إستقصاء الإعتبار الجزء ٥

إستقصاء الإعتبار21%

إستقصاء الإعتبار مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
المترجم: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: متون حديثية
ISBN: 964-319-177
الصفحات: 379

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 379 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46825 / تحميل: 5736
الحجم الحجم الحجم
إستقصاء الإعتبار

إستقصاء الإعتبار الجزء ٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-١٧٧
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ولأحمد والترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد : اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألاه عن ذلك ، فقال : هو هذا ، وفي ذلك ـ يعني مسجد قباء ـ خير كثير ، وأخرجه أحمد من وجه آخر مرفوعا ، وفي العتبية عن مالك ما لفظه : وقال : المسجد الذي ذكر اللهعزوجل أنه أسس على التقوى من أول يوم الآية هو مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا ، أي مسجد المدينة ، ثم قال : أين كان يقوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟ أليس في هذا؟ ويأتونه أولئك من هنالك.

وقد قال الله سبحانه وتعالى :( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ) [الجمعة : ١١] فإنما هو مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

وقد قال عمر بن الخطاب : لو لا أني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو سمعته يريد أن يقدم القبلة ، وقال عمر بيده هكذا ، ما قدمتها ، ثم قدمها عمر موضع المقصورة الآن ، انتهى.

قال ابن رشد في بيانه : ما ذهب إليه مالك مروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء ، فاستدلوا بما روي أن الآية لما نزلت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا معشر الأنصار ، إن الله قد أثنى عليكم خيرا ، الحديث ، قال : ولا دليل فيه ؛ لأن أولئك كانوا في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم ، قال : واستدلال مالك بقول عمر المتقدم ظاهر ؛ لأن الله تعالى لما ذكر فيه أنه أسس على التقوى لم يستجز نقض بنائه وتبديل قبلته ، إلا بما سمع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ورآه قد أراد أن يفعله.

قلت : ما ذكره مالك من كون مسجد المدينة هو المراد هو ظاهر ما قدمناه ، لكن قوله تعالى( مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ) يقضي أنه مسجد قباء ؛ لأنه ليس المراد أول أيام الدنيا ، بل أول أيام حلولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بدار الهجرة ، وذلك هو مسجد قباء إلا أن يدعى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شرع في تأسيس مسجد المدينة أيضا من أول يوم قدومه لها ، أو يقال : المراد من أول يوم تأسيسه ، وسيأتي في مسجد قباء أشياء صريحة في أنه المراد ؛ فتعين الجمع بأن كلا منهما يصدق عليه أنه أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه كما هو معلوم ، وأنهما المراد من الآية ، لكن يشكل عليه كون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاب عند السؤال عن ذلك بتعيين مسجد المدينة ، وجوابه أن السر في ذلك أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد به رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء كما هو ظاهر ما فهمه السائل ، وتنويها بمزية مسجده الشريف لمزيد فضله ، والله أعلم.

فضل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

وفي الصحيحين حديث أبي هريرة «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى».

وعند مسلم : «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد : الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيلياء».

٢١

وعند أبي داود بلفظ : «ومسجدي هذا».

وفي الكبير والأوسط للطبراني برجال ثقات عن ابن عمر ، وبرجال الصحيح عن أبي الجعد الضّمري «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ، وذكر نحو رواية الصحيحين.

وفي صحيح ابن حبان ومسند أحمد والأوسط للطبراني وإسناده حسن من حديث جابر : «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق».

وهو عند البزار بلفظ : «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجد إبراهيم ومسجد محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم » ورجاله رجال الصحيح إلا عبد الرحمن بن أبي الزناد وقد وثقه غير واحد.

فضل الصلاة في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرةرضي‌الله‌عنه : «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في ما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» هذا لفظ البخاري ، زاد مسلم : «فإني آخر الأنبياء ، وإن مسجدي آخر المساجد».

قلت : يريد آخر مساجد الأنبياء كما نقله المحب الطبري عن أبي حاتم ، وإلا فهو من أول مساجد هذه الأمة ، وإذا كانت الألف واللام هنا لمعهود ـ وهو مساجد الأنبياء ـ فالألف واللام أيضا في قوله «فيما سواه من المساجد» للعهد ، والمراد مساجد الأنبياء ؛ فيتحصل من معناه أن الصلاة في مسجده أفضل من الصلاة في سائر مساجد الأنبياء بألف صلاة إلا المسجد الحرام ؛ فيقتضي ذلك أن تكون الصلاة بمسجده أفضل من ألف صلاة في بيت المقدس ؛ لأنه من جملة مساجد الأنبياء ، ولم يستثن ، ويدل على ذلك ما رواه البزار عن أبي سعيد قال : ودّع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل فقال له : أين تريد؟ قال : أريد بيت المقدس ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام ، وأسنده يحيى بزيادة تسمية الرجل فقال : عن الأرقم أنه تجهز يريد بيت المقدس ، فلما فرغ من جهازه جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يودعه ، وقال فيه : فجلس الأرقم ولم يخرج ، وأسنده ابن النجار عن الأرقم بلفظه : إنني أريد الخروج إلى بيت المقدس ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ولم؟ قلت : للصلاة فيه ، قال : هاهنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة ، ورواه الطبراني برجال ثقات عن الأرقم بلفظ : صلاة هاهنا خير من ألف صلاة ثم.

وقد روى أبو يعلى برجال ثقات عن ميمونة قالت : يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ، قال : أرض المحشر ، وأرض المنشر ، ائتوه فصلوا فيه ، فإن صلاة فيه كألف صلاة ـ أي في غيره من مساجد الأنبياء قبله ، ومساجد غير الأنبياء ما عدا المسجدين ـ لقيام الدليل على ذلك ؛ فتكون الصلاة بمسجد المدينة خيرا من ألف ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، فأما المسجد الأقصى فإنها أفضل من ألف صلاة فيه

٢٢

فقط ، ولا يعلم قدر زيادتها في الفضل على ذلك إلا الله تعالى ، ولمثل هذا تضرب آباط الإبل ، وتستحق الرحلة ، ولا يعكر على ذلك ما رواه أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة وعائشة قالا : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الأقصى» لأن المحفوظ إنما هو استثناء المسجد الحرام ، وحديث أبي هريرة في الصحيح خلا قوله : «إلا المسجد الأقصى» وهو معارض بما تقدم ، ولأن الهيثمي أورده في مجمع الزوائد ثم قال : رواه أحمد ، وأعاده بعد هذا بسنده فقال : إلا المسجد الحرام ، فاتضح بذلك ما قلناه.

وأما المسجد الحرام فاختلف الناس في معنى استثنائه ، فذهب مالك في رواية أشهب عنه ـ وقاله ابن نافع صاحبه وجماعة من أصحابه ـ إلى أن معنى الاستثناء أن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة ، إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من الصلاة فيه بدون الألف ، وذهب بعضهم إلى أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بمائة صلاة ، وحمل على ذلك الاستثناء في الحديث المتقدم ، واحتجوا برواية سليمان بن عتيق عن ابن الزبير عن عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه : «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في ما سواه» فيأتي فضيلة مسجد الرسول عليه بتسعمائة ، وعلى غيره بألف ، وتعقّب بأن المحفوظ بالإسناد المتقدم «صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، إلا مسجد الرسول فإنما فضله عليه بمائة صلاة».

قلت : وروى الطبراني في الأوسط عن عائشة مرفوعا : «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في غيره» لكن فيه سويد بن عبد العزيز ، قال البخاري : في حديثه نظر لا يحتمل ، وقد صح ما يقتضي رد ما ذهب إليه هؤلاء ؛ فقد روى أحمد والبزار وابن خزيمة برجال الصحيح من طريق حبيب المعلم عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا» زاد ابن خزيمة : «يعني في مسجد المدينة» لكن لفظ البزار : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عليه بمائة» وهي محتملة لأن يكون الضمير في «فإنه يزيد» لمسجده أو للمسجد الحرام ، وقد صحح ابن عبد البر حديث أحمد ، وقال : هو الحجة عند التنازع ، نص في موضع الخلاف ، قاطع له عند من ألهم رشده ، ولم تمل به العصبية ، قال : ولا مطعن فيه إلا لمتعسف لا يعرج على قوله في حبيب ، وقد كان الإمام أحمد يمدحه ، ويوثقه ، ويثنى عليه ، وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه ، ولم يرو عنه القطان ، وروى عنه أئمة ثقات يقتدى بهم ، ومنهم من أعله باختلاف على عطاء ؛ لأن قوما يروونه عنه عن ابن

٢٣

الزبير ، وآخرين يروونه عنه عن ابن عمر ، وآخرين عنه عن جابر ، ومن العلماء من يجعل مثل هذا علة في الحديث ، وليس كذلك ؛ لأنه يمكن أن يكون عن عطاء عنهم ، والواجب أن لا يدفع خبر نقله العدول إلا بحجة.

قال البزار : هذا الحديث قد روى عن عطاء ، واختلف على عطاء فيه ، ولا نعلم أحدا قال بأنه يزيد على مسجد المدينة مائة إلا ابن الزبير ، وقد تابع حبيبا المعلم الربيع بن صبيح ؛ فرواه عن عطاء عن ابن الزبير ، ورواه عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر ، ورواه ابن جريح عن عطاء بن أبي سلمة عن أبي هريرة أو عائشة ، ورواه ابن أبي ليلى عن عطاء عن أبي هريرة ، انتهى.

وقال الذهبي في مختصر سنن البيهقي : إسناده صالح ، ولم يخرجه أصحاب السنن.

قلت : هذا أمر آخر ، وهو أن الحديث المذكور لما اختلف لفظه على وجهين أحدهما ليس نصا في الدلالة كما قدمناه احتمل أن تكون الرواية في الواقع به ، ومن رواه بالوجه الآخر رواه بالمعنى بحسب فهمه ، إلا أن وروده من الطرق الأخرى بذلك اللفظ توهن هذا الاحتمال ، وعلى تقدير ثبوته فهو من ابن الزبير ، وهو أعرف بفهم مرويه ؛ لأن عبد الرزاق روى عن ابن جريج قال : أخبرني سليمان بن عتيق وعطاء عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول : «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه» ويشير إلى مسجد المدينة ، وقد قال ابن عبد البر : إن رجال إسناد حديث ابن عمر علماء أجلاء ، ورواه ابن وضاح عن ابن الزبير من كلام عمر بن الخطاب بنفسه ، قال ابن حزم : وسنده كالشمس في الصحة ، وروى ابن أبي خيثمة عن أبيه حدثنا مسلم عن الحجاج عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال : الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمائة ضعف ، قال : فنظرنا فإذا هي تفضل على سائر المساجد بمائة ألف صلاة ، قال ابن عبد البر وابن حزم : فهذان صحابيان جليلان يقولان بفضل المسجد الحرام على مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا مخالف لهما من الصحابة ؛ فصار كالإجماع منهم على ذلك.

وفي ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا : «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» وفي بعض النسخ : «من مائة صلاة فيما سواه» فعلى الأول معناه فيما سواه إلا مسجد المدينة ، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة لما تقدم عن جابر.

قلت : وقد روى يحيى حديث الصحيحين المتقدم عن جبير بن مطعم بلفظ : «إن صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد غير الكعبة» وفي رواية النسائي وغيره «إلا مسجد الكعبة» ولهذا ذهب بعضهم إلى أن المراد من المسجد الحرام

٢٤

الكعبة ، وبه قال العمراني من أصحابنا وغيره ، وروى البزار عن عائشة حديث : «أنا خاتم الأنبياء ، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء ، أحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل المسجد الحرام ومسجدي ، وصلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام».

