مفاهيم القرآن الجزء ٨

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 403

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 403
المشاهدات: 150503
تحميل: 4532


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150503 / تحميل: 4532
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 8

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-148-3
العربية

أ. أي زنى.

ب. أشرك وقتل النفس المحترمة.

ج. أو اقترف المعاصي الثلاث.

والاحتمال الأوّل من البعد بمكان، إذ لو كان المراد مطلق من زنىٰ، فما هو الوجه لمضاعفة العقاب الذي أُشير إليه بقوله:( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ) ، والاحتمال الثاني لا يوافق القواعد العربية إذ لا يصحّ أن يذكر المتكلم أُموراً ثلاثة ثمّ يشير إلى الأمرين الأُوليين بلا قرينة، فيتعين الاحتمال الثالث، أي من اقترف الأُمور الثلاثة، ويكون المراد من أشرك وقتل النفس المحترمة وارتكب الزنا.

وهذا مما لا خلاف فيه، لأنّ المشرك مخلد في النار، ويؤيد ذلك أمران :

أ. حكم عليه سبحانه بضعف العذاب، وهذا يناسب المشرك.

ب. استثنى في الآية التالية من تاب وآمن أي تاب من الشرك وآمن بالله، فهذا دليل على أنّ المستثنى منه هو من لم يؤمن بالله سبحانه، قال تعالى:( إلّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .(١)

وبما ذكرنا يتضح وجه مضاعفة العذاب، لأنّ الموضوع ليس هو مطلق المشرك بل المشرك الذي ضم إلى شركه في العقيدة، قبيحاً في العمل، وهو قتل النفس المحترمة وهتك الأعراض.

١٣. المعرضون عن القرآن

أوعد سبحانه المعرضين عن الذكر بالخلود في النار، يقول سبحانه:

__________________

١. الفرقان: ٧٠.

٣٢١

( كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا *مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا *خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً ) .(١)

إنّ الضمير في قوله:( خَالِدِينَ فِيهِ ) يرجع إلى الوزر بمعنى العبء الثقيل، والخلود في الوزر كناية عن الخلود في جزائه وهو العذاب، فينتج أنّ المعرض عن الذكر يخلد في العذاب.

ولكن المراد من المعرض ليس مطلق من أعرض عن تلاوته أو عن العمل ببعض أحكامه، بل من لا يؤمن بالقرآن فيتركه مهجوراً، وهو يساوق الكفر، ولذلك يصف سبحانه المعرضين عن القرآن بالكفر وعدم الإيمان، يقول سبحانه:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ) .(٢)

ولا شكّ أنّ المعرض بهذا النحو الوارد في الآية يساوق الكفر.

١٤. المُطَفَّفُون في الميزان

يقسّم القرآن الكريم الإنسان يوم المعاد إلى من ثقلت موازينه ومن خفت موازينه، فيقول:( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) .(٣)

وظاهر هذه الآية هو خلود مطلق من خفّت موازينه في النار سواء أكان مؤمناً أم كافراً.

__________________

١. طه: ٩٩ ـ ١٠١.

٢. الكهف: ٥٧.

٣. المؤمنون: ١٠٢ ـ ١٠٣.

٣٢٢

ولكن سياق الآيات يدل على أنّ المراد ممن خفّت موازينه هم المكذّبون بآيات الله سبحانه وأنبيائه، يقول سبحانه بعد هذه الآية:( أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ) .(١)

ويقول أيضاً:( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ *فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ) .(٢) فيستنتج ـ مع ملاحظة هذه الآيات ـ أنّ المحكومين بالخلود هم المكذبون وغير المؤمنين بيوم القيامة.

١٥. الآكلون للربا

أوعد الله سبحانه آكلي الربا بالخلود في النار، قال سبحانه :

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .(٣)

فالآية وإن كانت توعد مطلق آكل الربا بالخلود في النار ولكن قوله:( وَمَنْ عَادَ ) قرينة على أنّ المراد من لا يؤمن بتحريم الربا ويكرر قوله:( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ويترك قول الله سبحانه:( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) ، ومثل هذا هو ممن لا يؤمن بالتشريع السماوي والتقنين الإلهي.

