مفاهيم القرآن الجزء ١٠

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 457

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 457
المشاهدات: 128229
تحميل: 4487


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 457 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128229 / تحميل: 4487
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 10

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-148-3
العربية

مسألة خلافية بين أهل السنّة.

ولكن - يا للأسف - انّهم ربما يتعاملون مع الإمامة والخلافة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير هذا النحو، فربما يُكفّرون أو يفسقون من لم يعترف بإمامة الخلفاء عن اجتهاد. ولذلك نرى أنّ إمام الحنابلة ( المتوفّى عام ٢٤١ ه‍ ) يذكر خلافة الخلفاء الأربعة في عداد المسائل العقائدية١ ، وتبعه أبو جعفر الطحاوي ( المتوفّى عام ٣٢١ ه‍ ) في « العقيدة الطحاوية »٢ ، وقد تبعهما أكثر من جاء بعدهم كالأشعري ( المتوفّى عام ٣٢٤ ه‍ ) في كتاب « الإبانة »٣ وعبد القاهر البغدادي ( المتوفّى عام ٤٢٩ ه‍ ) في « الفَرق بين الفِرق »٤ ، كلّ ذلك تبعاً لإمام الأشاعرة أو الشيخ الطحاوي الذي أصبح الأخير إماماً للعقيدة في الديار المصرية.

والحقّ هو ما صرّح به عضد الدين الإيجي والتفتازاني من أنّ الإمامة من فروع الدين لا من أُصوله، وأنّ النصب لتحقيق غاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا صلة له بأُصول الدين، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبَل إسلام من أسلم واعترف بالشهادتين من دون أن يسأله عن واقع الإمامة، وأنّه هل هو منصب إلهي أو اجتماعي، ومن دون أن يعلمه بلزوم اجتماع الأُمّة بعد رحيله على نصب إمام لهم، ولم يكن أي أثر من تلك المباحث في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذلك لم يتلق أهل السنّة الإمامة والخلافة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمراً أصيلاً من صميم الدين.

نعم أوّل من أدخل خلافة الشيخين في أُصول الدين هو داهية العرب عمرو

__________________

١. كتاب السنَّة: ٤٩.

٢. شرح العقيدة الطحاوية: ٤٧١.

٣. الابانة في أُصول الديانة: ١٩٠، الباب ١٦.

٤. الفرق بين الفرق: ٣٥٠.

٨١

ابن العاص عند اجتماعه مع أبي موسى الأشعري في دومة الجندل للتشاور في مسألة التحكيم المعروفة، ولم يكن هدفه من عدّ خلافة الخليفتين من أُصول الإسلام إلّا الإطاحة بالإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

حيث تقدّم عمرو بن العاص بالكلام، وقال للكاتب: اكتب، فكتب الشهادة بالتوحيد والرسالة، ثمّ قال للكاتب: ونشهد أنّ أبا بكر خليفة رسول الله، عمل بكتاب الله وسنّة رسول الله حتى قبضه الله إليه، وقد أدّى الحق الذي عليه١

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ منصب الإمامة عندهم منصب اجتماعي يُشبه منصبَ رئاسة الجمهوريّة في الوقت الحاضر، أو منصب رئاسة الوزراء في الحكومات الملكية أو ما يشبه ذلك، ولذلك لا يشترط فيه سوى الكفاءة لإدارة البلاد. ولا ينعزل بالفسق والظلم ولا بأكبر من ذلك، وما هذا إلّا لأنّه منصب اجتماعي، وما أكثر الظلم والفسق في أوساط الأمراء ورؤساء الجمهور، وإن كنت في شكّ من ذلك فاقرأ ما كتبه عظيم الأشاعرة أبوبكر الباقلاني وغيره.

قال الباقلاني ( المتوفّى عام ٤٠٣ ه‍ ): لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي الله.٢

وليس الباقلاني نسيج وحده في تلك الفكرة، بل هي فكرة سادت عبر القرون، تراها في كلمات الآخرين، يقول التفتازاني:

__________________

١. مروج الذهب: ٢ / ٣٩٧.