وروى ابن ماجه مرفوعا برجال ثقات إلا أبا الخطاب الدمشقي فهو مجهول : «صلاة الرجل في بيته بصلاة ، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة ، وصلاته في المسجد الذي تجمع فيه بخمس مائة صلاة ، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة ، وصلاة في مسجدي بخمسين ألف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة» وهو يقتضي أن الصلاة بمسجد المدينة مساوية لمسجد بيت المقدس ، وأنهما معا على النصف من الصلاة بالمسجد الحرام ، وهو مخالف لما في الصحيح ، مع أن مفهوم العدد ليس بحجة ؛ فلا ينفي ما ثبت من الزيادة لمسجد المدينة على مسجد بيت المقدس سيما بالطريقة التي قدمناها.

وفي الطبراني ـ وهو حسن ، وفي بعض رجاله كلام ـ عن أبي الدرداء مرفوعا : «الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي بألف صلاة ، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة» ورواه ابن خزيمة في صحيحه بنحوه ، والبزار وحسنه ، وقال المجد : أخرجه الترمذي وقال : حسن غريب ، قال : ولا نعلم حديثا يشتمل على فضيلة الصلاة بالمساجد الثلاثة خصوصا(١) سواه مما يصح عند الاعتبار معناه.

قلت : لم أره في الترمذي ، وقد ساقه ابن عبد البر محتجا به ، وهو غير مانع مما قدمناه من كون الصلاة بمسجد المدينة أفضل من ألف صلاة بمسجد بيت المقدس ؛ لأن العدد لا ينفي الزائد ، وكذا حديث الأوسط للطبراني برجال الصحيح عن أبي ذر : تذاكرنا ونحن عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيما أفضل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بيت المقدس؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه ، ولنعم المصلى هو» وقد يقال في ذلك كما قيل في نظائره من احتمال أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أولا ببعض ذلك بحسب ما أوحى إليه ، ثم أعلم بالزيادة ، ويكون حديث الأقل قبل حديث الأكثر ، ثم تفضل الله بالأكثر شيئا بعد شيء ، ومحصله ما قررناه من الأخذ بالزائد ، ويحتمل أن ينزل تلك الأعداد على اختلاف الأحوال ؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى غير نهاية.

__________________

(١) المساجد الثلاثة : هي الأقصى ، ومسجد المدينة ، والمسجد الحرام.

٢٥

هل فضل الصلاة في المساجد الثلاثة يختص بالفرض؟

ونقل الزركشي في أعلام المساجد عن الكبير للطبراني بسند فيه مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا بعشرة آلاف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بعشرة أمثالها مائة ألف صلاة ، وصلاة الرجل في بيت المقدس بألف صلاة ، وصلاة الرجل في بيته حيث لا يراه أحد أفضل من ذلك كله».

قلت : وهو ضعيف ، ولم يورده الهيثمي في مجمعه في فضل الصلاة في المساجد الثلاث.

وهذه المضاعفة المذكورة في هذه المساجد لا تختص بالفريضة ، بل تعم الفرض والنفل ، كما قال النووي في شرح مسلم إنه المذهب.

قال الزركشي : وهو لازم تعليل الأصحاب استثناء النفل بمكة في الأوقات المكروهة بمزيد الفضيلة.

وقال الطحاوي من الحنفية : هو مختص بالفرض ، وفعل النوافل بالبيت أفضل ، وإليه ذهب ابن أبي زيد من المالكية ، وهو المرجح عندهم ، وفرق بعضهم بين أن يكون المسجد خاليا أم لا.

فإن قيل : كيف تقولون إن المضاعفة تعم الفرض والنفل وقد تطابقت الأصحاب ونص الحديث الصحيح على أن فعل النافلة في بيت الإنسان أفضل؟

قلنا : لا يلزم من المضاعفة في المسجد أن يكون أفضل من البيت كما قاله الزركشي وغيره ، وغاية الأمر أن يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل ، ولا يلزم من ذلك جعله أفضل ؛ فإن للأفضل مزايا إن كان للمفضول مزية ، ولهذا بحث التاج السبكي مع أبيه في صلاة الظهر بمنى يوم النحر إذا جعلنا منى خارجة عن محل المضاعفة : هل يكون أفضل من صلاتها في المسجد لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلها بمعنى يومئذ أو في المسجد للمضاعفة؟ فقال والده : بل في منى وإن لم يحصل بها المضاعفة ؛ فإن في الاقتداء بأفعال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يربو على المضاعفة ، على أن الحافظ ابن حجر ذكر ما يقتضي إثبات المضاعفة للتنفل في البيوت بالمدينة ومكة ، عملا بعموم قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» فقال : وقد تقدم النقل عن الطحاوي وغيره أن ذلك ـ يعني التضعيف ـ مختص بالفرائض ؛ لحديث : «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» ويمكن أن يقال : لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه ؛ فتكون النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما ، وكذا في المسجدين ، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا.

٢٦

مرجع مضاعفة فضل الصلاة

ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب بتلك الأعداد ، لا إلى الإجزاء ، باتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره ؛ فلو كانت صلوات فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة ، وقد أوهم كلام أبي بكر النقاش في تفسيره خلاف ذلك ؛ فإنه قال : حسبت الصلاة في المسجد الحرام فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمسة وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة ، اه. وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة والسواك ونحوه ، لكن هل تجمع التضعيفات أولا؟ محل بحث.

هل يختص التضعيف بالصلاة؟

قلت : وينبغي أن لا يختص هذا التضعيف بالصلاة ، بل سائر أنواع الطاعات كذلك قياسا على ما ثبت في الصلاة ، كما صرحوا به في مسجد مكة المشرفة ، وصرح به فيما يتعلق بالمدينة صاحب الانتصار أبو سليمان داود من المالكية ، ثم رأيته في كلام الغزالي في الإحياء كما قدمناه في فضل الخصائص ، ويشهد له ما في الكبير للطبراني عن بلال بن الحارث قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان ، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان» ونقل المجد عن أبي الفرج الأموي أنه أخرجه بسنده عن ابن عمر.

قلت : ورواه ابن الجوزي في شرف المصطفى عن ابن عمر أيضا بلفظ : «صيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها ، وصلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها».

وروى البيهقي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وشهر رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر رمضان فيما سواه إلا المسجد الحرام» ورواه أيضا عن ابن عمر بنحوه.

وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فإذا ضمت إلى ما قدمناه من القياس على الصلاة ثم الاستدلال ، وقد قدمنا في حدود مسجدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الخلاف المذكور في المراد بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا» ، وترجيح أن ذلك يتناول ما زيد فيه.

وروى أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات عن أنس بن مالك حديث : «من صلى

٢٧

في مسجدي أربعين صلاة» زاد الطبراني : «لا تفوته صلاة كتب له براءة من النار ، وبراءة من العذاب ، وبرئ من النفاق». تقدم هذا الحديث بدون زيادة الطبراني ، وهو عند الترمذي بغير هذا اللفظ.

وروى ابن المنذر وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجدي فرجل تكتب حسنة ورجل تحط عنه خطيئة».

وقال البيهقي بعد ذكر حديث فضل مسجد قباء ما لفظه : ورواه يوسف بن طهمان عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزاد : «ومن خرج على طهر لا يريد إلا مسجدي هذا ـ يريد مسجد المدينة ـ ليصلي فيه كانت بمنزلة حجة» وقد أسند ذلك ابن زبالة ومن طريقه ابن النجار عن سهل أيضا ، وفي إسناده طهمان أيضا ، وهو ضعيف عند البخاري وابن عدي ، وذكره ابن حبان في الثقات ، ولفظ ابن زبالة : «من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة» وأسند هو ويحيى عن سهل بن سعد حديث : «من دخل مسجدي هذا يتعلم فيه خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان كالذي يرى ما يعجبه وهو لغيره» وفي رواية لهما عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه : «من دخل مسجدي هذا لا يدخله إلا ليعمل خيرا أو يتعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان بمنزلة من يرى ما يعجبه وهو في يدي غيره».

وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره» ورواه الطبراني من حديث سعد مرفوعا بمعناه ، إلا أنه قال : «من دخل مسجدي ليتعلم خيرا أو ليعلمه» ورواه ابن حبان في صحيحه بلفظ الطبراني لكن من حديث أبي هريرة.

وأسند ابن زبالة عن زيد بن أسلم قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من دخل مسجدى هذا لصلاة أو لذكر الله أو يتعلم خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله» ولم يجعل ذلك لمسجد غيره ، وعند يحيى أيضا عن كعب أنه قال : «ما من مؤمن يغدو أو يروح إلى المسجد لا يغدو أو لا يروح إلا ليتعلم خيرا أو يعلمه أو يذكر الله أو يذكّر به إلا كان مثله في كتاب الله كمثل الجهاد في سبيل الله ، وما من رجل يغدو أو يروح إلى المسجد لا يغدو ولا يروح إلا لأخبار الناس وأحاديثهم إلا كان مثله في كتاب الله كمثل الرجل يرى الشيء يعجبه ويرى المصلين وليس منهم ، ويرى الذاكرين وليس منهم» ، وعنده أيضا عن أبي سعيد المقبري عن الثقة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا إخال إلا أن لكل رجل منكم

٢٨

مسجدا في بيته» قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : «فو الله لو صليتم في بيوتكم لتركتم مسجد نبيكم ، ولو تركتم مسجد نبيكم لتركتم سننه ، ولو تركتم سننه إذا لضللتم».

وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في غزوة خيبر : «من أكل من هذه الشجرة ـ يعني : الثوم ـ فلا يقربن مسجدنا».

قال الكرماني : قال التيمي : قال بعضهم : النهي إنما هو عن مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، من أجل ملائكة الوحي ، والأكثر على أنه عام ، انتهى. وقد حكى ابن بطال القول بالاختصاص عن بعض أهل العلم ووهّاه ، والله أعلم.

الفصل السادس في فضل المنبر المنيف ، والروضة الشريفة

روينا في الصحيحين حديث عبد الله بن زيد المازنيرضي‌الله‌عنه : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» زاد البخاري من حديث أبي هريرة : «ومنبري على حوضي».

وروى أحمد وأبو يعلى والبزار وفيه علي بن زيد وقد وثق عن جابر بن عبد الله مرفوعا : «ما بين بيتي إلى منبري روضة من رياض الجنة ، وإن منبري على ترعة من ترع الجنة».

وروى أحمد برجال الصحيح عن سهل بن سعد مرفوعا : «منبري على ترعة من ترع الجنة» وفيه تفسير الترعة بالباب ، وقيل : الترعة الروضة تكون على المكان المرتفع خاصة ، وقيل : الدرجة.

ورواه يحيى عن أبي هريرة وغيره بلفظ : «على رتعة من رتع الجنة» وكذا هو في رواية لرزين ، وظنه بعضهم تصحيفا فكتب في هامشه «صوابه ترعة» وليس كذلك ، بل معناه صحيح ؛ إذ الرتع الاتساع في الخصب ، والرّتعة ـ بسكون التاء وفتحها ـ الاتساع في الخصب ، وكل مخصب مرتع.

وفي الحديث : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» ، وروى البزار عن معاذ بن الحارث نحوه.

وفي الكبير للطبراني من طريق يحيى الحماني وهو ضعيف عن أبي واقد الليثي مرفوعا : «قوائم منبري رواتب في الجنة» ورواه ابن عساكر وابن النجار ويحيى عن أم سلمة ، وقال المجد : أخرجه عنها النسائي ، وفي رواية لابن عساكر : «وضعت منبري هذا على ترعة من ترع الجنة».

