شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية8%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202822 / تحميل: 5787
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة ٤٠ إلى ٥١ الهجرية الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

غلام ثَقيف: إبنُه القاعد عن بيعة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وكان موادعاً لا يُخشى جانبه ولذا لـمّا أوصى ابن هند يزيداً حذّره الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحذّره تربّص ابن الزبير وطمأنه جانب عبد الله بن عمر الذي راح ضحيّة حسد الطاغية ابن أمّ الحجاج.

وليس هنا مقام العرض للأبناء والمستلحقين ممّا تزكم منه الأُنوف، ويبقى اسم صَهّاك مجهولاً لكثير ولا يعلم أنّها من ذوات الرايات! ولكن يثور أمامنا من جديد: أفعال خالد المخزوميّ وخزاياه إذ يقتل المؤمنين ويجعل من رؤوسهم أثفيةً، أي وقوداً، يطبخ عليها عشاءه ويدخل بزوجة الرجل الشهيد الصالح (مالك بن نُوَيْرة) ليلة قتله زوجها!! وإعراسه وهو في طريقه لتوسيع ملك سلطان أبي بكر؛ واستبدال عمر القيادة بقيادة جديدة وتسليط بني أميّة مع ما سمعه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلعنهم ووجوب قتل معاوية إذ اعتلى المنبر، فهل عقمت أرحام النساء أن يلدن من هو أفضل من معاوية مولداً وديناً.

قال ابن عساكر: لـمّا ولّى عمر بن الخطّاب يزيد بن أبي سفيان ما ولاّه من أمر الشأم، خرج إليه معاوية، فقال أبوسفيان لهند: كيف رأيت ابنك صار تابعاً لابني. فقالت: إن اضطرب حبل العرب فستعلم أين يقع ابنك ممّا يكون فيه ابني.

ذكرنا هذا المقطع عرضاً ونعيده في التحقيق في نسب معاوية وتذكيراً للقارئ الكريم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) صدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد خالف معاوية هذا الحكم في استلحاقه ابن سميّة زياداً ونصب لذلك شهوداً اشتهروا بالقيادة - الجمع بين الرجل والمرأة في حرام - وفسّاق فجّار شهدوا له أمام أهل الشأم أنّ زياداً أخاه، وكان في كلام أبي مريم السّلوليّ أنّ أباسفيان وهو في سفر طلب أن يأتيه بامرأة، فقال: لا أعرف الآن إلّا سميّة وكانت من ذوات الرايات، فقال

١٢١

ائتني بها، فجاء بها سوداء، فلمّا أصبح سأله أبو مريم وكان خمَّاراً فأجابه كنت فيها في راحةٍ على ذَفَرٍ في إبطَيها. ثمّ وقع عليها مرّة أخرى مع رجال سنذكرهم فحملت فاختصموا فيه فقالت: إنّه من أبي سفيان، فلمّا قيل لها إنّه شحيح أي بخيل، قالت ولكنّه سيّد قومه. وبعد الاستلحاق صار زياد وولده يُسمّون بنو أبي سفيان! ولم يسأله أهل الشأم: أين كان قبل إذ كان يُدعى ابن عُبيد، وابن عبد علاج، وابن أبيه؛ والآن فهو أخوك؛ فإن لم نكن مسلمين فنحن عرب أحرار فأبى أن يحكمنا مطعون في نسبه ويستلحق ولد الزنا فنكون سُبّةً للآخرين؟!

ثمّ إنّ قول صخر بن حرب لهند: (كيف رأيت ابنك صار تابعاً لابني؟!) وثيقة صادقة صادرة من داخل البيت، وأهل البيت أدرى بما فيه! ففيها نفي لأبوّة صخر - أبي سفيان - لمعاوية، وإثبات لأبوّة صخر ليزيد بن أبي سفيان، وأمّه غير أمّ معاوية.

ونذكّر أنّ عمر لـمـّا مات يزيد بن أبي سفيان، استخلف معاوية بن هند مكانه وبسط سلطانه، فجاء هذا إلى المدينة فبدأ بعمر فسأله عمر: هل بدأت بأحد؟ فقال بك بدأت؛ قال: إبدأ بهند.

حُكمُ معاوية في ولد الفراش

ولمّا كان معاوية تعتمل في نفسه عُقدة النقص وتصرعه مشاعر وضاعة النَّسب، وكانت أُمُّه التي يفاخر بها ويسبق الآخرين بقوله: أنا ابن هند، ولكثرة ما خوطب بذلك، وما قاله هو عن نفسه؛ لا أستحضر الآن أنّه قال: أنا ابن أبي سفيان. فكان إذا تقدّم إليه مختصمان في قضيّة نسب وإستلحاق، ألحق المختصم فيه بالعاهر (الزاني) مخالفاً بذلك سنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القاضية (الولد للفراش وللعاهر الحجَر).

١٢٢

والغريب في الأمر، ما نقل عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، وفي أهل أُحُد ما بقي منهم أحَد، وفي كذا وفي كذا، وليس فيها الطليق ولا لولد الطليق ولا لمسلمة الفتح شيء(١) .

أما لم خرج عمر عن رأيه هذا وهو العبقريّ فسلّط الطّلقاء، واختار من بينهم من لعنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وسعى هو جاهداً لدثر إسم رسول الله (إلاّ دفنا دفنا - في جوابه للمغيرة، مضى)؛ فإنّه هنا أفصح لأهل العراق - وهم يعلمون نيّته، إلّا أنّه أراد أن يتشفّى، لِمَ حاربهم؟ فهم لا يندرجون تحت عنوان للخروج، وهم أهل دين يصلّون ويحجّون ويؤدّوا الفرائض الأخرى؛ فهذه أمور ليس لها معيار في ميزان ابن هند، وهذه لو لم يات بها أهل الشأم لا يحاسبهم عليها، وكيف يصنع وهو في كنفهم وهم يده الضاربة؟! ثمّ ماله وللفرائض وهو أوّل من خالف السّنّة فعمد أوّلاً إلى المنع من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اقتداءً بعمر كما ذكرنا في موضعه، وأوّل من صلّى جالساً؛ وأحدوثات معاوية كثيرة ذكرناها.

وذكرنا أنّ عمر بن الخطّاب كان مفتتناً بمعاوية، يسمّيه كسرى العرب! وعمر كان تاجراً ولذا تأخّر إسلامه إلى ما بعد (٤٥) نفر أو يزيد ممّن دخلوا الإسلام، وكان لإسلامه قصّة ملخّصها أنّه سمع أنّ أخته وزوجها قد أسلما، فاستشاط غيظاً وذهب في سورة غضبه فوجدهم يقرؤون قرآناً فصفع خدّ أخته فأدماه وكاد أن يفتك بصهره لولا أن حالت أخته بينه وبين زوجها، وقذف الله الرحمة في قلبه فهداه.

أقول: وكان أبوسفيان تاجراً وتجارته إلى أرض الشأم ومصر، فلعلّ عمر عرف لهذا البيت ما لم يعرفه غيره إلّا أنّ العقبة هي في موقف هذا البيت من الإسلام

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ٤٢.

١٢٣

والمسلمين؛ وإنّ من شروط الحاكم أن يكون صريح النسب، وقول عمر: إنّ هذا الأمر لا يكون في طليق أو ابن طليق ولا مسلمة فتح! فهذه أمور غريبة نعرض عنها ونرجع لنفرغ من شأن (طيبة مدينة الرسول المنوّرة).

دعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمدينة بركتين

عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (أللّهم بارك لنا في صاعنا ومدّنا واجعل مع البركة بركتين)(١) .

وبسند عن أبي هريرة قال: كان الناس إذا رأوا أوّل الثّمر جاؤوا به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا أخذه رسول الله قال: (أللّهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدّنا، أللّهم إنّ إبراهيم عبدك وخليلك ونبيّك وإنّي عبدك ونبيّك، وإنّه دعاك لمكّة وإنّي أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكّة ومثله معه، ثمّ يدعو أصغر ولد له فيعطيه ذلك الثمر)(٢) .

وبسند آخر وبلفظ مغاير قليلاً عن السابق، عن أبي هريرة أيضاً: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤتى بأوّل الثمر، فيقول: (أللّهم بارك لنا في مدينتنا وفي ثمارنا وفي مدّنا وفي صاعنا بركةً مع بركة) ثمّ يعطيه أصغر من يحضره من الولدان(٣) .

وهكذا تجد المبعوث رحمةً للعالمين إذا دعا لثمر، جمع في دعائه، ودعاؤه مجاب عند الله تعالى، بين الدعاء لثمر المدينة والمدينة، وأضاف المدينة إلى نفسه (مدينتنا)؛ فالمدينة هي مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ عليًّا هو نفس رسول الله في آية المباهلة؛ وابنته سيّدةُ

____________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١٤٨ - ١٤٩.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٤٦.

(٣) نفس المصدر السابق.

١٢٤

نساء العالمين وزوج سيّد العرب عليّ فاطمة الزهراء نساؤه في الآية أيضاً، وابناها سيّدا شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ابناء النبيّ في الآية أيضاً؛ ولذا هي مدينة هذه الوجوه المقدّسة التي نذكرها في التشهد في الصلاة ولو ذكرنا وأشركنا غيرهم لبطلت صلاتنا مثل أيّ مبطل للصلاة. ومن ثمّ فهي مدينة السابقين من المهاجرين والأنصار. والمدينة عزيزة على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيدعو لها بالخير والبركة والسلامة، ويدعو لأهلها بكلّ خير، ولثمرهم بالنّماء وأن يجعل الله تعالى فيه ضعفي البركة في ثمر مكّة بيت الله! ويدعو الله تعالى بمعاجلة من أراد بها سوءاً.

