مفاهيم القرآن الجزء ٨

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 167109 / تحميل: 5794
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٨

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-١٤٨-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

مكان الجنة والنار

إذا ثبت أنّ الجنة والنار مخلوقتان، يقع البحث في مكانهما، وقد يستفاد من الذكر الحكيم أنّ مكانهما قريب من سدرة المنتهىٰ، يقول سبحانه:( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ *عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ *عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَىٰ ) .(١)

يقول التفتازاني: لم يرد نص صريح في تعيين مكان الجنة والنار، والأكثرون على أنّ الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش، تشبثاً بقوله تعالى:( عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ *عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَىٰ ) وقوله: « سقف الجنة عرش الرحمن والنار تحت الأرضين السبع ».

والحقّ تفويض ذلك إلى علم العليم.(٢)

إنّ ما نقله التفتازاني هو رواية عكرمة، عن ابن عباس، أنّه قال: قدم يهوديان فسألا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقالا: أين تكون الجنة ؟ وأين تكون النّار ؟ قال: أمّا الجنّة ففي السماء، وأمّا النار ففي الأرض، قالا: فما السبعة ؟ قال: سبعة أبواب النّار متطابقات، قال: فما الثمانية ؟ قال: ثمانية أبواب الجنة.(٣)

ولكن عكرمة أباضي لا يعتمد عليه.(٤)

والمستفاد من ظواهر الآيات أنّ الجنّة والنار خارجتان عن نطاق السماوات والأرض، والشاهد عليه أنّه سبحانه يصف سعة الجنة بسعة السماوات والأرض ،

__________________

١. النجم: ١٣ ـ ١٥.

٢. شرح المقاصد: ٢ / ٢٢٠، ط آستانة.

٣. بحار الأنوار: ٨ / ١٢٨، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد، الحديث ٢٨.

٤. هو أبو عبد الله القرشي، مولاهم المدني، البربري الأصل، كان لحصين بن أبي الحر العنبري فوهبه
لابن عباس، وذكر أنّه كان يرى رأي الخوارج وكان يكذب على ابن عباس، قال ابن حنبل:
مضطرب الحديث يختلف عنه وما أدري وروي عن الشافعي، قال: لا أرى لأحد أن يقبل حديثه،
توفي سنة أربع ومائة.

٣٠١

يقول:( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) فالآية شاهدة على أنّها خارجة عنهما غير أنّ سعتها كسعتهما، ولا محيص عن القول بأنّ مكان الجنة والنار من الأُمور الغيبية التي نفوّض علم مكانهما إلى الله سبحانه.

نعم ذكر العلّامة المجلسي في مكان الجنة والنار، قوله: وأمّا مكانهما فقد عرفت أنّ الأخبار تدل على أنّ الجنة فوق السماوات السبع، والنار في الأرض السابعة وعليه أكثر المسلمين.(٢)

الجنّة والنار خارجتان عن هذا العالم

إنّما يحسن السؤال عن مكان الجنة والنار إذا كانتا جزءاً من هذا العالم، فيسأل عن كونهما فوقاً أو تحتاً، وأمّا إذا كانتا عالمين مستقلين منفكين عن السماوات والأرض فلا مجال للسؤال عن مكانهما.

وبعبارة أُخرىٰ: إنّما يتصوّر المكان، لشيء يكون جزءاً من هذا العالم، وأمّا مجموع العالم بما هو مجموع فليس له مكان خاص، لأنّه بتحقّقه يصنع لنفسه المكان لا أنّه كان هناك مكان خال فوجد العالم فيه وملأ فراغه، ولذلك لما أعلن العالم الفيزيائي أنشتاين بأنّ العالم لم يزل في سعة سئل عن مكانه، فأجاب بأنّه بسعته يوجد مكانه ولا يحتاج إلى مكان فارغ قبل السعة حتى يتحقّق فيه.(٣)

وهكذا نقول في الجنة والنار المخلوقتين، فلو كانتا عالماً مستقلاً خارجاً عن هذا العالم فهما بوجودهما يوجدان مكانهما، والسؤال عن مكانهما غير صحيح بالمرّة.

__________________

١. آل عمران: ١٣٣.

٢. بحار الأنوار: ٨ / ٢٠٥، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد.

٣. وإليه تشير الآية الكريمة:( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ( الذاريات: ٤٧ ).

٣٠٢





الفصل الرابع والعشرون

الخالدون في النار

الجذور التاريخية لهذه المسألة

إنّ من أوائل المسائل الكلاميّة التي طرحت علىٰ صعيد البحث بين المسلمين ـ بعد مسألة القضاء والقدر ـ هي مسألة حكم مرتكب الكبيرة.

فذهب المتطرفون من المسلمين الذين عابوا على عثمان وعمّاله ما اقترفوه من الاحداث إلى أنّ مرتكب الكبيرة كافر كفر ملّة.

وذهب آخرون منهم إلىٰ أنّه كفر نعمة.

ولما وصلت النوبة إلى المعتزلة قالت بمنزلة بين منزلتين، لا هو كافر ولا مؤمن.

وذهبت الإمامية والأشاعرة إلى أنّه مؤمن فاسق عن طاعة الله تبارك وتعالى، وعلى ضوء ذلك ذهب المتطرّفون والمعتزلة إلىٰ خلوده في النار، خلافاً للآخرين، حيث خصّوا الخلود بالكفار دون المسلمين وإن كانوا مرتكبين للكبائر.

قال الشيخ المفيد: اتّفقت الإمامية علىٰ أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة، ووافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب

٣٠٣

وأصحاب الحديث قاطبة، وأجمعت المعتزلة علىٰ خلاف ذلك وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلاة.

واتّفقت الإمامية علىٰ أنّ من عُذِّب بذنبه من أهل الإقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب وأخرج من النار إلى الجنة فينعم فيها على الدوام، ووافقهم على ذلك من عددناه، وأجمعت المعتزلة علىٰ خلاف ذلك وزعموا أنّه لا يخرج من النار أحد دخلها للعذاب.(١)

وقال التفتازاني: أجمع المسلمون على خلود أهل الجنة في الجنة، وخلود الكفار في النار، واختلف أهل الإسلام فيمن ارتكب الكبيرة من المؤمنين ومات قبل التوبة فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو ولا بالعقاب، بل كلاهما في مشية الله لكن على تقدير التعذيب نقطع بأنّه لا يخلد في النار بل يخرج البتة لا بطريق الوجوب على الله تعالى، بل بمقتضى ما سبق من الوعد وثبت بالدليل كتخليد أهل الجنة.

وعند المعتزلة القطع بالعذاب الدائم من غير عفو ولا إخراج من النار، ويعبّر عن هذا بمسألة وعيد الفساق، وعقوبة العصاة، وانقطاع عذاب أهل الكبائر، ونحو ذلك.

وذهب مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة إلىٰ أنّ عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلاً وإنّما النار للكفّار.(٢)

قال السيد الشريف في شرح المواقف: غير الكفار من العصاة ومرتكبي الكبائر لا يخلد في النار، لقوله تعالى:( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) ولا شكّ أنّ مرتكب الكبيرة قد عمل خيراً هو إيمانه، فإمّا أن تكون رؤيته للخير قبل دخول

__________________

١. أوائل المقالات: ١٤.

٢. شرح المقاصد: ٢ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩، ط آستانة.

٣٠٤

النار وهو باطل بالإجماع، أو بعد خروجه عنها فهو المطلوب.(١)

إلى هنا وقفت على جذور المسألة وأقوال المتكلّمين فيها، فحان البحث لدراسة أدلة القائلين بعدم الخلود.

فقد استدلوا على عدم الخلود بأدلة نقلية وعقلية.

الدلائل النقلية

احتجوا بآيات علىٰ عدم الخلود ونحن نذكرها تباعاً.

أ.( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (٢) وقد وقفت علىٰ كيفية الاستدلال في كلام السيد الشريف.

ونزيد بياناً على أنّ رؤية هؤلاء ثواب إيمانهم إمّا تتقدم على الورود في الجحيم أو يكون معه، أو تتأخر عنه.

فالأوّل خلاف الإجماع، فانّ معنىٰ رؤية ثواب إيمانه هو دخوله الجنة ولازم ذلك الخروج منها، وهو على خلاف المجمع عليه.

والثاني أمر محال كما هو واضح، فتعيّن الثالث.

