مفاهيم القرآن الجزء ٨

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166683 / تحميل: 5764
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٨

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-١٤٨-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

مُفْسِدِينَ ) (1) .

ثمّ إنّنا نلاحظ أيضا أنّ جماعة الأغنياء والمترفين ذوي الظاهر الحسن ، والباطن القبيح الخبيث ، الذين عبر عنهم بالملإ أخذوا بزمام المعارضة لهذا النّبي الإلهيّ العظيم ، وحيث أنّ عددا كبيرا من أصحاب القلوب الطيبة والأفكار السليمة كانت ترزح في أسر الأغنياء والمترفين ، قد قبلت دعوة النّبي صالح واتبعته ، لهذا بدأ الملأ بمخالفتهم لهؤلاء المؤمنين.

فقال الفريق المستكبر من قوم صالح للمستضعفين الذين آمنوا بصالح : هل تعلمون يقينا أنّ صالحا مرسل من قبل الله( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

على أنّ الهدف من هذا السؤال لم يكن هو تحري الحق ، بل كانوا يريدون بإلقاء هذه الشبهات زعزعة الإيمان في نفوس من آمن ، وإضعاف معنوياتهم ، وظنا منهم بأن هذه الجماهير ستطيعهم وتكف عن متابعة صالح وحمايته ، كما كانت مطيعة لهم يوم كانت تحت سيطرتهم ونفوذهم.

ولكن سرعان ما واجهوا ردّ تلك الجموع المؤمنة القاطع ، الكاشف عن إرادتها القوية وعزمها على مواصلة طريقها ، حيث قالوا : إنّنا لسنا نعتقد بأنّ صالحا رسول من قبل الله فحسب ، بل نحن مؤمنون أيضا بما جاء به( قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) .

ولكن هؤلاء المغرورين المتكبرين لم يكفوا عن عملهم ، بل عادوا مرّة أخرى إلى إضعاف معنوية المؤمنين( قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) . وكانت هذه محاولة منهم لجرّ هؤلاء المستضعفين الى صفوفهم مرّة

__________________

(1) «تعثوا» مشتقة من مادة «عثى» معنى إيجاد الفساد ، غاية ما هنالك أنّ هذه المادة تستعمل في الأغلب في المفاسد الأخلاقية والمعنوية ، في حين تطلق مادة «عبث» على المفاسد الحسية ، وبناء على هذا يكون كلمة «المفسدين» بعد جملة «لا تعثوا» لغرض التأكيد ، لأنّ كليهما يعطيان معنى واحدا.

١٠١

أخرى.

كانوا المقدّمين في المجتمع والأسوة للآخرين على الدوام بما كانوا يتمتّعون به من قوة وثراء ، لهذا كانوا يظنون أنّهم بإظهار الكفر سيكونون أسوة للآخرين أيضا ، وأن الناس سوف يتبعونهم كما كانوا يفعلون ذلك من قبل ، ولكنّهم سرعان ما وقفوا على خطأهم ، وعلموا أنّ الناس قد اكتسبوا بالإيمان بالله على شخصيّة حضارية جديدة واستقلال فكري ، وقوة إرادة.

والجدير بالانتباه أنّ الأغنياء والملأ وصفوا في الآيات الحاضرة بالمستكبرين ، ووصفت الجماهير الكادحة المؤمنة بالمستضعفين ، وهذا يفيد الفريق الأوّل قد وصلوا بشعورهم بالتفوق ، وغصب حقوق الناس واستغلالهم إلى مرتبة ما يسمى في لغة العصر بـ «الطبقة المستغلّة» ، والفريق الآخر بالطبقة المستغلّة.

عند ما يئس الملأ والأغنياء المستكبرون من زعزعة الإيمان في نفوس الجماهير المؤمنة بصالحعليه‌السلام ، ومن جانب آخر رأوا أنّ وساوسهم وشائعاتهم لا تجدي نفعا مع وجود «الناقة» التي كانت تعدّ معجزة صالحعليه‌السلام ، لهذا قرّروا قتل الناقة ، مخالفين بذلك أمر ربّهم( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ) (1) .

ولم يكتفوا بهذا أيضا ، بل أتوا إلى صالح نفسه وبصراحة( قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

يعني أنّنا لا نخاف تهديداتك مطلقا ، وأن هذه التهديدات جميعها لا أساس لها والحقيقة أنّ هذا الكلام نوع من الحرب النفسية ضد صالحعليه‌السلام ، بهدف إضعاف روحيته وروحية المؤمنين به.

وعند ما وصل المعارضون بطغيانهم وتمرّدهم إلى آخر درجة ، وأطفأوا في

__________________

(1) المراد من العقر هو قطع عصب خاص خلف رجل الناقة أو الفرس هو سبب حركتها ، فإذا قطع سقط الحيوان ، وفقد القدرة على الحركة ، والتنقل.

١٠٢

نفوسهم آخر بارقة أمل في الإيمان ، حلّت بهم العقوبة الإلهية طبقا لقانون انتخاب الأصلح ، وإهلاك ومحو الكائنات الفاسدة والمفسدة( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

إنّها كانت زلزلة ورجفة عظيمة تهاوت على أثرها قصورهم وبيوتهم القوية ، واندثرت حياتهم الجميلة ، حتى أنّه لم يبق منهم إلّا أجساد ميتة هكذا أصبحوا.

و «جاثم» في الأصل مشتق من مادة «جثم» بمعنى القعود على الركب ، والتوقف في مكان واحد ، ولا يبعد أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أنّ الزلزلة والرجفة جاءتهم وهم في حالة نوع هنيئة ، فجلسوا على أثرها فجأة ، وبينما كانوا قاعدين على ركبهم لم تمهلهم الرجفة ، بل ماتوا وهم على هذه الهيئة ، إمّا خوفا ، وإمّا بسبب انهيار الجدران عليهم ، وإمّا بفعل الصاعقة التي رافقت الزلزال!!

بأيّ شيء أهلك قوم ثمود :

وهنا يطرح سؤال وهو : يستفاد من الآية الحاضرة أنّ الشيء الذي أهلك هؤلاء المتمردون كان هو الزلزال ، ولكن يظهر من الآية (13) من سورة فصلت أنّه كان الصاعقة ، بينما نقرأ في الآية (15) من سورة الحاقة( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) يعني أنّ قوم ثمود اهلكوا بشيء مدمّر ، فهل هناك تناقض بين هذه التعابير؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن أن يلخص في جملة واحدة ، وهي جميع هذه العبارات ترجع إلى معنى واحد ، أو أنّه يلازم بعضها بعضا ، فكثيرا ما تحدث الرجة الأرضية في منطقة ما بفعل صاعقة عظيمة ، أي أنّه تحدث صاعقة أوّلا ، ثمّ تحدث على أثرها رجة أرضية.

وأمّا «الطاغية» فهي بمعنى كائن تجاوز عن حدّه ، وهذا ينسجم مع الزلزلة وكذا مع الصاعقة ، ولهذا فلا يوجد أي تناقض بين الآيات.

١٠٣

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يقول :( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ) أي بعد هذه القضية تولى صالح وهو يقول : لقد أديت رسالتي إليكم ، ونصحت لكم ولكنّكم لا تحبّون من ينصحكم.

وهنا يطرح سؤال آخر ، وهو : هل كلام صالح هذا كان بعد هلاك المتمردين من قومه ، أو أنّ هذا الكلام هو الحوار الأخير الذي جرى بينه وبين قومه قبيل هلاك القوم وموتهم ، أي بعد إتمام الحجّة عليهم ولكن ذكر في عبارة القرآن بعد قضية هلاكهم وموتهم بالرجفة؟

هناك احتمالان : والحقيقة أنّ الاحتمال الثّاني أنسب مع ظاهر الخطاب ، لأنّ الحديث مع قوم ثمود يفيد أنّهم كانوا أحياء. ولكن الاحتمال الأوّل هو أيضا غير بعيد ، لأنّه كثيرا ما تتم محادثة أرواح الموتى بمثل هذا الكلام ليعتبر الباقون الحاضرون ، تماما كما نقرأ نظير ذلك في تاريخ الإمام عليعليه‌السلام فإنّهعليه‌السلام وقف ـ بعد معركة الجمل ـ عند جسد طلحة وقال : «ويل أمّك ، طلحة! لقد كان لك قدم لو نفعك ، ولكن الشيطان أضلك فأزلك ، فعجلك إلى النّار».(1)

كما نقرأ ـ أيضا ـ في أواخر نهج البلاغة أنّ الإمام علياعليه‌السلام عند ما عاد من معركة صفّين وقف عند مدخل الكوفة والتفت إلى مقابر الموتى ، فسلّم على أرواح الماضين أوّلا ، ثمّ قال : «أنتم السابقون ونحن اللاحقون».

