شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية11%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 198740 / تحميل: 5563
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة ٤٠ إلى ٥١ الهجرية الجزء ٣

مؤلف:
العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

شهداء الاسلام

(من سنة ٤٠ إلى ٥١ الهجريّة

المجلّد الثالث

حبيب طاهر الشّمريّ

١

شهداء الإسلام

من سنة ٤٠ إلى ٥١ الهجريّة

المجلّد الثالث

حبيب طاهر الشمّريّ

الطبعة الأولى: ١٤٣٥ ق / ١٣٩٣ ش

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبيّنا المصطفى وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

حلقة ثالثة في سلسلة (شهداء الإسلام)، كان الأولى قد تناولت شرح الوقائع والحروب في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ترجمة للمسلمين الذين استشهدوا في تلك الحروب.

وتناولت الحلقة الثانية شرحا لمجرى الأمور بعد رحلة النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ أي من السنة العاشرة اللهجرة الشريفة وانتهاء بشهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام و ترجمة لشهداء هذه المرحلة في تاريخ الإسلام.

وهذه هي الحلقة الثالثة من (شهداء الإسلام)؛ تناولت حياة الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام و شهادته ثم شهداء (مَرْج عذراء) وبعض الشهداء ممّن استشهدوا على يد ابن هند معاوية ومن جاء بعده.

في هذه الحلقة عرضنا للشجرة الملعونة، لذكر القرآن لها ولعنها ولما وجدته من أمور لا يُسكت عليها مخالفة للقرآن الكريم والسُنّة النبويّة المطهّرة وهما يأمران الناس بدعوة الأبناء إلى آبائهم ورتّبا آثاراً اجتماعيّة وأحكاماً شرعيّة على ذلك، فكانت الشجرة المعلونة حقلاً واسعاً للدراسة لكثرة الأدعياء بدءاً بأميّة العبد القبطيّ الذي اشتراه عبد

٣

شَمْس ثمّ أعتقه واستلحقه! وأعتق أميّة عبده ذَكْوان واستلحقه وسمّاه (أبو عمرو). ولم يقف عند هذا، إنّما زوّجه من امرأته!! وكلّما نزلنا أو صعدنا عن أميّة ازدحمت الفضائح حتّى وصلنا صخر بن حرب (أبو سفيان) وامرأته هند، وفضائحهما تزكم الأنوف من ذلك: أنّ معاوية يُدعى لأربعة، ولعبدٍ مغنٍّ اسمُه الصُّبّاح؛ وينسب أيضاً إلى وحشي قاتل حمزة بن عبد المطّلبعليه‌السلام . ووجدنا ابن ميسون الناقص (يزيد) مطعون في نسبه وأنّه لغير معاوية. وكانت جدّة معاوية (حمامة) من ذوات الرايات.

هذا في حقل النسب، وأمّا في الأفعال، فإنّ استنان ابن هند بالأوائل ممّن مهّد له السبيل، قد عدى على أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحرقها، وأحيا الجاهليّة بمتاجرته بتماثيل النحاس والخمر! وصرّح بأنّه يسعى إلى دفن اسم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخرج على وليّ أمر المسلمين وأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وحاربه، ثمّ حارب الإمام الحسن المجبتبىعليه‌السلام و خان عهود الصلح وسمّ الحسنعليه‌السلام .

ومن جرائمه قتل الصلحاء: حجر بن عَديّ وصحبه الكرام وقتله الصحابيّ الجليل (عمرو بن الحَمِق).

فكان لزاماً أن نعطي الموضوع حقّه ومقابل ذلك جرى الكلام بتوسّع في شأن الشجرة المباركة إذ الأبواق الأمويّة والزبيريّة والخارجيّة لم تسكت منذ تلك الأعصر في رفع شأن الشجرة الملعونة والنيل من الشجرة المباركة. وفي عصرنا كثرت الإصدارات في تمجيد مَن هبّ ودبّ ورائدهم (ابن تيميّة) صاحب الفتنة الكبرى. ولذا يجد القارئ الكريم كثرة ذكر الخوارج، فهناك الخوارج المارقون الّذين خرجوا على أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وقاتلهم في النهروان؛ وهناك كلّ من خرج على الله ورسوله وأئمّة الهدىعليهم‌السلام .

٤

نسأل الله تعالى أن يتقبّل منّا بأحسن قبوله وآخر قولنا أن الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

مع جزيل شكري لمديري مجمع البحوث الإسلاميّة على توفيرهم فرصة العمل لإتمامه أسأل الله لهم ولكلّ مَن عمل بحرصٍ لإخراج العمل بأسلوب أفضل.

حبيب الشمّريّ

٥

٦

ألغارات

إنّ الّذي أحدثه الأوائل بخروجهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته وما نزل فيهم من قرآن على ما ذكرنا، وخروجهم عليه لـمّا أراد أن يكتب الوصيّة حتّى طردهم، فلمّا خرجوا لم يعودوا فيعتذروا وإنّما مضوا إلى الصراع من أجل الحكم، وتوفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عنهم غيرُ راضٍ!

ولم يقف القوم عند هتْكهم حُرمة الأنصار وقتلهم سيّد الخزرج سعد بن عُبادة - غيلةً - إذ رفض بيعة أبي بكر، ثمّ عمر، وخرج إلى الشام، ألجأه إلى ذلك عمر، ثمّ أرسل جنيّاً قتله بالشأم! - مرّ تفصيل ذلك- -. وتمادى القوم فخرجوا على الله تعالى الذي جعل من عليّعليه‌السلام وليّاً للمسلمين، وخرجوا على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أنزله من نفسه منزلة هارون من موسى، وجعله نفسه التي يباهل بها، وتعدّدت مناسبات التنصيب للإمارة والولاية كان منها حديث الثقلين، والتتويج يومَ غدير خُمّ....

ولماّ تخلّف عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام عن بيعة أبي بكر، وكان أبوبكر علم أنّ رسول الله قد أوصى عليًّا كما أوصى الأنصار، فهو ملتزم بالوصيّة حينما نشط أبوبكر وأمر عمر بن الخطّاب أن يأخذ عليًّا أعنف الأخذ فمضى هذا وجمع الحطب على بيت فاطمة الزهراءعليها‌السلام بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيده قبس من نار، فتلقّته فاطمةعليها‌السلام مندهشة وقالت: أتريد أن تحرق علينا البيت يا ابن الخطّاب؟! قال: نعم....

٧

و والله لولا علمهم بالوصيّة لـما أقدموا، وهم يعلمون أيُّ ليث في البيت هو عليٌّ؛ الذي وَتَرَ بني عَديّ، وبني تَيْم، وبني مخزوم، وبني عبد شَمس، وبني لُؤَيّ، وبني أميّة، وبني أبي مُعَيْط، وبني أسد بن عبد العُزّى، وبني جُمَح، وبني نَوْفَل بن عبد مَناف، وبني سعد بن سَهْم، وبني عبد الدار، وبني العاص.....؛ كلّ هؤلاء وَتَرَهم يومَ بَدْر؛ فمن مجموع خمسين هالك، كان الّذين عجّل بهم فتى الإسلام وسيفه الّذي سلّه الله تعالى على الشرك والنفاق: تسعا وعشرين، وفي قول: سبعا وعشرين وشرك عمّه حمزةعليه‌السلام في ثلاث، وكلّهم من أبطال وصناديد الشرك والكفر. ذكرنا جملةً منهم.

وهو الّذي قطع رؤوس أصحاب الألوية يوم أُحد، ومثلما المحرّق وصاحبه لم يقربا أبطال الشرك إنّما لجأ المحرّق إلى صخرة مع طلحة ومجموعة يأكلون فإذا سُئلوا عن سبب اعتزالهم المعركة كان جوابهم أن قُتل محمّد! وكان ذلك إثْرَ هتاف الشيطان وإذاعته بذلك، فيما وصل عثمان الجَعْلبَ بأطراف المدينة فصدّتهم نساء الأنصار وأطفالهم من دخول مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلبثوا ثلاثاً ورجعوا بها عَرِيضةً!

ويوم الخندق - تكلّمنا عنه - وإنّما نؤكّد أمراً: أنّ غير عليّ ابن عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يجب عمرو بن عبد ودّ، ثلاث مرّات ينهض عليّ فيجلسه النبيّ! لماذا؟ لا أظنّ إلّا ليثبت لعليّ فضيلة ربّما يزعم أحدُهم بعدُ: أنّني كدتُ أخرج إلى عمرو، فسبقني عليّ إليه! فلمّا أحجمَ الجميع وبحّ صوت عمرو من النداء، أذن النبيّ لعليّ لينطلق فيريح عمرو من النداء بضربة علويّة، وعطف على ابنه حِسْل فألحقه بأبيه؛ ففرَّ بنو مخزوم بعارها! فلم يستردّ عِكرمة بن أبي جهل وتر أبيه ولا خالد بن الوليد وتر عمّه وأخيه وبني عمّه، وهم جملة وفيرة وتَر بهم عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خالداً وعمرَ، على ما ذكرنا تفصيله سابقاً. وإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أحرج القوم يومَ الخندق إذ لم يأذن لعليّ بمنازلة

٨

فارس المشركين، فقد حصل نظير ذلك يوم خَيبر؛ فقد شاءت الحكمة الإلهيّة أن يرمد عليّعليه‌السلام ؛ فرآها رسول الله مناسبةً ليُحرج الرجلين؛ فأعطى الراية إلى أبي بكر، فذهب بها قليلاً وعاد يُجبّن أصحابه ويُجبّنه أصحابُه! ولئلّا يقول عمر: لو أعطاني النبيّ الراية لكان الفتح على يدي لـما يعرفه اليهود من بسالتي! فأعطاه النبيّ الراية، فمضى بها قليلاً وعاد يُجبّن أصحابه ويُجبّنه أصحابه. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لأعطينّ الراية غداً رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار يفتح الله عليه). فلمّا كان الغد دعا رسول الله عليًّا وكان يشتكي عينيه لا يرى موضع قدميه، فشفاهما رسول الله بريقه، وأعطاه الراية، فذهب بها عليّ يُهرول حتّى ركزها في أطم من آطام اليهود، ثمّ قلع باب حصن من حصونهم تترّس به وقتل فارسهم (مرحب) فكان الفتح على يديه(١) .

