مفاهيم القرآن الجزء ٨

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 167152 / تحميل: 5803
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٨

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-١٤٨-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80





الفصل السابع :

القرآن والمعاد الجسماني والروحاني

لقد تعرفنا على الملاكين اللّذين يناط بهما وصف المعاد بالجسمانية والروحانية، وإليك دراسة الآيات القرآنية حتى نستنتج منها ما هو موقف القرآن من جسمانية المعاد وروحانيته حيال كلا الملاكين.

المعاد الجسماني بالملاك الأوّل

قد عرفت أنّ الملاك الأوّل لكون المعاد جسمانياً هو حشر الأبدان لتعلّق النفوس بها.

فلو كان هذا هو المعيار، فقد تضافرت الآيات عليه وهي علىٰ طوائف.

الطائفة الأُولى: الآيات التي دلّت على إحياء الموتىٰ في هذه النشأة من باب الإعجاز والكرامة، وفي جميع تلك الآيات كان الحشر بعود البدن الدنيوي لا البرزخي، بل العنصري.

هذا من جانب، ومن جانب آخر ترى أنّ القرآن الكريم يصف الدار الآخرة بأنّها الحياة الواقعية، يقول سبحانه:( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (١) فلابدّ من التوفيق بين هذين الأمرين.

__________________

١. العنكبوت: ٦٤.

٨١

وبعبارة أُخرىٰ: يبدو لأوّل وهلة أنّ ثمة تهافتاً وتناقضاً، فمن جانب يكون المحشور في الآخرة هو البدن الدنيوي، والحياة الدنيوية حياة غير كاملة، ومن جانب آخر تكون الحياة الأُخروية هي الحيوان، فكيف يمكن الجمع بين كون المحشور هو البدن الدنيوي العنصري وبين كون الحياة الأُخروية كاملة، فلا محيص من القول أنّ البدن المحشور مع أنّه عين البدن الدنيوي لكن يتمتع بكمال خاص.

ونحن مع الاعتراف بأنّ المحشور هو البدن الدنيوي، لا البدن البرزخي، ولا الصور المجردة عن المادة، إلّا أنّنا نعتقد بكمال هذا البدن.

وربما تتوهم وحدة الحياتين لأنّ نقص الحياة الأُولىٰ لتوقيتها بأمد محدود، وتمامية الحياة الأُخرى لدوامها.

يلاحظ عليه بأنّه لا يضفي على الحياة الأُخروية الكمال إذا كانتا متساويتين في الكمال ; مع أنّا نرىٰ أنّ القرآن يصف الحياة الدنيوية بالمجازية، والحياة الأُخروية بالحقيقية، وهذا لا يتماشىٰ إلّا إذا كانت الحياة الدنيوية حياة كاملة عالية.

وبعبارة أوضح لو كانت الحياة في النشأتين حقيقة واحدة وكان الاختلاف مختصاً بالتوقيت والدوام، لما كان هناك أيّ حاجة إلىٰ زوال السماوات والأرض وإيجاد نظام آخر، ولأجل ذلك نأخذ بكلا الأمرين :

أ. أنّ المحشور هو البدن الدنيوي العنصري لا البرزخي.

ب. أنّ المحشور يحظىٰ بدرجة عالية من الحياة.

نعم الوقوف علىٰ حقيقة الحياة الأُخروية وكمالها أمر مستور علينا.

الطائفة الثانية: الآيات التي تبيّن بدء الخلقة، وأنّ الإنسان خلق من تراب ويعاد إليها، ثمّ يخرج منها :

٨٢

يقول سبحانه:( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ ) .(١)

ويقول سبحانه:( ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ) .(٢)

الطائفة الثالثة: الآيات التي تشرح كيفية الحشر وأنّ الناس يبعثون من القبور :

قال سبحانه:( فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) .(٣)

وقال سبحانه:( يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ) .(٤)

الطائفة الرابعة: الآيات التي تدل على أنّ الأعضاء والجوارح تشهد على الإنسان :

يقول سبحانه:( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .(٥)

وقال سبحانه:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٦)

الطائفة الخامسة: الآيات التي تدل علىٰ طروء التبدل والتغير على البدن الأُخروي الملازم لكون المحشور بدناً مادياً عنصرياً لا صورياً مجرداً عن المادة.

قال سبحانه:( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) .(٧)

ويقول أيضاً:( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) .(٨)

__________________

١. طه: ٥٥.

٢. نوح: ١٨.

٣. يس: ٥١.

٤. القمر: ٧.

٥. النور: ٢٤.

٦. يس: ٦٥.

٧. النساء: ٥٦.

٨. محمد: ١٥.

٨٣

الطائفة السادسة: الآيات التي تبيّن شبهة المنكرين للمعاد من امتناع إحياء العظام البالية، وهي تدل على أنّ المدّعى كان هو إحياء البدن الدنيوي حسب ما كان.

قال سبحانه:( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) .(١)

وقال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٢)

إنّ هذه الطوائف من الآيات تعرب عن موقف القرآن حيال المعاد الجسماني بالملاك الأوّل وأنّ المعاد هو البدن الدنيوي حقيقة.

المعاد الروحاني بالملاك الأوّل

قد تعرفت على المعاد الجسماني بالملاك الأوّل، وإليك الكلام في المعاد الروحاني بنفس ذلك الملاك وهو حشر الإنسان مع روحه ونفسه، وثمة كلام وهو أنّه إن أُريد من المعاد الروحاني هو حشر البدن الدنيوي مع روحه ونفسه فليس ذلك معاداً روحانياً في الاصطلاح بل هو معاد جسماني، لأنّ من يصف المعاد بالجسماني لا يريد منه البدن المماثل للجماد بل البدن الذي نفخ فيه روحه وصار ذا حس وحركة وعقل وإدراك.

وإن أُريد منه حشر النفوس والأرواح مجردة عن البدن فيصحّ وصفه بالروحاني لكنّه يخالف صريح القرآن لما عرفت من تأكيده علىٰ حشر الأبدان الدنيوية بنحو يكون مناسباً للحشر الأُخروي.

__________________

١. يس: ٧٨.

٢. سبأ: ٧.

٨٤

المعاد الجسماني بالملاك الثاني

وثمّة ملاك ثان في وصف المعاد بالجسمانية أو الروحانية وهو الثواب والعقاب الذي يواجههما الإنسان.

فقسم لا يدرك إلّا بالحواس الظاهرية كأكثر ما وعد في سورتي الواقعة والرحمن.

وهناك ثواب وعقاب يدركهما الإنسان بعقله لا بحواسه ولا بقواه الجسمانية.

وبذلك يتضح أنّ جزاء الإنسان بما يدركه بالحواس الظاهرية تعبير عن كون المعاد جسمانياً كما أنّ جزاءه بما يدركه العقل والنفس في مقام التجرد تعبير عن كون المعاد روحانياً، وبما أنّ الآيات الواردة في أكثر السور الّتي ترجع إلى الجزاء بالأُمور الحسية، معلومة لدى القرّاء الأعزاء، فنعطف عنان القلم إلى المثوبات والعقوبات التي تدرك بالعقل والنفس.

١. رضوان الله

إنّه سبحانه بعد ما يذكر المثوبات المدركة بالحواس يعقبها بذكر جزاء عظيم لا يدرك إلّا بالعقل، قال سبحانه:( وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .(١)

تجد أنّه سبحانه بعد ما يذكر الجنات والأنهار والمساكن الطيبة التي هي ملاكات لجسمانية المعاد يذكر رضوان الله تبارك وتعالى الذي هو جزاء روحاني

__________________

١. التوبة: ٧٢.

٨٥

عقلاني لا صلة له بالأدوات الحسية.

قال الإمام السجادعليه‌السلام في تفسير الآية :

« إذا صار أهل الجنّة في الجنة ودخل وليّ الله إلىٰ جنانه ومساكنه واتكأ كلّ مؤمن منهم على أريكته حفّته خدّامه. وتهدّلت عليه الثمار، وتفجّرت حوله العيون، وجرت من تحته الأنهار وبسطت له الزرابيّ، وصفّفت له النمارق، وأتته الخدّام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك، قال: ويخرج عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله.

ثمّ إنّ الجبّار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي وأهل طاعتي وسكّان جنّتي في جواري ألا هل أُنبّئكم بخير ممّا أنتم فيه ؟ فيقولون: ربّنا وأيّ شيء خير ممّا نحن فيه ؟! نحن فيما اشتهت أنفسنا، ولذّت أعيننا من النّعم في جوار الكريم، قال: فيعود عليهم بالقول، فيقولون: ربّنا نعم فأتنا بخير ممّا نحن فيه، فيقول لهم تبارك وتعالى: رضاي عنكم ومحبّتي لكم خير وأعظم ممّا أنتم فيه، قال: فيقولون: نعم يا ربّنا رضاك عنّا ومحبّتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا ». ثمّ قرأ عليّ بن الحسينعليهما‌السلام هذه الآية:( وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .(١)

٢. البعد عن رحمته

إذا كان نيل رضوانه سبحانه سبباً للّذة والثواب، يكون البعد عن رحمته سبباً للعذاب، يقول سبحانه:( وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) .(٢)

__________________

١. البحار: ٨ / ١٤٠ ـ ١٤١.

