مفاهيم القرآن الجزء ٨

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 167149 / تحميل: 5802
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٨

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-١٤٨-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ *قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) .(١)

والآيتان تتعرضان لأُمور ثلاثة :

الأوّل: الشبهة العالقة في أذهانهم، وهو قوله:( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ ) .

الثاني: الجواب عن الشبهة، أعني قوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم ) وسيوافيك بيانها في البحث التالي.

الثالث: بيان الدافع الحقيقي للإنكار، وأنّه ليس هو الشبهة كما يدّعون، بل الدافع هو انّهم كفروا بلقاء الله وأنكروه.

إلى هنا تبيّنت الحوافز التي كانت تدفعهم إلىٰ إنكار المعاد.

نعم كانت لهم شبهات عقيمة طرأت على عقولهم وأذهانهم حالت دون الإيمان بالمعاد، وهذا ما سنقوم باستعراضه في البحث التالي :

الشبهات حول المعاد

قد تعرض الذكر الحكيم إلىٰ شبهاتهم في آيات عديدة، ونحن نذكر منها ما يربو علىٰ عشر شبهات على وجه الإيجاز.

١. لا دليل على المعاد

كان المنكرون للمعاد يتظاهرون بعدم توفر الدليل عليه، يقول سبحانه :

( وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ

__________________

١. السجدة: ١٠ ـ ١١.

٤١

إِن نَّظُنُّ إلّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) .(١)

فقوله:( وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) أي ليس هناك دليل يجرنا إلى الإذعان به و إلّا اتّبعناه، ونظيره قوله سبحانه:( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٢)

فانّ الاستفهام الإنكاري الذي يتضمنه قوله:( أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا ) يحكي عن أنّ المعاد أمر مبهم لا يمكن الإذعان به.

٢. الإيمان بالمعاد أُسطورة

كان المنكرون للمعاد يعتقدون انّه أُسطورة تاريخية حيكت في القرون الغابرة وليس أمراً جديداً، يقول سبحانه حاكياً عنهم:( لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَٰذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَا إلّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) .(٣)

ولم يكن المعاد نسيجَ وحده في ذلك الاتهام المزعوم بل شاركه الدين ومعارفه، يقول سبحانه، حاكياً عنهم:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .(٤)

وكأنّهم ماعقلوا أنّ التجدّد ليس آية الحقّ ولا التقدم آية البطلان، والحقائق تابعة لبراهينها.

٣. الدعوة إلى المعاد: افتراء على الله

كانت ثلّة من الناس تزعم أنّ الدعوة إلى المعاد افتراء على الله والداعي إليه إمّا كاذب عمداً أو مجنون لا اعتبار بقوله، قال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ

__________________

١. الجاثية: ٣٢.

٢. الرعد: ٥.

٣. المؤمنون: ٨٣.

٤. الفرقان: ٥.

٤٢

كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ *أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) .(١)

فالآية تتضمن شبهتين: إحداهما: امتناع إعادة البدن البالي، وثانيتهما: إنّ القائل به إمّا كاذب أو مجنون، وهذا التردّد منهم نابع من الخدعة والمكر وإخفاء الحقيقة، وربما يكون في وصفه بالكذب فقط إثارة لتعصّب الآخرين.

٤. الدعوة إلى المعاد: وإحياء الآباء

وربما تمسك البعض بشبهة عجيبة وهي أنّ الداعي إلى المعاد لو كان صادقاً فليأت بآبائنا حتى نرى رجوعهم إلى الحياة بأُمّ أعيننا، ونذعن بأنّه سبحانه يقدر على إحيائنا يوم القيامة، قال سبحانه:( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إلّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .(٢) ولقد وقعت تلك الشبهة ذريعة لإنكار المعاد.

فلو قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بإحياء أقارب الكافرين لجاءته الطلبات تترى عليه من كلّ حدب وصوب وهو أمر غير معقول، و إلّا لعلّق كلّ إنسان إيمانه بالمعاد بإحياء شخص من ذويه.

٥. الدعوة إلى المعاد: دعوة ساحرة

وقد اتّهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه يتشبّث بالسحر والشعبذة في دعوته إلى المعاد، قال سبحانه:( وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) .(٣)

__________________

١. سبأ: ٧ و ٨.

٢. الجاثية: ٢٥.

٣. هود: ٧.

٤٣

كما ونسبت سائر معجزاته إلى السحر والشعبذة، قال سبحانه:( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ *وَقَالُوا إِنْ هَٰذَا إلّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) .(١)

٦. الدعوة إلى المعاد خارجة عن نطاق القدرة

كان بعض الناس يتصورون أنّ إحياء الموتى أمر محال، وقد انعكس ذلك في الآية التالية:( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (٢) .وسيوافيك أجوبة تلك الشبهة.

٧. إحياء الأموات أمر عسير

لقد أشار القرآن إلى هذا النوع من الاعتراض وأجاب عليه سبحانه:( إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) .(٣) وقال سبحانه:( ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) (٤) ، وقال عزّ من قائل:( وَذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) .(٥) بل انّه سبحانه يصور الإحياء بعد الإماتة من السهولة بمكان أنّه قادر عليه في زمن أدنى من لمح البصر، قال سبحانه:( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) (٦) وفي آية أُخرى يصف المعاد بأنّه أهون من الإبداع، قال سبحانه:( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (٧) .

نعم وصف الإعادة بالأهونيّة بالنسبة إلى الإبداع إنّما هو من منظار فكر البشر، لأنّ الإبداع خلق بلا مادة متقدمة بخلاف الإعادة فانّه تصوير لمادة

__________________

١. الصافات: ١٤ ـ ١٥.

٢. يس: ٧٨.

٣. العنكبوت: ١٩.

٤. ق: ٤٤.

٥. التغابن: ٧.

٦. النحل: ٧٧.

٧. الروم: ٢٧.

٤٤

موجودة والثاني أهون عند البشر من الأوّل، وأمّا بالنسبة إليه سبحانه فالجميع علىٰ حدّ سواء.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « وما الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء ».(١)

٨. الموت فناء للإنسان

كان الناس في عصر الرسالة يتصوّرون أنّ الموت فناء للإنسان وانحلال له، فكيف يمكن إعادته ويحكيه سبحانه عنهم بقوله:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٢) وسيوافيك الإجابة عنها في الفصل التالي.

