مفاهيم القرآن الجزء ٨

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166603 / تحميل: 5758
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٨

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-١٤٨-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

إلا الأوحدي من الناس عن جدارة واستحقاق. وليست مجرد تقديرات وإدراكات عقلية، كما ربما يتوهمه المتوهمون.

ولذلك يقول تعالى:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (1) .

ويقول:( وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) (2) .

وقال:( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (3) . والآيات المصرحة بتوقيفية الحكمة كثيرة.

وقدم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) التهنئة بالحكمة، لأنها محض عطاء إلهي..

أما العلم، فقد ينال البشر شيئاً منه مهما كان ضئيلاً بوسائلهم التي منحهم الله إياها مما اقتضته خلقتهم، مثل: العقل والفطرة، وغير ذلك..

ولعل التهنئة بالحكمة هنا يشير: إلى أن الإجابة على السؤال هنا مرهونة بالحكمة بالدرجة الأولى، ثم بالعلم.. وهذا ما لم يكن يملكه سوى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ). كما أظهرته هذه الواقعة وسواها..

____________

1- الآية 2 من سورة الجمعة.

2- الآية 12 من سورة لقمان.

3- الآية 269 من سورة البقرة.

٢١

٢٢

الفصل الثالث:

بذل علي (عليه‌السلام ) والإمامة..

٢٣

٢٤

ويؤثرون على أنفسهم:

1 ـ قال ابن شهرآشوب (رحمه‌الله ): تفسير أبي يوسف: يعقوب بن سفيان، وعلي بن حرب الطائي، ومجاهد بأسانيدهم، عن ابن عباس وأبي هريرة، وروى جماعة عن عاصم بن كليب عن أبيه ـ واللفظ له ـ عن أبي هريرة: أنه جاء رجل إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى أزواجه، فقلن: ما عندنا إلا الماء.

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): من لهذا الرجل الليلة؟!

فقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام ): أنا يا رسول الله، فأتى فاطمة وسألها: ما عندك يا بنت رسول الله؟!

فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، لكنا نؤثر ضيفنا به.

فقال علي (عليه‌السلام ): يا بنت محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، نومي الصبية واطفئي المصباح. وجعلا يمضغان بألسنتهما.

فلما فرغ من الأكل أتت فاطمة بسراج، فوجد الجفنة مملوءة من فضل الله، فلما أصبح صلى مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

فلما سلم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من صلاته نظر إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ). وبكى بكاء شديداً، وقال: يا أمير المؤمنين، لقد عجب

٢٥

الرب من فعلكم البارحة، اقرأ:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) أي مجاعة.( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) . يعني: علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم‌السلام )( فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (1) )(2) .

قال الحميري:

قائل للنبي إني غريب جايع قد أتيتكم مستجيرا

فبكى المصطفى وقال: غريب لا يكن للغريب عندي ذكورا

من يضيف الغريب قال علي: أنا للضيف فانطلق مأجورا

ابنة العم هل من الزاد شيء فأجابت أراه شيئاً يسيرا

كف بر قال: اصنعيه فإن الله قد يجعل القليل كثيرا

ثم أطفي المصباح كي لا يراني فأخلي طعامه موفورا

جاهد يلمظ الأصابع والضيف يراه إلى الطعام مشيرا

عجبت منكم ملائكة الله وأرضيتم اللطيف الخبيرا

ولهم قال: يؤثرون على أنفسهم، قال: ذاك فضلاً كبيرا(3)

____________

1- الآية 9 من سورة الحشر.

2- بحار الأنوار ج41 ص28 وص 34 وج36 ص59 ومناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص87 والأمالي للطوسي ص116 وعن كنز جامع الفوائد، وشواهد التنزيل ج2 ص246 ومجمع البيان ج9 ص260.

3- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص87 و 88 و(ط المكتبة الحيدرية) ج 1 ص347 و 348.

٢٦

2 ـ روت الخاصة والعامة، منهم: ابن شاهين المروي، وابن شيرويه الديلمي، عن الخدري وأبي هريرة: أن علياً أصبح ساغباً، فسأل فاطمة طعاماً.

فقالت: ما كانت إلا ما أطعمتك منذ يومين، آثرت به على نفسي، وعلى الحسن، والحسين.

فقال: ألا أعلمتني، فأتيتكم بشيء؟!

فقالت: يا أبا الحسين، إنى لأستحي من إلهي أن أكلفك ما لا تقدر عليه.

فخرج واستقرض من النبي ديناراً، فخرج يشتري به شيئاً.

فاستقبله المقداد قائلاً ما شاء الله.

فناوله علي الدينار، ثم دخل المسجد، فوضع رأسه، فنام، فخرج النبي، فإذا هو به، فحركه وقال: ما صنعت؟!

فأخبره، فقام وصلى معه فما قضى النبي صلاته، قال: يا أبا الحسن، هل عندك شيء نفطر عليه، فنميل معك؟!

فأطرق لا يجيب جواباً حياء منه. وكان الله أوحى إليه أن يتعشى تلك الليلة عند علي.

فانطلقا حتى دخلا على فاطمة، وهي في مصلاها، وخلفها جفنة تفور دخاناً، فأخرجت فاطمة الجفنة، فوضعتها بين أيديهما.

فسأل علي (عليه‌السلام ): أنى لك هذا؟!

٢٧

قالت: هو من فضل الله ورزقه، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

قال: فوضع النبي كفه المبارك بين كتفي علي، ثم قال: يا علي، هذا بدل دينارك. ثم استعبر النبي باكياً وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيت في ابنتي ما رأى زكريا لمريم.

وفي رواية الصادق (عليه‌السلام ): أنه أنزل الله فيهم:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) (1) .

قال الحميري:

وحدثنا عن حادث الأعور الذي تصدقه في القول منه وما يروي

بأن رسول الله نفسي فداؤه وأهلي ومالي طاوي الحشا يطوي

لجوع أصاب المصطفى فاغتدى إلى كريمته والناس لاهون في سهو

فصادفها وابني علي وبعلها وقد أطرقوا من شدة الجوع كالنضو

فقال لها: يا فطم قومي تناولي ولم يك فيما قال ينطق بالهزو

هدية ربى إنه مترحم فقامت إلى ما قال تسرع بالخطو

فجاءت عليها الله صلى بجفنة مكرمة باللحم جزواً على جزو

فسموا وظلوا يطعمون جميعهم فَبَخْ بَخْ لهم نفسي الفداء وما أحوي

فقال لها: ذاك الطعام هدية من الله جبريل أتاني به يهوى

ولم يك منه طاعماً غير مرسل وغير وصي خصه الله بالصفـو

____________

1- الآية 9 من سورة الحشر.

٢٨

3 ـ وفي رواية حذيفة: أن جعفراً أعطى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الفرع من العالية، والقطيفة، فقال النبي: لأدفعن هذه القطيفة إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.