٢. التوبة: ٦٨.

٨٦

إنّ هذه الآية ندُّ الآية السابقة، غير أنّ الأُولىٰ تعد المؤمنين والمؤمنات بالنعم الحسية ثمّ الروحية كما عرفت، وهذه الآية تعد المنافقين والمنافقات بالعذاب الحسي أعني قوله:( نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ ) والعذاب الروحي الذي يشير إليه بقوله:( وَلَعَنَهُمُ اللهُ ) واللعن عبارة عن البعد عن رحمة الله تبارك وتعالى. ويعقبه قوله:( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) فيمكن أن يكون مشيراً إلىٰ خلودهم في النار أو مشيراً إلىٰ بعدهم الدائم عن رحمة الله، والمقايسة بين الآيتين وتطبيق كلّ على الأُخرى توقف الإنسان على اللّف والنشر اللافت.

٣. الحزن والحسرة

إذا كان البعد عن رحمته سبحانه عذاباً روحياً، فالحزن والحسرة على ما مضىٰ من العمر الذي أتلفه الإنسان مع ماله من القابليات يُعد عذاباً روحياً، وقد أشار إليه سبحانه في بعض الآيات بلفظ:( يَوْمَ الحَسْرَةِ ) و( حَسَرَاتٍ ) ، قال سبحانه:( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .(١)

أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا دخل أهل الجنّة الجنة وأهل النار النار، قيل: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، وقيل: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون فيجاء بالموت كأنّه كبش أملح، فيقال لهم تعرفون الموت، فيقولون: هذا وهذا وكلّ قد عرفه.

قال: فيقدم فيذبح، ثمّ يقال: يا أهل الجنّة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، قال: وذلك قوله:( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ ) الآية.

ورواه أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام ثمّ جاء في آخره فيفرح أهل

__________________

١. مريم: ٣٩.

٨٧

الجنّة فرحاً لو كان أحد يومئذٍ ميتاً لماتوا فرحاً، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً لماتوا.(١)

وقال تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) .(٢)

وقال الإمام أبو جعفر الباقرعليه‌السلام في تفسير قوله:( كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ) بقوله: « هو الرجل يكتسب المال ولا يعمل فيه خيراً فيرثه من يعمل فيه عملاً صالحاً فيرى الأوّل ما كسبه حسرة في ميزان غيره ».(٣)

٤. لقاء المحبوب

من المعارف القرآنية هي مسألة لقاء الله ولقاء الرب الذي جاء في غير واحد من السور بتعابير مختلفة :

فتارة يعبر عنه،( بِلِقَاءِ اللهِ ) ، قال سبحانه:( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ ) .(٤)

وأُخرى ب‍:( لِّقَاءِ رَبِّهِمْ ) ، يقول سبحانه:( أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ ) .(٥)

وثالثة:( بِلقاءِ رَبِّكُمْ ) ، قال سبحانه:( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) .(٦)

__________________

١. مجمع البيان: ٣ / ٥١٥.

٢. البقرة: ١٦٧.

٣. مجمع البيان: ١ / ٢٥١.

٤. الأنعام: ٣١.

٥. فصلت: ٥٤.

٦. الرعد: ٢.

٨٨

ورابعة ب‍:( لِقَاءَنَا ) قال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ ) .(١)

وخامسة:( مُّلاقُو رَبِّهِمْ ) قال سبحانه:( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ ) .(٢)

وهذه الآيات التي وردت في الذكر الحكيم يربو عددها علىٰ ١٨ آية، وقد اختلف المفسّرون في تفسير لقاء الله.

فقد فسّر بلقاء يوم القيامة تارة بشهادة قوله سبحانه:( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ) .(٣)

وأُخرى بلقاء الآخرة، قال سبحانه:( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) .(٤)

وأُخرى: بنيل الثواب والعقاب، قال سبحانه:( أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٥) ، غير أنّ العرفاء الشامخين أخذوا بحرفية تلك الكلمة وقالوا بلقاء الإنسان ربّه لقاءً قلبياً شهودياً لا لقاءً حسياً بل لقاء يدرك ولا يوصف ولا يمكن التعبير عنه باللفظ والكلمة، وقد تبنىٰ ذلك المعنى العارف الحكيم الشيخ جواد الملكي التبريزي ( المتوفّى ١٣٤٣ ه‍ ) فقال في كتابه « لقاء الله » ما هذا مثاله :

ثمّ إنّ المفسّرين أمام تلك الآيات على أحد رأيين :

الرأي الأوّل: الأخذ بما دلّ علىٰ تنزيه الربّ من كلّ جسم وجسمانية ،

__________________

١. يونس: ٧.

٢. البقرة: ٤٦.

٣. السجدة: ١٤.

٤. الأعراف: ١٤٧.

٥. القصص: ٦١.

٨٩

وبالتالي تأويل ما دلّ من الآيات والروايات على اللقاء بوجه، وهو أنّ المراد هو الموت ولقاء الثواب والعقاب.

الرأي الثاني: حمل ما دلّ على التنزيه بالمعرفة الحسية أو المعرفة بالكنه، وحمل ما دلّ على اللقاء أو التشبيه على المعرفة الإجمالية، ومعرفة أسمائه وصفاته التي هي مجلىٰ ذاته سبحانه.

ولا يخفىٰ أنّ كلا التفسيرين تفسير مجازي فانّ حمل اللقاء بلقاء الثواب والعقاب مجاز لا دليل عليه، كما أنّ تفسيره بالمعرفة الإجمالية كمعرفة أسمائه وصفاته مجاز مثله، فأين معرفة أسمائه كالعالم والقادر على وجه يليق بالحكيم من لقائه سبحانه.

وهناك مسلك ثالث أدق من المسلكين تبنّاه بعض العارفين وهو أنّ للّقاء مراتب بين الإمكان والاستحالة، فيجوز للممكن في سيره وسلوكه لقاء واقعي، وإن كان بالنسبة إلى الدرجات المستحيلة لقاءً غير واقعي.

ثمّ أيّد ذلك بما ورد في القرآن والأدعية، فقد ورد فيهما كلمات تعرب عن تحقّق اللقاء حقيقة، نظير قول الإمام أميرالمؤمنينعليه‌السلام : « ولا يحرمني من النظر إلىٰ وجهك » وقوله: « ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان ». وقول الإمام الحسينعليه‌السلام في المناجاة الشعبانية: « وألحقني بنور عزّك الأبهج فأكون لك عارفاً ».

وقولهعليه‌السلام : « وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حُجُبْ النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك »، وفي الدعاء الذي علمه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام لكميل :

« فهبني صبرت علىٰ عذابك فكيف أصبر علىٰ فراقك ».

إلى غير ذلك من الألفاظ الدالة على اللقاء الحقيقي علىٰ وجه يلازم التنزيه

٩٠

ويفارق التشبيه، ومع ذلك يكون هناك لقاءٌ حسب ما يمكن تحقّقه للموجود الإمكاني.(١)

ومن أراد الوقوف على التفصيل فعليه الرجوع إلىٰ كتابه.

٥. عذاب فراق المحبوب

كما أنّ قرب المحبوب يلازم السرور والفرح، فهكذا فراقه يثير ألماً روحيّاً، وقد أشار إليه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في دعائه الذي علّمه لكميل بن زياد النخعي التابعي حيث يقولعليه‌السلام مخاطباً الله سبحانه: « فهبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر علىٰ فراقك ».















__________________

١. رسالة لقاء الله، المقدمة.

٩١





الفصل الثامن :

المعاد الجسماني وآراء الحكماء والمتكلّمين

قد تعرّفت علىٰ تضافر الآيات علىٰ أنّ الحشر يتعلّق ببدن جسماني مرافق للروح والنفس، وأنّ ما خلق أوّلاً هو المعاد في الآخرة، غير أنّه اختلفت كلماتهم في واقع هذا البدن الجسماني الذي يتعلق به الروح، فها نحن نذكر بعض الآراء.

الأوّل: المعاد الجسماني ورأي المعلم الثاني الفارابي ( المتوفّى ٣٣٩ ه‍ )

وحاصل كلامه: أنّ الناس علىٰ صنفين، فصنف بلغ من الكمال درجة استغنى بها عن البدن، ولا همّ لهم سوى الرغبة في إدراك حقائق العالم العلوي، وصنف يسمّيهم الفارابي « بالبدنيين » على عكس الصنف الأوّل، لا همّ لهم سوى إدراك البدن وما يترتبط بالعالم السفلي.