وبعبارة أُخرى كان العرب في العصر الجاهلي يعتقدون بحلّية الربا

__________________

١. المؤمنون: ١٠٥.

٢. المؤمنون: ١٠٩ ـ ١١٠.

٣. البقرة: ٢٧٥.

٣٢٣

ومساواته مع البيع، وكانوا يتعاطونه في حياتهم، فمن انتهى عن هذا العمل بعد ورود النهي فله ما سلف وأمره إلى الله، وأمّا من لم ينزجر عنه ومكث على ما كان عليه، فأُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، ومثل هؤلاء لا يخرجون عن إطار الكفر حيث أنكروا الوحي والرسالة بالإصرار علىٰ موقفهم السابق.

١٦. قاتلو المؤمنين

يوعد القرآن الكريم من قتل مؤمناً متعمداً بالخلود في نار جهنم، يقول سبحانه:( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) .(١)

إنّ هذه الآية ذريعة أُخرى للقائلين بأنّ مرتكب الكبيرة يخلد في النار، حيث إنّه سبحانه حكم على من قتل مؤمناً بالخلود في نار جهنم، والآية تشمل المؤمن والكافر.

يذكر الطبرسي في شأن نزول الآية، ويقول :

نزلت في مقيس بن صبابة الكناني وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار فذكر ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل معه قيس بن هلال الفهري، وقال له: قل لبني النجار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه، وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته، فبلّغ الفهري الرسالة فأعطوه الدية، فلما انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان، فقال: ما صنعت شيئاً، أخذت دية أخيك فيكون سُبَّة(٢) عليك: اقتل الذي معك لتكون نفس بنفس والدية فضل، فرماه بصخرة فقتله، وركب بعيراً ورجع إلى مكة كافراً، وأنشد يقول :

__________________

١. النساء: ٩٣.

٢ ـ السُّبَّة: العار.

٣٢٤

قتلتُ به فهراً وحمّلتُ عقلَهُ

سراة بني النجار أرباب فارعٍ

فادركتُ ثأري واضطجعتُ مُوسَداً

وكنتُ إلى الأوثان أوّلَ راجعٍ

فقال النبي: « لا أُؤمنّه في حلٍّ ولا حرم » فقُتِلَ يوم الفتح.(١)

ولعل ما ذكره الطبرسي من سبب للنزول يؤيد قول القائلين بالخلود، ولكن المخالفين لهذا القول أجابوا عن الاستدلال بوجوه :

أ. انّ قوله:( مُّتَعَمِّدًا ) دليل على أنّ المحكوم بالخلود من قتل المؤمن لأجل إيمانه، فعندئذ تختص الآية بالكافر ولا يعم المسلم الذي يقتل أخاه لأجل هواه.

ب. الخلود كناية عن الإقامة الممتدة التي إذا طالت يعبر عنها بالخلود.

ج. الخلود وإن كان ظاهراً في التأبيد، ولكنه ليس أمراً قطعياً لاحتمال خروجه عن النار بالعفو والشفاعة، وقد مرّ قوله سبحانه:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ ) .(٢)

حصيلة البحث: انّ ما استدل به من الآيات مرجعها إلى أحد العناوين الأربعة التي لا شكّ في أنّ أصحابها من الخالدين في النار، وقد عرفت القرائن التي تؤكد هذا.

وأقصىٰ ما يمكن أن يقال: إنّ خصوص قاتل المؤمن مخلّد في النار لا كل الفساق ومرتكبي الكبائر وبذلك يتضح أنّ مضامين الآيات لا تنافي ما روي عن الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، قال: « لا يخلّد الله في النار إلّا أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك ومن اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر » فقلت له: يابن رسول الله فالشفاعة لمن تجب من المذنبين ؟

__________________

١. مجمع البيان: ٣ ـ ٤ / ١٤١.

٢. النساء: ٤٨.