وأعطاها علياً (عليه‌السلام )، ففصل على القطيفة سلكاً، فباع بالذهب، فكان ألف مثقال، ففرقه في فقراء المهاجرين كلها.

فلقيه النبي ومعه حذيفة، وعمار، وسلمان، وأبو ذر، والمقداد، فسأله النبي الغداء.

فقال حياء منه: نعم.

فدخلوا عليه، فوجدوا الجفنة(1) .

4 ـ عن محمد بن العباس، عن محمد بن أحمد بن ثابت، عن القاسم بن إسماعيل، عن محمد بن سنان، عن سماعة بن مهران، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليه‌السلام ) قال:

أتي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بمال وحلل وأصحابه حوله جلوس، فقسمه عليهم حتى لم تبق منه حلة ولا دينار، فلما فرغ منه جاء رجل من فقراء المهاجرين، وكان غائباً. فلما رآه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال: أيكم يعطي هذا نصيبه، ويؤثره على نفسه؟!

____________

1- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص190 و 191 و (ط المكتبة الحيدرية) ج 1 ص 350 وبحار الأنوار ج41 ص30 و 31 وراجع ج36 ص60 عن كنز جامع الفوائد، وتأويل الآيات الظاهرة.

٢٩

٣٠

فسمعه علي (عليه‌السلام )، فقال: نصيبي.

فأعطاه إياه، فأخذه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأعطاه الرجل، ثم قال: يا علي، إن الله جعلك سباقاً للخير، سخَّاء بنفسك عن المال. أنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة. والظلمة هم الذين يحسدونك، ويبغون عليك، ويمنعونك حقك بعدي(1) .

قالوا: الفرع: المال الطائل. والعالية: مكان بأعلى أراضي المدينة، ويبدو أن القطيفة كانت مطرزة بأسلاك الذهب(2) .

ونقول:

1 ـ إن الفقر ليس عيباً، إلا حين يكون سببه الكسل، والإتكال على جهد الآخرين، أو غير ذلك من أسباب تشير إلى خلل في المزايا الروحية والإنسانية.. ولم يكن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ولا علي (عليه‌السلام ) إلا القمة في الفضل والكمال، والأخلاق الفاضلة، والمزايا النبيلة..

والأسباب التي اقتضت نزول الآية المباركة مرة أو أكثر تبين أن هذا الفقر قد كشف لنا عن أفضل المزايا، وأعظم الفضائل في هؤلاء الذين نأوا بأنفسهم عن الدنيا وزخارفها، ولم يهتموا لها إلا بالمقدار الذي فرضه الله تعالى عليهم..

2 ـ إن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حين أراد مساعدة ذلك الجائع لم

____________

1- بحار الأنوار ج36 ص60 عن كنز جامع الفوائد.

2- بحار الأنوار ج41 ص31 و 32.

٣١

يبادر إلى دق أبواب الأغنياء، وطلب المساعدة منهم، بل بدأ بنفسه، وببيوته..

3 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يذهب بنفسه إلى تلك البيوت لسؤال أزواجه عن شيء من الطعام، بل أرسل إليهن من يسألهن عن ذلك.. فلم يعد هناك أية فرصة لتوهم أي نوع من أنواع حب الإستئثار بشيء، مهما كان الدافع إلى ذلك معقولاً ومقبولاً، وكافياً لتبرير المنع..

4 ـ وبعد أن ظهر أن بيوت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خالية إلا من الماء، لم يخاطب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في أمره للناس شخصاً بخصوصه، فلم يطلب من علي (عليه‌السلام ) مثلاً أن يتولى سد حاجته، بل أطلق الخطاب لكل من حضر، وقال: من لهذا الرجل الليلة؟!

ولعل سبب ذلك: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أراد أن ينيل علياً (عليه‌السلام ) ثواب المبادرة والإختيار، وثواب البذل والعطاء، والإيثار، ولكي لا يتوهم أحد أنه (عليه‌السلام ) قد رضي بما فرض عليه حياء، أو اتباعاً وطاعة. ولا يعلم إن كان وراءها حرص واندفاع، أو ليس وارءها شيء من ذلك.

5 ـ واللافت هنا: أن فاطمة الزهراء (عليها‌السلام ) هي التي اقترحت إيثار ذلك الجائع بقوت ولديها، مع أن الأم تكون عادة أحرص على طعام أبنائها وتوفيره لهم.

6 ـ ربما يسأل سائل عن أنه كيف جاز للزهراء وعلي (عليهما‌السلام ) أن يجيعا ولديهما، ويتصرفا بحقهما تصرفاً يعرضهما للأذى أو الضرر. أو

٣٢

يوقعهما في تعب ومشقة؟!

ويمكن أن يجاب:

أولاً: بأن الحسنين (عليهما‌السلام ) كانا منسجمين مع تصرف أبويهما، ولا يرضيان بالإحتفاظ بالطعام لنفسيهما، وإبقاء ذلك الرجل جائعاً.

وصغر سنهما لا يعني أنهما يريان أنفسهما في منأى عن التكاليف الإلهية، فإن التكليف الذي هو منوط بالسن، إنما لوحظ السن فيه بالنسبة لنا نحن. أما الأنبياء وأوصيائهم، فلعل الأمر ليس منوطاً بالسن، بل بالقدرة والعلم والإدراك. وهذا متحقق فيهم (عليهم‌السلام ) بأقصى الدرجات، كما يدل عليه قول عيسى (عليه‌السلام ) حين ولادته:( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ) (1) ، كما تدل عليه أجوبتهم على أدق المسائل في حال صغرهم، بالإضافة إلى شواهد أخرى..

ولأجل ذلك تقول الرواية: إن الآية المباركة نزلت في الأربعة: علي وفاطمة والحسنين (عليهم‌السلام )، فراجع..

ثانياً: إننا وإن لم نعرف الوجه في هذا التصرف، فلا نشك في صحة ومشروعية، فإننا إنما نأخذ التشريع منهم (عليهم‌السلام )، وتكفينا عصمتهم الثابتة بنص القرآن للإجابة على على أي سؤال، وإزالة أية شبهة..

7 ـ إن تعدد الوقائع المروية في بيان شأن نزول قوله تعالى:( وَيُؤْثِرُونَ

____________

1- الآيتان 30 و 31 من سورة مريم.

٣٣

عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) (1) في علي (عليه‌السلام ) لا يوجب خللاً في الروايات، لإمكان صحة جميعها، وتكرر نزول الآية في هذه الواقعة وتلك.. وهذا معروف ومألوف..

فلا عجب إذا كانت آية الإيثار قد نزلت في قضية الرجل الجائع، وإيثارهم إياه بطعام الإمامين: الحسن والحسين (عليهما‌السلام ).. ثم نزلت في مناسبة إيثار علي (عليه‌السلام ) بالحلة التي كساه إياها الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ذلك الذي جاءه يشكو عريه وعري أهل بيته..