٩. فقدان الصلة بين الدنيا والآخرة

إنّ الإنسان إذا مات فقد عُدِم ولم يبق من إنسانيته شيء، فإذا أحياه الله سبحانه ثانية ـ علىٰ سبيل الفرض ـ فلم يكن هناك صلة بين الحياتين، وهذه الشبهة أجاب عنها الذكر الحكيم، بقوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (٣) وحاصل الآية أنّ الصلة بين الحياتين، والتي علىٰ ضوئها يحكم بأنّ المعاد نفس المبتدى، عبارة عن النفس الخالدة التي بها تتجلىٰ شخصية كلّ إنسان في كلتا النشأتين.

ولـمّا كانت النفس في المبتدى والمعاد واحدة يحكم على الثانية بأنّها نفس الأُولى، وسيوافيك تفصيله.

__________________

١. نهج البلاغة: الخطبة ١٨٥.

٢. السجدة: ١٠.

٣. السجدة: ١١.

٤٥

١٠. الدعوة إلى المعاد والأجزاء المبعثرة المختلطة

إنّ الموت عبارة عن اندثار أجزاء البدن واختلاط ذراته، فكيف يمكن حشر جميع الناس وقد امتزجت ذرات أبدانهم الرميمة بعضها مع بعض في الدنيا ؟ وقد أشار الذكر الحكيم إلى تلك الشبهة وجوابها وقال:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) .(١) والشبهة وإن لم تكن مذكورة صريحة لكن التأكيد علىٰ علمه سبحانه بالغيب وعدم عزوب مثقال ذرة عنه يوضح لنا حقيقة الشبهة، لذلك نرى انّه سبحانه يؤكد في آية أُخرى على علمه بكلّ شيء، قال سبحانه:( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .(٢) والإمعان في الآية يرشدنا إلى أنّ شبهتهم تدور حول محورين :

الأوّل: امتناع تعلّق القدرة بإحياء العظام الرميمة.

الثاني: عدم إمكان تشخيص الأجزاء المتفرقة.

والله سبحانه يجيب عن الشبهة الثانية في الآية نفسها بقوله:( وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

إلى هنا تمّ بيان الدوافع النفسية والسياسية والشبهات التي طرحوها والتي كانت تصدّهم عن الإيمان بالمعاد، فلنأت بملخص شبهاتهم التي مرت عليك :

١. لا دليل على المعاد، ٢. الإيمان به أُسطورة، ٣. الدعوة إلى المعاد افتراء

__________________

١. سبأ: ٣.

٢. يس: ٧٨ ـ ٧٩.

٤٦

على الله، ٤. المعاد وإحياء الآباء، ٥. الدعوة إلى المعاد: دعوة ساحرة، ٦. المعاد: خارج عن نطاق القدرة، ٧. المعاد أمر عسير، ٨. الموت فناء مطلق فلا يبقىٰ موضوع للإعادة، ٩. فقدان الصلة بين الدنيا والآخرة، ١٠. المعاد: والأجزاء المبعثرة المختلطة.

٤٧





الفصل الرابع :

نقد الشبهات الواردة حول المعاد

قد تعرفت على الشبهات التي ساورت الكافرين حول الدعوة النبوية إلى المعاد، وقد ناف عددها علىٰ عشر شبهات، وأكثرها سخيفة لا تستحق الإجابة، إنّما المهم منها هي الشبهات التالية :

الشبهة الأُولى: المعاد فوق نطاق القدرة.

الشبهة الثانية: المعاد والعظام البالية.

الشبهة الثالثة: المعاد والعلم الإلهي.

الشبهة الرابعة: الصلة بين الحياتين: الدنيوية والأُخروية.

الشبهة الأُولى: المعاد فوق نطاق القدرة

ذهب المنكرون للمعاد إلىٰ أنّ إحياء الموتىٰ أمر غير ممكن إمّا ذاتاً أو وقوعاً، والفرق بينهما واضح. ففي الأوّل يكفي تصوّر الموضوع في الحكم على الامتناع، كما هو الحال في الحكم باجتماع النقيضين أو الضدين.

وأمّا الثاني: فلا يكفي تصور الموضوع بالحكم عليه بالامتناع إلّا أنّه ربما يمتنع لأجل عارض خارجي طرأ علىٰ ماهية الموضوع، مثل امتناع تمييز الأجزاء

٤٨

فلم يكن الإحياء في حدّنفسه محالاً وإنّما استحالته لأجل اختلاط ذرات الأبدان البالية بعضها ببعض.

وقد أجاب سبحانه عن تلك الشبهة بأجوبة مختلفة قالعة للشك، وإليك بيانها :

١. سعة قدرته سبحانه

إنّ المنكر للبعث والنشور يتخذ قدرة الإنسان المحدودة مقياساً للجواز والامتناع، مع أنّ المقياس في المعجزات والكرامات والأُمور الخارقة للعادة هو قدرته سبحانه الواسعة، فلو كان المنكرون يقدرون الله تعالى حقّ قدره ويعرفون شأنه لما أنكروا إعادة المعاد، قال سبحانه:( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ *وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إلّا مَن شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) .(١)

والمراد من القدر في الآية هو الشأن أي ما عرفوا شأنه وكماله، ومن شؤون معرفته سبحانه هو معرفة قدرته.

وبما أنّ البرهان على إمكان المعاد هو سعة قدرته، نرى أنّه سبحانه يذكر المعاد ويردفه بسعة القدرة إمّا متقدماً عليه كما في الآيتين الماضيتين، فقد ذكر سعة قدرته ثمّ أردفه بالنفخ في الصور، أو متأخراً عنه، قال سبحانه:( أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(٢) وقال سبحانه:( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(٣)

__________________

١. الزمر: ٦٧ ـ ٦٨.

٢. البقرة: ١٤٨.

٣. هود: ٤.

٤٩

ففي هاتين الآيتين يذكر المدعىٰ ثمّ يأت بدليله، وهو قدرته على كلّ شيء، وحيث إنّ إحياء الموتى أمر ممكن بالذات وليس محالاً فسعة قدرته شاملة لهذا المورد أيضاً.