٣٢٥

فقال: « حدّثني أبي عن آبائه، عن عليٍّعليه‌السلام قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل ».(١)

فلو دلّت الآية على أنّ قاتل المؤمن خالد في النار فليس معناه أنّ الخلود حكم قطعي في حقّه بحيث لا يمكن أن يتغيّر أو يتبدّل، بل معناه وجود المقتضي للخلود لو لم يمنع عنه مانع وهو شمول الشفاعة له.

يقول صدر المتألهين: إنّ الأشياء كلّها طالبة لذاتها للحق، مشتاقة إلى لقائه بالذات، وانّ العداوة والكراهة طارئة بالعرض، فمن أحب لقاء الله بالذات أحب الله لقاءَه بالذات، ومن كره لقاء الله بالعرض لأجل مرض طار علىٰ نفسه، كره الله لقاءه بالعرض، فيعذّبه مدة حتى يبرأ من مرضه ويعود إلىٰ فطرته الأُولى أو يعتاد بهذه الكيفية المرضية زال ألمه وعذابه لحصول اليأس، ويحصل له فطرة أُخرى ثانية، وهي فطرة الكفار الآيسين من رحمة الله الخاصة بعباده.

وأمّا الرحمة العامة فهي التي وسعت كلّ شيء، كما قال تعالى:( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) .(٢)

ثمّ نقل عن القيصري في شرح الفصوص كلاماً في خلود أهل النار، جاء فيه: انّ من اكتحلت عينه بنور الحقّ يعلم أنّ العالم بأسره عباد الله وليس لهم وجود وصفة وفعل إلّا بالله وحوله وقوته، وكلّهم محتاجون إلىٰ رحمته وهو الرحمن الرحيم، ومِنْ شأن مَن هو موصوف بهذه الصفات أن لا يعذب أحداً عذاباً أبداً، وليس ذلك المقدار أيضاً إلّا لأجل إيصالهم إلى كمالهم المقدر لهم، كما يذاب الذهب

__________________

١. توحيد الصدوق: ٤٠٧، الباب ٦٣، الحديث ٦.

٢. الأعراف: ١٥٦.

٣٢٦

والفضة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدره وينقص عياره، فهو متضمن لعين اللطف كما قيل: «وتعذيبكم عذب، وسخطكم رضا، وقطعكم وصل، وجوركم عدل».(١)

ثمّ إنّ ما ذكره صدر المتألهين أو الشيخ ابن عربي في الفتوحات كلام جدير بالاهتمام، فلو لم نقل به على الوجه الكلي فهو مقبول على نحو الموجبة الجزئية.





















__________________

١. الأسفار: ٩ / ٣٤٦، الفصل ٢٨ في كيفية خلود أهل النار.

٣٢٧

خاتمة المطاف

العصيان المحدود والعذاب الدائم

إنّ من المقرر في محله هو لزوم مساواة العذاب مع العصيان، وضرورة إقامة الموازنة بينهما وعندئذٍ يُطرح هذا السؤال وهو :

كيف يحكم علىٰ هؤلاء بالخلود في النار مع أنّ العصيان كان محدوداً بمقطع زماني خاص، ولكن الجزاء غير متناه، وهذا مخالف للعدل الذي يحكم به العقل ؟

هذا هو الإشكال الذي أثير بعد رحيل الرسول في أوساط المسلمين، ويجاب عن هذا السؤال بالنحو التالي :

لو كان الجزاء أمراً جعليّاً من قبل المقننين، كالحكم الصادر على السارق والغاصب والزاني لصحت الموازنة، لأنّ العقل يحكم بلزوم كون الجزاء علىٰ قدر الجرم، ولذلك يكون جزاء السارق أشدّ من جزاء السابّ بلسانه وإن كان كلٌّ منهما جرماً في نفسه.

وأمّا إذا كان الجزاء أمراً تكوينياً لازماً لوجود الجرم دون أن يكون هناك جعل قانوني فحينها تمتنع إقامة الموازنة بين الجرم والجزاء، ولذلك ربما يكون الجرم أمراً آنياً ويورث أثراً دائمياً.