حمى المدينة

وتستبين عِظَمُ حرمة المدينة من توسيع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حماها فليس لآثم مهما تدرّج في الوَضاعة! أن يحيف ويجتاز حمى رسول الله فيقلق الآمنين بذلك الحمى.

عبد الرزّاق حدّثنا معمر عن الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال: حرّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بين لابتي المدينة. قال أبو هريرة: فلو وجدت، وفي لفظ: رأيت الظّباء ترتع(١) بالمدينة، وفي لفظ: ما بين لابتيها، ما ذعرتها(٢) وجعل اثنى عشر ميلاً حول المدينة حمىً(٣) .

وأبو سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: (إنّي حرّمت ما بين لابتي المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة)؛ قال أبو سعيد: ثمّ كان أحدنا يأخذ الطّير فيفكّه من يده ثمّ يرسله(٤) .

____________________

(١) ترتع: ترعى، وتسعى وتبسط.

(٢) ذعرتها: أفزعتها.

(٣) صحيح مسلم ٥: ١٤٥.

(٤) نفس المصدر السابق: ١٤٩ - ١٥٠.

١٢٥

الظّباء ترتع، فترعى، وتسرح وتنبسط وتسعى، فلا تَوْجَل إذ لا مُسْرِف يقظّ مضجعها؛ ولا حسود حقود لجوج أخفش العينين ممسوح الجاعرتين يتقرّب بها طاغية الشأم، والحِمى اثنى عشر ميلاً خارج المدينة، والبركة مرّتين ممّا هي بمكّة، والقبائل هي آوت ونصرت وليست التي قاتلت الإسلام حتّى كان النصر والفتح المبين وتهاوت آلهتهم تحت ضربات المحاجن والفؤوس.. دعنا من مسرف، والحجّاج وأهل الشأم الذين ندبهم عمر ليستعدّوا لأهل العراق، ولنذكر شيئاً من صنيع ابن هند بأهل المدينة الحرام وإن كنّا قد ذكرنا شيئاً في مبحث الغارات، وشيئاً نظيراً لـمـــا نذكره هنا، فإنّما هي الجراحات التي حلّت بأطهر بيوت الله (أهل البيتعليهم‌السلام ) والذي جرى لهم ولشيعتهم شيعة النبيّ والقرآن! وحتّى عصرنا الحاضر فهم هدف لكلّ غائر العينين أخفشهما ناتئ الوجنتين قذفته نجد من رحمها ليكون مفتي مكّة وشغله الشاغل تكفير الشيعة ووجوب قتلهم وتفجير مساجدهم فباع أتباعهم أنفسهم للشيطان بلا ثمن إلّا الجحيم الخالد إذ يفجّرون أنفسهم وسط الأبرياء من المصلّين وفي الأسواق...؛ وتجرّأ أعراب نجد بشتيمة سادة أهل الجنّة فالويل لهم إذ خصمهم الله ورسوله وخير البريّة، جمع الله بينهم وبين من يحبّون: يزيد، وقد كتبوا عن أمجاده وإمارته وحقّه في قتل الحسينعليه‌السلام ، ومسرف والحجّاج ومعاوية ومن مهّد لذلك.

قال الشعبيّ: لـمّا قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقّته رجال من قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعزّ نصرك وأعلى أمرك. فما ردّ عليهم جواباً! حتّى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أما بعد فإنّي والله ما وليت أمركم حين وليته إلّا وأنا أعلم أنّكم لا تسرّون بولايتي ولا تحبّونها، وإنّي لعالم بما في نفوسكم، ولكنّي خالستكم بسيفي هذا مخالسةً، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي

١٢٦

قُحافة فلم أجدها تقوم بذلك، وأردتها على عمل ابن الخطّاب فكانت عنه أشدّ نفوراً، وأردتها على سُنيَّات عثمان فأبتْ عليّ، وأين مثل هؤلاء؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممّن بعدهم، غير أنّي قد سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة ولكم فيه مثل ذلك. ولكلٍّ فيه مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم، فأنا خيركم لكم؛ والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدّم ممّا قد علمتموه فقد جعلته دَبْرَ أُذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقّكم كلّه فارضوا منّي ببعضه، فإنّها ليست بقائبةٍ قُوبَها(١) ، وإنّ السيل إذا جاء يَتْرى وإن قلّ أغثى... وإيّاكم والفتنة! فلا تهمّوا بها فإنّها تفسد المعيشة وتكدّر النعمة، وتورث الاستئصال!(٢)

فلا عتب على الحجّاج ولا على يزيد ومسرف؛ فهذا ابن هند وقد تلقّته وجوه قريش مهنّئةً له وداعية، فلم يقيم لها وزناً ولم يردّ جواباً، وقصد المسجد الذي استمدّ قدسيّته لقربه من حضرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولدعاء النبيّ لمن صلّى فيه مزيداً من الخير والبركة. ثمّ اعتلى المنبر الذي كان مدرسةً للمسلمين، يجلس عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّمهم صلاتهم كيف يؤدّونها وأحكام دينهم...، وكان الصحابة يتبرّكون بهذا المنبر يقبّلون جوانبه ويمسحون أيديهم برمّانته ثمّ يمسحون بها وجوههم. وهو ليس من عرض المنابر، فهو في روضة من رياض الجنّة - سنأتي على الروايات في ذلك -، فصار منبراً لمن يكذب على رسول الله ومن كذب عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد تبوّأ مقعده من النار! واصدار أوامر الغصب والظلم، ويأكل عليه الولاة الفجرة ويهزؤون برسول الله

____________________

(١) لغة تهديد! ومعناه أنّ الطير إذا فارق بيضته لم يعد إليها.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ٤٥. (ما هذه اللهجة الجافية الحادّة لغة الوعيد بالاستئصال الذي يعني الإبادة العامّة؟!).

١٢٧

ويعلون عليه شأن الزنادقة ويطرحون النوى في وجوه أشراف أهل المدينة وينحرونهم صبراً....

وليت ابن هند إذ لم يردّ على وجوه قريش وقد استقبلوه، أن يتأدّب بحضرة رسول الله فيقول خيراً؛ فإنّه راح يكيل التّهم للمجتمعين وينعتهم بالنفاق! وإنّه تسلّط عليهم بالسيف وهم كارهون، ويتوعّدهم أشدّ الوعيد إن ثارت فيهم فتنة، فمصيرهم الاستئصال، وهي لغة غاية البعد في التهديد أي لا يبقى منهم أثراً! والحال لم يقع منهم بعد شيء ولا دخلوا في خلاف. ويرتفع العجب إذا تذكّرنا دائماً غاراته التي بعثها من قبل وأمر قادته أن يرجفوا بأهل الحرمين خصوصاً أهل المدينة حتّى يشعروا أنّه موقع بهم، وأن يبسط لسانه عليهم ويغلظ في القول لهم.

هذا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أنزل المدينة منزلة مكّة المكرّمة ودعا لها بالبركة ضعف ما دعا لمكّة ولعن من أحدث بها حدثاً أو آوى محدثاً ولقد دعا إبراهيم الخليلعليه‌السلام ربّه من أجل مكّة:( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ) (١) الآية.

عن سهل بن حنيف قال: أهوى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده إلى المدينة فقال: (إنّها حرم آمن)(٢) .

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أللّهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكّة من البركة)(٣) .

____________________

(١) البقرة: ١٩.

(٢) صحيح مسلم ٥: ١٥٠.

(٣) نفس المصدر السابق: ١٤٣.

١٢٨

دعاؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنقائها

عن عائشة قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أللّهم حبّب إلينا المدينة كما حبّبت مكّة أو أشدّ، وصحّحها وبارك لنا في صاعها ومدّها وحوّل حمّاها إلى الجحفة)(١) .

فتراهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تارةً يدعو الله تعالى أن يجعل بركته على المدينة ضعفي بركته على مكّة؛ وأخرى يسأل الله تعالى أن يحبّب المدينة إليه وإلى المؤمنين أشدّ من حبّهم مكّة، وهذا لا يكون إلّا بوفرة الغذاء وهذا ما حصل إذا صارت المدينة حاضرة الدولة الإسلاميّة وإليها تُجبى الأموال والأرزاق من مختلف البلدان؛ وبنقاء هوائها والبركة في الرزق.

أمّا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وحوِّل حمُّاها إلى الجُحفة) قال الخطابي وغيره: كان ساكنوا الجحفة في ذلك الوقت يهوداً، ففيه دليل للدعاء على الكفّار والأعداء بالأمراض والأسقام والهلاك وفيه الدعاء للمسلمين بالصحّة وطيب بلادهم... وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ الجحفة من يومئذ مجتنبة ولا يشرب أحد من مائها إلّا حُمَّ(٢) .

تسمية المدينة المباركة

في خبر طويل فيه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّما المدينة ُكالكِير تَنفي خَبَثَها ويَنْصَعُ طَيِّبُها)(٣) .

وزيد بن ثابت عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (إنّها طَيْبةُ، يعني المدينة وإنّها تنفي الخبيثَ كما تنفي النارُ خَبضثض الفِضّة)(٤) .

____________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١٥٠.

(٢) هامش صحيح مسلم ٥: ١٥٠ من تفسير النووي.

(٣) نفس المصدر السابق: ١٥٥.

(٤) نفس المصدر السابق: ١٥٦.