٢. البعث وخلق السماوات والأرض

إنّ الذي يبعث الموتى هو خالق السماوات والأرض، فالقادر على الثاني أولى بأن يكون قادراً على الأوّل فخلق السماوات والأرض أكبر من خلقهنّ، قال سبحانه:( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) (١) بناء على أنّ الضمير في( مِثْلَهُم ) يرجع إلى خلق الإنسان وإحيائه، وقال سبحانه:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ المَوْتَىٰ ) (٢) .(٣)

وأساس الاستدلال في الثاني غيره في الأوّل، فقد اعتمد سبحانه في الدليل الأوّل علىٰ سعة قدرته، وفي الثاني استدل بالخلق الأشد والأعظم علىٰ إمكان خلق غيره قياساً أولوياً.

٣. قياس المعاد بالمبدأ

إنّ من الدلائل الواضحة علىٰ إمكان الشيء وقوعه، هذا من جانب ومن جانب آخر حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فهاتان القاعدتان تدلان علىٰ إمكان المعاد، فإذا كان خلق الإنسان بدءاً أمراً ممكناً، فهذا يدل

__________________

١. يس: ٨١.

٢. الأحقاف: ٣٣.

٣. لاحظ سورة الإسراء: ٦٩.

٥٠

على أنّ ماهية الإنسان ممكنة و إلّا لما وجد فرد واحد منه، فإذا كان الفرد الأوّل ممكناً فالفرد الثاني والثالث وجميع الأمثال، يسودها حكم واحد، فالله سبحانه هو المبدئ وهو المعيد، فليس الخلق الجديد أشد من الخلق القديم، وإلى ذلك البرهان يشير قوله سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) إلى أن قال:( فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .(١)

ويقول عزّ من قائل:( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَىٰ *أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ المَوْتَىٰ ) (٢) ترى أنّه سبحانه يشرح خلق الإنسان والمراحل التي مرّ بها إلى أن يخرج بقوله:( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَىٰ ) ثمّ يعقبه بقوله:( أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ المَوْتَىٰ ) فيجعل خلق الإنسان بدءاً، دليلاً على إمكان معاده.

إلى هنا تمت أجوبة الشبهة الأُولى وهي امتناع الإحياء، وثبت جوازه بوجوه ثلاثة اقتبسناها من الذكر الحكيم.

الشبهة الثانية: المعاد والعظام البالية

كان المنكرون يؤكِّدون على العظام البالية وانّه كيف يمكن إحياؤها ؟ ويعبِّرون عنها بتعابير مختلفة، فتارة يقولون:( مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (٣) ، وأُخرى:( أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) (٤)

__________________

١. الإسراء: ٤٩ ـ ٥١.

٢. القيامة: ٣٦ ـ ٤٠.

٣. يس: ٧٨.

٤. الإسراء: ٤٩.

٥١

ونظيرها في الآية ٩٨، وثالثة:( أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً *قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ) .(١)

إلى غير ذلك من الآيات التي تعبر عن شبهاتهم بأنّ العظام البالية لا يمكن إعادة الحياة فيها، يقول سبحانه حاكياً عنهم:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ) .(٢)

وقد أجاب الذكر الحكيم عن تلك الشبهة التي ليست ـ في الواقع ـ إلّا استبعاداً لا برهاناً بهدايتهم إلى خلق الإنسان والنبات من التراب.

تجلّي القيامة في خلق الإنسان والنبات

إنّ الإنسان يرى بأُمّ عينيه في كلّ يوم نموذجاً مصغراً من البعث في خلق الإنسان ونمو الأشجار وتفتح الأزهار.

أمّا الأوّل فيعطف نظر المنكر إلى أنّ بدء خلق الإنسان هو التراب، فالله سبحانه بقدرته ومشيئته أضفى على ذلك التراب حياةً ونمواً وصورة إلىٰ أن صار إنساناً، فهو سبحانه قادر علىٰ أن يضفي علىٰ ذلك التراب أيضاً مثلما أضفىٰ على الأوّل.

وأمّا الثاني فالإنسان طيلة حياته يرى بأُم عينيه إحياء الأرض وتفتَّح البراعم والأزهار على الأشجار، فالأرض بحركتها تُحيي ما كان ميتاً في فصل الشتاء، فالقادر علىٰ إحياء الأرض قادر على إحياء الموتىٰ. ترى ذينك البيانين بوضوح في الآيات التالية :

قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن

__________________

١. النازعات: ١١ ـ ١٢.

٢. النمل: ٦٧.

٥٢

تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) .(١)

ترى أنّه سبحانه يذكر في المقطع الأوّل خلق الإنسان من تراب، ثمّ يسرد المراحل التي مرّت على خلق الإنسان، ويذكر في المقطع الثاني اهتزاز الأرض بعد أن كانت هامدة وإنباتها من كلّ زوج بهيج، ثمّ بعد ذلك يرتب عليه إمكان إحياء الموتىٰ، ويقول :

( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ) .(٢)

وقد جاء ذلك البيان في القرآن غير مرّة، فيذكر حياة الأرض واهتزازها عقب هطول المطر وظهور الثمار على الأشجار بعد سباتها، ثمّ يذكر إحياء الموتىٰ، يقول سبحانه:( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .(٣)

ويقول سبحانه أيضاً:( وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ) .(٤)

__________________

١. الحج: ٥.

٢. الحج: ٦ ـ ٧.

٣. الأعراف: ٥٧.

٤. الزخرف: ١١.

٥٣

فهذه الآيات تذكر الإنسان نماذج من إحياء الموتى، كخلق الإنسان من تراب وإحياء الأرض بالنبات والأشجار حتى يمحو تلك الشبهة العالقة في ذهنه.

الشبهة الثالثة: المعاد والعلم الإلهي

كان المنكرون يعتمدون في إنكارهم علىٰ شبهة ثالثة، تنحل إلى أمرين :

الأمر الأوّل: إنّ انتشار ذرات بدن الإنسان البالي يوجب اختلاط تلك الذرات، فكيف يمكن تمييز بعضها عن بعض ؟

وبعبارة أُخرىٰ: إذا تعلّق المعاد بإحياء الناس كافة مع اختلاط ذرات بعضهم ببعض، فكيف يمكن التمييز بين هذه الذرات المختلطة ؟ ولعلّ الآية التالية ناظرة إلى هذا الجانب من الشبهة، قال سبحانه حاكياً عنهم:( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) .(١)

والجواب ما تذكره الآية التالية:( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) .

فالآية الثانية تفسر بجوابها واقع الشبهة.