ويتضح ذلك من خلال المثال التالي :

٣٢٨

إذا انتحر إنسان فقد ارتكب جرماً آنياً، ولكن خلّف جزاءً غير متناه وهو فقد الحياة، فإذا صحّ ذلك في الحياة الدنيوية، فليصح في الحياة الأُخروية، إذ ربما يكون الشرك بالله تعالى مخلِّفاً لظلمة نفسانية توجب العذاب الدائم الذي هو من ثمرات وجوده وملكاته التي اكتسبها في النشأة الدنيوية.

وبتعبير آخر: لو كانت صلة الجزاء بالعمل صلة اعتبارية بحيث يعتبره الجاعل جزاءً للعمل كان لهذا السؤال حظٌ من الصحة، فيقال كيف تكون الجريمة محدودة والجزاء غير محدود ؟!

وأمّا إذا كانت صلة الجزاء بالعمل صلة تكوينية علىٰ نحو يورث العمل في نفس المجرم هيئة راسخة لا تفارقه تكون مبدأ للجزاء وتعد من لوازم وجوده، فعند ذلك يسقط السؤال لأنّ ترتّب المعلول على العلة ترتب ضروري لا يمكن تحديده بزمان أو مكان.

ولعلّ في بعض الآيات والروايات إشارة إلى ما ذكرنا، يقول سبحانه:( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) (١) . كما ورد في الحديث النبوي: « الدنيا مزرعة الآخرة » والإنسان يحصد في النشأة الأُخرى ما زرعه في هذه النشأة فما يحصده عبارة عن نتائج أعماله.

يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : « العمل الصالح حرث الآخرة ».(٢)

هذا هو الجواب الإجمالي عن هذا السؤال، وقد بسطنا الكلام حوله في بحوثنا الكلامية.(٣)

__________________

١. الشورى: ٢٠.

٢. نهج البلاغة: الخطبة ٢٢١.

٣. راجع تلخيص الإلهيات: ٤٧٤.

٣٢٩





الفصل الخامس والعشرون

تجسّم الأعمال والملكات المكتسبة

مسألة تجسّم الأعمال والملكات من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم، وقد أشرنا إليها عند البحث عن ضرورة إقامة الموازنة بين العمل والجزاء، وحقيقته عبارة عن القول بأنّ للعمل الإنساني ظهورين :

ظهور بوجوده الدنيوي، وظهور بوجوده الأُخروي. فما يكتسبه من الأعمال الحسنة كالصلاة والصوم والحج أو ما يحقّقه من أعمال الخير كالزكاة والصدقة وما يقوم به من البر والإحسان كلّها أعمال دنيوية ولا ظهور لها بحسب هذه النشأة سوى ما نشاهده منها.

ولكنّ لها ظهوراً في النشأة الأُخروية بوجود يناسبها كالجنة ونعيمها وحورها وغلمانها وما تشتهيه الأنفس وتلتذّ به، فليس لها حقيقة وراء تلك الأعمال التي اكتسبها أو حقّقها في حياته، فالأعمال الدنيوية الصالحة تظهر بهذا النحو من الجزاء.

كما أنّ ما يقترفه الإنسان من الأعمال السيئة كالشرك بالله سبحانه وظلم العباد وهتك الأعراض وسفك الدماء في هذه النشأة تظهر في يوم القيامة بوجودها المناسب لها فتظهر بصورة الجحيم ونارها وما يواجهه من أنواع العذاب.

هذه هي حقيقة القول بتجسّم الأعمال، وقد سبق منّا القول أنّ من الشهود

٣٣٠

تجسّم الأعمال بواقعها الأُخروي كي لا تكون هناك ذريعة للمجرم.

فكما أنّ للأعمال ظهورين، فهكذا الحال للملكات التي يكتسبها الإنسان في هذه الدنيا، فتارة يكتسب ملكة الإطاعة والعدل، وأُخرىٰ يكتسب ملكة التمرد والعصيان، فلكلّ من الملكتين ظهور دنيوي وظهور أُخروي يتنعم الإنسان بواحدة منهما ويعذب بالأُخرى، وهكذا الحال في النيات.