ويفسّره صدر المتألّهين بقوله: إنّ هؤلاء إذا فارقوا الأبدان وهم بدنيُّون وليس لهم تعلّق بما هو أعلىٰ من الأبدان، فيشغلَهم التزامَ النظر إليها والتعلّق بها عن الأشياء البدنية، وإنّما لأنفسهم إنها زينة لأبدانهم فقط ولا يعرف غير الأبدان والبدنيات، أمكن أن يعلقهم نوع تشوقهم إلى التعلّق ببعض الأبدان التي من شأنها أن تتعلق بها الأنفس لأنّها طالبة بالطبع ـ إلى أن قال: ـ ويجوز أنْ يكون هذا

٩٢

الجرم متولداً من الهواء والأدخنة ويكون مقارناً لمزاج الجوهر المسمّىٰ روحاً الذي لا يشك الطبيعيون أنّ تعلّق النفس به لا بالبدن. وانّه لو جاز أن لا يتحلل ذلك الروح مفارقاً للبدن والاخلاط ويقوم، لكانت النفس تلازمه الملازمة النفسانية.(١)

ثمّ إنّ الشيخ الرئيس استحسنه وقال في حقّه: ويشبه أيضاً أن يكون ما قاله بعض العلماء حقّاً، وهو: أنّ هذه الأنفس إن كانت زكية وفارقت البدن وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لأمثالهم علىٰ مثل ما يمكن أن يخاطب به العامة وتصور في أنفسهم عن ذلك، فانّهم إذا فارقوا الأبدان ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم، لا كمال فيسعدوا تلك السعادة، ولا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة، بل جميع هيئاتهم النفسانية متوجهة نحو الأسفل منجذبة إلى الأجسام، ولا منع من المواد السماوية عن أن تكون موضوعة لفعل نفس فيها.(٢)

إنّ من عجيب القول تفسير البدن بالبدن الناشئ من الهواء والأدخنة، مع أنّه يشترط أن يكون بين النفس والبدن نوع انسجام وإمكان تعلّق، فكيف يجوّز المعلم الثاني تعلّق النفس بهذا النوع من البدن ؟

وقد نقده صدر المتألّهين بقوله: إنّ القول بتجويز أن يكون موضوع تصور النفس وتخيلها بعد التجرّد عن هذا البدن متولداً من الهواء والدخان، كيف يصحّ من رجل ذي بضاعة من الفلسفة الطبيعية، فكيف من الفلسفة الإلهية، أليس مثل هذا الجسم الدخاني المتولّد من بعض المواد العنصرية، يتفرق ويتحلل بأدنى سبب إذا لم يكن له طبيعة حافظة إياه عن التبدد وعن التحلل شيئاً فشيئاً بإيراد

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٤٨ ـ ١٤٩.

٢. الإلهيات من الشفاء: ٤٧٢ ـ ٤٧٣، المقالة التاسعة، الفصل الثامن، منشورات مكتب الاعلام
الإسلامي.

٩٣

البدل كما في الروح الطبي حتى يبقىٰ تهيئه لتصرف النفس فيكون هو في ذاته نوعاً نباتاً بل حيواناً لكونه موضوع الإدراك التخيلي فإذاً أليس هذا عين التناسخ ؟! وأليس صار هذا الجرم الدخاني حيواناً غير إنسان تعلّقت به نفس الإنسانية فصار هذا الإنسان منسلخاً عن إنسانيته إلى حيوان آخر ؟!(١)

وأظن ـ وظن الألمعي صواب ـ أنّ الذي دعا المعلم الثاني والشيخ الرئيس إلى القول بتعلّق الروح بالبدن المتولّد من الهواء والدخان، أمران :

الأوّل: تصوّر أنّ تعلّق النفس بالبدن الدنيوي العنصري تناسخ وهو باطل.

الثاني: انّ الصور الحسية التي بها تلتذ النفس أو تتألم أُمور حسية، والنفس في إدراك هذا النوع من الأُمور رهن أدوات مادية أعني البدن، فلا مناص من تصوير بدن يكون أداة لتصور النفس تلك الصور الحسية الملذة أو المؤلمة، وحيث إنّ تعلّق النفس بالبدن الدنيوي تناسخ ممّا حدا إلى القول بخلق هذا البدن من الدخان والهواء.

الثاني: المعاد الجسماني ورأي صدر المتألّهين ( ٩٧٩ ـ ١٠٥٠ ه‍ )

ذهب صدر المتألّهين إلى المعاد الجسماني، وأنّ البدن المحشور في الآخرة هو البدن الدنيوي، ويصرُّ علىٰ هذا القول في أوائل البحث علىٰ نحو يذعن الإنسان بأنّه بصدد إثبات ما عليه المتشرعة من المعاد الدنيوي العنصري، هذا بالنظر البدوي، وأمّا حينما ينتقل إلى أواخر البحث فيذهب إلى تعلّق النفس ببدن مثالي برزخي، مطابق لما عليه الإشراقيون من الفلاسفة، بيد أنّهم عجزوا عن إثبات عينية البدن المثالي للبدن الدنيوي، ولكن صدر المتألّهين قام بهذا العمل الجبّار ورفض التعددية بين البدنين وأرجع الاختلاف بينهما إلى الاختلاف في الكمال والنقص.

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

٩٤

توضيح النظريتين: إنّ الإشراقيين قالوا بوجود بدن مثالي للإنسان في عالم المثال، كما أنّ له بدناً طبيعياً مادياً في هذه النشأة، والنفس بعد مفارقتها البدن الدنيوي تتعلّق ببدن مثالي مستقل نشأ من ذي قبل.

ثمّ إنّ الدافع من وراء طرح هذه النظرية تصوّر أنّ تعلّق النفس بالبدن الدنيوي يعد تناسخاً وهو أمر باطل لا محالة، مضافاً إلىٰ أنّ النفس إنّما تلتذ أو تتألم بالصور الحسية، والنفس في إدراكها للصور الحسية بحاجة إلىٰ بدن، فمسّت الحاجة إلىٰ تصوير بدن للنفس حتى يتحقق به إدراك الصور الحسية جميلها وقبيحها، لذيذها ومؤلمها.

إلّا أنّ هذه النظرية لا تصمد أمام النقاش.

أمّا أوّلاً: إذا كان البدن المثالي مغايراً للبدن الدنيوي ومخلوقاً من ذي قبل، فكيف ينطبق على هذا النوع من الحشر، قوله سبحانه:( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ؟(١)

وثانياً: أنّ البدن المثالي المخلوق من ذي قبل له استعداد لتعلّق النفس به، حينها يتهيأ لقبول الفيض الإلهي، من قبل الله سبحانه، فتتعلّق النفس بالبدن في ظرفها، فلو تعلّقت به نفس أُخرى بعد الموت يلزم اجتماع نفسين في بدن واحد، وهو عين التناسخ.

ولما أثارت هذه النظرية إشكالاً واضحاً عدل عنها صدر المتألّهين وذهب إلى الوحدة بين البدنين المادي والمثالي، وأنّ التفاوت بينهما بالكمال والنقص وانّ البدن المثالي هو عين البدن المادي لكن بنحو أكمل، وبذلك استطاع التخلّص من الإشكال الأوّل من لزوم كون المعاد في الآخرة هو البدن الدنيوي.

كما أنّه تخلّص من الإشكال الثاني بأنّ البدن المثالي لم يخلق من ذي قبل بل

__________________

١. يس: ٧٩.

٩٥

خلق مع البدن الدنيوي ويتكامل في ظل تكامله.

وقد استدل على وجود ذلك البدن بأُمور منها :

انّ النفس تفعل وتنفعل بهذا البدن المثالي في عالم النوم، واستقرب وجود ذلك البدن المثالي بوجهين: ذكرهما تلميذه عبد الرزاق اللاهيجي في كتابه :

١. انّ الإنسان في هذه النشأة يتصوّر جميع أجزاء بدنه وأعضائه ظاهرة وباطنة، والمتصوّر بالذات غير هذا البدن الدنيوي وليس إلّا البدن المثالي.

٢. انّ الإنسان يفعل ويتفاعل في النوم ببدن غير مادي، فهو يتكلّم ويذهب ويقعد ويضرب، كلّ ذلك ببدن غير مادي، وليس هو إلّا البدن المثالي.

وعلى ذلك فالبدن المثالي ليس مخلوقاً من ذي قبل، وإنّما يخلق بالتكامل الذي يناله الإنسان.(١)

ثمّ إنّ صدر المتألّهين بنىٰ ما اختاره من المعاد على مقدمات كثيرة، ربت علىٰ إحدى عشرة مقدمة غير أنّ المهم منها لا يتجاوز عن ثلاث مقدمات، وإليك نقلها :

الأصل الأوّل: التشكيك في الوجود

إنّ الوجود حقيقة واحدة ولها مراتب ومظاهر، وليس التفاوت بينها إلّا بالشدّة والضعف، والكمال والنقص.

وبتعبير آخر: ليس في لوح الواقع إلّا شيءٌ واحدٌ وهو الوجود، فإذاً يرجع التفاوت بين الوجودات إلى الشدّة والضعف والنقص والكمال، وليست الشدة والضعف إلّا نفس الوجود، فلا الوجود الشديد مركب من وجود وشدة، ولا

__________________

١. گوهر مراد: ٣٧١.

٩٦

الوجود الضعيف مركب من وجود وعدم، بل كلّها وجود لكن بمراتب ودرجات متعددة.