إنّ قول رسول الله: (... يُحبُّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار يفتح الله على يديه)، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تجنح به عاطفة إنّما ينطق عن وحي، فقوله في الرجل الذي سيعطيه الراية ليس من جنس من أخذها ففرّ، إنّما هو (كرّار غير فرّار) لكثرة كرّاته ونكايته في العدوّ، لا يجبن فيفرّ. وهو يحبّ الله ورسوله، والله ورسوله يُحبّانه، إذاً: من كان قبله ليس مثله ولو كان مثله ما فرّ، وفتح الله على يديه! وهذه نبوءة لو لم تتحقّق في هذا الرجل؛ بطل قول رسول الله فيه - حاشا له أن يقول إلّا ما أُوحي إليه -؛ فباتوا ليلتهم وكلّهم يرجونها! فكان الرجل هو عليّعليه‌السلام الذي أخذ الراية وراح يُهرول بها وكأنّه ذاهبُ إلى عُرسٍ! وتحقّقت نبوءة رسول الله فيه إذ قطّر فارس اليهود (مرحب) واقتلع باب حصنهم وما زال يقاتلهم حتّى فتح الله على يديه.

ومن حبّ عليّعليه‌السلام لله ورسوله: أنّه كلّه إسلام، فهو تسليم مطلق لله ولرسوله،

____________________

(١) خرجنا مصادره في موضع آخر؛ إلا أنّ المقام اقتضى ذكره هنا.

٩

ليس في حياته ثمّة خروج، وطاعته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته نفسها في حياته؛ فكان من جملة تلك الطاعة: امتثاله وصيّته بالصبر، ولم يجرّد حسامه ذا الفَقار، وإلّا فليس في القوم كما قلنا عمرو بن عبد وُدٍّ، ولا مرحب، ولا فرسان بدر وأُحُد وغيرها.

إبن هند على سرِّ أسلافه

وابن هند هو معاوية، وهند أمّه يُنسَب ويُنسِب نفسه إليها في كلّ مقام فيه وعد ووعيد أو تفاخر! فيقول: وأنا ابنُ هِند.

هند: هي هِندُ بنت عُتْبَةَ بن رَبيعةَ بن عبد شمس. وتَرَها عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام في أبيها: عُتبة بن ربيعة؛ جدّ معاوية لأمّه، شركه في قتله حمزة بن عبد المطّلبعليه‌السلام ، قتلاه يوم بدر(١) . فوَتَرا بذلك معاوية.

ووتَر أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بمشاركة عمّه حمزة أيضا هند بنت عتبة بن ربيعة، بعمّها شيبة بن ربيعة بن عبد شمس؛ فوترا بذلك معاوية، وذلك يوم بدر أيضا(٢) .

وانفرد أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بقتل أخيها، خال معاوية: الوليد بن عتبة، يوم بدر أيضاً(٣).

هؤلاء من هم ذوو رحم ماسّة بـ (هند)، فمِن ثَمَّ بـ (معاوية) وأفردنا عنهم حنظلة بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة، قتله أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام يوم بدر(٤) . ولم نعدّه فيمن وتر به معاوية! فضلا عن هند! لـما ستعلمه من مقصود بحثنا، وإن وتَر به عليّعليه‌السلام آل

____________________

(١) النسب، لابن سلام: ٢٠٤، تاريخ الطبري ٢: ١٤٨، الثقات، لابن حبّان ١: ٦٥.

(٢) طبقات ٢: ١٧.

(٣) السيرة النبوية، لابن هشام ٢: ٣٦٦، المغازي، للواقدي ١: ١٤٨، طبقات ابن سعد ٢: ١٧، المحبّر: ١٧٥، أنساب الأشراف ١: ٣٥٦، النسب، لابن سلام: ٢٠٢، تاريخ الطبري ٢: ١٤٨، كتاب الثقات ١: ٦٥، الإرشاد: ٦٠.

(٤) المغازي، للواقدي ١: ١٤٧، المحبر، لابن حبيب: ١٧٦، أنساب الاشراف ١: ٣٥٥؛ الإرشاد، للمفيد: ٦٣.

١٠

أبي سفيان. فأمّ حنظلة بن أبي سفيان: ريحانة بنت أبي العاص بن أميّة(١) ؛ وأمّا معاوية، وعتبة؛ فأمّهما هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس(٢) ، لا خلاف في ذلك ولكن الخلاف في أبيهما!

ومن ولد أبي سفيان: عنبسة ومحمّد؛ أمّهما: عاتكة بنت أبي أزيهر وكان معاوية ولّى عنبسة الطائف، ثمّ نزعه وولاّها عتبة، فدخل عليه فقال: أما والله ما نزعتني من عضف ولا خيانة قال معاوية: إنّ عتبة ابن هند، فولّى عنبسة وهو يقول:

كُنّا لِحَربٍ صالحاً ذاتُ بَيْننا

جميعاً فأضْحَتْ فَرَّقَتْ بيننا هِنْدُ

إنّ قول معاوية: إنّ عتبة ابن هند، له دلالة: أقلّ ما يقال فيه انتفاؤه من أبي سفيان وصريح انتسابه إلى هند، هو وأخوه عتبة! أمّا أبوهما، فموضع شُبهة!

وتزوّجت هند بنت عتبة بن ربيعة: الفاكِه بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، قُتل عنها بالغميصاء؛ ثمّ حفص بن المغيرة مات؛ ثم أبا سفيان، صخر بن حرب(٣) .

وهند، وإن انتهى المطاف بها إلى أحضان أبي سفيان، إلّا أنّ الألسن والأقلام ظلّت تلاحق هندا وتقذفها بالزنا وتروّج إلى أنّ معاوية وأخاه عتبة ابنا هند ليسا لأبي سفيان!

فإنّ معاوية يُعزى إلى أربعة: إلى مسافر بن أبي عمرو، وإلى عمارة بن الوليد، وإلى العبّاس بن عبد المطّلب، وإلى الصُّبّاح مُغنٍّ أسود كان لعُمارة. قالوا: كان أبو سفيان دميماً قصيراً فدعت هندٌ الصُّبّاحَ إلى نفسها. وقالوا: إنّ عتبة من الصبّاح أيضا، وإنّها كرهت تضعه في منزلها، فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك. وفي ذلك يقول حسّان بن ثابت:

____________________

(١) جمهرة النسب، لابن الكبي: ٣٩.

(٢) نفس المصدر السابق: ٤٩ - ٥٠.

(٣) المحبّر، لابن حبيب: ٤٣٧.

١١

لمن الصبيُّ بجانب البَسط

حساء مُلقىً غيَر ذي سُهدِ(١)

نَجَلت به بيضاءُ آنِسةٌ

من عبد شمس صَلْتَهُ الَخدِّ(٢) ،(٣)

وكان بين يزيد بن معاوية وبين إسحاق بن طلحة بن عبيد الله كلام بين يدي معاوية فقال يزيد: يا إسحاق، إنّ خيراً لك أن يدخل بنو حرب كلّهم الجنّة! فقال إسحاق: وأنت خير لك أن يدخل بنو العبّاس كلّهم الجنّة! فأنكر يزيد ولم يدر ما عناه، فلمّا قام إسحاق قال معاوية: أتدري ما عناه إسحاق؟ قال يزيد: لا. قال: فكيف تشاتم رجلا قبل أن تعلم ما يقال لك وفيك؟ إنّه عنى ما زعم الناس أنّ أبا العبّاس أبي. وكانت هند اتّهمت به وبغيره، ولذلك لـمّا جاءت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبايعه، فتلا:( يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى‏ أَن لاَ يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ ) (٤) . فلمّا بلغ قوله:

____________________

(١) في ديوان حسّان: (في التّرب ملقى غير ذي مهد).

(٢) نجلت به: ولدته. صلته الخدّ: خدّها بارز ناعم.

(٣) ربيع الأبرار للزمخشريّ ٣: ٥٥١. وفي ديوان حسّان زيادة:

تسعى إلى الصُّبّاح معولةً

يا هندُ إنّك صُلبةُ الَحردِ

غلبتْ على شبه الغلام وقد

بانَ السوادُ لحالِك جَعْدِ

الحالك: الشعر الأسود. الجعد: المجعّد، وهي صفة شعر العبيد السود وقال لها أيضاً:

لمن سواقطُ صبيان مُنبَّذَةٍ

باتت تَفَحَّص في بطحاء أجيادِ

باتت تمخَّضُ ما كانت قوابلُها

إلّا الوحوش وإلّا جنّة الوادي!

فيهم صبيٌّ له أمٌّ لها نسبٌ

في ذروة من ذُرى الأحساب أيّادِ

تقول وَهْناً وقد جدّ المخاض بها:

يا ليتني كنت أرعى الشَّول للغادي!

قد غادَروه لحرّ الوجه منعفراً

وخالُها وأبوها سيّد النادي

ديوان حسان بن ثابت الأنصاريّ: ٩٦ - ٩٧. (مُنبّذة: منبوذة. تفحّص: تتفحّص. أجياد: اسم موضع بمكّة، وهو شعب من شعابها. تمخّض: المرأة تطلق حال الولادة. القوابل: جمع قابلة وهي المرأة التي تشرف على الولادة. الشّّول: النِياق لها بقيّة لبن).

(٤) الممتحنة: ١٢.

