إستقصاء الإعتبار الجزء ٣

إستقصاء الإعتبار8%

إستقصاء الإعتبار مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
تصنيف: متون حديثية
ISBN: 964-319-175-3
الصفحات: 483

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 483 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36613 / تحميل: 4686
الحجم الحجم الحجم
إستقصاء الإعتبار

إستقصاء الإعتبار الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-١٧٥-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّة ) إلى قوله:( وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلاَّ ) .

وَكَما في قوله تعالى في سورة الزمر:( أَم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِِ الشَّفَاعَةُ ) .

والعجب من المتكلّف حيث أعجبه التمسّك بهذه الاية في منع الاستشفاعات في غير موضع من كتابه.

وهي كما ترى، والمغالطة في إسقاطهم لصدر الاية كما عرفت.

ومثلها ما في سورة يونس:( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَالاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ ) .

وفي سورة الروم:( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الُْمجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ) .

وفي سورة الاعراف:( يَوْمَ يَأتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ) .

وفي سورة الكهف:( وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ) .

وفي سورة الانعام( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةِ بَاسِطُوا أَيدِيهُمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ.. ) إلى قوله:( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاء ) إلى غيرها فانها صريحة وافية للمقام.

وبين ما سيقت للردّ على مقالة اليهود ; حيث قالوا: نحن أبناء الانبياء، وآباؤنا يشفعون لنا.

فأجابهم الله بقوله تعالى في سورة البقرة:( وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

وقال تعالى في هذه السورة:( وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً وَلاَ

٢١

يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

قال المفسّرون: إنّ حكم هذه الايات مختصّ باليهود ; حيث قالوا: نحن أبناء الانبياء وآباؤنا يشفعون لنا، فآيسهم الله من ذلك، فخرج الكلام مخرج العموم، والمراد به الخصوص.

أقول: وهب أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصيّة السبب، إلاّ أنّ تخصيص مثل هذا العامّ بمثل هذا السبب المخصوص، ممّا يكفي فيه أدنى دليل ; وكيف بالدلائل القطعيّة القائمة للشفاعة؟! فيخصّص بها قطعاً.

فسقط الاستدلال بالنكرة في سياق النفي تارة.

وبعدم الانتصار اُخرى.

وبعدم إجزاء نفس عن نفس ثالثة.

وهكذا الكلام في نظائرها.

وبين ما سيقت لبيان شدّة الموقف وأهواله، وأنّه - يومئذ - لا ينفع الكفّار بيعهم وخلّتهم وشفاعتهم - بعضهم - في دفع العذاب عن خليله أو مولاه:

مثل ما في سورة الدخان قوله تعالى:( يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ ) .

وقوله في سورة البقرة:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِن قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ) .

قال الرازي: لما قال:( وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ) أوهم ذلك - أي ألخُلّة والشفاعة مطلقاً - فذكر تعالى عقيبه:( والْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ليدلّ على أنّ ذلك النفي مختصّ بالكافرين، وعلى هذا التقدير تكون الاية دالّة على إثبات الشفاعة في حقّ الفسّاق.

وبين ما لبيان أنّ الشفاعة الثابتة مختصّة بالمرضيّين:

٢٢

كقوله تعالى في سورة طه( يَوْمَئِذ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) .

وقوله تعالى:( وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ) أي لمن ارتضى الله دينه، وسيأتي بيانه.

أو لبيان أنّ المجرمين غير قادرين على الشفاعة إذ لا يملكونها:

كما في سورة مريم قوله تعالى:( وَنَسُوقُ الُْمجْرِمِينَ إلَى جَهَنَّمَ وِرْداً * لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ ) ألا تنظر إلى قوله بعده:( إلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) إلى غير ذلك.

٢٣

٢٤

المقام الثاني

[ثبوت الشفاعة في العقيدة الاسلاميّة]

اعلم: أنّ الشفاعة أن يستوهب أحد لاحد شيئاً، ويطلب له حاجة، وأصلها من الشفع الذي هو ضدّ الوتر، كأنّ صاحب الحاجة كان فرداً، فصار الشفيع له شفعاً، أي صارا زوجاً.

وقد أجمع المسلمون كافّة على ثبوت الشفاعة، خلافاً للخوارج وبعض المعتزلة، حيث خصّوها بزيادة المنافع للمؤمنين ورفع درجات المثوبين والمستحقّين.

مع ضرورة حكم العقل بحسن العفو عن الكبائر وصريح الُمحْكمات من الكتاب والسُّنّة، كما سيجيء ذكرها.

مع ما عرفت من الجواب عمّا تمسّك به المانع المتكلّف من المتشابهات.

٢٥

[الاجماع على الشفاعة]

ولو لم يقم الاجماع على ثبوتها بهذا المعنى، وكانت الشفاعة بحيث يصحّ إطلاقها على مجرّد طلب الزيادة، لكنّا شافعين للرسول بقولنا: «اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد».

ضرورة أنّا لم نطلب له(صلى الله عليه وآله وسلم)إلاّ الزيادة في فضله.

وحيث بطل هذا القسم تعيّن الثاني.

لا يقال: إنّ ذلك إنّما كان لوضوح علوّ رتبة الشفيع على المشفوع له وانحطاطهم عنه، وإنّ غرض السائل من الصلوات هو التقرّب بذلك إلى المسؤول ; وإن لم يستحقّ المسؤول له بذلك السؤال منفعة زائدة.

فإنّا نقول: إنّ الرتبة غير معتبرة في الشفاعة، ويدّل عليه لفظ الشفيع المشتقّ من الشفع.

على أنّا، وإن قطعنا أنّ الله يكرّم رسوله ويعظّمه ; سواء سألت الاُمّة ذلك أو لم تسأله، ولكنّا لم نقطع بأنّه لا يجوز أن يزيد في إكرامه بسبب سؤال الاُمّة ; على وجه لولا سؤالهم لما حصلت الزيادة، ومع جواز هذا الاحتمال وجب أن يبقى جواز كوننا شافعين للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).

قال العلامة القوشجي: اتّفق المسلمون في ثبوت الشفاعة ; لقوله تعالى:( عَسَى رَبُّك أَنْ يَبْعَثَكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ، وفُسّر بالشفاعة.

قال: ثمّ اختلفوا: فذهب المعتزلة إلى أنّها زيادة المنافع للمؤمنين المستحقّين للثواب.

وأبطله المصّنف: بأنّ الشفاعة لو كانت كذلك لكُنّا شافعين للنبيّ ; لانّا نطلب زيادة المنافع له.

٢٦

والتالي باطل ; لانّ الشفيع أعلى رتبة من المشفوع له. انتهى.

وقال العلاّمة في «البحار» في ما حكاه عن النَوَويّ في «شرح صحيح مسلم»(١) : إنّه قال: قال القاضي عياض: مذهب أهل السُّنّة جواز الشفاعة عقلاً.

ووجوبها سمعاً بصريح الايات وبخبر الصادق(عليه السلام)، وجاءت الاثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحّة الشفاعة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف ومن بعدهم من أهل السُّنّة عليها.

ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلّقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، واحتجّوا بقوله تعالى:( فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) وأمثاله، وهي في الكفّار.

وأمّا تأويلهم أحاديث الشفاعة وغيرها فهي صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار. انتهى.

[العقل يدل على صحّة الشفاعة]

وأمّا العقل فقد قالت الفلاسفة في هذا المقام: إنّ واجب الوجود عامّ الفيض تامّ الجود، فحيث لا تحصل الشفاعة فإنّما هو لعدم كون القابل مستعدّاً، ومن الجائز أن لا يكون مستعداً لقبول ذلك الفيض من شىء قبله عن واجب الوجود، فيكون ذلك الشيء كالمتوسّط بين واجب الوجود وبين ذلك الشيء الاوّل.

ومثاله في المحسوس أنّ الشمس لا تضيء إلاّ للقابل المقابل، وسقف البيت لما لم

____________________

(١) شرح صحيح مسلم، للنووي ٣/٣٥ باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحّدين من النار.

٢٧

يكن مقابلاً لجِرْم الشمس، فلا جَرَمَ لم يكن فيه استعداد لقبول النور عن الشمس، إلاّ أنّه إذا وضع طشت مملوّ من الماء الصافي، ووقع عليه ضوء الشمس، انعكس ذلك الضوء من ذلك الماء إلى السقف، فيكون ذلك الماء الصافي متوسّطاً في وصول النور من قُرص الشمس إلى السقف الذي غير مقابل للشمس.

وأرواح الانبياء والاوصياء والصالحين، كالوسائط بين واجب الوجود وبين الخلق.

والتحقيق: أنّ المعصية ليست بما هي علّة للتعذيب والخلود، وإنّما هي المقتضي له لولا المانع ; من الاستشفاعات المنصوبة من الله الرؤوف المالك للشفاعة.

كما يشهد به الكتاب والسُّنّة وبداهة حكم العقل مع قرينة شدّة الرأفة والرحمة منه تعالى.