الأصل الثاني: انّ هوية الإنسان بنفسه

إنّ هوية البدن وتشخصه إنّما يكون بنفسه لا بجرمه، فزيد مثلاً زيد بنفسه لا بجسده، ولأجل ذلك يستمر وجوده وتشخّصه مادامت النفس باقية فيه، وإنْ تبدّلت أجزاؤه وتحولت لوازمه، من أينه وكَمّه وكيفه ووضعه ومتاه، كما في طول عمره ; وكذا القياس لو تبدلت صورته الطبيعية بصورة مثالية، كما في المنام، وفي عالم القبر والبرزخ إلى يوم البعث، أو بصورة أُخروية كما في الآخرة، فانّ الهوية الإنسانية في جميع هذه التحوّلات والتقلّبات واحدة هي هي بعينها، لأنّها واقعة على سبيل الاتصال الوحداني التدريجي، ولا عبرة بخصوصيات جوهرية وحدود وجودية واقعة في طريق هذه الحركة الجوهرية، وإنّما العبرة بما يستمرّ ويبقىٰ وهي النفس لأنّها الصورة التمامية في الإنسان التي هي أصل هويته وذاته، ومجمع ماهيته وحقيقته.(١)

وعلى هذا فالإنسان في حركته الجوهرية من الجماد إلى النبات، ومنه إلى الحيوان، ثمّ الإنسان، وإن مرّت به تلك المراحل، لكنّها ـ في الواقع ـ علل إعدادية لحصول النفس الإنسانية، وعليه تكون واقعية نفسها وحقيقتها الكمال الذي وصلت إليه في نهاية الحركة، فالإنسان هو الإنسان وإن تجرّد عن الجرم والجسم والجسد والبدن، بشهادة أنّه قد مرّ عليه أبدان وأجساد وهو بعدُ شخص واحد ووحدته محفوظة، ولذا لو جنىٰ في شبابه ولاقىٰ جزاءه العادل في هرمه لا يكون ظلماً في حقّه.

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٩٠.

٩٧

الأصل الثالث: العوالم الثلاثة

إنّ أجناس العوالم والنشآت مع كثرتها منحصرة في ثلاثة، وإن كانت دار الوجود واحدة لارتباط بعضها مع بعض :

أدناها عالم الصور الطبيعية الكائنة الفاسدة.

وأوسطها عالم الصور الإدراكية الحسيّة المجرّدة عن المادة.

وأعلاها، عالم الصور العقلية والمثل الإلهية.

فاعلم أنّ النفس الإنسانية مختصة من بين الموجودات بأنّ لها هذه الأكوان الثلاثة مع بقائها بشخصها، فللإنسان كون طبيعي وهو بحسبه إنسان بشري. ثمّ يتدرج في هذا الوجود ويتكامل ويتلطف شيئاً فشيئاً في تجوهره إلىٰ أن يحصل له كون آخر مثالي، وهو بحسبه إنسان مثالي، وله أعضاء مثالية وهو الإنسان الثاني.

ثمّ قد ينتقل من هذا الكون أيضاً نتيجة تكامله فيحصل له كون عقلي، وهو بحسبه إنسان عقلي، وله أعضاء عقلية وهو الإنسان الثالث.

وهذه المراحل التي يمرّ بها الإنسان مختصة بنوعه. فإنّ الأشياء وإن كانت برُمَّتها سائرة إلى الحضرة الإلهية، لكن الذي يمرّ على الصراط المستقيم منتهياً إلىٰ غاية الغايات ليس هو إلّا النوع الإنساني.

فالإنسان بحسب فطرته الأصلية يتحرك نحو الآخرة بالتدريج ويرجع إلىٰ غاية مقصودة، فيبتدئ بوجوده الدنيوي المادي إلىٰ وجوده الأُخروي الصوري إذ نسبة الدنيا إلى الآخرة نسبة النقص إلى الكمال، ونسبة الطفل إلى البالغ، فإذا بلغ الوجود أشده الجوهري يخرج من هذا الوجود الدنيوي إلىٰ وجود أُخروي ويستعد للخروج من هذه الدار إلىٰ دار القرار.

ثمّ إنّهقدس‌سره استنتج من هذه الأُصول، وقال: من تدبّر في هذه الأُصول لم

٩٨

يبق له شكّ وريب في مسألة المعاد وحشر النفوس والأجساد، ويعلم يقيناً ويحكم بأنّ هذا البدن بعينه سيحشر يوم القيامة بصورة الأجساد، وينكشف له أنّ المعاد في المعاد مجموع النفس والبدن بعينهما وشخصهما وانّ المبعوث في القيامة هذا البدن بعينه لا بدن آخر مبائن له عنصرياً ـ كان كما ذهب إليه جمع من الإسلاميين ـ أو مثالياً ـ كما ذهب إليه الإشراقيون ـ فهذا هو الاعتقاد الصحيح المطابق للشريعة والملة الموافق للبرهان والحكمة. (١)

وإيضاحاً لمختاره نقول: إنّ مقتضى الأصل الأوّل أنّ الإنسان في حركته الجوهرية ينتقل من كمال إلى كمال، ومقتضى الأصل الثالث أنّ له نشاءات ثلاث :

طبيعية، ومثالية، وعقلية، وبحكم الأصل الثالث إنّ فعلية شيء بصورته لا بمادته، فالإنسان في النشأة المثالية هو الإنسان في النشأة الطبيعية، لأنّ الصورة محفوظة بكمالها لا بحدودها، ففعلية البدن هو صورته وهي محفوظة في عالم المثال، كما أنّ فعلية الإنسان نفسه وهي أيضاً محفوظة، فإذا حشر الإنسان بالبدن المثالي الذي كانت النفس تلازمه في عالم الطبيعة، يكون حشره حشر البدن العنصري لكن لا بحدوده.

هذه عصارة ما ذكره صدر المتألّهين في تفسير المعاد الجسماني وهو يختلف عن مسلك الإشراقيين في واقع البدن المثالي، فانّه على مسلكهم يكون بدناً مخلوقاً من ذي قبل تتعلّق به النفس بعد فراقه عن البدن، وعلى مسلكه يكون البدن المثالي مخلوقاً مع البدن العنصري وفي داخله وحالّة فيه ويتكامل مع تكامله على نحو لو تركت النفس تعلّقها بالبدن الدنيوي لبقيت متعلّقة بالبدن المثالي، وتمكث في عالم البرزخ إلىٰ يوم القيامة ثمّ تحشر معه متعلّقة به.

فهنا سؤال وهو أنّ حاجة النفس إلى البدن المثالي يدور حول أحد أمرين:

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٩٤ ـ ١٩٨.

٩٩

الأوّل: انّ تكامل النفس بعد تركها البدن الدنيوي رهن تعلّقها بذلك البدن حتى تتكامل تحت ظل ذلك التعلّق.

الثاني: انّ النفس بحاجة إلى ذلك البدن لأجل نيل الثواب والعقاب ولولاه لما تيسر لها نيلهما.

أما الثاني فهو مخالف لمختاره في القوة الخيالية للنفس، فانّها قوة جوهرية معلولة للنفس قائمة بها قيام المعلول بالعلة، وليست حالَّة في البدن ولا في أعضائه، وعلىٰ هذا تكون الصور المخلوقة بتلك القوة مخلوقة للقوة قائمة بها، قيام المعلول بالعلة من دون أن تكون حالّة في الأعضاء.

فإذا كانت القوّة والصور القائمة بها، أُموراً جوهرية قائمة بالنفس فلا حاجة لها بالبدن المثالي.

نعم القوة الخيالية في النشأة الأُولىٰ لا تستطيع خلق الصور إلّا عن طريق إعمال القوى الحسية الموجودة في الأعضاء، فلا يُبصر إلّا بالعين، ولا يُسمع إلّا بالسمع، وحيث إنّ الصور في هذه النشأة تأتي إلى النفس والقوة من خارج ذاتهما فلا محيص من الاستعانة بالبدن العنصري، وهذا بخلاف الصور الجميلة أو المؤلمة في النشأة الأُخرىٰ فانّ الصور تبرز من داخل النفس والقوة إلىٰ خارجهما حسب الملكات التي يكتسبها الإنسان طيلة عمره، فالنفس ذي الملكة الحسنة تخلق صوراً جميلة يلتذ بها على خلاف الملكة السيئة، وعلىٰ ذلك فلا حاجة للنفس ولا للقوّة الخيالية في إيجاد الصور للبدن المثالي.

فتعين الوجه الأوّل، وهو أنّ النفس في تكاملها رهن البدن المثالي فعندئذٍ نطرح هنا أمرين :

الأوّل: انّ كثيراً من الناس يعوزهم الاستعداد اللازم للانتقال إلى عالم العقول، بل يبقوا في عالم المثال أبد الدهر، وعندئذٍ يكون استخدام البدن المثالي

١٠٠

أمراً زائداً طفيلياً لا ينفع.

وأمّا الأنبياء والأولياء فلهم استعداد الانتقال إلى عالم العقول فيتركون البدن المثالي لغاية الوصول إلى عالم العقل، فيكون حشرهم الجسماني أمراً مؤقتاً لا أمراً دائمياً وهو علىٰ خلاف القرآن.

الثاني: المختار عند صدر المتألّهين في العوالم الثلاثة انّها عوالم غير منفصلة فمع أنّ كلاً في طول الآخر، لكن عالم العقل باطن عالم المثال، وعالم المثال باطن عالم الطبيعة.

فالنفس في عالم الطبيعة واجدة للمراتب الثلاثة دفعة واحدة فهي بما أنّها مبدأ للحياة الحيوانية مظهر لعالم الطبيعة وبما أنّها تدرك الصور الحسية مظهر لعالم المثال، وبما أنّها تدرك المفاهيم الكلية والحقائق المرسلة مظهر عالم العقل، ولأجل ذلك اشتهر قولهم: « النفس في وحدتها كل القوى » فهي بوجودها الجمعي جامعة لتلك المراتب دفعة واحدة وإن كانت كلّ مرتبة في طول الأُخرى.