* * *

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج 1 ، ص 248.

١٠٤

الآيات

( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) )

التّفسير

مصير قوم لوط المؤلم :

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلا آخر غنيا بالعبر من قصص الأنبياء ، وبذلك يواصل هدف الآيات السابقة ويكمله ، والقصة هذه المرّة هي قصة النّبي الإلهي العظيم «لوط».

ولقد ذكرت هذه القصة في عدّة سور من القرآن الكريم ، منها سورة «هود» و «الحجر» و «الشعراء» و «الأنبياء» و «النمل» و «العنكبوت».

وهنا يشير القرآن الكريم ـ ضمن آيات خمس ـ إلى خلاصة سريعة عن

١٠٥

الحوار الذي دار بين لوط ، وقومه.

ويظهر أنّ الهدف الوحيد في هذه السورة (الأعراف) هو تقديم عصارات وخلاصات من مواجهات الأنبياء وحواراتهم مع الجماعات المتمردة من أقوامهم ، ولكن الشرح الكامل لقصصهم موكول إلى السور القرآنية الأخرى (وسوف نأتي بقصّة هذه الجماعة بصورة مفصلة في سورة هود والحجر إن شاء الله).

الآية الأولى تقول في البدء : اذكروا وإذ قال لوط لقومه : أترتكبون فعلا قبيحا لم يفعله أحد قبلكم من الناس؟( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) ؟!

فهذه المعصية مضافا إلى كونها عملا قبيحا جدّا ـ لم يفعلها أحد قبلكم من الأقوام ـ وبذلك يكون قبح هذا العمل الشنيع مضاعفا ، لأنّه أصبح أساسا لسنّة سيئة ، وسببا لوقوع الآخرين في المعصية عاجلا أو آجلا.

ويستفاد من الآية الحاضرة أنّ هذا العمل القبيح ينتهي ـ من الناحية التأريخية ـ إلى قوم لوط ، وكانوا قوما أثرياء مترفين شهوانيين ، سنذكر أحوالهم بالتفصيل في السور التي أشرنا إليها إن شاء الله تعالى.

وفي الآية اللاحقة يشرح المعصية التي ذكرت في الآية السابقة ويقول :( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ ) .

وأي انحراف أسوأ وأقبح من أن يترك الإنسان وسيلة توليد النسل وإنجاب الأولاد ، وهو مقاربة الرجل للمرأة ، والذي أودعه الله في كيان كل إنسان بصورة غريزية طبيعية ، ويعمد إلى «الجنس الموافق» ، ويفعل بالتالي ما يخالف ـ أساسا ـ الفطرة ، والتركيب الطبيعي للجسم والروح الإنسانيين ، والغريزة السوية الصحيحة ، وتكون نتيجة عقم الهدف المتوخى من المقاربة الجنسية.

وبعبارة أخرى : يكون أثره الوحيد ، هو الإشباع الكاذب والمنحرف للحاجة

١٠٦

الجنسية ، والقضاء على الهدف الأصلي ، وهو استمرار النسل البشري.

ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية :( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) أي تجاوزتم حدود الله ، ووقعتم في متاهة الانحراف والتجاوز عن حدود الفطرة.

ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى أنّهم لم يسلكوا سبيل الإسراف في مجال الغريزة الجنسية فحسب ، بل تورطوا في مثل هذا الانحراف والإسراف في كل شي ، وفي كل عمل.

والجدير بالذكر أنّ الآية الأولى ذكرت الموضوع بصورة مجملة ، ولكن الآية الثّانية ذكرته بصورة مبيّنة وواضحة ، وهذا هو أحد فنون البلاغة عند بيان القضايا الهامة ، فإذا فعل أحد عملا شيئا قال له مرشده ووليه الواعي الحكيم ، لبيان أهمية الموضوع : أنت ارتكبت ذنبا عظيما ، فإذا قال له الشخص ، ماذا فعلت؟ يقول له مرّة أخرى : أنت ارتكبت ذنبا عظيما ، وفي المآل يكشف القناع عن فعله ويشرحه.

إنّ هذا النوع من البيان يهيء فكر الطرف الآخر ونفسه للوقوف تدريجا على شناعة عمله القبيح وخطورته ، وهو أبلغ في التأثير.

وفي الآية اللاحقة أشار القرآن الكريم إلى الجواب المتعنت وغير المنطقي لقوم لوط ، وقال : إنّهم لم يكن لديهم أي جواب في مقابل دعوة هذا النّبي الناصح المصلح ، إلّا أن قالوا : أخرجوا لوطا وأتباعه من مدينتكم. ولكن ما كان ذنبهم؟ إنّ ذنبهم هو أنّهم كانوا جماعة طاهرين لم يلوثوا أنفسهم بأدران المعصية( وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) .

وهذا ليس موضع تعجب واستغراب أن يطرد جماعة من العصاة الفسقة أشخاصا طاهرين لا لشيء إلّا لأنّهم أنقياء الجيب ، يجتنبون المنكرات ، وذلك لأنّ هؤلاء القوم يعتبرون هؤلاء مزاحمين لشهواتهم ، فكانت نقاط القوة لدى أولئك الأطهار نقاط ضعف وعيب في نظرهم.

١٠٧

ويحتمل أيضا في تفسير جملة( إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) أنّ قوم لوط كانوا يريدون بهذه العبارة أن يتهموا ذلك النّبي العظيم وأتباعه الأتقياء بالرياء والتظاهر بالتطهر ، كما سمعنا وقرأنا في الأشعار كثيرا حيث يتهم الخمارون الأشخاص الطيبين النزيهين بالرياء والتظاهر ، ويعتبرون (خرفتهم الملوثة بالخمر) أفضل من (سجادة الزاهد) وهذا نوع من التزكية الكاذبة للنفس التي يتذرع بها هؤلاء العصاة الأشقياء.

مع ملاحظة كل ما قيل في الآيات الثلاثة أعلاه ، يستطيع كل قاض منصف أن يصدر حكمه بحق مثل هذه الجماعات والأقوام الذين يتوسلون ـ في مقابل إصلاح المصلحين ونصيحة الناصحين ، ودعوة نبي إلهيّ عظيم ـ بالتهديد والاتهام ، ولا يعرفون إلّا لغة القوة والقهر ، ولهذا قال الله تعالى في الآية اللاحقة :( فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) (1) أي لما بلغ الأمر إلى هذا الحد أنجينا لوطا وأتباعه الواقعين وأهله الطيبين ، إلّا زوجته التي كانت على عقيدة قومه المنحرفين فتركناها.

قال البعض : إنّ كلمة «أهل» وإن كان المتعارف إطلاقها على العائلة ، ولكن في الآية الحاضرة استعملت في الأتباع الصادقين ـ أيضا ـ يعني أنّهم كانوا معدودين جزءا من أهله وعائلته أيضا ، ولكن يستفاد من الآية (36) من سورة الذاريات أنّه لم يؤمن بلوط ودعوته أحد من قومه قط إلّا عائلته وأقرباؤه ، وعلى هذا الأساس يكون لفظ الأهل هنا مستعملا في معناه الأصلي ، أي أقرباؤه.

من الآية (10) من سورة التحريم إجمالا أنّ زوجة لوط كانت في البداية امرأة صالحة ، ولكنّها سلكت سبيل الخيانة فيما بعد ، وجرأت أعداء لوط عليه.

وفي آخر آية من الآيات إشارة قصيرة جدا ـ ولكن ذات مغزى ومعنى

__________________

(1) يقال «الغابر» لمن ذهب أهله وفنوا وبقي وحده ، كما ذهبت عائلة لوط معه ، وبقيت زوجته وحدها معه ، وأصيبت بما أصيب به العصاة.

١٠٨

عميق ـ إلى العقوبة الشديدة والرهيبة التي حلّت بهؤلاء القوم ، إذ قال تعالى :( وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ) أيّ مطر إنّه كان مطرا عجيبا حيث انهالت عليهم الشهب والنيازك كالمطر وأبادتهم عن آخرهم!! إنّ هذه الآية وإن لم تبيّن نوع المطر الذي نزل على القوم ، ولكن من ذكر لفظة «المطر» بصورة مجملة اتضح أنّ ذلك المطر لم يكن مطرا عاديا ، بل كان مطرا من الحجارة ، كما سيأتي في سورة هود الآية (83).

( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) .

إنّ هذا الخطاب وإن كان موجها إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنّه من الواضح أنّ الهدف هو اعتبار جميع المؤمنين به.

هذا وسيأتي تفصيل قصّة هذه الجماعة ، وكذا مضار اللواط المتعددة ، وحكمه في الشريعة الإسلامية ، عند تفسير آيات سورة «هود» و «الحجر».

* * *

١٠٩

الآيات

( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) )

التّفسير

رسالة شعيب في مدين :

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلا خامسا من قصص الأقوام الماضين ، ومواجهة الأنبياء العظام معهم ، وهذا الفصل يتناول قوم شعيب.

١١٠

بعث شعيبعليه‌السلام الذي ينتهي نسبه ـ حسب كتب التاريخ ـ إلى إبراهيم عبر خمس طبقات ، إلى أهل مدين. وهي مدينة من مدن الشام ، كان أهلها أهل تجارة وترف قد سادت فيهم الوثنية ، وكذا الحيلة ، والتطفيف في المكيال والميزان ، والبخس في المعاملة.

وقد جاء تفصيل هذه المواجهة بين هذا النّبي العظيم وبين أهل مدين ، في سور متعددة من القرآن الكريم ، وبخاصّة في سورة «هود» و «الشعراء» ، ونحن تبعا للقرآن الكريم سنبحث بتفصيل هذه القصّة في ذيل آيات سورة هود إن شاء الله. أمّا هنا فنذكر شيئا عن هذه القصّة باختصار طبقا للآيات المطروحة هنا.

في البداية يقول سبحانه : ولقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيبا( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ) .

روى جماعة من المفسّرين ، مثل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والفخر الرازي في تفسيره المعروف ، أن «مدين» في الأصل اسم لأحد أبناء إبراهيم الخليل ، وحيث أنّ أبناءه وأحفاده سكنوا في أرض على طريق الشام سميت تلك الأرض «مدين».

هذا وقد أوضحنا السرّ في استعمال لفظة «أخاهم» في الآية (65) من هذه السورة.

ثمّ إنّه تعالى أضاف : إنّ شعيبا مثل سائر الأنبياء بدأ دعوته بمسألة التوحيد و( قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) .

وقال : إنّ هذا الحكم مضافا إلى كونه من وحي العقل ، ثابت بواسطة الأدلة الواضحة التي جاءتهم من جانب الله أيضا :( قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) .

أمّا أنّ هذه «البيّنة» ما هي؟ فإنّه لم يرد كلام حولها في الآيات الحاضرة ، ولكن الظاهر أنّها إشارة إلى معجزات شعيبعليه‌السلام .

١١١

ثمّ أنّهعليه‌السلام بعد الدعوة إلى التوحيد أخذ في محاربة المفاسد الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية السائدة فيهم ، وفي البدء منعهم من ممارسة التطفيف ، والغش في المعاملة ، يقول :( فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ) (1).

وواضح أن تسرّب أيّ نوع من أنواع الخيانة والغش في المعاملات يزعزع بل ويهدم أسس الطمأنينة والثقة العامّة التي هي أهم دعامة لاقتصاد الشعوب وتلحق بالمجتمع خسائر غير قابلة للجبران. ولهذا السبب كان أحد الموضوعات الهامّة التي ركز عليها شعيب هو هذا الموضوع بالذات.

ثمّ يشير إلى عمل آخر من الأعمال الأثيمة ، وهو الإفساد في الأرض بعد أن أصلحت أوضاعها بجهود الأنبياء ، وفي ضوء الإيمان فقال :( وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ) .

ومن المسلّم أنّه لا يستفيد أحد من إيجاد الفساد ومن الإفساد ، سواء كان فسادا أخلاقيا ، أو من قبيل فقدان الإيمان ، أو عدم وجود الأمن ، لهذا أضاف في آخر الآية قائلا :( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

وكأنّ إضافة عبارة : «إن كنتم مؤمنين» إشارة إلى أنّ هذه التعاليم الاجتماعية والأخلاقية إنما تكون متجذرة ومثمرة إذا كانت نابعة من الإيمان ومستمدة من نوره. أمّا لو كانت قائمة على أساس سلسلة من ملاحظة المصالح المادية ، لم يكن لها بقاء ودوام.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى رابع نصيحة لشعيب ، وهي منعهم عن الجلوس على الطرقات وتهديد الناس ، وصدّهم عن سبيل الله ، وتضليل الناس بإلقاء

__________________

(1) البخس يعني نقص حقوق الأشخاص ، والنّزول عن الحد بصورة توجب الظلم والحيف.

١١٢

الشبهات وتزييف طريق الحق المستقيم في نظرهم ، فقال :( وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ ، وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ ، وَتَبْغُونَها عِوَجاً ) .

وأمّا أنّه كيف كانوا يهدّدون الراغبين في الإيمان ، فقد ذكر المفسّرون في هذا المجال احتمالات متعددة ، فالبعض احتمل أنّه كان ذلك عن طريق التهديد بالقتل ، وبعض آخر احتمل أنّه كان عن طريق قطع الطريق ونهب أموال المؤمنين ، ولكن المناسب مع بقية العبارات الأخرى في الآية هو المعنى الأوّل.

وفي ختام الآية جاءت النصيحة الخامسة لشعيب ، التي ذكّر فيها قومه بالنعم الإلهية لتفعيل حسّ الشكر فيهم ، فيقول : تذكّروا عند ما كنتم أفرادا قلائل فزادكم الله في الأفراد وضاعف من قوتكم :( وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ) .

ثمّ يلفت نظرهم إلى عاقبة المفسدين ونهاية أمرهم ومصيرهم المشؤوم حتى لا يتبعوهم في السلوك فيصابوا بما أصيبوا به ، فيقول :( وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) .

ويستفاد من الجملة الأخيرة أنّه على العكس من الدعايات غير المدروسة لتحديد النسل في هذه الأيّام فإنّ كثرة أفراد المجتمع ، يمكن أن تكون منشأ القوّة وعظمة وتقدم المجتمع في أكثر الموارد ، طبعا شريطة أن تضمن معيشتهم وفقا لبرامج منظمة ، من الناحية المادية والمعنوية.

إنّ آخر آية من الآيات المبحوثة هنا بمثابة إجابة على بعض استفهامات المؤمنين والكفار من قومه ، لأنّ المؤمنين ـ على أثر الضغوط التي كانت تتوجه إليهم من جانب الكفار ـ كان من الطبيعي أن يطرحوا هذا السؤال على نبيّهم : إلى متى نبقى في العذاب ونتحمل الأذى؟

وكان معارضوهم ـ أيضا ـ والذين تجرأوا لأنّهم لم تصبهم العقوبة الإلهية فورا يقولون : إذا كنت من جانب الله حقّا فلما ذا لا يصيبنا شيء رغم كل ما نقوم به

١١٣

من إيذاء ومعارضة؟ فيقول لهم شعيب : إن كانت طائفة منكم آمنت بما بعثت به ، وأعرض أخرى فلا ينبغي أن يكون ذلك سببا لغرور الكفار ، ويأس المؤمنين ، اصبروا حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فالمستقبل سوف يكشف عمن يكون على حق ، ومن يكون على باطل( وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) .

* * *

١١٤

الآيتان

( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) )

التّفسير

هذه الآيات تستعرض ردّ فعل قوم شعيب مقابل كلمات هذا النّبي العظيم المنطقية ، وحيث أنّ الملا والأثرياء المتكبرين في عصره كانوا أقوياء في الظاهر ، كان رد فعلهم أقوى من رد فعل الآخرين.

إنّهم كانوا ـ مثل كل المتكبرين المغرورين يهددون شعيبا معتمدين على قوتهم وقدرتهم ، كما يقول القرآن الكريم :( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) .

قد يتصور البعض من ظاهر هذا التعبير «لتعودن إلى ملتنا» أنّ شعيبا كان قبل

١١٥

ذلك في صفوف الوثنيين ، والحال ليس كذلك ، بل حيث أنّ شعيبا لم يكن مكلّفا بالتبليغ ، لذلك كان يسكت على أعمالهم ، وكانوا يظنون أنّه كان على دين الوثنية في حين أنّ أحدا من النّبيين لم يكن وثنيا حتى قبل زمان النّبوة ، وإنّ عقول الأنبياء ودرايتهم كانت أسمى من أن يرتكبوا مثل هذا العمل غير المعقول والسخيف ، هذا مضافا إلى أنّ هذا الخطاب لم يكن موجها إلى شعيب وحده ، بل يشمل المؤمنين من أتباعه ـ أيضا ـ ويمكن أن يكون هذا الخطاب لهم.