يقول الحكيم السبزواري في هذا الصدد :

فاعتبار خُلقه الإنسانُ

مَلَكٌ أو أعجمُ أو شيطان

فهو وإن وحد دنيا، وزعا

أربعة عقبى فكان سبعاً

بهيمة مع كون شهوة غضب

شيمته وان عليه قد غلب

مكرٌ فشيطانٌ وإذ سجية

سنيّة فصورة بهيّة(١)

     

هذا إجمال ما ذكره أهل المعرفة في تجسّم الأعمال، وعلى ضوء ذلك فليس للجنة ولا للنار حقيقة وراء تجسّم الأعمال التي اكتسبها الإنسان.

ويمكن أن يقال إنّ تجسّم الأعمال يشكل حيزاً من الجنة والنار، ولكن لهما حقيقة أوسع من تجسم الأعمال.

فلنذكر من الآيات والروايات ما يدل عليه.

__________________

١. منظومة السبزواري: ٣٤٧، الفريدة الرابعة من المقصد الثالث.

٣٣١

تجسّم الأعمال على ضوء القرآن والروايات

إنّ هناك طائفة من الآيات تدل بوضوح على أنّ ما اكتسبه الإنسان من خير أو شر يجده أمامه يوم القيامة فيجزىٰ به.

١. قال سبحانه:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) .(١)

٢.( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إلّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) .(٢)

٣.( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ) .(٣)

فهذه الآيات تثبت أنّ نفس الأعمال التي اكتسبها واقترفها الإنسان يجدها أمامه يوم القيامة بأعيانها وتحضر بواقعها، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في كيفية الظهور و إلّا فالعمل نفس العمل، والواقعية محفوظة وظهورها مختلف.

هذه الآيات الثلاث أوضح ما في الباب للدلالة على تجسّم الأعمال، فانّ الآية الأُولى تصرِّح بحضور عمل الإنسان من خير وشر في النشأة الأُخرى، وأمّا كيفية التجسم فتستفاد من الآية الثانية والثالثة فهما صريحتان في أنّ عمل السوء ـ أعني: كتمان الحقيقة في مقابل ثمن بخس، أو أكل مال اليتيم ظلماً ـ يتجسّم بصورة النار، فكأنّ للعمل الدنيوي ظهورين، ظهور في الدنيا وهو ما يشاهده كلّ إنسان، وظهور في الآخرة هو تجلّيه بصورة النار المحرقة.

__________________

١. آل عمران: ٣٠.

٢. الكهف: ٤٩.

٣. التكوير: ١٤.

٣٣٢

ويؤيد ذلك أنّه سبحانه يصف الآخرة بأنّها يوم تبلى السرائر، ويقول:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) .(١) فكأنّ الحقيقة اختفت تحت اللثام فأضحت سراً مستوراً وفي ذلك اليوم تزول كافة الحُجُب وتظهر الحقيقة في أنصع صورها.

٤.( يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .(٢)

وظاهر الآية أنّ نور المؤمنين يسعى أمامهم في ذلك الطريق المظلم، وليس للنور مبدأ سوى وجودهم الذي يشع نوراً ويضيء الطريق كما تضيء مصابيح الحافلة، الطريقَ لسائقها فيسير على ضوئها.

ولأجل أنّه لم يكن لنور المؤمنين الساطع مبدأ سوى وجودهم، يسألهم المنافقون عن النظر إليهم بغية الانتفاع من نورهم كما يحكي عنهم سبحانه بقوله:( يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ) .(٣)

ولما كان النور هو تجسيد للعمل الصالح الذي اكتسبه المؤمن والمؤمنة في النشأة الأُولى يجابون بقولهم:( قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ) (٤) معرباً عن أنّ هذا النور هو ظهور لما قاموا به من الأعمال الصالحة، فمن لم يغتنم الدنيا في إقامة الأعمال الصالحة فهو محروم من هذا النور.