١٢

( وَلاَ يَزْنِينَ ) قالت هند: وهل تزني الحرّة؟! فنظر النبيّ، إلى عمر وتبسّم!(١)

ولقد جرى كلام بين ابن هند وعبد الرحمن بن خالد فيه إشارة إلى (أجياد):

فقد ذكرنا قبل ُانحراف َوعداءَ خالد بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ لعليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأوضحنا سبب ذلك وهو أنَّ أمير المؤمنين قد وتَر خالداً يومَ بدر في أخيه واثنين من بني عمّه، ويومَ أُحد في اثنين من بني عمّه، مضافاً إلى عدّة من قومه من بني مخزوم، مع تأخّر إسلام خالد إذ فرَّ يوم فتح مكّة لئلّا يرى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين، وأسلم بعد هو وابن النابغة. وجرَت على يد خالد فتوحات في العراق والشأم ومات بالشأم وكان قد أوصى إلى عمر بن الخطّاب لصلة الرحم، فخالد ابن خال عمر. ودفن في قرية على ميل من حمص، فدثرت تلك القرية! وضاع قبر خالد(٢) .

وكان عبد الرحمن بن خالد قد شهد صفّين مع ابن هند، وكان يلي له الصوائف - أي: الغزو بالصيف - ويبلي ويحسن أثره فعظم شأنه بالشأم ومال الناس إليه فحسده معاوية وخافه، فدسّ إليه متطبِّباً يقال له: ابن أُثال، وجعل له خراج حمص، فسقاه شربةً فمات، فاعترض خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - ويقال خالد بن عبد الرحمن - ابنَ أُثال فقتله، فرُفع ذلك إلى معاوية فحبسه أيّاماً ثمّ أغرمه ديّته ولم يَقِدْه(٣) .

وذكر ابن الأثير أنّ معاوية حين أراد البيعة ليزيد وخطب أهل الشأم أنّه كبرت سنّة وانّه أراد أن يعقد لرجل يكون نظاماً لهم! فما كان منهم إلّا أن أصفقوا لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فشقّ ذلك على معاوية وأسرّها في نفسه. ثمّ مرض عبدالرحمن فدسّ

____________________

(١) محاضرات الأدباء، للراغب الإصفهانيّ ١: ٣٥٣.

(٢) أنساب الأشراف ١٠: ٢٠٨.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٠٩.

١٣

معاوية طبيباً هو أثال النصرانيّ فدسّ له السمّ فقتله. فاتّهم المهاجر بن خالد معاوية وقتل أثال(١).

وكان معاوية لـمّا ولّى عبد الرحمن بن خالد الصائفة كتب له عهداً ثمّ قال له: ما أنت صانعٌ بعهدي؟ قال: سأتّخذه إماماً ومثالاً فلا أتجاوزه، فقال: ردّ عليّ عهدي! فقال: أتعزلني ولم تخبرني؟ أما والله لو كنّا ببطن مكّة على السواء ما فعلتَ بي هذا، فقال معاوية: لو كنّا ببطن مكّة لكنت معاوية بي أبي سفيان وكنت عبدالرحمن بن خالد، وكان منزلي بالأبطح وكان منزلك بأجياد أعلاه مَدْرة وأسفله عُذْرة(٢) .

ففي النصّ السابق إشارة من معاوية إلى ما قيل فيه أنّ أمّه (هند) كرهت أن تضعه في منزلها، فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك.

وفي النصوص التي عرضنا لها وجدنا ابن هند، يحسد المخلصين له في رجاله ويغدر بهم فيسمّهم!؛ ولذا صار أمراً طبيعيّاً للغاية أن يخون المشار إليه عهوده ومواثيقه بعد توقّف حرب صفّين، فراح يشنّ الغارات على أطراف توابع أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فيقتل وينهب ويسلب على طريقة الخوارج! وبعث البعوث إلى مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلى مكّة المشرّفة؛ فأرجف قادته بأهلهما وانتهكا حرمتهما، وقبل ذكر الغارات التي لها صلة بموضوعنا دون غيرها، نذكر جُملا أخرى تُدَلّل على انتساب معاوية للفراش (هند).

ابن هِنْد بالدليل القاطع والبرهان الساطع

في تاريخ دمشق: لـمّا ولّى عمر بن الخطّاب يزيد بن أبي سفيان ما ولاّه من الشام خرج إليه معاوية، فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيتِ ابنكِ صارَ تابعاً لابني! فقالت:

____________________

(١) أسد الغابة ٣: ٤٤٠.

(٢) أنساب الأشراف ١٠: ٢٠٩ - ٢١٠.

١٤

إن اضطرب حبل العرب فستعلم أين يقع ابنَك ممّا يكون فيه ابني(١) .

المستفاد من الخبر: أنّ صاحب الخبر قد نسب يزيد إلى أبي سفيان ولم ينسب معاوية إليه. وأمّا في كلام أبي سفيان وهو يفاخر زوجته هند؛ فقد وجدنا فيه أبا سفيان يقرّ ببنوّة يزيد له، وهو ينتفي من أبوّة معاوية! فيفتخر بابنه على ابن هند. ومقابل ذلك فإنّ هند أكّدت هذا المعنى، فمعاوية الذي هو من صلب آخر، أجدر في مواجهة الشدائد ممّن هو من صلبه!

فكان كما قالت هند! فقد تحدّى ابنها (معاوية) الله تعالى، ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشاعر المجتمع الإسلاميّ؛ إذ استلحق ابن النابغة زياد، وادّعى أنّه أخوه، وأقام على ذلك الشهود، وتمرّد على وليّ الله عليّعليه‌السلام ، فكانت حرب صفّين والتي انتهت بعقد هدنة ومعاهدة بأن يرجع أهل العراق إلى عراقهم وأهل الشأم إلى شأمهم لمدّة سنة لا يحدثون فيها حدثاً، إلّا أنّ ابن هند خان العهد، وراح يشنّ الغارات على أطراف أمير المؤمنين ويفعل فعل الخوارج بشيعة عليّعليه‌السلام .

( إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ ) (٢) .

ووصلت غارات ابن هند إلى المدينة المنوّرة ومكّة المكرّمة وقد أمر قادته أن يهينوا أهل الحرمين ويسمعوهم من الكلام ما يخيفهم، ومن أخاف أهل الحرمين لم تنله رحمة الله.

في هذه الأجواء المظلمة عاش وترعرع ابن ميسون يزيد بعد أن وضعته أمّه في قومها! فلمّا بلغ مبلغ الصبا أخذه ابن هند عنده في دمشق فاشتهر من أوّل شبابه باعتكافه على تعاطي الخمرة والصيد وملاعبة القرود والكلاب...، وهو يرى ابن هند

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢٤: ٤٠٣.

(٢) الحجّ: ٣٨.

١٥

همّه الأكبر محاربة الوصيّ عليّعليه‌السلام وشنّه الغارات منتهكاً حرمة الحرمين الشريفين وتتبّع شيعة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فانطبع ذلك في نفس ابن ميسون وصار همّه التصدّي إلى إمام الهدى سيّد شباب أهل الجنّة الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، ومضى على سيرة سلفه في انتهاك الحرمين، وأطلق لأهل الشأم إباحة مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أيّام، ففعلوا بها ما لم يفعله المغول، فإنّ وزير آخر بني العبّاس (ابن العلقميّ) لمعرفته بالحال وأن ليس لبغداد جيشاً يطمّ عين الشمس مثل الذي كان للمغول الذي اكتسح الأقاليم العظيمة ودوّخ الممالك وهو ماضٍ قدماً نحو بغداد، وحاكمها أسكرته اللّذة تتحكّم به الجواري وجلّهن من العنصر التركيّ، وكذلك كان قادته ممّن لا تجربة له بحرب وغالباً ما كانوا غلماناً! فبكياسته، استطاع (ابن العلقميّ) أن يقنع الحاكم العبّاسيّ بأن يهادن سلطان المغول ويرسل إليه سِفْطَ جواهر وذهب لأنّه يحبّ هذه الأمور؛ فبرد سلطان المغول وطلب أن يفتحوا له بوّابة بغداد فيدخلها من غير قتال، وكاد العبّاسيّ يقنع بذلك لولا حاشية السوء فدخلها المغول عَنَتاً فكانت الدماء. وطلبوا من المسالمين رفع رايات بيضاء على سطوحهم فسلِموا، وحين دخلوا قصر بني العبّاس، أمر القائد بفرز النساء اللاتي لم يباشرهنّ العبّاسيّ فهل فعل هذا أهل الشأم الأبدال وعصائب حقّ معاوية ويزيد وعبدالملك؟!

أم أنّهم لم يقتلوا في وقعة واحدة سوى سبعمائة من حملة القرآن الذي بيع في أيّام ابن هند، فكان ذلك واحدة من بدعه وهي كثيرة!

وفجر الأبدال بألف بِكرٍ فحملن من غير أزواج، وظلّ عارهم يحول دون زواجهنّ! والأمم التي تبجّل صليب نبيّها وآثار الأنبياء الآخرين، فإنّ منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو على تُرعة من تُرَع الجنّة وفي روضة مباركة لا يجوز رفع الصوت فيها ولا

١٦

الجهر بالسوء عندها، إلّا أنّ قادة ابن هند، وبعده ابن ميسون، كانوا يرتقون المنبر الذي شمّ عبقَ النبوّة وكان مدرسة يعلم عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين مناسكهم وعباداتهم ويعظهم ويسمعهم صوت الوحي؛ فكان هؤلاء يفحشون ويشتمون أنصار الله ورسوله ويسمّونهم باليهود.

ونذكر من تلك الغارات بعضاً منها وبإيجاز إذ هي تمهيد لغارات يزيد وأفعاله الشنيعة.

غارة ابن الحضرميّ

وهي أوّل غارة، وكانت سنة ثمان وثلاثين. ومن خبرها: بعد صفّين توجّه ابن النابغة إلى مصر، وبها محمّد بن أبي بكر، فتمكّن معاوية بن حديج من قتله، وظهر ابن هند على مصر، فبعث عبد الله بن الحضرميّ إلى البصرة وقاله له: إنّ جلّ أهلها يرون رأينا في عثمان وقد قتلوا في الطلب بدمه، فهم يودّون أن يأتيهم من يجمعهم وينظم أمرهم وينهض بهم في الطلب بثأرهم ودم إمامهم، فتودّد الأزد فهي سِلمُك ودع عنك ربيعة فلن ينحرف عنك سواهم لأنّهم ترابيّة كلّهم(١) .