وأسند يحيى عن أبي المعلى الأنصاري وكانت له صحبة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو على المنبر : «إن قدمي على ترعة من ترع الجنة».

٢٩

وعن أبي سعيد الخدري : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو قائم على منبره : «أنا قائم الساعة على عقر حوضي» وفي رواية له : «إني على الحوض الآن».

وأسند ابن زبالة عن نافع بن جبير عن أبيه حديث : «أحد شقي المنبر على عقر الحوض ، فمن حلف عنده على يمين فاجرة يقتطع بها حق امرئ مسلم فليتبوأ مقعده من النار» قال : وعقر الحوض من حيث يصب الماء في الحوض.

وفي سنن أبي داود من حديث جابر مرفوعا : «لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار ، أو وجبت له النار» ، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححوه.

وروى النسائي برجال ثقات عن أبي أمامة بن ثعلبة مرفوعا : «من حلف عند منبري هذا يمينا كاذبة استحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».

وفي الأوسط للطبراني وفيه ابن لهيعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا : «منبري على ترعة من ترع الجنة ، وما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة».

وفي الصحيحين حديث ابن عمر : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة».

وروى أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد حديث : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على حوضي».

وروى البزار برجال ثقات عن سعد بن أبي وقاص حديث : «ما بين بيتي ومنبري ، أو قبري ومنبري ، روضة من رياض الجنة» وفي الأوسط للطبراني وفيه متروك عن أنس بن مالك حديث : «ما بين حجرتي ومصلاي روضة من رياض الجنة» وفي رواية لابن زبالة من طريق عائشة بنت سعد عن أبيها «ما بين منبري والمصلى» وفي رواية «ما بين مسجدي إلى المصلى روضة من رياض الجنة» ورواه أبو طاهر بن المخلص في انتقائه ويحيى في أخبار المدينة بلفظ : «ما بين بيتي ومصلاي روضة من رياض الجنة» قال جماعة : المراد به مصلى العيد ، وقال آخرون : مصلاه الذي يصلي فيه في المسجد ، كذا قاله الخطابي.

قلت : ويؤيد الأول أن في النسخة التي رواها طاهر بن يحيى عن أبيه يحيى عقب الحديث المذكور ما لفظه : قال أبي : سمعت غير واحد يقولون : إن سعدا لما سمع هذا الحديث من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى داره فيما بين المسجد والمصلى ، وكذا ما سيأتي في مصلى العيد من رواية ابن شبة عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص.

قلت : وهو شاهد لما سيأتي من عموم الروضة لجميع مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما زيد فيه من جهة المغرب.

٣٠

وروى عبد الله بن أحمد في زوائد المسند برجال الصحيح إلا أن فيهم فليحا ـ وقد روى له الجماعة ، وقال الحاكم : اتفاق الشيخين عليه يقوي أمره ، وقال الساجي : ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الدارقطني : فليح يختلفون فيه ، وقال بعضهم : إنه كثير الخطأ ـ عن عبد الله بن زيد المازني قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بين هذه البيوت ـ يعني بيوته ـ إلى منبري روضة من رياض الجنة ، والمنبر على ترعة من ترع الجنة».

معنى كون المنبر على الحوض

وقد اختلف في معنى ذلك ؛ فقال الخطابي : معنى قوله : «ومنبري على حوضي» أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد الحوض ويوجب الشرب منه ، وهذا قول الباقي ، والثاني : أن منبره الذي كان يقوم عليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيده الله كما يعيد سائر الخلائق ، ويكون على حوضه في ذلك اليوم ، واعتمد ذلك ابن النجار ، وحكى ابن عساكر القول بأن المراد منبره بعينه الذي كان في الدنيا ، ثم قال : وهو أظهر ، وعليه أكثر الناس ، فتبع شيخه ابن النجار في ذلك ، والثالث أن المراد منبر يخلقه الله تعالى له في ذلك اليوم ، ويجعله على حوضه.

قلت : ويظهر لي معنى رابع ، وهو أن البقعة التي عليها المنبر تعاد بعينها في الجنة ، ويعاد منبره ذلك على هيئة تناسب ما في الجنة ؛ فيجعل المنبر عليها عند عقر الحوض ، وهو مؤخره ، وعن ذلك عبر بترعة من ترع الجنة ، وذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لأمته للترغيب في العمل في هذا المحل الشريف ليفضي بصاحبه إلى ذلك ، وهذا في الحقيقة جمع بين القولين الأولين ، وسيأتي في الزيارة ما ذكره ابن عساكر من أن الزائر يأتي المنبر الشريف ، ويقف عنده ، ويدعو.

معنى أن الروضة من رياض الجنة

واختلفوا أيضا في معنى ما جاء في الروضة الشريفة ، قال الحافظ ابن حجر : محصل ما أول به العلماء ذلك أن تلك البقعة كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل فيها من ملازمة حلق الذكر ، لا سيما في عهدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيكون مجازا ، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة ، فيكون مجازا أيضا ، أو هو على ظاهره ، وأن المراد أنها روضة حقيقة بأن ينقل ذلك الموضع إلى الجنة ؛ ثم قال : وهذه الأقوال على ترتيبها هذا في القوة ، وهو محتمل لتقوية الأول أو الأخير ، والأخير أقواها عندي ، وهو الذي ذهب إليه ابن النجار ، ونقله البرهان ابن فرحون في منسكه عن ابن الجوزي وغيره عن مالك ، فقال : وقوله : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» حمله مالكرحمه‌الله على ظاهره ، فنقل عنه ابن الجوزي وغيره أنها روضة من رياض الجنة تنقل إلى الجنة ، وأنها ليست كسائر

٣١

الأرض تذهب وتفنى ، ووافقه على ذلك جماعة من العلماء ، انتهى ونقله الحطيب ابن حملة عن الداروردي ، وصححه ابن الحاج في مدخله ؛ لأن العلماء فهموا من ذلك مزية عظيمة لهذا المحل.

ثم رأيت في كلام الحافظ ابن حجر ترجيحه في موضع آخر ، فقال في الكلام على الحوض : والمراد بتسمية ذلك الموضع روضة أن تلك البقعة تنقل إلى الجنة فتكون روضة من رياضها ، أو أنها على المجاز لكون العبادة فيه تؤول إلى دخول العابد روضة الجنة ، ثم قال : وهذا فيه نظر ؛ إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة ، والخبر مسوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها ، انتهى.

قلت : وأحسن من ذلك ما ذهب إليه ابن أبي جمرة من الجمع بين هذا وما قبله ، ومنه استنبطنا ما قدمناه في أمر المنبر ، فإنه لم يعول على ذكر المعنى الأول وقال بعد ذكر المعنيين الأخيرين : الأظهر ـ والله أعلم ـ الجمع بين الوجهين ؛ لأن لكل منهما دليلا يعضده ، أما الدليل على أن العمل فيها يوجب الجنة فلما جاء في فضل مسجدها من المضاعفة ، ولهذه البقعة زيادة على باقي بقعه ، وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة فلإخبارهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن المنبر على الحوض ، لم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره ؛ وأنه حق محسوس موجود على حوضه.

قلت : وفيه نظر ؛ لما قدمناه.

قال : وقد تقرر في قواعد الشرع أن الشرع أن البقع المباركة ما فائدة بركتها لنا والإخبار بذلك إلا تعميرها بالطاعات ؛ قال : ويحتمل وجها ثالثا ؛ وهو أن تلك البقعة نفسها روضة من رياض الجنة كما أن الحجر الأسود من الجنة ؛ فيكون الموضع المذكور روضة من رياض الجنة الآن ؛ ويعود روضة في الجنة كما كان ؛ ويكون للعامل بالعمل فيه روضة في الجنة ؛ قال : وهو الأظهر ؛ لعلو مكانتهعليه‌السلام ؛ وليكون بينه وبين الأبوة الإبراهيمية في هذا شبه ، وهو أنه لما خص الخليل بالحجر من الجنة خص الحبيب بالروضة منها.

قلت : وهو من النّفاسة بمكان ، وفيه حمل اللفظ على ظاهره ، إذ لا مقتضى لصرفه عنه ، ولا يقدح في ذلك كونها تشاهد على نسبة رياض الدنيا فإنه ما دام الإنسان في هذا العالم لا ينكشف له حقائق ذلك العالم لوجود الحجب الكثيفة والله أعلم.

وتخصيص ما أحاطت به البينية المذكورة بذلك إما تعبد وإما لكثرة ترددهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين بيته ومنبره وقرب ذلك من قبره الشريف الذي هو الروضة العظمى كما أشار إليه ابن أبي جمرة أيضا.

وقال الجمال محمد الراساني الريمي : اتفقوا على أن هذا اللفظ معقول المعنى ، مفهوم

٣٢

الحكمة ، وإنما اختلفوا في ذلك المعنى ما هو ، فقيل : اللفظ على حقيقته ، وإن ذلك روضة من رياض الجنة بمعنى أنه بعينه نقل من الجنة ، أو أنه سينقل إليها ، وقيل : مجاز معناه أن العبادة فيه تؤدّي إلى الجنة ، أو لما ينزل فيه من الرحمة وحصول المغفرة ، كما سمي مجالس الذكر رياض الجنة في حديث : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا»(١) وفي رواية لأبي هريرة : «قلت : ما رياض الجنة؟ قال : المساجد ، قلت : وما الرتع؟ قال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر».

وقال ابن عبد البر : لما كانصلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس في ذلك الموضع ويجلس الناس إليه للتعلم شبّهه بالروضة ؛ لكريم ما يجتنى فيه ، وأضافها إلى الجنة لأنها تؤول إلى الجنة ، كقوله : «الجنة تحت ظلال السيوف» أي أنه عمل يدخل الجنة.

وقال الخطابي : روضة من رياض الجنة بالطاعة فيه ، كقوله : «عائد المريض في مخرفة الجنة»(٢) أي يرجى له بذلك مخرفة الجنة ؛ فأطلق اسم المسبب على سببه كقوله : «الجنة تحت أقدام الأمهات».

هذا ما نقله الخطيب ابن حملة من المعاني ، ثم تعقب الأخير بأنه لا يبقى حينئذ لهذه الروضة مزية ، وقد فهم الناس من ذلك المزية العظيمة التي بسببها فضلها مالك على سائر البقاع.

وقد تعقب الجمال الريمي الخطيب في ذلك ، وقال : أظهر المعاني تضعيف أجر الطاعات ، وتعليم الناس وجوه الخير ؛ لاتفاق الخطابي وابن عبد البر عليه ، وهما عمدة الأمة في فقه الحديث ، ولأن النظائر تؤيده ، وأما المعنيان الآخران فلم يعزهما الخطيب إلى أحد ، فدل على ضعفهما ، ولم يذكر عياض القول بأن هذا الموضع بعينه نقل من الجنة ، وذكر ما عداه ، فدل على شذوذه ؛ لأن مثل هذا طريقه التوقيف كما جاء في الركن والمقام ، على أن القول به يؤدي إلى إنكار المحسوسات أو الضروريات ، وجواب ما ذكره الخطيب أن المزية ظاهرة ، وهو أن العمل في النظائر المتقدمة يؤدي إلى رياض الجنة ، والعمل في هذا المحل يؤدي إلى روضة أعلى من تلك الرياض.

قلت : إنما حمله على هذا ذهابه إلى أن اسم الروضة يعم جميع مسجدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه إذا

__________________

(١) ارتعوا أي انعموا في خصب وسعة.

(٢) المخرفة : البستان ، والسّكة بين صفين من نخيل ، والطريق الواضح ، جمع مخاريف.