الأمر الثاني: كيف يمكن الإحاطة بالأعمال التي صدرت عن الإنسان خيرها وشرها، وتمييز عمل كلّ أحد عن عمل الآخر حتى يجزى على وفق أعماله ؟ وكانت الشبهة نابعة عن عجزهم عن درك علمه وسعته والله سبحانه يجيب عن الشبهة، ويقول:( مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إلّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) .(٢)

__________________

١. ق: ٣.

٢. لقمان: ٢٨.

٥٤

فليس خلق الناس جميعاً ولا بعثهم إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها، فإذا كان الثاني أمراً ممكناً غير عسير فخلق الجميع وبعثهم مثله.

وقد شغلت هذه الشبهة العقول منذ عصور غابرة، وذلك عندما دعا موسى فرعون إلى عبادة الربّ فخاطبه فرعون بقوله:( فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ ) فأجاب موسى، بقوله:( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) .

وعندها دار بينه وبين فرعون ذلك الحوار الذي نوّه فيه إلى تلك الشبهة والتي يذكرها الذكر الحكيم بقوله:( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَىٰ *قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) .(١)

يقول فرعون: فما بال الأُمم الماضية، فانّها لم تقر بالله ومن تدعو إليه، بل عبدت الأصنام والأوثان مثل قوم نوح وعاد وثمود ؟ فيجيب موسىٰ بأنّ أعمالهم محفوظة عند الله ومكتوبة في لوح خاص يجازيهم بها، فما يذهب عليه شيء ولا يخطأ ولا ينسى.

الشبهة الرابعة: الصلة بين الحياتين: الدنيوية والأُخروية

هذه الشبهة هي الأخيرة من الشبهات الأربع التي انتخبناها، وحاصلها: انّ الموت فناء للإنسان وإعدام له، فبموته تبطل شخصيته وكيانه، فإذا تعلّقت مشيئته سبحانه بإحيائه ليجزيه وفق أعماله فلا صلة بين الحياتين ولا بين الشخصين، فكيف يمكن القول بأنّ المعاد هو نفس الإنسان الذي مات وبطلت شخصيته ؟

وهذه الشبهة هي التي يبيّنها قوله تعالى عنهم:( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٢)

__________________

١. طه: ٥١ ـ ٥٢.

٢. السجدة: ١٠.

٥٥

وهذه الآية وإن لم تكن صريحة في بيان الشبهة، لكن يوضّحها ما أجاب به سبحانه عنها، بقوله :

( بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) وقد مرّ بيانه.

( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .(١)

ولا يقف الإنسان علىٰ حقيقة الجواب إلّا بإمعان النظر في قوله:( يَتَوَفَّاكُم ) ، فليس المراد من التوفّي هو الموت كما هو الدارج على الألسن، بل المراد منه هو الأخذ، وقد فسره به ابن منظور في لسان العرب.(٢)

ويفسره أمين الإسلام الطبرسي، بقوله: أي يقبض أرواحكم جميعاً.(٣)

وعلى ذلك فالقرآن يرد على الشبهة بأنّ حقيقة الإنسان عبارة عمّا يأخذه ملك الموت الذي وكّل بأخذه بأجمعه وهو شيء لا يضلَّ في الأرض، وأمّا الضالّ في الأرض كالعظام البالية والأجزاء المتلاشية فهي طارئة على الإنسان.

فإذا كانت حقيقة الإنسان محفوظة عند الربّ بأجمعها، فالإتيان به يوم الحشر إتيان لنفس الإنسان الذي عاش في الحياة الدنيا.

وإن شئت قلت: الإنسان مؤلَّف من بدن وروح، فالبدن قشر والروح هو الأصل، والحافظ للوحدة بين البدنين هو الروح، فإذا كانت الروح باقية في كلتا النشأتين فلا تضرُّ بشخصيته، فيصدق على المحيا في النشأة الأُخرى، أنّه نفس الإنسان الذي عاش في نشأة الدنيا.

ونلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الآية ليست ناظرة إلىٰ بيان أنّ المعاد

__________________

١. السجدة: ١١.

٢. لسان العرب: ١٥، مادة وفى.

٣. مجمع البيان: ٤ / ٣٢٨.

٥٦

روحاني لا جسماني بل هي ساكتة عن هذا الأمر، وإنّما يعلم ذلك من خلال الآيات الأُخرىٰ الدالّة على أنّ المعاد روحاني وجسماني.

بل هي ناظرة إلىٰ دفع الشبهة العالقة في الأذهان، وهي كيف يمكن جزاء الإنسان في النشأة الأُخرىٰ بالأعمال التي اكتسبها في النشأة الدنيا مع أنّه بموته بطلت شخصيته وانفصمت وحدته.

فيجيب سبحانه بأنّ الحافظ للوحدة، هو وحدة الروح والنفس، في أيّ بدن دخلت، وبأي بدن حشرت، فهناك صلة قويمة بين الحياتين.

نعم دلّت الآيات على أنّه سبحانه سيجمع عظامه ورفاته فينشئ نفس ما أنشأه في الحياة الدنيوية.

قال سبحانه:( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .(١)

هذا هو جواب الذكر الحكيم عن الشبهة، وهو مبني علىٰ تجرّد الروح عند الموت الذي يصحح بقاءه وإن فسدت مادته وتناثرت أوصاله، وهذا الجواب مدعم بدلائل عقلية دامغة، وإليك بيانها :

البرهان الأوّل: ثبات الشخصية في دوّامة التغيير

إنّ الإنسان منذ نعومة أظفاره إلىٰ ريعان شبابه إلى كهولته وشيخوخته في دوامة التغيّرات والتحوّلات، وهو أمر ملموس لكلّ إنسان.

وعلى الرغم من ذلك فثمّة أمر ثابت غير متغير يواكبه في جميع تلك التغييرات والتحولات وإليه ينسب أفعاله كلّها التي صدرت منه طيلة حياته، وهذا الأمر الثابت يعبّر عنه بـ‍ « أنا ».ويقول كنت طفلاً رضيعاً ثمّ صرت مراهقاً ثمّ

__________________

١. يس: ٧٩.

٥٧

شاباً ثمّ كهلاً وشيخاً هرماً، وهذا يدل على أنّ المنسوب إليه أمر ثابت في منأىٰ عن طروء التحول والتغير عليه، وما هذا شأنه فهو مجرّد لا مادي.