وكتب إلى عمرو بن العاص في ذلك، فكتب إليه عمرو يؤيّده على ذلك. فلمّا جاء كتاب عمرو سرّح ابن الحضرميّ إلى البصرة، وأوصاه أن ينزل في مضر(٢) ، ويحذر ربيعة ويتودّد إلى الأزد. فسار حتّى نزل في بني تميم، فأتاه العثمانيّة مسلّمين عليه ومعظّمين له مسرورين به.

فخطبهم فقال: إنّ إمامكم إمام الهدى قتله عليّ بن أبي طالب وقاتلتم من قاتله!

____________________

(١) ترابيّة: نسبة إلى عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي كنّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبا تراب، فكانت أحبّ كناه إليه. وكانت ربيعة عصب جيش أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم الجمل وصفّين والنهروان.

(٢) من المألوف أن يحسد المرء أخاه وابن قومه، فحسدت مضر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصيّ عليّعليه‌السلام فكان ما كان من الحروب، حتّى ليقال إنّ الحروب التي وقعت أيّام الإمام عليّعليه‌السلام : حروب مضريّة ربعيّة!

١٧

فجزاكم الله من أهل مصر خيراً!

فقام إليه الضحاك بن قيس بن عبد الله الهلالي فقال: قبح الله ما جئتنا به وما تدعونا إليه. أتيتنا والله بما أتانا به طلحة والزبير، وإنّهما جاءانا وقد بايعنا عليًّا وبايعاه واستقامت أمورنا فحملانا على الفرقة وضرب بعضنا بعضاً، ونحن الآن مجتمعون على هذا الرجل، وقد أقال العثرة وعفا عن المسيء...، والله ليوم من أيّام عليّ مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير من معاوية وآل معاوية.

واختلفت كلمة الناس بين مؤيّد لدعوة ابن الحضرميّ، وبين معتزل وبين مناهض له مناصر لأميرالمؤمنينعليه‌السلام . وكثرت غاشيةُ ابن الحضرميّ وأتباعه، وكان نازلاً في بني تميم(١) ، فكتب زياد، وكان واليا لأميرالمؤمنينعليه‌السلام على البصرة يعلمه الخبر. فبعث أمير المؤمنينعليه‌السلام أعين بن ضبيعة المجاشعيّ التميميّ إلى البصرة وكتب معه إلى زياد يعلمه أنّه وجّهه إلى قومه ليفرّقهم عن ابن الحضرميّ. فلمّا قدم البصرة اجتمع إليه قومه فوعظهم، ثمّ خرج بجماعة منهم فلقيه جماعة من أصحاب ابن الحضرميّ فناوشوهم ثمّ تحاجزوا. ورجع أعين إلى منزله وتبعه عشرة، فلمّا آوى إلى فراشه قتلوه غيلةً.

فكتب زياد إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام يعلمه الأمر، فبعث أمير المؤمنين جارية بن قدامة التميميّ في خمسين رجلاً من بني تميم وقيل خمسمائة رجل وبعث معه شريك بن الأعور. فلمّا وصل البصرة قام في الأزد فجزّاهم الخير، وقرأ كتاباً كتبه عليّعليه‌السلام إلى أهل البصرة معه يوبّخهم أشدّ التوبيخ ويتوعّدهم بالمسير إليهم إن ألجؤوه إلى ذلك حتّى يُوقع بهم وقعةً تكون وقعة الجمل عندها لَقعةً بِبَعرة(٢) .

____________________

(١) لتميم وقبائل نجد الأخرى قصص! منها تأخّر دخولهم في الإسلام حتّى عام الوفود. وإذ جاؤوا يعرضون إسلامهم فهم يمنّون على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك! ونزل في ذلك تبيان، ومنهم رجال الخوارج.

(٢) لقعة ببعرة: رمي بالبعرة. لاحظ النهاية، لابن الأثير ٤: ٢٦٥ (مادّة: لقع).

١٨

فقال صبرة بن شيمان الحدانيّ، وكان قد أجار زياداً، سمعاً وطاعةً، نحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب، ولمن سالم سلم.

وقام أبو صفرة فقال لزياد: والله لو أدركت الجمل ما قاتل قومي عليًّا، وهو يوم بيوم وأمر بأمر، والله إلى الجزاء بالحسنى أسرع منه إلى المكافأة بالسوء، والتوبة مع الحوبة والعفو مع الندم.

فلمّا أصبحوا، سارت الأزد بزياد، وسار جارية بمن قدم معه ومن سارع إليه من تميم، وانضمّ إليه شريك بن الأعور الحارثي، وما هي إلّا ساعة حتّى هزموا ابن الحضرميّ وألجؤوه إلى دار سنبيل السعديّ فحصروهم فيها يومهم، وأحاط جارية بن قدامة الدار بالنار فحرقها، فهلك فيها إبن الحضرميّ في سبعين رجلاً...(١) .

غارة النعمان بن بشير

سنة تسع وثلاثين وجّه معاوية النعمان بن بشير في ألفي رجل إلى عين التمر، وبها مالك بن كعب، مَسلحةً لعليّعليه‌السلام وما مع مالك إلّا مائة رجل؛ فقاتلهم مالك في العصابة التي معه كأشدّ القتال وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا، وانهزم أهل الشام وتبعهم مالك، فقتل منهم ثلثة نفر، ومضوا على وجوههم(٢) .

وذكر البلاذريّ أنّ عبد الرحمن بن حوزة الأزديّ قتل مع مالك بن كعب يومئذ(٣) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨٥ - ١٩٦، تاريخ الطبريّ ٤: ٨٤ - ٨٦، تاريخ خليفة: ١٤٨، جمهرة النسب: ٣٠.

(٢) تاريخ الطبريّ ٤: ٨٦ - ١٠٢، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ١٢٨ - ١٥١.

(٣) أنساب الأشراف ٣: ٢٠٥ - ٢٠٧.

١٩

غارة سفيان بن عوف الأزديّ

بعد غارة النعمان بن بشير، وجّه معاويةُ سفيان بن عوف بن المغفّل الأزديّ ثمّ الغامديّ، وأمره أن يأتي هيت فيقطعها، ثمّ يمضي حتّى يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها. وحذّره أن يأتي الكوفة وقال له: إنّ الغارة تنخب قلوبهم وتكسر حدّهم وتقوّي أنفس أوليائنا ومنّتهم. فشخص سفيان إلى هيت فلم يجد بها أحداً، ثمّ أتى الأنبار وبها مائة رجل مسلحة لعليّعليه‌السلام عليهم أشرس بن حسّان البكري؛ فقاتلهم حسّان بمن معه على قلّتهم، ثمّ استشهد في ثلاثين من أصحاب عليّعليه‌السلام ، واحتملوا ما في الأنبار من الأموال ونهبوا أهلها ثمّ عادوا إلى الشام. وكان ذلك سنة تسع وثلاثين(١) .

غارة عبد الرحمن بن قباث

بعد غارة سفيان الأزديّ، وجّه معاوية عبدالرحمن بن قباث نحو الجزيرة، وكان كميل بن زياد النخعيّ(٢) وقتها في ناحية قرقيسيا إذ بلغه أنّ قوماً قد أجمعوا على أن يغيروا على هيت ونواحيها، فبينا هو كذلك إذ أتاه كتاب شبيب بن عامر الأزديّ، وكان مقيماً بنصيبين في ستّمائة رجل من أصحاب عليّعليه‌السلام ، يُعلمه خبر ابن قباث، وأنّه لا يدري أيريد ناحيته أو ناحية هيت والفرات، فقال كميل: إن كان ابن قباث يريدنا لَنتلقّينّه، وإن كان يريد إخواننا بنصيبين لنعترضنّه...، فخرج في أربعمائة فارس،

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٠١، الفتوح ٤: ٤٨، تاريخ الطبريّ ٤: ١٠٣.

انظر إلى التباين بين مدرستي الإمام عليّعليه‌السلام ، وبين مدرسة معاوية؛ فعليّعليه‌السلام يمنع من البدء بقتال والإجهاز على جريح وإتّباع مدبر وأخذ شيء من معسكر العدوّ إلّا عدّة الحرب ويمنع من أخذ المال لأنّه لورثته، فكيف ينهب أبرياءٌ، مثل معاوية وجيشه؟!

(٢) من خاصّة أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام . قتله الحجّاج الثقفيّ لذلك. رجال البرقيّ: ٦، رجال ابن داود: ٢٨١، كتاب النسب: ٣١٨، تاريخ خليفة: ٢٢٢، طبقاته: ٢٤٩، الاشتقاق: ٤٠٤ - ٤٠٥، البخاريّ الكبير: ٢٤٣، تاريخ الثقات: ٣٩٨، ثقات ابن حبّان ٣: ٤٦١.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

امْرَأَتَهُ ) (١) .

ومَنَع بعضُ أهل العربيّة من ذلك وأنكره ، قال : لأنّ العامل في الاستثناء الفعلُ الأوّل بتقوية حرف الاستثناء ، والعامل الواحد لا يعمل في معمولين. ونقول في الآية : إنّ الاستثناء الثاني من قوله عزّ وجلّ :( أَجْمَعِينَ ) (٢) .

ونمنع من امتناع تعدّد المعمول مع وحدة العامل هنا ؛ لأنّ الاستثناء مُقوٍّ للفعل ، وبعضهم قال : العامل « إلّا » خاصّةً(٣) ، فلا يرد عليه ذلك.

مسألة ٩٦٢ : يصحّ الاستثناء من الأعيان ، كما يصحّ من الكلّيّات ، فإذا قال : لزيدٍ هذه الدار إلّا هذا البيت ، أو : له هذا القميص إلّا كُمّه ، أو : هذه الدراهم إلّا هذا الواحد منها ، أو : هذا القطيع إلّا هذه الشاة ، أو : هذا الخاتم إلّا هذا الفصّ ، وما أشبه ذلك ، صحّ الاستثناء ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٤) .

