقيام العرض بلا موضوع.

وأمّا إذا كانت النفس موجوداً مجرّداً غير قائم بالبدن وإنّما تحتاج إليه في مقام الفعل والعمل، فعندئذٍ نقول: كيف يمكن أن تتعلّق النفس الحيوانية بالبدن الإنساني، لأنّ كمال الأُولىٰ هو كونها ذات قوة شهوية وغضبية غير معدلة ولا محددة وهذا يعد لها كمالاً، فلو تعلّقت النفس المذكورة بالبدن الإنساني فستكون عائقة عن تكامله، لأنّ تكامل الإنسان يكمن في أن تكون قواه معدلة وشهوته

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٦.

١٥١

وغضبه محددة، وأمّا لو تعلّقت به بعد تحديدها وتعديلها فسيكون نقصاً للنفس الحيوانية وسيراً نزوليّاً لها.

وبعبارة أُخرىٰ: إمّا أن تتعلّق النفس الحيوانية بالبدن الإنساني بما لها من التعيّنات والخصوصيات، فهذا يوجب انحطاط الإنسان، وإمّا أن تتعلّق به منعزلة عن القوى الحيوانية، فقد فقدت حيوانيتها وكمالها عندما تعلّقت بالبدن الإنساني.

وعلىٰ كلّ حال فأصحاب ذلك القول أصابوا في المدعىٰ وأخطأوا في التخطيط، فانّ النفس تمر عبر قنوات النباتية والحيوانية والإنسانية لكن لا بمدارج منفصلة وتعينات مختلفة، بل النباتية بكمالها لا بحدودها تنقلب إلى الحيوانية، وهي بكمالها لا بحدودها تصير إنساناً، كما هو الحال في القول بالحركة الجوهرية، فانّ المتحرك يتحرك من مرحلة نازلة إلىٰ مرحلة كاملة، وعندما يصل إليها يحمل كمالات المرحلة الأُولىٰ لا بحدودها، وهكذا الحال في الإنسان، فالنفس النباتية بكمالها تتحرك إلى الحيوانية وهي أيضاً بكمالها لا بحدودها تصير إلى الإنسانية.

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى التناسخ، وقد علمت أنّ التناسخ بأقسامه الثلاثة باطل، غير أنّ التناسخ له أقسام مختلفة وأُصول الأقسام ما ذكرنا.

يقول الشهرزوري عند شرحه لحكمة الإشراق: ويسمّون انتقال النفس من البدن الإنساني إلى بدن إنساني آخر « نسخاً » وإلى بدن حيواني « مسخاً » وإلى البدن النباتي « فسخاً » وإلى الجمادي « رسخاً »، وصاحب أخوان الصفا يميل إلى جواز انتقال النفوس إلىٰ جميع هذه الأجسام مترددة فيها أزماناً طويلة أو قصيرة إلىٰ أن تزول الهيئات الرديئة ثمّ تنتقل منها إلى العالم الفلكي الخيالي. ومن أراد الوقوف على صنوفه الكثيرة فعليه الرجوع إلىٰ شرح حكمة الإشراق.(١)

__________________

١. شرح حكمة الإشراق: ٥١٩ ـ ٥٢٠.

١٥٢

أسئلة وأجوبة

١. هل المسخ في الأُمم السابقة من قسم التناسخ ؟

ربما يطرح هذا السؤال بأنّه إذا كان التناسخ أمراً محالاً فلماذا طرأ المسخ على طائفة من الأُمم السابقة كأصحاب السبت فانقلبوا قردة خاسئين يقول سبحانه:( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ) (١) ؟.

وفي آية أُخرى:( فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (٢) .(٣)

والجواب: انّ التناسخ يتقوّم بأمرين :

أ. تعدّد البدن وخروج النفس من بدن إلى بدن آخر، سواء كان البدن الآخر خلية نباتية، أو نطفة حيوانية أو إنسانية.

ب. السير النزولي بأن تتقهقر النفس إلى الوراء فتفقد كمالاتها عند تعلّقها بالبدن الآخر.

وكلا الشرطين غير متوفرين في المورد.

أمّا الأوّل: فالبدن هو نفس البدن، فالممسوخ له بدن واحد، تبدّلت صورته إلى صورة أُخرى، وانقلبت صورته البهية إلىٰ صورة رديئة.

__________________

١. المائدة: ٦٠.

٢. الأعراف: ١٦٦.

٣. شرح المقاصد: ٢ / ٤٠، ط آستانة.

١٥٣

وأمّا الثاني: فهو أيضاً كذلك، أي لم يكن هناك أيُّ سير قهقرايّ للنفس، وذلك لأنّ الهدف من المسخ هو تعذيبهم وجزاؤهم جزاءً سيّئاً، ولا يتحقق ذلك إلّا بتحولهم إلى قردة بعد ان كانوا أُناساً، وهذا النوع من الإدراك عند التوجه إليه يؤلمهم روحاً ويعذبهم فكراً، ولذلك يقول سبحانه:( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) .(١)

وبكلمة موجزة: انّ واقعية المسخ عبارة عن انقلاب الإنسان إلى صورةِ حيوان مع التحفظ على إنسانيته، وهو غير التناسخ الباطل.

٢. هل الرجعة من أقسام التناسخ ؟

الشيعة تعتقد بعودة جماعة ـ بعد قيام المهديعليه‌السلام ـ إلىٰ هذه النشأة، قال الشيخ المفيد: إنّ الله تعالى يحيي قوماً من أُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موتهم، قبل يوم القيامة، وهذا مذهب يختص به آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله . والرجعة إنّما هي لممحضي الإيمان من أهل الملّة وممحضي النفاق منهم دون من سلف من الأُمم الخالية.(٢)

وصار ذلك سبباً لصب التُّهَم على الشيعة بأنّهم قائلون بالتناسخ.(٣)

والجواب: انّ الرجعة تفارق التناسخ جوهراً وذاتاً، لما ذكرنا من أنّه يتقوّم بأمرين: تعدّد البدن، وتراجع النفس عن كمالها إلى النقص، وكلا الأمرين غير موجودين في الرجعة.