وبتعبير آخر: انّ الجانب المادي للإنسان عبارة عن البدن الذي يتألف من خلايا كثيرة التي لم تزل في تحول وتغير مستمر، وهذه الخلايا تقطع أشواطاً طويلة حتى تصل إلى الهرم ثمّ تموت وتحل محلها خلايا أُخرىٰ جديدة، هذا من جانب، ومن جانب آخر يلمس كلّ إنسان أنّ ثمّة أمر ثابت لا يتغير بتغير الزمان ويكون محوراً لتلك التغييرات، وهو عبارة عن بقاء ذاته وشخصيته وإنيّته عبر الزمان.

فثبت من ذلك أمران :

أ. الجانب المادي في مهبِّ التغيّرات والتحوّلات.

ب. الجانب الروحي والنفسي ثابت غير خاضع للتغيّر.

فنستنتج من هاتين المقدمتين: أنّ النفس الإنسانية التي تدور عليها شخصيته وذاته أمر غير مادي بشهادة أنّها غير خاضعة لآثار المادة.

البرهان الثاني: علم الإنسان بنفسه مع الغفلة عن بدنه

إنّ الإنسان قد يغفل في ظروف خاصة عن كلّ شيء حتى عن بدنه وأعضائه وما حوله من الأشياء ولكن لا يغفل أبداً عن نفسه سليماً كان أم سقيماً، وهذا يدل على أنّ المغفول عنه غير اللا مغفول عنه.

توضيحه: تخيّل نفسك في حديقة غنّاء زاهرة وأنت مستلق لا تُبصر أطرافك، ولا تنتبه إلىٰ شيء، ولا تتلامس أعضاؤك، لئلّا تحس بها، بل تكون منفرجة ومرتخية في هواء طلق، لا تحس فيه بكيفية غريبة من حرّ أو برد أو ما

٥٨

شابهه ممّا هو خارج عن بدنك، فانّك في مثل تلك الحالة تغفل عن كلّ شيء حتى عن أعضائك الظاهرة وقواك الداخلية فضلاً عن الأشياء التي حولك، إلّا عن ذاتك فلو كانت الروح نفس بدنك وأعضائك وجوارحك وجوانحك، للزم أن تغفل عن نفسك إذا غفلت عن أعضائك والتجربة أثبتت خلافه.(١)

البرهان الثالث: عدم الانقسام في الشخصية

إنّ من آثار المادة هو التجزئة والانقسام، فكلّ أمر مادي حتى الجزء الذي يسمّونه بما لا يتجزّأ أمر منقسم عند العقل وإنْ تعذر تقسيمه بالأجهزة الحديثة، فما يسمّىٰ في الفيزياء بالجزء الذي لا يتجزّأ هو مصطلح علمي أسموه بذلك لعدم استطاعة الأجهزة تجزئته، ولكنّه عند العقل جزء يتجزّأ كما ذكرنا.

وبناء على هذا الأصل فكلّ موجود مادي قابل للانقسام ولكن الشخصية الإنسانية التي تكون محوراً لأفعاله وأوصافه لا تقبل التجزئة والتقسيم فلا يتصور لشخصيته التي يعبر عنها بـ‍ « أنا » أجزاء، وهذا دليل علىٰ أنّ الشخصية الإنسانية رغم ازدواجها مع المادة غير خاضعة لأحكامها، فهي أمر ثابت غير منقسم، وما هذا شأنه أمر مجرّد غير مادي.

إنّ هذه البراهين الساطعة تدعم وجهة النظر القائلة أنّ الإنسان لا يفنىٰ بموته وإنّما الفاني غير الباقي، وأنّ النفس أمر مجرد فما ينسب إليها أيضاً مثله.

مثلاً إنّ حبّك لولدك وبغضك لعدوك ممّا لا يقبل الانقسام وإن كانا

__________________

١. هذا البرهان ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات: ٢ / ٩٢; وفي كتاب الشفاء قسم الطبيعيات في
موردين، ص ٢٨٢ و ٤٦٤.

٥٩

يقبلان الشدة والضعف، فالنفس والنفسانيات أو الروح والروحيات أُمور فوق المادة لا تخضع لآثارها.

القرآن وخلود النفس

إنّ الذكر الحكيم يؤكّد على خلود الروح وبقائها، والآيات في هذا المضمار على قسمين: قسم يدل بصراحة على التجرّد، وقسم آخر ظاهر فيه، وإليك نقل شيء من القسمين :

القسم الأوّل: ما هو صريح في خلود الروح، يقول سبحانه :

١.( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .(١)

ودلالة الآية مبنية على إمعان النظر في لفظة « التوفّي » وهي بمعنى الأخذ والقبض لا الإماتة، وعلى ذلك فالآية تدل على أنّ للإنسان وراء البدن شيئاً يأخذه سبحانه حتى عند الموت والنوم.

فيمسكه إنْ كتب عليه الموت ويرسله إنْ لم يكتب عليه ذلك إلى أجل مسمّى، فلو كان الإنسان متمحضاً في المادة وآثارها فلا معنى « للأخذ » و « الإمساك » و « الإرسال ».

٢.( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ إلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ ) .(٢)

__________________

١. الزمر: ٤٢.

٢. آل عمران: ١٦٩ ـ ١٧١.

٦٠

وأقول :

إن أراد بملاحظة الغاية كونها داعية للفعل ، فهو مذهبنا(١) ، ولا يقوله الأشاعرة.

وإن أراد بها مجرّد إدراك الغاية من دون أن تكون باعثة على الفعل ، فهو مذهب الأشاعرة(٢) ، ويلزمه العبث وسائر المحالات ، ويجوز بمقتضاه أن يعذّب الله سبحانه أعظم المطيعين ، ويثيب أعظم العاصين ؛ لأنّه لا غاية له تبعثه إلى الفعل ، بل يفعل مجّانا بلا غرض ، بل يجوز أن لا تكون أفعاله متقنة ، وإن اتّفق إتقانها في ما وقع ، وأمّا في ما لم يقع بعد ـ كالثواب والعقاب ـ فمن الجائز أن لا يكون متقنا ؛ لفرض عدم الغرض له تعالى ، ولأنّه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء!