على أن تهديد المعارضين لم يقتصر على هذا ، بل كانت هناك تهديدات أخرى سنبحثها في سائر الآيات المرتبطة بشعيب.

وقد أجابهم شعيب في مقابل كل تهديداتهم وخشونتهم تلك بكلمات في غاية البساطة والرفق والموضوعية ، إذ قال لهم : وهل في إمكانكم أن تعيدوننا إلى دينكم إذا لم نكن راغبين في ذلك :( قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ ) (1) ؟

وفي الحقيقة يريد شعيب أن يقول لهم : هل من العدل أن تفرضوا عقيدتكم علينا ، وتكرهوننا على أن نعتنق دينا ظهر لنا بطلانه وفساده؟ هذا مضافا إلى أنّه ما جدوى عقيدة مفروضة ، ودين جبريّ؟! وفي الآية اللاحقة يواصل شعيب قوله :( قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها ) .

إن هذه الجملة في الحقيقة توضيح للجملة السابقة المجملة ، ومفهوم هذه الجملة هو : نحن لم نترك الوثنية بدافع الهوى والهوس ، بل أدركنا بطلان هذه العقيدة بجلاء ، وسمعنا الأمر الإلهي في التوحيد بأذن القلب ، فإذا عدنا من عقيدة التوحيد إلى الشرك ـ والحال هذه ـ نكون حينئذ قد افترينا على الله عن وعي وشعور ، ومن المسلّم أنّ الله سيعاقبنا على ذلك بشدة.

__________________

(1) إنّ في هذه الجملة حذفا وتقديرا ، فالكلام في الأصل على هذه الصورة : «أتردوننا في ملتكم ولو كنّا كارهين».

١١٦

ثمّ يضيف شعيب قائلا :( وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) .

ومراد شعيب من هذا الكلام هو أنّنا تابعون لأمر الله ، ولا نعصيه قيد شعرة ، فعودتنا غير ممكنة إلّا إذا أمر الله بذلك.

ثمّ من دون إبطاء يضيف : إنّ الله يأمر بمثل هذا ، لأنّ الله يعلم بكل شيء ويحط علما بجميع الأمور( وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ) وعلى هذا الأساس ليس من الممكن أن يعود عن أمر أعطاه ، لأنّه لا يعود ولا يرجع عن أمر أعطاه إلّا من كان علمه محدودا ، واشتبه ثمّ ندم على أمره ، أمّا الذي يعلم بكل شيء ويحيط بجميع الأمور علما فيستحيل أن يعيد النظر.

ثمّ لأجل أن يفهمهم بأنّه لا يخاف تهديداتهم ، وأنّه ثابت في موقفه ، قال :( عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ) .

وأخيرا لأجل أن يثبت حسن نيّته ، ويظهر رغبته في طلب الحقيقة والسلام ، حتى لا يتهمه أعداؤه بالشغب والفوضوية والإخلال بالأمن يقول :( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) .

أي : يا ربّ أنت أحكم بيننا وبين هؤلاء بالحق ، وارفع المشاكل التي بيننا وبين هؤلاء ، وافتح علينا أبواب رحمتك ، فأنت خير الفاتحين.

وقد روي عن ابن عباس أنّه قال : ما كنت أعرف ماذا يعني الفتح في الآية حتى سمعت امرأة تقول لزوجها : أفاتحك عند القاضي ، يعني أطلبك عند القاضي للفصل بيننا ، فعرفت معنى الفتح في مثل هذه الموارد ، وأنّه بمعنى القضاء والحكم (لأن القاضي يفتح العقدة في مشكلة الطرفين)(1) .

* * *

__________________

(1) تفسير منهج الصادقين.

١١٧

الآيات

( وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) )

التّفسير

تتحدث الآية الأولى عند الدعايات التي كان يبثّها معارضو شعيب ضدّ من يحتمل فيهم الميل إلى الإيمان به فتقول :( وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ) .

والمقصود من الخسارة ـ هنا ـ الخسارات المادية التي تصيب المؤمنين بدعوة شعيب ، إذ من المسلّم عدم عودتهم إلى عقيدة الوثنية ، وعلى هذا الأساس كان يجب يخرجوا من بلدهم وديارهم بالقهر ، ويتركوا بيوتهم وأملاكهم.

وهناك احتمال آخر في تفسير الآية ، وهو أنّ مرادهم هو الأضرار المعنوية

١١٨

بالإضافة إلى الأضرار المادية ، لأنّهم كانوا يتصورون أنّ طريق النجاة يتمثل في الوثنية لا في دين شعيب.

وعند ما وصل أمرهم إلى الإصرار على ضلالتهم ، وعلى إضلال غيرهم أيضا ، ولم يبق أي أمل في إيمانهم وهدايتهم ، حلّت بهم العقوبة الإلهية بحكم قانون حسم مادة الفساد ، فأصابهم زلزال رهيب شديد بحيث تهاوى الجميع أجسادا ميّتة ، في داخل بيوتهم ومنازلهم( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

وقد مرّ في ذيل الآية (78) من هذه السورة ـ تفسير لفظة «جاثمين» وقلنا هناك أنّه قد استعملت عبارات وألفاظ مختلفة للتعبير عن عامل هلاك هذه الجماعة لا منافاة بينها.

فمثلا : جاء في شأن قوم شعيب ـ في الآية الحاضرة ـ أنّ عامل هلاكهم كان هو : «الزلزال» وفي الآية (94) من سورة هود أنّه «صيحة سماوية» وفي الآية (189) من سورة الشعراء : أنّه «ظلة من السحاب القاتل» وتعود كلها إلى موضوع واحد ، وهو أنّ العذاب المهلك كان صاعقة سماوية مخيفة ، اندلعت من قلب السحب الكثيفة المظلمة ، واستهدفت مدينتهم ، وعلى أثرها حدث زلزال شديد (هو خاصية الصواعق العظيمة) ودمّر كل شيء.

في الآية اللاحقة شرح القرآن الكريم أبعاد هذا الزلزال العجيب المخيف الرهيب بالعبارة التالية :( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) (1) . أي أنّ الذين كذبوا شعيبا أبيدوا إبادة عجيبة ، وكأنّهم لم يكونوا يسكنون تلك الديار.

وفي ختام الآية يقول :( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ ) .

وكأنّ هاتين الجملتين جوابا لأقوال معارضي شعيب ، لأنّهم كانوا قد هدّدوا بأن يخرجوه هو وأتباعه في حالة عدم انصرافهم من دين التوحيد إلى الدين

__________________

(1) «يغنوا» مشقة من مادة «غني» بمعنى «الإقامة في المكان» يقول الطبرسي في مجمع البيان : لا يبعد أن يكون المفهوم الأصلي للغنى هو عدم الحاجة ، لأنّ من كان عنده منزل حاضر ، فهو مستغن عن منزل آخر.

١١٩

السابق ، فقال القرآن : إنّهم أبيدوا كاملة ، وكأنّهم لم يسكنوا في تلك المنازل ، فضلا عن أن يستطيعوا إخراج غيرهم من البلد.

وفي مقابل قولهم : إنّ أتباع شعيب يستلزم الخسران ، قال القرآن الكريم : إنّ نتيجة الأمر أثبتت أنّ مخالفة شعيب هي العامل الأصلي في الخسران.

وفي آخر آية ـ من الآيات المبحوثة ـ نقرأ آخر كلام لشعيب مع قومه بعد اعراضه عنهم حيث قال : لقد بلّغت رسالات ربّي ، ونصحتكم بالمقدار الكافي ، ولم آل جهدا في إرشادكم :( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ) .

ثمّ قال( فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ ) أي لست متأسّفا على مصير الكافرين ، لأنني قد بذلت كل ما في وسعي لهدايتهم وإرشادهم ، ولكنّهم لم يخضعوا للحق ولم يسلّموا ، فكان يجب أن ينتظروا هذا المصير المشؤوم.

أمّا أنّه هل قال شعيب هذا الكلام بعد هلاكهم ، أم قبل ذلك؟ هناك احتمالان ، فيمكن أن يكون قبل هلاكهم ، ولكن عند شرح القصة جاء ذكره بعد ذلك.

