شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية11%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 203359 / تحميل: 5792
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة ٤٠ إلى ٥١ الهجرية الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وخلّف رجّالته وهم ستّمائة في هيت. وأتاه الخبر بانحياز ابن قباث من الرقّة نحو رأس العين ومصيره إلى كفرتوثا(١) . فأغذّ كميل السير نحو كفرتوثا، قتلقّاه ابن قباث، ومعن ابن يزيد السلميّ بها في ألفين وأربعمائة فارس، فواقعهما كميل ففضّ جمعهما وغلب عليهما وقتل من أصحابهما بشراً، فأمر أن لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح، وقتل من أصحاب كميل رجلان: عبد الله بن قيس القابسيّ، ومدرك بن بشر الغنويّ...(٢) .

غارة الضحّاك بن قيس

ووجّه معاوية في العام نفسه (سنة تسع وثلاثين) الضحّاك بن قيس الفهريّ، ويكنّى أبا أنيس، في ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، وأمره أن يمرّ بأسفل واقِصة فيُغير على من يلقاه ممن كان في طاعة أميرالمؤمنين، وأن يصبح في بلد ويمسي في آخر....

فأقبل الضحّاك إلى القُطْقُطانة، وجعل يأخذ أموال الناس من الأعراب وغيرهم، ويقتل من ظنّ أنّه على طاعة عليّ أو كان يهواه حتّى بلغ الثعلبيّة، وأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم.

وجاء عمر بن عُميس بن مسعود ابن أخ عبد الله بن معسود حاجّاً، ومعه أهله، وكان عمرو بن عميس من خيرة أصحاب عليّعليه‌السلام ، فقتله الضحّاك بن قس. وبلغ الخبر أميرالمؤمنين، فجهّز جيشا أربعة آلاف من أهل الكوفة عليهم حجر بن عَدِيّ، فلحقهم ببلاد كلبٍ فكانت بينهم وقعةٌ عند تَدمُر قتل فيها تسعة عشر من أهل الشام، وقتل من أصحاب حجر اثنان(٣) .

____________________

(١) كفرتوثا: قرية كبيرة من أعمال الجزيرة، بينها وبين دارا خمسة فراسخ، وهي بين دارا وراس العين. معجم البلدان ٤: ٤٦٨.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٢٣١ - ٢٣٣، الفتوح ٤: ٤٨ - ٥٢.

(٣) أنساب الأشراف ٣: ١٩٧ - ١٩٩، تاريخ الطبريّ ٤: ١٠٤، الفتوح ٤: ٣٧ - ٣٨.

٢١

وحسبك هذا التفاوت والتباين في المواقف والمبادئ: موقف عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي يحفظ العهود والميثاق، وموقف قادته المقتدين بسنّته: فهم بعد أن يهزموا عدوّهم، يأمروا جندهم أن لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح؛ وبين مبدأ معاوية الذي يفصح عن بغض متأصل لعليّعليه‌السلام ، فيأمر قائد حملته في قتل من يلقاه ممّن كان في طاعة عليّعليه‌السلام . فأطاعه الضحّاك في ذلك وهو يوم صفّين أحد ثلاثة: معاوية، وعمرو ابن العاص، والضحّاك؛ ممّن برزوا إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فلمّا برز إليهم ورأوه لم يكن عند أحدهم ما يدفع به عن نفسه إلّا سوءته، فيرمي كلّ واحد منهم نفسه على الأرض ويرفع رجله ويبدي سواد سوءته، فإن الضحّاك هذا مضافا إلى قتله من قتل، فقد نهب أموال أناس أعراب وغيرهم لا علاقة لهم بأميرالمؤمنينعليه‌السلام ، وإلاّ لقتلهم ومن دناءة نفسه وحقارتها أنّه أغار على الحاجّ فنهب أمتعتهم، ولم يرع لعمرو بن عُميس حرمته وقد جاء حاجّاً ولم يأت منابذاً مقاتلاً، ولا رعى حرمة زوجته، فقتله أمامها، كلّ ذلك يذكّرنا بفعل الخوارج. وأنّ السيرة هذه هي التي مهّدت ليزيد أن ينحَ منحى أبيه في بُغض أهل البيتعليهم‌السلام والاتّعاد لحربهم، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن حرب أهل البيت حرب لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولنختم حديثنا عن الغارات التي شنّها معاوية ناقضاً العهود والمواثيق فتربّى يزيد في أحضان هذا الأب الذي جعل الوهّابيّون، من هذه التربية أحد أسباب دفاعهم عن يزيد وجرائمه الفظيعة.