أمّا الأوّل: فلأنّ الحياة ترجع إلىٰ نفس البدن الذي تركته حين الموت فيتعلّق نفس كلّ إنسان ببدنه.

__________________

١. البقرة: ٦٦.

٢. المسائل السروية: ٣٢ و ٣٥.

٣. فجر الإسلام: ٢٧٧.

١٥٤

وأين هذا من تعلّق النفس بخلية نباتية أو حيوانية أو إنسانية أو غير ذلك ؟

وأمّا الثاني: فلا تراجع للنفس عن مقامها الشامخ إلىٰ درجة نازلة، بل هي مع مالها من الفعلية والكمالات تتعلّق بالبدن الذي فارقته حين الموت دون أيِّ تقهقر.

ليت شعري لو كان العود إلى الحياة الدنيوية تناسخاً علىٰ وجه الإطلاق، فبماذا يفسر إحياء الموتى الذي كان يقوم به المسيحعليه‌السلام يقول سبحانه:( وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَىٰ بِإِذْنِي ) ؟!(١) .

نعم هنا سؤال نحيل الإجابة عنه إلىٰ مجال آخر، وهو أنّ الرجوع إلى النشأة الدنيوية لأجل الاستكمال فما هو الوجه لرجوع الصالحين أو الفاسقين إلى الدنيا، فانّ الطائفة الأُولى انقلبت استعداداتها إلى الفعلية وقد درجوا عامة المنازل والمدارج فلم يبق كمالٌ إلّا ولجوه، كما أنّ الطائفة الثانية لا يرجى لهم أن يكتسبوا خيراً ; ومع غياب هذه الغاية فكيف يرجعون إلى الدنيا ؟

وعلى كلّ حال فهذا سؤال نحيل الإجابة عنه إلىٰ مجال آخر.

٣. السنّة الإلهية والرجوع إلى الدنيا

ما هي سنّة الله من وراء رجوع الإنسان إلىٰ هذه الدنيا ؟ والمراد إعطاء الضابطة الكلية في هذه المسألة.

والمستفاد من القرآن أنّ السنة الإلهية قد جرت علىٰ إيصاد كافة أبواب رجوع الإنسان إلى الدنيا وإن التمس الرجوع فيخاطب بالرد والنفي، يقول سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا

__________________

١. المائدة: ١١٠.

١٥٥

تَرَكْتُ كَلاًّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .(١)

ومن العجب أنّ هناك من يدّعي بأنّه قادر على جلب الأرواح من عالمها العلوي والارتباط بها فيسألهم عن أحوالهم فربما يجيبون بأنّ أرواحهم في بدن طائر أو نبات والآن في بدن إنسان، ويبغي من وراء ذلك أن يبث تلك الفكرة بين المسلمين.

نعم هؤلاء يتصلون بالأرواح عن طريق التنويم المغناطيسي ومخاطبة الوسيط النائم بسؤال الأرواح عن واقعهم وماضيهم وأحوالهم، فربما يجيب النائم ببعض هذه الأجوبة، ويقول: إنّ الروح الفلانية في هذا العالم في جسم نبات أو حيوان أو إنسان.

ولكن من أين علم بصدق ما جاء على لسان الوسيط وأنّه ليس بوحي الشيطان، ولا قواه الخيالية ؟ إلىٰ غير ذلك من مصادر إلقاء الكلام على لسان الوسيط.

والله سبحانه يعصمنا من وساوس الشيطان ومزالق الأقدام.










__________________

١. المؤمنون: ٩٩ ـ ١٠٠.

١٥٦





الفصل الثاني عشر :

الموت نافذة تطل على الحياة الجديدة

إنّ الموت حسب ما يصفه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أوّل منزلٍ من منازل الآخرة وآخر منزل من منازل الدنيا، فثمة مباحث لها صلة بالموت، نطرحها في المقام واحداً تلو الآخر.

أ. الموت في اللغة والقرآن.

ب. هل الموت أمر عدمي ؟

ج. الموت سنّة عامة قطعية.

د. خوف الإنسان من الموت.

ه‍. أقسام الموت في القرآن الكريم.

و. الموت والأجل المحتومان.

ز. التوبة والندامة قُبيل الموت أو حينه.

ح. الوصية حال الموت.

ط. سرّ جهل الناس بآجالهم.

ي. الموت والملائكة الموكّلون

فهذه مباحث عشرة نتناولها بالبحث على ضوء القرآن الكريم.

١٥٧

أ. الموت في اللغة والقرآن

الموت حسب ما يقوله صاحب المقاييس(١) ولسان العرب(٢) عبارة عن ذهاب القوّة في الشيء. وبمناسبة هذا المعنى، استعمل لفظ الموت في موارد كثيرة يظن انّها معاني مختلفة له، بل الحقّ أنّ المعنىٰ واحد وهذه مصاديق لهذا الجامع، ولو كانت هناك خصوصيات تميّز كلّ واحد عن الآخر، فإنّما هي من لوازم تلك المصاديق لا من خصوصيات المعنى.

ولذلك يستعمله القرآن الكريم تارة في الأرض الجرداء القاحلة ويقول:( وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ ) .(٣) وأُخرى في الأصنام الفاقدة للحركة، ويقول:( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ) .(٤) وثالثة في مراحل الخلقة التي يمرّ بها الإنسان قبل ولوج الروح ويقول:( وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) .(٥) ورابعة في الإنسان المنزوع عنه الروح، قال سبحانه:( ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ) .(٦) وهذه المراحل تشترك في المعنى الجامع للموت، وهو ذهاب القوّة عن الشيء، فيكون اللفظ مشتركاً معنوياً له مصاديق متنوعة.