لكن الاستدلال بالآية مبني على أن لا يكون مرتكب الكبيرة ممن تحبط أعماله الصالحة، و إلّا فعلى القول بالإحباط نستكشف أنّه لم يكن هناك أيّ ثواب له، لأنّ الثواب كان مشروطاً بالموافاة ـ أي أن لا يرتكب الكبيرة طيلة عمره ـ و ارتكابه كاشف عن فقدان الشرط، وفقدانه كاشف عن فقدان المشروط.

وبعبارة أُخرى: إنّ دلالة الآية متوقفة علىٰ عدم الدليل على خلود مرتكب

__________________

١. شرح المواقف: ٨ / ٢٠٩.

٢. الزلزلة: ٧.

٣٠٥

الكبيرة في النار، و إلّا فخلوده يكشف عن حبط عمله، لا بمعنى إبطال الثواب بعد تحقّقه، بل بمعنى كشف عدم الثواب له من أوّل الأمر، لاشتراطه بعدم ارتكاب الكبيرة.

ب.( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) .(١)

وقد قرر غير واحد من علمائنا دلالة الآية على عدم القطع بخلود مرتكبي الكبيرة في النار.

قال المرتضىٰ: هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة، لأنّه سبحانه دلّنا علىٰ أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأنّ قوله:( عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) إشارة إلى الحال التي يكونون عليها ظالمين ويجري ذلك مجرى قول القائل: أنا أودّ فلاناً على غدره وأصله على هجره.(٢)

وبعبارة أُخرى: إنّ الآية تخبر عن حكمين :

١. انّ هؤلاء تشملهم مغفرته سبحانه.

٢. كما يمكن أن يشملهم عقابه سبحانه.

ويشير إلى الأوّل بقوله:( لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) ، وإلى الثاني بقوله:( وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) .

وأمّا تعيّن أحدهما فلا يعلمه إلّا الله سبحانه، فلو كان مرتكب الكبيرة خالداً في النار لما صحّ إلّا الخبر الثاني وهو قوله:( إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) .

نعم إنّ هذه الآية ونظائرها لا ترخص لمرتكبي الكبائر أن يقترفوا المعاصي

__________________

١. الرعد: ٦.

٢. مجمع البيان: ٣ / ٢٧٨، تفسير سورة الرعد.

٣٠٦

اتكالاً علىٰ هذه الآية ونظائرها، وإنّما هو بصيص أمل ورجاء لهؤلاء وليس حكماً قطعياً في حقّهم.

والاستدلال بالآية يستند على جعل قوله سبحانه:( عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) حالاً، أي أنّه سبحانه لذو مغفرة للناس في الحالة التي هم عليها من الظلم والعصيان.

ج.( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) .(١)

إنّ قوله سبحانه:( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) ناظر إلى الذنوب التي مات صاحبها بلا توبة، ففي هذا النوع من الذنوب يفرق سبحانه بين الشرك وغيره وأنّه لا يغفر الشرك، ويغفر ما دون ذلك، وأمّا الذنوب التي مات مقترفها مع التوبة، فلا فرق فيها بين الشرك وغيره، فانّ التائب من ذنبه مطلقاً كمن لا ذنب له.

وعلىٰ ضوء ذلك، فلا يمكن القطع بخلود مرتكب الكبيرة في النار لاحتمال شمول غفرانه سبحانه له، ودخوله تحت مشيئته.

نعم الآية ليست دليلاً قاطعاً على فلاح مرتكب الكبيرة وإنّما هي بصيص أمل لمقترفي الكبائر. ومعه لا يصحّ قول المعتزلة ولا الخوارج بخلودهم في النار وعدم خروجهم عنها على وجه القطع.

هذه هي الآيات التي تصلح للاستدلال على عدم خلودهم في النار.

وثمة روايات تؤيد تلك النظرية، وها نحن نذكر بعضها :

١. روى الصدوق في توحيده بسنده عن ابن أبي عمير، قال: سمعت موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول: « لا يخلّد الله في النار إلّا أهل الكفر والجحود، وأهل

__________________

١. النساء: ٤٨ و ١١٦.

٣٠٧

الضلال والشرك ».(١)

٢. روى الحسين بن سعيد الأهوازي، عن عمر بن أبان، قال: سمعت عبداً صالحاً يقول في الجهنميين: « إنّهم يدخلون النار بذنوبهم ويخرجون بعفو الله ».(٢)

٣. وكتب الإمام الرضاعليه‌السلام للمأمون في رسالته: « إنّ الله لا يدخل النار مؤمناً وقد وعده الجنة، ولا يخرج من النار كافراً وقد أوعده النار والخلود فيها، ومذنبو أهل التوحيد يدخلون النار ويخرجون منها، والشفاعة جائزة لهم ».(٣)

٤. وقد روى الفريقان أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « إدّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ».(٤)

وقد حقّق في محله أنّ معنى الشفاعة هو حطُّ الذنوب ولا تختص بترفيع الدرجة، والآيات النازلة حول الشفاعة ناظرة إلى ما هو الدارج بين أهل الكتاب من اليهود والنصارىٰ والشفاعة عندهم كانت بمعنى غفران الذنوب والخروج من النار، والذكر الحكيم يُدعم الشفاعة بهذا المعنى، ولكن بشروط وحدود يخرجها عن جعلها ذريعة إلىٰ ترك العمل من خلال وضع شروط في المشفوع له وفي الذنب الذي يكون محطاً للشفاعة، وبذلك ظهر أنّ الروايات أيضاً تؤيد مفاد الآيات.

الدلائل العقلية

استدل على عدم الخلود بوجهين عقليين :

__________________

١ و٢ و٣. بحار الأنوار: ٨ / ٣٥١ و٣٦١ و٣٦٢، باب من يخلد في النار ومن يخرج منها من كتاب العدل
والمعاد، الحديث ١، ٣٢، ٣٦.

٤. بحار الأنوار: ٨ / ٣٤، باب الشفاعة من كتاب العدل والمعاد، الحديث ١ ; مسند أحمد: ١ / ٢٨١ ;
موطأ مالك: ١ / ١٦٦.

٣٠٨

الأوّل: انّه يستحق الثواب بإيمانه، لقوله تعالى:( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) والإيمان أعظم أفعال الخير، فإذا استحق العقاب بالمعصية، فإمّا أن يقدم الثواب على العقاب وهو باطل بالإجماع، لأنّ الثواب المستحق بالإيمان دائم على ما تقدم، أو بالعكس وهو المراد، والجمع محال.

الثاني: يلزم أن يكون من عبد الله تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه ثمّ عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه، مخلداً في النار كمن أشرك بالله تعالىٰ مدة عمره، وذلك محال لقبحه عند العقلاء.(١)

وذكر التفتازاني وجوهاً أُخرى نذكر منها ما يلي :

الثالث: انّ من واظب على الإيمان والعمل الصالح مائة سنة وصدر عنه في أثناء ذلك أو بعده جريمة واحدة كشرب جرعة من الخمر فلا يحسن من الحكيم أن يعذبه على ذلك أبد الآباد ولولم يكن هذا ظلماً فلا ظلم، أو لم يستحق بهذا ذماً فلا ذم.(٢)

وحاصل هذه الأدلة: انّ النظر إلى المؤمن المقترف للكبيرة والكافر المشرك علىٰ حد سواء يخالف العدالة، بل يجب أن يكون هناك فرق بينهما، إمّا في مدّة العذاب، أو في كيفيته، فجعلهما على حد سواء يرده العقل السليم، يقول سبحانه:( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(٣)

نعم غاية ما تُثبت بعض الأدلة العقلية وجود الفروق بين المؤمن والكافر، أمّا في الكمية كما هو المطلوب، أو في الكيفية وهذا المقدار يكفي في رفع الظلم.

نعم مقتضى الدليل العقلي الأوّل هو وجود الفرق من حيث الكمية ،

__________________

١. كشف المراد: ٢٧٦.

٢. شرح المقاصد: ٢ / ٢٢٩.

٣. القلم: ٣٥ ـ ٣٦.

٣٠٩

فلاحظ.

إلى هنا تمّت دراسة أدلّة القائلين بعدم الخلود، وإليك ما استدل به القائلون بالخلود من الآيات.