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه لا يصحّ ؛ لأنّ الاستثناء المعتاد هو الاستثناء من الأعداد المطلقة ، فأمّا المعيّنة فالاستثناء منها غير معهود ، ولأنّه إذا أقرّ بالعين كان ناصّاً على ثبوت الملك فيها ، فيكون الاستثناء بعده رجوعاً(٥) .

وقد ذكر بعض الشافعيّة أنّه إذا قال : أربعكنّ طوالق إلّا فلانة ، لم يصح هذا الاستثناء ، كما لو قال : هؤلاء الأعْبُد الأربعة لفلان إلّا هذا‌

____________________

(١) الحجر : ٥٨ - ٦٠.

(٢) كما في بحر المذهب ٨ : ٢٤٠ ، وراجع : الاستغناء في أحكام الاستثناء : ٥٧٢ - ٥٧٣.

(٣) راجع : الاستغناء في أحكام الاستثناء : ٥٧٢.

(٤) التنبيه : ٢٧٦ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٢٥١ ، بحر المذهب ٨ : ٢٤٢ ، الوسيط ٣ : ٣٥٥ ، الوجيز ١ : ٢٠١ ، البيان ١٣ : ٤٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٦.

(٥) الوسيط ٣ : ٣٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٦.

٤٠١

الواحد ، لم يصح ؛ لعدم الاعتياد بالاستثناء في الأعيان(١) .

والحقّ : الجواز ، وصحّة الاستثناء في الإقرار بالأعْبُد الأربعة ، فلو قال : هؤلاء العبيد لفلان إلّا واحداً ، فالمستثنى منه معيّن ، والمستثنى غير معيّنٍ ، وهو صحيح عندنا وعند أكثر الشافعيّة(٢) ، ويُرجع إليه في التعيين.

فإن ماتوا إلّا واحداً ، فقال : هو الذي أردتُه بالاستثناء ، قُبِل منه مع اليمين - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٣) - لاحتماله.

والثاني : لا يُقبل ؛ للتهمة ، وندرة هذا الاتّفاق(٤) .

ولو قال : غصبتهم إلّا واحداً ، فماتوا إلاّ واحداً ، فقال : هو المستثنى ، قُبِل إجماعاً ؛ لأنّ أثر الإقرار يبقى في الضمان. وكذا لو قُتلوا في الصورة الأُولى إلّا واحداً ؛ لأنّ حقّه يثبت في القيمة.

ولو قال : هذه الدار لفلان وهذا البيت منها لي ، أو : له هذا الخاتم وفصّه لي ، قُبِل ؛ لأنّه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ ، فكان كالاستثناء.

تنبيه : لو قال : له ثلاثة ودرهمان إلّا درهمين ، صح ، وحُمل على الاستثناء من الجملة الأُولى ؛ لامتناع رجوعه إلى الثانية ؛ لأنّها مستوعبة ، أو على رجوعه إلى مجموعهما(٥) .

ولو قال : له درهمان ودرهمان إلّا درهمين ، فالأقرب : الصحّة ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٧.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢٥٦ ، الوسيط ٣ : ٣٥٥ ، البيان ١٣ : ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٦.

(٣ و ٤) التنبيه : ٢٧٦ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٥٠ ، بحر المذهب ٨ : ٢٥٦ ، الوجيز ١ : ٢٠١ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٤ ، البيان ١٣ : ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٦ ، منهاج الطالبين : ١٤٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٠٥.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مجموعها ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

٤٠٢

ويكون عائداً إلى مجموع الجملتين ؛ لأنّ الاستثناء إنّما يرجع إلى الجملة الأخيرة لو لم توجد قرينة الرجوع إلى الجميع.

آخَر : لو قال : له علَيَّ عشرة آخَر :درهم ، بالرفع ، لزمه العشرة ، وتكون « إلّا » هنا قائمةً مقام « غير » وتكون وصفاً.

ولو قال : ما له عندي عشرة إلّا درهم ، فهو إقرار بدرهم.

ولو نصب ، لم يكن مُقرّاً بشي‌ء.

نكتة : أدوات الاستثناء حكمها حكم « إلّا » فإذا قال : له عندي عشرة سوى درهم ، أو : ليس درهماً ، أو : خلا ، أو : عدا ، أو : ما خلا ، أو : ما عدا ، أو : لا يكون ، أو : غير درهم ، بالنصب ، فهو إقرار بتسعة.

ولو(١) رفع في الأخير ، فهو وصف إن كان عارفاً ، وإلّا لزمه تسعة.

البحث الثاني : فيما عدا الاستثناء.

وفيه مطالب :

الأوّل: فيما يقتضي رفع المـُقرّ به.

مسألة ٩٦٣ : إذا قال : لفلان علَيَّ ألف من ثمن خمر ، أو خنزير ، أو كلب ، فإن فصل بين الإقرار - وهو قوله : علَيَّ ألف - وبين الرافع - وهو قوله : من ثمن خمر ، أو خنزير - بسكوتٍ أو كلامٍ آخَر ، لم يُسمع منه ، ولزمه الألف إجماعاً ؛ لأنّ وصفه بذلك رجوع عن الإقرار.

وإن كان موصولاً بحيث لم(٢) يقع بين الإقرار ورافعه سكوتٌ ولا كلامٌ ، لم يُقبل أيضاً ، ولزمه الألف ؛ لما فيه من الرجوع والتناقض ، وهو‌

____________________

(١) في « ج ، ر » : « فلو ».

(٢) في « ر » والطبعة الحجريّة : « لا ».

٤٠٣

أحد قولَي الشافعيّة ؛ لأنّه وصل بإقراره ما يرفعه ، فلم يُقبل ، كما لو قال : علَيَّ ألف لا تلزمني ، أو فصل قوله : « من ثمن خمرٍ » عن الإقرار ، وبه قال أبو حنيفة(١) .

والثاني للشافعيّة : إنّه يُقبل - وبه قال المزني - ولا يلزمه شي‌ء ؛ لأنّ الجميع كلامٌ واحد ، والكلام يُعتبر بآخره ولا يُبعّض ، ولأنّ الإقرار إخبار عمّا جرى ، وهذه المعاملات على فسادها جارية بين الناس ، فعلى هذا للمُقرّ له تحليف الـمُقرّ أنّه كان من ثمن خمر أو خنزير(٢) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّا نمنع وحدة الكلام.

سلّمنا ، لكن إنّما يتمّ بآخره لو لم يناقض أوّله ، أمّا إذا تناقضا فإنّه يُحكم بما عليه ، لا له.

وعلى ما اخترناه لو قال المـُقرّ : كان ذلك من ثمن خمر وظننته لازماً لي ، فله تحليف الـمُقرّ له على نفيه.

مسألة ٩٦٤ : إذا وصل إقراره بما ينتظم لفظه عادةً لكنّه يبطل حكمه شرعا ، كما إذا أضاف الـمُقرّ به إلى بيعٍ فاسد ، كالبيع بأجلٍ مجهول أو خيارٍ مجهول ، أو قال : تكفّلت ببدن فلان بشرط الخيار ، وقلنا : ثبوت الخيار في الكفالة يقتضي بطلانها ، أو قال : ضمنت لفلان كذا بشرط الخيار ، وأبطلناه به ، وما أشبه ذلك ، فالوجه : بطلان الإضافة ، وصحّة الإقرار والحكم به ،

____________________

(١) الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢١٦ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٧ ، بدائع الصنائع ٧ : ٢١٦ ، الفقه النافع ٣ : ١٢٢٤ / ٩٨١ ، المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٢٢ و ٦٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٨٦.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٨٠ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٥٢ ، الوجيز ١ : ٢٠٠ ، الوسيط ٣ : ٣٤٨ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٩ - ٣٦٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٢ - ٣٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦.

٤٠٤

فإذا قال : له علَيَّ ألف درهم من ثمن مبيعٍ مجهول ، أو بأجلٍ مجهول ، أو بخيارٍ مجهول ، لم يُقبل منه ، ولزمه الألف في الحال.

وللشافعي قولان(١) .

ولأصحابه مأخذان في هذا الخلاف :

أحدهما : بناؤه على القولين في تبعيض الشهادة إذا شهد لشريكه ولأجنبيٍّ.

وقيل : إنّه غير مشابهٍ للمتنازَع ؛ لأنّ الشهادة للأجنبيّ والشهادة للشريك أمران لا تعلّق لأحدهما بالآخَر ، وإنّما قرن الشاهد بينهما لفظاً ، والخلاف فيها شبه الخلاف في تفريق الصفقة ، وأمّا هاهنا فالمذكور أوّلاً مسند إلى المذكور آخِراً ، وأنّه فاسد في نفسه مُفسدٌ للأوّل ، ولهذا لو قدّم ذكر الخمر فقال : لفلانٍ من ثمن الخمر علَيَّ ألف ، لم يلزمه شي‌ء بحال ، وفي الشهادة لا فرق بين أن يقدّم ذكر الشريك أو الأجنبيّ.

ثمّ هَبْ أنّهما متقاربان ، لكن ليس بناء الخلاف في الإقرار على الخلاف في الشهادة بأولى من العكس.

والثاني : إنّه يجوز بناء هذا الخلاف على الخلاف في حدّ المدّعي والمدّعى عليه ، إن قلنا : المدّعي مَنْ لو سكت تُرك ، فهاهنا لو سكت عن قوله : « من ثمن خمرٍ » لتُرك ، فهو بإضافته إلى الخمر مُدّعٍ ، فلا يُقبل قوله ، ويحلف المُقرّ له. وإن قلنا : المدّعي مَنْ يدّعي أمراً باطناً ، قُبِل قول الـمُقرّ ؛ لأنّ الظاهر معه ، وهو براءة الذمّة ، والـمُقرّ له هو الذي يدّعي أمراً باطناً ،

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٣٤٨ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٩ - ٣٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦.

٤٠٥

وهو زوال أصل البراء ة(١) .

وقيل : لو صحّ هذا البناء ، لما افترق الحال بين أن يضيفه إلى الخمر موصولاً أو مفصولاً ، ولوجب أن يخرج التعقيب بالاستثناء على هذا الخلاف(٢) .