٢. التمهيد: ١٨١.

٨٢

ولا ينعزل الإمام بالفسق أو بالخروج عن طاعة الله تعالى والجور، لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجُمَع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم، ونقل عن كتب الشافعية انّ القاضي ينعزل بالفسق، بخلاف الإمام، والفرق أنّ في انعزاله ووجوب نصب غيره، إثارة الفتن لما له من الشوكة بخلاف القاضي.١

هذا كلّه عند أئمّة السنّة، وأمّا الشيعة فماهيَّة الإمامة عندهم، عبارة عن الرئاسة العامّة في أُمور الدين والدنيا نيابة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبعبارة أُخرى: الإمامة هي استمرار وظائف النبوّة ( لا نفس النبوة لانقطاعها برحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فيقوم الإمام بنفس ما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم به، فالنبوة ونزول الوحي منقطعة لكن الوظائف الملقاة على عاتق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّها على عاتق الإمام، فهو يقوم وراء إدارة البلاد وعمرانها وتوزيع الأرزاق وتأمين السبل والطرق والجهاد في سبيل الله لإشاعة الإسلام وكسر الموانع والعوائق.

فهو يقوم مع هذه الوظائف بوظائف أُخرى، تطلب لنفسها صلاحيات إلهية وتربية سماوية، وتلك الوظائف عبارة عن:

١. بيان الأحكام الإسلامية من كليات وجزئيات.

٢. تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده، وبيان أهدافه، وكشف رموزه وأسراره.

٣. تربية المسلمين، وتهذيبهم وتزكيتهم وتخليص نفوسهم من شوائب الشرك والكفر والجاهلية.

__________________

١. شرح العقائد النسفية: ١٨٥ - ١٨٦، ط اسلامبول.

٨٣

٤. الردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يُلقيها أعداء الإسلام ويوجهونها ضد الدعوة الإسلامية.

٥. الحفاظ على الرسالة الإلهية من أيّة محاولة تحريفية، ومن أي دسٍّ في التعاليم المقدسة.

فقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم بهذه الأُمور معتمداً على الوحي، فيجب أن يقوم من ناب بها عنه بتعليمٍ غيبيّ حتى لا يطرأ خلل في الحياة الدينيّة.

وعندئذٍ يطرح هذا السؤال نفسه، وهو إذا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً بهذه الوظائف العلمية والفكرية معتمداً على الوحي، فكيف يقوم غيره مقامه مع انقطاع الوحي والسفارة من الله سبحانه. والإجابة عن هذا واضحة، فانّ الفيض الإلهي لم يزل يمدُّ عباده الصالحين وإن لم يكونوا رسلاً وأنبياء، وهذا هو الذي يعبر عنه بالمحدَّث، فيلهم إليه وإن لم يكن نبياً من عند الله، وهذا هو مصاحب موسى يعرفه سبحانه بقوله:( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) .١

فعلى ذلك فالإشراقات الإلهية على قلوب الصالحين لا تلازم النبوة والرسالة، بل يكفي أن يكون إنساناً مثالياً، وهذا هو جليس سليمان يصفه سبحانه بقوله:( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) .٢

وهذا الجليس لم يكن نبيّاً، ولكن كان عنده علم من الكتاب، وهو لم يحصِّله

__________________

١. الكهف: ٦٥.

٢. النمل: ٤٠.

٨٤

من الطرق العادية بل كان علماً إلهياً أُفيض إليه، لصفاء قلبه وروحه ولأجل ذلك يَنسب علمه إلى فضل ربه، ويقول:( هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) .

كما تضافرت الروايات على أنّ في الأُمّة الإسلامية - كالأُمم الغابرة - رجالاً مخلصين محدَّثين تفاض عليهم حقائق من عالم الغيب من دون أن يكونوا أنبياء، وإن كنت في شكّ من ذلك فارجع إلى ما رواه أهل السنّة في هذا الموضوع:

أخرج البخاري في صحيحه: « لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر »١ .