ولذلك فرّق الشارع بين نيّة الحسنة ونيّة السيّئة في الاستحقاق وعدمه، مع أنّهما في الاقتضاء سواء ; سبقت رحمته غضبه.

فقد ظهر: أنّ الحديثين إنّما سيقا لبيان الاقتضاء:

أمّا الاوّل: فبدليل قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في النبوي: (لو لم ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها).

أمّا الثاني: فبضرورة ما في السباق من احتمال العثرات، وصريح ما ورد في الحَبْط من الايات والعمومات، النافية لاستحقاق العقوبة على نيّة السيّئات، وأنّها لا تكتب مالم يتلبّس بها.

وبالجملة: فلو لم تكن المعاصي مقتضيات لما كان النادم عليها ماحياً لها تائباً عنها، كما صحّ: أنّ (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).

وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): (من سرّته حسنته وسأته سيّئته فهو مؤمن).

٢٨

وذلك لوضوح أنّ من ساءته سيّئة، فهو النادم منها التائب عنها الماحي لها، ومعه فلا غَرْوَ ولا عجب أن يجعل الله الامر بالمودّة والتمسّك والتوسّل بذوي القربى من أهل بيت رسوله، مانعاً لتأثير المعصية، شافعاً فيها، توبة عنها، ماحياً لها، وإن رغم الراغمون، وخسر هنالك المبطلون.

[تذبذب بين المعتزلة والاشعرية]

وليت شعري، ولا يكاد ينقضي تعجبي، من هؤلاء الاخوان، وما أدري أنّهم - في إنكارهم للشفاعة - أشعريّة أم معتزلة، وبأيّهما اقتدوا؟ وبأيّ ديانة دانوا فتديّنوا؟

فإن كانوا في الاُصول أشعرية فقد عرفت أنّ مذهبهم على ثبوتها وإثباتها.

وإلاّ فيرد عليهم ما يرد على المعتزلة من المناقضة لاصلهم، فإنّ من قال بقاعدة التقبيح والتحسين، فقد التزم في المسألة موافقة الاشعريّين، فظهر أنّهم دانوا بالشفاعة من حيث لا يشعرون.

[الايات الدالة على ثبوت الشفاعة]

وأمّا الايات: فقد قال الله تعالى في سورة الاسراء:( عَسى رَبُّكَ أن يَبْعَثَكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) .

وقال في سورة الضحى:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) .

وقال في سورة المؤمن:( ألَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤمِنونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْن الَّتِي

٢٩

وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

وقال تعالى في سورة يوسف حاكياً مقالة الاسباط:( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ) إلى قوله:( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ) .

وقال تعالى في سورة النساء:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم جَاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوّاباً رَحِيماً ) .

وقال تعالى في حكايته عن عيسى(عليه السلام):( إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وقال تعالى حكاية عن إبراهيم:( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

فقد دلّت الايات كغيرها على ثبوت الشفاعة لنبيّنا خاصّة وللملائكة والنبيّين والاولياء والصالحين عامّة وشفاعة القرآن أيضاً.

حيث لا يجوز حمل هذه الايات على الكافر، فإنّه ليس أهلاً للمغفرة بالاجماع.

ولا يجوز حملها على صاحب الصغيرة.

ولا على صاحب الكبيرة بعد التوبة ; لانّ غفرانه لهم واجب عقلاً عند الخصم، فلا حاجة له إلى الشفاعة.

فلم يبقَ حملها إلاّ على صاحب الكبيرة قبل التوبة.

[الروايات الدالة على ثبوت الشفاعة]

ويؤيّد ذلك: ما رواه الرازي عن البيهقي: (أن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا تلا هاتين الايتين رفع يديه، وقال: إلهي أُمّتي أُمّتي، وبكى، فقال الله: يا جبرائيل اذهب إلى محمّد - وربّك أعلم - فَسَلْهُ ما يبكيك؟ فأتاه جبرائيل، وسأله فأخبره

٣٠

رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بما قال، فقال الله: يا جبرائيل اذهب إلى محمد وقل له: إنّا سنُرضيك في أُمّتك)(١) .

وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الصحيح: (ادّخرتُ شفاعتي لاهل الكبائر من أُمّتي)(٢) .

وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): (واُعطيت الشفاعة) رواه البخاري(٣) .

وصحّ أيضاً عنه فيما أخرجه بإسناده عن عمران بن حصين، قال: (يخرج من النار بشفاعة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)فيدخلون الجنّة، ويسمّون الجهنّمّيين)(٤) إلى غير ذلك.

وقال الرازي في قوله تعالى:( وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) إجلالاً له حيث أكرمه بوحيه، وجعله سفيراً بينه وبين خلقه، ومن كان كذلك فإنّ الله لا يردّ شفاعته، فكانت الفائدة في العدول عن لفظ الخطاب إلى الغيبة ما ذكرناه(٥) .

____________________

(١) التفسير الكبير للرازي.

(٢) مجمع الزوائد ٧/٥، مسند أحمد ٢/٣١٣ و ٣/٢٠ بلفظ أخّرت، ولاحظ سنن ابن ماجة ٢/١٤٤١، والترمذي ٤/٤٥، والحاكم في المستدرك ١/٦٩ و ٢/٣٨٢.

(٣) صحيح البخاري ١/١١٣ و ٢١١، وصحيح مسلم ٢/٦٣، وسنن النسائي ١/٢١١، والدارمي ١/٣٢٣، ومسند أحمد ٤/٤٣٤.

(٤) صحيح البخاري ٧/٢٠٢ و ٢٠٣ الرقاق، وصحيح مسلم ١/١٢٣ الايمان، والترمذي ٤/١١٤، وسنن ابن ماجة ٢/١٤٤٣ الزهد، ومسند أحمد ٤/٤٣٤، وراجع مجمع الزوائد للهيثمي ١٠/٣٧٩، وكنز العمال ١٤/٤٠٨ و ٥٠٦ و ٥١٣ و ٥٤١.

(٥) التفسير الكبير للفخر الرازي.

٣١

أقول: ومثلها في الدلالة قوله:( الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ) فإنّ هذه الاية نصّ صريح في المدّعى، ولا سيّما بقرينة ذكر الاستغفار الملازم لاسقاط العقاب وذكر( الذين آمنوا ) و( الذين تابوا ) إلى غير ذلك.

والمناقشة فيها: بأنّ قيد التوبة واتّباع السبيل مما هي قرينة على ثبوت الشفاعة بالمعنى الخاصّ وصرفها عن عموم الدعوى لانّ التائب والمتّبِع للسبيل لا يفتقران إلى الشفاعة بالمعنى العامّ.

مدفوعة: بالنقض بقيد المغفرة الظاهرة في معنى الحطّ والستر للذنب، وحلاًّ: بأنّ القيدين هنا من باب ذكر بعض أفراد العامّ وأقسامه، فلا يُخصّص العامّ بها، وهذا ثابت في علم أُصول الفقه.

ثم يدلّ أيضاً على ثبوت الشفاعة للملائكة قوله تعالى في صفتهم في سورة الانبياء:( وَلاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ) .

ووجه الاستدلال: أنّ صاحب الكبيرة هو المرتضى عند الله بحسب إيمانه وتوحيده، وكلّ من صدق عليه أنّه المرتضى عند الله بهذا الوصف وجب أن يكون من أهل الشفاعة، فإنّ الاستثناء من النفي إثبات.

وإذا ثبت أنّ صاحب الكبيرة داخل في شفاعة الملائكة، وجب دخوله في شفاعة الانبياء وشفاعة نبيّنا محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)بعدم القول بالفصل.

(لا يقال:) إنّ صاحب الكبيرة فاسق، والفاسق ليس بمرتضىً بحسب فسقه وعصيانه.

لانا نقول: قد تبيّن في العلوم المنطقية أنّ المهملتين لا تتناقضان، فالمرتضى بحسب إيمانه لا ينافيه عدمه بحسب فسقه.

وقال الرازي: اعلم أنّ هذه الاية أقوى الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لاهل الكبائر.

٣٢

وتقريره: هو أنه من قال: «لا إلهَ إلاّ الله» فقد ارتضاه في ذلك، ومتى صدق عليه أنّه ارتضاه الله في ذلك فقد صدق عليه أنّه ارتضاه الله، لانّ المركّب متى صدق فقد صدق - لا محالة - كلّ واحد من أجزائه، وإذا ثبت أنّ الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الاية.

وقال في قوله تعالى:( فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) ، كما نرى في المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيّين.

ثم قال: احتجّ أصحابنا بمفهوم هذه الاية، وقالوا: إنّ تخصيص هؤلاء بأنّهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدلّ على أنّ غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.

وفي تفسير آخر: فما تنفعهم شفاعة الشافعين كما نفعت للموحّدين.

وقال في قوله تعالى:( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّك مَقَاماً مَحْمُوداً ) :

قال الواحدي: أجمع المفسّرون على أنّه مقام الشفاعة كما قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الاية (هو المقام الذي أشفع فيه لاُمّتي).

ثمّ أخذ في بيان وجوه الاستدلال بها، وتضعيف ما فسّره البعض بآرائهم.