١٢٩

وعن جابر بن سَمُرَةَ قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: (إنّ الله تعالى سمّى المدينة طابَةَ)(١) .

اسمها في القرآن الكريم: (المدينة). وقد سمّاها الله تعالى كما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (طابَةَ).

وهي عند رسول الله (طيّبة) و (طيبة) والمدينة. وهي حرام آمن يأمن فيها الطّير، والظّباء، ولا تخبط شجرتها. وهي عند بني أميّة (نتنة) و (أخبث بلد).

وأهلها: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيت العصمةعليهم‌السلام والسابقون من المهاجرين والأنصار، وأمّهات المؤمنين. وهم عند بني أميّة عظام وَرْمَةً - أي بالية، ويهود أبناء يهود...، ومن أفضل الأعمال وأزكاها قتل أهل المدينة.

فضل الصلاة بمسجد المدينة

ولمسجد المدينة فضل ومنزلة متسبّبة من تشريف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك المسجد، وانتساب المسجد إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكما أنّ المدينة بلد حرام لتحريم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها، ومكّة حرام حرّمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، وكان الذي بنى الكعبة هو نبيّ الله، أبو البشر آدمعليه‌السلام ، ثمّ اندرست معالمها؛ حتّى بناها إبراهيم النبيّ خليل الرحمنعليه‌السلام ؛ ودعا الله تعالى لها بالحرمة والبركة فاستجاب الله تعالى دعاءه، فصارت حرمتها تنسب إلى النبيّ إبراهيم، فإضافةً إلى رفعه لقواعدها المندرسة، صار معها مقام لم يكن هو مقام إبراهيم، وأضيفت مناسك ظاهراً لم تكن موجودة في حجّ آدمعليه‌السلام ؛ ولأجله قرن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحريمه للمدينة وتبريكه عليها بحرمة مكّة، تعظيماً لها وسدّاً لباب الذريعة لأيّ عدوان عليها؛ وردّ تحريم مكّة إلى دعاء إبراهيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم يسبق

____________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١٥٦.

١٣٠

إبراهيم في الدعاء في ذلك أحد؛ فمكّة بقعة مباركة ملعون من هتك حرمتها، وكذلك المدينة وإلاّ فإنّا نجد مساجد محترمة مقدّسة جاء فيها ما يدلّ على منزلتها ولم تسلم من يد العدوان!

وقبل الإشارة إلى هذه المساجد، نذكر بعض ما أورده ابن عساكر في (تاريخ دمشق) وهو يتحدّث عن فضائل دمشق والشأم وأهلها، وقد أطنب في الإطراء في ذلك؛ بيد أنّ الواقع أملى نفسه في هذا الفصل الطويل: فقد ذكر أنّ معاوية سأل عبد الله بن الكوّاء عن أهل الشأم؟ قال: أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم لخالق، ولا يحسبون للسماء ساكناً(١) .

وقد سبق ابن النابغة في تشخيص هذا الحال لأهل الشأم في شعره لابن هند. قال: وفي حديث آخر: أطوع الناس لمخلوق في معصية الخالق، وأجرؤهم على الموت لا يُدرى ما بعده دمشقيُّهم يشتمل ولا يدري، وحمصيّهم يسمع ولا يعي(٢) .

قال: والمراد في هذه الحكايات ما كان عليه أهل الشأم من طاعة أئمّتهم وأمرائهم، واقتدائهم في الفتن والحروب بآرائهم، من غير نظر في عواقب الفتن كما فعلوا في سالف الزمن من قتالهم عليّ بن أبي طالب، وهو الإمام المرتضى، وفعلهم يوم الحرّة، وحصار ابن الزبير(٣) .

أسفاً عليك يا ابن عساكر! وأين فعلتهم الشنيعة وجريمتهم العظمى في قتلهم ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الحسين سيّد شباب أهل الجنّةعليه‌السلام وآل بيته وصحبه الكرام؟ أم أنّك

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ١: ١٣٥.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٣٦.

(٣) نفس المصدر السابق.

١٣١

عن قصد كما رأينا في موسوعتك (تاريخ دمشق) إذ ترفع من أهل الشأم كثيراً، لابدّ وأن تقرن بهم أهل الكوفة ولكن تنقيصاً وتنزيلاً؛ ولا أدري ينتابك السهو كما انتاب المغيرة بن شعبة، وابن النابغة، وابن هند، إذ صدحوا بفضل ومَجْد أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ فأنت كذلك تصدح في مؤلّفك هذا بفضل الكوفة وأهلها وتذكر نقائص أهل الشأم؟!

يا ابن عساكر: إنّ الناقص الذي أمر بقتل الحسينعليه‌السلام لم يكن مقرّه الكوفة وإنّما دمشق التي أرّخت لها؛ ومن مدن الشأم خرج اثنا عشر ألف، وبعضهم يقول أكثر من ذلك، وضمّ إليهم كما ذكرنا سابقاً الحمراء من أبناء خراسان وخوارج وعثمانيّة الكوفة لقتال الحسينعليه‌السلام . فالذين قتلوا الحسينعليه‌السلام حقيقةً هم أهل الطاعة العمياء! ولقد ذكرت في ترجمة يزيد فقلت: (وخرج الحسين بن عليّ إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيد، فكتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد، وهو واليه على العراق: إنّه قد بلغني أنّ حسيناً سار إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت من بين العمّال، وعندها تعتق أو تعود عبداً. فعندها قتله عبيد الله وبعث برأسه إلى يزيد...)(١) .

ويزيد الذي أوقع بأهل المدينة، بعث إليهم مسلم بن عُقبة المرِّيّ (طبعاً في أهل الشأم!) فأصابهم بالحرّة(٢) .

وهنا لم تذكر فعلتهم الثالثة (حصار ابن الزبير)! وفي قتل الحسينعليه‌السلام اكتفيتَ بقولك: قتله عبيد الله.

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢٨: ١٩.

(٢) نفس المصدر السابق.

١٣٢

قال: وعن النعمان بن المنذر الغساني قال: كنت مع مكحول - الشاميّ - قال: فأتاه فتيان من أهل العراق فجعلوا يسألونه؛ فجعل يخبرهم؛ قال: فقالوا له: عمّن ومن حدّثك؟ قال: فنشط لهم مكحول، فجعل يُسند لهم، فلمّا تهيّأ قيامه ضحك، ثمّ قال: هكذا ينبغي لكم يا أهل العراق، لا يصلحكم إلّا هذا، وأمّا أصحابنا هؤلاء أهل الشأم فيأخذون كما تَيسَّر. قال: ثمّ قام(١) .

قال الأعمش: كنّا إذا جاءنا الحديث وأنكرناه قلنا: شاميّ!(٢)

ممّا تقدّم يدخل في صفة مجتمع هو تربية ابن هند الذي علّمهم الطاعة من غير نظر في عواقب فتنه، وأمّا أهل العراق فإنّهم أهل علم، فكثير منهم يحجزه علمه عن الحركة ويسأل أن لماذا هذه الحرب مع علمهم أنّهم مع إمام مفترض الطاعة. ومع غيره فلا تخدعهم الأسماء فلا يأخذوا الحديث والرواية حتّى يسألوا عن السند فينظروا فيه، ولذلك مدحهم مكحول الشاميّ وقوله: (هكذا ينبغي لكم يا أهل العراق) إنّما يعني أنّكم أهل علم لا يقاس بكم من يأخذ الشيء جاهزاً كما وصل إليهم. وقوّى هذا المعنى الأعمش الذي ذهب بعيداً فجعل منبع الأحاديث المنكرة (شآميّة)، ويعني بذلك المدرسة الأمويّة.

وأخرج ابن عساكر، عن سليمان بن يَسار قال: كتب عمر بن الخطّاب إلى كعب الأحبار أن اخترلي المنازل فكتب إليه:

إنّه بلغنا أنّ الأشياء اجتمعت فقال السخاء: أريد اليَمن، فقال حسن الخُلُق: أنا معك. وقال الجَفاء: أريد الحجاز، فقال الفقر: وأنا معك، وقال البأس: أريد الشأم،

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ١: ١٣٧.

(٢) نفس المصدر السابق.

١٣٣

فقال السيف: وأنا معك. وقال العلم: أريد العراق، فقال العقل: وأنا معك. فاختر لنفسك يا أميرالمؤمنين. فلمّا ورد الكتاب على عمر بن الخطّاب قال: فالعراق إذاً، فالعراق إذاً(١) .

إنّ اختيار عمر بن الخطّاب العراق بعد الذي سمعه من وصف كعب الأحبار، ربّما كان قبل حصب أهل الكوفة واليهم ودعوة عمر أهل الشأم ليستعدّوا لأهل العراق ودعائه بتعجيل تسلّط كذّاب ثقيف ومبيرها الحجّاج بن أمّ الحكم على العراق، ولعلّه جاء بعد حين من الزمن هدأت فيه ثائرة عمر وحنقه على العراق، وسمع كلام كعب الأحبار الذي هو موضع ثقة لدى عمر، ومعاوية؛ إذ عنده كثير من أخبار اليهود وقصصهم.

وعن أنس بن مالك، في خبر طويل هذا بعضه: (وقال ملك السيف: أنا أسكن الشأم، فقال له ملك البأس: أنا أسكن معك. وقال ملك الغنى: أنا أقيم هاهنا - العراق - فقال له ملك المروءة أنا معك. فقال ملك الشرف: وأنا معكما، فاجتمع ملك الغنى والمروءة والشرف بالعراق(٢) .