قال القسطلاني: ليس قوله: « فان يكن » للترديد بل للتأكيد، كقولك: إن يكن لي صديق ففلان، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء.

وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الأُمّة المفضولة، فوجوده في هذه الأُمّة الفاضلة أحرى٢ .

وأخرج البخاري في صحيحه أيضاً بعد حديث الغار: عن أبي هريرة مرفوعاً: أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدَّثون، إن كان في أُمّتي هذه منهم، فإنّه عمر بن الخطاب٣ .

قال القسطلاني في شرحه: قال المؤلف: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة٤ .

وقال الخطابي: يُلقى الشيء في روعه، فكأنّه قد حُدِّث به يظن فيصيب،

__________________

١. صحيح البخاري: ٢ / ١٤٩.

٢. إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: ٦ / ٩٩.

٣. صحيح البخاري: ٢ / ١٧١.

٤. إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: ٥ / ٤٣١.

٨٥

ويخطر الشيء بباله فيكون، وهي منزلة رفيعة من منازل الأولياء.

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: « قد كان في الأُمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم ».

ورواه ابن الجوزي في صفة الصفوة، وقال: حديث متّفق عليه.١

وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في « مشكل الآثار » بطرق شتى عن عائشة وأبي هريرة، وأخرج قراءة ابن عباس: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث. قال: معنىٰ قوله محدَّثون أي ملهمون، فكان عمر - رضي الله عنه - ينطق بما كان ينطق مُلهماً.٢

قال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف تفسير العلماء للمراد ب‍ــ « محدّثون »، فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: مصيبون، إذا ظنّوا فكأنّهم حُدِّثوا بشيء فظنّوه. وقيل: تكلّمهم الملائكة، وجاء في رواية: مكلّمون.

وقال البخاري: يجري الصواب على ألسنتهم، وفيه إثبات كرامات الأولياء.

وقال الحافظ محبّ الدين الطبري في « الرياض »: ومعنى « محدّثون - والله أعلم - أي ويلهمون الصواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره، وتحدّثهم الملائكة لا بوحي، وإنّما بما يطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلة عظيمة ».٣

قال القرطبي: محدَّثون - بفتح الدال - اسم مفعول جمع محدَّث - بالفتح - أي

__________________

١. صفة الصفوة: ١ / ١٠٤.

٢. مشكل الآثار: ٢ / ٢٥٧.

٣. الرياض: ١ / ١٩٩.

٨٦

ملهم أو صادق الظن، وهو من أُلقي في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوّة، أو مَن إذا رأى رأياً أو ظنّ ظنّاً أجاب كأنّه حُدِّث به وأُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له، وهذه كرامة يُكرم الله بها من شاء من عباده، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء.

فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فإنّه عمر، كأنّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنّه نبيّ، فلذلك أتى بلفظ « إن » بصورة الترديد. قال القاضي: ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص، قولك: إن كان لي صديق فهو زيد، فإنّ قائله لا يريد به الشكّ في صداقته بل المبالغة في أنّ الصداقة مختصّة به لا تتخطّاه إلى غيره.١

فإذا كان في الأُمم السالفة رجال بهذا القدر والشأن، فلِماذا لا يكون في الأُمّة الإسلامية رجال شملتهم العناية الإلهية فأحاطوا بالكتاب والسنّة إحاطة كاملة يرفعون حاجات الأُمّة في مجال العقيدة والتشريع.

فمن زعم أنّ مثل هذه الإفاضة تساوق النبوّة والرسالة، فقد خلط الأعم بالأخصّ، إذ النبوّة منصب إلهيّ يقع طرفاً للوحي يسمع كلام الله تعالى ويرى رسول الوحي، ويكون إمّا صاحب شريعة مستقلّة أو مروّجاً لشريعة من قبله.