ب. هل الموت أمر عدمي ؟

إذا كان المراد من الموت هي الحالة العارضة على الإنسان بعد نزع روحه

__________________

١. مقاييس اللغة: ٥ / ٢٨٣.

٢. لسان العرب: ٢ / ٩٠.

٣. يس: ٣٣.

٤. النحل: ٢١.

٥. البقرة: ٢٨.

٦. المؤمنون: ١٥.

١٥٨

وذهاب قواه فهو أمر عدمي بلا شك، لأنّ مرجعه إلىٰ فقدان القوىٰ، وهو أمر غير وجوديّ، وعلى الرغم من ذلك يمكن تناول الموت من منظار آخر :

١. أخذ القوى والطاقات، فلا شكّ أنّه أمر وجودي، لأنّه فعل وحركة وإن كانت نتيجته عروض حالة عدمية على الإنسان.

٢. الموت لا بما أنّه نهاية الحياة الدنيوية بل بما انّه انتقال من مرحلة إلىٰ مرحلة أُخرى، ومن حياة دانية إلىٰ حياة عالية، فهو بهذا المعنى ليس أمراً عدميّاً، قال عليٌّعليه‌السلام : « أيّها الناس إنّا وإيّاكم خلقنا للبقاء لا للفناء، لكنّكم من دار إلى دار تنقلون ».(١)

وقال الإمام الحسين سيّد الشهداءعليه‌السلام لأصحابه يوم عاشوراء عند ما رأى استعدادهم للتضحية والفداء في سبيل الحق وخاطبهم بقوله: « صبراً بني الكرام، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسع والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟ وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إنّ أبي حدّثني عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : انّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبت ولا كُذبت ».(٢)

٣. ربما يضاف الموت إلى البدن وأُخرى إلى الروح، ففي الإضافة الأُولى يكون الموت أمراً عدمياً، لأنّ البدن يفقد الحركة والانتقال، ولكنّه في الإضافة الثانية أمر وجودي، وهو عبارة عن انتقاله من عالم إلى آخر، ولا يفقد الروح شيئاً، ولأجل ذلك نرى أنّ الموت أُضيف في القرآن إلى البدن دائماً لا إلى الروح.

إذا عرفت ذلك، فنقول: إنّ القرآن يعدّ الموت مخلوقاً لله كالحياة ويقول:

__________________

١. الإرشاد للمفيد: ١٢٧.

٢. البحار: ٦ / ١٥٤.

١٥٩

( الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ) (١) ، والخلق والجعل لا يتعلّق بأمر عدمي وإنّما أُضيف إليه باعتبار بعض المعاني التي ذكرنا أنّ الموت فيها أمر وجودي.

وهناك وجه آخر لبيان تعلّق الجعل بالموت، وهو أنّ الموت عبارة عن تقدير الحياة في النشأة الأُولى، ونفس التقدير أمر وجودي، قال سبحانه:( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) .(٢)

وأمّا تذييل الآية بقوله:( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) لغرض بيان أنّ موت الإنسان ليس معلولاً لقدرة أُخرى حتى تسبق قدرةَ الله سبحانه، وإنّما ذلك سنّة إلهية جارية في الأحياء، فلم يُكتب علىٰ حيّ في هذه النشأة الخلود والدوام.

ج. الموت سنّة عامة قطعية

أثبتت العلوم الحديثة أنّ الكون يسير باتجاه موت حراري وشيخوخة يصطلح عليها في الفيزياء بالانتروبي.

يقول الدكتور « فرانك الن »: إنّ قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أنّ مكوِّنات هذا العالم تفقد حرارتها تدريجياً، وأنّها سائرة حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الانخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة، ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت.

أمّا الشمس المستقرة والنجوم المتوهّجة والأرض الغنية بأنواع الحياة فكلّها دليل واضح علىٰ أنّ أصل الكون وأساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معيّنة فهو

__________________

١. الملك: ٢.

٢. الواقعة: ٦٠.

١٦٠

أيضاً حدث من الأحداث.(١)

ويقول الدكتور « دونالد روبرت كار »: إنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليّاً ولو كان كذلك لما بقيت فيه أيّ عناصر إشعاعية. ويتفق هذا الرأي مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية.(٢)

أقول: إنّ هذا الأصل يثبت لنا أمرين :

الأوّل: حدوث المادة وكونها مسبوقة بالعدم كما أفاده الدكتور « دونالد »، إذ لو كانت قديمة بلا أوّل لنفدت طاقاتها عبر القرون غير المتناهية، لأنّ صرف القوىٰ المحدودة في زمان غير محدود ينتهي إلى نفاد القوى وعدم بقاء شيء منها، فإذا رأينا بقاء المادة ونشاطها وتفجّر طاقاتها، ننتقل إلى أنّها مسبوقة بالعدم، وانّها وجدت في ظروف محدودة بنحو نفدت بعض طاقاتها.

الثاني: تقويض أُسس النظام السائد تحت غطاء نفاد الطاقات وتساوي الأجسام من حيث الفعل والانفعال والحرارة والبرودة، والإنسان جزء من هذا النظام السائد فهو أيضاً مكتوب عليه الموت.

إنّ العلم الحديث وإن بادر إلىٰ مكافحة الموت وبذل الحياة للإنسان كي يعمّر طويلاً إلّا أنّ هذه المبادرة باءت بالفشل فلم يمكنه أن يهب للإنسان الحياة الخالدة لأنّه سيواجه الموت مهما عمّر، لأنّ الموت سنّة إلهية قطعية، وإلىٰ ذلك تشير الآيات والروايات :

١.( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) .(٣)

٢.( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ) .(٤)

٣.( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ ) .(٥)

__________________

١ و ٢. الله يتجلىٰ في عصر العلم: ٢٧ و ٨٥.