فما زعمه من عدم تحرير الفريقين لمحلّ النزاع حقيق بالسخرية! أتراه يخفى على جماهير العلماء ويظهر لهذا الخصم وحده؟! وهل يخفى على أحد أنّ النزاع في الغرض والعلّة الغائيّة ، وأنّ الإمامية والمعتزلة لم يروا بالقول بالغرض بأسا ونقصا ، بخلاف الأشاعرة؟! وهذا الخصم ما زال ينسب لقومه القول بالغاية ، فإن أراد بها الغاية الباعثة على الفعل ، فهي خلاف مذهبهم بالضرورة.

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ١٩٨ ، كشف المراد : ٣٣١ ، تلخيص المحصّل : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، المواقف : ٣٣١ ـ ٣٣٢ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٦.

٦١

وإن أراد بها الأمر المترتّب اتّفاقا ، كقوله تعالى :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (١) ، غاية الأمر : أنّ الله تعالى عالم بهذا الأمر المترتّب ، فهو حقيقة مذهبهم ، وعليه ترد الإشكالات ، ولا ينفع معه التسويلات والتنصّلات.

وأمّا ما ذكره من قولهم بالحكمة والمصلحة ، فهو وإن قالوا به ظاهرا ، لكن لا بنحو اللزوم كقولهم بالإتقان ؛ لأنّ اللزوم لا يجتمع مع نفي الغرض ونفي الحسن والقبح العقليّين ونفي وجوب شيء عليه تعالى.

وأمّا قوله : « ولولاه لم يكن للفاعل المختار أن يفعل ذلك الفعل »

فإن أراد به أنّه لا يفعله لكونه عبثا ، فهو صحيح ، والله سبحانه أحقّ به.

وإن أراد أنّه لا يفعله لعدم قدرته عليه كما زعمه سابقا ، فهو باطل ـ كما عرفت ـ ، ومنه يعلم ما في قوله : « فهذا الفاعل بالاختيار يحتاج في صدور الفعل عنه ».

وقد بيّنّا أنّ هذا الاحتياج لإخراج الفعل عن العبث لا لنقص في القدرة ، فيكون كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ، لا كاحتياج الذات إلى صفاتها الزائدة الموجب لنقص الذات في نفسها(٢) ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ : ٨.

(٢) انظر ج ٢ / ١٦٩ وما بعدها من هذا الكتاب.

٦٢

إنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب الخامس

في أنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

هذا هو مذهب الإمامية ، قالوا : إنّ الله تعالى أراد الطاعات سواء وقعت أم لا ، ولا يريد المعاصي سواء وقعت أم لا ، [ وكره المعاصي سواء وقعت أم لا ] ، ولم يكره الطاعات سواء وقعت أم لا(٢) .

وخالفت الأشاعرة مقتضى العقل والنقل في ذلك ، فذهبوا إلى أنّ الله تعالى يريد كلّ ما يقع في الوجود ، سواء كان طاعة أم لا ، وسواء أمر به أم نهى عنه(٣) [ وكره كلّ ما لم يقع ، سواء كان طاعة أو لا ، وسواء أمر به أو نهى عنه ] ، فجعلوا كلّ المعاصي الواقعة في الوجود من الشرك والظلم والجور والعدوان وأنواع الشرور مرادة لله تعالى ، وأنّه تعالى راض بها!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٤.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ ، شرح جمل العلم والعمل : ٨٧ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٧٩ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٩.

(٣) الإبانة في أصول الديانة : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، تمهيد الأوائل : ٣١٧ ، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١٠٢ ، الملل والنحل ١ / ٨٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧٤ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣.

٦٣

وبعضهم قال : إنّه محبّ لها ، وكلّ الطاعات التي لم تصدر عن الكفّار مكروهة لله تعالى غير مريد لها ، وإنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، وإنّ الكافر فعل في كفره ما هو مراد لله تعالى وترك ما كره الله تعالى من الإيمان والطاعة منه(١) .

وهذا القول يلزم منه محالات ، منها : نسبة القبيح إلى الله تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة ، وقد بيّنّا أنّه تعالى منزّه عن فعل القبائح كلّها(٢) .

* * *

__________________

(١) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ وقال : « منهم ـ أي الأشاعرة ـ من جوّز أن يقال : الله مريد للكفر والفسق والمعصية » وذكر في ص ١٧٤ أنّ خالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة ، وفيه أيضا : أنّ عدم إيمان الكافر مراد لله فلاحظ!

(٢) راجع كلام العلّامة الحلّي1 في ج ٢ / ٣٣٤ المبحث الحادي عشر من هذا الكتاب.

٦٤

وقال الفضل (١) :

قد سبق أنّ مذهب الأشاعرة : إنّ الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون ، فكلّ كائن مراد وما ليس بكائن ليس بمراد ، واتّفقوا على جواز إسناد الكلّ إليه تعالى جملة ، واختلفوا في التفصيل كما هو مذكور في موضعه(٢) .

ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : إنّه تعالى مريد لجميع أفعاله ، أمّا أفعال العباد فهو مريد للمأمور به منها كاره للمعاصي والكفر(٣) .

ودليل الأشاعرة : إنّه خالق للأشياء كلّها ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة(٤) .

وأمّا ما استدلّ به هذا الرجل في عدم جواز إرادة الله تعالى للشرك والمعاصي ، فهو من استدلالات المعتزلة.

والجواب : إنّ الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى : إنّه أمر قدّره الله تعالى في الأزل للكافر ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٤٨.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ و ١٧٤.

(٣) تقدّم في الصفحة ٦٣ ه‍ ٢ ، وراجع المصارد التالية التي تذكر آراء المعتزلة : شرح الأصول الخمسة : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ، الملل والنحل ١ / ٣٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣.

(٤) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٤.

٦٥

الرضا بالإرادة.

وأمّا كون الطاعات التي لم تصدر من الكافر مكروهة لله تعالى

فإن أراد بالكراهة عدم تعلّق الإرادة به ، فصحيح ؛ لأنّه لو أراد لوجد

وإن أراد عدم الرضا به ، فهو باطل ؛ لأنّه لم يحصل في الوجود حتّى يتعلّق به الرضا أو عدمه.

وأمّا أنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، فإنّه تعالى أمر الكفّار بالإسلام ولم يرد إسلامهم ، بمعنى عدم تقدير إسلامهم ، وهذا لا يعدّ من السفه ، ولا محذور فيه ، وإنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، ولكن هذا الانحصار ممنوع ؛ لأنّه ربّما كان لإتمام الحجّة عليهم فلا يعدّ سفها.