أدلة القائلين بالخلود

استدلت المعتزلة وغيرهم من القائلين بخلود مرتكبي الكبيرة في النار، بآيات وردت في حقّ طوائف مختلفة كلّهم محكومون بالخلود ويجمعهم اشتراكهم في اقتراف المعاصي الكبيرة، وتلك الطوائف يربو عددها علىٰ ١٦ طائفة نسرد أسماءها والآيات الواردة في حقّها على وجه موجز ثمّ يتبعه التفصيل، وهؤلاء هم :

١. الكفار.

٢. المشركون ( النحل/ ٢٩، الأحزاب/ ٦٤ ـ ٦٥، الزمر/ ٧١ ـ ٧٢، غافر/ ٧٦، التغابن / ١٠، البينة / ٦ وآيات أُخرى ).

٣. المنافقون ( التوبة / ٦٨، المجادلة / ١٧ ).

٤. المرتدون ( آل عمران / ٨٦ ـ ٨٨ ).

٥. المكذبون بآيات الله ( الأعراف / ٣٦ ).

٦. أعداء الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( التوبة / ٦٣ ).

٧. العصاة والمتمردون على أمر الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( الجن / ٢٢ ـ ٢٣ ).

٨. الظالمون ( يونس / ٥٢، الأنعام / ١٢٨ ـ ١٢٩ ).

٩. الأشقياء ( هود / ١٠٦ ـ ١٠٧ ).

١٠. المجرمون ( الزخرف / ٧٤ ـ ٧٥، السجدة / ١٢ ـ ١٤ ).

١١. المتوغلون في الخطايا ( البقرة / ٨١ ).

٣١٠

١٢. المرتكبون للقبائح ( الفرقان / ٦٨ ـ ٦٩ ).

١٣. المعرضون عن القرآن ( طه / ١٠٠ ـ ١٠١ ).

١٤. المطففون في الميزان ( المؤمنون / ١٠٣ ـ ١٠٤ ).

١٥. الآكلون للربا ( البقرة / ٢٧٥ ).

١٦. قاتلو المؤمنين ( النساء / ٩٣، الفرقان / ٦٨ ).

هذه هي العناوين التي حكم الذكر الحكيم بخلود أصحابها في النار، ولكن عند إمعان الدقة والنظر في الآيات والقرائن المحفوفة بها، نقف على أنّ المخلّدين في النار هم الذين ينطبق عليهم أحد العناوين الأربعة الأُولىٰ، أعني: الكافرين والمشركين والمنافقين والمرتدين، وأمّا أصحاب سائر العناوين فلا يخرجون عن هذا الإطار.

وقبل دراسة الآيات الواردة حول هذه الطوائف الست عشرة نلفت نظر القارئ الكريم إلىٰ أمرين مهمين :

الأمر الأوّل: انّ الأُسلوب الصحيح في تفسير الآيات لا سيما فيما يرجع إلى هذه الطوائف هو تفسير الآيات على وفق ما يتبادر منها في عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّ لغة العرب قد تطورت طيلة ١٤ قرناً فربما يكون المتبادر منه في زماننا هذا غير ما يتبادر في عصر الرسول، وإن كان بينهما قدر مشترك، فلا محيص للمفسر عن تفسير الآيات حسب استعمال مفرداتها وجملها في عصر الرسول، وهذا أمر له بالغ الأهمية في تفسير القرآن وإن كان تحصيل اليقين بذلك أمراً عسيراً، فانّ الوقوف علىٰ جذور المعاني والمصطلحات القرآنية التي كانت هي الرائجة في عصر الرسول بحاجة إلىٰ عناية ودقة كافية، ولعلّ كتاب المقاييس لابن فارس يعين المفسر في هذا الطريق، لأنّه بصدد بيان أُصول المعاني وجذورها، لا المعاني المتطورة.

الأمر الثاني: دراسة القرائن الحافة بالآيات فانّ بعضها وإن كانت في بادئ

٣١١

الأمر تعم مرتكب الكبيرة وإن كان مؤمناً ولكن بعد الدقة فيها يعلم أنّ المراد هو غير المؤمن فتنحصر في الكافر.

وفي ظل رعاية هذين الأمرين، نطرح الآيات الواردة حول هذه الطوائف المحكومة بالخلود.

وبما أنّ هذه العناوين الأربعة المتقدمة غنيّةٌ عن البحث والدراسة حيث اتفق الجميع على خلودهم في النار، فلنقتصر على دراسة بقية الطوائف.

٥. المكذبون بآيات الله

ورد في أوّل الخليقة خطابات إلهية تخاطب فيها أبناء آدم، منها قوله:( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ *وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .(١)

فالآية أوعدت المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها بالخلود في النار، وهؤلاء هم الكافرون، فليست هذه الطائفة إلّا قسماً من الكافرين، فخلودهم في النار لا يعني إلّا خلود الكافر في النار.

٦. أعداءُ الله ورسوله

إنّ الذكر الحكيم يصف من يحادد الله ورسوله أنّه من أصحاب النار الخالدين، يقول:( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَٰلِكَ الخِزْيُ الْعَظِيمُ ) (٢) وليس المراد في الآية مطلق العداء بل من بلغ غاية

__________________

١. الأعراف: ٣٥ ـ ٣٦.

٢. التوبة: ٦٣.

٣١٢

العداء، بشهادة أنّه سبحانه يقول:( مَن يُحَادِدِ ) وهو من الحد، والمراد مَنْ وصل إلى النهاية، قال الطبرسي: المحادة مجاوزة الحد بالمشاقة(١) . ومن الواضح أنّ هذه الطائفة هم المكذبون لأنبياء الله ورسله وهو يلازم الكفر، فليس خلودهم في النار إلّا رمزاً لخلود الكافر.

على أنّ سياق الآيات يدل على أنّها نزلت في حقّ المنافقين وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان.

٧. العصاة والمتمردون على أمر الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله

أوعد الله سبحانه العصاة بالخلود في نار جهنم قال سبحانه:( إلّا بَلاغًا مِّنَ اللهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا *حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ) .(٢)

إنّ قوله:( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) يشمل مطلق العاصي وإن كان مؤمناً مقترفاً للكبيرة، ولكن القرائن الحافة بهذه الآية تثبت بأنّ المراد هم منكرو الرسالة الذين كانوا يحقّرون المؤمنين، وهذه القرائن عبارة عن سياق الآيات المتقدمة عليها أو المتأخرة عنها.

إنّ الموضوع في الآيات ١٨ إلى ٢٨ هم المشركون والكافرون، الذي جاء في ثنايا تلك الآيات بشهادة أنّه يقول:( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا ) .

ويقول أيضاً:( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) .(٣)

فهاتان الآيتان راجعتان إلى المشركين الذين كانوا يدعون مع الله الأصنام

__________________

١. مجمع البيان: ٣ / ٤٣.

٢. الجن: ٢٣ ـ ٢٤.

٣. الجن: ٢٠.

٣١٣

والأوثان ويعبدونهم مع الله سبحانه فتكون هاتان الآيتان دليلاً على أنّ المراد من العصاة هم المشركون.

ويؤيده قوله في الآية ٢٤:( حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ) فكأنّهم كانوا يحقّرون الأنبياء لقلة الناصر، فإذا رأوا ما يوعدون من نار جهنم فسيقفون على خطئهم وانّهم كانوا أقلّ ناصراً وأقل عدداً.

والحاصل انّ القرائن الحافة بالآيات تُحقِّق بأنّ المراد من العصيان هو الكفر، ومن العصاة هم الكافرون.

٨. الظالمون

هدّد سبحانه الظالمين بعذاب الخلد، قال سبحانه:( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) .(١)

وظاهر الآية وإن كان يشمل كلّ ظالم وإن كان مؤمناً مسلماً لكن كان مقترفاً للظلم، ولكن سياق الآيات يدل على أنّ المراد ليس مطلق من ظلم، بل الظالمون المنكرون ليوم الوعد، وإليك الآيات الواردة قبلها :

يقول سبحانه في نفس السورة:( وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .(٢)

وقال سبحانه:( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) .(٣)

ففي حقّ هؤلاء الذين كانوا يستبعدون النشأة الأُخرى وكانوا يستعجلون بها يقول سبحانه:( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ ) .

__________________

١. يونس: ٥٢.

٢. يونس: ٤٨.

٣. يونس: ٥١.