وأمّا الإمام: وهو الخازن لعلوم النبوّة في كل ما تحتاج إليه الأُمّة من دون أن يكون طرفاً للوحي أو سامعاً كلامه سبحانه أو رائياً للملك الحامل له. ولإحاطته بعلوم النبوّة طرقٌ أشرنا إليها.

__________________

١. للوقوف على سائر الكلمات حول المحدَّث، لاحظ كتاب الغدير: ٥ / ٤٢ - ٤٩.

٨٧

ومن التصوّر الخاطئ: الحكم بأنّ كل من أُلهم من الله سبحانه أو كلّمه الملك فهو نبيّ ورسول، مع أنّ الذكر الحكيم يعرّف أُناساً، أُلهموا أو رأوا الملك ولم يكونوا بالنسبة إلى النبوّة في حلّ ولا مرتحل.

هذه أُمّ موسى يقول سبحانه في حقّها:( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) .١

أفصارت أُمّ موسى بهذا الإلهام نبيّة من الأنبياء ؟

وهذه مريم البتول، تكلّمها الملائكة من دون أن تكون نبيّة، قال سبحانه:( وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) .٢

بلغت مريم العذراء مكاناً شاهدت رسول ربّها المتمثَّل لها بصورة البشر، قال سبحانه:( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا *قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا *قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا *قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا *قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ) .٣

نرى أنّ مريم البتول رأت الملك وسمعت كلامه ولم تُصبح نبيّة ولا رسولة.

فمن تدبّر في الكتاب والسنّة يقف على أبدال شملتهم العناية الإلهية و وقفوا على أسرار الشريعة ومكامن الدين بفضل من الله سبحانه من دون أن يصيروا أنبياء.

ثمّ إنّ بيان نظام الحكم في الإسلام يأتي ضمن فصول:

__________________

١. القصص: ٧.

٢. آل عمران: ٤٢ - ٤٣.

٣. مريم: ١٧ - ٢١.

٨٨

الفصل الأوّل

المصالح العامّة

و

ومقتضيات نظام الحكم

إنّ الموضوع المهم هو تبيين نظام الحكم بعد رحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودراسة الظروف التي رافقت رحيله، فهل الظروف السائدة آنذاك تؤكِّد على تنصيب الإمام وتعيينه من جانبه سبحانه، أو على تفويضها إلى الأُمّة وقيامها بتعيين الحاكم الإسلامي، ودراسة هذا الموضوع عن كثب، رهن الإشارة إلى الأخطار المحدقة بالمجتمع الإسلامي الفتيّ.

مثلَّث الخطر

إنّ الأُمّة الإسلامية قُبيل وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت محاصرة من جهة الشمال والشرق من قبل امبراطوريتين عظيمتين، وهما: الروم وإيران، هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل فلقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدو الداخلي أو ما يسمّىٰ بالطابور الخامس، ولأجل الوقوف على مدى الخطر المحدِق من قبل هذه الأطراف الثلاثة، نتناول كلّ واحد منها على وجه الإيجاز.

٨٩

١. خطر الامبراطورية الساسانية

لقد كانت الامبراطورية الساسانية ذات حضارة مزدهرة، ونفوذ واسع فرضته على أصقاع شاسعة خلال أحقاب عديدة من السنين، إلى حدّ أصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة أُمّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم، ولذلك رفض ملكهم « خسرو برويز » دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى مزّق كتابه الذي أرسله ودعاه فيه إلى الإسلام وعبادة الله تعالى، وكتب خسرو برويز إلى عامله في اليمن: إبعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به.١

٢. خطر الامبراطورية الرومية

كانت الامبراطورية الرومية في شمال الجزيرة العربية وكانت تشغل بال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته، وقد نشبت بينها وبين المسلمين معارك طاحنة في السنة الثامنة من الهجرة، عندما قتلوا رسول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعني: الحارث بن عمير الأزدي، فانّه لـمّا وصل أرض « مؤتة » تعرض له شرحبيل بن عمرو الغسّاني وضرب عنقه، وقد أدّىٰ هذا الأمر إلى أن يبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة جعفر بن أبي طالب، وزيد بن الحارثة، وعبد الله بن رواحة فقُتل الجميع، ورجع الجيش منهزماً إلى المدينة.