ثم نزلت في إيثاره (عليه‌السلام ) المقداد بالدنيار الذي استقرضه.

وهذا يفسر التعبير في الآية بالفعل المضارع الدال على الدوام والإستمرار، وأن هو خلقهم (عليهم‌السلام ).

8 ـ وعن قول الراوي: إنهما جعلا يمضغان بألسنتهما نقول:

هل أرادا (عليهما‌السلام ) الإيحاء لذلك الضيف بأنهما يأكلان ما يأكل؟!

ولماذا يريدان إفهامه ذلك؟! وهل كان هو مهتماً لهذا الأمر؟!

وإذا كان علي (عليه‌السلام ) يريد أن يفهمه ذلك، فما شأن الزهراء (عليها‌السلام ) في هذا الأمر؟! وهل تجلس مع رجل غريب لتأكل معه، وتسمعه صوت مضغها للطعام؟!

وإن كان المقصود هو الإيحاء للصبية بذلك، فهو لا معنى له، لأن ذلك يزيد في رغبتهما بالطعام!!

____________

1- الآية 9 من سورة الحشر.

٣٤

فالأنسب القول: بأن علياً وفاطمة (عليهما‌السلام ) جعلا يفعلان ذلك من دون أن يكون الهدف إسماع الضيف، بل كان ذلك هو ما اقتضته شدة حاجتهما إلى الطعام.

أو يقال: إن الصبية ـ والمقصود هو الحسنان (عليهما‌السلام ) ـ باتا يمضغان بألسنتهما، استجابة لدواعي الحاجة إلى الطعام..

ولكن أين كانت زينب وأم كلثوم عن هذه الحادثة؟! هل كان ذلك قبل ولادتهما؟!

أم أن الإيثار كان بخصوص طعام الحسن والحسين (عليهما‌السلام )؟! لأنهما اللذان يمكنهما المبادرة الإختيارية إلى أمر من هذا القبيل، لخصوصية فيهما أشرنا إليها فيما قدمناه آنفاً برقم(6)

9 ـ وقد أظهر الله سبحانه الكرامة لهما حين وجدا الجفنة مملوءة طعاماً، ليعلم الناس أن التجارة مع الله رابحة دائماً..

10 ـ وحديث الدنيار الذي أعطاه (عليه‌السلام ) للمقداد دل أن علياً (عليه‌السلام ) أصبح ساغباً، ويبدو أنه كان قد مضى عليه يومان بلا طعام.. وأن الزهراء (عليها‌السلام ) آثرت بالطعام على نفسها وعلى الحسنين (عليهما‌السلام )..

ومن المعلوم: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان أيضاً يطوي بعض أيامه بلا طعام، وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع.. مع أن الكثيرين من الناس كانوا على استعداد لبذل أموالهم له، وكثير منهم يبذل نفسه في سبيله ومن أجله..

٣٥

وكان علي والزهراء والحسنان (عليهم‌السلام ) أقرب الناس إليه، وأحبهم إليه، ولكنهم جميعاً يعرضون عن هذه الدنيا، ويسوون أنفسهم بأضعف الناس فيها.. على قاعدة: (ولعل بالحجاز أو اليمامة، من لا عهد له بالشبع)، وعلى قاعدة: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن عيشه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد)(1) .

11 ـ وقد ذكرت الزهراء (عليها‌السلام ) لعلي (عليه‌السلام ): أنها آثرت بالطعام غيرها على نفسها، وعلى ولديها، مصرحة باسمهما: (الحسن والحسين)، فهما اللذان يمكن التصرف بحصتهما، لخصوصيتهما في التكليف، والإدراك وسائر الكمالات، بملاحظة ما لهما من مقام في الإمامة للأمة.

وربما كان هذا التصرف بطلب منهما، كما أشرنا إليه حين الحديث عن سورة هل أتى.

____________

1- نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص70 ومختصر بصائر الدرجات ص154 ومستدرك الوسائل ج12 ص54 وج16 ص300 والخرائج والجرائح ج2 ص542 وبحار الأنوار ج33 ص474 وج40 ص318 و 340 وج67 ص320 وجامع أحاديث الشيعة ج14 ص34 وج23 ص272 ونهج السعادة ج4 ص32 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج16 ص205 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص139 وينابيع المودة ج1 ص439.

٣٦

12 ـ وقد صرحت الزهراء (عليها‌السلام ): بأنها تستحي من الله أن تكلف علياً (عليه‌السلام ) ما لايقدر عليه.. مع أن علياً (عليه‌السلام ) ألمح إلى أنه كان قادراً على أن يأتيهم بشيء، حيث قال لها: (ألا أعلمتني، فأتيتكم بشيء)؟!

فهل علمت (عليها‌السلام ) ما لم يعلمه علي (صلوات الله عليه)؟! بمعنى أنها تحدثت عن علمها بالواقع، فأخبرته: أنه (عليه‌السلام ) حتى لو سعى للحصول على شيء فإنه لن يحصل عليه..

أما علي (عليه‌السلام ) فكلمها وفق الأحوال الظاهرة، والمتوقعة، بحسب العادة عند سائر الناس، بغض النظر عما ينكشف له بعلم الإمامة..

وبذلك تكون هذه الرواية قد تضمنت إشارة إلى أن لدى الزهراء (عليها‌السلام ) معرفة أرقى من المعرفة الظاهرية المتوفرة لدى سائر الناس. وذلك لبيان عظمتها، وتأكيد تميزها عن سائر النساء بهذا المقام الذي لا يناله إلا صفوة الخلق.. وعلى رأسهم أبوها (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وزوجها (عليه‌السلام ).

13 ـ وقد لفت نظرنا: أنه (عليه‌السلام ) قد (استقرض) من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ديناراً. مع أن الأمور كانت تجري بينهما على أساس أنهما عائلة واحدة.. والإستقراض معناه: أن ثمة قيوداً وحدوداً لم نعهدها!! فكيف نفسر ذلك؟!

ونجيب:

أولاً: لعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان قد ادخر هذا الدينار

٣٧

للإنفاق على أزواجه. ولم يكن يمكنه التفريط به، مع حاجة من تجب نفقته عليه..

ثانياً: لعل المقصود: هو أن ينال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ثواب القرض بثمانية عشر، والصدقة بعشرة(1) . وأن ينال علي (عليه‌السلام ) ثواب الكاد على عياله، فإنه كالمجاهد في سبيل الله(2) ، حيث لا بد أن يكد في تحصيل الدينار ليرده إلى صاحبه..

14 ـ وقد أعطى علي (عليه‌السلام ) الدينار كله للمقداد، وكان بإمكانه أن يتقاسمه معه. فيكون قد نال ثواب الصدقة من جهة، وحل مشكلة العيال من جهة أخرى.