ولكن مع الالتفات إلى آخر عبارة ، والتي يقول فيها : إنّ مصير هؤلاء الكافرين المؤلم لا يدعو إلى الأسف أبدا ، يترجح للنظر أنّ هذه الجملة قيلت بعد نزول العذاب ، وأنّ هذه التعابير ـ كما أشرنا في ذيل الآية (79) من هذه السورة قيلت وتقال للأموات كثيرا (وقد أشرنا إلى شواهد ذلك).

* * *

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

مكان الجنة والنار

إذا ثبت أنّ الجنة والنار مخلوقتان، يقع البحث في مكانهما، وقد يستفاد من الذكر الحكيم أنّ مكانهما قريب من سدرة المنتهىٰ، يقول سبحانه:( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ *عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ *عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَىٰ ) .(١)

يقول التفتازاني: لم يرد نص صريح في تعيين مكان الجنة والنار، والأكثرون على أنّ الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش، تشبثاً بقوله تعالى:( عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ *عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَىٰ ) وقوله: « سقف الجنة عرش الرحمن والنار تحت الأرضين السبع ».

والحقّ تفويض ذلك إلى علم العليم.(٢)

إنّ ما نقله التفتازاني هو رواية عكرمة، عن ابن عباس، أنّه قال: قدم يهوديان فسألا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقالا: أين تكون الجنة ؟ وأين تكون النّار ؟ قال: أمّا الجنّة ففي السماء، وأمّا النار ففي الأرض، قالا: فما السبعة ؟ قال: سبعة أبواب النّار متطابقات، قال: فما الثمانية ؟ قال: ثمانية أبواب الجنة.(٣)

ولكن عكرمة أباضي لا يعتمد عليه.(٤)

والمستفاد من ظواهر الآيات أنّ الجنّة والنار خارجتان عن نطاق السماوات والأرض، والشاهد عليه أنّه سبحانه يصف سعة الجنة بسعة السماوات والأرض ،

__________________

١. النجم: ١٣ ـ ١٥.

٢. شرح المقاصد: ٢ / ٢٢٠، ط آستانة.

٣. بحار الأنوار: ٨ / ١٢٨، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد، الحديث ٢٨.

٤. هو أبو عبد الله القرشي، مولاهم المدني، البربري الأصل، كان لحصين بن أبي الحر العنبري فوهبه
لابن عباس، وذكر أنّه كان يرى رأي الخوارج وكان يكذب على ابن عباس، قال ابن حنبل:
مضطرب الحديث يختلف عنه وما أدري وروي عن الشافعي، قال: لا أرى لأحد أن يقبل حديثه،
توفي سنة أربع ومائة.

٣٠١

يقول:( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) فالآية شاهدة على أنّها خارجة عنهما غير أنّ سعتها كسعتهما، ولا محيص عن القول بأنّ مكان الجنة والنار من الأُمور الغيبية التي نفوّض علم مكانهما إلى الله سبحانه.

نعم ذكر العلّامة المجلسي في مكان الجنة والنار، قوله: وأمّا مكانهما فقد عرفت أنّ الأخبار تدل على أنّ الجنة فوق السماوات السبع، والنار في الأرض السابعة وعليه أكثر المسلمين.(٢)

الجنّة والنار خارجتان عن هذا العالم

إنّما يحسن السؤال عن مكان الجنة والنار إذا كانتا جزءاً من هذا العالم، فيسأل عن كونهما فوقاً أو تحتاً، وأمّا إذا كانتا عالمين مستقلين منفكين عن السماوات والأرض فلا مجال للسؤال عن مكانهما.

وبعبارة أُخرىٰ: إنّما يتصوّر المكان، لشيء يكون جزءاً من هذا العالم، وأمّا مجموع العالم بما هو مجموع فليس له مكان خاص، لأنّه بتحقّقه يصنع لنفسه المكان لا أنّه كان هناك مكان خال فوجد العالم فيه وملأ فراغه، ولذلك لما أعلن العالم الفيزيائي أنشتاين بأنّ العالم لم يزل في سعة سئل عن مكانه، فأجاب بأنّه بسعته يوجد مكانه ولا يحتاج إلى مكان فارغ قبل السعة حتى يتحقّق فيه.(٣)

وهكذا نقول في الجنة والنار المخلوقتين، فلو كانتا عالماً مستقلاً خارجاً عن هذا العالم فهما بوجودهما يوجدان مكانهما، والسؤال عن مكانهما غير صحيح بالمرّة.

__________________

١. آل عمران: ١٣٣.

٢. بحار الأنوار: ٨ / ٢٠٥، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد.

٣. وإليه تشير الآية الكريمة:( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ( الذاريات: ٤٧ ).

٣٠٢





الفصل الرابع والعشرون

الخالدون في النار

الجذور التاريخية لهذه المسألة

إنّ من أوائل المسائل الكلاميّة التي طرحت علىٰ صعيد البحث بين المسلمين ـ بعد مسألة القضاء والقدر ـ هي مسألة حكم مرتكب الكبيرة.

فذهب المتطرفون من المسلمين الذين عابوا على عثمان وعمّاله ما اقترفوه من الاحداث إلى أنّ مرتكب الكبيرة كافر كفر ملّة.

وذهب آخرون منهم إلىٰ أنّه كفر نعمة.

ولما وصلت النوبة إلى المعتزلة قالت بمنزلة بين منزلتين، لا هو كافر ولا مؤمن.

وذهبت الإمامية والأشاعرة إلى أنّه مؤمن فاسق عن طاعة الله تبارك وتعالى، وعلى ضوء ذلك ذهب المتطرّفون والمعتزلة إلىٰ خلوده في النار، خلافاً للآخرين، حيث خصّوا الخلود بالكفار دون المسلمين وإن كانوا مرتكبين للكبائر.

قال الشيخ المفيد: اتّفقت الإمامية علىٰ أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة، ووافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب

٣٠٣

وأصحاب الحديث قاطبة، وأجمعت المعتزلة علىٰ خلاف ذلك وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلاة.

واتّفقت الإمامية علىٰ أنّ من عُذِّب بذنبه من أهل الإقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب وأخرج من النار إلى الجنة فينعم فيها على الدوام، ووافقهم على ذلك من عددناه، وأجمعت المعتزلة علىٰ خلاف ذلك وزعموا أنّه لا يخرج من النار أحد دخلها للعذاب.(١)

وقال التفتازاني: أجمع المسلمون على خلود أهل الجنة في الجنة، وخلود الكفار في النار، واختلف أهل الإسلام فيمن ارتكب الكبيرة من المؤمنين ومات قبل التوبة فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو ولا بالعقاب، بل كلاهما في مشية الله لكن على تقدير التعذيب نقطع بأنّه لا يخلد في النار بل يخرج البتة لا بطريق الوجوب على الله تعالى، بل بمقتضى ما سبق من الوعد وثبت بالدليل كتخليد أهل الجنة.

وعند المعتزلة القطع بالعذاب الدائم من غير عفو ولا إخراج من النار، ويعبّر عن هذا بمسألة وعيد الفساق، وعقوبة العصاة، وانقطاع عذاب أهل الكبائر، ونحو ذلك.

وذهب مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة إلىٰ أنّ عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلاً وإنّما النار للكفّار.(٢)

قال السيد الشريف في شرح المواقف: غير الكفار من العصاة ومرتكبي الكبائر لا يخلد في النار، لقوله تعالى:( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) ولا شكّ أنّ مرتكب الكبيرة قد عمل خيراً هو إيمانه، فإمّا أن تكون رؤيته للخير قبل دخول

__________________

١. أوائل المقالات: ١٤.

٢. شرح المقاصد: ٢ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩، ط آستانة.

٣٠٤

النار وهو باطل بالإجماع، أو بعد خروجه عنها فهو المطلوب.(١)

إلى هنا وقفت على جذور المسألة وأقوال المتكلّمين فيها، فحان البحث لدراسة أدلة القائلين بعدم الخلود.

فقد استدلوا على عدم الخلود بأدلة نقلية وعقلية.

الدلائل النقلية

احتجوا بآيات علىٰ عدم الخلود ونحن نذكرها تباعاً.

أ.( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (٢) وقد وقفت علىٰ كيفية الاستدلال في كلام السيد الشريف.

ونزيد بياناً على أنّ رؤية هؤلاء ثواب إيمانهم إمّا تتقدم على الورود في الجحيم أو يكون معه، أو تتأخر عنه.