ولقد أثارت هزيمة المسلمين في هذه المعركة نكسة في نفوس المسلمين، وزادت جرأة جيوش الروم على التعرض للمسلمين. فلذلك قاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة التاسعة جيشاً جرّاراً قصد به غزو الروم لما وصلت إليه الأخبار بأنّ الروم بصدد الإغارة عليهم، فقاد النبي ذلك الجيش إلى تبوك وكان له أثر بالغ في زعزعة معنويات جيوش الروم، ورفع معنويات المسلمين، ومع ذلك لم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١. الكامل في التاريخ: ٢ / ١٤٥.

٩٠

بغافل عن خطرهم، وقد أوصى في أواخر حياته بتجهيز جيش بقيادة أُسامة بن زيد بغية مواجهة الروم.

٣. خطر المنافقين

المنافقون هم الذين استسلموا للمدِّ الإسلامي وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً، فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام، ويخفون نواياهم السيئة ويتحيّنون الفرُص بغية الانقضاض على المسلمين والإطاحة بهم.

ولقد بلغ خطر المنافقين بمكان أصبح يهدد كيان المجتمع الإسلامي، لأنّهم كانوا يحيكون مؤمرات خفيّة ينقاد لها السُّذج من الناس، ولأجل ذلك شدّد القرآن الكريم على ذكر عذابهم أكثر من أي صنف آخر، وقال:( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) .١

ويحدّثنا التاريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً وخطيراً في تعكير الصف الإسلامي وإتاحة الفرصة لأعداء الإسلام بغية تمرير مخططاتهم سواء أكان قبل انتشار صولة الإسلام وبعده.

وعلى هذا فكان من المحتمل بمكان أن يتحد هذا الخطر الثلاثي الاجتثاث جذور الإسلام عقب رحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغياب شخصه عن ساحة الصراع السياسي.

سيادة الروح القبليّة على المجتمع الإسلامي الفتي

لقد كانت الروح القبلية سائدة على المجتمع الإسلامي الفتيّ يومذاك، وكان لرئيس القبيلة نفوذ واسع بين أفراد قبيلته، وقد كان الولاء للقبيلة متوغلاً في

__________________

١. النساء: ١٤٥.

٩١

نفوسهم حتى بعد إسلامهم رغم ما تلقّوه من التعاليم الإسلامية والتربية القرآنية، ولذلك كانت تلك النزعة تظهر بين الفتية والأُخرى وينشب بسببها النزاع ويكاد يتسع لولا حكمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدبيره.

ويكفي في ذلك ما رواه أهل السير في تفسير قوله سبحانه:( يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ لَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .١

وقد نشب نزاع في العام السادس من الهجرة في أرض بني المصطلق عند ماء، حيث تنازع رجلان أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار على سقي الماء، فاقتتلا، فصرخ الأنصاري فقال: يا معشر الأنصار، والآخر قال: يا معشر المهاجرين، فاجتمع من كلٍّ رهطٌ بسيوفهم، فلولا حكمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسالت دماء في أرض العدو حيث قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: « دعوها فانّها دعوى منتنة »٢ يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهلية، وجعل الله المؤمنين إخوة وحزباً واحداً.

وكم لهذا الموقف من نظائر في التاريخ، وبإمكانك أن تقرأ دور شاس بن قيس الذي كان شيخاً من اليهود كيف خطّط لإثارة النعرات الطائفية بين الأوس والخزرج حتى كادت أن تندلع الفتنة بينهما مرة أُخرى إلّا أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخمدها بحكمة بالغة، قائلاً: يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم ».٣

__________________

١. المنافقون: ٨.

٢. السيرة النبوية: ٢ / ٢٩٠ - ٢٩١.

٣. السيرة النبوية: ١ / ٥٥٥ - ٥٥٧.