٣. النساء: ٧٨.

٤. آل عمران: ١٨٥.

٥. الأنبياء: ٣٤.

١٦١

وفي الأحاديث ما يدعم ذلك.

قال الإمام عليٌّعليه‌السلام : « فلو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سُلّماً أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داودعليهما‌السلام الذي سُخّر له ملك الجن والإنس ».(١)

ويقول أيضاً في موضع آخر :« إنّ لله ملكاً ينادي في كلّ يوم: لِدُوا للموت ».(٢)

د. خوف الإنسان من الموت

للإنسان حسب فطرته، رغبة في الاستمرار في الحياة، وهذا ممّا لا ينبغي الشكّ فيه، لأنّ الرغبة إلى الحياة أمر جبلي، ولعلها دليل علىٰ أنّ بعد الموت حياة أُخرى فيها تتحقق أُمنيّة الإنسان ولولاها لكانت تلك الرغبة في خلقته أمراً عبثاً سدىً.

والفلاسفة يستدلّون بوجود الرغبة في الحياة على وجود المرغوب إليه في الخارج.

بيد أنّ الناس أمام الموت على صنفين :

فصنف يتصوّر أنّ الموت نهاية الحياة، ولذلك كلّ ما يسمع لفظة الموت يأخذه الحزن والأسىٰ ويتجسّد الموت أمامهم كأنّه غول ذو مخالب فتّاكة يريد أن يبطش بهم.

وآخر ممّن لا يستوحش من الموت ولا من سماعه، لأنّه هو الذي وقف علىٰ حقيقة الحياة الدنيا، وأنّ الموت ليس إلّا قنطرة إلى الحياة الأُخرىٰ، ولذلك يستقبل الموت برحابة صدر ووجه مستبشر.

__________________

١. نهج البلاغة: الخطبة ١٨٢.

٢. نهج البلاغة: من كلماته القصار، برقم ١٣٢.

١٦٢

ثمّ إنّ الأسباب الكامنة من وراء الخوف من الموت أمران :

الأوّل: كون الموت خاتمة المطاف.

الثاني: الإيمان بالحشر والجزاء، وأنّ الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

إنّ القرآن الكريم يصف حالة اليهود ويؤكد على أنّ خوفهم من الموت نجم من جرّاء الأمر الثاني، ويقول:( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (١) ، ويقول في سورة أُخرى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) .(٢)

وقد أشير في بعض الروايات إلىٰ سبب الخوف من الموت.

روى السكوني عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، عن أبيهعليه‌السلام أنّه قال: أتى النبي رجل فقال: مالي لا أحب الموت ؟ فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألك مال ؟ » قال: نعم. قال: « فقدمته ؟ »، قال: لا. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فمن ثمّ لا تحب الموت ».(٣)

وقد أشار الإمام في خطبه وكلمه إلى الأسباب الداعية إلى كراهة الموت، يقولعليه‌السلام : « واعلموا أنّه ليس شيء إلّا ويكاد صاحبه يشبع منه ويملّه إلّا الحياة فانّه لا يجد في الموت راحة ».(٤)

وقالعليه‌السلام : « ولا تكن ممّن يكره الموت لكثرة ذنوبه ».(٥)

__________________

١. البقرة: ٩٤ ـ ٩٥.

٢. الجمعة: ٦ ـ ٧.

٣. البحار: ٦ / ١٢٧.

٤. نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩، ط عبده.

٥. نهج البلاغة: قسم الحكم برقم ١٥٠.

١٦٣

وقال رجل للحسن بن عليّعليهما‌السلام : ما لنا نكره الموت ولا نحبّه ؟ فقال: « إنّكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب ».(١)

قيل للإمام محمد بن عليّ بن موسى: : ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت ؟ قال: « لأنّهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عزّوجلّ لأحبّوه ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا ».(٢)

والرواية تشير إلى السبب الأوّل وهو الجهل بحقيقة الموت وانّه انتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الأُخرى، ولذلك نرى أنّ علياًعليه‌السلام يشتاق إلى الموت ويتحنّن إليه، ويقول: « والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه ».(٣)

وفي خطبة أُخرى يقولعليه‌السلام : « فواللّه ما أُبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ ».(٤)

هذه من خصائص الأولياء وميزاتهم، حيث يستقبلون الموت بصدر رحب لأنّهم يرون الموت قنطرة من الحياة الدنيا إلى حياة طيبة، يقول سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ *لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) .(٥)

__________________

١. البحار: ٦ / ١٢٩.

٢. معاني الأخبار: ٢٠٩.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ٥.

٤. نهج البلاغة: الخطبة ٥٥.

٥. الأنبياء: ١٠١ ـ ١٠٣.

١٦٤

ه‍. أقسام الموت في القرآن الكريم

إذا كان الموت انتقالاً من دار إلى دار ومن حياة ضيقة إلى حياة واسعة، فطبيعة الحال تقتضي أن لا يكون أمراً يسيراً بل يتزامن مع العسر والحرج، وهذا نظير انتقال الجنين من رحم الأُمّ الضيّق إلى الدنيا الواسعة ويتزامن هذا الانتقال مع العسر.

نعم هذا العسر يكون مقدمة لحياة جديدة مرافقة لليسر.

وقد أشار الإمام الثامنعليه‌السلام إلى المواقف التي يشهدها الإنسان مع الخوف والوجل :

١. الولادة ٢. الموت ٣. البعث.