وأمّا ما ذكره من لزوم نسبة القبيح إلى الله تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة

فجوابه : إنّ الإرادة بمعنى التقدير ، وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح من الفاعل المختار ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه.

على أنّ هذا مبنيّ على القبح العقلي وهو غير مسلّم عندنا ، ومع هذا فإنّه مشترك الإلزام ؛ لأنّ خلق الخنزير الذي هو القبيح يكون قبيحا ، والله تعالى خلقه بالاتّفاق منّا ومنكم.

* * *

٦٦

وأقول :

لا يخفى أنّ الأمور الممكنة إنّما يفعلها القادر المختار أو يتركها بإرادة منه ؛ لأنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه إلّا بمرجّح ، وهو الإرادة ، فيكون العدم على طبع الوجود مقدورا ومستندا إلى الإرادة.

ولذا أسند الله تعالى العدم المسبوق بالوجود إلى إرادته حيث يقول :

( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (١) الآية ، فإنّ إهلاك القرية عبارة عن إماتة أهلها بسبب العذاب ، والموت عدم الحياة.

ولا ريب أنّ الإرادة تتوقّف على أمور :

منها : تصوّر المراد

ومنها : الرضا به ، سواء كان وجودا أو عدما ، وسواء كان حكما أم غيره ، فإنّ من يريد شيئا لا بدّ أن يرضى به بالضرورة.

ومنها : الرضا بمتعلّق المراد على وجه التعيّن له أو الترجيح له أو التساوي كما في متعلّق التكاليف ، فإنّ الحاكم إذا كلّف بنحو الوجوب لا بدّ أن يرضى بوجود الواجب على وجه التعيّن له بحيث يكون كارها لنقيضه ، ومثله الحرمة بالنسبة إلى الرضا بالترك والكراهة لنقيضه.

وإذا كلّف بنحو الندب ، لزم أن يرضى بالوجود على وجه الرجحان ، ومثله الكراهة بالنسبة إلى الرضا بالترك.

وإذا حكم على وجه الإباحة ، لزم أن يرضى بالوجود والعدم بنحو

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ١٦.

٦٧

التساوي.

نعم ، إذا كان التكليف امتحانيا لم تتوقّف إرادته إلّا على الرضا بأصل التكليف ، لا بمتعلّقه.

فإذا عرفت هذا فنقول : لمّا كانت أفعال العباد عند الإمامية غير مخلوقة لله تعالى ، لم تكن له إلّا إرادة تشريعية ، أي إرادة للأحكام ، فلم يكن له تعالى رضا بما يريده العباد ويفعلونه من المعاصي ، ولا كراهة لما يتركونه من الطاعات.

بخلافه على مختار الأشاعرة من أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، فإنّه يلزم أن يكون الله سبحانه مريدا للمعاصي الواقعة راضيا بها ، ولعدم الطاعات المتروكة كارها لها ؛ لأنّ فعله للمعاصي يتوقّف على إرادتها المتوقّفة على الرضا بها ، وتركه للطاعات يتوقّف على إرادة الترك المتوقّفة على الرضا به وكراهته الفعل ، كما سبق(١) .

ويلزم أن يكون الله تعالى آمرا بما يريد عدمه ويكرهه ولا يرضى به ، وهو الذي لم يخلقه من الطاعات ، وناهيا عمّا أراده ورضي به ، وهو الذي خلقه من المعاصي ، بل يلزم اجتماع الضدّين : الرضا والكراهة في ما أمر به وتركه ؛ لأنّ أمره دليل الرضا وتركه دليل الكراهة.

وكذا يجتمعان في ما نهى عنه وفعله ؛ لأنّ نهيه مستلزم للكراهة ، وفعله مستلزم للرضا.

وهذا الذي قلناه لا يبتني على أنّ تكون الإرادة بمعنى الرضا كما تخيّله الخصم ، بل هو مبنيّ على توقّف الإرادة على الرضا ـ كما بيّنّاه ـ ،

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر1 في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٣ من هذا الكتاب.

٦٨

فلا معنى لقوله : « الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى أنّه أمر قدّره الله في الأزل ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس الرضا بالإرادة ».

على أنّ تفسير الإرادة بالتقدير ، خطأ ؛ لأنّ الإرادة صفة ذاتية والتقدير فعل ، ولو سلّم فقد عرفت أنّ التقدير موقوف على الإرادة(١) ، وهي موقوفة على الرضا.

ومن الفضول قوله في ما سمعت : « وأمر المشرك به »

فإنّ المصنّف لم يدّع أنّه يلزم مذهبهم أمر المشرك به حتّى ينفيه ، ولا هو متوهّم من كلام المصنّف.

وأمّا إنكاره لعدم الرضا بترك الطاعات ، بحجّة أنّها لم تحصل في الوجود حتّى يتعلّق بها الرضا أو عدمه ، فخطأ ؛ لأنّ الرضا وعدمه إنّما يتعلّقان بالشيء من حيث هو ، لا بما هو موجود ، كيف؟! وهما سابقان على الإرادة السابقة على الوجود.

وأمّا إنكاره للسفه في الأمر بالإسلام الذي لم يقدّره ، فمكابرة ظاهرة.

وقوله : « إنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به »

باطل ؛ لأنّ إتمام الحجّة إنّما يكون على القادر المتمكّن ، لا على العاجز ، فيكون امتحانه سفها آخر ، تعالى الله عنه علوّا كبيرا ، وسيأتي قريبا زيادة إشكال عليه فانتظر.

وأمّا قوله : « وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح »

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر1 في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٣ من هذا الكتاب.

٦٩

فمكابرة أخرى كما مرّ(١) ، إذ لا وجه لعدم قبح القبيح منه سبحانه ، وهو أولى من يتنزّه عن فعل القبيح.

وأمّا ما زعمه من الاشتراك في الإلزام ، فقد عرفت جوابه(٢) .

* * *

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر1 في مبحث « إنّه تعالى لا يفعل القبيح » ، الصفحة ٩ من هذا الجزء.

(٢) راجع الصفحة ٢٥ من هذا الجزء.

٧٠

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : كون العاصي مطيعا بعصيانه ، حيث أوجد مراد الله تعالى وفعل وفق مراده.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

٧١

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ المطيع من أطاع الأمر ، والأمر غير الإرادة ، فالمريد هو المقدّر للأشياء ومرجّح وجوداتها ، فإذا وقع الخلق على وفق إرادته فلا يقال : إنّ الخلق أطاعوه.