٩٢

كل ذلك يدل على وجود رواسب الجاهلية بين قبيلتي الأوس والخزرج حتى بعد اعتناقهم الإسلام وانضوائهم تحت لوائه. ويشهد على ذلك مضافاً إلى ما مرّ ما أخرجه البخاري في صحيحه في قصة الإفك، قال: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو على المنبر: « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي والله ماعلمت علىٰ أهلي إلّا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً، وما يدخل على أهلي إلّا معي ».

قالت عائشة: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت: فقام رجل من الخزرج وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ـ، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة - فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمرو الله، والله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل.

فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

قالت عائشة: فثار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتى همُّوا أن يقتتلوا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم على المنبر.

قالت: فلم يزل رسول الله يخفّضهم حتى سكتوا وسكت.١

فكيف يجوز والحال هذه أن يترك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمَّته المفطورة على العصبيات القبلية، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصهاً على النفس، ورفض

__________________

١. صحيح البخاري: ٥ / ١٨٩، باب غزوة بني المصطلق.

٩٣

سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك تعيين مصير الخلافة لأُمَّة هذه حالها، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الأُمَّة جمعاء على واحد، ولا تخضع للرواسب القبلية، ولا تبرز إلى الوجود مرة أُخرى ما مضى من الصراعات العشائرية وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يجوز لقائد يهتم ببقاء دينه وأُمّته أن يترك أكبر الأُمور وأعظمها وأشدها دخالة في حفظ الدين، إلى أُمة نشأت على الاختلاف، وتربَّت على الفرقة، مع أنّه كان يشاهد الاختلاف منهم في حياته أحياناً، كما عرفت ؟

إنّ التاريخ يدل على أنّ هذا الأمر قد وقع بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السقيفة حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة، منتحلة لنفسها أعذاراً وحججاً وطالبة ما تريد بكلّ ثمن حتى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلامية والوصايا النبوّية.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة، تفرق الكلمة »١ نقلاً عن عمر بن الخطاب ما يدل على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد.

فذلكة وتحليل

هذه صورة مصغرة من تاريخ المسلمين في العصر الأوّل، وقد عرفت أنّ الأعداء كانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر للقضاء عليهم من الخارج والداخل.

__________________

١. السيرة النبوية: ٢ / ٦٥٩ - ٦٦٠.

٩٤

ومن جانب آخر كانت الرواسب القبلية خامرة في نفوسهم تبرز بين الحين والآخر.

فهذه الظروف تفرض على قائد حكيم كالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفكِّر مليّاً في مستقبل الأُمة الإسلامية بعد رحيله، فيخطّط تخطيطاً حكيماً للحيلولة دون مضاعفات الخطر الثلاثي والتعصبات القبلية التي تهدد كيان الإسلام وتقوّض أركانه من خلال نصب قائد بأمر من قبل الله سبحانه يقود الأُمة الإسلامية إلى ساحة الجهاد بُغية دفع الأخطار المحدقة بهم، وبقداسته ومثاليته وكونه منصوباً من الله سبحانه يقطع دابر الخلاف في تعيين الخليفة، وهذا بخلاف ما لو ترك الأُمة على حالها والعدو ببابها والنزاع القبلي على قدم وساق.

الصحابة ومؤهلات القيادة

لم تبلغ الأُمّة الإسلامية - كما يشهد عليه التاريخ - المستوى الفكري الذي يؤهلها إلى تدبير أُمورها وإدارة شؤونها وقيادة سفينتها إلى ساحل الأمان دون حاجة إلى نصب قائد من الله سبحانه.

وقد كان عدم بلوغ الأُمّة هذا المستوىٰ أمراً طبيعياً، لأنّ إعداد أُمّة كاملة بحاجة إلى مزيد من الوقت ولا يتيسر ذلك في فترة وجيزة تبلغ ٢٣ سنة، وهي حافلة بأحداث مريرة ومشحونة بحروب طاحنة.