فنذكر غارةً هي لوحدها ناهضة بيزيد ليتجرّأ على الله ورسوله متابعةً لسيرة أبيه، وسلفه الطالح: أبو سفيان قائد الأحزاب وجدّته هند وما صنعت بأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلبعليه‌السلام ، وأعمامه الذين عجّل بهم أبو الحسنين عليّعليه‌السلام إلى

٢٢

النار. الغارة تلك هي غارة بُسْر بن أبي أرطاة، فقد سمع يزيد من أبيه ما كان يلقيه على مسامع الذليل بسر ما جعله أهلا لارتكاب كلّ جناية.

غارة بُسر بن أبي أرطاة:

في سنة أربعين كانت غارة بُسر بن أبي أرطاة، وكان دستور ابن هند فيها كاشفا عن كفره وضلاله وأنّه لا يتورّع عن كلّ حرام؛ فقد أمر بسراً أن يطأكلّ أرض فيها لأميرالمؤمنين شيعة وأتباع، وأن يذبحهم بلا رحمة ولا تمييز بين محارب وغيره! وله أن ينهب ويحرق، وأن يرهب أهل المدينة ويخيفهم ويذلّهم!

(دعا ابن هند بُسر بن أبي أرطاة الفِهريّ أحدّ فراعنة الشام، فعقد له عقدا وضم إليه أربعة آلاف رجل من نخبة أهل الشام، ثمّ قال له: سِرْ إلى اليمن سيرا عنيفا حتى تأخذ بيعة الناس؛ فإنّهم قد خالفوا عليًّا، وانظر أن تجعل طريقك على مكّة والمدينة، فلا تنزلنَّ بلدا أهله في طاعة عليّ إلّا بسطت لسانك عليهم حتى يظنّوا أنّك محيط بهم وأنّه لا نجاة لهم منك، ثمّ اصفح عنهم بعد ذلك وادعُهم إلى البيعة، فمن أبي عليك فاستعمل السيف، واقتل كلّ مَن نابذك حتى تدخل أرض اليمن)(١) .

إنّ ما وقع في هذه الغارة نظير ما جرى في عهد دعيه يزيد! من ذبحٍ عامٍّ ونهب للأموال، كلّ ذلك خارج الحرمين، إلّا أن ابن هند انتهك حرمتهما من خلال أمره مأموره الذليل ببسط لسانه على أهلهما إذ لم يكن في البيت الحرام مقاتل له عائذ بالبيت كما هو شأن ابن الزبير أيّام يزيد، ولا ثائرين مناهضين له في المدينة المنوّرة كما هو في عهد يزيد أيضا! وإنّما ابتداءً أمره أن يجعل طريقه على مكّة والمدينة وأن يبسط لسانه

____________________

(١) الفتوح ٤: ٥٦.

٢٣

عليهم ترويعاً وتخويفاً حتّى يظنّوا لا نجاة لهم منه، وبعدها يدعهم إلى البيعة، فمن أبي؛ فالسيف هو الحكم. فأيّ بيعة هذه تؤخذ بالتهديد وحدِّ السيف، لتنقل منه وراثة إلى يزيد المتهتّك علنا حتى يخاطبه معاوية تارة: أن لولا هواي فيك لكان لي منك شأن آخر، وأخرى يطلب منه أن يتستّر من الناس وهو يمارس تلك القاذورات!

مضافا إلى ما ذكرناه: فإنّ أهل الحرمين الشريفين خرجوا لاستقبال بُسْر، وأعطوه البيعة، إلّا أنّه قبّحهم وشتمهم وكفّرهم وهدم منازل بعضهم...، منتهكا بذلك حرمة الحرمين من غير قتال منهم له كما ذكرنا.