ورواه أبو السعود في تفسيره عن أبي هريرة.

وقال في قوله تعالى:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) : عن تفسير وكيع قال: ولسوف يُشفّعك، يا محمّد، يوم القيامة في جميع أهل بيتك وفي أُمّتك، وتدخلهم الجنّة ترضى بذلك عن ربّك.

وعن فردوس الديلمي قال: الشفعاء خمسة: القرآن والرحم والامانة ونبيّكم وأهل بيت نبيكم.

والعلاّمة أبو السعود في تفسيره عن سعيد بن جبير قال: يدخل المؤمن الجنّة، فيقول: أين أبي وولدي؟ وأين زوجي؟ فيقال له: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: إنّي كنتُ أعمل لي ولهم، فيقال: أدخلوهم الجنّة بشفاعته وسبق الوعد

٣٣

بالادخال.

ثمّ قال في الجواب عن شبهة هؤلاء: والادخال لا يستدعي حصول الموعود بلا توسّط شفاعة واستغفار، وعليه مبنى من قال: إنّ فائدة الاستغفار زيادة الكرامة والثواب، والاوّل هو الاولى، لانّ الدعاء بالادخال فيه صريح، وفي الثاني ضمنيّ، انتهى كلامه.

وعن بشر بن ذريح البصري، عن محمّد بن عليّ(عليهما السلام) في قوله تعالى:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) قال: قال: (الشفاعة، والله الشفاعة، والله الشفاعة).

وقال الرازي في هذه الاية: يعني به الشفاعة تعظيماً لنبيّه.

قال: عن عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وابن عبّاس: إنّ هذا لهو الشفاعة في الاية.

يروى أنّه لما نزلت الاية قال(صلى الله عليه وآله وسلم): (إذن لا أرضى وواحد من أُمّتي في النار).

ثمّ قال: واعلم أنّ الحمل على الشفاعة متعيّن، ويدلّ عليهوجوه ذكرها هناك(١) .

وفي «النهاية» لابن الاثير قال في ترجمة «وحا» من في حديث أنس: (شفاعتي لاهل الكبائر من أمّتي حتّى حكم وحاء)(٢) . قال: وهما قبيلتان جافيتان من وراء رمل يَبْرِيْنَ، ومثله قال في ترجمة «حَكَم».

وفي مرفوعة جابر عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث له أنّه قال: (أنا سيّد ولد آدم ولا فخر،

____________________

(١) التفسير الكبير للرازي.

(٢) انظر كنز العمال ١٤/٤١٢.

٣٤

وفي ظلال الرحمن يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه ولا فخر، ما بال قوم يزعمون أنّ رحمي لا ينفع، بل حتّى يبلغ حانكم أنّي لاشفع فأُشفّع) الخبر إلى قوله: (حتّى إنّ إبليس ليتطاوَل طمعاً في الشفاعة)(١) .

وعن عبدالله بن عبّاس عن النبيّ أنّه قال: ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلاّ شفّعهم الله فيه(٢) .

إلى غير ذلك من الايات والروايات في إثبات عموم الشفاعة بما ورد من أعيان علماء السُّنّة والجماعة ومفسّريهم، مالا يحتمله هذا المختصر، فليراجع المطوّلات.

[تمويه في إنكار الشفاعة]

وبعدما أسلفناه وما سيأتي في معنى الاستشفاع بالاولياء، فلا يُصغى إلى شىء ممّا تكلّف به محمد بن عبد الوهّاب في رسالته من التمويه والمغالطة تبعاً لامامَيْهِ ابن القيّم وابن تيميّة بقوله:

فإن قال: إنّ النبيّ أُعطي الشفاعة وأطلبه مما أعطاه الله.

فالجواب: إنّ الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا ; يعني به الشرك، وقال( فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) .

إن كنت تدعو الله أن يشفّعه فيك فأطعه في قوله:( فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِأَحَداً ) .

____________________

(١) مجمع الزوائد ١٠/٣٧٦ و ٣٨٠ عن الطبراني في الاوسط.

(٢) مسلم ٣/٥٣، والترمذي ٢/٢٤٧، وابن ماجة ١/٤٧٧، والنسائي ٤/٧٥، مسند أحمد ٣/٦٦ كلهم في الجنائز، وانظر كنز العمال ١٥/٥٨١، ومجمع الزوائد ٥/٢٩٢.

٣٥

وأيضاً فإنّ الشفاعة أعطاها غير النبيّ، فصحّ أنّ الملائكة يشفعون، والاولياء يشفعون، والافراط يشفعون أتقول: إنّ الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟! فإن قلت هذا، رجعت إلى عبادة الصالحين.

أقول: إعلم أنّ موضع المغالطة من كلامه، هو أنّه زعم أنّ الشفاعة هي شفع الغير مع الله في المسألة والدعوة لقضاء الحوائج.

ولم يَدْرِ المسكين أنّ الشفاعة - كما مرّ تعريفها في صدر المقام - هو شفع الغير وضمّه مع المستشفع للذهاب إلى الله وتوجّههما معاً إليه سبحانه، ودعاؤنا الشفيع دعوته لذلك، لا ما توهّمه المغالط.

[ليست الشفاعة بشرك]

وبعدما ثبتت الشفاعة إجمالاً وتفصيلاً، كتاباً وسنةً، إجماعاً وعقلاً، حيّاً كان الشفيع أو ميّتاً، فقد علم بالضرورة من الشريعة:

أنّها ليست بشرك.

وأنّ الاستشفاعات والتوسّلات لا تنافي شيئاً من التوحيد ولا الاخلاص.

وأنّ دعاء الصالحين والالتماس منهم إنّما هو لكي يدعو الله للعباد بالرحمة والمغفرة، فليس من الدعاء المنهيّ عنه.

وإنّما الدعاء المنهيّ عنه في قوله تعالى:( فَلاَ تَدْعوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) هو أنّ العبد يقرن الصالحين بالله في دعائه، ويسألهما معاً في عرض واحد، وذلك بقرينة لفظ «مع»، وكما هو معنى الشرك والتشريك في العبادة، فإنّ الاشراك هنا وضع المعبوديّة في غير الله.

٣٦

كما في قوله:( يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) .

وقوله تعالى عن إبليس:( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) .

قال الرازي: أي بإشراككم إيّاي مع الله في الطاعة.

وقوله تعالى عن موسى:( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) .

بجعله شريكاً له معه في النبوّة.

وأمّا إذا لم يكن سؤاله حقيقة إلاّ من الله، ولم يكن له النظر مستقلاًّ إلاّ إليه تعالى دون غيره، فيدعو الله ويسأله بوجه نبيّه، فهذا ليس من الشرك في شىء.

يفصح منه لفظ الشرك المشتقّ من مادّة الاشراك بجعل الشريكين على نمط واحد.

فلو سأل العبد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يغفر له ذنبه، أو سأل النبيّ مع الله بقوله: يا ألله ويا نبيّ الله اغفرا لي ذنبي، كان ذلك شركاً منه.

وأمّا لو سأله أن يسأل الله غفران ذنبه، فهذا من غفران الذنب الموعود من الله بالشفاعة، والسؤال منه تعالى، لا من النبيّ.

وإنّما المسؤول من النبيّ التماس دعائه من الله تعالى ليسأله بوجهه.

[صور من الادعية المأثورة]

وهذه دعواتنا المأثورة عن الائمّة(عليهم السلام)، حيث نقول:

(اللّهمّ إن كانت الذنوب والخطايا قد أخلقت وجهي، فإنّي أسألك بوجه حبيبك محمّد).

وفي الدعاء عند النوافل الليليّة:

(اللّهمّ إنّي أتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأُقدّمهم بين يدي حوائجي في الدنيا والاخرة، فاجعلني بهم عندك وجيهاً في الدنيا والاخرة ومن

٣٧

المقرّبين.

أللّهمّ ارحمني بهم، ولا تعذبّني بهم...) الدعاء.

فليس المراد بالاستغاثات والتوسّلات إلاّ طلب الدعاء من المستغاث، كما في قوله عزّوجلّ في القدسيّات: (يا موسى ادعُني بلسان لم تعصِني به، فقال: يا ربّ وأين ذلك؟ فقال: بلسان الغير).

وأيضاً، فإنّ بني إسرائيل قد دعوا الله بلسان نبيّهم في مواضع من القرآن ; حيث حكى الله عنهم في قوله تعالى:( لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ) الايات.

فأنِصفْ وراجع.

أين هذا من دعاء الغير أو شركة الغير مع الله في الدعاء؟!

سُبحانك إنْ هذا إلاّ بهتان عظيم.

وكيف كان، فقد عرفت أنّ الايات والروايات لاتدلّ على النهي بشيء من ذلك كلّه، بل الايات على خلافه كما عرفت.

[الاستشفاع بالاموات]

ثمّ، ومن أوهن المناقشات والشفاعات والتوسّلات، هو المناقشة في جوازها بعد موت الشفيع.