وليس أمرهم بالرجوع إلى الدنيا والتماس النور إلّا أمراً تعجيزياً، كقوله سبحانه:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) .(٥)

__________________

١. الطارق: ٩.

٢. الحديد: ١٢.

٣. الحديد: ١٣.

٤. الحديد: ١٣.

٥. البقرة: ٢٣.

٣٣٣

٥.( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) .(١)

والآية صريحة في أنّ الذهب والفضة يُحمىٰ عليها في نار جهنم فتكوىٰ بها جباه المكنزين وجلودهم وظهورهم.

كما أنّها صريحة في أنّ النار نفس ما اكتنزوه في النشأة الأُولى، فكأنّ للكنز ظهورين: ظهوراً بصورة الفلز وآخر بصورة النار المكوية، وهذا هو الذي ركزنا اهتمامنا عليه في صدر البحث، وهو أنّ لكلّ عمل من خير وشر ظهورين ووجودين حسب اختلاف النشآت.

٦.( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .(٢)

وظهور هذه الآية كظهور الآية السابقة وهو أنّ ما كان يبخل به الإنسان من الذهب والفضة وغيرهما يظهر في النشأة الأُخرى بهيئة سلسلة من نار تُطوِّق العنق وتلتف حوله وتقحمه النار.

٧.( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ) .(٣)

وظاهر الآية أنّ نفس العمل يؤتى به يوم القيامة، فيؤتى بالصلاة والزكاة بثوبهما المناسب للنشأة الأُخروية، وهكذا الحال في الأعمال الطالحة.

__________________

١. التوبة: ٣٤ ـ ٣٥.

٢. آل عمران: ١٨٠.

٣. لقمان: ١٦.

٣٣٤

٨.( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) .(١)

فالضمير في قوله:( يَرَهُ ) يرجع إلى العمل المستفاد من قوله:( يَعْمَلْ ) أو إلى الخير والشر، وعلى كلا التقديرين فالإنسان يرى عمله من صالح وطالح، فيرى السرقة والنميمة بوجودهما المناسب لتلك النشأة كما يرى الإحسان والعمل والخير بظهورها المناسب لتلك النشأة.

قال سبحانه:( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) .(٢)

٩. وفي آية أُخرى يقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) .(٣)

ويقول سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ) .(٤)

ويقول أيضاً:( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) .(٥)

فهذه الآيات تعد العصاة والأصنام والأوثان ( الحجارة ) وقوداً لنار جهنم، والوقود ما تشعل به النار، فيصير وجود الإنسان والأصنام المعبودة بؤرة نار تؤجج به نار الجحيم.

__________________

١. الزلزلة: ٧ ـ ٨.

٢. البقرة: ٢٤.

٣. التحريم: ٦.

٤. آل عمران: ١٠.

٥. الأنبياء: ٩٨.

٣٣٥

١٠.( وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) .(١) ويقول سبحانه:( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إلّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) .(٢)

فالآيتان ظاهرتان في أنّ الجزاء هو نفس العمل وليس الجزاء شيئاً وراء العمل فبظهوره حسب النشأة الأُخرى يجزى به الإنسان من صالح وطالح.

١١.( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) .(٣)

فالآية تؤكد على أنّ الإنسان كان في غفلة من يوم الوعيد، وانّ لكلّ نفس سائقاً وشهيداً، فهذه الحقيقة كانت مستورة عن الإنسان في هذه النشأة ويرتفع الغطاء عن بصره وبصيرته فيرىٰ ما خفي عليه ويتذكر وإن كان لا يجدي نفعاً، يقول سبحانه:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ) .(٤)

هذه هي الآيات التي يستنبط منها تجسّم الأعمال، وهي بحاجة إلى دراسة أوسع ممّا ذكرنا.

ففي هذه النشأة تتبدل الأفعال التي يقوم بها الإنسان إلى طاقة على خلاف ما في الآخرة، فتلك النشأة عبارة عن تبدل الطاقة المتجسمة بالأفعال إلى الأجسام الأُخروية والجواهر غير الدنيوية.