رواية البلاذري: (يا بُسر، إنّ مصر قد فتحت فعزّ وليّنا وذلّ عدوّنا، فسِرْ على اسم الله، فمر بالمدينة فأخف أهلها وأذعرهم وهَوّل عليهم حتّى يروا أنّك قاتلهم، ثمّ امض إلى صنعاء فإنّ لنا بها شيعة فانصرهم واستعن بهم على عمّال عليّ وأصحابه، واقتل كلّ من كان في طاعة عليّ إذا امتنع من بيعتنا، وخذ ما وجدت لهم من مال)(١) .

فخرج بسر يغذّ السير حتّى قدم المدينة، وعامل عليّعليه‌السلام عليها أبو أيّوب الأنصاري، فخرج منها خوفا على نفسه إلى عليّعليه‌السلام بالكوفة. ودخل بُسر المدينة وصعد منبرها ولم يقاتله بها أحد. (فنادى على المنبر: يا دينار ويا نجّار و يا زُريق - سخريةً منه بالأنصار - شيخي شيخي عهدي به بالأمس، فأين هو؟ يعني عثمان ثمّ قال: والله لولا ما عهد إليَّ معاوية ما تركت بها محتلماً إلّا قتلته! ثم بايع أهل المدينة. وأرسل إلى بني سلمة قال: والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله. فانطلق جابر إلى أمّ سلمة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لها: ماذا ترين إنّي خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلالة؟ قالت: أرى أن تبايع، فأتاه جابر فبايعه. وهدم بسر بالمدينة

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢١١ - ٢١٢.

٢٤

دوراً، ثمّ مضى بسر حتى أتى مكّة فخافه أبو موسى أن يقتله،فقال له بسر: ما كنت لأفعل بصاحب رسول الله ذلك! فخلّى عنه)(١) .

قال ابن أعثم: خرج بسر يريد المدينة... فخرج منها أبو أيّوب خوفا على نفسه. وخرج أهل المدينة إلى بسر يستقبلونه خوفا منهم على أنفسهم! فلمّا نظر إليهم صاح بهم وانتهرهم ثم قال: شاهت الوجوه! إنّ الله تعالى ضرب لكم مثلا( قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (٢) فقد وقع بكم هذا المثل وأنتم أهل لذلك...، ثمّ راح يذكر مقتل عثمان ويشتم أهل المدينة ويتوعّدهم: والله لأفعلنّ بكم الأفاعيل، ولأجعلنّكم كالأمم السابقة! يا أشرار الأنصار وحلفاء اليهود! ! ويا أسماء العبيد، إنما أنتم بنو النجّار وبنو دينار، وبنو سالم وبنو زُريق وبنو طَريف وبنو عجْلان، أما والله لأوقعنَّ بكم وقعة تشفي صدور المؤمنين.

ثمّ دخل المدينة، وصعد المنبر وتكلم نظير ذلك حتى خاف أهل المدينة أن يوقع بهم. وأمر بدور قوم من الأنصار فحرقت وهدمت، ثم دعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه. ثمّ أرسل إلى جابر بن عبد الله الأنصاريّ ليأتيه فلم يفعل، فهمّ بقتله حتى أرسلت إليه أمّ سلمة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسألته الأمان له، فقال بسر: لا والله لا أومّنه حتّى يبايع معاوية، فبايع جابر معاوية على الكره منه. ثم نادى في الناس فجمعهم ثم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ١٠٦ - ١٠٧، مختصر تاريخ دمشق ٥: ١٨٤. وعجب ولا عجب! لا حرمة لمدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند بسر وسيّده معاوية، أمّا أبو موسى فهو صاحب رسول الله وله الأمان! ولم لا؟ أليس الرجل عثمانيّا مخذّلا عن أميرالمؤمنين؟ وأمّا جابر الصحابي الجليل: فأوّل من يسأل عنه بسر ليذلّه ويقسره على البيعة لابن هند!

(٢) النحل: ١١٢.