٣١٤

ومن هنا يعلم أنّ حال الآيات الأُخرى التي تحكم على الظالمين بالخلود، ويقول:( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إلّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .(١)

وهاتان الآيتان وإن كانتا ظاهرتين في مطلق الظالمين لكن سياق الآيات يدل على أنّ المراد هم المكذبون لأنبياء الله ورسله من الأُمم السالفة ولو عمَّت بعض الأُمّة الإسلامية فإنّما عمتهم بهذا الملاك.

وإليك ما يخصّص الظالمين بالمكذبين.

يقول سبحانه قبل هاتين الآيتين:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) .(٢)

ويقول بعد هذه الآية:( يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) .(٣)

فبملاحظة الآيات التي وقعت قبل الآيتين أو التي أعقبتهما يتضح بأنّ المراد هم الكافرون المنكرون للتوحيد والرسالة لا سيما رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٩. الأشقياء

إنّ مصير الأشقياء حسب الذكر الحكيم هو الدخول في النار التي لهم فيها

__________________

١. الأنعام: ١٢٨ ـ ١٢٩.

٢. الأنعام: ١٢٤.

٣. الأنعام: ١٣٠.

٣١٥

زفير وشهيق، يقول سبحانه:( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) .(١)

ففي هاتين الآيتين حكم عليهم بالخلود في النار، وللمفسّرين حول هذه الآية كلمات لا سيما في الاستثناء الوارد في قوله:( إلّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) فمن أراد فليرجع إلى التفاسير، ولكن الأمر المهم هو أنّ من عصى الله سبحانه ولو في معصية صغيرة فقد شقي، فللشقاء درجات كما أنّ الأشقياء أصناف، ولكن المراد في الآية ليس كلّ من شقي ولو بغير الكفر، وإنّما المراد من شقي لأجل كفره وعدم إيمانه، ويؤيده سياق الآيات، فقد جاء بعد هاتين الآيتين، قوله سبحانه:( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إلّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ) .(٢) فهذه الآية قرينة علىٰ أنّ المراد من الذين شقوا هم المشركون الذين يعبدون الأصنام دون الله سبحانه.

ويؤيد ذلك التفسير: أنّه سبحانه فسّر الأشقىٰ في بعض الآيات بمن كذب وتولىٰ، وقال:( فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ *لا يَصْلَاهَا إلّا الأَشْقَى *الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ) .(٣)

١٠. المجرمون

إنّ المجرمين حسب الذكر الحكيم مخلّدون في النار، قال سبحانه:( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) .(٤)

__________________

١. هود: ١٠٦ ـ ١٠٧.

٢. هود: ١٠٩.

٣. الليل: ١٤ ـ ١٦.

٤. الزخرف: ٧٤ ـ ٧٥.

٣١٦

غير أنّ اللازم هو دراسة سياق الآيات ليتضح من خلالها المراد من المجرمين، لأنّ سياقها يشهد على أنّ المراد ليس كلّ من ارتكب معصية، بل المراد غير هذه الفئة، وإليك الآيات :

إنّ الآيات المتقدمة تصنّف الناس إلى صنفين :

أ. مؤمن بآيات الله فيُجزىٰ بالجنة.

ب. مجرم يجزىٰ بالخلود في الجحيم.

فالتقابل السائد بين الآية الثانية والآية الأُولىٰ يمكن أن يفسر علىٰ ضوئها لفظ « المجرم » وأنّ المراد منه غير المؤمن بآيات الله سبحانه والذي يساوق المشرك، يقول سبحانه في حقّ الطائفة الأُولى :

( يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ *ادْخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) .(١)

ويصف الطائفة الثانية، بقوله:( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ *وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) .(٢)

وبملاحظة الآيات وتقابل الموضوعين يتضح المراد من « المجرم » فالموضوع في الطائفة الأُولى:( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) .

كما أنّ الموضوع في الطائفة الثانية:( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ ) .

فبالتقابل يتبين أنّ جرم هؤلاء هو كفرهم وعدم إيمانهم بآيات الله سبحانه، ومن الواضح بمكان أنّ الكفار والمشركين خالدون في النار، ويؤكد ذلك أنّ

__________________

١. الزخرف: ٦٨ ـ ٧٠.

٢. الزخرف: ٧٤ ـ ٧٦.

٣١٧

السورة من السور المكية التي تدور بحوثها حول المشرك والكافر ولا تجنح إلى المؤمنين المسلمين الذين ربما يقترفون المعاصي تلبية لأهوائهم لا كفراً بربوبية الله سبحانه.

وليست تلك الآيات فريدة في إيضاح المقصود من المجرمين، بل هناك آيات أُخرى تفسر المجرمين بغير المؤمنين بيوم اللقاء، قال سبحانه :

( وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) .(١)

تجد أنّه سبحانه يصف المجرمين بأنّهم يوم القيامة يرغبون في الرجوع إلى الدنيا، ويقولون:( ارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) وهذا يعرب عن أنّهم لم يكونوا مؤمنين بيوم الجزاء واللقاء وإنّما أيقنوا لما شاهدوا النار.

ويؤيّدُ ذلك انّه سبحانه يصف المؤمنين ـ في نفس تلك السورة ـ في مقابل المجرمين، بقوله :

( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) .(٢) فالمجرمون هم الذين لا يؤمنون بآيات الله، ومن الواضح أنّ من لا يؤمن لا يخرج عن إطار الشرك.

١١. المتوغلون في الخطايا

يحكم القرآن المجيد علىٰ من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته، أنّه من أصحاب النار، يقول سبحانه:( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ

__________________

١. السجدة: ١٢ ـ ١٤.

٢. السجدة: ١٥.

٣١٨

أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .(١)

فالمخلدون في النار في هذه الآية ذو سمتين :

السمة الأُولى: اقتراف السيئات.

السمة الثانية: الإصرار على ارتكابها علىٰ نحو تحيط بقلوبهم وأرواحهم ونفوسهم.

ومن الجدير بالذكر أنّ إحاطة الخطايا بالروح والنفس تُسفر عن انسداد طرق الهداية أمام القلوب والأرواح والأنفس، فلا يستجيب لنداء الأنبياء والرسل ومثل هذا يساوق الشرك والكفر.

والدليل على أنّ المراد ليس مطلق من اقترف الخطيئة، انّه سبحانه يعطف على قوله:( كَسَبَ سَيِّئَةً ) قوله:( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) وبيّن بذلك أنّ هذا الإنسان صار لكثرة الذنوب والخطايا غاصّاً فيها لا يتأثر بهداية الهادين، ونصح الناصحين.

وبعبارة أُخرى: انّ الإنسان الغارق في الآثام والمعاصي ينزلق ـ رويداً رويداً ـ إلى هاوية الكفر والجحود بآيات الله ورسله، يقول سبحانه:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ ) .(٢)

فالآية إنذار لمن يقترف المعاصي ويظن انّه لا يضر الإيمان، فانّ اقتراف المعاصي شيئاً فشيئاً بلا توبة وندم بينها ربما يؤول مصيره إلى الكفر وتكذيب آيات الله.

وممّا يؤكد ورود الآية( بَلَىٰ مَن كَسَبَ ) في حقّ الكافرين، الآية المتقدمة

__________________

١. البقرة: ٨١.

٢. الروم: ١٠.

٣١٩

عليها، يقول سبحانه :

( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) .(١)

فالآية تفسر أنّ المراد( مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) ، هم أحبار بني إسرائيل الذين يكتبون الكتاب بأيديهم لبيعه بثمن بخس،( فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) .

كما أنّ الآية المتأخرة واردة في حقّ المؤمنين، يقول سبحانه:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .(٢)

فبالمقابلة بين قوله:( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) في هذه الآية وقوله:( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ) في الآية المتقدمة يتضح انّ المراد هو الكافر والمؤمن، فالأوّل مخلّد في النار، والمؤمن مخلّد في الجنة.

١٢. المرتكبون للقبائح

يوعد الذكر الحكيم الذين أشركوا وقتلوا النفس المحرّمة وزنوا بالخلود في العذاب، يقول سبحانه:( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلّا بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) .(٣)

والكلام في تعيين المشار إليه في قوله:( وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ) ، ففيه احتمالات ثلاثة :

__________________

١. البقرة: ٧٩.

٢. البقرة: ٨٢.