فالأوّل خلاف الإجماع، فانّ معنىٰ رؤية ثواب إيمانه هو دخوله الجنة ولازم ذلك الخروج منها، وهو على خلاف المجمع عليه.

والثاني أمر محال كما هو واضح، فتعيّن الثالث.

لكن الاستدلال بالآية مبني على أن لا يكون مرتكب الكبيرة ممن تحبط أعماله الصالحة، و إلّا فعلى القول بالإحباط نستكشف أنّه لم يكن هناك أيّ ثواب له، لأنّ الثواب كان مشروطاً بالموافاة ـ أي أن لا يرتكب الكبيرة طيلة عمره ـ و ارتكابه كاشف عن فقدان الشرط، وفقدانه كاشف عن فقدان المشروط.

وبعبارة أُخرى: إنّ دلالة الآية متوقفة علىٰ عدم الدليل على خلود مرتكب

__________________

١. شرح المواقف: ٨ / ٢٠٩.

٢. الزلزلة: ٧.

٣٠٥

الكبيرة في النار، و إلّا فخلوده يكشف عن حبط عمله، لا بمعنى إبطال الثواب بعد تحقّقه، بل بمعنى كشف عدم الثواب له من أوّل الأمر، لاشتراطه بعدم ارتكاب الكبيرة.

ب.( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) .(١)

وقد قرر غير واحد من علمائنا دلالة الآية على عدم القطع بخلود مرتكبي الكبيرة في النار.

قال المرتضىٰ: هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة، لأنّه سبحانه دلّنا علىٰ أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأنّ قوله:( عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) إشارة إلى الحال التي يكونون عليها ظالمين ويجري ذلك مجرى قول القائل: أنا أودّ فلاناً على غدره وأصله على هجره.(٢)

وبعبارة أُخرى: إنّ الآية تخبر عن حكمين :

١. انّ هؤلاء تشملهم مغفرته سبحانه.

٢. كما يمكن أن يشملهم عقابه سبحانه.

ويشير إلى الأوّل بقوله:( لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) ، وإلى الثاني بقوله:( وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) .

وأمّا تعيّن أحدهما فلا يعلمه إلّا الله سبحانه، فلو كان مرتكب الكبيرة خالداً في النار لما صحّ إلّا الخبر الثاني وهو قوله:( إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) .

نعم إنّ هذه الآية ونظائرها لا ترخص لمرتكبي الكبائر أن يقترفوا المعاصي

__________________

١. الرعد: ٦.

٢. مجمع البيان: ٣ / ٢٧٨، تفسير سورة الرعد.

٣٠٦

اتكالاً علىٰ هذه الآية ونظائرها، وإنّما هو بصيص أمل ورجاء لهؤلاء وليس حكماً قطعياً في حقّهم.

والاستدلال بالآية يستند على جعل قوله سبحانه:( عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) حالاً، أي أنّه سبحانه لذو مغفرة للناس في الحالة التي هم عليها من الظلم والعصيان.

ج.( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) .(١)

إنّ قوله سبحانه:( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) ناظر إلى الذنوب التي مات صاحبها بلا توبة، ففي هذا النوع من الذنوب يفرق سبحانه بين الشرك وغيره وأنّه لا يغفر الشرك، ويغفر ما دون ذلك، وأمّا الذنوب التي مات مقترفها مع التوبة، فلا فرق فيها بين الشرك وغيره، فانّ التائب من ذنبه مطلقاً كمن لا ذنب له.

وعلىٰ ضوء ذلك، فلا يمكن القطع بخلود مرتكب الكبيرة في النار لاحتمال شمول غفرانه سبحانه له، ودخوله تحت مشيئته.

نعم الآية ليست دليلاً قاطعاً على فلاح مرتكب الكبيرة وإنّما هي بصيص أمل لمقترفي الكبائر. ومعه لا يصحّ قول المعتزلة ولا الخوارج بخلودهم في النار وعدم خروجهم عنها على وجه القطع.

هذه هي الآيات التي تصلح للاستدلال على عدم خلودهم في النار.

وثمة روايات تؤيد تلك النظرية، وها نحن نذكر بعضها :

١. روى الصدوق في توحيده بسنده عن ابن أبي عمير، قال: سمعت موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول: « لا يخلّد الله في النار إلّا أهل الكفر والجحود، وأهل

__________________

١. النساء: ٤٨ و ١١٦.

٣٠٧

الضلال والشرك ».(١)

٢. روى الحسين بن سعيد الأهوازي، عن عمر بن أبان، قال: سمعت عبداً صالحاً يقول في الجهنميين: « إنّهم يدخلون النار بذنوبهم ويخرجون بعفو الله ».(٢)

٣. وكتب الإمام الرضاعليه‌السلام للمأمون في رسالته: « إنّ الله لا يدخل النار مؤمناً وقد وعده الجنة، ولا يخرج من النار كافراً وقد أوعده النار والخلود فيها، ومذنبو أهل التوحيد يدخلون النار ويخرجون منها، والشفاعة جائزة لهم ».(٣)

٤. وقد روى الفريقان أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « إدّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ».(٤)

وقد حقّق في محله أنّ معنى الشفاعة هو حطُّ الذنوب ولا تختص بترفيع الدرجة، والآيات النازلة حول الشفاعة ناظرة إلى ما هو الدارج بين أهل الكتاب من اليهود والنصارىٰ والشفاعة عندهم كانت بمعنى غفران الذنوب والخروج من النار، والذكر الحكيم يُدعم الشفاعة بهذا المعنى، ولكن بشروط وحدود يخرجها عن جعلها ذريعة إلىٰ ترك العمل من خلال وضع شروط في المشفوع له وفي الذنب الذي يكون محطاً للشفاعة، وبذلك ظهر أنّ الروايات أيضاً تؤيد مفاد الآيات.

الدلائل العقلية

استدل على عدم الخلود بوجهين عقليين :

__________________

١ و٢ و٣. بحار الأنوار: ٨ / ٣٥١ و٣٦١ و٣٦٢، باب من يخلد في النار ومن يخرج منها من كتاب العدل
والمعاد، الحديث ١، ٣٢، ٣٦.

٤. بحار الأنوار: ٨ / ٣٤، باب الشفاعة من كتاب العدل والمعاد، الحديث ١ ; مسند أحمد: ١ / ٢٨١ ;
موطأ مالك: ١ / ١٦٦.

٣٠٨

الأوّل: انّه يستحق الثواب بإيمانه، لقوله تعالى:( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) والإيمان أعظم أفعال الخير، فإذا استحق العقاب بالمعصية، فإمّا أن يقدم الثواب على العقاب وهو باطل بالإجماع، لأنّ الثواب المستحق بالإيمان دائم على ما تقدم، أو بالعكس وهو المراد، والجمع محال.

الثاني: يلزم أن يكون من عبد الله تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه ثمّ عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه، مخلداً في النار كمن أشرك بالله تعالىٰ مدة عمره، وذلك محال لقبحه عند العقلاء.(١)

وذكر التفتازاني وجوهاً أُخرى نذكر منها ما يلي :

الثالث: انّ من واظب على الإيمان والعمل الصالح مائة سنة وصدر عنه في أثناء ذلك أو بعده جريمة واحدة كشرب جرعة من الخمر فلا يحسن من الحكيم أن يعذبه على ذلك أبد الآباد ولولم يكن هذا ظلماً فلا ظلم، أو لم يستحق بهذا ذماً فلا ذم.(٢)

وحاصل هذه الأدلة: انّ النظر إلى المؤمن المقترف للكبيرة والكافر المشرك علىٰ حد سواء يخالف العدالة، بل يجب أن يكون هناك فرق بينهما، إمّا في مدّة العذاب، أو في كيفيته، فجعلهما على حد سواء يرده العقل السليم، يقول سبحانه:( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(٣)

نعم غاية ما تُثبت بعض الأدلة العقلية وجود الفروق بين المؤمن والكافر، أمّا في الكمية كما هو المطلوب، أو في الكيفية وهذا المقدار يكفي في رفع الظلم.

نعم مقتضى الدليل العقلي الأوّل هو وجود الفرق من حيث الكمية ،

__________________

١. كشف المراد: ٢٧٦.

٢. شرح المقاصد: ٢ / ٢٢٩.

٣. القلم: ٣٥ ـ ٣٦.

٣٠٩

فلاحظ.