قال الجويني بعد ذكر القولين : كنتُ أودّ لو فُصّل بين أن يكون الـمُقرّ جاهلاً بأنّ ثمن الخمر لا يلزم ، وبين أن يكون عالماً ، فيعذر الجاهل دون العالم ، لكن لم يصر إليه أحد من الشافعيّة(٣) .

إذا ثبت هذا ، فلو أقرّ بالكفالة بشرط الخيار وأنكر المكفول له شرط الخيار ، قُدّم قول المُقرّ له عندنا ، وبه قال أبو حنيفة(٤) .

وللشافعي قولان(٥) تقدّما(٦) .

وكذا يجري القولان في كلّ مَنْ وصل إقراره بما يرفعه ، لا من الوجه الذي أثبته ، مثل أن يقول : له علَيَّ ألف من ثمن خمرٍ أو خنزيرٍ أو مبيعٍ هلك قبل قبضه ، أو يقول : قبّضتها ؛ لأنّه وصل إقراره بما يرفعه ، فلم يُقبل منه ، كما لو قال : له علَيَّ ألف إلّا ألفاً.

مسألة ٩٦٥ : إذا قال : له علَيَّ ألف من ثمن عبدٍ لم أقبضه إذا سلّمه‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦.

(٤) بحر المذهب ٨ : ٣٠٠ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٩ - ٣٦٠ ، المغني ٥ : ٢٨٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٩٨.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٥٢ ، بحر المذهب ٨ : ٣٠٠ ، الوسيط ٣ : ٣٤٨ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٩ - ٣٦٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦ ، المغني ٥ : ٢٨٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٩٨.

(٦) آنفاً.

٤٠٦

سلّمتُ الألف ، قال الشيخ(١) رحمه‌الله : إن وصل الكلام ، كان القولُ قولَه مع اليمين وإن أنكر الـمُقرّ له وقال : بل هي دَيْن ، أو قال : قبضتَه.

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : قبول قوله : « من ثمن عبدٍ لم أقبضه » على القولين السابقين ، ففي قولٍ يُقبل ولا يُطالب بالألف إلّا بعد تسليم العبد. وفي قولٍ يؤخذ بأوّل الإقرار ، ولا يُحكم بثبوت الألف ثمناً.

والأصحّ عندهم : القطع بالقبول وثبوته ثمناً ، ويفارق صُور القولين ؛ فإنّ المذكور فيها أخيراً يرفع الـمُقرّ به ، وهنا بخلافه(٢) .

واعلم أنّ الشيخرحمه‌الله قسّم هذه المسألة على ثلاثة أنحاء(٣) :

أ : أن يقول : له علَيَّ ألف من ثمن مبيعٍ لم أقبضه ، متّصلاً بعض الكلام ببعضٍ ، وهذا يُقبل قوله ، وهو أحد قولَي الشافعي ، وقد تقدّم(٤) ، ويكون القولُ قولَ الـمُقرّ مع يمينه.

ولا فرق بين أن يعيّن المبيع بأن يقول : له علَيَّ ألف من ثمن هذا العبد ولم أقبضه ، أو لم يعيّنه ، وبه قال أبو يوسف ومحمّد(٥) .

وقال أبو حنيفة : إن عيّن المبيع قُبل منه ، سواء وصل بإقراره أو فصل ، وإن أطلق لم يُقبل منه ؛ لأنّه إذا أطلق فقد وصل إقراره بما يبطله ؛

____________________

(١) راجع المبسوط - للطوسي - ٣ : ٣٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧ ، البيان ١٣ : ٤٣٨ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٩ ، المغني ٥ : ٣٢١.

(٣) راجع المبسوط - للطوسي - ٣ : ٣٣ - ٣٤.

(٤) آنفاً.

(٥) حلية العلماء ٨ : ٣٥٩ ، البيان ١٣ : ٤٣٨.

٤٠٧

لأنّه مبيع مجهول ، والمجهول لا يلزم فيه الثمن ، كما لو قال : من ثمن خمرٍ أو خنزير(١) .

واحتجّ الآخَرون : بأنّه أقرّ بحقٍّ عليه في مقابلة حقٍّ له لا ينفكّ أحدهما عن الآخَر ، فإذا لم يثبت ما له لم يثبت ما عليه ، كما لو عيّن المبيع(٢) .

وقول أبي حنيفة ليس بصحيحٍ ؛ لأنّ إطلاق الإقرار لا يوجب كونه مطلقاً في البيع.

وأمّا إذا قال : من ثمن خنزيرٍ ، ففيه قولان.

وإن سلّمنا ، فإنّ بيع الخنزير لا يصحّ بكلّ حال ، وهذا المبيع يجوز أن يكون معلوماً حال العقد.

والوجه عندي : عدم القبول مطلقاً.

ب : أن يقول : له عندي ألف ، ثمّ يسكت ، ثمّ قال بعد ذلك : من ثمن مبيعٍ لم أقبضه ، فإنّه لا يُقبل قوله ، ويُقدّم قول المُقرّ له مع يمينه ، فإذا حلف على أنّه ليس على ما ذكر ، استحقّ الألف ؛ لأنّه فسّر إقراره بما يُسقط وجوب تسليمه منفصلاً عنه ، فلم يُقبل ، كما لو قال : قبّضتُها ، وبه قال الشافعي(٣) .

ج : إذا قال : لفلانٍ علَيَّ ألف من ثمن مبيعٍ ، ثمّ سكت ، ثمّ قال بعد‌

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ٢٩٧ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٩ ، البيان ١٣ : ٤٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٤.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢٩٧ ، البيان ١٣ : ٤٣٨.

(٣) بحر المذهب ٨ : ٢٩٧ ، البيان ١٣ : ٤٣٧.

٤٠٨

ذلك : لم أقبضه ، قُبل قوله عنده(١) رحمه‌الله - وبه قال الشافعي(٢) - فإن خالفه الـمُقرّ له ، كان القولُ قولَ الـمُقرّ مع يمينه ؛ لأنّ إقراره تعلّق بالمبيع ، والأصل عدم القبض ، فقُبل قوله فيه.

والأقوى عندي : عدم القبول.

مسألة ٩٦٦ : لو قال : له علَيَّ ألف لا تلزمني ، أو : علَيَّ ألف ، أو لا ، لزمه‌ ؛ لأنّ هذا الكلام غير منتظمٍ ، فلا يبطل به الإقرار.

ويحتمل القبول بأن يكون عليه ثمن مبيعٍ غير لازمٍ ، أو من هبةٍ له الرجوعُ فيها.

ولو قال : له علَيَّ ألف قضيتُه ، لزمته الألف ، ولم تُقبل دعواه في الإقباض.

وللشافعيّة فيه طريقان :

أحدهما : القطع بلزوم الألف ؛ لقرب اللفظ من عدم الانتظام ، فإنّ ما قضاه لا يكون عليه - وهو الذي اخترناه نحن - بخلاف قوله : من ثمن خمرٍ ؛ لأنّه ربما يظنّ لزومه.

والطريق الثاني : إنّه على القولين ؛ لأنّ مثله يطلق في العرف ، والتقدير : كان له علَيَّ ألف فقضيتُه(٣) .

وكذا يجري الطريقان فيما إذا قال : لفلانٍ علَيَّ ألف أبرأني عنه(٤) .

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٣ : ٣٤.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢٩٧ ، البيان ١٣ : ٤٣٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٥.

٤٠٩

ولو ادّعى عليه ألفاً فقال : قد قضيتُه ، فالمشهور : أنّه إقرار.

وجَعَله بعض الشافعيّة بمنزلة ما لو قال : علَيَّ ألف قضيتُه(١) .

تذنيب (٢) : لو قال : كان له علَيَّ ألف ، فالأقرب : اللزوم ، ويحتاج في البراءة إلى البيّنة.

وقيل : لا يُسمع هذا كما لا تُسمع الشهادة به(٣) .

والإقرار بالإقرار إقرار.

مسألة ٩٦٧ : لو قال : لفلان علَيَّ ألف إن شاء الله ، احتُمل بطلان الإقرار ؛ لأنّه تعلّق على المشيئة ، وتعليق الإقرار باطل ؛ لأنّه إخبار عن حقٍّ سابق ولم يجزم به ، وعلّق إقراره على مشيئة الله تعالى ، وهي خفيّة عنّا ، ولأنّ الإقرار إخبار عن حقٍّ سابق ، فيكون المخبر عنه واقعاً ، والواقع لا يعلّق على متجدّدٍ ولا على غيره.

وقيل : إنّه(٤) بمنزلة قوله : له علَيَّ ألف من ثمن خمرٍ ؛ لأنّه لو اقتصر على أوّل الكلام لكان إقراراً جازماً(٥) .

والأقرب : الأوّل ؛ لأنّ تعليق السابق لا ينتظم ، فلا يُقبل تعليقه ، ويلزمه ما أقرّ به ، وبه قال أحمد ، وهو أصحّ قولَي الشافعيّة(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٥.

(٢) في « ج ، خ » : « تنبيه » بدل « تذنيب ».

(٣) راجع : بحر المذهب ٨ : ٢٩٣.

(٤) في « ج ، ر » : « هو » بدل « إنّه ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٥.

(٦) المغني ٥ : ٣٤٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٩٥ ، بحر المذهب ٨ : ٢٦٤ - ٢٦٥ ، البيان ١٣ : ٤٠١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨.

٤١٠

ولو قال : علَيَّ ألف إن شئتَ ، أو : إن شاء فلان ، احتُمل بطلان الإقرار ؛ لتعلّقه على الشرط.

وقال الجويني : إنّه مُخرَّج على القولين ؛ لأنّه نفى بآخر كلامه مقتضى أوّله ، بخلاف قوله : إن شاء الله ، فإنّه يجري في الكلام للتردّد تارةً وللتبرّك أُخرى ، بخلاف التعليق بمشيئة غيره(١) .