٣. الفرقان: ٦٨ ـ ٦٩.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

ففي هذه الآية نرى ـ لو أمعنا النظر ـ كيف بيّن القرآن الكريم المقدّمات الطبيعية لنزول المطر والثلج من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدماتها.

فقبل أن يتوصل العلم الحديث إلى معرفة ذلك ـ بزمن طويل ـ سبق القرآن إلى بيان تلك المقدمات في عبارات هي :

١. يزجي ( يحرك ) سحاباً.

٢. ثم يؤلّف ( ويركب ) بينه.

٣. ثم يجعله ركاماً ( أي كتلة متراكمة متكاثفة ).

٤. فترى الودق ( أي المطر ) يخرج من خلاله.

٥. يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.

وهكذا يصرح الله سبحانه في كل المراحل بتأثير الأسباب والعلل الطبيعية، غاية ما هنالك أنّ تأثير هذه العلل والأسباب بإذن الله ومشيئته بحيث إذا لم يشأ هو سبحانه لتعطلت هذه العلل عن التأثير.

( اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَىٰ الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مِنْ يَشَاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (١) .

وأية جملة أوضح من قوله:( فَتُثِيرُ سَحَاباً ) أي الرياح، فالرياح في نظر

__________________

(١) الروم: ٤٨.

٣٤١

القرآن هي التي تثير السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر.

إنّ الإمعان في عبارات هذه الآية يهدينا إلى نظرية القرآن ورأيه الصريح حول « تأثير العلل الطبيعية بإذن الله ».

ففي هذه الجمل جاء التصريح :

١. بتأثير الرياح في نزول المطر.

٢. وتأثير الرياح في تحريك السحب.

٣. وانبساط السحب في السماء.

٤. وتجمع السحب ـ فيما بعد ـ على شكل قطع متراكمة.

٥. ثم نزول المطر بعد هذه التفاعلات والمقدمات.

فإذا ينسب القرآن هذه الأفاعيل إلى الله في هذه الآيات عند تعرضه لذكر مراحل تكون المطر ونزوله بأنّه ( هو ) يبسط السحاب في السماء و ( هو ) الذي يجعله كسفاً، فإنّما يقصد ـ من وراء ذلك ـ التنبيه إلى مسألة « التوحيد الافعالي » الذي سنبحثه من وجهة نظر القرآن في هذا الفصل وما بعده.

على أنّ الآيات التي تؤكد دور العلل الطبيعية وتأثيرها المباشر، وتعتبر العالم مجموعة من الأسباب والمسببات التي تعمل بإرادة الله وإذنه وتكون فاعليتها فرعاً من فاعلية الله، أكثر من أن يمكن إدراجها هنا، ولكننا نرى في ما ذكرنا الكفاية لمن تدبّر.

هذا وقال أحمد أمين المصري: إنّ من الدائر على ألسنة الأزهريين :

ومن يقل بالطبع أو بالعلّه

فذاك كفر عند أهل الملّه

٣٤٢

وقال الزبيدي في إتحاف السادة(١) وهو شرح لإحياء العلوم :

ثبت مما تقدم أنّ الإله هو الذي لا يمانعه شيء وإنّ نسبة الأشياء إليه على السوية، وبهذا أبطل قول المجوس وكل من أثبت مؤثراً غير الله من علة أو طبع أو ملك أو أنس أو جن، إذ دلالة التمانع تجري في الجميع ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة حيث جعلوا التأثير للإنسان.

هذا، وقد تقرب الإمام الأشعري إلى أهل السنّة بنسبته فعل الشر إلى الله تعالى لـمّا تاب عن الاعتزال، فرقى يوم الجمعة كرسياً في المسجد الجامع بالبصرة ونادى بأعلى صوته: « من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وانّ الله لا يرى بالأبصار وانّ أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة فخرج بفضائحهم ومعايبهم »(٢) .

ولا يخفى أنّ التوحيد الافعالي بهذا المعنى أي سلب العلية والتأثير عن أي موجود سواه استقلالاً وتبعاً وبالمعنى الاسمي والمعنى الحرفي جر الويل بل الويلات على أصحاب هذا الرأي من أهل السنّة فدخلوا في عداد الجبرية وان كانوا لا يقبلون بإطلاق هذا الاسم عليهم.

غير أنّ هذا الرأي الزائف لا ينتج غير الجبر والإلجاء في أفعال الإنسان، ولذا رأينا أنّ الإمام الأشعري قد تاب عن قول: « إنّ أفعال الشر أنا أفعلها »، وذلك حينما دخل في عقيدة السنّة ـ حسب رأيه ـ.

__________________

(١) اتحاف السادة: ٢ / ١٣٥.

(٢) الفهرست لابن النديم: ٢٥٧.

٣٤٣

ما معنى هذه الجملة التي ذكرها الإمام الأشعري في جملة عقائد أصحاب الحديث والسنّة إنّ سيئات العباد يخلقها الله عزّ وجلّ، وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً(١) .

أو ليس هذا موجباً للغوية بعث الأنبياء والرسل، ولغوية الحث على العمل الصالح والزجر عن غير الصالح.

ونرى إمام الحنابلة يمشي على هذا الضوء فيفسر القضاء والقدر على نحو يساوي الجبر والحتم حيث يقول: القدر خيره وشره، حسنه وسيئه من الله قضاء قضاه وقدر قدره لا يعدو واحد منهم مشيئة الله عز وجل والعباد صائرون إلى ما خلقهم له واقعون فيما قدر عليهم لأفعاله وهو عدل منه عزّ ربنا وجل والزناء والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المرء المال الحرام والشرك بالله والمعاصي كلها بقضاء وقدر(٢) .

إنّ تفسير القضاء والقدر بهذا المعنى تشعب عن الفكرة الخاطئة من إنكار العلية والمعلولية في عالم الطبيعة مطلقاً وانّ الظواهر الطبيعية لا مصدر ولا منشأ لها إلّا إرادته سبحانه من دون وساطة علة أو مشاركة سبب، وهو ما عرفت بطلانه في الصفحات السابقة.

وأمّا كشف النقاب عن حقيقة قضائه وقدره سبحانه مع شمولها لعامة الحوادث والظواهر الطبيعية والأفعال الإنسانية، فقد أسهبنا فيه الكلام في بعض أبحاثنا الفلسفية(٣) .

__________________

(١) مقالات الإسلاميين: ١ / ٣٢١.

(٢) طبقات الحنابلة: ١ / ٢٥.

(٣) راجع القضاء والقدر في العلم والفلسفة تأليف شيخنا الأُستاذ وتعريب محمد هادي الغروي طبع في بيروت ١٣٩٩ ه‍.

٣٤٤

وللعلاّمة الحجة السيد مهدي الروحاني مقال مسهب في المقام في كتابه « بحوث مع أهل السنّة والسلفية » فراجعه.

مذهب أئمة أهل البيت

أقول: من جعل القرآن رائده وإمامه، ونظر في آياته مجرّداً عن الميول والأفكار المسبقة، يقف على أنّ كلا المذهبين ( مذهب المعتزلة والأشاعرة ) على جهتي الإفراط والتفريط، فلا تفويض ولا جبر، لا إشراك ولا ثنوية ولا اضطرار والجاء، لا أنّ الممكن مستقل في فعله وتأثيره، ولا هو منعزل عن فعله وأثره بتاتاً.

إنّ كلا الرأيين والمذهبين لا يصدقهما القرآن ولا الدلائل العقلية الواضحة بل إنّ هناك مذهباً ثالثاً أسماه أئمّة أهل البيت بالأمر بين الأمرين وهو الذي يرشدنا إليه التدبر في القرآن وبه يحافظ على التوحيد في الخالقة والفاعلية، وانّه لا خالق مستقل إلّا هو، وعلى مشاركة العلل والأسباب مختارها ومضطرها في الفعل والأثر « فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » وسيوافيك توضيح الفرق بين المذهبين والأمر بين الأمرين بطرح مثال بديع.

* * *

ويمكن تلخيص التوحيد الافعالي في فصلين :

١. انّه ليس في عالم الوجود إلّا خالق أصيل ومستقل واحد، وأمّا تأثير العلل الأُخرى وفاعليتها فليست إلّا في طول خالقية الله وعلّيته وفاعليته، ومتحقّقة بإذنه.

٣٤٥

٢. انّه لا مدبر للعالم إلّا « الله » ولا تدبير لغيره إلّا بإذنه سبحانه وأمره.