وذلك لثبوت جوازها مطلقاً ; من غير فرق بين النشآت.

بعد صريح عبارته في رسالته بشفاعة الملائكة والاولياء والافراط.

وصريح الايات بحياتهم المستقرّة بعد موتهم.

ومع اتّحاد المناط في الغايات.

وحكم العقل بحسن الواسطة من غير تخصيص ولا تبعيض.

٣٨

وبالجملة: فقد أطنب الوهابيّة في شبهة العابد بالمعبود، وشبهة الزيارة بالعبادة ; حتّى صاروا بجمودهم وخضوعهم لشبهتهم هذه، كأنّهم آلة هدم الاسلام باسم الاسلام.

قد أوضحنا الجواب عن الاُولى.

[الزيارة والعبادة]

وأمّا الثانية: فأمّا قوله فيما نسجه:

«ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الاولياء التي لا يقدر عليها إلاّ الله...» إلى قوله: «وأمّا بعد موته - يعني به النبيّ - فحاشا إنّهم ما سألوه عند قبره، بل أنكر السلف...» إلى آخر كلماته.

فأقول:

وليت شعري ما هذا النكير؟!

وما قياس الانبياء والشهداء - المصرّح بحياتهم المستقرّة في القرآن - بسائر الموتى؟!

وما معنى إضافة الاستغاثة إلى العبادة؟!

وما المانع من الاستغاثة عند قبور الاولياء؟!

وما المراد بقوله: «لا يقدر عليها إلاّ الله»؟!

وما هذا الخبط؟!

ثمّ وما هذا التحاشي والخلط ودعوى الانكار؟

أفعلى عمد تركوا كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم؟

فإن كان المانع منها هو شبهة الشرك، فقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.

٣٩

وقد تقدّم أنّ الساعي لحاجة إخوانه عند باب مولاه لا يرتفع عن مقام العبودية بشيء.

فليست الشفاعة والاستشفاع إلاّ قسماً من الدعاء الشامل لجميع الناس، واختصاص الاولياء والخواصّ بها باعتبار قبولها.

وقد ورد في باب زيارة النبيّ - كما عن حُجّة الاسلام الغزالي - قال: «ثمّ ترجع وتقف عند رأس رسول الله - بين القبر والاُسطوانة اليوم - وتستقبل القبلة...» إلى قوله: «ثمّ تقول: (أللّهمّ إنّك قلت - وقولك الحقّ..( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ وَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحيماً ) .

أللّهمّ إنّا قد سمعنا قولك، وأطعنا أمرك، وقصدنا نبيّك متشفّعين به إليك في ذنوبنا وما أثقل ظهورنا من أوزارنا، تائبين من زللنا)...» إلى قوله: (أللّهمّ لا تجعله آخر العهد من قبر نبيّك ومن حرمك يا أرحم الراحمين).

ومعاذ الله أن يرفع المسلمون أحداً من هؤلاء المَزُورين عن مقام العبوديّة، أو يذكرهم في الدعاء بغير الاستشفاع والتوسّل.

فأين وصمة الشرك؟!

ثم وما حديث التبعيض والتخصيص؟!

وهل ظفر المتكلّف بعد ما تقدّم في الشفاعات والتوسّلات بآية أو رواية تخصّص بها العمومات، أو تقيد بها المطلقات؟

أو يناقض بها ما صرّح به من قبل بقوله: «فصحّ أنّ الملائكة يشفعون، والاوليآء يشفعون، والافراط يشفعون»؟!

وليت شعري، فإن كان المناط في الشرك هو مجرّد التوسّل بالغير والاستشفاع به.

فهو الموجود عيناً في الاخرة، كما ورد أنّ الناس يسألونهم الشفاعة يوم

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

أيوب بن نوح.

وأبو جميلة مذكور مهملاً في الفهرست(١) ، ورجال الصادقعليه‌السلام من كتاب الشيخ(٢) . والعلاّمة قال : إنّه ضعيف كذّاب(٣) . وهو أعلم بالمأخذ.

والثاني : تقدّمت أحوال رجاله.

ومحمد بن أبي حمزة فيه : هو ابن الثمالي على الظاهر ، واحتمال غيره المذكور في رجال الصادقعليه‌السلام من كتاب الشيخ مهملاً(٤) بعيد.

وما قد يقال : من أنّ الراوي عن الثقة ابن أبي عمير كما صرّح به النجاشي(٥) والشيخ(٦) ، والراوي هنا أيوب بن نوح وهو متأخّر ، لأنّه من أصحاب الهاديعليه‌السلام والعسكريعليه‌السلام .

جوابه : أنّ النجاشي ذكر أنّ أيوب روى عن أصحاب أبي عبد اللهعليه‌السلام (٧) ، ومحمد بن أبي حمزة من أصحابهعليه‌السلام . إلاّ أنّي متأمّل في مثل هذا الأمر ؛ لأنّ اللازم منه أنّ يكون محمد بن أبي حمزة أدرك الهاديعليه‌السلام ، فيكون أدرك أربعة من الأئمةعليهم‌السلام ، ولم يذكر ذلك في الرجال ، بل في كتاب الشيخ : أنّه من أصحاب الصادقعليه‌السلام لا غيره(٨) .

__________________

(١) الفهرست : ١٧٠ / ٧٤٣.

(٢) رجال الطوسي : ٣٣٩ / ٩.

(٣) خلاصة العلاّمة : ٢٥٨ / ٢ ( مفضّل ) ، ولعل مأخذه قول ابن الغضائري فيه : ضعيف كذّاب يضع الحديث. ( مجمع الرجال ٦ : ١٢٢ ) وعدّه النجاشي : ( ١٢٨ / ٣٣٢ ) ممّن غُمز فيهم وضُعّفوا.

(٤) رجال الطوسي : ٣٢٢ / ٦٧٥.

(٥) رجال النجاشي : ٣٥٨ / ٩٦١.

(٦) الفهرست : ١٤٨ / ٦٣٠.

(٧) رجال النجاشي : ١٠٢ / ٢٥٤.

(٨) رجال الطوسي : ٣٢٢ / ٦٧٥.

٢٨١

ثم إنّ توثيقه ليس إلاّ من الكشي بهذه الصورة : سألت حمدويه بن نصير ، عن علي بن أبي حمزة الثمالي والحسين بن أبي حمزة ومحمد أخويه(١) ، فقال : كلّهم ثقات فاضلون(٢) .

وحمدويه متأخّر عن هؤلاء ، لكنه ثقة مقبول القول ، غير أنّه وقع في البين بالنسبة إلى أنّ المخبَر عنه من حمدويه هو الثمالي نوع إشكال ، وهو أنّ النجاشي قال نقلاً عن محمد بن عمر الجعابيّ : إنّ أسماء(٣) ولد أبي حمزة : نوح ومنصور وحمزة ، قتلوا مع زيد(٤) .

وهذا بظاهره يدل على أنّ محمداً والحسين وعلياً ليسوا من ولد أبي حمزة الثمالي(٥) .

والذي يظهر من عبارة النجاشي كما ترى أنّها حكاية عن الغير ، ويحتمل أنّ لا يكون راضياً بها ؛ وما قاله في الخلاصة نقلاً عنه : أنّه قال : أسماء ولد أبي حمزة(٦) ، غريب على أنّ قول الجعابي في الأولاد الذين قتلوا مع زيد لا جميع الأولاد ، وفي هذا تأمّل ، إذ هو خلاف الظاهر.

والحق أنّ النجاشي غير قائل بالمنقول ؛ لأنّه قال في الحسين بن حمزة الليثي : ( الحسين بن حمزة الليثي )(٧) ابن بنت أبي حمزة الثمالي ثقة ؛ ـ إلى أنّ قال ـ : وخاله محمد بن أبي حمزة ذكره أصحاب كتب‌

__________________

(١) في المصدر زيادة : وابنه.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٧٠٧ / ٧٦١.

(٣) ليست في « فض ».

(٤) رجال النجاشي : ١١٥ / ٢٩٦.

(٥) في « د » زيادة : يكون الوهم وقع في الكشي ، وفي « رض » : لكون الوهم.

(٦) الخلاصة : ٥١.

(٧) ما بين القوسين ليس في « فض ».

٢٨٢

الرجال(١) . وهو صريح في أنّ محمد بن أبي حمزة موجود ، غاية الأمر أنّ اللبس في الحسين وعلي ابني أبي حمزة ، فإنّ النجاشي لم يذكر إلاّ الحسين ابن حمزة الليثي ، وعلي بن أبي حمزة لم يذكره ؛ وغير بعيد أن يكون الحسين بن حمزة الليثي نسب إلى جدّه لأُمه.