____________

1- الكافي ج4 ص34 وبحار الأنوار ج100 ص138 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج9 ص300 و (ط دار الإسلامية) ج6 ص209 ومستدرك الوسائل ج12 ص364 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص122 وج18 ص286 و 289 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص501 وألف حديث في المؤمن للشيخ هادي النجفي ص107 وتفسير القمي ج2 ص159 و 350 وتفسير نور الثقلين ج4 ص190 وج5 ص239.

2- الكافي ج5 ص88 وراجع: تحف العقول ص445 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج17 ص67 و (ط دار الإسلامية) ج12 ص42 وبحار الأنوار ج75 ص339 وجامع أحاديث الشيعة ج17 ص12 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج7 ص381.

٣٨

ولكنه (عليه‌السلام ) أراد:

أولاً: أن ينال ثواب الإيثار على النفس حتى مع الخصاصة الظاهرة..

ثانياً: إذا نظرنا إلى مجموع الروايات وجمعنا بينها، فقد نستفيد: أنه (عليه‌السلام ) أراد أن يعطى المقداد ما يغينه عن العودة إلى معاناة شدائد الحاجة في الجهات المختلفة، وربما كان منها كسوة عياله (رحمه‌الله ) أيضاً.

بل لعله رأى أن حاجة المقداد وعياله كانت غير قابلة للتجزئة، فقد كانوا بحاجة إلى الكسوة أكثر من أي شيء آخر. والكسوة قد تكون أكثر أهمية وحساسية حتى من معاناة الجوع. فأعطاه الحلة ليكتسي هو بها، ثم أعطاه الدينار ليكسو به عياله.

15 ـ ورغم أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد سأل علياً (عليه‌السلام ) عما صنع، فأخبره. فإنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) طلب منه بعد انقضاء صلاته أن يتعشى عنده، لأن الله تعالى قد أوحى إلى نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بذلك، ليظهر الكرامة الإلهية للزهراء وعلي (عليهما‌السلام )، كما أظهرها لمريم (عليها‌السلام ) من قبل.

ولكن هناك فرق جوهري بينهما، وهو: أن علياً (عليه‌السلام ) قد نام بعد تصدقه بالدينار، فكان نومه كيقظته عبادة يستحق معها الكرامة.

أما مريم (عليها‌السلام )، فإن استحقاقها لإظهار هذه الكرامة لها مرهون باشتغالها بالعبادة بالفعل، فأنالها الله تعالى تلك الكرامة نتيجة لذلك.

إذ لم يكن نومها مثل نوم علي (عليه‌السلام ).

٣٩

كما أن فاطمة (عليها‌السلام ) كانت حياتها كحياة علي (عليه‌السلام ) كلها عبادة، وكان نومها ويقظتها وشغلها وفراغها على حد سواء في ذلك.. فهي تستحق الكرامة في كل حال، وعلى كل حال.

النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في ضيافة علي (عليه‌السلام ):

عبد الله بن علي بن الحسين، يرفعه: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أتى مع جماعة من أصحابه إلى علي (عليه‌السلام )، فلم يجد علي شيئاً يقربه إليهم، فخرج ليحصل لهم شيئاً، فإذا هو بدينار على الأرض، فتناوله وعرَّف به، فلم يجد له طالباً، فقومه على نفسه، واشترى به طعاماً، وأتى به إليهم.

وأصاب [به] عوضه، وجعل ينشد صاحبه، فلم يجده، فأتى به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأخبره.

فقال: يا علي، إنه شيء أعطاكه الله لما اطلع على نيتك وما أردته، وليس هو شيء للناس، ودعا له بخير(1) .

ونقول:

لا نرى حاجة إلى التعليق على هذه الحادثة، غير أننا نعيد على مسامع القارئ الكريم ما صرحت به الرواية من أنه (عليه‌السلام ):

____________

1- بحار الأنوار ج41 ص30 عن مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص89 و 90 و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص394 وشرح الأخبار ج2 ص183.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

أيضاً حدث من الأحداث.(١)

ويقول الدكتور « دونالد روبرت كار »: إنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليّاً ولو كان كذلك لما بقيت فيه أيّ عناصر إشعاعية. ويتفق هذا الرأي مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية.(٢)

أقول: إنّ هذا الأصل يثبت لنا أمرين :

الأوّل: حدوث المادة وكونها مسبوقة بالعدم كما أفاده الدكتور « دونالد »، إذ لو كانت قديمة بلا أوّل لنفدت طاقاتها عبر القرون غير المتناهية، لأنّ صرف القوىٰ المحدودة في زمان غير محدود ينتهي إلى نفاد القوى وعدم بقاء شيء منها، فإذا رأينا بقاء المادة ونشاطها وتفجّر طاقاتها، ننتقل إلى أنّها مسبوقة بالعدم، وانّها وجدت في ظروف محدودة بنحو نفدت بعض طاقاتها.

الثاني: تقويض أُسس النظام السائد تحت غطاء نفاد الطاقات وتساوي الأجسام من حيث الفعل والانفعال والحرارة والبرودة، والإنسان جزء من هذا النظام السائد فهو أيضاً مكتوب عليه الموت.

إنّ العلم الحديث وإن بادر إلىٰ مكافحة الموت وبذل الحياة للإنسان كي يعمّر طويلاً إلّا أنّ هذه المبادرة باءت بالفشل فلم يمكنه أن يهب للإنسان الحياة الخالدة لأنّه سيواجه الموت مهما عمّر، لأنّ الموت سنّة إلهية قطعية، وإلىٰ ذلك تشير الآيات والروايات :

١.( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) .(٣)

٢.( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ) .(٤)

٣.( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ ) .(٥)

__________________

١ و ٢. الله يتجلىٰ في عصر العلم: ٢٧ و ٨٥.

٣. النساء: ٧٨.

٤. آل عمران: ١٨٥.

٥. الأنبياء: ٣٤.

١٦١

وفي الأحاديث ما يدعم ذلك.

قال الإمام عليٌّعليه‌السلام : « فلو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سُلّماً أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داودعليهما‌السلام الذي سُخّر له ملك الجن والإنس ».(١)

ويقول أيضاً في موضع آخر :« إنّ لله ملكاً ينادي في كلّ يوم: لِدُوا للموت ».(٢)

د. خوف الإنسان من الموت

للإنسان حسب فطرته، رغبة في الاستمرار في الحياة، وهذا ممّا لا ينبغي الشكّ فيه، لأنّ الرغبة إلى الحياة أمر جبلي، ولعلها دليل علىٰ أنّ بعد الموت حياة أُخرى فيها تتحقق أُمنيّة الإنسان ولولاها لكانت تلك الرغبة في خلقته أمراً عبثاً سدىً.

والفلاسفة يستدلّون بوجود الرغبة في الحياة على وجود المرغوب إليه في الخارج.