وأمّا القسم الأوّل فهو « التوحيد في الخالقية ».

والقسم الثاني فهو « التوحيد في التدبير والربوبية ».

وسيوافيك انّ « الرب » ليس بمعنى: الخالق، بل بمعنى المدبر الذي وكل إليه أمر إصلاح فرد أو جماعة(١) .

التوحيد في الخالقية

من مراجعة القرآن الكريم يتضح أنّ هذا الكتاب السماوي لا يعرف خالقاً مستقلاً أصيلاً إلّا الله، وأمّا خالقية ما سواه فهي في طول خالقيته وليس له استقلال في الخلق والإيجاد، وإليك فيما يلي طائفة من الآيات التي تشهد بهذا الأمر :

( قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (٢) .

( اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٍ وَكِيلٌ ) (٣) .

( ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالُقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إلّا هُوَ ) (٤) .

__________________

(١) قد فسر الوهابيون « الرب » بالخالق واعتبروا التوحيد في الربوبية والتوحيد في الخالقية قسماً واحداً، في حين أنّ الربوبية لا تعني الخالقية، بل تعني إدارة فرد أو جماعة وتدبير أُمورهم وسيأتي توضيح هذا القسم في المستقبل.

(٢) الرعد: ١٦.

(٣) الزمر: ٦٢.

(٤) غافر: ٦٢.

٣٤٦

( ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ ) (١) .

( هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) (٢) .

( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (٣) .

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ) (٤) .

( أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (٥) .

ولا يمكن أن تكون هناك عبارات أوضح من هذه العبارات في إفادة المقصود وهو: أنّ كل الأشياء ـ بذاتها وآثارها ـ معلولة لله ومخلوقة له سبحانه.

فهو الذي خلق الشمس والقمر والنار، وهو الذي أعطاها النور والضوء والحرارة، وأقام ارتباطاً وثيقاً بين هذه الآثار وتلك الأشياء.

وبالتالي فهو الذي أعطى للأسباب سببيّتها وللعلل علّيتها.

إنّ القرآن يرى ـ بحكم نظرته الواقعية ـ بأنّ كل ما في هذه الحياة من سماء وكواكب وأرض وجبال وصحراء وبحر، وعناصر ومعادن، وسحاب ورعد وبرق وصاعقة، ومطر وبرد، ونبات وشجر، وحجر وحيوان وإنسان، وغيرها من الموجودات غير مستقلة في التأثير، وإنّ كل ما ينتسب إليها من الآثار ليست لذوات هذه الأسباب، وانّما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى الله سبحانه.

__________________

(١) الأنعام: ١٠٢.

(٢) الحشر: ٢٤.

(٣) الأنعام: ١٠١.

(٤) فاطر: ٣.

(٥) الأعراف: ٥٤.

٣٤٧

فجميع هذه الأسباب والمسببات رغم ارتباطها بعضها ببعض ـ بحكم العلية ـ فهي مخلوقة لله جميعاً، فإليه تنتهي العلية وإليه تؤول السببية وهو معطيها للأشياء.

ولا شك أنّ البشر هو أيضاً ذو آثار وأفعال، كالأكل والشرب والقيام والقعود وغيرها من الأفعال، وكلّها مرتبطة بالإنسان نفسه، فهي أفعاله الاختيارية التي يتعلّق بها الأمر والنهي.

ولكنّه ليس مستقلاً في فعله وأثره، فكما أنّ فعله يعد فعلاً له ومرتبطاً به، فهكذا يعد فعله فعلاً لله سبحانه ومرتبطاً به بحكم كون وجوده وما أُعطي من القوى والطاقات مستندة إلى الله سبحانه، وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون فعل العبد مرتبطاً بالعبد ومنقطعاً عن الله، إذ كيف يكون ذات الشيء مرتبطاً ويكون فعله منقطعاً، فإنّ غير المستقل بالذات غير مستقل في الفعل، والمستقل في الذات مستقل في الفعل أيضاً.

وبعبارة أُخرى: انّ المراد من كون أفعال العباد مخلوقة لله ليس هو كونها فعلاً له سبحانه بلا مشاركة العبد، بل المراد هو عدم استقلال العبد والعلل كلها في مقام الإنشاء والإيجاد وإلاّ لزم أن يكون في صفحة الوجود فاعلون مستقلون في الفعل والإيجاد وهو بمنزلة الشرك.

وبذلك يرتفع الاستيحاش عن القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله، إذ ليس المراد انّه سبحانه فاعل دونهم كما ليس المراد أنّها أفعال لهم دونه سبحانه، بل هي أفعال له تعالى من جهة وأفعال لهم من جانب آخر.

وقد أوضحه بعض المحقّقين بالمثال التالي الذي يوضح موقف كل من مذهبي الجبر والتفويض وما هو الحق من الأمر بين الأمرين، فلنفرض أنّ إنساناً

٣٤٨

أعطى لأحد سيفاً مع علمه بأنّه يقتل به نفساً، فالقتل إذا صدر منه لا يكون مستنداً إلى المعطي بوجه، فإنّه حين صدوره يكون أجنبياً عنه بالكلية غاية الأمر أنّه هيّأ بإعطائه السيف مقدمة إعدادية من مقدمات القتل، وهذا واقع التفويض.

كما أنّه لو شد آلة جارحة بيد الإنسان المرتعش بغير اختيار، فأصابت الآلة من جهة الارتعاش نفساً فجرحته، فالجرح لا يكون صادراً من ذاك الإنسان المرتعش، بإرادته واختياره، بل هو مقهور عليه في صدوره منه، وهذا واقع الجبر وحقيقته.

وإذا فرضنا أنّ يد الإنسان مشلولة لا يتمكّن من تحريكها إلّا مع إيصال الحرارة إليها بالقوة الكهربائية، فأوصل رجل القوة إليها بواسطة سلك يكون أحد طرفيه بيد المولى، فاختار ذلك الإنسان قتل نفس والموصل يعلم بذلك، فالفعل بما انّه صادر من الإنسان المشلول باختياره يعد فعلاً له، وبما أنّ السلك بيد الموصل وهو الذي يعطي القوة للعبد آناً فآناً فالفعل مستند إليه، وكل من الإسنادين حقيقي من دون أن يكون هناك تكلّف أو عناية، وهذا هو واقع الأمر بين الأمرين، فالأفعال الصادرة من المخلوقين بما أنَّها تصدر منهم بالإرادة والاختيار، فهم مختارون في أفعالهم ; وبما أنّ فيض الوجود والقدرة والشعور من مبادئ الفعل يجري عليهم من قبل الله تعالى آناً فآناً، فأفعالهم منتسبة إلى خالقهم(١) .

إنّ هناك طائفة من الآيات القرآنية تبيّن هذه الحقيقة بنحو آخر وهو أنّه ليس الله تعالى خلق الأشياء فقط، بل هو الذي قدر تأثير كل شيء وخلق له

__________________

(١) أجود التقريرات: ١ / ٩٠.

٣٤٩

« حدوداً » خاصة، وغايات معينة مثل قوله تعالى :

( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (١) .

( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) (٢) .

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) (٣) .

هذه الآيات وما قبلها تبيّن « التوحيد الخالقي » بوضوح ولا تعترف بخالق أصيل ومستقل إلّا الله، كما أنّها لا تعترف بمقدّر أصيل للأشياء وهاد واقعي لها غيره سبحانه.

ما هو معنى الخالقية ؟

ماذا يراد من أنّ الله سبحانه هو الخالق الوحيد وانّ الذوات والأشياء وما يتبعها من الأفعال والآثار حتى الإنسان وما يصدر منه، مخلوقات لله سبحانه بلا مجاز ولا شائبة عناية ؟

إنّ الوقوف على تلك الحقيقة القرآنية يتوقف على تحليل معنى الخلق لغة واستعمالاً.

إنّ لفظة « الخلق » تارة يراد منها « التقدير » وأُخرى الإبداع والإيجاد، والميزان في ذلك هو إنّه إذا قيل: خلق هذا من ذاك وذكرت معه المادة القابلة للصياغة والتصوير والنحت والتكوين يراد منه التقدير، قال سبحانه حاكياً عن سيدنا المسيحعليه‌السلام :

( أَنِّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهِيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً

__________________

(١) الفرقان: ٢.