ووجّه بعضُ الشافعيّة البطلانَ في قوله : « إن شاء الله ، أو : إن شاء زيد » : بأنّ مثل هذا الكلام قد يطلق للالتزام في المستقبل ، ولهذا يقال : لك علَيَّ كذا إن رددتَ عبدي الآبق ، أو : جملي الشارد ، ويكون ذلك التزاماً في المستقبل(٢) .

وكذا لو قال : لك علَيَّ ألف إن جاء زيد ، أو : قدم الحاج. وكذا لو قال : لك علَيَّ ألف إن شهد لك بذلك شاهدان ؛ لأنّ ذلك كلّه معلّق بشرطٍ.

وكذا لو قال : إن شهد شاهدان بألف فهي علَيَّ ، لم يكن إقراراً.

ولو قال : إن شهد شاهدان فهُما صادقان ، كان إقراراً ، وقد سلف(٣) .

ولو قال : لك علَيَّ ألف إن قبلتَ إقراري ، لم يكن إقراراً ؛ لتعلّقه على الشرط ، بخلاف ما لو قال : هذا لك بألف إن قبلتَ ، فإنّه يكون إيجاباً.

والفرق : إنّ الإيجاب يقع متعلّقاً بالقبول حتى إذا لم يقبل جواباً بطل الإيجاب ، فيصحّ تعليقه ، فأمّا الإقرار فلا يتعلّق بالقبول ؛ لأنّه إقرار(٤) عن حقٍّ سابق.

لا يقال : أليس الـمُقرّ له إذا لم يقبل الإقرار بطل؟

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٥.

(٣) في ص ٢٤٨ - ٢٤٩ ، المسألة ٨٤٢.

(٤) كذا قوله : « إقرار » في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، والظاهر : « إخبار » بدل « إقرار ».

٤١١

لأنّا نقول : إنّما يبطل إذا كذّبه أو ردّه ، فأمّا إذا سكت فالإقرار صحيح غير مفتقرٍ إلى القبول، بل لو كذّب الإقرار أو ردّه لم يكن باطلاً في نفسه ، بل لا يتعلّق به حكم ظاهراً.

هذا إن جوّزنا تعليق الإيجاب بمثل هذا الشرط ، كما هو مذهب بعض الشافعيّة(١) .

مسألة ٩٦٨ : لو قال : له علَيَّ ألف إذا جاء رأس الشهر ، أو : إذا قدم فلان ، قال بعض الناس : إنّه لا يكون إقرارا ؛ لأنّ الشرط لا أثر له في إيجاب المال ، والواقع لا يعلَّق بشرطٍ(٢) .

وقال الجويني : إنّه على القولين ؛ لأنّ صدر الكلام صيغة التزامٍ ، والتعليق يرفع حكمها(٣) .

والوجه عندي : إنّه يرجع إلى استفساره ، فإن قصد تعليق الإقرار بالشرط بطل إقراره ، وإن قصد التأجيل صحّ إقراره ؛ لاحتمال الصيغة لهذين ، ويُسمع كلامه مع اليمين لو أنكر المـُقرّ له.

هذا إذا قدّم الإقرار وأخّر التعليق ، ولو عكس فقال : إذا جاء رأس الشهر ، أو : إن جاء [ فلان ](٤) فعلَيَّ ألف ، لم يلزمه شي‌ء ؛ لأنّه لم تُوجد صيغة التزامٍ جازمة.

نعم ، لو قال : أردتُ به التأجيل برأس الشهر ، قُبل.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٨ ، المجموع ٩ : ١٧٠.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٥٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « رأس الشهر ». والظاهر ما أثبتناه.

٤١٢

وقال بعض الشافعيّة : مطلقه يُحمل على التأجيل برأس الشهر(١) .

واعلم : أنّ المشهور بين الشافعيّة أنّه إذا قال : له علَيَّ ألف إذا جاء رأس الشهر ، إنّه يكون إقراراً ، ولو قدّم الشرط فقال : إذا جاء رأس الشهر فله علَيَّ ألف ، لم يكن إقراراً.

والفرق : إنّه إذا قال : له علَيَّ ألف ، فقد أقرّ بالألف ، فإذا قال : إذا جاء رأس الشهر ، احتُمل أن يكون أراد محلّها ووجوب تسليمها ، وإذا احتُمل ذلك لم يبطل الإقرار ، فأمّا إذا قال : إذا جاء رأس الشهر ، فبدأ بالشرط ، فإنّه لم يُقرّ بالحقّ ، وإنّما علّقه بالشرط ، فلم يكن إقراراً(٢) .

والحقّ أنّه لا فرق بين تقدّم الشرط وتأخّره ؛ لأنّ الشرط وإن تأخّر لفظاً فإنّه مقدَّم معنىً وله صدر الكلام.

واعترض بعض الشافعيّة على قول الفارق بين قوله : « له علَيَّ ألف من ثمن خمر » وبين قوله: « له علَيّ ألف إن جاء رأس الشهر » بأنّ كلّ واحدٍ منهما قد عقّب إقراره بما يرفعه ، فلِمَ كان التعقيب الأوّل باطلاً والثاني صحيحاً؟

وأُجيب : بأنّه يمكن أن يقال : دخول الشرط على الجملة يُصيّر الجملة جزءاً من الجملة الشرطيّة ، والجملة إذا صارت جزءاً من جملةٍ أُخرى تغيّر معناها ، وقوله : « من ثمن خمر » لا يغيّر معنى صدر الكلام ، وإنّما هو بيان جهته ، فلا يلزم من أن لا يبعّض الإقرار عند التعليق - بل يلغى ؛ تحرّزاً من اتّخاذ جزء الجملة جملةً برأسها - أن لا يبعّض في‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢٦٥ ، البيان ١٣ : ٤٠٣.

٤١٣

الصورة الأُخرى (١) .

مسألة ٩٦٩ : لو قال : له علَيَّ ألف مؤجَّل إلى سنةٍ ، فإن ذكر الأجل مفصولاً بكلامٍ غريب أو سكوت ، لم يُقبل التأجيل ، ويثبت الدَّيْن في الحال.

وإن ذكره موصولاً بغير فصلٍ بسكوتٍ ولا كلامٍ البتّة ، فالأقرب عندي : قبول قوله ، كما لو قال : له علَيَّ ألف طبريّة أو موصليّة ، فإنّه يُقبل تفسيره وإن اشتمل على عيبٍ في الـمُقرّ به ، كذا هنا ، ولأنّه ربما يكون الحقّ في ذمّته مؤجَّلاً ولا شاهد له بالتأجيل ، فلو مُنع من الإخبار به ولم يُصدَّق به ، تعذّر عليه الإقرار بالحقّ وعدم تخليص ذمّته بالإشهاد ، فوجب أن يُسمع كلامه توصّلاً إلى تحصيل هذه المصلحة.

وللشافعيّة طريقان كالطريقين فيما إذا قال : له علَيَّ ألف من ثمن عبدٍ لم أقبضه ، أو : علَيَّ ألف قضيتُها.

والظاهر عندهم : القبول - وبه قال أحمد بن حنبل - لأنّ هذا لا يُسقط الإقرار ، وإنّما وصفه بصفةٍ دون صفةٍ.

ولهم قولٌ آخَر : إنّه لا يُقبل ؛ لأنّه وصل إقراره بما يسقط عنه المطالبة به ، فأشبه ما إذا قال : قضيتُها(٢) .

وقد تقدّم الفرق.

وقال أبو حنيفة : إنّه يكون مدّعياً للأجل ، فالقول فيه قول المـُقرّ له مع‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٥ - ٣٣٦.

(٢) الوسيط ٣ : ٣٤٩ - ٣٥٠ ، حلية العلماء ٨ : ٣٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٣١٥.

٤١٤

يمينه ؛ لأنّه أقرّ لغيره بحقٍّ وادّعى فيه حقّاً لنفسه ، فلم يُقبل ، كما لو قال : هذه الدار لزيدٍ ولي سكناها سنة(١) . وعليه أكثر علمائنا(٢) .

وفيه نظر ؛ لأنّ الدَّيْن المؤجَّل أحد نوعي الدَّيْن ، فوجب أن يثبت بالإقرار كالحالّ ، بخلاف ما قالوه ؛ لأنّه هناك أقرّ له بالملك وادّعى عليه عقداً مستأنفاً ، وفي صورة النزاع أقرَّ بدَيْنٍ على صفةٍ ، فقُبل منه ، كما لو قال : من نقدٍ ردي‌ء.

وهذا الخلاف إنّما هو فيما إذا كان الدَّيْن الـمُقرّ به مطلقاً أو مستنداً إلى سببٍ ، وهو بحيث يتعجّل ويتأجّل ، أمّا إذا أسنده إلى جهةٍ لا تقبل التأجيل ، كما إذا قال : له علَيَّ ألف أقرضنيها مؤجَّلةً ، لغا ذكر الأجل إجماعاً.

وإن أسنده إلى جهةٍ يلازمها التأجيل ، كالدية على العاقلة ، فإن ذكر ذلك في صدر إقراره بأن قال : قَتَل عمّي فلاناً خطأً ولزمني من دية ذلك القتل كذا مؤجَّلاً إلى سنةٍ انتهاؤها كذا ، فهو مقبول لا محالة.

ولو قال : علَيَّ كذا من جهة تحمّل العقل مؤجَّلاً إلى وقت كذا ، فللشافعيّة طريقان :

أحدهما : القطع بالقبول ؛ لأنّه كذلك يثبت.

والثاني : إنّه على القولين.

والثاني عندهم أظهر ؛ لأنّ أوّل كلامه ملزم لو اقتصر عليه ، وهو في الإسناد إلى تلك الجهة مُدّعٍ ، كما في التأجيل(٣) .

____________________

(١) بدائع الصنائع ٧ : ٢١٧ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٠٨ ، حلية العلماء ٨ : ٣٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣١٥.

(٢) منهم : الطوسي في الخلاف ٣ : ٣٧٧ ، المسألة ٢٨ ، والحلّي في السرائر ٢ : ٥١٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٦.