تجسّم الأعمال في الروايات

ثمة أحاديث تؤيد ما دلّت عليها الآيات القرآنية، نأتي بنماذج منها:

__________________

١. النحل: ٩٠.

٢. يس: ٥٤.

٣. ق: ٢٢.

٤. الفجر: ٢٣.

٣٣٦

١. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اتّقوا الظلم فانّها ظلمات يوم القيامة ».(١)

وكأنّ الظلم يتجلّىٰ في الآخرة بصورة الظلمة، فللظلم ظهوران دنيوي وأُخروي.

٢.وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فإذا أُخرجوا من قبورهم خرج مع كلّ إنسان عمله الذي كان عمله في دار الدنيا، لأنّ عمل كلّ إنسان يصحبه في قبره ».(٢)

٣. وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ضمن وصاياه لقيس بن عاصم: « إنّه لابدّ لك يا قيس من قرين يُدفن معك وهو حيّ، وتُدْفَن معه وأنتَ ميّت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يُحشَر إلّا معك ولا تُبعث إلّا معه ولا تُسأل إلّا عنه فلا تجعله إلّا صالحاً ».(٣)

٤. قال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : « وأعمال العباد في عاجلهم نصْب أعينهم في آجلهم ».(٤)

٥. روى أبو بصير قال: سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: « من أكل مال أخيه ظلماً ولم يرده إليه أكل جذوة من النار يوم القيامة ».(٥)

فكأنّ ما يأكله في هذه الدنيا يتجلّىٰ في الآخرة بهيئة جذوة من النار.

٦. وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « عش ما شئت فإنّك ميت، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه ».(٦)

__________________

١. الكافي: ٢ / ٣٣٢، باب الظلم من كتاب الكفر والإيمان، الحديث ١١.

٢. البرهان: ٤ / ٨٧ في تفسير قوله( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) من سورة الزمر.

٣. أمالي الصدوق: المجلس الأوّل، الحديث ٤.

٤. نهج البلاغة: قسم الحكم: الحكمة ٦.

٥. الكافي: ٢ / ٣٣٣، باب الظلم من كتاب الإيمان والكفر، الحديث ١٥.

٦. الكافي: ٣ / ٢٥٥، باب النوادر من كتاب الجنائز، الحديث ١٧.

٣٣٧

وقوله: « واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه » دليل على أنّ الإنسان يلاقي نفس العمل، وحمله على لقاء جزائه خلاف الظاهر.

٧. وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « ما من موضع قبر إلّا وقد ينطق كلّ يوم ثلاث مرّات » إلى أن قال: « فإذا دخله عبد مؤمن، قال: مرحباً وأهلاً، أما والله لقد كنت أحبك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني فسترىٰ ذلك، قال: فيفسح له مدّ البصر ويفتح له باب يرى مقعده من الجنة، قال أو يخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئاً قط أحسن منه فيقول: يا عبد الله ما رأيت شيئاً قط أحسن منك فيقول: أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه، وعملك الصالح الذي كنت تعمله ».(١)

والحديث صريح في تجسّم العمل الصالح بصورة إنسان جميل.

٨. وقال الإمام الصادقعليه‌السلام في حديث طويل: « إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثالٌ يقدمه أمامه، كلّما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة، قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزّوجلّ حتى يقف بين يدي الله عزّوجلّ فيحاسبه حساباً يسيراً، ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه، فيقول له المؤمن: يرحمك الله نعم الخارج، خرجت معي من قبري، وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك، فيقول: من أنت ؟ فيقول: أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله عزّوجلّ منه لأُبشّرك ».(٢)

٩. وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستُ صور، فيهن صورة هي أحسنهنّ وجهاً، وأبهاهنّ هيئة، وأطيبهنّ ريحاً ،

__________________

١. الكافي: ٣ / ٢٤١، باب ما ينطق به موضع القبر من كتاب الجنائز، الحديث ١.

٢. البحار: ٧ / ١٩٧، باب أحوال المتقين والمجرمين في القيامة من كتاب العدل والمعاد، الحديث ٦٩.