بيد أنّ الناس أمام الموت على صنفين :

فصنف يتصوّر أنّ الموت نهاية الحياة، ولذلك كلّ ما يسمع لفظة الموت يأخذه الحزن والأسىٰ ويتجسّد الموت أمامهم كأنّه غول ذو مخالب فتّاكة يريد أن يبطش بهم.

وآخر ممّن لا يستوحش من الموت ولا من سماعه، لأنّه هو الذي وقف علىٰ حقيقة الحياة الدنيا، وأنّ الموت ليس إلّا قنطرة إلى الحياة الأُخرىٰ، ولذلك يستقبل الموت برحابة صدر ووجه مستبشر.

__________________

١. نهج البلاغة: الخطبة ١٨٢.

٢. نهج البلاغة: من كلماته القصار، برقم ١٣٢.

١٦٢

ثمّ إنّ الأسباب الكامنة من وراء الخوف من الموت أمران :

الأوّل: كون الموت خاتمة المطاف.

الثاني: الإيمان بالحشر والجزاء، وأنّ الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

إنّ القرآن الكريم يصف حالة اليهود ويؤكد على أنّ خوفهم من الموت نجم من جرّاء الأمر الثاني، ويقول:( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (١) ، ويقول في سورة أُخرى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) .(٢)

وقد أشير في بعض الروايات إلىٰ سبب الخوف من الموت.

روى السكوني عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، عن أبيهعليه‌السلام أنّه قال: أتى النبي رجل فقال: مالي لا أحب الموت ؟ فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألك مال ؟ » قال: نعم. قال: « فقدمته ؟ »، قال: لا. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فمن ثمّ لا تحب الموت ».(٣)

وقد أشار الإمام في خطبه وكلمه إلى الأسباب الداعية إلى كراهة الموت، يقولعليه‌السلام : « واعلموا أنّه ليس شيء إلّا ويكاد صاحبه يشبع منه ويملّه إلّا الحياة فانّه لا يجد في الموت راحة ».(٤)

وقالعليه‌السلام : « ولا تكن ممّن يكره الموت لكثرة ذنوبه ».(٥)

__________________

١. البقرة: ٩٤ ـ ٩٥.

٢. الجمعة: ٦ ـ ٧.

٣. البحار: ٦ / ١٢٧.

٤. نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩، ط عبده.

٥. نهج البلاغة: قسم الحكم برقم ١٥٠.

١٦٣

وقال رجل للحسن بن عليّعليهما‌السلام : ما لنا نكره الموت ولا نحبّه ؟ فقال: « إنّكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب ».(١)

قيل للإمام محمد بن عليّ بن موسى: : ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت ؟ قال: « لأنّهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عزّوجلّ لأحبّوه ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا ».(٢)

والرواية تشير إلى السبب الأوّل وهو الجهل بحقيقة الموت وانّه انتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الأُخرى، ولذلك نرى أنّ علياًعليه‌السلام يشتاق إلى الموت ويتحنّن إليه، ويقول: « والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه ».(٣)

وفي خطبة أُخرى يقولعليه‌السلام : « فواللّه ما أُبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ ».(٤)

هذه من خصائص الأولياء وميزاتهم، حيث يستقبلون الموت بصدر رحب لأنّهم يرون الموت قنطرة من الحياة الدنيا إلى حياة طيبة، يقول سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ *لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) .(٥)

__________________

١. البحار: ٦ / ١٢٩.

٢. معاني الأخبار: ٢٠٩.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ٥.

٤. نهج البلاغة: الخطبة ٥٥.

٥. الأنبياء: ١٠١ ـ ١٠٣.

١٦٤

ه‍. أقسام الموت في القرآن الكريم

إذا كان الموت انتقالاً من دار إلى دار ومن حياة ضيقة إلى حياة واسعة، فطبيعة الحال تقتضي أن لا يكون أمراً يسيراً بل يتزامن مع العسر والحرج، وهذا نظير انتقال الجنين من رحم الأُمّ الضيّق إلى الدنيا الواسعة ويتزامن هذا الانتقال مع العسر.

نعم هذا العسر يكون مقدمة لحياة جديدة مرافقة لليسر.

وقد أشار الإمام الثامنعليه‌السلام إلى المواقف التي يشهدها الإنسان مع الخوف والوجل :

١. الولادة ٢. الموت ٣. البعث.

ولأجل المواقف العسيرة التي يواجهها الإنسان في هذه الأدوار الثلاثة نجد أنّ الله سبحانه وعد يحيىعليه‌السلام بالسلامة من كلّ مكروه في هذه المواقف، قال سبحانه:( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) .(١)

إذا عرفت ذلك فلنشرح أقسام الموت :

١. الموت العسير واليسير

إنّ حقيقة الموت ترجع ـ في الواقع ـ إلى نزع الروح من البدن مرفقاً بعسر وحرج وضيق عند قاطبة الناس ويشتد خاصة عند من يواجه الموت مقترفاً للذنوب يقول سبحانه:( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) .(٢)

__________________

١. مريم: ١٥.

٢. ق: ١٩.

١٦٥

وفي آية أُخرى:( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) .(١)

وفي مقابل هؤلاء المؤمنون المطيعون لأوامر ربّهم ونواهيه فهم يقابلون بالسلام، يقول سبحانه:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ) .(٢)

وفي آية ثانية يخاطب سبحانه النفس المطمئنّة، بقوله:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) .(٣)

وهذا التقسيم الذي تبنّاه الكتاب الإلهي من تقسيم الناس حين الموت إلى من يبشر بالسوء والخير، شائع في روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

يقول الإمام الحسنعليه‌السلام : « أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد ».(٤)

وقال الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : « الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب وآنس المنازل ; وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظم العذاب ».(٥)

إلى غير ذلك من الروايات.


__________________

١. محمد: ٢٧.

٢. النحل: ٣٢.

٣. الفجر: ٢٧ ـ ٢٨.

٤. البحار: ٦ / ١٥٤.

٥. البحار: ٦ / ١٥٥.

١٦٦

٢. موت البدن والقلب

قد ينسب الموت إلى البدن، وأُخرى إلى القلب، فإذا انقطعت علاقة الروح بالبدن فهذا موت البدن، ولكن إذا كانت العلاقة موجودة ولكن الإنسان بلغ من التفكير والتعقّل درجة نازلة تلحقه بميت الأحياء، ولذلك يعد سبحانه الفئة المعاندة للإسلام أمواتاً، ويقول:( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (١) ، وقد ورد هذا المضمون في آيات أُخرى من الذكر الحكيم.

ويقول سبحانه:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) .(٢)

والمراد من « الميت » هو ميت القلب الغافل عن الحقائق والمعارف، فإذا أشرق نور الإسلام على قلبه صار حيّاً بحياة معنوية يمشي بنوره بين الناس، فليس هو كمن بقي في الظلمات ولا يستطيع الخروج منها.