وذكر الخطيب البغدادي، قال: (إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر أهل العراق وقال: أوحى الله تعالى إلى إبراهيمعليه‌السلام : إنّي جعلت خزائن علمي فيهم وأسكنت الرحمة قلوبهم)(٣) .

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ١: ١٣٣. وذكره الخطيب البغداديّ مثلما في تاريخ دمشق، وزاد عليه بسنده عن عمر أنّه قال: (أهل العراق كنز الإيمان، وجمجمة العرب وهم رمح الله يحرزون ثغورهم ويمدّون أمصارهم). تاريخ بغداد ١: ٢٥.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ١: ١٣٤.

(٣) تاريخ بغداد ١: ٢٥.

١٣٤

فضل الكوفة

وتتفاوت البقاع في الفضل للأسباب والخصوصيّات التي اختصّ بعضها دون بعض. فبيت الله الحرام ولوجود الكعبة المشرّفة فهو أفضل البقاع يَفده الحاجّ من أدنى الأصقاع وأقصاها يحيون سيرة الأنبياء من لدن آدم، وإبراهيم وانتهاءً بالنبيّ الخاتم عليهم صلوات الله وسلامه؛ وحرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، المدينة المنوّرة، فمن تمام الحجّ زيارة النبيّ ومن لم يزره فقد جفاه، ومن زاره كان كمن زاره في حياته، والصلاة في مسجده أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلّا المسجد الحرام، وفي لفظ فيما سواه - من غير المساجد -، خرّجه مسلم من طرق عدّة(١) ، وشرف مسجده مُستمَدّ من كونه يفضي إلى قبره، وقبره روضة من رياض الجنّة.

ومن البقاع المباركة المسجد الأقصى بيت المقدس، فهو مهبط الوحي ومقرّ الأنبياء وذلك هو قول الله عزّ وجلّ:( سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى‏ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى‏ الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) (٢) الآية.

وللكوفة فضلها ومنزلتها

الكوفة حاضرة الإسلام ومركز الإشعاع الفكري الإسلامي والحضاري مذ مُصّرت في صدر الإسلام وحتّى عصرنا، ضمّ مسجدها عدداً وفيراً من الأنبياء وشهد جلسات أمير المؤمنينعليه‌السلام يعض ويقضي وحوله الأماثل: سبطا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبدريّون وبقايا المهاجرين والأنصار. ومن الكوفة انطلقت جحافل المؤمنين لنصرة

____________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١٦٢ - ١٦٤.

(٢) الإسراء: ١.

١٣٥

الحقّ، فقاتلوا مع الإمام عليّعليه‌السلام أصحاب الجمل، وقاتلوا معه خوارج الشام القاسطين أصحاب ابن هند؛ ومضوا على عهدهم فقاتلوا معهعليه‌السلام الخوارج المارقين، يوم النهروان.

وفي مسجد الكوفة استشهد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ضربه الخارجيّ ابن ملجم المراديّ، وهو ساجد في صلاة الفجر، لعن الله ابن ملجم. ودفن أمير المؤمنين بظهر الكوفة التي أحبّها وأحبّته فتبرّكت به وصارت بقعته المباركة مزار الملايين، وهذا هو شأن من شرى نفسه للّه تعالى.

ذكر ابن أبي الحديد في فضل الكوفة، قال:

وقد جاء في فضل الكوفة عن أهل البيتعليهم‌السلام شيء كثير، نحو قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : (نعمت المدَرة)(١) .

وقولهعليه‌السلام : (إنّه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفاً، وجوههم على صورة القمر)(٢) .

وقولهعليه‌السلام: (هذه مدينتنا ومحلّتنا، ومقرّ شيعتنا)(٣) .

وقول جعفر بن محمّدعليه‌السلام : (أللّهم إرم من رماها، وعاد من عاداها)(٤) .

وقوله أي أمير المؤمنينعليه‌السلام : (تربة تحبّنا ونحبّها)(٥) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ١٩٨.

(٢) نفس المصدر السابق. وفي وقعة صفّين لنصر بن مزاحم (ت ٢١٢ هـ): (يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفاً على غرّة الشمس يدخلون الجنّة بغير حساب). (وغرّة الشمس: مطلعها).

(٣) شرح نهج البلاغة ٣: ١٩٨.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) نفس المصدر السابق.

١٣٦

ومن كلام لهعليه‌السلام يخاطب أصحابه من أهل الكوفة:

(أنتم الأنصار على الحقّ والإخوان في الدين، والجنن يوم البأس(١) ، والبطانة دون الناس. بكم أضرب المدبر، وأرجو طاعة المقبل)(٢) .

ومن كتاب لهعليه‌السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة:

(من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار وسنام العرب)(٣) .

ثمّ شرح لهم أمر عثمان ودور طلحة والزّبير وأمّهم عائشة، وما يجب عليهم: (فأسرعوا إلى أميركم وبادروا جهاد عدوّكم إن شاء الله)(٤) .

ومن كتاب لهعليه‌السلام إليهم بعد فتح البصرة:

(وجزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيّكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته، فقد سمعتم وأطعتم، ودعيتم فأجبتم)(٥) .

وذكر ياقوت الحموي شرح حال الكوفة من تاريخ تمصيرها والأدوار التي مرّت بها، ثمّ قال:

وقال الكلبيّ: قدم الحجّاج بن يوسف على عبد الملك بن مروان ومعه أشراف العراقيّين، فلمّا دخلوا على عبد الملك تذاكروا أمر الكوفة والبصرة، فقال محمّد بن عمير العطاردي: الكوفة سفلت عن الشأم ووبائها وارتفعت عن البصرة وحرّها؛ فهي بريّة مريئة مريعة، إذا أتتنا الشمال ذهبت مسيرة شهر على رضراض الكافور، وإذا هبّت الجنوب جاءتنا ريح السّواد ووَرْدِه وياسمينه وأُترنجه، وماؤنا عذب وعيشنا

____________________

(١) الجنن: جمع جنّة وهي الوقاية، والبأس: الشدّة.

(٢) نهج البلاغة، بشرح محمّد عبده ٢: ٢٣١.

(٣) شبّههم بالجبهة من حيث الكرم ووحدة الصفّ في النصرة، وبالسنام من حيث الرفعة.

(٤) نفس المصدر السابق ٣: ٢ - ٣.

(٥) نفس المصدر السابق: ٣.

١٣٧

خِصْب. فقال عبد الملك بن الأهتم السعدي: نحن والله أوسع منهم بَرِية وأعدّ منهم في السريّة وأكثر منهم ذرّيّةً وأعظم منهم نفراً، يأتينا ماؤنا صفواً ولا يخرج من عندنا إلّا سائق أو قائد.

فقال الحجاج: يا أمير...، إنّ لي بالبلدين خبراً، فقال: هات غير متّهم فيهم، فقال: أمّا البصرة فعجوز شمطاء بَخْراء دَفْراء أوتيت من كلّ حليّ! وأمّا الكوفة فبكر عاطل عيطاء لا حلي لها ولا زينة. فقال عبد الملك: ما أراك إلّا قد فضّلت الكوفة.

وكان عليّعليه‌السلام يقول: (الكوفة كنز الإيمان وحجّة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء، والذي نفسي بيده لينتصرنّ الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بأهل الحجاز)(١) .

وكان سلمان الفارسيّ يقول: (أهل الكوفة أهل الله، وهي قبّة الإسلام يحنّ إليها كلّ مؤمن)(٢) .

وأمّا مسجدها: فقد رويت فيه فضائل كثيرة، ورى حبّة العرنيّ(٣) قال: كنت جالساً عند عليّعليه‌السلام فأتاه رجل فقال:

يا أمير المؤمنين هذه راحلتي وزادي أريد هذا المسجد أعني بيت المقدس، فقال عليّعليه‌السلام : (كُلْ زادك وراحلتك وعليك بهذا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فإنّه أحد المساجد الأربعة، ركعتان فيه تعدلان عشراً فيما سواه من المساجد، والبركة منه إلى اثني

____________________

(١) معجم البلدان ٤: ٤٩٢.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) قال العجلي: حبّة بن جوين العرنيّ، كوفيّ، تابعيّ، ثقة. تاريخ الثقات، للعجلي (ت ٢٦١ هـ): ١٠٥ / ٢٤٣. وذكره البرقيّ في أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام . رجال البرقي: ٦. وذكر اسمه داود في أصحاب أمير المؤمنين وفي أصحاب الإمام الحسنعليهما‌السلام . رجاله: ٩٨ / ٣٧١.

١٣٨

عشر ميلاً من حيث ما أتيته وهي نازلة من كذا ألف ذراع، وفي زاويته فار التّنور وعند الأسطوانة الخامسة صلّى إبراهيمعليه‌السلام ؛ وقد صلّى فيه ألف نبيّ وألف وصيّ، وفيه عصا موسى والشجرة اليقطين، وفيه هلك يغوث ويعوق، وفيه مصلّى نوحعليه‌السلام ، ويحشر منه يوم القيامة سبعون ألفاً ليس عليهم حساب؛ ووسطه روضة من رياض الجنّة، وفيه ثلاث أعين من الجنّة تذهب الرّجس وتطهّر المؤمنين، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حَبْواً)(١) .