إنّ إعداد مثل هذه الأُمّة لا يمكن في العادة إلّا بعد انقضاء جيل أو جيلين، وبعد مرور زمن طويل يكفي لبلورة التعاليم الإسلامية ورسوخها في أعماق النفوس بحيث تخالط مفاهيمُ الدين دماءهم، وتتمكن العقيدة في نفوسهم إلى حد

٩٥

يحفظهم من التذبذب والتراجع إلى الوراء.

وهذا الحد من الكمال لم يكن حاصلاً في فترة قصيرة، وتشهد على ذلك الأحداث والوقائع التي كشفت عن تأصُّل الأخلاق الجاهلية في نفوسهم وعدم تغلغل الإيمان في قلوبهم، حتى أنّنا نجد أنّ القرآن يشير إلى ذلك تعليقاً على ما حدث ووقع منهم في معركة أُحد، إذ يقول سبحانه:( وَمَا مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) .١

ويقول أيضاً:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ) .٢

وربما يتصوَّر أنّ هذه النكسات تختص بالسنين الأُولى من الهجرة، ولا تختص بالسنين التي أعقبت وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانتشار الإسلام في الجزيرة العربية واعتناق خلق كثير منهم الإسلام، ولكن التاريخ يرد تلك المزعمة ويثبت عدم بلوغهم الذروة في أمر القيادة بحيث تغنيهم عن نصب قائد محنّك من جانبه سبحانه.

وهذه هي غزوة « حنين » التي غزاها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الثامنة، وقد أُصيب المسلمون بهزيمة نكراء تركوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ساحة الوغى ولم ينصره سوى عدد قليل، فلمّا رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفرَّق المسلمين حينها قارعهم بصوت عال، وقال: « أيّها الناس هلمُّوا إليّ أنا رسول الله »، إلى غير ذلك من الكلمات التي علّمها لعمَّه العباس حتى يُجهر بها، وقد نقل القرآن الكريم إجمال تلك الهزيمة، وقال:( لَقَدْ نَصَرَكُمُ

__________________

١. آل عمران: ١٤٤.

٢. آل عمران: ١٥٤.

٩٦

اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) .١

إنَّ قوله سبحانه:( وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) يعرب عن عدم نهوضهم بمهمة الدفاع عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، ومثل هذه الأُمَّة بحاجة ماسّة إلى نصب قائد محنّك يلمَّ شعثهم ولا يصح تفويض أُمورها إلى جماعة هذه حالهم وهذا مقدار ثباتهم في ساحات الحرب والدفاع عن كيان الدين.

وهناك كلمة قيمة للشيخ الرئيس في بيان الأُسلوب الأفضل للحكومة الإسلامية حيث يقول: الاستخلاف بالنص أصوب، فانّ ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف.٢

__________________

١. التوبة: ٢٥.

٢. الشفاء، الفن ١٣ في الإلهيات، المقالة العاشرة، الفصل الخامس، ص ٥٦٤.

٩٧

الفصل الثاني

أهل السنَّة ومعالم الحكومة الإسلامية

إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو القائد الذي تفانى في أداء رسالة ربّه وهداية أُمَّته بكلّ إخلاص وعزيمة، ولم يكن شيء عنده أعزّ من هداية الناس وبقاء شريعته والنظام الذي يحمي الشريعة، فعلى ذلك كان على مفترق طرق:

أ: أن ينصب قائداً محنكاً يخلفه في كلّ مهامه ويقطع دابر الخلافات بعده ويكون عمله نموذجاً للآخرين.

ب: أن يبيِّن معالم الحكومة وخصوصياتها بكلّ دقة وتفصيل، حتى تستغني الأُمة بذلك عن التنصيب ويكون كلامه هو الملهم عبْر الأجيال في تعيين نوع الحكومة للمسلمين.