٣٣٨

وأنطقهنّ صورة، قال: فيقف صورة عن يمينه، وأُخرى عن يساره، وأُخرى بين يديه، وأُخرى خلفه، وأُخرى عند رجليه، ويقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه، فإن أتى عن يمينه، منعته التي عن يمينه، ثمّ كذلك إلى أن يؤتىٰ من الجهات الست، قال: فتقول أحسنهنّ صورة من أنتم جزاكم الله عني خيراً ؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه، أنا الصيام، وتقول التي خلفه، أنا الحج والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا بر من وصلت من إخوانك، ثمّ يقلن: من أنت ؟ فأنت أحسننا وجهاً، وأطيبنا ريحاً، وأبهانا هيئة، فتقول: أنا الولاية لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ».(١)

١٠. روى الصدوق بسنده عن العلاء بن محمد بن الفضل، عن أبيه، عن جده، قال: قال قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دخلت وعنده الصلصال بن الدلهمس، فقلت: يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فانّا قوم نعبر في البرية.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا قيس إنّ مع العز ذلاً، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكلّ شيء حسيباً وعلى كلّ شيء رقيباً، وإنّ لكلّ حسنة ثواباً ولكلّ سيئة عقاباً، ولكلّ أجل كتاباً، وانّه لابدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتُدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك ثمّ لا يحشر إلّا معك ولا تبعث إلّا معه ولا تُسأل إلّا عنه، فلا تجعله إلّا صالحاً، فانّه إن صلح آنست به، وإن فسد لا تستوحش إلّا منه وهو فعلك.(٢)

هذه هي بعض الأحاديث الدالة علىٰ تجسّم الأعمال، ومن أراد الاستقصاء فعليه الرجوع إلى الجوامع الحديثية.

وقد حان البحث في تجسم الأعمال من منظار العقل والعلم.

__________________

١. المحاسن للبرقي: ١ / ٢٨٨، الحديث ٤٣٢.

٢. أمالي الصدوق: ١٢ ح ٤، المجلس الأوّل.

٣٣٩

تجسّم الأعمال من منظار العقل والعلم

إلى هنا وقفت على أدلة تجسّم الأعمال من جانب الكتاب والسنّة، وإكمال البحث يفرض علينا طرحه على صعيد العقل والعلم.

إنّ لفيفاً من المفسرين والمتكلّمين أنكروا تجسّم الأعمال وقالوا بامتناعه، وأوّلوا ما ورد من الآيات والروايات في ذلك المقام، والسبب الداعي إلى ذلك أمران :

أ. إنّ ما يقوم به الإنسان من الأعمال الصالحة والطالحة يفنىٰ بعد تحقّقه وتذهب سدىٰ، فكيف يمكن إعادته بعد انعدامه ؟!

ب. إنّ الأعمال من مقولة العرض، وهو قائم بالجوهر، ومعنىٰ تجسّمها هو تحقّق العرض بلا جوهر، وهذا أمر محال.

هذا هو الشيخ الطبرسي ينقل في تفسير قوله سبحانه:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا ) ، الكلام التالي :

اختلف في كيفية وجود العمل محضراً، فقيل: تجد صحائف الحسنات والسيئات، عن أبي مسلم وغيره، وهو اختيار القاضي.

وقيل: ترىٰ جزاء عملها من الثواب والعقاب، فأمّا أعمالهم فهي أعراض قد بطلت، ولا تجوز عليها الإعادة فيستحيل أن ترىٰ محضرة.(١)

وفي المقابل، هناك من يرفض تلك النظرية ويصحّح تجسّمها بالبيان التالي :

يقول بهاء الدين العاملي: إنّ الحيّات والعقارب، بل والنيران التي تظهر في القبر والقيامة، هي بعينها الأعمال القبيحة والأخلاق الذميمة والعقائد الباطلة التي ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة وتجلببت بهذه الجلابيب، كما أنّ الروح

__________________

١. مجمع البيان: ١ / ٤٣١، ط صيدا.

٣٤٠