فإذا كانت هذه حالة النفس، فلماذا لا تحافظ على تلك الحالة في عالم الحشر أيضاً، بأن يكون لها حشر طبيعي ومثالي وعقلاني، فهي بوجودها الطبيعي تثاب وتعاقب بما يناسب عالم الطبيعة كما أنّها بوجودها المثالي تثاب بالصور وتعاقب بها، كما أنّها بمرتبتها العقلية تصل إلىٰ ما هو الغاية القصوىٰ، وحيث إنّه لا تزاحم بين المراتب في وجود النفس فلا مانع من أن يكون حشر واحد للنفس في جميع مراتبها لا بحدودها ؟

وخلاصة القول: إنّ عالم الطبيعة تدبر بالعوالم الثلاثة، فعالم الطبيعة تحت ظل عالم المثال، كما أنّ كليهما تحت ظل عالم العقل، فلا تزاحم بين العوالم الثلاثة خارج النفس، كذلك لا تزاحم بين تلك العوالم في وجود النفس في الحشر الأُخروي.

١٠١

وفي الختام نعطف نظر القارئ العزيز إلى أن لو كان القول بتعلّق النفس بالبدن المثالي لأجل الجمع بين الشريعة والبرهان، فهذا الجمع بعيد عن الصواب لا سيما وإنّ أكثر الآيات الواردة في المعاد الجسماني صريحة في المعاد العنصري لا في المعاد المثالي.

الثالث: المعاد الجسماني والرأي السائد بين المتكلّمين

الرأي السائد بين المتكلّمين هو أنّه سبحانه يخلق من الأجزاء المتفرقة للبدن بدناً، فيعيد إليه نفسه المجردة الباقية بعد بلاء البدن، ولا يضر أنّه غير البدن الأوّل بحسب الشخص، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى:( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) (١) إشارة إلى هذا.

فإن قيل: على هذا يكون المثاب والمعاقب باللّذات والآلام الجسمانية، غير من عمل الطاعة وارتكب المعصية.

قلنا: العبرة في ذلك بالإدراك وإنّما هو للروح ولو بواسطة الآلات وهو باق بعينه، وكذا الأجزاء الأصلية من البدن، ولهذا يقال للشخص من الحداثة إلى الشيخوخة أنّه هو بعينه وإن تبدلّت الصور والهيئات، بل كثير من الآلات والأعضاء، ولا يقال لمن جنىٰ في الشباب فعوقب في المشيب إنّها عقوبة لغير الجاني.

ويدل عليه من الآيات :

قوله سبحانه:( قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .(٢)

__________________

١. يس: ٨١.

٢. يس: ٧٨ ـ ٧٩.

١٠٢

وقوله تعالى:( فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) .(١)

( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ *بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ) .(٢)

( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .(٣)

( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ) .(٤)

( يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) .(٥)

( أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ) (٦) . إلى غير ذلك من الآيات.

وبالجملة فإثبات الحشر من ضروريات الدين وإنكاره كفر.

فإن قيل: الآيات المشعرة بالمعاد الجسماني ليست أكثر وأظهر من الآيات المشعرة بالتشبيه والجبر والقدر ونحو ذلك وقد وجب تأويلها قطعاً، فلنصرف هذه أيضاً إلىٰ بيان المعاد الروحاني، وأحوال سعادة النفوس وشقاوتها بعد مفارقة الأبدان على وجه يفهمه العوام، فانّ الأنبياء مبعوثون إلى كافة الخلائق لإرشادهم إلى سبيل الحقّ، وتكميل نفوسهم بحسب القوة النظرية والعملية وتبقية النظام المفضي إلىٰ صلاح الكلّ وذلك بالترغيب والترهيب بالوعد والوعيد والبشارة بما يعتقدونه لذة وكمالاً، والإنذار عمّا يعتقدونه ألماً ونقصاناً، وأكثرهم عوام تقصر

__________________

١. يس: ٥١.

٢. القيامة: ٣ ـ ٤.

٣. فصلت: ٢١.

٤. النساء: ٥٦.

٥. ق: ٤٤.

٦. العاديات: ٩.

١٠٣

عقولهم عن فهم الكمالات الحقيقية واللذات العقلية وتقتصر على ما ألّفوه من اللذات والآلام الحسية وعرفوه من الكمالات والنقصانات البدنية، فوجب أن تخاطبهم الأنبياء بما هو مثال للمعاد الحقيقي ترغيباً وترهيباً للعوام وتتميماً لأمر النظام، وهذا ما قاله أبو نصر الفارابي إنّ الكلام مثل.

قلنا: إنّما يجب التأويل عند تعذر الظاهر، ولا تعذر هاهنا سيّما على القول بكون البدن المعاد مثل الأوّل لا عينه. وما ذكرتم من حمل كلام الأنبياء ونصوص الكتاب على الإشارة إلىٰ مثال معاد النفس والرعاية للمصلحة العامة، نسبة للأنبياء إلى الكذب فيما يتعلّق بالتبليغ والقصد إلى تضليل أكثر الخلائق والتعصب طول العمر لترويج الباطل وإخفاء الحقّ لأنّهم لا يفهمون إلّا هذه الظواهر التي لا حقيقة لها عندكم.

نعم لو قيل: إنّ هذه الظواهر مع إرادتها من الكلام وثبوتها في نفس الأمر، مثل للمعاد الروحاني واللذات والآلام العقلية، وكذا أكثر ظواهر القرآن على ما يذكره المحقّقون من علماء الإسلام، لكان حقّاً لا ريب فيه ولا اعتداد بمن ينفيه.(١)

إنّ ما ذكره سعد الدين التفتازاني كلام حقّ لا سترة عليه، وهو الموافق للقرآن الكريم.

ونضيف إلىٰ كلامه أمرين :

الأوّل: انّ القرآن يطرح إمكان المعاد من خلال بيان قصص تتضمن عود الموتى إلى الحياة، كقصة إبراهيم، وعزير، وأُمّة من بني إسرائيل، وقصّة البقرة، وغيرها، فلا يمكن أن تفسر تلك البراهين بالمثَل.

__________________

١. شرح المقاصد: ٢ / ٢١٢ ـ ٢١٣، ط الآستانة.

١٠٤

الثاني: انّ ثمة فرقاً بين ما دلّ على الجبر، وبين ما دلّ على المعاد الجسماني، فما يدل على الأوّل يخالف العقل الصريح، ولفيف من الآيات، كما يضاد الغاية من وراء بعث الأنبياء، فلا محيص عن التأويل.

وأمّا المعاد الجسماني فليس هناك أيّ داع إلى التأويل، سوى الشبهات التي نطرحها على طاولة البحث، وسنحللها بفضل من الله سبحانه حينها حتىٰ تنجلي الحقيقة ناصعة لا يشوبها لبس ولا غموض.

الرابع: المعاد الجسماني ورأي بعض المتكلمين

ذهب لفيف من المتكلّمين إلى أنّ للإنسان أجزاءً أصلية صلبة لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان ولا التغيّر والتبدّل، وإنّما تطرأ إلى ما يضيف إليها.(١)

وبعبارة أُخرى: المعاد عبارة عن جمع متفرقات أجزاء مادية لأعضاء أصلية باقية عندهم، وتصويرها مرّة أُخرى بصورة مثل الصورة السابقة ليتعلّق النفس بها مرّة أُخرى.

يقول الإمام الرازي: إنّ قوله تعالى في سورة الواقعة من الآيات إشارة إلىٰ جواب شبهة المنكرين الذين هم من أصحاب الشمال المجادلين، فانّهم قالوا:( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ) (٢) وأشير إلى إمكانها هذا بوجوه أربعة :

أوّلها، قوله تعالى:( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ *أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ) .(٣)

__________________

١. كشف المراد: ٢٥٩، المسألة الرابعة في وجوب المعاد الجسماني.

٢. الصافات: ١٦ ـ ١٧ والواقعة: ٤٧ ـ ٤٨.

٣. الواقعة: ٥٨ ـ ٥٩.

١٠٥

وجه الاستدلال بهذا أنّ المني إنّما يحصل من فضلة الهضم الرابع، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء ولهذا يشترك كلّ الأعضاء ويجب غسلها بالالتذاذ الواقع لحصول الانحلال عنها كلّها، ثمّ إنّ الله تعالى سلّط قوّة الشهوة على البنية حتّى أنّها تجمع تلك الأجزاء الطلية، فالحاصل أنّ تلك الأجزاء كانت متفرقة جداً أوّلاً في أطراف العالم.

ثمّ إنّ الله جمعها في بدن ذلك الحيوان وجمعها الله في أوعية المني ثمّ إنّه أخرجها ماءً دافقاً إلىٰ قرار الرّحم، فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكوَّن منها هذا الشخص فإذا افترقت بالموت مرة أُخرى، فكيف يمتنع عليه جمعها مرّة أُخرى ؟!(١)

إنّ ما ذكره المتكلّمون إنّما هو لإثبات أنّ المعاد عنصري لا مثالي، وهذا حقّ في الجملة، لكن القول بأنّ لكلّ إنسان أجزاء صلبة لا تتبدل ولا تتغير إلىٰ شيء فهو أمر لم يثبته العلم ولا التجربة ولا البرهان العقلي.