٢٥

قال: يا أهل المدينة، إنّي قد صفحت عنكم وما أنتم أهل لذلك! لأنه ما من قوم قتل إمامهم بين أظهرهم فلم يدفعوا عنه بأهل أن يعفى عنهم، وإن نالتكم العقوبة في الدنيا فإني لأرجو أن لا تنالكم رحمة الله في الآخرة. ألا وإني استخلفت عليكم أبا هريرة، فاسمعوا له وأطيعوا وإيّاكم والخلاف، فو الله لئن عدتم لمعصية لأعودنّ عليكم بالهلاك وقطع النسل (١).

في مثل هذا الجوّ المظلم المغرق في الظلم والزندقة ترعرع يزيد وتجذّرت نبتته نبتة السوء، فهو يسمع معاوية يأمر أمراءَ جنده أن يطأوا كلّ أرض فيها لعليّ عليه السلام شيعة وأتباع فيذبحهم بلا رحمة ولا تمييز بين محارب وغيره، وله أن ينهب ويحرق وأن يرهب أهل المدينة ويذلّهم! وهم لم يكونوا ثائرين ناكثين بيعة؛ ومع ذلك فهم أهل حرم رسول الله فقد حرّمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة كما حرّم الله تعالى بيته، فأراد معاوية أن يبدل سنّة الله تعالى وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسنّته المعادية لله ولرسوله ولأوليائه، فشنّها حربا دامية ما زال أثرها حتى يومنا – صفّين - - وأعقبها بالغارات على ما وصفنا وانتهاكه حرمة الحرمين الشريفين، ثم سنّته التي خلّدته ومَن سار عليها في جهنّم وبئس مثوى المنافقين! ذلك أنّه ألزم نفسه وولاته في الأمصار الإسلاميّة بختم الصلاة بلعن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام!!

وقد علمت أنّ حبّ عليّ عليه السّلام إيمانٌ وبغضه نفاق، على لسان رسول الله والمنافق في النار، كيف إذا ضمّ إليه ما ذكرناه من عظيم جرائمه؟! ولذا الغرابة والعجب يكونان إذا أحبّ يزيد أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يعتدِ عليهم ولم يهتك حرمة الحرمين الشريفين؛ ومن شابَه أباه فما ظلم!

(ثمّ سار من المدينة يريد مكّة وبها يومئذ قثم بن العبّاس، فخرج منها هارباً خوفا

____________________

(١) الفتوح ٤: ٥٦ - ٥٨.

٢٦

على نفسه، حتّى إذا أشرف بُسر على مكّة خرج إليه أشراف أهلها، فلمّا نظر إليهم انتهرهم وشتمهم ثمّ قال: أمّا والله لولا خلّة واحدة أوصاني بها أمير المؤمنين معاوية! لـما تركت منكم أحداً يمشي على وجه الأرض!)(١) .

لا كلام لنا مع الذليل بسر مبعوث ابن هند بشأن عدوانه على أشراف أهل بيت الله الحرام وقد خرجوا يستقبلونه دفعا لشرّه، فالحرمة واحدة للبيتين إلّا أن نقول: إنَّه في المدينة المنوّرة وجد ذريعة فيما أحدث: من قتل عثمان الذي اشتركت فيه الأمصار والاقاليم الإسلامية الناقمة على سياسة عثمان ولم يشترك من أهل المدينة إلّا نفر، كان طليعتهم عائشة التي سعّرت عليه البلاد والعباد ودعت إلى قتله بقوله: (أُقتلوا نعثلا فإنّه كفر) وتبعها على ذلك من العشرة: عبدالرحمن بن عوف، وطلحة والزبير. وأمّا ابن هند فقد استنجد به عثمان، فما أنجده!

إنّ دستور معاوية إلى بسر في إهانة وترويع أهل الحرمين...، مبارزة لله تعالى. عن أنس بن مالك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن الله تبارك وتعالى، قال: (من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة)(٢) .

____________________

(١) نفس المصدر السابق ٤: ٥٨.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ١٦٨.