٤١٥

تذنيبان :

أ : لو قال : بعتك أمس كذا فلم تقبل ، فقال : بل قبلتُ ، قُدّم قول مدّعي القبول ، على إشكالٍ.

وللشافعيّة قولا تبعيض الإقرار ، إن بعّضوه فهو مصدَّق بيمينه في قوله : قبلتُ(١) .

وكذا الحكم فيما إذا قال لعبده : أعتقتك على ألف فلم تقبل ، أو قال لامرأته : خلعتك على ألف فلم تقبلي ، وقال العبد : قبلتُ. وقالت المرأة : قبلتُ.

ب : لو قال : إنّي أُقرّ الآن بما ليس علَيَّ لفلان علَيَّ ألف ، أو قال : ما طلّقت امرأتي ولكنّي أُقرّ بطلاقها فأقول : طلّقتُها ، فالأقرب : عدم نفوذ إقراره ، والحكم ببطلانه.

وللشافعيّة قولان :

أحدهما : كما قلناه.

والثاني : إنّه كما لو قال : علَيَّ ألف لا تلزمني(٢) .

المطلب الثاني : في تعقيب الإقرار بالإيداع

مسألة ٩٧٠ : إذا قال : لفلان علَيَّ ألف درهم وديعة ، ولم يفصل بين كلامه ، فالأولى القبول ، وبه قال الشافعي(٣) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨ - ٤٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٦ - ٣٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩.

(٣) بحر المذهب ٨ : ٢٦٠ و ٢٨٢ ، البيان ١٣ : ٤٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠ ، المغني ٥ : ٣٠٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٣١٨.

٤١٦

فإن أنكر الـمُقرّ له ، كان القولُ قولَ المـُقرّ مع يمينه ؛ لأنّه أقرّ بما يمكن ، ولا تناقض في قولَيْه ، فكان مسموعاً منه.

وقال أبو حنيفة وأحمد : القول قول المُقرّ له ، ويكون للمُقرّ له أن يطالبه(١) بالألف التي أقرّ ؛ لأنّ « علَيَّ » للإيجاب ، وذلك يقتضي كونها في ذمّته ، ولهذا لو قال : ما على فلان علَيَّ ، كان ضامناً ، والوديعة ليست واجبةً عليه ، فلم يُقبل تفسيره بها(٢) .

ونحن نمنع من عدم وجوب الوديعة ، فإنّه يجب عليه ردّها وحفظها ، وذلك واجب عليه ، فإذا قال : « علَيَّ » وفسّر بها ، احتمل قوله ذلك فقُبِل منه ؛ لأنّه يجوز أن يريد بكلمة « علَيَّ » الإخبار عن هذا الواجب ، ويحتمل أنّه تعدّى فيها حتى صارت مضمونةً عليه ، فلذلك قال : « علَيَّ » وقد تُستعمل « علَيَّ » بمعنى « عندي » كقوله تعالى :( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ) (٣) وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعضٍ ، فيجوز أن تُستعمل « علَيَّ » بمعنى « عندي ».

وقال أبو إسحاق من الشافعيّة : إنّ المسألة على قولين عند الشافعي ، كما لو قال : له علَيَّ ألف قضيتُه(٤) .

مسألة ٩٧١ : لو فصل بين كلاميه ، فقال : له علَيَّ ألف ، ثمّ سكت ثمّ جاء بألف بعد إقراره‌ وقال : أردتُ هذا وهو وديعة عندي ، وقال الـمُقرّ له : هو وديعة ولي عليك ألف آخَر دَيْن وهو الذي أردتَه بإقرارك ، فالأقوى‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة : « المطالبة » بدل « أن يطالبه ».

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢٦٠ ، البيان ١٣ : ٤٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٧ ، المغني ٥ : ٣٠٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٣١٨ و ٣١٩.

(٣) الشعراء : ١٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠.

٤١٧

عندي : إنّ القول قو ل الـمُقرّ مع يمينه - وهو أصحّ قولَي الشافعي(١) - لما تقدّم من أنّ الوديعة يجب حفظها والتخلية بينها وبين المالك ، فلعلّه أراد بكلمة « علَيَّ » الإخبار عن هذا الواجب ، أو أنّه تعدّى فيها فصارت مضمونةً عليه ، فلذلك قال : « علَيَّ » أو أراد : عندي ، على ما تقدّم.

والثاني له : إنّ القول قول المُقرّ له - وبه قال أبو حنيفة وأحمد - فما أتى به وديعة ، وعليه ألف آخَر ؛ لأنّ كلمة « علَيَّ » تقتضي الثبوت في الذمّة(٢) .

وحكى الجويني طريقةً قاطعة بالقول الأوّل(٣) .

لكنّ المشهور إثبات القولين ، وترجيح الأوّل(٤) .

ولو كان قد قال : له علَيَّ ألف في ذمّتي ، أو : له ألف علَيَّ دَيْناً ، وفسّر كما تقدّم ، فإن لم نقبل تفسيره في السابق ، فهنا عدم القبول أولى.

وإن قبلنا هناك ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : يُقبل ؛ لجواز أن يريد : له ألف في ذمّتي إن تلفت الوديعة ؛ لأنّي تعدّيتُ فيها.

وأصحّهما عندهم : إنّه لا يُقبل ، والقول قول المُقرّ له مع يمينه ؛ لأنّ العين لا تثبت في الذمّة ، وكذا الوديعة لا تثبت في الذمّة. ويفارق ما إذا قال : له علَيَّ ألف ، ثمّ فسّرها بالوديعة ؛ لأنّه لم يصرّح بالمحلّ ، واحتُمل أن‌

____________________

(١ و ٢) الحاوي الكبير ٧ : ٤٤ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٥١ ، بحر المذهب ٨ : ٢٦٠ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٥١ ، البيان ١٣ : ٤٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩ ، المغني ٥ : ٣١٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٢٠.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٧.

٤١٨

يكون المراد وجوب الحفظ والردّ ، وهنا صرّح بالذمّة(١) .

إذا عرفت هذا ، فإذا قبلنا منه التفسير بالوديعة فيما إذا قال : له علَيَّ ألف ، ثمّ جاء بألف وقال : هو وديعة عندي ، فإنّه لا يُقبل قوله في سقوط الضمان لو ادّعى التلف ؛ لأنّ الألف مضمون عليه وليس بأمانةٍ ؛ لأنّ قوله : « علَيَّ » يتضمّن الإلزام.

فلو ادّعى تلف الألف التي زعم [ أنّها ](٢) وديعة ، لم يسقط الضمان عنه ، ولو ادّعى ردّه لم يُصدَّق ؛ لأنّه ضامن ، وإنّما يُصدَّق المؤتمن.

فخلص من هذا أنّه لا يُصدّق في دعوى تلفه بعد الإقرار أو ردّه.

وأُشكل عليه : بأنّ كلمة « علَيَّ » كما يجوز أن يريد بها صيرورتها مضمونةً عليه ؛ لتعدّيه ، يجوز أن يريد بها وجوب الحفظ والتخلية ، ويجوز أن يريد بها : عندي ، كما سبق. وهذان المعنيان لا ينافيان الأمانة ، مع أنّ النقل عن الشافعي أنّه إن ادّعى أنّه تلف أو ردّه قبل الإقرار ، لم يُصدَّق ؛ لأنّ التالف والمردود لا يكون عليه بمعنى من المعاني ، وإن ادّعى أنّه تلف بعد الإقرار صُدّق(٣) .

مسألة ٩٧٢ : لو قال : له عندي ألف درهم وديعة دَيْناً ، أو : ألف درهم مضاربة دَيْنا ، فالذي يحتمل ذلك أن تكون الوديعة مضمونةً عليه بأن تعدّى‌ فيها ، وكذا مال المضاربة ، فإن فسّر بذلك قُبِل منه ، وإن قال : أردتُ أنّه شرط علَيَّ ضمانها لم يُقبل ؛ لأنّها لا تكون دَيْناً بذلك.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٤٤ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٥١ ، بحر المذهب ٨ : ٢٦٠ - ٢٦١ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٧ ، البيان ١٣ : ٤٣٣ - ٤٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أنّه ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٣٧ - ٣٣٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩.

٤١٩

فإن قال : عندي ألف وديعة شرط علَيَّ ضمانها ، كانت وديعةً ، ولم تكن مضمونةً بالشرط ؛ لأنّ ما أصله الأمانة لا يصير بالشرط مضموناً ، وكذا ما أصله الضمان لا يصير بالشرط أمانةً ، ألا ترى أنّه لو دفع مالاً على وجه المساومة وشرط أن يكون أمانةً ، لم يصر بذلك أمانةً.

ولو قال : لفلان علَيَّ ألف درهم في ذمّتي ، فجاءه بألف فقال : الألف التي أقررتُ بها كانت وديعةً وتلفت وهذه بدلها ، قُبِل ذلك ؛ لأنّه يجوز أن يكون بتعدٍّ منه أو تفريطٍ ، فيكون بدلها في ذمّته.

ولو جاء بألف فقال : الألف التي أقررتُ بها هذه وهي وديعة لك ، فللشافعيّة وجهان على ما تقدّم(١) .

ولو قال : لك علَيَّ ألف ، ثمّ قال : كانت وديعةً وكانت تلفت قبل إقراري وكنت أظنّ أنّها باقية ، لم يُقبل منه ؛ لأنّه كذّب بهذا إقراره ، فلم يُقبل منه.

فإن قال : ما أقررتُ به كان وديعةً وتلفت بعد إقراري ، قُبِل منه.

ولو قال : له علَيَّ ألف درهم وديعة ، وفسّر إقراره بوديعةٍ موجودة ، قُبِل.

وكذا إذا قال : أقررتُ بوديعةٍ وقد هلكت بعد إقراري ، فالقول قوله مع اليمين. وإن قال : كانت هالكةً حين أقررتُ ، لم يُقبل منه ؛ لأنّ الوديعة الهالكة لا تكون عليه ، فيكون قد أكذب إقراره ، إلّا أن تكون هلكت بتعدٍّ أو تفريطٍ ، فيكون إقراره صحيحاً.

____________________

(١) في ص ٤١٧.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697