وقال السيّد الحميريّ يذكر مسجد الكوفة:

لعَمْرُك! ما من مسجد بعد مسجد

بمكّة ظهراً أو مُصلّىً بيثرب

بشرق ولا غرب علمنا مكانه

من الأرض معموراً ولا متجنّب

بأَبْيَن فضلاً من مصلّىً مبارك

بكوفان رحب ذي أواسٍ ومخصب

مُصلّىً، به نوحٌ تَأثّلَ وابتنى

به ذاتَ حَيزوم وصَدْر محنّب

وفارَ به التّنور ماء وعنده

له قيل: أيا نوح في الفلك فاركب

وباب أمير المؤمنين الذي به

ممرُّ أمير المؤمنين المهذّب

عن مالك بن دينار قال: كان عليّ بن أبي طالب إذا أشرف على الكوفة قال:

يا حبّذا مَقالُنا بالكوفة

أرض سواء سهلة معروفة(٢)

وذكر الدّينوريّ قول أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بشأن الكوفة بعد أن انتهى من أمر الجمل، قال:

____________________

(١) معجم البلدان ٤: ٤٩٢.

(٢) نفس المصدر السابق.

١٣٩

بعد أن انتهى أمير المؤمنينعليه‌السلام من أمر وقعة الجمَل، سار فلمّا أَشْرَف على الكوفة، قال: (وَيْحَكِ يا كوفان، ما أطيب هواءك، وأغْذَى تُربتك؛ الخارج منك بذنب، والداخل إليك برحمة، لا تذهب الأيّام والليالي حتّى يجيء إليك كلّ مؤمن، ويبغض المقام بك كلّ فاجر، وتعمرين، حتّى إنّ الرجل من أهلك ليُبَكِّر إلى الجمعة فلا يلحقها من بُعْد المسافة)(١) .

وعن علمهم بالحلال والحرام، فقد خطبهمعليه‌السلام يوم صفّين، قال:

(إنّ الله أكرمكم بدينه، وخلقكم لعبادته، فانصبوا أنفسكم في أداء حقّه، وتنجّزوا موعوده...، ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفِه نفسه، معاوية وجنده، الفئة الباغية الطاغية، يقودهم إبليس...، وأنتم أعلم الناس بحلاله وحرامه، فاستغنوا بما علمتم...)(٢) .

وخطبهم الحسنعليه‌السلام فحثّهم على الجهاد والمضي قدماً في نهج الحقّ.

ثمّ خطبهم الحسينعليه‌السلام فكان ممّا قال:

(يا أهل الكوفة، أنتم الأحبّة الكرماء، والشّعار دون الدثار؛ جدّوا في إحياء ما دثر بينكم وإسهال ما توعّر عليكم...) وحثّهم على الجهاد ونزل، فأجاب عليًّا جلّ الناس إلى السير إلى الجهاد والسير إلى العدوّ(٣) .

____________________

(١) الأخبار الطوال، أحمد بن داود الدّينوريّ (ت ٢٨٢ هـ): ١٥٢. ولقد صدقت نبوءة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد أقام الشهيد السعيد محمّد محمّد صادق الصدر صلاة الجمعة في مسجد الكوفة أيّام الطاغية المقبور صدّام، فكان يقصدها الجموع الغفيرة من مدن العراق. وبعد سقوط الصنم عمّت صلاة الجمعة، عراقِ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

(٢) وقعة صفّين: ١١٢ - ١١٣.

(٣) نفس المصدر السابق: ١١٤ - ١١٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وأقول :

قد عرفت أنّ الكلام ـ في هذا ونحوه ـ في الأفضليّة ، فإن أقرّ به الفضل ، فهو المراد ، وإلّا فليأت بشبهة.

وكيف يقاس بمن جاد بنفسه في جميع مواقف الزحام ، من بخل بها في كلّ مقام ، وفرّ مرارا عن سيّد الأنام(١) ؟!

أو يقاس بمن سخا بجميع ماله على الأباعد ، من ضنّ ببعضه على الأقارب ، وحمل يوم الهجرة ماله كلّه وترك بلا قوت أهله(٢) ؟!

وهل يلحق من آثر على نفسه ولم يعزّ عليه قوته ، من كانت في أموال المسلمين نهمته حتّى كبت به بطنته(٣) .

* * *

__________________

(١) إشارة إلى الشيخين وأغلب الصحابة ، حين فرّوا من الزحف ، كيوم أحد وخيبر وحنين ؛ راجع : ج ٥ / ٥٧ ه‍ ١ وص ٧٧ ه‍ ١ وص ٨٢ من هذا الكتاب ، وص ٨٩ وما بعدها من هذا الجزء.

(٢) إشارة إلى أبي بكر ، الذي احتمل ماله كلّه ولم يترك لعياله منه شيئا ؛ انظر : البداية والنهاية ٣ / ١٤١ ـ ١٤٢.

(٣) إشارة إلى عثمان بن عفّان ، فقد وصفه أمير المؤمنينعليه‌السلام في الخطبة الشقشقية بقوله : « إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته ».

انظر : نهج البلاغة : ٤٩ الخطبة ٣.

٣٨١

استجابة دعائه ، وحسن خلقه ، وحلمه

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب السابع : في استجابة دعائه

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد استسعد به(٢) وطلب تأمينه على دعائه يوم المباهلة ، ولم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة(٣) .

ودعا على أنس بن مالك لمّا استشهده على قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه » ؛ فاعتذر بالنسيان

فقال :اللهمّ إن كان كاذبا فاضربه ببياض لا تواريه العمامة ؛ فبرص(٤) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٤٦.

(٢) استسعد به : عدّه سعدا ويمنا ؛ انظر مادّة « سعد » في : الصحاح ٢ / ٤٨٧ ، لسان العرب ٦ / ٢٦٢ ، تاج العروس ٥ / ١٦.

(٣) راجع : ج ٤ / ٣٩٩ من هذا الكتاب.

(٤) انظر : جمهرة النسب ٢ / ٣٩٥ ، المعارف ـ لابن قتيبة ـ : ٣٢٠ ، أنساب الأشراف ٢ / ٣٨٦ ، شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٤ وج ١٩ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

وهناك من روى المناشدة ، وأنّ أنسا كان أحد الحاضرين حينها ، ولكنّه تكتّم عليه فلم يذكر أنّ من أصابته الدعوة هو أنس! انظر : حلية الأولياء ٥ / ٢٦ ـ ٢٧.

ومنهم من روى أنّ أنسا كان به برص ، ولم يذكر سبب ذلك! انظر : تاريخ دمشق ٩ / ٣٧٥ ـ ٣٧٧.

ومنهم من روى عن زيد بن أرقم أنّه ـ أي : زيد ـ كان أحد الموجودين حين المناشدة ، فكتم الشهادة ، فعمي ؛ انظر : المعجم الكبير ٥ / ١٧١ ح ٤٩٨٥ وص

٣٨٢

ودعا على البراء(١) بالعمى ؛ لأجل نقل أخباره إلى معاوية ، فعمي(٢) .

__________________

١٧٤ ـ ١٧٥ ح ٤٩٩٦ ، مناقب الإمام عليّعليه‌السلام ـ لابن المغازلي ـ : ٧٤ ح ٣٣ ، شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٤ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٠٦.

وعاد الطبراني فأورد قصّة المناشدة عن زيد نفسه ، إلّا أنّه لم يذكر كتمان الشهادة بالحديث ودعاء الإمام عليّعليه‌السلام وذهاب البصر! انظر : المعجم الأوسط ٢ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ح ١٩٨٧.

وراجع : ج ٤ / ٣٢٨ من هذا الكتاب.

(١) المغيرة / خ ل. منهقدس‌سره .

نقول : ورد الاسم مصحّفا تصحيفا بيّنا في مصادر هذه الحادثة ، ففي بعضها : « الغرار » ، وفي بعضها الآخر غير ذلك ، والمنقول في أغلبها : « العيزار » ، حتّى إنّ العلّامة الحلّيقدس‌سره ضبطه كذلك في كتابه « كشف اليقين ».

ولعلّ المقصود هو ، « العيزار بن جرول التنعي » ، الذي قالوا عنه إنّه يروى عن الإمام عليّعليه‌السلام ، وقد سكت عنه بعض علمائهم ووثّقه آخرون!! فإن كان هو المقصود ، فلا بدّ أن يكون توثيقهم له بسبب ميله إلى معاوية!

انظر : التاريخ الكبير ٧ / ٧٩ رقم ٣٦١ ، الجرح والتعديل ٧ / ٣٧ رقم ١٩٧ ، الثقات ـ لابن حبّان ـ ٧ / ٣٠٢ ، تاريخ أسماء الثقات ـ لابن شاهين ـ : ٢٥٢ رقم ١٠٠٣ ، الإكمال : ٢٢٩ رقم ٦٨٦.

أمّا « المغيرة » فلم يذكر لنا التاريخ أنّه عمي ، بل ولي الكوفة لمعاوية إلى أن مات بها سنة ٥٠ ه‍.

وممّا يقوّي احتمال التصحيف هنا ؛ أنّ قضية « البراء » ـ وفق ما جاءت به الروايات ، إن صحّت ـ كانت في رحبة مسجد الكوفة عند مناشدة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الصحابة عن حديث الغدير ، وهذه القضية كانت في نقل أخبار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية.

أمّا إذا كان ورود اسم « البراء » هنا صحيحا ، فيحتمل ـ حينها ـ أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قد دعا على « البراء » مرّتين ، مرّة بعد المناشدة ، وأخرى بعد نقل الأخبار ، فعمي ؛ فلاحظ!

(٢) انظر : الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، الخرائج والجرائح

٣٨٣

وردّت عليه الشمس مرّتين لمّا دعا به(١) .