٣٣

ثبت لما زيد فيه حكم المضاعفة تعدى ذلك إليه ، فاختار كون التسمية بذلك مجازية ، ووضع في ذلك كتابا سماه «دلالات المسترشد ، على أن الروضة هي المسجد» وقد صنف الشيخ صفي الدين الكازروني المدني مصنفا في الرد عليه ، وقد لخصتهما مع سلوك طريق الإنصاف بينهما في كتابي الموسوم : «بدفع التعرض والإنكار ، لبسط روضة المختار» وسنذكر الصواب في ذلك ، واستدلاله على ضعف القول بأن ذلك الموضع بعينه نقل من الجنة بأن عياضا لم يذكره عجيب لاحتمال أنه لم يطلع عليه ، وقوله : «إن ذلك طريقه التوقيف كما جاء في الركن» فنقول : أي توقيف أعظم من إخبار الصادق المصدوق بذلك؟ وهو المخبر بأمر الركن والمقام ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فكيف سلمه في الركن والمقام ولم يسلمه هنا؟ والذي فهمه العلماء من الحديث أن هذا الموضع روضة ، سواء كان به ذاكرون ومصلون أم لم يكن ، بخلاف حلق الذكر مثلا ، فإن ذلك يزول عنها بقيامهم ، فالروضة ما هم فيه بخلاف هذه ، ولهذا فسر الرتع هناك بالذكر ، والمراد في حديث : «الجنة تحت أقدام الأمهات» أن لزوم خدمتهن تؤدي إليها ، وقوله : «إن القول بذلك يؤدي إلى ما ذكره» عجيب ، وقد قدمنا السبب المانع من شهود ذلك على حقيقته ، وأي حسن أحسن من القول بأن ذلك روضة من الجنة أكرم الله به نبيه؟ ويؤيده أحاديث المنبر المتقدمة وما سيأتي في أحد وعير ؛ إذ لم يقل أحد إن المراد أن المتعبد عند أحد يفضي به ذلك إلى الجنة ، والمتعبد عند عير يفضي به ذلك إلى النار ، وأما قوله في بيان المزية : «إن العمل في ذلك المحل يؤدي إلى روضة أعلى» فليس في الحديث وصفه بأنه أعلى الرياض ، بل أطلق ذلك ، فإذا ثبت ذلك لغيره فلا خصوصية ، بل قد يقول الذاهب إلى تفضيل مكة : إن العمل فيها يؤدي إلى روضة أعلى وأفضل ، ولظهور مزية تلك البقعة على غيرها بذلك استدل به بعض الأئمة على تفضيل المدينة على مكة بإضافة حديث «لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» وتعقبه ابن حزم بأن جعلها من الجنة إنما هو على سبيل المجاز ، إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة :( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ) [طه : ١١٨] قال : وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة كما يقال في اليوم الطيب : هذا يوم من أيام الجنة.

قلت : لا يلزم من ثبوت عدم الجوع والعري لمن حل في الجنة ثبوته لمن حل في شيء أخرج منها ؛ إذ يلزمه أن ينفي بذلك عن حجر المقام كونه من الجنة حقيقة ، ولا قائل به ، ومسألة عموم الروضة لجميع مسجدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات خلاف ؛ فقد قال الأقشهري : سئل أبو جعفر بن نصر الداودي المالكي عن قوله : «ما بين بيتي ومنبري روضة» فقال : هو روضة كله ، ونقل الريمي عن الخطيب ابن حملة أنه قال : قوله «ما بين بيتي» مفرد مضاف قد يفيد العموم في بيوته ، ثم ذكر بيان مكان بيوته ، ثم قال : ولهذا قال السمعاني في أماليه : لما فضّل الله مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرفه وبارك في العمل فيه وضعفه سماه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٤

روضة من رياض الجنة ، فتراه جعل المسجد كله روضة ، والمشهور أن المراد بيت خاص ، وهو بيت عائشةرضي‌الله‌عنها ؛ للرواية الأخرى «ما بين قبري ومنبري» قال ابن خزيمة : أراد بقوله ما بين بيتي الذي أقبر فيه ؛ إذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبر في بيته الذي كانت تسكنه عائشة ، قال الخطيب : فعلى هذا تسامت ـ يعني الروضة ـ حائط الحجرة من القبلة والشمال من جهة الحجرة ، ولا تزال تقصر إلى جهة المنبر ، أو توجد المسامتة مستوية فلينظر ، هذا كله كلام الخطيب.

قلت : فتلخص من ذلك ثلاثة آراء : الأول : أنها المسجد الموجود في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الثاني : أنها ما سامت المنبر والحجرة فقط ، فتتسع من جهة الحجرة وتضيق من جهة المنبر لما تقدم في مقداره ، وتكون منحرفة الأضلاع لتقدم المنبر في جهة القبلة وتأخر الحجرة في جهة الشام ، فتكون كشكل مثلث ينطبق ضلعاه على قدر المنبر ، الثالث : أنها ما سامت كلا من طرفي الحدين ، فتشمل ما سامت المنبر من مقدم المسجد في جهة القبلة وإن لم يسامت الحجرة ، ويشمل ما سامت الحجرة من جهة الشمال ، وإن لم يسامت المنبر ، فتكون مربعة ، وهي الأروقة الثلاثة : رواق المصلى الشريف ، والرواقان بعده ، وذلك هو مسقف مقدم المسجد في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه قد تحرر لنا في هذه العمارة التي أدركناها أن صف أسطوان الوفود ـ وهي التي كانت إلى رحبة المسجد كما سيأتي ـ واقع خلف الحجرة سواء ، حتى إن الأسطوانة التي تلي مربعة القبر في صفها الداخلة في الزور بعضها داخل في جدار الحجرة الشامي كما سيأتي بيانه.

وأما أدلة هذه الأقوال فقد استدل الريمي للأول بأشياء غالبها ضعيف مبناه على أن إطلاق الروضة من قبيل المجاز لما في ذلك من المضاعفة ونحوه ، وأحسنها ما أشار إليه الخطيب ابن حملة وأيده الريمي بأشياء ، فقال : قوله «بيتي» من قوله «ما بين بيتي» مفرد مضاف ، فيفيد العموم في سائر بيوتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كانت بيوته مطيفة بالمسجد من القبلة والمشرق ـ وفيه بيت عائشة ـ والشام كما سيأتي عن ابن النجار وغيره ، ولم يكن منها في جهة المغرب شيء ، فعرف الحد من تلك الجهة بالمنبر الشريف ، فإنه كان في آخر جهة المغرب بينه وبين الجدار يسير ؛ لأن آخره من تلك الجهة الأسطوانة التي تلي المنبر ، والمنبر على ترعة من ترع الجنة ، فقد حدد الروضة بحدود المسجد كلها.

قلت : وهو مفرع على ما ذكره ابن النجار في تحديد المسجد من جهة المغرب ، وقد مشيت عليه في تواليفي قبل أن أقف على ما قدمته في حد المسجد ، وقد مشى على ذلك الزين المراغي فقال : ينبغي اعتقاد كون الروضة لا تختص بما هو معروف الآن ، بل تتسع إلى حد بيوتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ناحية الشام ، وهو آخر المسجد في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيكون كله روضة ، وهذا

٣٥

إذا فرعنا على المفرد المضاف للعموم ، وقد رجحه في كتب الأصول جماعة ، ثم ذكر ما تقدم.

قلت : وفاتهم الجميع الاستدلال بحديث زوائد مسند أحمد المتقدم بلفظ «ما بين هذه البيوت» يعني بيوته «إلى منبري روضة من رياض الجنة» والعجب أن المعتنين بأمر الروضة لم يذكروه ، مع أن فيه غنية عن التمسك بكون المفرد المضاف يفيد العموم ، فقد ناقش الصفي الكازروني في ذلك بأشياء : منها أن رواية «ما بين قبري ومنبري» بينت المراد من البيت المضاف. قلت : ليته قال رواية : «ما بين المنبر وبيت عائشة» لأنه يلزم عليه أن يكون الروضة بعرض القبر فقط ، والتخصيص بذلك بعيد ، ومن قال : «إن المراد من البيت القبر» ليس مراده والله أعلم إلا أن رواية القبر لعدم إبهامها تعين البيت ، ولعله مراد الصفي ، ولهذا قال الطبري : وإذا كان قبرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيته اتفقت معاني الروايات ، ولم يكن بينها خلاف ، انتهى ، ولك أن تقول : رواية «قبري» ورواية «حجرة عائشة» من قبيل إفراد فرد من العام ، وذكره بحكم العام ، وهو لا يقتضي التخصيص على الأصح ، بل يقتضي الاهتمام بشأن ذلك الفرد ، على أن القرطبي قال : الرواية الصحيحة «بيتي» ويروى «قبري» وكأنه بالمعنى ، والله أعلم.

ومنها : أن القرافي حمل إطلاق عموم اسم الجنس على ما يقع منه على القليل والكثير كالماء والمال ، بخلاف ما لا يصدق إلا على الواحد كالعبد والبيت والزوجة فلا يعم ، ولهذا لو قال عبدي حر أو امرأتي طالق لا يعم سائر عبيده ونسائه ، قال : ولم أره منقولا. قلت : قال التاج السبكي : خالف بعض الأئمة في تعميم اسم الجنس المعرف(١) والمضاف ، والصحيح خلافه ، وفصل قوم بين أن يصدق على القليل والكثير فيعم ، أو [لا](٢) فلا ، واختاره ابن دقيق العيد ، انتهى.

فقد جعل ما بحثه القرافي وجها ثالثا مفصلا ، وذلك يأبى حمل إطلاق المطلقين عليه ، فما بحثه منقول ، لكن الصحيح خلافه ، وما استدل به من عدم عموم عبدي حر وامرأتي طالق جوابه من أوجه ذكرناها في دفع التعرض ، وأحسنها ما أشار إليه الأسنوي من أن عدم العموم في ذلك لكونه من باب الأيمان ، والأيمان يسلك فيها مسلك العرف ، انتهى. ونقل

__________________

(١) في جميع المطبوعات «المعروف».

(٢) ما بين [] زيادة يقتضيها السياق.

٣٦

الأزرقي في نفائسه عن ابن عبد السلام أنه قال : الذي تبين لي طلاق الجميع وعتق الجميع ، وفي كتب الحنابلة نص أحمد على أنه لو قال من له زوجتان أو عبيد «زوجتي طالق ، أو عبدي حر» ولم ينو معيّنا ، وقع الطلاق والعتق على الجميع ، تمسكا بالقاعدة المذكورة ، فقد جرى ابن عبد السلام والحنابلة على مقتضى ذلك ؛ فهذه الطرق من أحسن الأدلة ، ولكن على شمول الروضة لما بين المنبر والبيوت الشريفة فهو رأي آخر ، وقد قدمنا من الحديث ما يصرح به ، ويؤيده ما أشار إليه الريمي من أن المقتضى لكون ذلك روضة كثرة ترددهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، وكان يصلي قبل تحويل القبلة في طرفه الذي يلي الشام ، ومتهجّده كما سيأتي في جهة المشرق إلى الشام أيضا ، ومنبره الشريف في نهاية هذا الموضع المحدود من جهة المغرب ، ومصلاه الشريف بمقدمه وبه الأساطين الآتية ذوات الفضل.

وأما الرأي الثاني فدليله التمسك بظاهر لفظ البينية الحقيقية ، وحمل البيت على حجرة عائشةرضي‌الله‌عنها ، ويضعفه أن مقدم المصلى الشريف يلزم خروجه عن اسم الروضة حينئذ ؛ لخروجه عن موازاة طرفي المنبر والحجرة ، مع أن الظاهر أن معظم السبب في كون ذلك روضة تشرفه بجبهته الشريفة ، على أني لم أر هذا القول لأحد ، وإنما أخذته من تردد الخطيب ابن حملة المتقدم.