نعم ، إذا أمرهم بشيء فأطاعوه يكونون مطيعين.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٢.

٧٢

وأقول :

غير خفيّ أنّ الطاعة منوطة بموافقة الإرادة ، والعصيان بمخالفتها ، لا بموافقة لفظ الأمر ومخالفته

ولذا لو علمت إرادة المولى لشيء ولم يأمر به لمانع وجب إتيانه

ولو علم عدم إرادته مع أمره صورة لم يجب فعله

وإنّما قالوا : الطاعة موافقة الأمر ؛ لأنّه دليل الإرادة ولا تعرف بدونه غالبا ، وحينئذ فيلزم ما ذكره المصنّف من كون العاصي مطيعا بعصيانه لموافقته للإرادة التكوينية ، بل هو موافق للأمر التكويني فيكون مطيعا ألبتّة.

قال عزّ من قائل :( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) (١)

وقال تعالى :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) سورة فصّلت ٤١ : ١١.

(٢) سورة يس ٣٦ : ٨٢.

٧٣

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : كونه تعالى يأمر بما يكره ؛ لأنّه أمر الكافر بالإيمان وكرهه منه حيث لم يوجد وينهى عمّا يريد ، لأنّه نهاه عن الكفر وأراده منه.

وكلّ من فعل هذا من أشخاص البشر ينسبه كلّ عاقل إلى السفه والحمق ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فكيف يجوز للعاقل أن ينسب إلى ربّه تعالى ما يتبرّأ هو منه ويتنزّه عنه؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

٧٤

وقال الفضل(١) :

قد سبق المنع من أنّ الأمر بخلاف ما يريده يعدّ سفها(٢) ، وإنّما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، وليس كذلك ؛ لأنّ الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا؟ قد يأمره ولا يريد منه الفعل.

أمّا أنّ الصادر منه أمر حقيقة ؛ فلأنّه إذا أتى العبد بالفعل يقال : امتثل أمر سيّده.

وأمّا أنّه لا يريد الفعل منه ؛ فلأنّه يحصل مقصوده وهو الامتحان ، أطاع أو عصى ، فلا سفه بالأمر بما لا يريده الآمر.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٢.

(٢) راجع ردّ الفضل في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٢ ، وانظر الصفحتين ٦٥ ـ ٦٦ من هذا الجزء.

٧٥

وأقول :

لا يخفى أنّ السفه يحصل بطلب الفعل والأمر به حقيقة مع كراهته في الواقع ، وبالنهي عنه حقيقة مع إرادته واقعا ، كما هو الحاصل في الشرعيّات ، ضرورة مطلوبية مثل الإيمان وعدم الكفر حقيقة.

ولا محلّ لاحتمال أن يكون الطلب لمثل ذلك صوريا لغرض الامتحان أو غيره ، على أنّ الامتحان للعاجز سفه آخر.

ثمّ إنّ كلامه دالّ على ثبوت الغرض لله تعالى ، وهو باطل على قولهم : « إنّ أفعاله تعالى لا تعللّ بالأغراض »(١) !

* * *

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٧٦

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

ومنها : مخالفة النصوص القرآنية الشاهدة بأنّه تعالى يكره المعاصي ويريد الطاعات ، كقوله تعالى :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٢)

( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) (٣)

( فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (٤)

( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ) (٥)

إلى غير ذلك من الآيات

فترى لأيّ غرض يخالفون هؤلاء القرآن العزيز وما دلّ العقل عليه؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٣١.

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ٣٨.

(٤) سورة الزمر ٣٩ : ٧.

(٥) سورة البقرة ٢ : ٢٠٥.

٧٧

وقال الفضل(١) :

قد يستعمل لفظ الإرادة ويراد به الرضا والاستحسان ، ويقابله الكراهة بمعنى السخط وعدم الرضا ، فقوله تعالى :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٢) ، أريد من الإرادة الرضا ، فسلب الرضا بالظلم عن ذاته المقدّسة ، وهذا عين المذهب.

وأمّا الإرادة بمعنى التقدير والترجيح ، أو مبدأ الترجيح ، فلا تقابلها الكراهة ، وهو معنى آخر.

وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٤.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٣١.

٧٨

وأقول :

لمّا كان من مذهبه : أنّ الله سبحانه هو الخالق للظلم الواقع في الكون ، المريد له(١) ، وكان ذلك خلافا صريحا للآية الأولى ، التجأ إلى حمل الإرادة فيها على الرضا ، وهو لو سلّم لا ينفعه ؛ لتوقّف الإرادة على الرضا ؛ لأنّه من مقدّماتها ، فإذا نفت الآية رضاه تعالى بالظلم ـ كما زعم ـ استلزم نفي إرادته له ، وهو خلاف مذهبه.

وليت شعري إذا لم يرض سبحانه بالظلم والكفر وكان السيّئ عنده مكروها ولا يحبّ الفساد ، فكيف أرادها وخلقها وهو العالم المختار؟!

وإذا كان يرضى الشكر ، فما المانع له عن إرادته وخلقه وهو المتصرّف فيه كما زعموا؟!

وأمّا قوله : « وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا »

فكلام صادر من غير تروّ ، إذ ليس في بقيّة الآيات التي ذكرها المصنّفرحمه‌الله ما يشتمل على لفظ الإرادة ، ولا يعوزه الجواب إذا كان مبنيا على المغالطة.

* * *

__________________

(١) راجع الصفحة ٦٣ من هذا الجزء.

٧٩

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

ومنها : مخالفة المحسوس وهو : استناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصوارف ؛ لأنّ الطاعات حسنة والمعاصي قبيحة.

وإنّ الحسن جهة دعاء والقبح جهة صرف ، فيثبت لله تعالى في الطاعة دعوى الداعي إليها وانتفاء الصارف عنها.

وفي القبيح ثبوت الصارف وانتفاء الداعي ؛ لأنّه ليس داعي الحاجة لاستغنائه تعالى ، ولا داعي الحكمة لمنافاتها إيّاها ، ولا داعي الجهل لإحاطة علمه به.

فحينئذ يتحقّق ثبوت الداعي إلى الطاعات ، وثبوت الصارف في المعاصي ، فثبت إرادته للأوّل وكراهته للثاني.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٦.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403