ودعا في زيادة الماء لأهل الكوفة حتّى خافوا الغرق ، فنقص حتّى ظهرت الحيتان ، فكلّمته إلّا الجرّي والمارماهي والزمّار(٢) ، فتعجّب الناس من ذلك(٣) .

وأمّا حسن الخلق ؛ فبلغ فيه الغاية ، حتّى نسبه أعداؤه إلى الدعابة(٤) .

وكذا الحلم ؛ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمةعليها‌السلام : «إنّي زوّجتك من أقدم الناس سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما »(٥) .

* * *

__________________

١ / ٢٠٧ ح ٤٨ ، مناقب آل أبي طالب ٢ / ٣١٤ ، كشف اليقين ـ للعلّامة الحلّي ـ : ١١١ ، إرشاد القلوب ٢ / ٤٠ ، أرجح المطالب : ٦٨١.

(١) انظر : وقعة صفّين : ١٣٥ ـ ١٣٦ ، منهاج السنّة ٨ / ١٩١ ـ ١٩٢ ، البداية والنهاية ٦ / ٦٥ و ٦٦ ، مزيل اللبس عن حديث ردّ الشمس : ١٤٩ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

وراجع مبحث حديث ردّ الشمس في الصفحات ٢٠٠ ه‍ ١ و ٢٠٧ ـ ٢٢٣ من هذا الجزء ، وانظر : ج ٥ / ٢٨٦ ه‍ ٢ من هذا الكتاب.

(٢) الجرّي والمارماهي والزمّار : ضروب من الأسماك ، لا فلس لها.

(٣) انظر : الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

(٤) انظر : نهج البلاغة : ١١٥ الخطبة ٨٤ ، العقد الفريد ٣ / ٢٩٠ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ / ١١٨ مادّة « دعب » ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ٣٢٦ ـ ٣٣٠ ، لسان العرب ٤ / ٣٤٩ مادّة « دعب » وج ١٥ / ٣٢١ مادّة « وصي ».

(٥) مسند أحمد ٥ / ٢٦ ، مصنّف عبد الرزّاق ٥ / ٤٩٠ ح ٩٧٨٣ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٥٠٥ ح ٦٨ ، المعجم الكبير ١ / ٩٤ ح ١٥٦ وج ٢٠ / ٢٣٠ ح ٥٣٨ ، تلخيص المتشابه ١ / ٤٧٢ رقم ٧٨٦ ، مناقب الإمام عليّعليه‌السلام ـ لابن المغازلي ـ : ١٢٩ ح ١٤٤ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ١٢٦ و ١٣١ ـ ١٣٣.

٣٨٤

وقال الفضل(١) :

ما ذكره في هذا المطلب من استجابة دعاء أمير المؤمنين ؛ فهذا أمر لا ينبغي أن يرتاب فيه ، وإذا لم يكن دعاء سيّد الأولياء مستجابا ، فمن يستجاب له الدعاء؟!

وأمّا ما ذكر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله استسعد بدعائه ؛ فقد ذكرنا سرّ هذا الاستسعاد والاشتراك في الدعاء في المباهلة ، أنّ هذا من عادات أهل المباهلة ، أن يشاركوا القوم والنساء والأولاد في الدعاء(٢) .

ويفهم منه أنّ النبيّ استسعد بدعائه لاحتياجه إلى ذلك الاستسعاد ، وهذا باطل عقلا ونقلا.

أمّا عقلا ؛ لأنّ النبيّ لا شكّ أنّه كان مستجاب الدعوة ، ومن كان مستجاب الدعوة فلا يحتاج إلى استسعاد الغير.

وأمّا نقلا ؛ فلأنّ الاشتراك في الدعاء في المباهلة لم يكن للاستسعاد ، بل لما ذكرنا.

وأمّا ما ذكر أنّ أمير المؤمنين استشهد من أنس بن مالك ، فاعتذر بالنسيان ، فدعا عليه ؛ فالظاهر أنّ هذا من موضوعات الروافض ؛ لأنّ خبر «من كنت مولاه فعليّ مولاه » كان في غدير خمّ.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ : ٤٥٤ الطبعة الحجرية.

(٢) راجع : ج ٤ / ٤٠١ من هذا الكتاب.

٣٨٥

وكان لكثرة سماع السامعين كالمستفاض(١) ، فأيّ حاجة إلى الاستشهاد من أنس؟!

ولو فرض أنّه استشهد ولم يشهد أنس ، لم يكن من أخلاق أمير المؤمنين أن يدعو على صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن خدمه عشر سنين ، بالبرص ؛ ووضع الحديث ظاهر.

* * *

__________________

(١) الحديث المستفيض : هو ما زاد عدد رواته عن ثلاثة في كلّ طبقة من الطبقات ، وبذلك يختلف عن الحديث المشهور ، الذي هو أعمّ من ذلك ، فقد تطرأ الشهرة على جزء منه ، كوسطه دون طرفيه.

ويقال : فاض الخبر يفيض ، واستفاض ، أي شاع وذاع ، وهو حديث مستفيض ، أي منتشر شائع ذائع بين الناس ؛ ولا يقال : مستفاض ـ فذلك لحن ـ إلّا أن يقال : مستفاض فيه.

وهو على المجاز هنا ، مأخوذ من « فاض الماء يفيض فيضا » ، أي كثر حتّى سال على طرف الوادي.

انظر : شرح شرح نخبة الفكر : ١٩٢ ، شرح البداية في علم الدراية : ٧٠ ، مقباس الهداية في علم الدراية ١ / ١٢٨ ، ومادّة « فيض » في : الصحاح ٣ / ١٠٩٩ ، لسان العرب ١٠ / ٣٦٧ ، تاج العروس ١٠ / ١٣١.

٣٨٦

وأقول :

استجابة الدعاء في مثل هذه الأمور الخارقة للعادة لا تقع إلّا لنبيّ أو وصيّ نبيّ ؛ لاشتمالها على المعجز ، وليس مثلها لغير أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فيكون هو الإمام.

وأمّا ما ذكره من سرّ الاستسعاد ، فهو من الأسرار الخاصّة بضمائر المخالفين لأهل البيت ؛ إذ لم يظهر علمه لغيرهم ، كما عرفته في الآية السادسة(١) ، والحديث الثامن(٢) .

كما إنّ الاستسعاد لا يتوقّف على الحاجة الواقعيّة ، بل هو من أمر الله تعالى ؛ لبيان شرف آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله عنده وعنايته بهم

ومن كمال الرسول ، حيث لا يظهر منه الاعتماد على نفسه ، وأنّ له حقّا على الله في الإجابة ، كما سبق موضّحا(٣) .

وأمّا تكذيبه للدعاء على أنس بحجّة أنّ حديث الغدير مستفيض لا يحتاج إلى الاستشهاد ؛ ففيه :

إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام إنّما أراد بيان استفاضته ، وكثرة المطّلعين عليه ؛ لتظهر إمامته بالنصّ ، وهذا ممّا يحتاج إلى أعظم الشواهد عند من نشأوا على موالاة الأوّلين ، ولو لا هذا ونحوه لم يكثر الشيعة بالكوفة ،

__________________

(١) راجع : ج ٤ / ٤٠٢ وما بعدها من هذا الكتاب.

(٢) راجع مبحث حديث المباهلة في الصفحات ٧٤ ـ ٧٩ من هذا الجزء.

(٣) تقدّم في ج ٤ / ٤٠٢ ـ ٤١٠ من هذا الكتاب ، والصفحات ٧٤ ـ ٧٩ من هذا الجزء.

٣٨٧

فيكون كتمان الشهادة فيه كتمانا لما أنزل الله تعالى ، فيستحقّ كاتمها العقوبة في الدنيا ، وأشدّ العذاب في الآخرة.

ولا ريب برجحان الدعاء بمثل البرص ؛ ليكون شاهدا عيانيّا مستمرّا على صدق حديث الغدير ، وإمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وظلم السابقين له.

ولا يستبعد منه الدعاء على خادم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ ضرر كتمانه في مثل المقام أشدّ من غيره ، وهو أولى بالعقوبة ، ولذا كان عذاب العاصية من أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ضعفين(١) .

وليس هذا أوّل سيّئة من أنس مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل له نحوها في قصّة الطائر(٢) ، وغيرها(٣) ، وهو من المنحرفين عنه.

قال ابن أبي الحديد(٤) : « ذكر جماعة من شيوخنا البغداديّين أنّ عدّة من الصحابة والتابعين والمحدّثين كانوا منحرفين عن عليّعليه‌السلام ، قائلين فيه السوء ، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ؛ ميلا مع الدنيا وإيثارا للعاجلة ، فمنهم : أنس بن مالك ، ناشد عليّ الناس في رحبة القصر ـ أو قالوا : برحبة الجامع ـ بالكوفة : أيّكم سمع رسول الله يقول : «من كنت مولاه فعليّ

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٠.

(٢) فقد ردّ أنس أمير المؤمنينعليه‌السلام ثلاثا مدّعيا انشغال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليصرفه عن الدخول متمنّيا أن يكون الآتي واحدا من قومه ؛ انظر مبحث حديث الطائر المشوي في الصفحات ١٥٩ ـ ١٧٠ من هذا الجزء.

(٣) كبعث أمير المؤمنينعليه‌السلام لأنس إلى طلحة والزبير لمّا جاء إلى البصرة يذكّرهما شيئا ممّا سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمرهما ، فلوى عن ذلك ، فرجع إليه ، فقال : إنّي أنسيت ذلك الأمر!

انظر : نهج البلاغة ٥٣٠ رقم ٣١١.