وأما الرأي الثالث فهو ظاهر ما عليه غالب العلماء وعامة الناس ، ووجهه حمل البيت على ما في الرواية الأخرى من ذكر حجرة عائشة ، وجعل ما تقدم في أمر خروج مقدم المصلى الشريف دليلا على أن المراد من البينية ما حاذى واحدا من الطرفين ، وأن المراد مقدم المسجد المنتهي من جهة مؤخر الحجرة الشريفة لصف أسطوان الوفود كما قدمناه ، وفي كلام الأقشهري إشارة له ، وهذا إنما علمناه في العمارة التي سنذكرها ، ولم يكن معلوما قبل ذلك ، ولهذا قال المجد في الباب الأول في فصل الزيارة من كتابه ما لفظه : ثم يأتي ـ يعني الزائر ـ إلى الروضة المقدسة ، وهي ما بين القبر والمنبر طولا ، ولم أر من تعرض له عرضا ، والذي عليه غلبة الظنون أنه من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه ، وأنا لا أوافق على ذلك ، وقد بينته في موضعه من هذا الكتاب ، وذكرت أن الظاهر من لفظ الحديث يقتضي أن يكون أكثر من ذلك ؛ لأن بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بجميع مرافق الدار كان أكثر من هذا المقدار ، انتهى.

ولم يذكر في الموضع الذي أحال عليه شيئا ، وقوله «من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه» كأنه يريد به الأسطوان المخلق وما حاذاها ؛ فتكون الروضة على ذلك التقدير الرواق الأول منها فقط ، وهو غلط ؛ لأن الحجرة الشريفة متأخرة عن ذلك لجهة الشام ؛ وصف

٣٧

الأسطوان المذكور محاذ لطرف جدارها القبلي. وقال ابن جماعة : قد تحرر لي طول الروضة ، ولم يتحرر لي عرضها ، يريد أن طولها من المنبر إلى الحجرة ، وهو كما قال ابن زبالة ثلاثة وخمسون ذراعا وشبرا ، وقال في موضع آخر : أربعة وخمسون ذراعا وسدس.

قلت : وما ذكره أولا أقرب إلى الصواب كما اختبرناه ، فإني ذرعت بحبل من صفحة المنبر القبلية إلى طرف الحجرة القبلية فكان ثلاثة وخمسين ذراعا.

وذكر ابن جماعة ذراعا أقل من هذا ، وكأنه ذرع على الاستقامة ، ولم يعتبر الذرع من الطرفين المذكورين ، فقال : وذرعت ما بين الجدار الذي حول الحجرة الشريفة وبين المنبر فكان أربعا وثلاثين ذراعا وقيراطا بذراع العمل. قلت : وذلك نحو اثنين وخمسين ذراعا بذراع اليد الذي قدمنا تحريره ، وأما قول من قال : «إن طول الروضة اليوم ينقص عن خمسين ذراعا بثلثي ذراع» فلا وجه له إلا أن يكون اعتبر بذراع اليد المفرط الطول ، والله أعلم.

وأما نهاية الحجرة فلم تكن معلومة لابن جماعة وغيره ، وعليها يتوقف بيان العرض ، ولهذا قال الريمي : لا ندري الحجرة في وسط البناء المحيط بها أم لا؟ ولا ندري إلى أين ينتهي امتدادها؟ وغالب الناس يعتقدون أن نهايتها في محاذاة أسطوان عليرضي‌الله‌عنه ، ولهذا جعلوا الدرابزين الذي بين الأساطين ينتهي إلى صفها ، واتخذوا الفرش لذلك فقط ، والصواب ما قدمناه ؛ فقد انجلى الأمر ولله الحمد.

الفصل السابع

في الأساطين المنيفة

الأسطوان المخلق

منها الأسطوان الذي هو علم على المصلى الشريف ، ويعرف بالمخلق ، وقد قدمنا قول ابن زبالة «المخلق نحو من ثلثيها» وقول ابن القاسم «إن المصلى الشريف حيث الأسطوان المخلق» وبينا أن المراد أنها أقرب أسطوان إليه ، وأن الجذع الذي كان يخطب إليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتكئ عليه كان هناك ، وأن الأسطوان الموجود اليوم متقدم على المحل الأول ، وأن المحل الأصلي هو موضع كرسي الشمعة التي عن يمين الإمام الواقف في المصلى الشريف ، فمن أراد التبرك بذلك فليصل هناك.

وروى ابن زبالة عن يزيد بن عبيد أنه كان يأتي مع سلمة بن الأكوع إلى سبحة الضحى ، فيعمد إلى الأسطوان دون المصحف فيصلي قريبا منهما ، فأقول : ألا تصلي هاهنا؟ وأشير له إلى بعض نواحي المسجد ، فيقول : إني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحرى هذا المقام ، وهذا الحديث في الصحيحين ، ولفظ البخاري «كنت آتي مع سلمة بن الأكوع ، فيصلي عند الأسطوان التي عند المصحف ، فقلت : يا أبا سلمة أراك تتحرى الصلاة عند هذه

٣٨

الأسطوانة ، قال : فإني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحرى الصلاة عندها» ولفظ مسلم عن سلمة أنه كان يتحرى موضع المصحف يسبح(١) فيه ، وذكر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتحرى ذلك ، وقد قدمنا في الكلام على المصلى الشريف ما يبين أن المراد هذه الأسطوانة.

أسطوان القرعة

ومنها أسطوان القرعة ، وتعرف بأسطوان عائشةرضي‌الله‌عنها ، وبالأسطوان المخلق أيضا ، وبأسطوان المهاجرين.

روينا في كتاب ابن زبالة عن إسماعيل بن عبد الله عن أبيه أن عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وثالثا كان معهما دخلوا على عائشةرضي‌الله‌عنها فتذاكروا المسجد ، فقالت عائشة : إني لأعلم سارية من سواري المسجد لو يعلم الناس ما في الصلاة إليها لاضطربوا عليها بالسهمان(٢) ، فخرج الرجلان وبقي ابن الزبير عند عائشة ، فقال الرجلان : ما تخلف إلا ليسألها عن السارية ، ولئن سألها لتخبرنه ، ولئن أخبرته لا يعلمنا ، وإن أخبرته عمد لها إذا خرج فصلى إليها ، فاجلس بنا مكانا نراه ولا يرانا ، ففعلا ، فلم ينشب أن خرج مسرعا فقام إلى هذه السارية فصلى إليها متيامنا إلى الشق الأيمن منها ، فعلم أنها هي ، وسميت أسطوانة عائشة بذلك ، وبلغنا أن الدعاء عندها مستجاب ، هذا لفظ ابن زبالة.

وفي الأوسط للطبراني عن عائشةرضي‌الله‌عنها قالت : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن في مسجدي لبقعة قبل هذه الأسطوانة لو يعلم الناس ما صلوا فيها إلا أن تطير لهم قرعة ، وعند عائشة جماعة من أبناء الصحابة فقالوا : يا أم المؤمنين وأين هي؟ فاستعجمت عليهم ، فمكثوا عندها ساعة ثم خرجوا وثبت عبد الله بن الزبير فقالوا : إنها ستخبره بذلك المكان ، فارقبوه في المسجد حتى تنظروا حيث يصلي ، فخرج بعد ساعة فصلى عند الأسطوانة التي صلى إليها عامر بن عبد الله بن الزبير ، فقيل لها : أسطوانة القرعة.

قال عتيق : وهي الأسطوانة التي هي واسطة بين القبر والمنبر : عن يمينها إلى المنبر أسطوانتان ، وبينها وبين القبر أسطوانتان ، وبينها وبين الرحبة أسطوانتان ، وهي واسطة بين ذلك ، وهي تسمى أسطوانة القرعة ، هذا لفظ الأوسط.

__________________

(١) السّبحة : صلاة التطوع وهي مواضع السجود.

(٢) السهم : القدح يقارع به أو يلعب به في الميسر ، أي الحظ والنصيب ، وما يفوز به الظافر بالقرعة.

٣٩

وقال ابن زبالة : حدثني غير واحد من أهل العلم منهم الزبير بن حبيب أن الأسطوان التي تدعى أسطوان عائشة هي الثالثة من المنبر ، والثالثة من القبر ، والثالثة من القبلة ، والثالثة من الرحبة ، أي قبل زيادة الرواقين الآتي ذكرهما المتوسطة للروضة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى إليها بضع عشرة المكتوبة ثم تقدم إلى مصلاه الذي وجاه المحراب في الصف الأوسط ، أي الرواق الأوسط ، وأن أبا بكر وعمر والزبير بن العوام وعامر بن عبد الله كانوا يصلون إليها ، وأن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها ، وكان يقال لذلك المجلس مجلس المهاجرين ، انتهى.

وقد ذكر ابن النجار هذه الرواية عن الزبير بن حبيب ، وزاد : وقالت عائشة فيها : لو عرفها الناس لاضطربوا على الصلاة عندها بالسهمان ، فسألوها عنها فأبت أن تسميها ، فأصغى إليها ابن الزبير فسارّته بشيء ، ثم قام فصلى إلى التي يقال لها أسطوان عائشة ، قال : فظن من معه أن عائشة أخبرته أنها تلك الأسطوانة ، فسميت أسطوان عائشة ، قال : وأخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم قال : رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر ، ثم رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر ، ويقال : الدعاء عندها مستجاب ، هذا لفظ رواية ابن النجار عقب ما قدمناه من رواية ابن زبالة. وزاد فيما ذكره ابن زبالة عقب قوله : «إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى إليها المكتوبة بضع عشرة ، ثم تقدم إلى مصلاه اليوم» ما لفظه : وكان يجعلها خلف ظهره ، قلت : ولم أره في كلام غيره ، والظاهر أن مراده أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستند إليها إذا جلس هناك ، لا أنه يجعلها خلف ظهره إذا صلى ؛ لما ذكره عن زيد بن أسلم من أنه رأى موضع جبهة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عندها ، ووصف هذه الأسطوانة بالمخلقة يؤخذ مما تقدم عن ابن زبالة من قول أبي هريرة «وكان مصلاهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام من مسجده أن تضع موضع الأسطوان المخلقة خلف ظهرك ثم تمشي إلى الشام» إلى آخر ما تقدم قلت : وهذه الأسطوان بصف الأساطين التي خلف الإمام الواقف بالمصلى الشريف ، وهي الثالثة من القبلة وكانت الثالثة أيضا من رحبة المسجد كما تقدم ، وذلك قبل أن يزاد في مسقف مقدم المسجد الرواقان الآتي بيانهما في رحبته ، وبهما صارت خامسة من الرحبة.

أسطوان التوبة

ومنها أسطوان التوبة ، وتعرف بأسطوان أبي لبابة بن عبد المنذر أخي بني عمرو بن عوف الأوسي أحد النقباء ، واسمه رفاعة ، وقيل غير ذلك ، سميت به لأنه ارتبط إليها حتى أنزل الله توبته كما قدمناه في غزوة بني قريظة.

وقال الأقشهري : اختلف أهل السير والتفسير في ذنب أبي لبابة ، فقال قوم : كان من

٤٠

وقد ذكر بعض محقّقي المعاصرين ـ سلّمه الله ـ احتمال أنّهعليه‌السلام كان يكتفي بأذان مؤذّن البلد إذا سمعه(١) . ولا يخفى عليك أنّ سياق الخبر يأبى هذا ؛ لأنّ السماع لا يشترط فيه الخلوة في البيت.