ولأجل المواقف العسيرة التي يواجهها الإنسان في هذه الأدوار الثلاثة نجد أنّ الله سبحانه وعد يحيىعليه‌السلام بالسلامة من كلّ مكروه في هذه المواقف، قال سبحانه:( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) .(١)

إذا عرفت ذلك فلنشرح أقسام الموت :

١. الموت العسير واليسير

إنّ حقيقة الموت ترجع ـ في الواقع ـ إلى نزع الروح من البدن مرفقاً بعسر وحرج وضيق عند قاطبة الناس ويشتد خاصة عند من يواجه الموت مقترفاً للذنوب يقول سبحانه:( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) .(٢)

__________________

١. مريم: ١٥.

٢. ق: ١٩.

١٦٥

وفي آية أُخرى:( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) .(١)

وفي مقابل هؤلاء المؤمنون المطيعون لأوامر ربّهم ونواهيه فهم يقابلون بالسلام، يقول سبحانه:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ) .(٢)

وفي آية ثانية يخاطب سبحانه النفس المطمئنّة، بقوله:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) .(٣)

وهذا التقسيم الذي تبنّاه الكتاب الإلهي من تقسيم الناس حين الموت إلى من يبشر بالسوء والخير، شائع في روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

يقول الإمام الحسنعليه‌السلام : « أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد ».(٤)

وقال الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : « الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب وآنس المنازل ; وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظم العذاب ».(٥)

إلى غير ذلك من الروايات.


__________________

١. محمد: ٢٧.

٢. النحل: ٣٢.

٣. الفجر: ٢٧ ـ ٢٨.

٤. البحار: ٦ / ١٥٤.

٥. البحار: ٦ / ١٥٥.

١٦٦

٢. موت البدن والقلب

قد ينسب الموت إلى البدن، وأُخرى إلى القلب، فإذا انقطعت علاقة الروح بالبدن فهذا موت البدن، ولكن إذا كانت العلاقة موجودة ولكن الإنسان بلغ من التفكير والتعقّل درجة نازلة تلحقه بميت الأحياء، ولذلك يعد سبحانه الفئة المعاندة للإسلام أمواتاً، ويقول:( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (١) ، وقد ورد هذا المضمون في آيات أُخرى من الذكر الحكيم.

ويقول سبحانه:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) .(٢)

والمراد من « الميت » هو ميت القلب الغافل عن الحقائق والمعارف، فإذا أشرق نور الإسلام على قلبه صار حيّاً بحياة معنوية يمشي بنوره بين الناس، فليس هو كمن بقي في الظلمات ولا يستطيع الخروج منها.

ومن لطائف الكلام ما نلمسه في خطب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يصف حياة المتخلفين عن الجهاد أمام أعدائهم موتاً، كما يصف الشهادة في ميادين الجهاد حياة، ويقولعليه‌السلام : « فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين ».(٣)

لأنّ الحياة المعنوية رهن آثار وأهمها الدفاع عن كيان الدين ودفع عادية المعتدين، فالطائفة الأُولى فقدوا هذه الخصيصة فكأنّهم ليسوا بأحياء بل أمواتٌ، بيد أنّ تلك الخصيصة متوفرة عند الطائفة الثانية فهم وإن ضُرّجوا بدمائهم في

__________________

١. الروم: ٥٢.

٢. الأنعام: ١٢٢.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ٥١.

١٦٧

ساحات الوغىٰ ولكنّهم دافعوا عن كيان الإسلام فصانوا دينهم وديارهم ونواميسهم.

ونظير ذلك تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي استولت الأنانية عليه وغفل عن الآخرين فهو حيّ ظاهراً وميت حقيقةً، إذ لا يشعر بأي مسؤولية حيال إزالة المفاسد الاجتماعية التي تهدِّد المجتمع.

يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : « ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء ».(١)

ويقول أيضاً فيمن يهتمُّ بحياة البدن دون القلب: « يرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم وهم أشدّ إعظاماً لموت قلوب أحيائهم ».(٢)

٣. موت الإنسان والمجتمع

يصف علماء الاجتماع المجتمع تارة بالطفولة، وأُخرى بالريعان والنضج، وثالثة بالانحطاط والهرم وفقاً للحالات الطارئة على الإنسان من طفولة إلى ريعان الشباب ثمّ الشيخوخة والهرم.

فالإنسان في مرحلة الطفولة تكمن فيه استعدادات وقابليات مختلفة، فإذا اجتاز تلك المرحلة تتفجر طاقاته الكامنة رويداً رويداً حتى يبلغ مرحلة الشباب ثمّ يجتاز تلك المرحلة إلىٰ مرحلة الشيخوخة فتنهار قواه وتأخذ بالضعف، وهكذا المجتمع.

وهناك تقسيم آخر وهو :

إنّ الإنسان من حين ولادته إلىٰ أن يبلغ مرحلة شبابه تتكامل شخصيته

__________________

١. نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم ٣٧٤.

٢. نهج البلاغة: الخطبة ٢٣٠.

١٦٨

شيئاً فشيئاً، فإذا اشتدّت قواه، يبدأ باستغلالها بغية نيل الأموال والمناصب وغيرها، وكلّما تقدم في العمر يزداد حرصاً وطمعاً فإذا اجتاز تلك المرحلة ودخل مرحلة الهرم فيشرع بحفظ ما جمعه وبلغت إليه يده من الأموال والثروات إلى أن يبلغ أجله.

فالمرحلة الأُولىٰ: مرحلة التكوين، والثانية: مرحلة الهجوم، والثالثة: مرحلة التدافع ; والرابعة: مرحلة الانقراض، وهكذا المجتمع في مراحله الأربع.

فالحضارات الإنسانية، مرَّت بتلك المراحل إلىٰ أن اضمحلّت واندثرت.

يقول سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (١) فيعد للأُمة حياةً وأجلاً.