إلى هنا تمّت دراسة أدلّة القائلين بعدم الخلود، وإليك ما استدل به القائلون بالخلود من الآيات.

أدلة القائلين بالخلود

استدلت المعتزلة وغيرهم من القائلين بخلود مرتكبي الكبيرة في النار، بآيات وردت في حقّ طوائف مختلفة كلّهم محكومون بالخلود ويجمعهم اشتراكهم في اقتراف المعاصي الكبيرة، وتلك الطوائف يربو عددها علىٰ ١٦ طائفة نسرد أسماءها والآيات الواردة في حقّها على وجه موجز ثمّ يتبعه التفصيل، وهؤلاء هم :

١. الكفار.

٢. المشركون ( النحل/ ٢٩، الأحزاب/ ٦٤ ـ ٦٥، الزمر/ ٧١ ـ ٧٢، غافر/ ٧٦، التغابن / ١٠، البينة / ٦ وآيات أُخرى ).

٣. المنافقون ( التوبة / ٦٨، المجادلة / ١٧ ).

٤. المرتدون ( آل عمران / ٨٦ ـ ٨٨ ).

٥. المكذبون بآيات الله ( الأعراف / ٣٦ ).

٦. أعداء الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( التوبة / ٦٣ ).

٧. العصاة والمتمردون على أمر الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( الجن / ٢٢ ـ ٢٣ ).

٨. الظالمون ( يونس / ٥٢، الأنعام / ١٢٨ ـ ١٢٩ ).

٩. الأشقياء ( هود / ١٠٦ ـ ١٠٧ ).

١٠. المجرمون ( الزخرف / ٧٤ ـ ٧٥، السجدة / ١٢ ـ ١٤ ).

١١. المتوغلون في الخطايا ( البقرة / ٨١ ).

٣١٠

١٢. المرتكبون للقبائح ( الفرقان / ٦٨ ـ ٦٩ ).

١٣. المعرضون عن القرآن ( طه / ١٠٠ ـ ١٠١ ).

١٤. المطففون في الميزان ( المؤمنون / ١٠٣ ـ ١٠٤ ).

١٥. الآكلون للربا ( البقرة / ٢٧٥ ).

١٦. قاتلو المؤمنين ( النساء / ٩٣، الفرقان / ٦٨ ).

هذه هي العناوين التي حكم الذكر الحكيم بخلود أصحابها في النار، ولكن عند إمعان الدقة والنظر في الآيات والقرائن المحفوفة بها، نقف على أنّ المخلّدين في النار هم الذين ينطبق عليهم أحد العناوين الأربعة الأُولىٰ، أعني: الكافرين والمشركين والمنافقين والمرتدين، وأمّا أصحاب سائر العناوين فلا يخرجون عن هذا الإطار.

وقبل دراسة الآيات الواردة حول هذه الطوائف الست عشرة نلفت نظر القارئ الكريم إلىٰ أمرين مهمين :

الأمر الأوّل: انّ الأُسلوب الصحيح في تفسير الآيات لا سيما فيما يرجع إلى هذه الطوائف هو تفسير الآيات على وفق ما يتبادر منها في عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّ لغة العرب قد تطورت طيلة ١٤ قرناً فربما يكون المتبادر منه في زماننا هذا غير ما يتبادر في عصر الرسول، وإن كان بينهما قدر مشترك، فلا محيص للمفسر عن تفسير الآيات حسب استعمال مفرداتها وجملها في عصر الرسول، وهذا أمر له بالغ الأهمية في تفسير القرآن وإن كان تحصيل اليقين بذلك أمراً عسيراً، فانّ الوقوف علىٰ جذور المعاني والمصطلحات القرآنية التي كانت هي الرائجة في عصر الرسول بحاجة إلىٰ عناية ودقة كافية، ولعلّ كتاب المقاييس لابن فارس يعين المفسر في هذا الطريق، لأنّه بصدد بيان أُصول المعاني وجذورها، لا المعاني المتطورة.

الأمر الثاني: دراسة القرائن الحافة بالآيات فانّ بعضها وإن كانت في بادئ

٣١١

الأمر تعم مرتكب الكبيرة وإن كان مؤمناً ولكن بعد الدقة فيها يعلم أنّ المراد هو غير المؤمن فتنحصر في الكافر.

وفي ظل رعاية هذين الأمرين، نطرح الآيات الواردة حول هذه الطوائف المحكومة بالخلود.

وبما أنّ هذه العناوين الأربعة المتقدمة غنيّةٌ عن البحث والدراسة حيث اتفق الجميع على خلودهم في النار، فلنقتصر على دراسة بقية الطوائف.

٥. المكذبون بآيات الله

ورد في أوّل الخليقة خطابات إلهية تخاطب فيها أبناء آدم، منها قوله:( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ *وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .(١)

فالآية أوعدت المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها بالخلود في النار، وهؤلاء هم الكافرون، فليست هذه الطائفة إلّا قسماً من الكافرين، فخلودهم في النار لا يعني إلّا خلود الكافر في النار.

٦. أعداءُ الله ورسوله

إنّ الذكر الحكيم يصف من يحادد الله ورسوله أنّه من أصحاب النار الخالدين، يقول:( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَٰلِكَ الخِزْيُ الْعَظِيمُ ) (٢) وليس المراد في الآية مطلق العداء بل من بلغ غاية

__________________

١. الأعراف: ٣٥ ـ ٣٦.

٢. التوبة: ٦٣.

٣١٢

العداء، بشهادة أنّه سبحانه يقول:( مَن يُحَادِدِ ) وهو من الحد، والمراد مَنْ وصل إلى النهاية، قال الطبرسي: المحادة مجاوزة الحد بالمشاقة(١) . ومن الواضح أنّ هذه الطائفة هم المكذبون لأنبياء الله ورسله وهو يلازم الكفر، فليس خلودهم في النار إلّا رمزاً لخلود الكافر.

على أنّ سياق الآيات يدل على أنّها نزلت في حقّ المنافقين وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان.

٧. العصاة والمتمردون على أمر الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله

أوعد الله سبحانه العصاة بالخلود في نار جهنم قال سبحانه:( إلّا بَلاغًا مِّنَ اللهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا *حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ) .(٢)

إنّ قوله:( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) يشمل مطلق العاصي وإن كان مؤمناً مقترفاً للكبيرة، ولكن القرائن الحافة بهذه الآية تثبت بأنّ المراد هم منكرو الرسالة الذين كانوا يحقّرون المؤمنين، وهذه القرائن عبارة عن سياق الآيات المتقدمة عليها أو المتأخرة عنها.

إنّ الموضوع في الآيات ١٨ إلى ٢٨ هم المشركون والكافرون، الذي جاء في ثنايا تلك الآيات بشهادة أنّه يقول:( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا ) .

ويقول أيضاً:( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) .(٣)

فهاتان الآيتان راجعتان إلى المشركين الذين كانوا يدعون مع الله الأصنام

__________________

١. مجمع البيان: ٣ / ٤٣.

٢. الجن: ٢٣ ـ ٢٤.

٣. الجن: ٢٠.

٣١٣

والأوثان ويعبدونهم مع الله سبحانه فتكون هاتان الآيتان دليلاً على أنّ المراد من العصاة هم المشركون.

ويؤيده قوله في الآية ٢٤:( حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ) فكأنّهم كانوا يحقّرون الأنبياء لقلة الناصر، فإذا رأوا ما يوعدون من نار جهنم فسيقفون على خطئهم وانّهم كانوا أقلّ ناصراً وأقل عدداً.

والحاصل انّ القرائن الحافة بالآيات تُحقِّق بأنّ المراد من العصيان هو الكفر، ومن العصاة هم الكافرون.

٨. الظالمون

هدّد سبحانه الظالمين بعذاب الخلد، قال سبحانه:( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) .(١)

وظاهر الآية وإن كان يشمل كلّ ظالم وإن كان مؤمناً مسلماً لكن كان مقترفاً للظلم، ولكن سياق الآيات يدل على أنّ المراد ليس مطلق من ظلم، بل الظالمون المنكرون ليوم الوعد، وإليك الآيات الواردة قبلها :

يقول سبحانه في نفس السورة:( وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .(٢)

وقال سبحانه:( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) .(٣)

ففي حقّ هؤلاء الذين كانوا يستبعدون النشأة الأُخرى وكانوا يستعجلون بها يقول سبحانه:( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ ) .

__________________

١. يونس: ٥٢.