ومن لطائف الكلام ما نلمسه في خطب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يصف حياة المتخلفين عن الجهاد أمام أعدائهم موتاً، كما يصف الشهادة في ميادين الجهاد حياة، ويقولعليه‌السلام : « فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين ».(٣)

لأنّ الحياة المعنوية رهن آثار وأهمها الدفاع عن كيان الدين ودفع عادية المعتدين، فالطائفة الأُولى فقدوا هذه الخصيصة فكأنّهم ليسوا بأحياء بل أمواتٌ، بيد أنّ تلك الخصيصة متوفرة عند الطائفة الثانية فهم وإن ضُرّجوا بدمائهم في

__________________

١. الروم: ٥٢.

٢. الأنعام: ١٢٢.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ٥١.

١٦٧

ساحات الوغىٰ ولكنّهم دافعوا عن كيان الإسلام فصانوا دينهم وديارهم ونواميسهم.

ونظير ذلك تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي استولت الأنانية عليه وغفل عن الآخرين فهو حيّ ظاهراً وميت حقيقةً، إذ لا يشعر بأي مسؤولية حيال إزالة المفاسد الاجتماعية التي تهدِّد المجتمع.

يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : « ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء ».(١)

ويقول أيضاً فيمن يهتمُّ بحياة البدن دون القلب: « يرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم وهم أشدّ إعظاماً لموت قلوب أحيائهم ».(٢)

٣. موت الإنسان والمجتمع

يصف علماء الاجتماع المجتمع تارة بالطفولة، وأُخرى بالريعان والنضج، وثالثة بالانحطاط والهرم وفقاً للحالات الطارئة على الإنسان من طفولة إلى ريعان الشباب ثمّ الشيخوخة والهرم.

فالإنسان في مرحلة الطفولة تكمن فيه استعدادات وقابليات مختلفة، فإذا اجتاز تلك المرحلة تتفجر طاقاته الكامنة رويداً رويداً حتى يبلغ مرحلة الشباب ثمّ يجتاز تلك المرحلة إلىٰ مرحلة الشيخوخة فتنهار قواه وتأخذ بالضعف، وهكذا المجتمع.

وهناك تقسيم آخر وهو :

إنّ الإنسان من حين ولادته إلىٰ أن يبلغ مرحلة شبابه تتكامل شخصيته

__________________

١. نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم ٣٧٤.

٢. نهج البلاغة: الخطبة ٢٣٠.

١٦٨

شيئاً فشيئاً، فإذا اشتدّت قواه، يبدأ باستغلالها بغية نيل الأموال والمناصب وغيرها، وكلّما تقدم في العمر يزداد حرصاً وطمعاً فإذا اجتاز تلك المرحلة ودخل مرحلة الهرم فيشرع بحفظ ما جمعه وبلغت إليه يده من الأموال والثروات إلى أن يبلغ أجله.

فالمرحلة الأُولىٰ: مرحلة التكوين، والثانية: مرحلة الهجوم، والثالثة: مرحلة التدافع ; والرابعة: مرحلة الانقراض، وهكذا المجتمع في مراحله الأربع.

فالحضارات الإنسانية، مرَّت بتلك المراحل إلىٰ أن اضمحلّت واندثرت.

يقول سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (١) فيعد للأُمة حياةً وأجلاً.

عوامل أُفول الحضارات

إنّ بزوغ نجم الحضارات وأُفولها من السنن القطعية الإلهية فلا تدوم حضارة عبر القرون والدهور بل تتبعها حضارة أُخرى وهكذا.

نعم هذا البزوغ والأُفول رهن عوامل داخلية وخارجية وليس أمراً اعتباطياً، يقول سبحانه:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٢)

إنّ اضمحلال الحضارة واندثارها ناجم عن عوامل كثيرة أهمها تفشي الظلم في المجتمعات وغياب العدالة الاجتماعية في حياتها، وهذا بمرور الزمان يستفحل شيئاً فشيئاً حتى يصل مرحلة لا يطيقها المجتمع فيؤول إلىٰ عصيان عام

__________________

١. الأعراف: ٣٤.

٢. الأعراف: ٩٦.

١٦٩

يؤدي إلىٰ سقوط الحضارة، يقول سبحانه:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) (١) ، ويقول في آية أُخرى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) .(٢)

فقد عدّت الآية الأُولى والثانية الظلم والفسق وارتكاب الذنوب من أسباب انهيار الحضارات وزوالها، ووجهه واضح، لأنّ الفسق والزنا وأكل الأموال بالباطل والغش والسرقة، طغيانٌ على الفطرة السليمة وخروجٌ عليها، ومعه تنفصم عرى الحضارة الإنسانية. فضلاً عن بثِّ العداوة والبغضاء في القلوب.

نعم هناك ذنوب تترك آثاراً سلبية في المجتمع، وإن لم نقف على الصلة بينها، فقد ورد في الحديث: انّه إذا كثر الزنا، كثر موت الفجأة. وهناك صلة بين الأمرين وإن لم تثبته العلوم الحديثة.

وأمّا تأثير الظلم وبعض الذنوب التي تخالف الفطرة كالزنا واللواط وجمع الأموال بالباطل فهو واضح حسب المعايير الاجتماعية كما ذكرناه.

٤. الموت المشرّف

إنّ بعض أنواع الموت يعد مشرّفاً في حدّ ذاته، وهذا كالموت في سبيل طلب العلم وإقامة العدل وغير ذلك من الأهداف السامية، ولذلك يعد سبحانه هؤلاء أحياءً لا أمواتاً ويقول:( وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) .(٣)

__________________

١. هود: ١١٧.

٢. الإسراء: ١٦ ـ ١٧.

٣. البقرة: ١٥٤.

١٧٠

كما أنّه سبحانه يعد من مات في سبيل العلم مجاهداً مأجوراً عند الله، يقول سبحانه:( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) .(١)

و. الموت والأجل المحتوم

القرآن الكريم يقسّم الأجل إلى أجل مطلق وأجل مسمّىٰ، ويقول:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) .(٢)

كما أنّه يصرّح بأنّ للشمس والقمر أجلاً مسمّىٰ، يقول:( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٣) . إلى غير ذلك من الآيات الناصة على الأجل المطلق والمسمّى.

وقد بسط المفسرون الكلام في تفسير الأجلين، ولكن الذي نفهمه من الآيات هو أنّه سبحانه جعل لكلّ شيء أجلاً طبيعياً بمعنىٰ قابليته لأن ينتهي إليه، ولكن ربّما تعوق المعوِّقات عن بلوغ ذلك الأمد، وهذا كالإنسان فله استعداد أن يحيىٰ ١٢٠ سنة ولكن الظروف البيئية ربما تحول دون ذلك، فالمقدّر لكلّ شيء حسب طبيعته هو الأجل المطلق وأمّا ما ينتهي إليه مصير الشيء، فهو يختلف، فتارة ينقص عن الأجل المطلق لأجل عوائق تحول بينه وبين الأجل المطلق، وأُخرىٰ يجتازه ويعمر أكثر من العمر الطبيعي لأجل توفّر عوامل بيئية ونفسية مناسبة.