أمّا ما وقع في الخلاصة فهو غريب ، لأنّه قال بعد نقل كلام النجاشي ـ الذي أشرنا إلى أنّه موهوم ؛ لأنّه أسنده إليه ، وإنّما هو نقل عن غيره ـ : ولم يذكر ـ يعني النجاشي ـ الحسين من عداد أولاده. وقال ابن عقدة : حسين بن بنت أبي حمزة الثمالي خال محمد بن أبي حمزة ، وأن الحسين ابن أبي حمزة ابن ابنة الحسين بن أبي حمزة الثمالي ، وأن الحسين بن حمزة الليثي الكوفي هو ابن بنت أبي حمزة الثمالي. وقال النجاشي أيضاً الحسين بن حمزة الليثي ؛ وذكر كلامه ـ إلى أنّ قال ـ : وأسقط « أبي » بين الحسين وحمزة ، وبالجملة هذا الرجل عندي مقبول الرواية ، ويجوز أنّ يكون ابن ابنة(٢) أبي حمزة ، وغلب عليه النسب إلى أبي حمزة(٣) . انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ كلام ابن عقدة مخلوط ، وأنّ قوله خال محمد غلط ، بل خاله محمد كما في النجاشي(٤) ، ولفظ الحسين بعد قوله : ابن ابنة الحسين ؛ غلط أيضاً ، والمراد أنّ الحسين بن(٥) حمزة هو ابن بنت أبي حمزة الثمالي ، ومحمد خاله ؛ والحسين الذي يقال له ابن أبي حمزة‌

__________________

(١) رجال النجاشي : ٥٤ / ١٢١.

(٢) في « رض » : ابنته.

(٣) الخلاصة : ٥١ بتفاوت يسير.

(٤) رجال النجاشي : ٥٤ / ١٢١.

(٥) في « فض » زيادة : أبي.

٢٨٣

هو ابن حمزة ، لكن لما كان ابن ابنة أبي حمزة نسب إليه.

ومن هنا يعلم أنّ قول جدّيقدس‌سره في فوائد الخلاصة ـ : إن كلام ابن عقدة يدل على وجود الحسين بن أبي حمزة الثمالي وإن شاركه غيره في الاسم. وقول النجاشي : إنّ الحسين بن حمزة الليثي هو ابن بنت أبي حمزة. لا ينافي كون أبي حمزة له ولد اسمه الحسين ، فظهر أنّ جميع ما ذكره ـ يعني العلاّمة ـ لا يظهر له فائدة ولا منافاة لقوله : ويجوز.

محلّ بحث ،أمّا أولاً : فلأنّ كلام النجاشي في الحسين بن حمزة صريح في أنّ خاله محمد بن أبي حمزة(١) ، ولو كان له خال يقال له الحسين لكان أحق بالذكر ، لكونه موثقاً في كلام حمدويه ، فلا أقل من ذكره مع محمد.

وأمّا ثانياً : فلأنّ كلام ابن عقدة لا يفيد التعدّد ، بل إنّما وقع الوهم من الزيادة والنقصان اللذين ذكرناهما(٢) مع زيادة ذكر الحسين مرّة ثالثة فكأنّه قال : الحسين بن حمزة الليثي يقال له « حسين بن بنت أبي حمزة » و « حسين بن أبي حمزة » و « حسين بن حمزة الليثي » ، والكل صحيح. ففي الأوّل : نسب لُامّه ، وفي الثاني : لجدّه لُامّه ، وفي الثالث لأبيه.

نعم يبقى الكلام في علي بن أبي حمزة الثمالي ، فإنّ عدم ذكر النجاشي له يشعر بعدم تحققه. والله أعلم بالحال.

المتن :

في الأوّل : كما ترى(٣) لا يخلو من تشويش ، والحاصل من معناه : أنّ‌

__________________

(١) رجال النجاشي : ٥٤ / ١٢١.

(٢) في « رض » : ذكرهما.

(٣) في « د » مشطوبة.

٢٨٤

الحائض إذا لبست ثوباً واحداً إلى حين تطهر ، وكان لها أثواب فلا تصلّي فيه حتى تغسله ، لأنّ الغالب عدم خلوّه من إصابة النجاسة ، وإن تعدّد عليها صلّت في الأعلى ، لبُعده عن النجاسة ، وإنّ لم يكن لها إلاّ ثوب واحد فإنّه يكفيها أنّ تغسل بدنها حين الطمث ثم تلبسه ، فإذا طهرت صلّت فيه وإنّ لم تغسله.

وقول الشيخ : فيحتمل ما قلناه في الخبر الأوّل. يريد به أنّ الأمر بغَسل الثوب في أوّل الرواية لعدم خلوّها من النجاسة ، لا من جهة العرق. وقوله : إنّه محمول على الاستحباب. واضح ، إلاّ أنّه لا وجه لعدم ذكره في الأوّل أيضاً ، بل الأوّل أولى ؛ لأنّ الاستحباب في هذا يقتضي الغَسل في الصورة الأخيرة أيضاً.

والثاني : ظاهر في الاستحباب من قوله : « لا أُحب » أمّا قوله : « ثوباً تلزمه » فلعلّ المراد به ما ذكر في الخبر الأوّل ، أعني الثوب المستمر عليها إلى حين الطهر ، ويحتمل أنّ يراد الثوب الملاصق للجسم ، وهو المراد في الأوّل بقوله : « صلّت في الأعلى ».

وعلى كل حال فالحكم قد عرفت أنّ عليه الإجماع مدعى بالنسبة إلى العرق ، وأمّا غيره فبحسب النجاسات ، وأحكام إزالتها تابعة لها.

اللغة :

قال في القاموس : طمثت كنصر وسمِع حاضت ، والطمث المسّ والدنَسَ(١) .

__________________

(١) القاموس المحيط ١ : ١٧٦.

٢٨٥

قوله(١) :

فأما ما رواه سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن ابن محبوب ، عن أبان بن عثمان ، عن محمد الحلبي قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : رجل أجنب في ثوبه ولم يكن معه ثوب غيره؟ قال : « يصلّي فيه ، وإذا وجد الماء(٢) غسله ».

فهذا الخبر يحتمل شيئين ، أحدهما : وهو الأشبه أن يكون أصاب الثوب نجاسة من المني ، فحينئذ يصلّي فيه إذا لم يجد غيره ولا يمكنه نزعه ، وكان عليه الإعادة على ما بيّنّاه فيما مضى. ويحتمل أن يكون المراد إذا أصابته الجنابة من حرام وعرق فيه ، فإنّه يصلّي فيه ، فإذا وجد الماء غسله.

فأمّا ما رواه الحسين بن سعيد ، عن النضر ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الثوب يجنب فيه الرجل ويعرق فيه ، فقال : « أمّا أنا فلا أُحب أن أنام فيه ، وإن كان الشتاء فلا بأس به(٣) ما لم يعرق فيه ».

فالوجه في هذا الخبر ضرب من الكراهية وهو صريح فيه. ويمكن أن يكون محمولاً على أنّه إذا كانت الجنابة من حرام.

فأمّا ما رواه الحسين بن سعيد ، عن حماد ، عن حريز ، عن زرارة قال : سألته عن الرجل يجنب في ثوبه ، أيتجفف فيه من غسله؟

__________________

(١) في « رض » : قال.

(٢) في الاستبصار ١ : ١٨٧ / ٦٥٥ : ماءً.

(٣) ليست في الاستبصار ١ : ١٨٨ / ٦٥٦ ، والتهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣١.

٢٨٦

قال : « نعم ، لا بأس به ، إلاّ أنّ تكون النطفة فيه رطبة ، فإنّ كانت جافّة فلا بأس ».

فالوجه فيما تضمنه هذا الخبر من جواز التنشف بالثوب إذا كان المني يابساً محمول على أنّه إذا لم يتنشف بالموضع الذي يكون فيه المني ، لأنّه لو تنشف بذلك الموضع ، لتعدي النجاسة إليه(١) .

السند :

في الأوّل : لا ارتياب في صحته ، لأنّ الطريق إلى سعد صحيح ، وهو : عن المفيد ، عن محمد بن علي بن بابويه ، عن أبيه ، عنه. وله طريق آخر : عن ابن قولويه ، عن أبيه. وفي الأب كلام قد تقدم(٢) .

وأبو جعفر أحمد بن محمد بن عيسى على ما ذكره العلاّمة في فوائد الخلاصة(٣) ، والاعتبار يساعد عليه لولا شي‌ء ما قدّمناه(٤) .

وعلي بن الحكم هو الثقة بقرينة رواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه(٥) على تقديره ، والإضمار فيه غير مضر كما كرّرنا القول فيه(٦) .

والثاني : فيه النضر ، وهو على الظاهر ابن سويد ، لما يستفاد من الرجال والأخبار(٧) .

__________________

(١) في الإستبصار ١ : ١٨٨ زيادة : إذا ابتلّ.

(٢) في ص ٨١.

(٣) الخلاصة : ٢٧١.

(٤) في ص ١٢١.

(٥) راجع ص ١٨٠.

(٦) راجع ص ٥١ ، ولا يخفى أنّه ليس في السند المبحوث عنه عنوان أبي جعفر وعلي ابن الحكم ، ولبس فيه إضمار أيضاً.

(٧) بقرينة رواية الحسين بن سعيد عنه ، راجع الفهرست : ١٧١ / ٧٦٠. والاستبصار ١ : ١٥٩ / ٥٤٩.