وما دلّ على أنّ من أذّن صلّى خلفه صفّ من الملائكة(٢) ، يأبى تكرار الترك ، والخبر رواه الشيخ في التهذيب ، عن الحسين بن سعيد ، عن يحيى الحلبي ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : « إذا أذّنت في أرض فلاة وأقمت صلّى خلفك صفّان من الملائكة ، وإن أقمت ولم تؤذّن صلّى خلفك صفّ واحد »(٣) .

وروى بطريقه عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن حسين بن عثمان ، عن ابن مسكان ، عن محمّد بن مسلم قال : قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام : « إنّك إذا أذّنت وأقمت صلّى خلفك صفّان من الملائكة ، وإن أقمت إقامة بغير أذان صلّى خلفك صفّ واحد »(٤) . ولا يخفى أنّ اختصاص الحكم بغير الإمامعليه‌السلام في غاية البعد ، كما أنّ احتمال إرادة أذان الجماعة كذلك.

قوله :

فأمّا ما رواه سعد بن عبد الله ، عن محمّد بن الحسين ، عن جعفر بن بشير ، عن عمر بن يزيد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الإقامة بغير أذان في المغرب ، فقال : « ليس به بأس وما أحبّ أن‌

__________________

(١) البهائي في الحبل المتين : ٢٠٦.

(٢) ثواب الأعمال ١ : ٣٢ بتفاوت يسير.

(٣) التهذيب ٢ : ٥٢ / ١٧٣ ، الوسائل ٥ : ٣٨١ أبواب الأذان والإقامة ب ٤ ح ١.

(٤) التهذيب ٢ : ٥٢ / ١٧٤ ، الوسائل ٥ : ٣٨١ أبواب الأذان والإقامة ب ٤ ح ٢.

٤١

تعتاد ».

فليس ينافي ما قدّمناه ، لأنّه إنّما يجوز له الاقتصار على الإقامة في هذه الصلوات عند عارض أو مانع ، وقد نبّه بقوله : « وما أحبّ أن تعتاد بذلك » على أنّ الأولى فعله.

فأمّا ما رواه محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن أحمد بن الحسن بن عليّ ، عن عمرو بن سعيد ، عن مصدّق بن صدقة ، عن عمّار الساباطي قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : « لا بدّ للمريض أن يؤذّن ويقيم إذا أراد الصلاة ولو في نفسه إن لم يقدر على أن يتكلّم به » سئل : فإن كان شديد الوجع؟ قال : « لا بدّ من أن يؤذّن ويقيم ، لأنّه لا صلاة إلاّ بأذان وإقامة ».

فالوجه في هذا الخبر تأكيد الاستحباب والحثّ على عظيم الثواب فيه دون أن يكون المراد به الوجوب.

السند :

في الأوّل : واضح بعد ما قدّمناه في عمر بن يزيد وغيره(١) .

والثاني : موثّق.

المتن :

في الأوّل : قد ذكرنا فيه كلاما عن قريب(٢) .

والثاني : ما ذكره الشيخ فيه من الحمل على تأكّد الاستحباب متوجّه ،

__________________

(١) في ج ١ : ٢٦٩.

(٢) في ص ٣٩.

٤٢

وقولهعليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بأذان وإقامة » وإن أفاد بظاهره التعيّن إلاّ أنّ ما سبق من الأخبار يقتضي عدم التعيّن في الجملة.

وذكر بعض محقّقي الأصحابرحمه‌الله بعد ما نقل الأخبار الدالة على عدم وجوب الأذان ولو في الجماعة : أنّ انضمام عدم القول بوجوب الإقامة فقط يفيد استحبابها أيضا(١) . وربما يقال : إنّ في الأقوال السابقة ما يقتضي القول بالفصل في الجملة.

واحتمل بعض محقّقي المعاصرين ـ سلّمه الله ـ حمل الخبر المبحوث عنه على المنفرد(٢) ، وهو بعيد ، وذكر أيضا دلالة بعض الأخبار على قول الشيخ بوجوبهما في صلاة الجماعة ، وهو خبر عبد الله بن سنان الدال على أنّه إذا خلا في بيته تجزؤه الإقامة(٣) ، قال : والمراد بالخلوة الصلاة منفردا ، ولا يخفى عليك الحال.

والخبر الآخر رواه عمّار الساباطي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام وفيه : سئل عن الرجل يؤذّن ويقيم ليصلّي وحده فيجي‌ء رجل آخر فيقول : نصلّي جماعة هل يجوز أن يصلّيا بذلك الأذان والإقامة؟ قال : « لا ، ولكن يؤذّن ويقيم »(٤) وأنت خبير بما في الرواية.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ استحباب الأذان للنساء يدلّ عليه معتبر بعض الأخبار ، حيث قال فيهعليه‌السلام بعد السؤال عن المرأة تؤذّن قال : « نعم حسن إن فَعَلَت ، وإن لم تفعل أجزأها أن تكبّر وأن تشهد أن لا إله إلاّ الله‌

__________________

(١) الأردبيلي في مجمع الفائدة ٢ : ١٦١.

(٢) البهائي في الحبل المتين : ٢٠٧.

(٣) التهذيب ٢ : ٥٠ / ١٦٦ ، الوسائل ٥ : ٣٨٥ أبواب الأذان والإقامة ب ٥ ح ٤.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٧٧ / ١١٠١ ، الوسائل ٥ : ٤٣٢ أبواب الأذان والإقامة ب ٢٧ ح ١.

٤٣

وأنّ محمّدا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) .

وأمّا الإقامة فلم أقف على ما يدلّ على استحبابها ، وظاهر الصدوق نفي الأمرين عنها(٢) .

وفي المنتهى : يجوز أن تؤذّن المرأة للنساء ويقتدين بها ، ذهب إليه علماؤنا(٣) .

وفي معتبر بعض الأخبار ما يدلّ على أنّه ليس على المرأة أذان وإقامة(٤) ، ويمكن أن يحمل على نفي الاستحباب المؤكّد ، أو يحمل على نفي الأمرين معا.

وفي المقام كلام بالنسبة إلى سماع صوتها ، لكونه عورة قد ذكرناه في حواشي التهذيب.

قوله :

باب الكلام في حال الإقامة‌

أخبرني الشيخ رحمه‌الله عن أحمد بن محمّد ، عن أبيه ، عن الحسين بن الحسن بن أبان ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن حسين بن عثمان ، عن عمرو بن أبي نصر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيتكلّم الرجل في الأذان؟ قال : « لا بأس » قلت : في الإقامة؟ قال : « لا ».

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٥٨ / ٢٠٢ بتفاوت يسير.

(٢) الفقيه ١ : ١٩٤.

(٣) المنتهى ١ : ٢٥٧.

(٤) التهذيب ٢ : ٥٧ / ٢٠٠ ، الوسائل ٥ : ٤٠٦ أبواب الأذان والإقامة ب ١٤ ح ٣.

٤٤

محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن صالح بن عقبة ، عن أبي هارون المكفوف قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « يا أبا هارون ، الإقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا تتكلّم ولا تؤمّ بيدك ».

الحسين بن سعيد ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن محمّد بن مسلم قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « لا تتكلّم إذا أقمت للصلاة فإنّك إذا تكلّمت أعدت الإقامة ».

السند :

في الأوّل : تكرّر القول(١) في رجاله ، وعمرو بن أبي نصر ثقة في النجاشي(٢) .

والثاني : محمّد بن إسماعيل فيه هو ابن بزيع ، لأنّه يروي عن صالح بن عقبة في النجاشي(٣) والفهرست(٤) ، ومن هنا يتّضح ما قدّمناه(٥) من انتفاء محمّد بن إسماعيل بن بزيع الذي يروي عنه محمّد بن يعقوب بغير واسطة ، فإنّ الرواية عنه هنا بواسطتين ، فمن المستبعد جدّا الرواية بغير واسطة.

ويؤيّد هذا أيضا أنّ الصدوق ذكر طريقه إلى ابن بزيع ، وطريقه إلى محمّد بن إسماعيل الذي يروي عن الفضل بن شاذان ، وذكر في الثاني أنّ‌

__________________

(١) في ج ١ : ٤١ و ٧٠ و ٣٩٨ و ١٨٥.

(٢) رجال النجاشي : ٢٩٠ / ٧٧٨.

(٣) رجال النجاشي : ٢٠٠ / ٥٣٢.

(٤) الفهرست : ٨٤ / ٣٥٢.

(٥) في ج ١ : ٤٧.

٤٥

الراوي عنه : محمّد بن يعقوب ، وإن كان باب الاحتمال واسعا ، إلاّ أنّ الكلام في التأييد للظهور.

وأمّا صالح بن عقبة فالعلاّمة قال : إنّه كذّاب غال لا يُلتفت إليه(١) .

والذي في النجاشي : قيل : إنّه روى عن أبي عبد اللهعليه‌السلام والله أعلم(٢) . وفي الفهرست : صالح بن عقبة له كتاب(٣) .

وأبو هارون في الفهرست مذكور بالكنية والإهمال(٤) . وفي الكشي نقل فيه بعض الذم(٥) .

والثالث : لا ارتياب في صحّته بعد ما تقدّم.

المتن :

في الأوّل : ظاهره المنع من الكلام في الإقامة.

والثاني : وإن كان ظاهره المنع من الكلام بعد الإقامة كما يدلّ عليه بعض الأخبار المعتبرة بلفظ التحريم ، إلاّ أنّه يمكن حمله على ما يوافق الأوّل ، وغير خفيّ عدم الاحتياج إلى الحمل ، أمّا المنع من الإيماء باليد فالأمر فيه ما ترى.

والثالث : تضمّن النهي ، إلاّ أنّ قولهعليه‌السلام : « فإنّك إذا تكلّمت » يشعر بعدم التحريم ، وله ظهور في الكلام بعدها.

__________________

(١) خلاصة العلاّمة : ٢٣٠ / ٤.

(٢) رجال النجاشي : ٢٠٠ / ٥٣٢.

(٣) الفهرست : ٨٤ / ٣٥٢.

(٤) الفهرست : ١٨٣ / ٨٠٩.

(٥) رجال الكشي ٢ : ٤٨٦ / ٣٩٥.

٤٦

وحكى العلاّمة في المختلف عن المفيد أنّه قال : لا يجوز أن يتكلّم في الإقامة ، وبه قال المرتضى في الجمل ، ونقل أنّ المفيد احتجّ بالخبر الأوّل والثاني ، وأجاب العلاّمة بأنّ المراد المبالغة في الكراهة ؛ لدلالة الأخبار على الجواز(١) . وعنى بالأخبار : الآتية عن قريب.

قوله :

فأمّا ما رواه الحسين بن سعيد عن محمّد بن سنان عن عبد الله بن مسكان عن محمّد الحلبي قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الرجل يتكلّم في أذانه أو في إقامته ، قال : « لا بأس ».

محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن جعفر بن بشير ، عن حمّاد بن عثمان قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الرجل يتكلّم بعد ما يقيم الصلاة؟ قال : « نعم ».

جعفر بن بشير عن الحسن(٢) بن شهاب قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : « لا بأس أن يتكلّم الرجل وهو يقيم الصلاة وبعد ما يقيم إن شاء ».

فالوجه في هذه الأخبار أن نحملها على أنّه يجوز أن يتكلم بشي‌ء يتعلق بأحكام الصلاة مثل تقديم إمام أو تسوية صفّ ، أو يكون ذلك قبل أن يقول : قد قامت الصلاة ، فإذا قال ذلك حرم الكلام إلاّ بما استثناه.

يدل على ذلك :

__________________

(١) المختلف ٢ : ١٤٠.

(٢) في الاستبصار ١ : ٣٠١ / ١١١٥ : الحسين.