نعم لو تضافرت عليه الأخبار نأخذ به تعبداً.(٢)









__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٥٣ ـ ١٥٤.

٢. الأسفار: ٩ / ١٥٣ ـ ١٥٤.

١٠٦





الفصل التاسع :

المعاد الجسماني والشبهات المطروحة

قد نسب إلى الشيخ الرئيس أنّه لا يمكن إثبات إمكان المعاد الجسماني إلّا عن طريق الشرع، وحيث إنّه أخبر عن وقوعه نستكشف إمكانه.

ولكن عبارته في الشفاء تنادي بخلاف ذلك، فهو لا يدّعي أنّ إمكانه رهن خبر الشارع وإنّما يدّعي أنّ وقوعه رهن خبر الشارع.

وبعبارة أُخرى: إمكان المعاد الجسماني أمر مسلم، وإنّما الكلام في لزوم وقوعه، والعقل يدل على لزوم المعاد الروحاني، ولم يدل دليل عقلي على لزوم المعاد الجسماني، وإليك عبارته :

يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو منقول من الشرع ولا سبيل إلىٰ إثباته إلّا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة وهو الذي للبدن عند البعث.(١)

تجد انّه يقول: « لا سبيل إلىٰ إثباته » أي لزوم وقوعه لا إمكانه، ولولا الشرع لم يكن دليل على لزوم وقوعه.

يقول صدر المتألّهين: يستفسر عن هؤلاء المنكرين للمعاد الجاحدين لأحكام الشريعة بناء على قصور مداركهم عن دركها إنّهم هل يدّعون الامتناع

__________________

١. الشفاء: الإلهيات، الفصل الثاني من المقالة التاسعة.

١٠٧

أو يمنعون الإمكان والجواز ؟ فعلى الأوّل، يقال لهم: إنّ عليكم البيّنة وإثبات ما ادّعيتم وما لكم فيما قلتم به من هذا عين ولا أثر. وعلى الثاني كلّ ما أُزيل ظاهره عن الإحالة والامتناع قام التنزيل الإلهي والأخبار النبوية الصادرة عن قائل مقدس عن شوب الغلط والكذب مقام البراهين الهندسية في المسائل التعليمية والدعاوي الحسابية.(١)

والمهم تحليل الشبهات المطروحة حول المعاد الجسماني.

الشبهة الأُولى: المعاد إعادة للمعدوم

لقد ذكر سعد الدين التفتازاني بعض الشبهات في مقاصده وشرحه، أحدها: بأنّ المعاد إعادة للمعدوم وهو أمر محال.

ثمّ نقل عن الشيخ الرئيس، القول التالي: إنّ كلّ من رجع إلىٰ فطرته السليمة، ورفض عن نفسه الميل والعصبية، شهد عقله الصريح بأنّ إعادة المعدوم ممتنع.

وقد أجاب المحقّق التفتازاني عن الإشكال بقوله :

أوّلاً: منع امتناع الإعادة، وقد تكلّمنا عن أدلّته.

وثانياً: أنّ المراد إعادة الأجزاء إلى ما كانت عليه من التأليف والحياة ونحو ذلك ولا يضرنا كون المعاد مثل المبدأ لا عينه.(٢)

أقول: أمّا الجواب الأوّل فليس بشيء، فانّ إعادة المعدوم بعينه أمر ممتنع بالذات، لأنّ المقصود من الإعادة هو تعلّق القدرة ثانياً، بإيجاده في الزمان الثاني، ومثل ذلك لا يكون إعادة للمعدوم بعينه بل إعادة له بمثله.

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٦٧ ـ ١٦٨.

٢. شرح المقاصد: ٢ / ٢١٣.

١٠٨

فلو كان المراد من إعادة المعدوم هو خرق الحجب والموانع والرجوع إلى الزمن الماضي ورؤية كلّ شيء في محلّه، فهذا ليس إعادة للمعدوم بل مشاهدة لوجود شيء في ظرفه.

وإن شئت قلت: إنّ الواقع لا ينقلب عمّا هو عليه، وكلّ شيء إذا حدث فهو محفوظ في ظرفه، وإن كان غير محفوظ في الظروف التي تعقبه.

فمثلاً الحوادث التي وقعت في عهد نوح منذ دعوته ومكابرة قومه، واستيلاء الغرق عليهم، وركوب السفينة وسيرها على الماء ونزولها على الجودي، أمر غابر لكنه موجود في ظرفه، لا يمكن قلبه عمّا هو عليه وإن كان غير موجود في الأزمنة التي تعقبه.

فإن أُريد من إعادة المعدوم هو خرق الحجب ورؤية كلّ شيء في ظرفه، فهو ليس إعادة للمعدوم ولا خلقاً له، ومن الواضح أنّ المعاد ليس من هذا القبيل، ولا يراد منه خرق الحجب لرؤية المؤمنين والكافرين في ظروفهم الزمنية.

وإن أُريد تعلّق الخلق وقدرته سبحانه على إيجادهم بعد انعدامهم، فهذا ليس إعادة للمعدوم بل إيجاداً لمثله، ضرورة تعدد الفعل والخلق.

وبذلك ظهر أنّ الجواب الثاني الذي أشار إليه التفتازاني هو المهم في الباب.

توضيحه: أنّ المعاد ليس من قبيل إعادة المعدوم، بل إيجاد للمعدوم ثانياً، على نحو يطلق على الثاني انّه عين الأوّل عرفاً وإن كان مثله عقلاً، وذلك لأنّ الإنسان بموته يترك أمرين.

الأوّل: العظام والعروق واللحوم التي تتحول إلىٰ رميم وتتبدل إلىٰ ثرىٰ.

الثاني: الروح والنفس التي يتوفّاها ملك الموت.

١٠٩

وعلى ذلك ليس كلّ ممّا ترك أمراً معدوماً، بل أمر موجود، غاية الأمر إنّما فقد الاتصال والتماسك بين الأجزاء التي هي مبدأ للروح الحيوانية، فلو أعيد الاجتماع والانضمام إلى الأجزاء وتعلّق بها الروح المحفوظة، يكون المعاد نفس الإنسان السابق.

وممّا يؤكد ذلك ما أثبته العالم الفرنسي لافوازيه عام ١٧٧٥م فقد أثبت بأنّ المادة لا تعدم ولا تستحدث بل تتحول من شكل إلى آخر، وأنّ التفاعلات الكيمياوية أو الفيزياوية لا تعدم فيها المادة بل المادة باقية بحالها، غاية الأمر تتحول من شكل إلى شكل آخر.

الشبهة الثانية: شبهة الآكل والمأكول

هذه الشبهة من أقدم الشبهات التي طرحت في المعاد الجسماني، وقد جاء ذكرها في أكثر الكتب الكلامية.

وقد قررت بوجوه، أوضحها ما ذكره العلّامة الحلّي في كشف المراد، حيث قال :

إنّ إنساناً لو أكل آخر أو اغتذىٰ بأجزائه فإن أعيدت أجزاء الغذاء إلى الأوّل عدم الثاني، وإن أُعيدت إلى الثاني عدم الأوّل.

وأيضاً إمّا أن يعيد الله تعالى جميع الأجزاء البدنية الحاصلة من أوّل العمر إلىٰ آخره أو القدر الحاصل له عند موته، والقسمان باطلان :

أمّا الأوّل: فلأنّ البدن دائماً في التحلّل والاستخلاف، فلو أُعيد البدن مع جميع الأجزاء منه لزم عظمه في الغاية، ولأنّه قد يتحلّل منه أجزاء تصير أجساماً غذائية ثمّ يأكلها ذلك الإنسان بعينه حتى تصير أجزاء من عضو آخر غير العضو الذي كانت أجزاء له أوّلاً، فإذا أُعيدت أجزاء كلّ عضو إلى عضوه لزم جعل ذلك

١١٠

الجزء جزءاً من العضوين، وهو محال.

وأما الثاني: فلأنّه قد يطيع العبد حال تركبه من أجزاء بعينها ثمّ تتحلّل تلك الأجزاء، ويعصي في أجزاء أُخرى، فإذا أُعيد في تلك الأجزاء بعينها وأثابها على الطاعة لزم إيصال الحقّ إلىٰ غير مستحقه.(١)

وقد لخصها سعد الدين التفتازاني، وقال: لو أكل إنسان إنساناً وصار غذاء له جزءاً من بدنه فالأجزاء المأكولة إمّا أن تعاد في بدن الآكل، أو في بدن المأكول، وأيّاً ما كان لا يكون أحدهما بعينه معاداً بتمامه، على أنّه لا أولوية لجعلها جزءاً من بدن أحدهما دون الآخر، ولا سبيل لجعلها جزءاً من كلّ منهما، وأيضاً إذا كان الآكل كافراً والمأكول مؤمناً يلزم تنعيم الأجزاء العاصية أو تعذيب الأجزاء المطيعة.(٢)

إجابة المتكلّمين عن الشبهة

وقد أجاب المتكلّمون عن الشبهة بالأصل الذي اختاروه في تفسير المعاد الجسماني، وهو :

انّ لكلّ مكلّف أجزاء أصيلة لا يمكن أن تصير جزءاً من غيرها، بل تكون فواضل من غيره لو اغتذى بها، فإذا أُعيدت جعلت أجزاءً أصلية لما كانت أصلية له أوّلاً، وتلك الأجزاء هي التي تعاد، وهي باقية من أوّل العمر إلىٰ آخره.(٣)

واختاره التفتازاني أيضاً حيث قال :

إنّا نعني بالحشر إعادة الأجزاء الأصلية الباقية من أوّل العمر إلىٰ آخره، لا

__________________

١. كشف المراد: ٢٦٠، ط مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام .

٢. شرح المقاصد: ٢ / ٢١٣، ط الآستانة.

٣. كشف المراد: ٢٦٠.

١١١

الحاصلة بالتغذية، فالمعاد من كلّ من الآكل والمأكول الأجزاء الأصلية الحاصلة في أوّل الفطرة من غير لزوم فساد.(١)

وقد عرفت عدم ثبوت أصل النظرية من أنّ لكلّ إنسان أجزاء صلبة أصلية لا تكون جزءاً للغير، فيسقط الجواب مادام لم يثبت الأصل.

إجابة صدر المتألّهين عن الشبهة

أجاب الحكماء عن الشبهة بمسألة أنّ تشخّص كلّ إنسان إنّما يكون بنفسه لا ببدنه، وأنّ البدن المعتبر فيه أمر مبهم لا تحصُّل له إلّا بنفسه، وليس له من هذه الحيثية تعيّن ولا ذات ثابتة، ولا يلزم من كون بدن زيد محشوراً أن يكون الجسم الذي منه صار مأكولاً لسبع أو إنسان آخر، محشوراً، بل كلّما يتعلّق به نفسه هو بعينه بدنه الذي كان، فالاعتقاد بحشر الأبدان يوم القيامة هو أن يبعث أبدان من القبور إذا رأى أحد كلّ واحد واحد منها يقول هذا فلان بعينه، أو هذا بدن فلان، ولا يلزم من ذلك أن يكون غير مبدَّل الوجود والهوية، كما لا يلزم أن يكون مشوّه الخلق، والأقطع والأعمىٰ والهرم محشوراً علىٰ ما كان من نقصان الخلقة وتشويه البنية كما ورد في الأحاديث.(٢)

وما ذكره من الجواب هو اللائح من قوله سبحانه:( قَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ *قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .(٣)

فانّ الشبهة جاءت في صدر الآية تحت عنوان الضلال في الأرض، أعني

__________________

١. شرح المقاصد: ٢ / ٢١٣، ط الآستانة.

٢. الأسفار: ٩ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٣. السجدة: ١٠ ـ ١١.

١١٢

قولهم:( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ ) وجاء الجواب في قوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ ) ، ولا تحسم مادة الإشكال إلّا بالتفسير التالي، وهو :

إنّ ضلال أجزاء البدن في الأرض وتبعثرها لا يخل بالمعاد الجسماني، ولا يكون دليلاً على محو الشخصية، لأنّ الأصل في الإنسان هو الروح فالشخصية تدور مدار بقاء الروح، فعندئذٍ لو حشر مع بدن عنصري حينها ستحفظ شخصيته ووحدته سواء أكان البدن الذي عاشت معه النفس في الدنيا أم الآخرة، لأنّ البدن آلة لإدراك الألم، والمؤلم حقيقة هي النفس والبدن أداة لإيلامها، فلا فرق بين كون البدن نفس البدن الدنيوي أو غيرها.

ويتضح ذلك من خلال القول أنّ النفس ربما لا تتألم بالآلام الجسمانية إلّا عن طريق البدن، فالضرب على البدن لأجل إيلام الروح دون البدن فلا يكون الضرب على غير البدن الذي عاشت معه ظلماً وخارجاً عن الحدّ.

هذا ما يمكن به توجيه كلام الحكماء.

أقول: ولنا تقرير آخر في دفع هذه الشبهة، وقبل الخوض ننبّه على أنّ الشبهة يمكن أن تقرر بوجهين :

الوجه الأوّل: انّه إذا صار جزء من بدن الإنسان، عضواً لبدن إنسان آخر، فحشر كلا الإنسانين، يستلزم وجود النقص في واحد منهما.

الوجه الثاني: انّ حشرهما بأيّ صورة كانت مخالف للعدل الإلهي، حيث يمكن أن يكون الإنسان الأوّل مطيعاً والثاني عاصياً، فيلزم أن يعذب جزء من بدن الإنسان المؤمن في نار جهنم إذا صار عضواً لبدن الكافر.

وهانحن نصب البحث على الإشكال الأوّل ثمّ نرجع إلى الاشكال الثاني، فنقول :

١١٣

إنّ تحوّل جزء من بدن إنسان إلى بدن إنسان آخر بالمباشرة نادراً ما يتفق، وإنّما الشائع هو التحول من خلال تحول البدن الإنساني إلىٰ تراب ومن ثمّ انتقاله إلىٰ نبات وحيوان ثمّ يتغذىٰ بها الإنسان، وبناء عليه فانّ الصور المفروضة أربع :

أ. أن يحشر كلّ واحد من الآكل والمأكول بنفس الجزء المستهلك.

ب. أن يحشر آكله به دون المأكول.

ج. على العكس.

د. أن يحشر كلّ واحد من الآكل والمأكول دون الجزء المستهلك.

أمّا الصورة الأُولى فهي افتراض محال، لاستلزامه كون شيء واحد في زمان واحد في محلين. وكلّ من الصورة الثانية والثالثة تستلزم نقصاً في المحشور إمّا في الآكل أو في المأكول.

وفي الصورة الرابعة يستلزم النقص في كلا المحشورين.

وربّما يتصور أن لازم الصورتين الثانية والثالثة أن يكون المحشور أحد البدنين فقط، لافتراض أنّ بدن أحدهما صار جزءاً لبدن الآخر فلم يبق للإنسان الأوّل بدن يحشر به.

ولكن هذا التصور من الوهن بمكان، لأنّه قلّما يتّفق أن يكون بدن الإنسان بتمام أجزائه بدناً لإنسان آخر، إذ الغالب تحوّل جزء ضئيل من بدن المأكول إلىٰ بدن الآكل، لا كلّ الأجزاء.

هذه هي صور الشبهة وإليك الجواب عنها :

لا شكّ أنّ الصورة الأُولىٰ والرابعة خارجة عن نطاق البحث، فالأُولىٰ تستلزم المحال، والرابعة مجرّد افتراض لم يتفوّه بها أحد، فتنحصر الشبهة في الصورتين الثانية والثالثة، فعندئذٍ نقول :

١١٤

إنّ للصورتين الثانية والثالثة فروضاً مختلفة :

١. أثبت العلم الحديث أنّ بدن الإنسان في تحوّل وتغيّر مستمر، فهو في ظل هذا التحوّل ذو أبدان كثيرة، وقيل انّ خلايا البدن الإنساني تتغير برمتها كلّ ثمان سنين.

٢. إذا افترضنا أنّ البدن الأخير وماتقدمه من الأبدان صادف المانع وأصبح جزءاً لإنسان آخر، ولو من خلال تحول البدن إلى تراب ونبات وحيوان، ولكن ليس عامّة الأجزاء من كلّ بدن مأكولاً لفرد آخر، وإنّما يتحول جزء من كل بدن، فعند ذلك يحشر بأي بدن شاء الله وإن كان بدناً نحيلاً، لأنّه يكفي في المعاد أنّ البدن الأُخروي نفس البدن الدنيوي ولم يدل دليل على العينية من حيث السمن والضعف.

٣. لو افترضنا ـ وإن كان الفرض من النُدرة بمكان ـ أن تتحول أغلب الأجزاء من كلّ بدن إلى بدن إنسان آخر بحيث لا يكون الباقي كافياً في تشكيل بدن الآكل، وعندئذ لا مانع من إكمال البدن بالاستعانة بأجزاء ترابية وهوائية أُخرىٰ، ولا يعدّ ذلك نقضاً في الحشر، لما عرفت من أنّ الملاك هو صدق العينية عرفاً لا عقلاً، ولذلك يعبر سبحانه عن ذلك بقوله:( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) (١) بناء على أنّ الضمير في « مثلهم » يرجع إلى الإنسان، وقال عزّ من قائل:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إلّا كُفُورًا ) .(٢)

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « وإذا قبضه ( أي روح المؤمن ) الله إليه سيّر تلك

__________________

١. يس: ٨١.

٢. الإسراء: ٩٩.

١١٥

الروح إلى الجنة في صورة كصورته، فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت عليها في الدنيا ».(١)

وإلى هذا الجواب يشير صدر المتألّهين بقوله: لا عبرة بخصوصية البدن وانّ تشخصه والمعتبر في الشخص المحشور جسمية ما أية جسمية كانت، وانّ البدن الأُخروي ينشأ من النفس بحسب صفاتها لا أنّ النفس يحدث من المادة بحسب هيئاتها واستعداداتها كما في الدنيا.(٢)

وما ذكره ينطبق على ما ذكرنا إذا أراد من البدن، البدن العنصري، لكنّهقدس‌سره كما عرفت يصرح بالبدن البرزخي ويقول: وإنّ البدن الأُخروي ينشأ من النفس بحسب صفاتها.