٢٧

٢٨

ما جاء في منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الذي أحدثه طغاة بني أميّة وقادتهم وولاتهم في عدوانهم على سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وآثاره، في كل مفرداتها، والذي فتح الباب لذلك ابن هند، كبيرهم الذي علّمهم هتك حرمة الحرمين كما ذكرنا في مبحث الغارات بعثها لهذه الغاية ولإخافة أهل الحرمين وبثّ الرّعب في قلوبهم! فصار سنّة لمن في قلبه مرض وذوي العاهات والأدعياء يقفو كلٌّ أثر سابقه في طمس سنّة النبي ومحو آثاره التي كانت موضع تتبّع وتبجيل وتبرّك عند المسلمين( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) (١) . وكان من تلك الآثار منبره الذي ماسّ بدنه الطاهر وكان مدرسةً للمسلمين من عليه يُفقّه أمّته. وزيادة على ذلك فهو مستقرٌّ على باب من أبواب الجنّة؛ سُعِد من تبرّك به تبرُّكَ تيمّن وموالاة لصاحبه واستناناً بسُنّته من غير تعطيل، وانتهاجا لكتاب الله تعالى الذي بلغه من غير تأويل، وشقى من استخفّ حرمته، وخالف كتاب الله تعالى وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهتك حرمة الكعبة فحرقها وهدمها؛ فحريّ به أن يحشر مع من أحب، فلا يدخلا الجنة وقد هتكا حرمتها في الدنيا واستخفّا بها؛ فما بقي إلّا النار.

____________________

(١) الزخرف: ٣٦.

٢٩

علّة صنع المنبر

وإنما كان منبر رسول الله بمثابةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدرسة مباركة علّم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين دروسا في مناسكهم وعباداتهم وأحكاما شرعية وأخلاقيّة من على ذلك المنبر الشريف، الذي لو كان لأمّة من الأمم لعملوا له متحفاً يحفظونه ويفتخرون به ويقدّسونه.

بأسانيد كثيرة يعضّد بعضها الآخر وتنتهي بأم سلمة وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وأبي هريرة، وسهل بن سعد الساعديّ، وابن عبّاس، وأُبَيّ بن كعب، وغيرهم.

عن سهل بن سعد الساعديّ وقد سئل عن المنبر من أيّ عود هو؟ فقال: أرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فلانة، امرأة سمّاها، فقال: (مُرِي غلامَك النجّار يعمل لي أعواداً أُكلّم الناس عليها)، فعمل هذه الثلاث الدرجات من طرفاء الغابة، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعت هذا الموضع، قال سهل: فرأيت رسول الله أوّل يوم جلس عليه كبّر فكبّر الناس خلفه، ثم ركع وهو على المنبر، ثم رفع فنزل القهقهرى فسجد في أصل المنبر، ثمّ عاد حتّى فرغ من صلاته، فصنع فيها كما صنع في الركعة الأولى، فلمّا فرغ أقبل على الناس فقال: (أيّها الناس إنّما صنعت هذا لتأتمّوا بي ولتُعَلِّمُوا صلاتي)(١) .

وعن ابن عباس: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان يخطب إلى جذع، فلما اتُّخذ المبنر فتحوّل إليه حنّ الجذع حتّى أتاه فاحتضنه، فقال: (لو لم أحتَضِنْه لحنّ إلى يوم القيامة)(٢) .

وعن أبيّ بن كعب عن أبيه قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي إلى جذع إذ كان المسجد عريشاً، فكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ١٩٤، سنن ابن ماجه ١: ٤٥٥ / ١٤١٦ وفيه: حتى سجد على الأرض.

(٢) سنن ابن ماجة ١: ٤٥٤ / ١٤١٥.

٣٠

هل لك أن أعمل لك منبراً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتُسمعهم خطبتك؟ قال: (نعم)، فصنع له ثلاث درجات هنَّ اللاتي على المبنر أعلى المنبر، فلمّا صنع المنبر ووضع في موضعه وأراد رسول الله أن يقوم على المنبر، فمرّ إليه، فخار الجذع حتّى تصدّع وانشقّ، فنزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمسحه بيده حتى سكن ثمّ رجع إلى المنبر، وكان إذا صلّى صلّى إلى ذلك الجذع، فلمّا هُدم المسجد وغيّر أخذ ذلك الجذع أبيّ ابن كعب فكان عنده في داره حتّى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا(١) .

وعن ابن عباس أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،كان يخطب إلى جذع، فلمّا اتّخذ المنبر فتحوّل إليه حنّ الجذع حتّى أتاه فاحتضنه، فقال: (لولم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة)(٢) .