٤٧

ما رواه الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن حسين بن عثمان ، عن ابن مسكان ، عن ابن أبي عمير قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الرجل يتكلّم في الإقامة؟ قال : « نعم ، فإذا قال المؤذّن : قد قامت الصلاة حرم الكلام على أهل المسجد إلاّ أن يكونوا قد اجتمعوا من شتّى وليس لهم إمام فلا بأس أن يقول بعضهم لبعض : تقدّم يا فلان ».

وعنه ، عن الحسن ، عن زرعة ، عن سماعة قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « إذا أقام المؤذّن الصلاة فقد حرم الكلام إلاّ أن يكون القوم ليس يعرف لهم إمام ».

السند‌

في الأوّل : فيه محمّد بن سنان وقد تكرّر القول فيه(١) ، وقد وصفه العلاّمة في المختلف بالصحة(٢) ، ولعلّه من غير الكتابين ، فإنّ في التهذيب رواه عن محمّد بن سنان(٣) .

والثاني : واضح الصحة.

والثالث : فيه الحسن بن شهاب ، وهو مذكور مهملا في رجال الصادق والباقرعليهما‌السلام من كتاب الشيخ(٤) .

ثمّ الظاهر أنّ الطريق إلى جعفر بن بشير هو المتقدم عليه إلى محمّد بن الحسين كما هي عادة الكلينيرحمه‌الله في كتابه من البناء على الإسناد السابق.

__________________

(١) في ج ١ : ١٢١.

(٢) المختلف ٢ : ١٤٠.

(٣) التهذيب ٢ : ٥٤ / ١٨٦.

(٤) رجال الطوسي : ١٦٨ / ٤٠ ، ١١٣ / ٥.

٤٨

وفي التهذيب بعد ذكر خبر حمّاد بن عثمان راويا له عن سعد ، عن محمّد بن الحسين ، عن جعفر بن بشير ، عن حمّاد ، قال : وعنه ، عن جعفر بن بشير(١) . وذكر الحديث ، وغير خفي أنّ المتعارف من ضمير « عنه » الرجوع إلى سعد ، وروايته عن جعفر بن بشير غير معروفة ، بل الضمير راجع إلى محمّد بن الحسين ، وهو خلاف اصطلاح الشيخ ، إلاّ أنّ الممارسة تقتضيه.

ولو لا بعد احتمال عدم اطلاع الشيخ على عادة الكليني لأمكن توهّم الشيخ في السند بأن يرجع ضمير « عنه » لمحمّد بن يعقوب ، لأنّه في التهذيب ذكر قبل رواية سعد رواية عن محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن إسماعيل.(٢) .

ولمّا كانت عادة الكليني البناء فروى بالطريق التي في هذا الكتاب عن محمّد بن الحسين ، عن جعفر بن بشير ، ثم أتى بعده بلفظ جعفر بن بشير اعتمادا على السابق ، فظن الشيخ رواية محمّد بن يعقوب عن جعفر بن بشير ، غاية الأمر أنّ الشيخ لا يضر الأمر بالحال عنده ؛ لعلمه بالطريق ، وإنّما الإشكال بالنسبة إلى زماننا ، وأنت إذا تأمّلت ما ذكرناه يظهر لك أنّ ما فعله الشيخ لا يخلو من غرابة.

والرابع : واضح الصحة بعد ما قدّمناه(٣) .

والخامس : موثّق كذلك.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٥٥ / ١١٨.

(٢) التهذيب ٢ : ٥٤ / ١٨٥.

(٣) في ج ١ : ٧٠ و ٣٩٨ و ١٨٥ و ١٧٠ و ١٠٢.

٤٩

المتن :

في الأوّل : ظاهر الدلالة على أنّه لا بأس بالكلام في الأذان وفي الإقامة.

والثاني : تضمّن الكلام بعد الإقامة.

والثالث : واضح الدلالة لو صحّ ، وما ذكره الشيخ من الحمل لا يخلو من نظر ؛ لأنّ أوّل الكلام يدل على أنّ المراد بالأخبار جواز الكلام بشي‌ء يتعلّق بالصلاة ، وقوله : أو يكون ، محتمل لأن يريد به جواز الكلام مطلقا قبل « قد قامت الصلاة » ، وقوله : فإذا قال ذلك حرم إلاّ بما استثناه ، يدل على أنّ ما يتعلّق بالصلاة يجوز قبلُ وبعدُ ، وغير خفي أنّ فيه تشويشا للجمع.

والخبر الأوّل المستدل به يدل على الجواز قبل « قد قامت الصلاة » لمطلق الكلام ، وبعد « قد قامت الصلاة » يحرم إلاّ ما ذكر في الرواية ، وحينئذ ربما يدل هذا على أنّ مطلوب الشيخ الجواز على الإطلاق قبل « قد قامت الصلاة » ، وبعدها ما ذكره.

ولا يخفى أنّ ما تقدّم من الأخبار الأوّلة يدل الأوّل منها على أنّ الكلام في الإقامة منهيّ عنه ، والآخران على النهي إذا أقام ، وقد قدّمنا(١) بيان ذلك ، وحينئذ يمكن حمل ما تضمّن النهي عن الكلام في الإقامة على الكراهة ، وما بعدها يحمل على التحريم على تقدير الاعتماد على الصحيح ، وما تضمن جواز الكلام بعد الإقامة يخصّ بمدلول المفصّل.

__________________

(١) في ص : ٤٦.

٥٠

أمّا ما دلّ على إعادة الإقامة لو تكلّم فيمكن حمله على غير ما استثني ، كما يمكن حمله على ما بعد « قد قامت الصلاة ».

ومن هنا يعلم أنّ ما فعله العلاّمة في المختلف من عدم ذكر ما تضمن تحريم الكلام ، بل حمل الأخبار الثلاثة الأول على المبالغة في ترك الكلام(١) كما قدّمنا نقل بعض كلامه(٢) ، فيه نظر واضح.

كما أنّ ما ذكره بعض محققي المعاصرين ـ سلّمه الله ـ من دلالة الأخبار المقتضية للتحريم على مذهب الشيخين والمرتضى وابن الجنيد القائلين بتحريم الكلام بعد الإقامة إلاّ ما يتعلّق بالصلاة ، وباقي الأصحاب حملوا التحريم على شدّة الكراهة جمعا بينها وبين خبر حمّاد(٣) . لا يخلو من تأمّل ، لأنّ السكوت عن إمكان الجمع لا وجه له.

مضافا إلى أنّ المنقول عن المفيد والمرتضى في المختلف عدم الجواز في الإقامة(٤) ، ورواية ابن أبي عمير دالة على الجواز في الإقامة وعدمه بعدها ، واحتمال إرادة الدلالة في الجملة محلّ كلام.

وقد نقل في بعض الأخبار الدالة على مذهب المذكورين ما تضمن إعادة الإقامة ، ودلالته على التحريم غير ظاهرة ، والاكتفاء بما ذكره من دلالة خبر عمرو بن أبي نصر على قول المفيد والمرتضى من المنع في الأثناء(٥) لا يصلح عذرا كما لا يخفى ، وبالجملة فالاقتصار على الإجمال غير لائق.

__________________

(١) المختلف ٢ : ١٤١.

(٢) في ص ٤٧.

(٣) البهائي في الحبل المتين : ٢٠٩.

(٤) المختلف ٢ : ١٤٠ ، وهو في المقنعة : ٩٨ ، وفي المعتبر ٢ : ١٤٣ حكاه عنه في المصباح.

(٥) المختلف ٢ : ١٤٠.

٥١

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ما تضمنه خبر سماعة الأخير من استثناء كون القوم ليس يعرف لهم إمام ، ظاهر في جواز الكلام بما يتوقف على(١) تعيين الإمام ، أمّا لو أمكن بالإشارة ففي جواز الكلام حينئذ احتمال ، لكن الرواية يتوقّف العمل بها على قبول الموثّق ، وخبر ابن أبي عمير يدل على جواز القول ، ولا دلالة على الضرورة.

وظاهره جواز الأذان والإقامة مع عدم تشخّص الإمام ، ويحتمل كون الأذان بقصد مطلق الجماعة ، كما أنّ ظاهره تحريم الكلام على من في المسجد وإن لم يكونوا مصلّين ، أمّا الدلالة على تسوية الصف كما قاله الشيخ فغير واضحة ، والله تعالى أعلم بالحال.

قوله :

باب الأذان جالسا أو راكبا.

الحسين بن سعيد ، عن حمّاد ، عن ربعي ، عن محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : يؤذّن(٢) الرجل وهو قاعد؟ قال : « نعم ولا يقيم إلاّ وهو قائم ».

عنه ، عن أحمد بن محمّد ، عن عبد صالح قال : « يؤذّن الرجل وهو جالس ولا يقيم إلاّ وهو قائم » وقال : « تؤذّن وأنت راكب ولا تقيم إلاّ وأنت على الأرض ».

فأمّا ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سنان ،

__________________

(١) كذا في النسخ ، والأنسب : عليه.

(٢) في « فض » و « رض » : أيؤذن.

٥٢

عن أبي خالد ، عن حمدان(١) قال : سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن الأذان جالسا؟ قال : « لا يؤذّن جالسا إلاّ راكب أو مريض ».

فالوجه في هذا الخبر أن نحمله على ضرب من الاستحباب دون الإيجاب.

السند‌

في الأوّل : لا ارتياب فيه.

والثاني : كذلك ؛ لأنّ أحمد بن محمد فيه : ابن أبي نصر على ما يعرف من الممارسة ، والعبد الصالح هو الإمامعليه‌السلام ، إمّا موسىعليه‌السلام أو الرضاعليه‌السلام ، والإطلاق على الرضاعليه‌السلام قد مضى جوازه عن قريب(٢) ، ولا يبعد الفرق بين التعريف والتنكير ، فالأوّل لموسىعليه‌السلام ، والثاني للرضاعليه‌السلام ، والاتحاد ممكن.

والثالث : فيه محمّد بن سنان ، ولا يبعد أن تكون رواية أحمد بن محمّد بن عيسى عنه في حال كونه ثقة ؛ لما يظهر من أحوال أحمد بن محمّد بن عيسى ، وقد قدّمنا(٣) احتمال الجمع بين كون محمّد بن سنان ثقة ومطعونا فيه باختلاف الأزمان.

وأبو خالد هذا هو القمّاط ؛ لرواية محمّد بن سنان عنه كما في الفهرست(٤) ، وهو ثقة.

__________________

(١) في الاستبصار ١ : ٣٠٢ / ١١٢٠ ، والتهذيب ٢ : ٥٧ / ١٩٩ : حمران.

(٢) في ص : ١٨.

(٣) في ج ١ : ١٢١.

(٤) الفهرست : ١٨٤ / ٨٠٦.

٥٣

أمّا حمدان فأمره ملتبس بعد روايته عن أبي جعفرعليه‌السلام ، وفي الرجال يقال لجماعة إلاّ أنّهم ليسوا في هذه المرتبة ، ومع هذا فالحال غير مفيدة للصحة.

المتن :

في الأوّل : ظاهر الدلالة على تعيّن القيام في الإقامة ، ونقل العلاّمةرحمه‌الله عن المفيد أنّه قال : لا يجوز الإقامة إلاّ وهو قائم متوجه إلى القبلة مع الاختيار(١) ، واحتج على ما نقل برواية لأبي بصير حيث قال فيها : « ولا تقم وأنت راكب أو جالس إلاّ من علّة أو تكون في أرض ملصّة »(٢) . وهذه الرواية قاصرة السند ، والرواية المبحوث عنها أوضح دلالة ، واستثناء العذر ربما يدل عليه الاتفاق ، مضافا إلى الخبر.