وهذا التقسيم أيضاً جار في الصنائع، فلكلّ مصنوع عمر محدد مفيد، ولكنّه

__________________

١. النساء: ١٠٠.

٢. الأنعام: ٢.

٣. فاطر: ١٣.

١٧١

ربّما يواجه ظروفاً وعوامل خاصّة تنقص من ذلك العمر المفيد، كما أنّه ربما يجتازه لأجل رعاية الأساليب الفنية في استخدام ذلك المصنوع.

ز. التوبة والندامة قبيل الموت أو حينه

الموت يلازم رفع الحجب المادية عن البصر، فيرى الإنسان المحتضر مصيره بأُمِّ عينيه، فالصالحون يرون روحاً وريحاناً وحياة فيستقبلون الموت بوجوه مشرقة وصدور رحبة، وأمّا الظالمون المستكبرون فيلمسون حياة مريرة تعانق الآلام والنيران فيحاولون جهد إمكانهم أن يدّاركوا ما اقترفوه من الآثام بالتوبة والندامة ليتخلّصوا بذلك من العذاب الأليم، ولات حين مناص، فلا تنفع الندامة لأنّ الهدف من التوبة هو طهارة الروح من أدران المعصية والآثام وهذه الأمنية رهن صدور التوبة عن اختياره ورغبته إلى الطهارة، وهذا غير متحقق في حال الاحتضار، لأنّه يتوب ويندم بلا اختيار.

وبعبارة أُخرى: التائب إنّما تقبل توبته إذا كان أمامه طريقان فينتخب الطريق الحقّ باختياره، وهذا إنّما يتيسر له ذلك في ثنايا حياته لا في حال الاحتضار الذي يسلب عنه اختياره، ولذلك يقول سبحانه:( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ) (١) وفي آية أُخرى:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاًّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .(٢)

إنّ فرعون مصر لما كاد أن يغرق، ورأى مصيره المرير حاول أن يتوب ويظهر إيمانه بربّ موسى ولكنّه جُوبه بالرفض والاستنكار، قال سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ

__________________

١. النساء: ١٨.

٢. المؤمنون: ٩٩ ـ ١٠٠.

١٧٢

الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ *آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) .(١)

وليست هذه خصيصة فرعون فحسب، بل الأُمم الغابرة الغارقة في الفساد حاولوا ردّ العذاب بالتوبة بعدما نالوا من الأنبياء والمصلحين وسخروا منهم فلم تغن عنهم توبتهم في شيء قال سبحانه:( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ *فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) .(٢)

والإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يصف بعض الظالمين الذين يواجهون أنواع العذاب حين الموت ويقول: « فهو يعضُّ يده ندامة علىٰ ما أضمر له عند الموت من أمره ».(٣)

وقد علم من كلّ ذلك أنّ رفض توبة الإنسان في تلك الحالة لا يدل على عدم سعة رحمته، لما عرفت من أنّ قبول التوبة فرع سموِّ الإنسان عن اقتراف الذنوب الذي يلازم الاختيار، وهذا غير متحقّق حين الموت.

ح. الوصية في حال الموت

يُستحب للإنسان في جميع الأحوال أن يوصي بما عليه من الديون والحقوق لا سيما إذا حضره الموت، يقول سبحانه:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ ) .(٤)

__________________

١. يونس: ٩٠ ـ ٩١.

٢. غافر: ٨٤ ـ ٨٥.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ١٠٩.

٤. البقرة: ١٨٠.

١٧٣

ومن الواضح أنّ هذه اللحظة هي آخر ما يتمكن الإنسان من الوصية والأَولىٰ أن يقدّمها على الاحتضار سواء أكان شاباً أم هرماً، قال عليٌّعليه‌السلام : « ما ينبغي لامرئ أن يبيت ليلة إلّا ووصيته تحت رأسه ».(١)

ويستحب أن يشهد على الوصية عدلان، قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ ) .(٢)

فالآية ترغِّب إلى شهادة عدلين من المسلمين إذا أمكن، و إلّا فليشهد من غير المسلمين من أهل الكتاب كما إذا كان الموصي ضارباً في الأرض ولم يجد من نحلته من يُشهده علىٰ وصيته فعليه أن يُشهد من غيرهم، وما هذا إلّا لأجل أن يوصد باب الأعذار على ورثة الميت ويقطع دابر الحيل التي ربما تحول دون تنفيذ الوصية.

ط. جهل الإنسان بموته

إنّ حبّ البقاء من الأُمور التي جبل الإنسان عليها، ولو سلب عنه ذلك الحب لأُطفئت جذوة حياته، فحبّ البقاء مصباح منير لحياته، كما أنّ اليأس من الحياة ظلام دامس لها; روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال: « الأمل رحمة لأُمّتي ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرة ».(٣)

ولو كان الإنسان مطلعاً على زمان موته ومكانه لاستولىٰ عليه الحزن واليأس قبل أن يموت بسنين، وربما يموت قبل أجله المقرر، ولذلك يعد الجهل بزمان موته

__________________

١. وسائل الشيعة: ١٣، كتاب الوصايا، باب ١، حديث ٧.

٢. المائدة: ١٠٦.

٣. سفينة البحار: مادة أمل.

١٧٤

من علل بقاء حياته ونشاطه، ولذلك ستر سبحانه علم هذا الموضوع عن الناس إلّا في موارد خاصة لملاكات كذلك.

على أنّ لهذا الجهل أثراً تربوياً، فانّ الرجوع إلى الله سبحانه والتوبة من المعاصي مع الرجاء بالبقاء أفضل من التوبة والرجوع إليه عند اقتراب أجله وقبل إطفاء مصباح حياته.

نعم ربما يكون الجهل بالموت سبباً للغرور والاغترار حيث إنّ المغتر يزعم أنّه سيعيش عمراً طويلاً، ولكنّه يرى موته أمراً بعيداً، فيقترف المعاصي في شبابه علىٰ أمل أن يتوب منها في هرمه، ولكنه في الوقت نفسه عامل تربوي للحد من الغرور لأنّه يحتمل أن يكون قد اقترب أجله ويكون هو على مقربة من الموت.

ولهذه الوجوه ستر سبحانه علمه عن الناس وقال:( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) .(١)

ويدل على ذلك ما دلّ من الآيات على أنّ الأجل المسمّى عنده، وهو يلازم جهل الإنسان بموته لانحصار علمه بالله سبحانه.