عوامل أُفول الحضارات

إنّ بزوغ نجم الحضارات وأُفولها من السنن القطعية الإلهية فلا تدوم حضارة عبر القرون والدهور بل تتبعها حضارة أُخرى وهكذا.

نعم هذا البزوغ والأُفول رهن عوامل داخلية وخارجية وليس أمراً اعتباطياً، يقول سبحانه:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٢)

إنّ اضمحلال الحضارة واندثارها ناجم عن عوامل كثيرة أهمها تفشي الظلم في المجتمعات وغياب العدالة الاجتماعية في حياتها، وهذا بمرور الزمان يستفحل شيئاً فشيئاً حتى يصل مرحلة لا يطيقها المجتمع فيؤول إلىٰ عصيان عام

__________________

١. الأعراف: ٣٤.

٢. الأعراف: ٩٦.

١٦٩

يؤدي إلىٰ سقوط الحضارة، يقول سبحانه:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) (١) ، ويقول في آية أُخرى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) .(٢)

فقد عدّت الآية الأُولى والثانية الظلم والفسق وارتكاب الذنوب من أسباب انهيار الحضارات وزوالها، ووجهه واضح، لأنّ الفسق والزنا وأكل الأموال بالباطل والغش والسرقة، طغيانٌ على الفطرة السليمة وخروجٌ عليها، ومعه تنفصم عرى الحضارة الإنسانية. فضلاً عن بثِّ العداوة والبغضاء في القلوب.

نعم هناك ذنوب تترك آثاراً سلبية في المجتمع، وإن لم نقف على الصلة بينها، فقد ورد في الحديث: انّه إذا كثر الزنا، كثر موت الفجأة. وهناك صلة بين الأمرين وإن لم تثبته العلوم الحديثة.

وأمّا تأثير الظلم وبعض الذنوب التي تخالف الفطرة كالزنا واللواط وجمع الأموال بالباطل فهو واضح حسب المعايير الاجتماعية كما ذكرناه.

٤. الموت المشرّف

إنّ بعض أنواع الموت يعد مشرّفاً في حدّ ذاته، وهذا كالموت في سبيل طلب العلم وإقامة العدل وغير ذلك من الأهداف السامية، ولذلك يعد سبحانه هؤلاء أحياءً لا أمواتاً ويقول:( وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) .(٣)

__________________

١. هود: ١١٧.

٢. الإسراء: ١٦ ـ ١٧.

٣. البقرة: ١٥٤.

١٧٠

كما أنّه سبحانه يعد من مات في سبيل العلم مجاهداً مأجوراً عند الله، يقول سبحانه:( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) .(١)

و. الموت والأجل المحتوم

القرآن الكريم يقسّم الأجل إلى أجل مطلق وأجل مسمّىٰ، ويقول:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) .(٢)

كما أنّه يصرّح بأنّ للشمس والقمر أجلاً مسمّىٰ، يقول:( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٣) . إلى غير ذلك من الآيات الناصة على الأجل المطلق والمسمّى.

وقد بسط المفسرون الكلام في تفسير الأجلين، ولكن الذي نفهمه من الآيات هو أنّه سبحانه جعل لكلّ شيء أجلاً طبيعياً بمعنىٰ قابليته لأن ينتهي إليه، ولكن ربّما تعوق المعوِّقات عن بلوغ ذلك الأمد، وهذا كالإنسان فله استعداد أن يحيىٰ ١٢٠ سنة ولكن الظروف البيئية ربما تحول دون ذلك، فالمقدّر لكلّ شيء حسب طبيعته هو الأجل المطلق وأمّا ما ينتهي إليه مصير الشيء، فهو يختلف، فتارة ينقص عن الأجل المطلق لأجل عوائق تحول بينه وبين الأجل المطلق، وأُخرىٰ يجتازه ويعمر أكثر من العمر الطبيعي لأجل توفّر عوامل بيئية ونفسية مناسبة.

وهذا التقسيم أيضاً جار في الصنائع، فلكلّ مصنوع عمر محدد مفيد، ولكنّه

__________________

١. النساء: ١٠٠.

٢. الأنعام: ٢.

٣. فاطر: ١٣.

١٧١

ربّما يواجه ظروفاً وعوامل خاصّة تنقص من ذلك العمر المفيد، كما أنّه ربما يجتازه لأجل رعاية الأساليب الفنية في استخدام ذلك المصنوع.

ز. التوبة والندامة قبيل الموت أو حينه

الموت يلازم رفع الحجب المادية عن البصر، فيرى الإنسان المحتضر مصيره بأُمِّ عينيه، فالصالحون يرون روحاً وريحاناً وحياة فيستقبلون الموت بوجوه مشرقة وصدور رحبة، وأمّا الظالمون المستكبرون فيلمسون حياة مريرة تعانق الآلام والنيران فيحاولون جهد إمكانهم أن يدّاركوا ما اقترفوه من الآثام بالتوبة والندامة ليتخلّصوا بذلك من العذاب الأليم، ولات حين مناص، فلا تنفع الندامة لأنّ الهدف من التوبة هو طهارة الروح من أدران المعصية والآثام وهذه الأمنية رهن صدور التوبة عن اختياره ورغبته إلى الطهارة، وهذا غير متحقق في حال الاحتضار، لأنّه يتوب ويندم بلا اختيار.

وبعبارة أُخرى: التائب إنّما تقبل توبته إذا كان أمامه طريقان فينتخب الطريق الحقّ باختياره، وهذا إنّما يتيسر له ذلك في ثنايا حياته لا في حال الاحتضار الذي يسلب عنه اختياره، ولذلك يقول سبحانه:( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ) (١) وفي آية أُخرى:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاًّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .(٢)

إنّ فرعون مصر لما كاد أن يغرق، ورأى مصيره المرير حاول أن يتوب ويظهر إيمانه بربّ موسى ولكنّه جُوبه بالرفض والاستنكار، قال سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ

__________________

١. النساء: ١٨.