٢٨٧

وأبو بصير : كرّرنا ذكره(١) ، غير أنّ شيخناقدس‌سره كان يرجّح كون عاصم بن حميد إذا روى عن أبي بصير فهو ليث المرادي ، والوالدقدس‌سره كان يتوقف في ذلك ، لوجدانه رواية عاصم عن يحيى فيما أظن منه سماعاً.

والثالث : لا ارتياب في صحته ، والإضمار غير قادح.

المتن :

في الأوّل : ظاهر الدلالة ، بل صريح في أنّ المني إذا أصاب الثوب ولم يكن مع الإنسان غيره ولم يقدر على الغَسل يصلّي فيه ، غاية الأمر أنّ التقييد بالضرورة مذكور في كلام بعض الأصحاب(٢) ، وعليه يدل بعض الأخبار ، كما تقدم ذلك كلّه مفصلاً(٣) .

والعجب أنّ الشيخ ذكره سابقاً في باب الرجل يصيب ثوبه الجنابة(٤) ، وهنا ذكر احتمال الجنابة من حرام وعرق فيه ، والخبر عن هذا الاحتمال بمراحل.

وفي التهذيب قال : لا يجوز أنّ يكون المراد بهذا الخبر إلاّ من عرق في الثوب من جنابة إذا كانت من حرام. قالرحمه‌الله لأنّا قد بيّنا أنّ نفس الجنابة لا تتعدى إلى الثوب ، وذكرنا أيضاً أنّ عرق الجنب لا ينجس الثوب ، فلم يبق معنىً يحمل عليه الخبر إلاّ عرق الجنابة من حرام(٥) . انتهى.

__________________

(١) راجع ص ٥١ و ٩٢.

(٢) منهم الأردبيلي في مجمع الفائدة ١ : ٣٥١.

(٣) راجع : ص ٩١٠.

(٤) راجع : ص ٨١١.

(٥) التهذيب ١ : ٢٧١ ، بتفاوت يسير.

٢٨٨

ولا يخفى عليك أنّ الاستدلال بمثل هذا الخبر موضع التعجب.

والثاني : أيضاً كذلك ، بل هو بمعزل عن احتمال الجنابة من حرام ؛ لأنّ قولهعليه‌السلام : « أمّا أنا فلا أُحبّ أنّ أنام فيه » يأبى ذلك ، إلاّ على احتمال متكلّف ، وهو أنّ يراد كون غيره لو أجنب من حرام لا ينام فيهعليه‌السلام بتقدير لبسه.

وما قالهرحمه‌الله من صراحته في الكراهة. لا يعتريه شوب الارتياب. والظاهر أنّ وجه الكراهة بُعد خلوّ الثوب من النجاسة.

وينبغي أنّ يعلم أنّ القول بنجاسة عرق المجنب من حرام محكي في المختلف عن الشيخين وابن البراج(١) . وفي رسالة علي بن بابويه : وإن كانت يعني الجنابة من حرام فحرام الصلاة فيه. يعني من جهة العرق ؛ لتقدم ذكره. وكذلك عبارة ولده في الفقيه(٢) . وفي الظن أن العبارتين لا صراحة فيهما بالنجاسة.

نعم عبارة المفيد في المقنعة ربما كانت ظاهرة ، لأنّه قال : لا يجب غَسل الثوب من عرق الجنب إلاّ أنّ تكون الجنابة من حرام(٣) . وإنّما قلنا : الظاهر منها ذلك ؛ لاحتمال القول بوجوب الغَسل لإزالة العرق لأجل الصلاة ، حيث لا تصح الصلاة فيه.

وابن الجنيد في المختصر الأحمدي قال : عرق الحائض لا ينجّس الثوب ، وكذلك عرق الجنب من حلال ، فإنّ كان أجنب من حرام غَسَل‌

__________________

(١) المختلف ١ : ٣٠٢ ، وهو في المقنعة : ٧١ ، وفي النهاية : ٥٣ ، وفي المهذب ١ : ٥١.

(٢) الفقيه ١ : ٤٠.

(٣) المقنعة : ٧١.

٢٨٩

الثوب. وهذا الكلام ربما يقال بصراحته في النجاسة ، إلاّ أنّ فيه نوع تأمّل.

والشيخ في الخلاف قال : عرق الجنب من حرام حرام الصلاة فيه(١) . وفي النهاية : إلاّ أنّ تكون الجنابة من حرام ، فإنّه يجب غَسل الثوب(٢) .

واحتج في الخلاف : بالإجماع والاحتياط والأخبار(٣) ، محيلاً لها على كتابي الحديث. والحال ما ترى من جهة الأخبار ، فإنّ في الكتابين مستنده هذين الحديثين(٤) ، وكلام الشيخ في التهذيب قد سمعته مع قوله هنا ، وقد ذكر احتمال إصابة الثوب النجاسة في التهذيب(٥) . وبالجملة ، فالأمر لا يخلو من غرابة بالنسبة إلى الشيخ ، حيث تعرض للاستدلال بالأخبار.

وأمّا الإجماع فلا يمكن الاطّلاع فيه على الحقيقة بعد ما يوجد خلاف نفسه فيه ، كما يعلم من مراجعة ما ذكره جدّيقدس‌سره في بعض فوائده.

غير أنّ هذه المسألة لم نقف للمتقدمين على قول بالطهارة ، نعم ابن إدريس وسلاّر نقل عنهما(٦) ذلك ، وجمهور المتأخرين على الطهارة(٧) . وهو غريب منهم مع معهوديّة اتباع الشيخ غالباً ، وعدم نقل مخالف من‌

__________________

(١) الخلاف ١ : ٤٨٣ بتفاوت يسير.

(٢) النهاية : ٥٣ بتفاوت يسير.

(٣) الخلاف ١ : ٤٨٣.

(٤) التهذيب ١ : ٢٧١ / ٧٩٩ و ٤٢١ / ١٣٣١ ، الاستبصار ١ : ١٨٧ / ٦٥٥ و ١٨٨ / ٦٥٦ ، الوسائل ٣ : ٤٤٧ أبواب النجاسات ب ٢٧ ح ١٠ ، ١١.

(٥) التهذيب ١ : ٢٧١.

(٦) حكاه عنهما في المختلف ١ : ٣٠٣ ، وهو في السرائر ١ : ١٨١ ، والمراسم : ٥٦.

(٧) منهم المحقق الحلي في الشرائع ١ : ٥٣ ، والكركي في جامع المقاصد ١ : ١٦٥ ، وصاحب المدارك ١ : ٢٩٩.

٢٩٠

المتقدّمين على الشيخ ليكون القدح في الإجماع حاصلاً على احتمال ، بل العلاّمة في المختلف قال : إنّ الطهارة اختيار سلاّر وابن إدريس وهو المعتمد ، واحتج بالأصل والأخبار الدالة على طهارة عرق الجنب من غير تفصيل ، وبأنّ المجنب من حرام ليس بنجس ، فلا يكون عرقه نجسا ، ثم ذكر حجّة الشيخين بالأخبار ولم يتعرض للإجماع المذكور في الخلاف(١) .

وفي الذكرى قال الشهيدرحمه‌الله بعد حكايته عن المبسوط أنّه نسب الحكم إلى رواية الأصحاب : ولعلّه ما رواه محمّد بن همام بإسناده إلى إدريس بن همام(٢) الكفرثوثي إنّه كان يقول بالوقف فدخل إلى سرّ من رأى في عهد أبي الحسنعليه‌السلام وأراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب ، أيصلّى فيه؟ فبينما هو قائم في طاق باب لانتظارهعليه‌السلام حرّكه أبو الحسنعليه‌السلام بمقرعته ، وقال مبتدئاً : « إن كان من حلال فصَلِّ ، وإن كان من حرام فلا تصلِّ فيه »(٣) ثم قالرحمه‌الله : وروى الكليني بإسناده إلى الرضاعليه‌السلام في الحمام « يغتسل فيه الجنب من الحرام »(٤) وعن أبي الحسنعليه‌السلام : « لا يغتسل من غسالته ، فإنّه يغتسل فيه من الزنا »(٥) انتهى(٦) .

__________________

(١) المختلف ١ : ٣٠٣.

(٢) كذا في النسخ ، وفي الوسائل : إدريس بن يزداد ، وفي الذكرى : إدريس بن زياد الكفرتوثي ، وهو الصواب ، راجع رجال النجاشي : ١٠٣ / ٢٥٧ ، والفهرست : ٣٩ / ١١٤ ، ورجال ابن داود : ٣٩ / ٩٤٨.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٤٧ ، أبواب النجاسات ب ٢٧ ح ١٢.

(٤) الكافي ٦ : ٥٠٣ / ٣٨.

(٥) الكافي ٦ : ٤٩٨ / ١٠.

(٦) الذكرى : ١٤ ، بتفاوت يسير.

٢٩١

وهذه الروايات كما ترى ربما دلت في الجملة سيّما الاولى ، لكن الطرق في الأخيرتين غير سليمة ، والأولى لم نقف على أصلها ، والاحتمال الذي أسلفناه من إمكان تحريم الصلاة من دون النجاسة(١) قائم هنا.