بيد أنّ التصور السائد عند أهل السنّة هو أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسلك الطريق الأوّل ولم ينصب خليفة بعده، بل ترك الأمر إلى الأُمَّة، ومع ذلك لا يوجد في مجموع ما بأيدينا من الكتاب والروايات المروية في الصحاح والمسانيد شيء يرسم الخطوط العريضة لنوع الحكومة وأركانها وخصائصها وصفات الحاكم وبرامجه، مع أنّه تكلم في أبسط الأُمور فضلاً عن أخطرها، كما هو واضح لمن طالع الصحاح والمسانيد خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الإنسان.

٩٨

ولـمّا وجد علماء أهل السنّة أنفسهم أمام تلك المعضلة حاولوا حلَّ عقدتها بترسيم خطوط عريضة لحكومة إسلامية من عند أنفسهم تارة باسم الشورى، وأُخرى باسم أهل الحلّ والعقد، وثالثة باتخاذ حكومة الخلفاء الأربعة وما يليها أُسوة وبياناً لنوع الحكومة الإسلامية وخصوصياتها.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ علماء أهل السنة لم يتجردوا عن كلّ رأي مسبق فأخذوا خصوصيات الحكومات القائمة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة شرعية للمسلمين عامة.

مع أنَّهم لم يعتمدوا في إقامة دعائم الحكومة على دليل قرآني أو سنة نبوية، وإنّما وضعوا حلولاً استحسانية والتي لا تكون حجّة إلّا على أنفسهم.

وها نحن نطرح هذه الفروض على بساط البحث كي يعلم مدى إتقانها.

هل الشورى أساس الحكم الإسلامي ؟

هناك من اتخذ الشورىٰ أساساً للحكم الإسلامي، واستدلُّوا على ذلك بآيتين:

الأُولى: قوله سبحانه:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ١ قائلين بأنّه سبحانه أمر نبيَّه بالمشاورة تعليماً للأُمَّة، بأن يتشاوروا في مهام الأُمور ومنها الخلافة.

والذي يؤخذ عليه: انّ الخطاب موجّه إلى الحاكم الذي ثبت كونه حاكماً بوجه من الوجوه ثمّ أمره بالمشاورة في غير هذا الأمر. بأن يشاور أفراد الأُمّة فيما

__________________

١. آل عمران: ١٥٩.

٩٩

يرجع إلى غير أصل الحكومة، غاية الأمر يتعدّى عنه إلى غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أفراد الأُمّة، لكن مع حفظ الموضوع، وهو إذا تمت حكومة فرد وثبتت مشروعيته، فعليه أن يشاور الأُمّة، وأمّا المشاورة في تعيين الإمام والخليفة عن طريق الشورىٰ فلا تعمُّه الآية.

الثانية: قوله سبحانه( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) .١

استدلُّوا بالآية على أنّ نوع الحكومة يتلخص في الشورىٰ فإنّ إضافة المصدر ( أمر ) إلى الغير ( هم ) يفيد العموم والشمول لكل أمر، ومنه الخلافة والإمامة فالمؤمنون بحسب هذه الآية يتشاورون في جميع أُمورهم حتى الخلافة.

يلاحظ عليه: أنّ الآية تأمر بالمشورة في الأُمور الموضوعة على عاتق المؤمنين فلابدّ أن يحرز أنّ هذا الأمر ( تعيين الإمام ) أمر مربوط بهم فما لم يحرز ذلك لم يجز التمسك بعموم الآية في مورده.

وبعبارة أُخرى إنّ النزاع في أنّ الخلافة هل هي مفوّضة إلى الأُمَّة، أو هي أمر مختص بالسماء ؟ ومادام لم يحرز كون هذا الموضوع من مصاديق الآية لا يحتج بها على أنّ صيغة الحكومة الإسلامية هي الشورى.

نقد فكرة أنَّ الشورىٰ أساس الحكم

١. ومما يدل على أنّ الشورى لم تدخل حيز التنفيذ طيلة التاريخ هي أنّ بيعة أبي بكر قد انعقدت بخمسة، وهم: عمر بن الخطاب، أبو عبيدة الجراح، أسيد بن حضير، بشر بن سعد، وأسلم مولى أبي حذيفة.

__________________

١. الشورى: ٣٨.

١٠٠