(٤) ص ٣٦١ من المجلّد الأوّل [ ٤ / ٧٤ ]. منهقدس‌سره .

٣٨٨

مولاه »؟

فقام اثنا عشر رجلا ، فشهدوا بها ، وأنس بن مالك في القوم لم يقم.

فقال له : يا أنس! ما يمنعك أن تقوم فتشهد ، ولقد حضرتها؟!

فقال : يا أمير المؤمنين! كبرت ونسيت.

فقال : اللهمّ إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة.

قال طلحة بن عمير : فو الله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه

وروى عثمان بن مطرّف : إنّ رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن عليّ بن أبي طالب ، فقال : إنّي آليت أن لا أكتم حديثا سئلت عنه في عليّ بعد يوم الرحبة ، ذاك رأس المتّقين يوم القيامة ، سمعته والله من نبيّكم

وروى أبو إسرائيل ، عن الحكم ، عن أبي سليمان المؤذّن ، أنّ عليّا نشد الناس : من سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :من كنت مولاه فعليّ مولاه؟

فشهد له قوم ، وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد ، وكان يعلمها ، فدعا عليّ عليه بذهاب البصر ، فعمي ، فكان يحدّث الناس بالحديث بعدما كفّ بصره ».

وذكر فيه أمر البرص بمحلّ آخر(١) ، ثمّ قال : « ذكر ابن قتيبة حديث البرص والدعوة في كتاب ( المعارف ) في باب البرص من أعيان

__________________

(١) ص ٣٨٨ من المجلّد الرابع [ ١٩ / ٢١٨ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : المعارف : ٣٢٠.

٣٨٩

الرجال ، وابن قتيبة غير متّهم في حقّ عليّ على المشهور من انحرافه عنه ».

وقد روى أحمد في مسنده من عدّة طرق استشهاد أمير المؤمنينعليه‌السلام بالرحبة ، وقيام من قام للشهادة ، وفي بعضها : « فقام إلّا ثلاثة ، ودعا عليهم فأصابتهم دعوته » ، كما سبق في الآية الثانية(١) .

هذا ، وقد أغفل الفضل ما ذكره المصنّفرحمه‌الله من فضل أمير المؤمنينعليه‌السلام بالحلم وحسن الأخلاق المطلوبين في الأئمّة ، ولا ريب بامتيازه على غيره بهما(٢) .

وأمّا الحديث الذي نقله المصنّفرحمه‌الله في تفضيل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لحلم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد رواه أحمد في مسنده(٣) .

__________________

(١) انظر : مسند أحمد ١ / ١١٩ ، وج ٤ / ٣٧٠ ؛ وراجع : ج ٤ / ٣٢٧ ـ ٣٢٩ من هذا الكتاب.

(٢) لا سيّما على عمر ؛ فإنّه معروف بالغلظة وسوء الخلق ، كما سبق ويأتي ؛ ومن سبر سيرة عمر ظهر له صدق ما ذكرنا.

كما يعرف حال عثمان من سيرته.

وأمّا أبو بكر ؛ فقد كان ـ أيضا ـ حادّا ، كما يدلّ عليه قوله : « إنّ لي شيطانا يعتريني ، فإذا غضبت فاجتنبوني لا أوثّر في أشعاركم وأبشاركم » [ شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٥٩ ].

قال ابن أبي الحديد ـ ص ١٦٨ من المجلّد الرابع [ ١٧ / ١٦١ ] ، بعد قول المرتضى : « إنّها صفة طائش لا يملك نفسه » ـ قال : « لعمري ، إنّ أبا بكر كان حديدا ، وقد ذكره عمر بذلك ، وذكره غيره من الصحابة [ بالحدّة والسرعة ] ». انتهى.

منه قدس‌سره .

نقول : راجع ما تقدّم في ج ٤ / ٢٣٨ ه‍ ١ و ٢ وج ٥ / ٢١٣ ه‍ ٥ ، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه من الجزء السابع من هذا الكتاب.

(٣) ص ٢٦ من الجزء الخامس. منهقدس‌سره .

٣٩٠

ونقله في « كنز العمّال »(١) ، عن ابن جرير ، قال : « وصحّحه » ، وعن الدولابي في « الذرّيّة الطاهرة » ، من حديث ذكر فيه خطبة أبي بكر وعمر لفاطمةعليها‌السلام ، وإباه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتزويجها من عليّعليه‌السلام ، وقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة : «والله لقد أنكحتك أكثرهم علما ، وأفضلهم حلما ، وأقدمهم سلما » قال : « وفي لفظ : أوّلهم سلما ».

ونقله أيضا في « الكنز »(٢) ، عن الطبراني ، بلفظ : «إنّه لأوّل أصحابي سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما ».

ولو لا خوف الإطالة والملال ، لذكرت في حلمه من الأخبار والآثار ما كثر

وقد ذكر ابن أبي الحديد ـ في « مقدّمة الشرح » ، وفي أثنائه ـ نبذا من حلم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وصفحه ، وحسن أخلاقه ؛ فراجع(٣) .

* * *

__________________

(١) ص ٣٩٢ من الجزء السادس [ ١٣ / ١١٤ ح ٣٦٣٧٠ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : الذرّيّة الطاهرة : ٩٣ ح ٨٣.

(٢) ص ١٥٣ من الجزء المذكور [ ١١ / ٦٠٥ ح ٣٢٩٢٧ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : المعجم الكبير ١ / ٩٤ ح ١٥٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٢ ـ ٢٤ وج ٣ / ٣٣٠ ـ ٣٣١ وج ٦ / ١٤٦ و ٣١٣ ـ ٣١٤ و ٣١٦ وج ١٤ / ٢٤.

٣٩١

عبادته من فضائله البدنية

قال المصنّف ـ شرّف الله قدره ـ(١) :

القسم الثاني : في الفضائل البدنية ، وينظمها مطلبان :

الأوّل : في العبادة

لا خلاف أنّهعليه‌السلام كان أعبد الناس ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ، والأدعية المأثورة ، والمناجاة في الأوقات الشريفة ، والأماكن المقدّسة(٢) .

وبلغ في العبادة إلى أنّه كان يؤخذ النشّاب من جسده عند الصلاة ؛ لانقطاع نظره عن غير الله تعالى بالكلّيّة(٣) .

وكان مولانا زين العابدينعليه‌السلام يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، ويدعو بصحيفته ، ثمّ يرمي بها كالمتضجّر ويقول : أنّى لي بعبادة عليّعليه‌السلام (٤) .

قال الكاظمعليه‌السلام : إنّ قوله تعالى :( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) (٥)

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٤٧.

(٢) انظر : مطالب السؤول : ١٢٤ و ١٣١ ـ ١٣٢ و ١٣٦ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٧ ، كفاية الطالب : ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

(٣) المناقب المرتضوية : ٣٦٤.

(٤) كشف الغمّة ٢ / ٨٥ و ٨٦ ، ينابيع المودّة ١ / ٤٤٦ ح ١٢.

(٥) سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.

٣٩٢

نزلت في أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) .

وكان يوما في صفّين مشتغلا بالحرب ، وهو بين الصفّين يراقب الشمس ، فقال ابن عبّاس : ليس هذا وقت صلاة ، إنّ عندنا لشغلا!

فقال عليّعليه‌السلام :فعلام نقاتلهم؟! إنّما نقاتلهم على الصلاة (٢) !

وهو الذي عبد الله حقّ عبادته حيث قال :ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا شوقا إلى جنّتك ، ولكن رأيتك أهلا للعبادة فعبدتك (٣) .

* * *

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ١٨١ ـ ١٨٣ ح ٨٨٦ ـ ٨٨٨ ، روح المعاني ٢٦ / ١٩٤ ، أرجح المطالب : ٣٧ و ٦٧ و ٨٦ ، المناقب المرتضوية : ٦٦.

(٢) إرشاد القلوب ٢ / ٢٢.

(٣) شرح مائة كلمة ـ لابن ميثم البحراني ـ : ٢١٩.

٣٩٣

وقال الفضل(١) :

عبادة أمير المؤمنين ، لا يقاربه العابدون ، ولا يدانيه الزاهدون ، الملائكة عاجزون عن تحمّل أعبائها ، وأهل القدس مغترفون من بحار صفائها.

وكيف لا؟! وهو أعرف الناس بجلال القدس ، وجمال الملكوت ، وأعشق النفوس إلى وصال الجبروت.

وأمّا ما ذكر أنّه عبد الله حقّ عبادته ، فهو لا يصحّ ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال ـ مع كمال العبادة ـ : «ما عبدناك حقّ عبادتك »(٢) .

واتّفق العارفون أنّ الله لا يقدر أحد أن يعبده حقّ عبادته ، والدلائل على هذا مذكورة في محالّه.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ : ٤٥٥ الطبعة الحجرية.

(٢) انظر : الكافي ٢ / ٩٩ ح ١ وفيه : « إنّ الله لا يعبد حقّ عبادته ».

٣٩٤

وأقول :

إنّما الممتنع هو العبادة بحقّها من جميع الوجوه ، كمّا وكيفا ، وأمّا من جهة خاصّة فلا ، كعبادته سبحانه لذاته لا خوفا ولا طمعا ، وهي التي أرادها المصنّفرحمه‌الله ؛ ولذا جعل قولهعليه‌السلام : «ما عبدتك خوفا من نارك » إلى آخره ، تعليلا لكونه عبد الله حقّ عبادته ؛ وهي عبادة الأحرار ، لا عبادة العبيد والتجّار.