٢. يونس: ٤٨.

٣. يونس: ٥١.

٣١٤

ومن هنا يعلم أنّ حال الآيات الأُخرى التي تحكم على الظالمين بالخلود، ويقول:( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إلّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .(١)

وهاتان الآيتان وإن كانتا ظاهرتين في مطلق الظالمين لكن سياق الآيات يدل على أنّ المراد هم المكذبون لأنبياء الله ورسله من الأُمم السالفة ولو عمَّت بعض الأُمّة الإسلامية فإنّما عمتهم بهذا الملاك.

وإليك ما يخصّص الظالمين بالمكذبين.

يقول سبحانه قبل هاتين الآيتين:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) .(٢)

ويقول بعد هذه الآية:( يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) .(٣)

فبملاحظة الآيات التي وقعت قبل الآيتين أو التي أعقبتهما يتضح بأنّ المراد هم الكافرون المنكرون للتوحيد والرسالة لا سيما رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٩. الأشقياء

إنّ مصير الأشقياء حسب الذكر الحكيم هو الدخول في النار التي لهم فيها

__________________

١. الأنعام: ١٢٨ ـ ١٢٩.

٢. الأنعام: ١٢٤.

٣. الأنعام: ١٣٠.

٣١٥

زفير وشهيق، يقول سبحانه:( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) .(١)

ففي هاتين الآيتين حكم عليهم بالخلود في النار، وللمفسّرين حول هذه الآية كلمات لا سيما في الاستثناء الوارد في قوله:( إلّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) فمن أراد فليرجع إلى التفاسير، ولكن الأمر المهم هو أنّ من عصى الله سبحانه ولو في معصية صغيرة فقد شقي، فللشقاء درجات كما أنّ الأشقياء أصناف، ولكن المراد في الآية ليس كلّ من شقي ولو بغير الكفر، وإنّما المراد من شقي لأجل كفره وعدم إيمانه، ويؤيده سياق الآيات، فقد جاء بعد هاتين الآيتين، قوله سبحانه:( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إلّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ) .(٢) فهذه الآية قرينة علىٰ أنّ المراد من الذين شقوا هم المشركون الذين يعبدون الأصنام دون الله سبحانه.

ويؤيد ذلك التفسير: أنّه سبحانه فسّر الأشقىٰ في بعض الآيات بمن كذب وتولىٰ، وقال:( فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ *لا يَصْلَاهَا إلّا الأَشْقَى *الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ) .(٣)

١٠. المجرمون

إنّ المجرمين حسب الذكر الحكيم مخلّدون في النار، قال سبحانه:( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) .(٤)

__________________

١. هود: ١٠٦ ـ ١٠٧.

٢. هود: ١٠٩.

٣. الليل: ١٤ ـ ١٦.

٤. الزخرف: ٧٤ ـ ٧٥.

٣١٦

غير أنّ اللازم هو دراسة سياق الآيات ليتضح من خلالها المراد من المجرمين، لأنّ سياقها يشهد على أنّ المراد ليس كلّ من ارتكب معصية، بل المراد غير هذه الفئة، وإليك الآيات :

إنّ الآيات المتقدمة تصنّف الناس إلى صنفين :

أ. مؤمن بآيات الله فيُجزىٰ بالجنة.

ب. مجرم يجزىٰ بالخلود في الجحيم.

فالتقابل السائد بين الآية الثانية والآية الأُولىٰ يمكن أن يفسر علىٰ ضوئها لفظ « المجرم » وأنّ المراد منه غير المؤمن بآيات الله سبحانه والذي يساوق المشرك، يقول سبحانه في حقّ الطائفة الأُولى :

( يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ *ادْخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) .(١)

ويصف الطائفة الثانية، بقوله:( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ *وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) .(٢)

وبملاحظة الآيات وتقابل الموضوعين يتضح المراد من « المجرم » فالموضوع في الطائفة الأُولى:( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) .

كما أنّ الموضوع في الطائفة الثانية:( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ ) .

فبالتقابل يتبين أنّ جرم هؤلاء هو كفرهم وعدم إيمانهم بآيات الله سبحانه، ومن الواضح بمكان أنّ الكفار والمشركين خالدون في النار، ويؤكد ذلك أنّ

__________________

١. الزخرف: ٦٨ ـ ٧٠.

٢. الزخرف: ٧٤ ـ ٧٦.

٣١٧

السورة من السور المكية التي تدور بحوثها حول المشرك والكافر ولا تجنح إلى المؤمنين المسلمين الذين ربما يقترفون المعاصي تلبية لأهوائهم لا كفراً بربوبية الله سبحانه.

وليست تلك الآيات فريدة في إيضاح المقصود من المجرمين، بل هناك آيات أُخرى تفسر المجرمين بغير المؤمنين بيوم اللقاء، قال سبحانه :

( وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) .(١)

تجد أنّه سبحانه يصف المجرمين بأنّهم يوم القيامة يرغبون في الرجوع إلى الدنيا، ويقولون:( ارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) وهذا يعرب عن أنّهم لم يكونوا مؤمنين بيوم الجزاء واللقاء وإنّما أيقنوا لما شاهدوا النار.

ويؤيّدُ ذلك انّه سبحانه يصف المؤمنين ـ في نفس تلك السورة ـ في مقابل المجرمين، بقوله :

( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) .(٢) فالمجرمون هم الذين لا يؤمنون بآيات الله، ومن الواضح أنّ من لا يؤمن لا يخرج عن إطار الشرك.

١١. المتوغلون في الخطايا

يحكم القرآن المجيد علىٰ من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته، أنّه من أصحاب النار، يقول سبحانه:( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ

__________________

١. السجدة: ١٢ ـ ١٤.

٢. السجدة: ١٥.

٣١٨

أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .(١)

فالمخلدون في النار في هذه الآية ذو سمتين :

السمة الأُولى: اقتراف السيئات.

السمة الثانية: الإصرار على ارتكابها علىٰ نحو تحيط بقلوبهم وأرواحهم ونفوسهم.

ومن الجدير بالذكر أنّ إحاطة الخطايا بالروح والنفس تُسفر عن انسداد طرق الهداية أمام القلوب والأرواح والأنفس، فلا يستجيب لنداء الأنبياء والرسل ومثل هذا يساوق الشرك والكفر.

والدليل على أنّ المراد ليس مطلق من اقترف الخطيئة، انّه سبحانه يعطف على قوله:( كَسَبَ سَيِّئَةً ) قوله:( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) وبيّن بذلك أنّ هذا الإنسان صار لكثرة الذنوب والخطايا غاصّاً فيها لا يتأثر بهداية الهادين، ونصح الناصحين.

وبعبارة أُخرى: انّ الإنسان الغارق في الآثام والمعاصي ينزلق ـ رويداً رويداً ـ إلى هاوية الكفر والجحود بآيات الله ورسله، يقول سبحانه:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ ) .(٢)

فالآية إنذار لمن يقترف المعاصي ويظن انّه لا يضر الإيمان، فانّ اقتراف المعاصي شيئاً فشيئاً بلا توبة وندم بينها ربما يؤول مصيره إلى الكفر وتكذيب آيات الله.

وممّا يؤكد ورود الآية( بَلَىٰ مَن كَسَبَ ) في حقّ الكافرين، الآية المتقدمة

__________________

١. البقرة: ٨١.

٢. الروم: ١٠.

٣١٩

عليها، يقول سبحانه :

( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) .(١)

فالآية تفسر أنّ المراد( مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) ، هم أحبار بني إسرائيل الذين يكتبون الكتاب بأيديهم لبيعه بثمن بخس،( فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) .

كما أنّ الآية المتأخرة واردة في حقّ المؤمنين، يقول سبحانه:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .(٢)

فبالمقابلة بين قوله:( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) في هذه الآية وقوله:( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ) في الآية المتقدمة يتضح انّ المراد هو الكافر والمؤمن، فالأوّل مخلّد في النار، والمؤمن مخلّد في الجنة.

١٢. المرتكبون للقبائح

يوعد الذكر الحكيم الذين أشركوا وقتلوا النفس المحرّمة وزنوا بالخلود في العذاب، يقول سبحانه:( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلّا بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) .(٣)

والكلام في تعيين المشار إليه في قوله:( وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ) ، ففيه احتمالات ثلاثة :

__________________

١. البقرة: ٧٩.

٢. البقرة: ٨٢.

٣. الفرقان: ٦٨ ـ ٦٩.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403