٢. المؤمنون: ٩٩ ـ ١٠٠.

١٧٢

الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ *آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) .(١)

وليست هذه خصيصة فرعون فحسب، بل الأُمم الغابرة الغارقة في الفساد حاولوا ردّ العذاب بالتوبة بعدما نالوا من الأنبياء والمصلحين وسخروا منهم فلم تغن عنهم توبتهم في شيء قال سبحانه:( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ *فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) .(٢)

والإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يصف بعض الظالمين الذين يواجهون أنواع العذاب حين الموت ويقول: « فهو يعضُّ يده ندامة علىٰ ما أضمر له عند الموت من أمره ».(٣)

وقد علم من كلّ ذلك أنّ رفض توبة الإنسان في تلك الحالة لا يدل على عدم سعة رحمته، لما عرفت من أنّ قبول التوبة فرع سموِّ الإنسان عن اقتراف الذنوب الذي يلازم الاختيار، وهذا غير متحقّق حين الموت.

ح. الوصية في حال الموت

يُستحب للإنسان في جميع الأحوال أن يوصي بما عليه من الديون والحقوق لا سيما إذا حضره الموت، يقول سبحانه:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ ) .(٤)

__________________

١. يونس: ٩٠ ـ ٩١.

٢. غافر: ٨٤ ـ ٨٥.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ١٠٩.

٤. البقرة: ١٨٠.

١٧٣

ومن الواضح أنّ هذه اللحظة هي آخر ما يتمكن الإنسان من الوصية والأَولىٰ أن يقدّمها على الاحتضار سواء أكان شاباً أم هرماً، قال عليٌّعليه‌السلام : « ما ينبغي لامرئ أن يبيت ليلة إلّا ووصيته تحت رأسه ».(١)

ويستحب أن يشهد على الوصية عدلان، قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ ) .(٢)

فالآية ترغِّب إلى شهادة عدلين من المسلمين إذا أمكن، و إلّا فليشهد من غير المسلمين من أهل الكتاب كما إذا كان الموصي ضارباً في الأرض ولم يجد من نحلته من يُشهده علىٰ وصيته فعليه أن يُشهد من غيرهم، وما هذا إلّا لأجل أن يوصد باب الأعذار على ورثة الميت ويقطع دابر الحيل التي ربما تحول دون تنفيذ الوصية.

ط. جهل الإنسان بموته

إنّ حبّ البقاء من الأُمور التي جبل الإنسان عليها، ولو سلب عنه ذلك الحب لأُطفئت جذوة حياته، فحبّ البقاء مصباح منير لحياته، كما أنّ اليأس من الحياة ظلام دامس لها; روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال: « الأمل رحمة لأُمّتي ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرة ».(٣)

ولو كان الإنسان مطلعاً على زمان موته ومكانه لاستولىٰ عليه الحزن واليأس قبل أن يموت بسنين، وربما يموت قبل أجله المقرر، ولذلك يعد الجهل بزمان موته

__________________

١. وسائل الشيعة: ١٣، كتاب الوصايا، باب ١، حديث ٧.

٢. المائدة: ١٠٦.

٣. سفينة البحار: مادة أمل.

١٧٤

من علل بقاء حياته ونشاطه، ولذلك ستر سبحانه علم هذا الموضوع عن الناس إلّا في موارد خاصة لملاكات كذلك.

على أنّ لهذا الجهل أثراً تربوياً، فانّ الرجوع إلى الله سبحانه والتوبة من المعاصي مع الرجاء بالبقاء أفضل من التوبة والرجوع إليه عند اقتراب أجله وقبل إطفاء مصباح حياته.

نعم ربما يكون الجهل بالموت سبباً للغرور والاغترار حيث إنّ المغتر يزعم أنّه سيعيش عمراً طويلاً، ولكنّه يرى موته أمراً بعيداً، فيقترف المعاصي في شبابه علىٰ أمل أن يتوب منها في هرمه، ولكنه في الوقت نفسه عامل تربوي للحد من الغرور لأنّه يحتمل أن يكون قد اقترب أجله ويكون هو على مقربة من الموت.

ولهذه الوجوه ستر سبحانه علمه عن الناس وقال:( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) .(١)

ويدل على ذلك ما دلّ من الآيات على أنّ الأجل المسمّى عنده، وهو يلازم جهل الإنسان بموته لانحصار علمه بالله سبحانه.

ي. الموت والملائكة الموكّلون

إنّ من مراتب التوحيد حصر التدبير في الله سبحانه، وأنّه لا مدبّر إلّا هو ولو كانت الشمس مشرقة والقمر منيراً وغيرهما من العوامل الطبيعية ذات الآثار الخاصة فإنّما هو بأمره سبحانه، كما يقول:( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .(٢)

__________________

١. لقمان: ٣٤.

٢. الأعراف: ٥٤.

١٧٥

ولكن الإيمان بحصر التدبير في الله لا ينافي وجود عوامل أُخرى مؤثرة تدبر الكون، بأمر من الله سبحانه، فانّ هذا التدبير الظلي التبعي في طول تدبير الله سبحانه، ولأجل ذلك ينسب الله تعالى توفّي الأنفس إليه ويقول:( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) ، ولكنّه في الوقت نفسه ينسبه إلى الملائكة تارة وملك الموت أُخرى، ويقول:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ) (٢) ويقول سبحانه:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .(٣)

فهناك فعل واحد نسب إلى فواعل ثلاثة، تارة إلى الله، وأُخرى إلى الملائكة، وثالثة إلى ملك الموت، فالفعل واحد والفواعل متعددة، لأنّ فعل الجميع هو فعل الله سبحانه بالتسبيب.