أما استدلال العلاّمة على استحباب القيام في الإقامة بأنّ استحباب ذي الكيفية مع وجوب الكيفية ممّا لا يجتمعان ، والأوّل ثابت لما تقدّم فيبقى الثاني(٣) .

ففيه : أنّ استحباب الإقامة لا ينافي عدم جواز فعلها من جلوس ، على أن يكون القيام شرطا فيها كالوضوء للنافلة ، غاية الأمر أنّ عدم الجواز إذا أريد به التحريم يكون المراد تحريم فعلها جالسا ، لأنّه خلاف المشروع ، فإذا قصد بالفعل الشرعي خلاف ما أمر به يكون محرّما.

__________________

(١) المختلف ٢ : ١٤١.

(٢) التهذيب ٢ : ٥٦ / ١٩٢ ، الوسائل ٥ : ٤٠٣ أبواب الأذان والإقامة ب ١٣ ح ٨ ، وأرض مَلصّة : ذات لصوص. لسان العرب ٧ : ٨٧.

(٣) المختلف ٢ : ١٤١.

٥٤

ومن هنا يعلم أنّ ما ذكره بعض محقّقي المعاصرين ـ سلّمه الله ـ من دلالة الخبر المبحوث عنه على تأكّد الاستحباب وأنّ ابن الجنيد أوجبه(١) ، محل تأمّل ؛ لأنّ تأكّد الاستحباب موقوف على المعارض ، فعدم القول فيه لا وجه له ، والاعتماد على قول العلاّمة في احتجاجه السابق(٢) كذلك ، كما أنّ الالتفات إلى الشهرة بل الإجماع حيث لم يخالف إلاّ ابن الجنيد ، فيه : أنّ المفيد مصرّح به كما نقله في المختلف(٣) ، والشهرة بين المتأخّرين لا تصلح حجة ، فليتأمّل.

وأمّا قول الشيخ في توجيه الخبر الأخير من الحمل على الاستحباب فغير خفيّ ما فيه ، إلاّ أن يقال باحتمال وجوب الأذان واستحباب القيام فيه ، ولو حمل الاستحباب في كلامه على الأكمليّة أمكن.

قوله :

باب من نسي الأذان والإقامة حتى صلّى أو دخل فيها‌

أخبرني الحسين بن عبيد الله ، عن أحمد بن محمد ، عن أبيه ، عن محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن سلمة بن الخطاب ، عن أبي جميلة ، عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : قلت له : رجل ينسى الأذان والإقامة حتى يكبر قال : « يمضي على صلاته ولا يعيد ».

عنه ، عن محمّد بن الحسين ، عن جعفر بن بشير ، عن نعمان الرازي قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام وسأله أبو عبيدة الحذّاء ، عن‌

__________________

(١) البهائي في الحبل المتين : ٢٠٥.

(٢) في ص ٥٤.

(٣) المختلف ٢ : ١٤١.

٥٥

حديث رجل نسي أن يؤذّن ويقيم حتى كبّر ودخل في الصلاة قال : « إن كان دخل المسجد ومن نيّته أن يؤذّن ويقيم فليمض في صلاته ولا ينصرف ».

الحسين بن سعيد ، عن محمّد بن الفضيل ، عن أبي الصباح ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : سألته عن رجل نسي الأذان حتى صلّى ، قال : « لا يعيد ».

محمّد بن عليّ ، بن محبوب ، عن عليّ بن السندي ، عن حماد بن عيسى ، عن شعيب بن يعقوب ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : سألته عن رجل نسي أن يقيم الصلاة حتى انصرف أيعيد صلاته؟ قال : « لا يعيدها ولا يعود لمثلها ».

السند‌

في الأوّل : فيه سلمة بن الخطاب ، وفي النجاشي أنّه كان ضعيفا في حديثه(١) ، وأبو جميلة تكرر القول فيه من تضعيف العلاّمة(٢) له ، وعدم التعرض من غيره لذلك. وابن بكير مضى الكلام فيه(٣) أيضا.

والثاني : فيه نعمان الرازي ، وهو مذكور مهملا في رجال الصادقعليه‌السلام من كتاب الشيخ(٤) ، أمّا ضمير « عنه » فيه فيحتمل رجوعه إلى محمّد بن عليّ بن محبوب ، لأنّ الراوي عن محمّد بن الحسين في الرجال‌

__________________

(١) رجال النجاشي : ١٨٧ / ٤٩٨.

(٢) راجع ج ٢ : ٣٣٦.

(٣) راجع ج ١ : ١٢٥.

(٤) رجال الطوسي : ٣٢٥ / ٢٤.

٥٦

الصفار(١) ، والمرتبة قريبة ، ويحتمل أن يرجع إلى محمّد بن يحيى ، لكن الأوّل(٢) له نوع ظهور بل هو متعيّن ، من حيث إنّ الشيخ في التهذيب روى الاولى عن محمّد بن علي بن محبوب ابتداء ثم قال : عنه ، عن محمّد بن الحسين(٣) .

والثالث : فيه محمّد بن الفضيل ، وهو غير معلوم بسبب الاشتراك(٤) .

والرابع : فيه عليّ بن السندي وقد كرّرنا القول فيه(٥) بما يرجع إلى الجهالة. وأبو بصير تقدّم(٦) .

المتن :

في الأوّل : ظاهر الدلالة على أنّ من نسي الأذان والإقامة حتى يكبر يمضي على صلاته.

والثاني : كذلك ، غير أنّه يحتمل أن يراد بالنسيان فيه عدم تذكّر الأذان والإقامة لا يقين الترك ، وحينئذ يكون قوله : « ومن نيّته » إشارة إلى أنّ الظاهر الفعل من حيث النيّة ، فيقدّم الظاهر على الأصل ، ويحتمل أن يراد أنّ النيّة كافية في الثواب وإن لم يفعل ، فيراد بالنسيان عدم الفعل.

والثالث : يدل على أنّ ناسي الأذان لا يعيد إذا صلّى ، والظاهر منه الذكر بعد تمام الصلاة.

__________________

(١) انظر رجال النجاشي : ٣٣٤ / ٨٩٧.

(٢) في النسخ : الثاني ، والصواب ما أثبتناه.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٧٩ / ١١٠٧.

(٤) انظر هداية المحدثين : ٢٤٩.

(٥) راجع ج ١ : ٣٥٥ وج ٢ : ١٨٧ ، ٢٤٧.

(٦) في ج ١ : ٧٣.

٥٧

والرابع : يدل على أنّ ناسي الإقامة ثم يذكر ذلك بعد الانصراف ، لا يعيدها ، وقوله : « ولا يعود لمثلها » ربما يدل على ما ذكر في أبي بصير من التخليط ، فإنّ عدم العود في النسيان لا وجه له إلاّ أن يحمل على إرادة التوجه إلى الفعل بحيث ينتفي النسيان غالبا ، ويحتمل أن لا يعود لعدم الإعادة ، بل ينبغي الإعادة على تقدير النسيان في غيرها ، وفيه ما فيه.

قوله :

فأمّا ما رواه أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن علي بن يقطين ، عن أخيه الحسين ، عن علي بن يقطين قال : سألت أبا الحسنعليه‌السلام عن الرجل ينسى أن يقيم الصلاة وقد افتتح الصلاة ، قال : « إن كان فرغ من صلاته فقد تمّت صلاته ، وإن لم يكن قد فرغ من صلاته فليعد ».

فهذا الخبر محمول على ضرب من الاستحباب.

وأمّا ما رواه محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن صفوان ، عن العلاء بن رزين ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال : في الرجل ينسى الأذان والإقامة حتى يدخل في الصلاة ، قال : « إن كان ذكر قبل أن يقرأ فليصلّ على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وليقم(١) ، وإن كان قد قرأ فليتمّ صلاته ».

أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن النعمان ، عن سعيد الأعرج وابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : « إذا افتتحت الصلاة ونسيت أن تؤذّن وتقيم ثم ذكرت قبل أن تركع‌

__________________

(١) لفظة : وليقم ، ساقطة من الاستبصار ١ : ٣٠٣ / ١١٢٦.

٥٨

فانصرف فأذّن وأقم واستفتح الصلاة ، وإن كنت قد ركعت فأتمّ على صلاتك ».

محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن محمّد بن الحسين ( بن أبي الخطاب )(١) عن إسحاق بن آدم ، عن أبي العباس الفضل بن حسان الدالاني ، عن زكريا بن آدم قال : قلت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام : جعلت فداك كنت في صلاتي ( فذكرت في الثانية )(٢) وأنا في القراءة أنّي لم أقم فكيف أصنع؟ قال : « اسكت على موضع قراءتك وقل : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، ثم امض في قراءتك وصلاتك وقد تمّت صلاتك ».

عنه ، عن محمّد بن الحسين ، عن صفوان ، عن حسين بن أبي العلاء ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يستفتح صلاته المكتوبة ثم يذكر أنّه لم يقم قال : « فإن ذكر أنّه لم يقم قبل أن يقرأ فليسلّم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم يقيم ويصلّي ، وإن ذكر بعد ما قرأ بعض السورة فليتمّ على صلاته ».

فالوجه في هذه الأخبار أيضا أن نحملها على ضرب من الاستحباب كما حملنا عليه الخبر الأوّل لئلاّ تتناقض الأخبار.

ويدل على ذلك :

ما رواه سعد بن عبد الله ، عن محمّد بن الحسين ، عن جعفر بن بشير ، عن حمّاد بن عثمان ، عن عبيد بن زرارة ، عن أبيه قال : سألت أبا جعفرعليه‌السلام (٣) عن رجل نسي الأذان والإقامة حتى دخل في الصلاة ،

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في الاستبصار ١ : ٣٠٤ / ١١٢٨.

(٢) في الاستبصار ١ : ٣٠٤ / ١١٢٨ بدل ما بين القوسين : وذكرت في الركعة الثانية.

(٣) في نسخة من الاستبصار ١ : ٣٠٤ / ١١٣٠ : أبا عبد اللهعليه‌السلام .

٥٩

قال : « فليمض على صلاته(١) فإنّما الأذان سنّة ».

عنه ، عن أحمد بن محمّد ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن داود بن سرحان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في رجل نسي الأذان والإقامة حتى دخل في الصلاة قال : « ليس عليه شي‌ء ».

السند‌

في الأوّل : ليس في صحته ارتياب بعد ما قدّمناه(٢) .

والثاني : فيه محمّد بن إسماعيل ، وذكرنا حقيقة الحال فيه أيضا سابقا(٣) .

والثالث : لا ارتياب فيه بعد ما قدمناه في سعيد الأعرج(٤) : من أنّ احتمال كونه ابن عبد الرحمن الثقة له ظهور ؛ لأنّ في الطريق إلى ابن عبد الرحمن صفوان في النجاشي(٥) ، وفي الفهرست ذكر سعيد الأعرج وفي الطريق إليه صفوان(٦) ، وقد ظن العلاّمة في المختلف التعدد والأمر كما ترى.

وأمّا ابن أبي عمير فالظاهر عطفه على سعيد ، واحتمال العطف على عليّ بن النعمان يبعّده المعروف من عادة الشيخ في الكتاب ، كاحتمال كونه ابتداء سند آخر بطريقه إلى ابن أبي عمير ، فتأمل.

__________________

(١) في الاستبصار ١ : ٣٠٤ / ١١٣٠ : في صلاته.

(٢) في ج ٤ : ٥٢٦.

(٣) في ج ١ : ٤٦ و ٣٤١.

(٤) راجع ج ١ : ١٥٥.

(٥) رجال النجاشي : ١٨١ / ٤٧٧.

(٦) الفهرست : ٧٧ / ٣١٣.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379