ولا يبعد أن يوجه عند القائل بالموثق : بأنّ دلالة رواية ابن بكير الموثقة الدالة على أنّ ما لا يؤكل لحمه لا يصلّى في شي‌ء منه تتناول عرق الإنسان(٢) ، ولمّا خرج عرق الإنسان بالإجماع ، ينبغي الاقتصار على مورده ، وهو غير المجنب من حرام ؛ لوقوع الخلاف فيه ، فيعمل الخبر عمله فيما عداه.

إلاّ أنّ يقال : إنّ الإجماع إنّما خرجنا عنه في المجنب من حرام إذا كان نجساً لا مع الطهارة ، إذ(٣) لم يعلم فيه الخلاف.

ويمكن الجواب : بعدم صراحة القول بالنجاسة في كلام بعض من تقدم(٤) ، فينبغي تأمّل هذا ، فإنّي لم أقف على من نبّه عليه من العاملين بالموثق.

ثم إنّ الثالث من الأخبار كما ترى يدل بظاهره على التجفف بالثوب إذا لم تكن النطفة رطبة ، والحال فيه لا يخلو من خفاء ؛ لأنّ ما ذكره الشيخ في توجيهه له وجه في الجملة ، إلاّ أنّ الإجمال باق من حيث إنّ موضع المني إذا لم ينشف به فلا فرق بين الرطب واليابس.

__________________

(١) ص : ٢٨٩ ٢٩٠.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٠٩ / ٨١٨ ، الوسائل ٤ : ٣٤٥ أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

(٣) في « فض » و « رض » : إذا.

(٤) راجع ص : ٢٨٩.

٢٩٢

واحتمال أنّ يراد أنّ التنشف بالثوب إذا لم يعلم بإصابة الجنابة له لا بأس به إذا كانت يابسة ، بمعنى عدم العلم بها لكونها يابسة ، واليبس حينئذ هو سبب عدم العلم ، بخلاف ما إذا كانت رطبة ، فإنّها تتحقق.

غير تام ؛ لأنّ عدم العلم بإصابة النجاسة يقتضي جواز التنشف به ، والرطوبة المذكورة إنّ كانت تعلم قبل التنشف فلا فرق ، وإنّ كانت بعد فكذلك ، إلاّ أنّ يحصل العلم بإصابتها ، ومع اليبوسة على تقدير علمها كذلك.

اللهم إلاّ أنّ يقال : على تقدير اليبوسة إذا وقع التنشف بالثوب وبقيت اليبوسة فالعلم حاصل بعدم الإصابة ، بخلافه مع الرطوبة ؛ لاحتمال الإصابة من حيث الاشتراك في الرطوبة. وأظنّ أنّ هذا الوجه لا يخلو من وجاهة ، غير أنّه يقتضي حمل الخبر على الاستحباب ، من حيث إن مجرّد الاحتمال لا يحكم بالتنجيس به ، فليتأمّل.

قوله :

باب بول الخشاف

أخبرني الحسين بن عبيد الله ، عن أحمد بن محمد بن يحيى ، عن أبيه ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن موسى بن عمر ، عن يحيى بن عمر ، عن داود الرقّي قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن بول الخشاف(١) ، يصيب ثوبي فأطلبه ولا أجده ، قال : « اغسل ثوبك ».

فأما ما رواه أحمد بن محمد ، عن محمد بن يحيى ، عن غياث ،

__________________

(١) في الاستبصار ١ : ١٨٨ / ٦٥٨ : الخشاشيف.

٢٩٣

عن جعفر ، عن أبيهعليهما‌السلام قال : « لا بأس بدم البراغيث والبقّ ، وبول الخشاشيف ».

فالوجه في هذه الرواية أنّ نحملها على ضرب من التقية ؛ لأنّها مخالفة لأُصول المذهب ، لأنّا قد بيّنا أنّ كل ما لا يؤكل لحمه لا تجوز الصلاة في بوله ، والخشّاف ممّا لا يؤكل لحمه ، فلا تجوز الصلاة في بوله. والرواية الاولى تؤكّد هذه الأُصول بصريحها.

السند‌ :

في الأوّل : فيه موسى بن عمر ، وهو مشترك(١) بين ثقة ومهملين.

ويحيى بن عمر مجهول.

أمّا داود الرقّي : ففيه كلام ؛ لأنّ النجاشي ضعّفه(٢) ، والشيخ وثّقه(٣) ، لكن لا يخفى بعد ما كرّرنا القول فيه حقيقة الحال ، غير أنّ في إرشاد المفيد : أنّه من خاصة أبي الحسن موسىعليه‌السلام وثقاته(٤) . والصدوق في طريق الفقيه قال : روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال : « انزلوا داود الرقي منّي بمنزلة المقداد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٥) إلاّ أنّ قوله : وروى. يشعر بعدم الثبوت ، ويمكن أنّ يقال : إنّ الصدوق يستعمل هذه اللفظة في كتابه مع ضمانة صحة ما فيه ، إلاّ أنّ يقال : إنّ ما في الطرق خارج عن الكتاب.

ومن هنا يعلم أنّ ما اعترض به جدّيقدس‌سره على العلاّمة في قوله‌

__________________

(١) هداية المحدثين : ٢٦٢.

(٢) رجال النجاشي : ١٥٦ / ٤١٠.

(٣) رجال الطوسي : ٣٤٩ / ١.

(٤) إرشاد المفيد ٢ : ٢٤٨.

(٥) مشيخة الفقيه ( الفقيه ٤ ) : ٩٥ بتفاوت يسير.

٢٩٤

بعد ما نقل كلام النجاشي بأنّه ضعيف جدّاً ، وقول الشيخ إنّه ثقة : والأقوى قبول قوله ، لقول الشيخ(١) من أنّ الجرح مقدَّم ، فكيف يرجح قول الشيخ(٢) ؟ لا يخلو من وجاهة من حيث لم يتعرض العلاّمة لما نقلناه.

والحقّ أنّ للنجاشي الرجحان ، لوجود الاحتمال في عبارة الصدوق ، وكلام المفيد غير معلوم المراد من عبارته ، فإنّه كثيراً ما يوثّق من ليس له أهليّة التوثيق ، أو يقال : إنّ توثيقه متقدّم على الضعف كما في محمد بن سنان ، وفي هذا شي‌ء قدمناه(٣) في محمد بن سنان من جهة بُعد عدم وقوف المفيد على الضعف وإطلاق التوثيق ، فليتأمّل.

والثاني : فيه محمد بن يحيى ، وهو إمّا الخثعمي ، وقد صرح الشيخ بأنّه عامي في هذا الكتاب ، وكونه ثقة صرّح به النجاشي(٤) . وإمّا الخزّاز ، وهو ثقة ، وما قد يقال : إنّ كثرة الرواية عن غياث من الخثعمي تؤيّد تعيّنه. محلّ تأمّل ؛ إذ الكثرة غير معلومة ، فإنّ التصريح بالخثعمي في الأكثر عَسِر الإثبات ، والإطلاق لا يفيد ما ذكر كما لا يخفى.

فإن قلت : قد ذكر الشيخ في رجال من لم يرو عن الأئمّةعليهم‌السلام غياث بن إبراهيم روى عنه محمد بن يحيى الخزّاز(٥) . وظاهر هذا الكلام الاختصاص بالخزاز.

قلت : الاختصاص غير معلوم ، كما يعرف من عبارة(٦) الشيخ في‌

__________________

(١) الخلاصة : ٦٧ / ١.

(٢) حواشي الشهيد الثاني على الخلاصة : ١١.

(٣) راجع ص ٨٥.

(٤) رجال النجاشي : ٣٥٩ / ٩٦٣.

(٥) رجال الطوسي : ٤٨٨ / ٢.

(٦) في « فض » و « رض » : عادة.

٢٩٥

كثير من الرجال ، ووجود الخثعمي راوياً عن غياث لا شبهة فيه في الأخبار(١) .

ومن هنا يعلم أنّ ما ذكره شيخناقدس‌سره في بعض فوائده على الكتاب : من أنّ الرواية معتبرة الإسناد ؛ لأنّ محمد بن يحيى الذي يروي عن غياث هو الخثمعي ، كما وقع التصريح به في عدّة روايات ، أو الخزّاز كما ورد في بعض آخر ، وكلاهما ثقة ، وأمّا غياث فهو ابن إبراهيم الأسدي ، وقد وثّقه النجاشي والعلاّمة ، لكن قال العلاّمة : إنّه كان بُترياً ، والظاهر أنّ الأصل في ذلك ما نقله الكشي ، عن حمدويه ، عن بعض أشياخه : أنه كان كذلك. لكن الجارح مجهول ، فلا يعتدّ بجرحه.