(٢) طه: ٥٠.

(٣) الأعلى: ٢ ـ ٣.

٣٥٠

بِإِذْنِ اللهِ ) (١) .

يقال: خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته، ويقال أيضاً: خلق العود: سوّاه(٢) .

وأمّا إذا تعلّق الخلق بالشيء ونسب إليه من دون أن تقترن بمادة خاصة، فيراد منه الإبداع والإيجاد من كتم العدم، كقوله سبحانه :

( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (٣) .

نعم دلت البراهين الفلسفية على أنّ « الخلق » لا ينفك عن الإيجاد والإبداع حتى في القسم الأوّل، فإنّ المادة وإن كانت موجودة لكن الصورة ـ لا شك ـ إنّها أبداعية قطعاً، كقوله سبحانه :

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) (٤) .

ولعلّه لذلك اكتفى ابن فارس في مقاييسه في توضيح معنى الخلق بالمورد الأوّل أي التقدير ولم يذكر المورد الثاني اعتماداً بأنّ التقدير لا ينفك عن الإيجاد والإبداع كما أنّ الإيجاد لا ينفك عن التقدير، كما صرح بقوله:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (٥) .

__________________

(١) آل عمران: ٤٩.

(٢) المقاييس لابن فارس: ٢ / ٢١٤، والقاموس المحيط: مادة خلق.

(٣) الفرقان: ٢.

(٤) غافر: ٦٧.

(٥) الفرقان: ٢.

٣٥١

ثمّ إنّه وقع النزاع في صحة استعمال لفظ الخلق في الأفعال، لغة، وانّه هل يتعلّق الخلق بالأفعال كتعلّقه بالذوات، أو أنّه لا يتعلّق إلّا بالذوات، وأمّا الأفعال والأحداث فيتعلّق بها الإيجاد، والإنسان موجد لفعله لا خالق له، فيقال: أوجد فعله ولا يقال: خلقه.

وربما يستدل على صحة تعلّقه بالفعل والعمل بقوله تعالى :

( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ *فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزفُّونَ *قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ *واللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (١) .

والشاهد هو قوله:( خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) غير انّه يمكن أن يقال: انّ المراد من الموصول في قوله:( وَمَا تَعْمَلُونَ ) هو الأصنام التي كانوا يعملونها وينحتونها بقرينة ما سبقها من الآيات، أعني قوله:( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ) والمقصود انّ الله خلقكم وخلق الأصنام التي تصنعونها، ويكون وزان الآية وزان قوله سبحانه:( يَعمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَان كَالْجَوَابِ ) (٢) .

وبذلك يسقط الاستدلال بالآية.

وربما يستدل على نفي صحة اسناد الخلق إلى غيره سبحانه بقوله تعالى :

( أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) (٣) .(٤)

فإنّ الظاهر من قوله( لا يَخْلُقُ شَيْئاً ) انّ كل معبود سواه لا يخلق شيئاً ولا

__________________

(١) الصافات: ٩٣ ـ ٩٦.

(٢) سبأ: ١٣.

(٣) الأعراف: ١٩١.

(٤) ومثله الآية ٢٠ من سورة النحل والآية ٣ من سورة الفرقان.

٣٥٢

يقال لفعله انّه مخلوق ولا لنفسه انّه خالق.

غير أنّ الإجابة عن هذا الاستدلال أيضاً واضحة، فإنّ المراد بعد الغض عن احتمال كون المراد الأصنام المنحوتة لا كل موجود سواه، نفي الخالقية اللائقة لساحته سبحانه، وهي الخالقية المستقلة غير المعتمدة على شيء ومن المعلوم أنّ الخالقية بهذا المعنى لا يقدر عليها أحد.

إذا وقفت على استدلال الطرفين من حيث صدق الخلق على الفعل وعدم صدقه، فهلمّ معنا نوقفك على الحقيقة وانّه هل يجوز استعمال لفظ الخلق في مورد الأعمال وعدمه ؟

فنقول: أمّا أوّلاً: لا شك أنّ الخلق يتعلّق بالفعل كما يتعلّق بالذات، كما في قوله سبحانه :

( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) (١) .

فإنّ قوله سبحانه:( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) بمعنى تقولون: كذباً، فليس الكذب والصدق إلّا من أفعال البشر.

وفي الحديث :

« خلقت الخير وأجريته على يدي من أحب وخلقت الشر وأجريته على يدي من أُريد ».

قال الطريحي في تفسير الحديث: المراد بخلق الخير والشر خلق تقدير لا خلق تكوين، ومعنى التقدير نقوش في اللوح المحفوظ، ومعنى خلق التكوين

__________________

(١) العنكبوت: ١٧.

٣٥٣

وجود الخير والشر في الخارج، وهو من أفعالنا وقد ورد في الحديث يا خالق الخير والشر(١) .

وثانياً: سلمنا أنّ الخلق لا يتعلّق بالفعل غير أنّ عمومية المتعلّق في الآيات الواردة في هذا الفصل التي تخص الخالقية بالله سبحانه كقوله:( خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) وقوله:( قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ ) أو قوله:( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرِ الله ) تكون قرينة على أنّ المراد من الخلق في الآيات هو مطلق الإيجاد والإبداع، سواء تعلّق بالذات أو بالفعل، فيستدل بعموم المتعلّق ( كل شيء ) مثلاً على إلغاء الخصوصية المتوهمة في لفظ الخلق من أنّه لا يتعلّق إلّا بالذوات دون الأفعال.

إنّ عناية القرآن بطرح متعلّق الخلق بشكل عام عناية لا يرى مثلها في غيره تكون قرينة على أنّ المراد هو نفي وجود أي مؤثر أو موجود مستقل في صفحة الوجود دون الله، وقد ذكر علماء المعاني، انّ خصوصية الفعل ربّما يسري إلى المتعلّق فيخرجه عن السعة، فإذا قال القائل: لا تضرب أحداً، ينصرف لفظ الأحد بقرينة « لا تضرب » إلى الحي وإن كانت تلك اللفظة عامة تشمل الحي الميت.

وقد يعكس فتكون سعة المتعلّق قرينة على شمول الفعل وعموميته، كما لا يخفى مثلاً أنّ قوله سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) (٢) وإن كان خاصاً من جهة الموصول والصلة بالعاقل فلا يشمل إلّا دعوة العقلاء، إلّا أنّ قوله من دون الله قرينة على أنّ الممنوع هو دعوة مطلق غير الله عاقلاً كان أو غيره ،

__________________

(١) مجمع البحرين مادة خلق، ولا يخفى أنّه كما تكون ذوات الأشياء خيراً وشراً كذلك تكون الأفعال خيراً وشراً، بل نسبة الخير والشر إلى الذوات كصحة البدن والمال إنّما هي باعتبار كونها مبدأ للخير والشر.

(٢) الحج: ٧٣.

٣٥٤

وبذلك يظهر أنّ للعموم الحاكم على المتعلّق في الآيات، أعني قوله تعالى:( كُلَّ شَيْءٍ ) ، وإضرابه دليلاً على أنّ المقصود حصر مطلق الخلق المتعلّق بالذوات والأفعال بالله سبحانه.

ثالثاً: انّ المقصود من التوحيد في الخالقية هو التوحيد في التأثير والإيجاد سواء أصح إطلاق الخلق عليه أم لا.(١) والمراد أنّ كل موجود ممكن غير مستقل في ذاته غير مستقل في فعله وتأثيره أيضاً، لأنّ غير المستقل في الذات والقوى والطاقات غير مستقل في أعمال هذه القوى والاستفادة من هذه الطاقات، إلّا أنّ كون الفاعل غير مستقل ليس بمعنى كونه مجبوراً ومضطراً في أعمال هذه القوى والطاقات، بل هو مخير في أعمالها على أي نحو شاء.

وتظهر حقيقة هذا المعنى بالتدبّر في الآيات التي تصف الله تبارك وتعالى بالقيومية كما في قوله سبحانه:( اللهُ لاَ إِله إلّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ) (٢) .(٣)

فإنّ معنى القيومية ليس إلّا قيام ما سواه ـ من ذات وفعل ومؤثر وأثر ـ به سبحانه ومعه كيف يمكن أن نصف الموجودات الإمكانية بالاستقلال في الفاعلية والتأثير.