وترى نظير ذلك في قوله سبحانه:( وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) (٤) حيث ينسب الكتابة إلى الله، وفي آية أُخرى ينسبها إلى الرسل، ويقول:( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) .(٥)

وتتجلّى تلك الحقيقة في الآيات التالية الواردة في الموت والحياة، يقول سبحانه:( إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (٦) ، ويقول:( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) (٧) .

ويقول أيضاً:( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) (٨) .

__________________

١. الزمر: ٤٢.

٢. النحل: ٢٨.

٣. السجدة: ١١.

٤. النساء: ٨١.

٥. الزخرف: ٨٠.

٦. التوبة: ١١٦.

٧. النجم: ٤٤.

٨. الواقعة: ٦٠.

١٧٦

إلى غير ذلك من الآيات التي تعد الإماتة والإحياء فعلاً لله سبحانه، وفي الوقت نفسه تعدّهما فعلاً لغيره، ويقول:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) .(١)

نعم تجعل بعض الآيات زمام الموت والحياة بيد الملائكة الموكّلين، وما هذا إلّا لأنّ عملهم عمله سبحانه.

نعم الذي لا يمكن أن ينكر أنّ الذكر الحكيم يركّز على أنّ ما في الكون أثر فعله سبحانه تكريساً للتوحيد في الربوبية.

















__________________

١. الأنعام: ٦١.

١٧٧





الفصل الثالث عشر :

القبر وعالم البرزخ

إذا كانت حالة الاحتضار نهاية النشأة الأُولى وبداية النشأة الثانية، فالتكفين والصلاة على الميت والتدفين في القبر، هو المنزل الثاني من النشأة الثانية، وهو منزل ضيق للغاية، ولعل الإنسان لا أُنس له بهذا النوع من المنازل، وتنقطع صلته عن الحياة الدنيويّة إذا وُري جثمانه الثرىٰ، وهذا أمر ملموس، يشير إليه قوله سبحانه:( ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) (١) .

ولكن في بطن هذا المنزل من تلك النشأة، عالم فسيح يحيا فيه الإنسان لا بهذا البدن المقبور، بل ببدن يناسب تلك النشأة، وهو البدن المثالي الذي له آثار المادة وإن تجرّد عنها، وهذا ما يعبر عنه بعالم البرزخ، وقد صرح به الذكر الحكيم، يقول تعالى:( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٢) ، فقوله:( وَمِن وَرَائِهِم ) بمعنى أمامهم لا بمعنى خلفهم، بشهادة قوله سبحانه:( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) .(٣)

__________________

١. عبس: ٢١.

٢. المؤمنون: ١٠٠.

٣. الكهف: ٧٩.

١٧٨

والبرزخ بمعنى الحائل والفاصل، يقول تعالىٰ:( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ) (١) وإنّما أطلق على هذا النوع من الحياة لفظ البرزخ، لأجل الفصل بين الحياتين علىٰ وجه لا يمكن للإنسان أن يتجاوز الفاصل والحائل ويعود إلى الدنيا.

والآيات الدالة عليه كثيرة.

منها: ما دلّت على تجرّد النفس وبقائها بعد الموت، وقد مرّ ما يدل على ذلك.

ومنها: ما دلت على حياة الشهداء، وانّهم في ذلك العالم فرحين مستبشرين بنعم الله سبحانه.

ومنها: ما ورد في حقّ آل فرعون، وانّهم يعرضون على النار غدواً وعشياً، ويوم القيامة يدخلون النار، كما ورد نظيره في حقّ قوم نوحعليه‌السلام وقد مرّت هذه الآيات في فصل تجرد النفس فلاحظ.

وثمّة آيات أُخرى تدل على الحياة البرزخية لم نذكرها فيما سبق.

قال سبحانه:( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) .(٢)

فالآية تحكي عن إماتتين وإحياءين، فالإماتة الأُولىٰ في النشأة الدنيا، والإماتة الثانية في عالم البرزخ عند نفخ الصور.

يقول سبحانه:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إلّا مَن شَاءَ اللهُ ) .(٣) فالموت عند نفخ الصور يلازم وجود الحياة قبل النفخ، وليس هو إلّا الحياة البرزخية، وأمّا الإحياءان فالأوّل منهما عبارة عن الحياة

__________________

١. الرحمن: ٢٠.

٢. غافر: ١١.

٣. الزمر: ٦٨.

١٧٩

في عالم البرزخ، والثاني هو الإحياء بعد نفخ الصور. يقول سبحانه:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) .(١)

ولأجل إعطاء صورة واضحة عن طبيعة الإماتتين والإحياءين، نقول :

الإماتة الأُولىٰ عند حلول أجله القطعي.

والإماتة الثانية عند نفخ الصور الأوّل.

والإحياء الأوّل بعد الموت وانتقاله إلى النشأة الأُخرى.

والإحياء الثاني عند نفخ الصور الثاني.

وبهذا يعلم وجود الحياة البرزخية بين النشأة الأُولى وقيام الساعة.

وقد ذكر لهاتين الإماتتين، وهذين الإحياءين، وجه آخر ولكن لا ينطبق على ظواهر الآيات.

الحياة البرزخية في الروايات

وقد وردت أحاديث كثيرة في كيفية وطبيعة ذلك العالم نقتصر علىٰ هذا الحديث.

روى أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن أرواح المؤمنين، فقال: « في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة، وانجز لنا ما وعدتنا » وسألته عن أرواح المشركين، فقال: « في النار يعذبون ويقولون ربّنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ».(٢)

__________________

١. يس: ٥١.

٢. بحار الأنوار: ٦ / ٢٦٩، الحديث ١٢٢ و ١٢٦ وما ذكرناه حديث واحد وإن جعله العلّامة المجلسي
حديثين.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403