ي. الموت والملائكة الموكّلون

إنّ من مراتب التوحيد حصر التدبير في الله سبحانه، وأنّه لا مدبّر إلّا هو ولو كانت الشمس مشرقة والقمر منيراً وغيرهما من العوامل الطبيعية ذات الآثار الخاصة فإنّما هو بأمره سبحانه، كما يقول:( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .(٢)

__________________

١. لقمان: ٣٤.

٢. الأعراف: ٥٤.

١٧٥

ولكن الإيمان بحصر التدبير في الله لا ينافي وجود عوامل أُخرى مؤثرة تدبر الكون، بأمر من الله سبحانه، فانّ هذا التدبير الظلي التبعي في طول تدبير الله سبحانه، ولأجل ذلك ينسب الله تعالى توفّي الأنفس إليه ويقول:( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) ، ولكنّه في الوقت نفسه ينسبه إلى الملائكة تارة وملك الموت أُخرى، ويقول:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ) (٢) ويقول سبحانه:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .(٣)

فهناك فعل واحد نسب إلى فواعل ثلاثة، تارة إلى الله، وأُخرى إلى الملائكة، وثالثة إلى ملك الموت، فالفعل واحد والفواعل متعددة، لأنّ فعل الجميع هو فعل الله سبحانه بالتسبيب.

وترى نظير ذلك في قوله سبحانه:( وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) (٤) حيث ينسب الكتابة إلى الله، وفي آية أُخرى ينسبها إلى الرسل، ويقول:( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) .(٥)

وتتجلّى تلك الحقيقة في الآيات التالية الواردة في الموت والحياة، يقول سبحانه:( إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (٦) ، ويقول:( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) (٧) .

ويقول أيضاً:( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) (٨) .

__________________

١. الزمر: ٤٢.

٢. النحل: ٢٨.

٣. السجدة: ١١.

٤. النساء: ٨١.

٥. الزخرف: ٨٠.

٦. التوبة: ١١٦.

٧. النجم: ٤٤.

٨. الواقعة: ٦٠.

١٧٦

إلى غير ذلك من الآيات التي تعد الإماتة والإحياء فعلاً لله سبحانه، وفي الوقت نفسه تعدّهما فعلاً لغيره، ويقول:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) .(١)

نعم تجعل بعض الآيات زمام الموت والحياة بيد الملائكة الموكّلين، وما هذا إلّا لأنّ عملهم عمله سبحانه.

نعم الذي لا يمكن أن ينكر أنّ الذكر الحكيم يركّز على أنّ ما في الكون أثر فعله سبحانه تكريساً للتوحيد في الربوبية.

















__________________

١. الأنعام: ٦١.

١٧٧





الفصل الثالث عشر :

القبر وعالم البرزخ

إذا كانت حالة الاحتضار نهاية النشأة الأُولى وبداية النشأة الثانية، فالتكفين والصلاة على الميت والتدفين في القبر، هو المنزل الثاني من النشأة الثانية، وهو منزل ضيق للغاية، ولعل الإنسان لا أُنس له بهذا النوع من المنازل، وتنقطع صلته عن الحياة الدنيويّة إذا وُري جثمانه الثرىٰ، وهذا أمر ملموس، يشير إليه قوله سبحانه:( ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) (١) .

ولكن في بطن هذا المنزل من تلك النشأة، عالم فسيح يحيا فيه الإنسان لا بهذا البدن المقبور، بل ببدن يناسب تلك النشأة، وهو البدن المثالي الذي له آثار المادة وإن تجرّد عنها، وهذا ما يعبر عنه بعالم البرزخ، وقد صرح به الذكر الحكيم، يقول تعالى:( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٢) ، فقوله:( وَمِن وَرَائِهِم ) بمعنى أمامهم لا بمعنى خلفهم، بشهادة قوله سبحانه:( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) .(٣)

__________________

١. عبس: ٢١.

٢. المؤمنون: ١٠٠.

٣. الكهف: ٧٩.

١٧٨

والبرزخ بمعنى الحائل والفاصل، يقول تعالىٰ:( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ) (١) وإنّما أطلق على هذا النوع من الحياة لفظ البرزخ، لأجل الفصل بين الحياتين علىٰ وجه لا يمكن للإنسان أن يتجاوز الفاصل والحائل ويعود إلى الدنيا.

والآيات الدالة عليه كثيرة.

منها: ما دلّت على تجرّد النفس وبقائها بعد الموت، وقد مرّ ما يدل على ذلك.

ومنها: ما دلت على حياة الشهداء، وانّهم في ذلك العالم فرحين مستبشرين بنعم الله سبحانه.

ومنها: ما ورد في حقّ آل فرعون، وانّهم يعرضون على النار غدواً وعشياً، ويوم القيامة يدخلون النار، كما ورد نظيره في حقّ قوم نوحعليه‌السلام وقد مرّت هذه الآيات في فصل تجرد النفس فلاحظ.

وثمّة آيات أُخرى تدل على الحياة البرزخية لم نذكرها فيما سبق.

قال سبحانه:( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) .(٢)

فالآية تحكي عن إماتتين وإحياءين، فالإماتة الأُولىٰ في النشأة الدنيا، والإماتة الثانية في عالم البرزخ عند نفخ الصور.

يقول سبحانه:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إلّا مَن شَاءَ اللهُ ) .(٣) فالموت عند نفخ الصور يلازم وجود الحياة قبل النفخ، وليس هو إلّا الحياة البرزخية، وأمّا الإحياءان فالأوّل منهما عبارة عن الحياة

__________________

١. الرحمن: ٢٠.

٢. غافر: ١١.

٣. الزمر: ٦٨.

١٧٩

في عالم البرزخ، والثاني هو الإحياء بعد نفخ الصور. يقول سبحانه:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) .(١)

ولأجل إعطاء صورة واضحة عن طبيعة الإماتتين والإحياءين، نقول :

الإماتة الأُولىٰ عند حلول أجله القطعي.

والإماتة الثانية عند نفخ الصور الأوّل.

والإحياء الأوّل بعد الموت وانتقاله إلى النشأة الأُخرى.

والإحياء الثاني عند نفخ الصور الثاني.

وبهذا يعلم وجود الحياة البرزخية بين النشأة الأُولى وقيام الساعة.

وقد ذكر لهاتين الإماتتين، وهذين الإحياءين، وجه آخر ولكن لا ينطبق على ظواهر الآيات.

الحياة البرزخية في الروايات

وقد وردت أحاديث كثيرة في كيفية وطبيعة ذلك العالم نقتصر علىٰ هذا الحديث.

روى أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن أرواح المؤمنين، فقال: « في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة، وانجز لنا ما وعدتنا » وسألته عن أرواح المشركين، فقال: « في النار يعذبون ويقولون ربّنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ».(٢)

__________________

١. يس: ٥١.

٢. بحار الأنوار: ٦ / ٢٦٩، الحديث ١٢٢ و ١٢٦ وما ذكرناه حديث واحد وإن جعله العلّامة المجلسي
حديثين.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403