سؤال في المقام

إذا كان المشركون لا يشكّون في موضوع « التوحيد في الخالقية »، فلماذا نجد

__________________

(١) نعم عند ذاك لا تصلح الآيات الحاصرة للخلق بالله سبحانه للاستدلال في المقام إلّا بضرب من التأويل، ولابد من الاستدلال بالآيات التي تحصر القيومية بالله سبحانه وغيرها من الآيات.

(٢) البقرة: ٢٥٥، وآل عمران: ٢.

(٣) وقوله سبحانه:( وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ ) ( طه: ١١١ ).

٣٥٥

القرآن ينهض لذم المشركين، ويذكرهم بأنّ معبوداتهم لم تخلق شيئاً ؟ كقوله :

( هٰذَاخَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين ) (١) .

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لإنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً ) (٢) .

( أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (٣) .

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) (٤) .

( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٥) .

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الأرضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمٰوَاتِ ) (٦) .

الجواب: انّ الهدف من التذكير بخالقية الله وحده وسلب الخالقية من غيره ليس لأنّ المشركين كانوا يعتبرون الأوثان خالقة، إنّما الهدف من طرح « حصر الخالقية بالله ونفيها من الأصنام » هو في الحقيقة « ردع » المشركين من عبادة غير الله

__________________

(١) لقمان: ١١.

(٢) الفرقان: ٣.

(٣) الرعد: ١٦.

(٤) الحج: ٧٣.

(٥) الروم: ٤٠.

(٦) فاطر: ٤٠.

٣٥٦

تعالى، ذلك لأنّ العبادة إنّما يستحقها من يكون متصفاً بالكمال ومنزّهاً عن أية نقيصة أو عائبة، وأي كمال أعلى من الاتصاف بالخالقية التي أسبغ صاحبها لباس الوجود على كل شيء مما سواه ؟

وبعبارة أُخرى فإنّ العبادة من مقتضيات المالكية والمملوكية، الناشئتين من الخالقية والمخلوقية، وإذ يعترف المشركون بأنّ الله هو الخالق دون سواه، فلماذا يعبدون غيره ؟ ولماذا لا يجتنبون عن عبادة من سواه ؟

وعلى هذا الأساس فإنّ إصرار القرآن الكريم ليس لأنّ المشركين كانوا يشكون في « التوحيد الخالقي » وغافلين عن هذه الحقيقة الساطعة الثابتة، بل لأنّهم كانوا غافلين عن لوازم التوحيد الخالقي، وهو: التوحيد في العبادة، فأراد الله بالتذكير بهذه الحقيقة أنّ يلفت نظرهم إلى لازمه وهو « التوحيد في العبادة ».

هذا وقد نقلنا لك فيما مضى بعض هذه الآيات(١) .

وقد ذكرت هذه الحقيقة ( أي حصر الخالقية في الله تعالى ) في آيات أُخرى بعبارة( الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) ، مثل قوله :

( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) (٢) .

( أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ والأرضِ بِقَادِر عَلَىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَىٰ وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) (٣) .

__________________

(١) راجع الآيات التالية: الأنعام: ١٠٢، فاطر: ٣، الزمر: ٦٢، غافر: ٦٢، الحشر: ٢٤ وغيرها.

(٢) الحجر: ٨٦.

(٣) يس: ٨١.

٣٥٧

وصفوة القول: إنّ السبب وراء طرح « حصر الخالقية في الله » ونفيها عمّا سواه، وكذا التنديد بالأوثان والأصنام بأنّها لا تقدر على خلق ذبابة،(١) وغير ذلك هو تنبيه الضمائر الغافلة عن عبادة الله وحده، لأنّه مع اعتراف المشركين بانحصار الخالقية في الله ونفيها عن المعبودات الأُخرى ( المصطنعة ) ينبغي أن يعبدوا الله وحده، الذي خلق كل شيء وأخرج جميع الموجودات من العدم إلى حيز الوجود والتحقّق لا أن يعبدوا ما سواه، من الأوثان والأصنام العاجزة عن فعل أو خلق شيء حتى ذبابة أو دفعها عن نفسها، وهذا هو ما تريد هذه الآيات التنبيه إليه.

سؤال

إذا لم يكن في الوجود من خالق غير الله، فكيف يصف القرآن عيسى المسيحعليه‌السلام بأنّه يخلق أيضاً حيث يقول حاكياً عنه :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (٢) ؟

ثم كيف يصف الله نفسه ـ بعد أن يذكر مراحل خلقه للإنسان ـ بأنّه( أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ، وفي ذلك اعتراف ضمني بوجود « خالقين » آخرين إلى جانب الله، إذ يقول :

( فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) (٣) ؟

__________________

(١) الحج: ٧٣( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً ) .

(٢) آل عمران: ٤٩.

(٣) المؤمنون: ١٤.

٣٥٨

إنّ الجواب: يتضح من التوجه إلى « استقلال » الله في التأثير والفعل، و « عدم استقلال » غيره في مقام الذات والفعل.

فالخالقية المنحصرة في الله غير قابلة لاتصاف الغير بها، ولا قابلة لإثباتها للغير، إذ هو مستقل أصيل في خلقه بمعنى أنّه لا يعتمد على شيء ولا يستعين بأحد ولا يحتاج لأذن آذن، ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم لم يصف أحداً بمثل هذه الخالقية دون الله تعالى.

أمّا الخلق والخالقية التي يكون المتصف بها معتمداً على الله، ومحتاجاً إلى قدرته وإرادته وعونه، فهي يمكن أن تثبت للمخلوقين، إذ لا مشاركة حينئذ مع الله في الصفة الثابتة له المذكورة سابقاً.

فكل شيء من أشياء هذا الوجود يكون خالقاً في حد نفسه عندما يكون مؤثراً لأثر وسبباً لمسبب، ولا ريب أنّ إثبات هذا النوع من الخالقية لغير الله لا ينافي « التوحيد الخالقي » على النحو الذي مر تفسيره وبيانه.

وربما يجاب عن هذا السؤال بأنّ لفظة « الخلق » تطلق ويراد منها الإيجاد من العدم تارة وأُخرى التقدير، والمراد من قوله سبحانه:( أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) هو المعنى الثاني، أي أقدر لكم من الطين كهيئة الطير.

غير انّ هذا الجواب لا يخالف مع ما اخترناه في هذا الفصل، فانّ التقدير وإن كان فعلاً للمسيح، إلّا أنّه بما هو ظاهرة كونية يحتاج إلى فاعل، وليس الفاعل القريب إلّا المسيحعليه‌السلام ، ولكنه ليس مستقلاً في فعله هذا، كما هو ليس مستقلاً في ذاته وإلاّ تلزم الثنوية في الفاعلية المستقلة، على ما أوضحنا برهانه فالتقدير مع كونه فعلاً له، فعل لله سبحانه، ونعم ما قاله الحكيم السبزواري في منظومته

٣٥٩

الفلسفية :

وكيف فعلنا إلينا فوضا

وإنّ ذا تفويض ذاتنا اقتضى

لكن كما الوجود منسوب لنا

فالفعل فعل الله وهو فعلنا(١)

سؤال آخر

إنّ حصر الخالقية في الله سبحانه ربما يستشم منه القول بالجبر ويكون المسؤول عن فعل العبد هو خالق الفعل والمفروض إنّه لا خالق سوى الله ؟

الجواب

إنّ هذا الإشكال ـ في الحقيقة ـ إنّما يتجه ويصح إذا قلنا بأحد الأصلين التاليين، وهما :

١. إنكار علّية أية ظاهرة من الظواهر الطبيعية، وإحلال خالقيته سبحانه مكان العلل الطبيعية، كما هو الظاهر من كل من أنكر قانون العلية في الأشياء وأراح نفسه بعادة الله.

٢. أن نعترف بعلية الموجودات الأُخرى ومشاركتها المباشرة في الآثار والأفعال، ولكن نعتقد بوجود نوع واحد من العلة في العالم فقط وهو العلة المضطرة المسيرة، لا أكثر.

فمع قبول أحد هذين الأصلين يتوجه الإشكال المذكور على ما قلناه ويتجه ولكن إذا أنكرنا كلا الأصلين المذكورين اتضح جواب الإشكال.

فبالنسبة للأصل الأوّل بحثنا فيما سبق وأوضحنا كيف أنّ البراهين الفلسفية

__________________

(١) شرح المنظومة: ١٧٥.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403