محلّ بحث ؛ لأنّ الشيخ قد صرّح بكونه بترياً كما نقلناه عنه(٢) . ولا يبعد أن يكون قول الشيخ مستنداً إلى ما قاله الكشي أيضاً ، إلاّ أنّ الجزم به غير معلوم ، ولم أقف الآن على ما نقله شيخناقدس‌سره عن الكشي ، فإنّ شيخنا أيّده الله في كتاب الرجال لم ينقل عن الكشي ذلك(٣) ، وفي فوائده على الكتاب ما يقتضي عدم وقوفه على ذلك ، فإنّه قال بعد ما اعترض به شيخناقدس‌سره : فيه أنّ الشيخ في رجاله حكم بكونه بُتريا ، ورواية الكشي على ما نقله يعني شيخنا إنّ لم تؤيّد ذلك وتقوّيه فلا تقدح فيه. انتهى.

__________________

(١) الكافي ٤ : ٦٩ / ١ ، التهذيب ٦ : ٢٥٦ / ٦٧١ ، الوسائل ١٠ : ٣١٩ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٩ ح ١.

(٢) رجال الطوسي : ١٣٢ / ١.

(٣) منهج المقال : ٢٥٧.

٢٩٦

المتن :

في الأوّل : كما ترى يدل على غَسل الثوب من بول الخشاشيف.

والثاني : على نفي البأس ، فالحمل على الاستحباب ممكن في الجمع.

وما قاله الشيخ : من أنّه قد بيّن أنّ كل ما لا يؤكل لحمه لا تجوز الصلاة في بوله. محل كلام ، فإنّه إنّ استند في هذه الكلية إلى ما رواه في الحسن عن عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه »(١) . ففيه : أنّها معارضة بما رواه في التهذيب عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن جميل بن دراج ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : « كل شي‌ء يطير فلا بأس بخرئه وبوله »(٢) .

وإنّ استند إلى موثقة ابن بكير الدالة على أنّ كل شي‌ء لا يؤكل لحمه فلا يصلّي في شي‌ء منه(٣) . ففيه : أنّ عدم الصلاة فيه أعم من النجاسة ، على أنّ المنقول عن الشيخ في المبسوط : أنّ أبوال الطيور كلّها طاهرة ، أُكِل لحمها أم لم يُؤكل ، إلاّ الخشّاف(٤) . فالكليّة المذكورة غير سليمة عنده.

إلاّ أنّ يقال : إنّ الكلية إذا ثبتت يخرج منها ما خرج بالدليل ، فيبقى الباقي ومنه الخشاف. وفيه : أنّ مع تعارض الأخبار في الخشاف لا يتحقق‌

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٦٤ / ٧٧٠ ، الوسائل ٣ : ٤٠٥ أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

(٢) التهذيب ١ : ٢٦٦ / ٧٧٩ ، الوسائل ٣ : ٤١٢ أبواب النجاسات ب ١٠ ح ١.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٠٩ / ٨١٨ ، الوسائل ٤ : ٣٤٥ أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

(٤) حكاه عنه في المختلف ١ : ٢٩٨ ، وهو في المبسوط ١ : ٣٩.

٢٩٧

الحكم بخروجه كما لا يخفى.

والعجب من ادعاء العلاّمة(١) والمحقّق إجماع علماء الإسلام على نجاسة بول وروث ما لا يؤكل لحمه(٢) ، مع أنّ فضلة الطير الخلاف فيها منقول. ولعل الوجه في عدم استثناء الطير أنّ مرادهما في غيره ، بقرينة ذكر خلاف بعض العامة بعد نقل الإجماع في طهارة أبوال البهائم ، ونقل قول الشيخ في المبسوط.

والصدوق في الفقيه ظاهره القول بالطهارة ، لأنّه قال : ولا بأس بخرء ما طار وبوله(٣) . وينقل عن ابن أبي عقيل نحو ذلك(٤) . ويحتمل أنّ يكون الإجماع لا يضرّ فيه مثل هذا ، لمعلوميّة النسب كما احتمله الوالدقدس‌سره (٥) . وفيه من البُعد ما لا يخفى.

ثم إنّ المحقق احتج على مساواة الطير لغيره مع الإجماع بأنّ : ما دل على نجاسة العذرة ممّا لا يؤكل لحمه يتناوله ، لأنّ الخرء والعذرة مترادفان. قال : و ( الاستناد إلى )(٦) رواية أبي بصير وإنّ كانت حسنة إلاّ أنّ العامل بها من الأصحاب قليل(٧) .

واعترض الوالدقدس‌سره على الاحتجاج : بأنّ الإجماع إنّ ثبت فهو الحجة على الطير وغيره ، وإنّ خصّ بغير الطير فأين الأدلّة العامة على‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ١٥٩ ، ١٦٠.

(٢) المعتبر ١ : ٤١٠.

(٣) الفقيه ١ : ٤١.

(٤) حكاه عنه في المختلف ١ : ٢٩٨.

(٥) معالم الفقه : ١٩٧.

(٦) ما بين القوسين ليس في المصدر.

(٧) المعتبر ١ : ٤١١.

٢٩٨

نجاسة العذرة ممّا لا يؤكل لحمه؟ والحال أنّا لم نقف إلاّ على حسنة ابن سنان ، وهي واردة في البول ، ولم يذكرها هو يعني المحقق في بحثه ، بل اقتصر على الإجماع ، فلا ندري لفظ العذرة أين وقع معلّقاً عليه الحكم ، ليضطر إلى بيان مرادفة الخرء له؟ ثم تعجّب من المحقق(١) .

وفي نظري القاصر أنّ كلام الوالدقدس‌سره على الإطلاق محل تعجّب ؛ فإنّ العذرة قد وقع الحكم معلقاً بها في بعض الأخبار ، وقد نقلهقدس‌سره قريب هذا المبحث ، وهو صحيح موسى بن القاسم ، عن علي بن محمد قال : سألته عن الفأرة والدجاجة والحمام وأشباهها ، تطأ العذرة ثم تطأ الثوب(٢) (٣) . ( وغير ذلك من أخبار ذكرتها في حاشية الروضة ، وإذا تحقق تعليق الحكم على العذرة وكانت مرادفة للخرء أمكن إثبات المطلوب. ويمكن إثبات المرادفة بما قدّمناه عن القاموس )(٤) من أنّها أردأ ما يخرج من الطعام ، فإنّه شامل للطير وغيره(٥) .

وما قاله شيخناقدس‌سره في الاعتراض على المحقق أيضاً ـ : من أنّ العذرة ليست مرادفة للخرء ، بل الظاهر اختصاصها بفضلة الإنسان ، كما دل عليه العرف ونص أهل اللغة ، قال الجوهري(٦) : العذرة أصلها فناء الدار ،

__________________

(١) معالم الفقه : ١٩٧ بتفاوت يسير.

(٢) التهذيب ١ : ٤٢٤ / ١٣٤٧ ، قرب الإسناد : ٨٩ ، الوسائل ٣ : ٤٦٧ أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٣.

(٣) معالم الفقه : ١٩٦.

(٤) ما بين القوسين ليس في « فض ».

(٥) القاموس المحيط ٢ : ٨٩.

(٦) في « فض » : الهروي.

٢٩٩

وسميت عذرة الناس بها لأنّها كانت تلقى في الأفنية(١) (٢) ففي نظري القاصر : أنّه لا يخلو من تأمّل :

أمّا أولاً : فلوجود بعض الأخبار الدالة على إطلاقها على غير الإنسان ، ففي صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الرجل يصلّي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور أو كلب(٣) .

اللهم إلاّ أنّ يقال : إنّ العذرة هنا مقيّدة ، ويجوز التجوّز بقرينة ، والمدعى الإطلاق.

وفيه : أنّ الأصل في الإطلاق الحقيقة ، إلاّ أنّ تسبق الحقيقة بشي‌ء ثم يستعمل اللفظ في غيره ، فيكون أعم من الحقيقة والمجاز ، كما حققناه في الأُصول ، وفيما نحن فيه لم نعلم أنّ الأصل هو عذرة الإنسان ليكون في غيرها مجازاً ، لأنّه خير من الاشتراك ، فليتأمّل.

وأمّا ثانياً : فلأنّ كلام الجوهري(٤) يعارضه كلام القاموس ، والجمع ممكن ، بأنّ يراد أصل استعمال العذرة فيما ذكر ، ثم صارت تطلق على الجميع.

أمّا ما قد يقال : إنّ العذرة في الرواية قد استعملت في عذرة الإنسان وهي حقيقة ، فلو كانت مجازاً في غيره لكان استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهو غير جائز.

ففيه : أنّ اللفظ لم يستعمل في حقيقته ومجازه ، بل هنا ألفاظ مقدّرة‌

__________________

(١) الصحاح ٢ : ٧٣٨ ( عذر ).

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٢٦٠ ، بتفاوت يسير.

(٣) الكافي ٣ : ٤٠٦ / ١١ ، التهذيب ٢ : ٣٥٩ / ١٤٨٧ ، الإستبصار ١ : ١٨٠ / ٦٣٠ ، الوسائل ٣ : ٤٧٥ أبواب النجاسات ب ٤٠ ح ٥.

(٤) في « فض » : الهروي.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483