هذا كلّه حول الشبهة من المنظار الأوّل، وإليك دراسة الشبهة من منظار العدل الإلهي.

شبهة الآكل والمأكول من منظار العدل الإلهي

كان التقرير السابق للشبهة من منظار عدم وفاء المادة لحشر كلّ إنسان على النحو الأكمل.

ولكن البحث في المقام يركز على أنّه إذا كان المؤمن مأكولاً للكافر، يلزم تعذيب المؤمن بتعذيب الكافر، أو بالعكس. ونجيب عن هذا التقرير بوجهين :

الوجه الأوّل: انّه إذا صار عضو من بدن المؤمن جزءاً لبدن الكافر يكون تعذيبه تعذيباً للكافر لا للمؤمن، لأنّ الجزء في ظل الحركة الجوهرية انقطعت صلته بالمأكول واندكّ في الآكل على نحو صار جزءاً منه، فتعذيبه أو تنعيمه يرجع

__________________

١. البحار: ٦ / ٢٢٩، الحديث ٣٢، من أحاديث باب أحوال البرزخ.

٢. الأسفار: ٩ / ٢٠٠.

١١٦

إلى الآكل لا إلى المأكول، ونظيره زرع الأعضاء الرائج في الطب الحديث فانّ الكلية مثلاً إذا أخذت من بدن شخص وزرعت في بدن شخص آخر على نحو التحمت مع سائر الأعضاء، فتعذيبه وتنعيمه يرجع إلى المأكول لا إلى الآكل.

الوجه الثاني: انّ الشبهة نابعة من التفكير المادي، حيث يحصر واقع الإنسان في اللحم والجلد والعظام، مع أنّ واقع الإنسان شيء أعمق من ذلك، وهو روحه ونفسه، فإذا صار عضو من الإنسان جزءاً من إنسان آخر انقطعت صلة الروح عن الجزء المقطوع فلا يكون مدبَّراً للنفس، فتكون الآلام واللّذات منصبَّة على الآكل لا على المأكول، ولعل هذا البحث المبسوط، فيه الكفاية لذوي الألباب.

وأنا بدوري أعتذر للقرّاء الكرام من إطالة الكلام في هذا المقام.

الشبهة الثالثة: ما هو الهدف من الجزاء ؟

إذا كان الهدف من إعادة الإنسان ليجزىٰ بما عمل من خير أو شر، فما هو السر وراء تعذيب المجرم ؟ فانّ هناك احتمالات عدّة :

الأوّل: التشفّي وتسكين الآلام.

الثاني: تأديب المجرم.

الثالث: أن يكون التعذيب عبرة وعظة للآخرين.

وهذه الفروض إنّما تصحّ في التعذيب الدنيوي، فولي الدم يقتص من القاتل للتشفي وتسكين آلامه، كما أنّ تأديب المجرم غاية تختص بالدنيا، فانّ القاضي والحاكم يؤدّب المجرم بالضرب والسجن أو غيرها ليصلح حاله، في مستقبل حياته.

كما أنّ أخذ العبرة من تعذيب الغير أمر يختص بالدنيا لئلاّ يقترف الآخرون

١١٧

الجرائم، كما هو الحال في قوله:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ ) .(١)

فإذا كانت الغايات الثلاث ممّا تتحقق في الحياة الدنيا، فيكون التعذيب في الآخرة أمراً عبثاً لا غاية له.

ثمّ إنّ المستشكل عطف الثواب الأُخروي على العذاب الدنيوي فزعم أنّه أيضاً بلا غاية، وقال :

وأمّا الالتذاذ فهو أيضاً باطل، لأنّ اللذة الجسمانية لا حقيقة لها، وإنّما هو دفع الألم بالاستقراء وانّه لو ترك على حاله ولم يعد لم يكن له ألم فهذا الغرض حاصل بدون الإعادة فلا فائدة فيها.(٢)

والجواب: انّ المستشكل زعم أنّ المعاد أمر ممكن فسأل عن غايته وأغراضه، فإذا انتفى الغرض فيه حكم ببطلانه، وهذا أمر بعيد عن الصواب، فالمعاد أمر ضروري حسب الأدلة الستة، وفيه العلّة الفاعلية والغائية، ومعها كيف يكون أمراً عبثاً ؟! وكفىٰ في العلّة الغائية أنّها مظهر لعدله سبحانه، ومجلىٰ لقسطه على وجه يكون تركه أمراً قبيحاً، بل هو مجلىٰ لوعده ووعيده.

وأمّا ما ذكره أخيراً من عدم أصالة اللذة الجسمانية، وإنّما هو دافع للألم كالأكل الذي هو دافع لألم الجوع، فلا أساس له من الصحة، فهل يتصور أنّ الالتذاذ من خلال النظر إلى المناظر الجميلة والحدائق المكتظة بالأشجار أمر لا حقيقة له، بل هو رافع للألم فحسب ؟!

وثمّة جواب آخر وهو: أنّ ما ذكره من الإشكال إنّما يتم في الجزاء الجعلي، فيسأل عن حكمتها وغاياتها بأحد الوجوه، وأمّا إذا كان الجزاء خارجاً عن هذا الإطار وكان من لوازم وجود الملكات التي اكتسبها الإنسان طيلة حياته علىٰ نحو

__________________

١. النور: ٢.

٢. شرح المواقف: ٨ / ٢٩٦ ; شرح المقاصد: ٢ / ٢١٤، ط آستانه.

١١٨

تكون الصور الجميلة الملِذَّة أو الصور القبيحة المؤلمة من لوازم الملكات المكتسبة التي تعد جزءاً لبدن الإنسان، فالسؤال عندئذ ساقط من أصله لأنّها من لوازم الوجود، واللازم لا يُعلَّل، كما أنّ الزوجية من لوازم الأربعة فإيجاد الأربعة إيجاد للزوجية، كما أنّ إعادة الإنسان بما له من الملكات إعادة للوازمه بلا حاجة إلىٰ جعل آخر.

وهناك جواب ثالث وهو: أنّ الجزاء خيره وشره صور برزخية للأعمال الدنيوية التي يكتسبها الإنسان طيلة حياته، وكأنّ للعمل كالصلاة والصوم وجودين، وجوداً دنيويّاً ووجوداً أُخرويّاً، فالصلاة في هذه النشأة أذكار وحركات، وفي النشأة الأُخرى نور وقربة، كما أنّ الصوم في هذه النشأة إمساك، وفي النشأة الأُخرىٰ جُنّة من النار.

فليس الجزاء خيره وشره أمراً مخلوقاً، بل إعادة لنفس الأعمال لكن بوجودها البرزخي، ولا مانع من أن يكون لشيء واقعية واحدة وتجليات مختلفة، فالذهب والفضة المكنزان يتجلّيان في هذه النشأة بصورة برّاقة تسرّ الناظرين، وفي النشأة الأُخرىٰ بصورة نار تكوى بها جلودهم وظهورهم، فالنار الأُخروية التي تكوىٰ بها هي نفس الكنز المحتكر ولكن لها تجليات حسب اختلاف النظر، وإليه يشير سبحانه ويقول:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) .(١)

فقوله سبحانه:( هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ ) إشارة إلى النار التي تكوىٰ بها الجباه والجنوب، فالنار حسب الرؤية القرآنية هي نفس الذهب أو الفضة ولكن تجلّت بوجود برزخي.

__________________

١. التوبة: ٣٤ ـ ٣٥.

١١٩

وهناك احتجاج للإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام علىٰ من أنكر عذاب القبر في هذه الدنيا.

أخرج العاصمي في كتابه « زين الفتىٰ في شرح سورة( هَلْ أَتَىٰ ) » من طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن مهشاد يرفعه، أنّ رجلاً أتىٰ عثمان بن عفّان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميت، فقال: إنّكم تزعمون النار يعرض على هذا وانّه يعذب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسَّ منها حرارة النار ؟ فسكت عنه عثمان وأرسل إلى عليّ بن أبي طالب المرتضىٰ يستحضره، فلمّا أتاه وهو في ملأ من أصحابه، قال للرجل: أعد المسألة. فأعادها، ثمّ قال عثمان بن عفان: أجب الرجل عنها يا أبا الحسن، فقال عليٌّعليه‌السلام : ائتوني بزند وحجر، والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأتي بهما فأخذهما وقدَّح منهما النار، ثمّ قال للرجل: ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه، ثمّ قال: ضع يدك على الزند، فوضعها عليه، فقال: هل أحسست منهما حرارة النار ؟ فبهت الرجل، فقال عثمان: لولا عليٌّ لهلك عثمان.(١)

ثمّ إنّ مسألة تجسم الأعمال بمعانيها المختلفة بحث قرآني سنمر عليه في الفصول اللاحقة.

الشبهة الرابعة: المعاد العنصري عود إلى الدنيا

إنّ الذكر الحكيم يصف المعاد بالنشأة الأُخرى أو دار العقبى وما شابههما، يقول سبحانه:( ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ) (٢) وقال سبحانه:( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَىٰ ) (٣) ويقول سبحانه:( وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى

__________________

١. الغدير: ٨ / ٢١٤.

٢. العنكبوت: ٢٠.

٣. النجم: ٤٧.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403