قال ابن أبي الحديد في مقدّمة « الشرح » : « كان أعبد الناس ، وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة.

وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده(١) ، أن يبسط له نطع(٢) بين الصّفّين ليلة الهرير(٣) ، فيصلّي عليه ورده ، والسهام تقع بين

__________________

(١) الورد ـ والجمع : الأوراد ـ : النصيب أو الجزء أو المقدار المعلوم من القرآن ، وما يكون على الرجل أن يصلّيه في الليل ؛ انظر : لسان العرب ١٥ / ٢٦٩ مادّة « ورد ».

(٢) النّطع والنّطع والنّطع والنّطع ـ والجمع : نطوع وأنطاع وأنطع ـ : بساط من الأديم ؛ انظر مادّة « نطع » في : الصحاح ٣ / ١٢٩١ ، لسان العرب ١٤ / ١٨٦ ، تاج العروس ١١ / ٤٨٢.

(٣) ليلة الهرير : ليلة من ليالي معركة صفّين ، في صفر من سنة ٣٧ ه‍ ، اقتتل الجيشان في تلك الليلة حتّى الصباح ، فتطاعنوا بالرماح حتّى تقصّفت وتكسّرت واندقّت ، وتراموا حتّى نفد النبل ، ثمّ مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيوف وعمد الحديد ، فلم يسمع السامع إلّا وقع الحديد بعضه على بعض ، فكشف في

٣٩٥

يديه ، وتمرّ على صماخيه(١) يمينا وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته؟!

وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير(٢) ، لطول سجوده؟!

وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما تتضمّنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزّته ، والاستحذاء له(٣) ، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، وفهمت من أيّ قلب خرجت ، وعلى أيّ لسان جرت!

وقيل لعليّ بن الحسينعليه‌السلام ـ وكان الغاية في العبادة ـ : أين عبادتك من عبادة جدّك؟

قال :عبادتي عند عبادة جدّي ، كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

ولا غرو فقد وحّد الله قبل الناس طفلا ، وعبده صبيّا مع النبيّ سبع سنين ، في محلّ لم يعبده فيه عابد ، ولم يسجد له من الملأ ساجد.

__________________

صبيحتها عن ما يقرب من سبعين ألف قتيل.

انظر : وقعة صفّين : ٤٧٥ ، الكامل في التاريخ ٣ / ١٩١ ، تاج العروس ٧ / ٦٢١ مادّة « هرر ».

(١) الصّماخ ، والسّماخ لغة فيه ـ والجمع : أصمخة وصمخ ، وبالسين لغة ـ : هو ثقب الأذن الماضي إلى داخل الرأس ، ويقال : إنّ الصماخ هو الأذن نفسها ؛ انظر : لسان العرب ٧ / ٤٠٣ مادّة « صمخ ».

(٢) الثّفنة من البعير والناقة : الرّكبة وما مسّ الأرض من جسمه وأصول أفخاذه ، والجمع : ثفن وثفنات ؛ انظر : لسان العرب ٢ / ١٠٨ مادّة « ثفن ».

(٣) الاستحذاء له : أي متابعة أوامره والانقياد لها ؛ انظر : لسان العرب ٣ / ٩٨ مادّة « حذا ».

(٤) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٧.

٣٩٦

وهذا بالضرورة لم يكن إلّا من كمال النفس ، وصفاء الذات ، وتمام العلم والمعرفة ، التي امتاز بها على من لم يعرف ضعة الحجارة في أكثر أعوامه ، ولم يتّصف بأدنى مراتب تلك العبادة في باقي أيّامه.

روى البخاري في : « باب يفكّر الرجل الشيء في صلاته » ـ قبل أبواب السهو ـ ، عن عمر ، قال : « إنّي لأجهّز جيشي وأنا في الصلاة »(١) .

وروى في « كنز العمّال »(٢) ، أنّ عمر صلّى بالناس المغرب ولم يقرأ شيئا ، فلمّا فرغ قيل له ، فاعتذر بأنّي جهّزت عيرا إلى الشام ، وجعلت أنقلها منقلة منقلة ، حتّى قدمت الشام فبعتها وأقتابها وأحلاسها وأحمالها.

فكيف يقاس هذا بصاحب تلك العبادة والمعرفة؟!

وهل يحسن بشريعة العقل أن يكون هذا رئيسا دينيّا ، وإماما مذهبيّا ، وذاك مأموما؟!

ما هذا بحكم عدل ، ولا قول فصل!!

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ١٤٨.

(٢) ص ٢١٣ من الجزء الرابع [ ٨ / ١٣٣ ح ٢٢٢٥٧ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٢ / ٣٨٢.

٣٩٧

جهاده في الحروب

قال المصنّف ـ طاب رمسه ـ(١) :

المطلب الثاني : في الجهاد

وإنّما تشيّدت مباني الدين ، وثبتت قواعده ، وظهرت معالمه ، بسيف مولانا أمير المؤمنين ، وتعجّبت الملائكة من شدّة بلائه في الحرب(٢) .

ففي غزاة بدر ـ وهي الداهية العظمى على المسلمين ، وأوّل حرب ابتلوا بها ـ قتل صناديد قريش الّذين طلبوا المبارزة ، كالوليد بن عتبة ، والعاص(٣) بن سعيد بن العاص ـ الذي أحجم المسلمون عنه ـ ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٤٨.

(٢) انظر : ربيع الأبرار ١ / ٨٣٣ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٤ / ٢٥١.

ومرّ تخريجه مؤدّاه مفصّلا في مبحث الحديث الرابع عشر ؛ فراجع الصفحتين ١٣٣ ـ ١٣٤ ه‍ ١ من هذا الجزء.

(٣) كذا في الأصل والمصدر.

نقول : والصحيح في كتابته لغة : « العاصي » ؛ إذ إنّه من الأسماء المنقوصة ، وهي كلّ اسم معرب في آخره ياء ثابتة مكسور ما قبلها ، وحكمه الإعرابي حذف الياء منه في حالتي الرفع والجرّ ، كقولنا : هذا قاض ومررت بقاض ؛ وإثباتها عند الإضافة ودخول « أل » التعريف عليها ، كقولنا : جئت من عند قاضي القضاة والقاضي العادل أمان للضعفاء ؛ وثبوتها في حالة النصب ـ كذلك ـ كقولنا : رأيت قاضيا.

٣٩٨

ونوفل بن خويلد ـ الذي قرن أبا بكر وطلحة بمكّة قبل الهجرة ، وأوثقهما بحبل وعذّبهما(١) ـ.

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا عرف حضوره في الحرب : «اللهمّ اكفني نوفلا »(٢) .

ولمّا قتله عليّعليه‌السلام ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه »(٣) .

ولم يزل يقتل في ذلك اليوم واحدا بعد واحد ، حتّى قتل نصف المقتولين ، وكانوا سبعين.

وقتل المسلمون كافّة ، وثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين النصف الآخر(٤) .

__________________

وقد شاع بين الكتّاب والمتأدّبين ـ من العصر الأوّل حتّى يومنا هذا ـ كتابته بحذف الياء ، وهو ليس بصحيح

قال المبرّد : « هو العاصي بالياء ، لا يجوز حذفها ، وقد لهجت العامّة بحذفها ».

انظر : تاج العروس ١٩ / ٦٨٢ مادّة « عصي ».

وما قلناه هنا ينطبق على الموارد نفسها التي تقدّمت وستأتي ؛ فلاحظ!

(١) انظر : المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ١٤٨ ـ ١٤٩ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ٤١٦ ح ٥٥٨٦ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٧٠.

(٢) المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٩١ ، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٣ / ٩٤ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٤ / ١٤٣.

(٣) المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٩٢ ، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٣ / ٩٥ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٤ / ١٤٤.

(٤) انظر : المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ١٤٧ ـ ١٥٢ ، أنساب الأشراف ١ / ٣٥٥ ـ ٣٦٠ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٧٠ ـ ٧٢ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٤.

٣٩٩

وفي غزاة أحد انهزم المسلمون عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورمي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضربه المشركون بالسيوف والرماح ، وعليّ يدافع عنه ، فنظر إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إفاقته من غشيته ، وقال : ما فعل المسلمون؟

فقال :نقضوا العهد وولّوا الدّبر.

فقال :اكفني هؤلاء ؛ فكشفهم عنه.

وصاح صائح بالمدينة : قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! فانخلعت القلوب ، ونزل جبرئيل قائلا :

لا سيف إلّا ذو الفقا

ر ، ولا فتى إلّا عليّ

وقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله! لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة عليّ لك بنفسه.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :ما يمنعه من ذلك وهو منّي وأنا منه ؟!(١) .

ورجع بعض الناس لثبات عليّعليه‌السلام ، ورجع عثمان بعد ثلاثة أيّام ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :لقد ذهبت بها عريضا !(٢)

وفي غزاة الخندق أحدق المشركون بالمدينة كما قال الله تعالى :( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) (٣) ، ونادى المشركون بالبراز ، فلم يخرج سوى عليّ ، وفيه قتل أمير المؤمنينعليه‌السلام عمرو بن

__________________

(١) راجع مبحث الحديث الرابع عشر ، في الصفحات ١٣٣ ـ ١٤١ من هذا الجزء.

(٢) انظر : السير والمغازي ـ لابن إسحاق ـ : ٣٣٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ٦٩ ، تفسير الفخر الرازي ٩ / ٦٤ تفسير الآية ١٥٩ من سورة آل عمران ، شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢١ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٥٢ ، تفسير الطبري ٣ / ٤٨٩ ح ٨١٠٢.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ١٠.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697