فهذا الجذع الذي يبدو لنا أنّه أصمّ لا إحساس له، وهذه علاقته رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلماذا يُلزمنا الوهّابيّون بما ألزموا به أنفسهم من حرمة شدّ الرحال لزيارة النبي الأكرم والتبرك بآثاره وأن نخضع لاعتقادهم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بات عظاماً وَرْمَةً ومن الشرك تقبيل قبره.

وليس هذا موضع الإفاضة في الآثار الواردة في حياة رسول الله في روضته الطاهرة، وسنعقد بابا لذلك، ولحياة الميّت في قبره، يمسع من يزوره ويعرفه ويأنس به إن كان مؤمنا غير متجاوز على ذات الله تعالى بتجسيم وتبعيض وتشبيه وغير ذلك من صفات النقص، ولا سافكا لدم حرام أو هاتك لحرمة البيتين الشريفين أو مصدرا لفتوى تكفيريّة تسبّب في إزهاق أرواح موالي أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأرواح الأبرياء شيوخا وأطفالاً ونساءً.

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ١٩٣.

(٢) نفس المصدر السابق. وانظر الحديث في سنن ابن ماجة ١: ٤٥٤ / ١٤١٦، مسند أحمد ١: ٢٤٩، ٢٦٧، سنن الدارمي ١: ١٩، المعجم الكبير، للطبراني ١٢: ١٨٧، البداية والنهاية ٦: ١٤٥، ١٤٧، ١٤٨.

٣١

لقد جرت سيرة السلف على التبرّك بمنبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمماسّته بدنه الطاهر وكفى بذلك قربة. وقد زاده موضعه ومكانه شرفاً وقدسيّة.

بسند عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (منبري هذا على تُرْعةٍ من تُرَع الجنّة)(١) ، قال: والتُرعة الباب.

ومثله عن سهل بن سعد الساعديّ(٢) .

وعن أمّ سلمة قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قوائمُ منبري رواتبٌ في الجنّة)(٣) .

ومن طرق عدّة، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (ما بين بيتي ومنبري وروضةٌ من رياض الجنّة ومنبري على حوضي)(٤) .

وفي لفظ: (ما بين منبري وبيتي روضةٌ من رياض الجنّة)(٥) .

فأيّ بلاغ أفصح في أنّ هذه البقعة لها خصوصيّة لا يمكن أن يتجاوزها إلّا من حلّت به اللعنة وساء مستقرّاً، فإنّ المدينة المنوّرة حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حرّمها كما حرّم الله تعالى مكّة سواء؛ فلا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا تخبط فيها

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ١٩٤، مسند أحمد ٢: ٣٦٠، مجمع الزوائد ٤: ٩.

(٢) نفس المصدر السابق، والمعجم الكبير، للطبراني ٦: ١٧٤، ٢٣٧. فالتبرّك به، تبرّك بباب الجنّة، والصدُّ عنه صدٌّ عن الجنّة. وفي النهاية لابن الأثير ١: ١٨٧، وقد ذكر الحديث، قال: التُّرعة في الأصل: الروضة على المكان المرتفع، فإذا كانت في المطمئنّ فهي روضة. قال القُتيبي: معناه أنّ الصلاة والذكر في هذا الموضع يؤدّيان إلى الجنّة، فكأنّه قطعة منها.

(٣) نفس المصدر السابق؛ والسنن الكبرى ٥: ٢٤٧، ٢٤٨، مسند أحمد ٦: ٢٨٩، ٢٩٢. فأيّ بقعة مباركة استقرّ عليها منبر سيّد الرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! وبأيّ جواز هتك حرمته بنو أميّة ومن اقتدى بهم؟!

(٤) طبقات ابن سعد ١: ١٩٥، صحيح البخاري ٢: ٧٧، ٣: ٢٩، ٨: ١٥١، صحيح مسلم ٩: ١٦٢، سنن الترمذي: ح ٣٩١٥، ٢٩١٦، سنن النسائي ٢: ٥٣، مسند أحمد ٢: ٢٣٦، ٢٧٦، السنن الكبرى، للبيهقي ٥: ٢٤٧، فتح الباري ٤: ٩٩، ١٠٠.

(٥) صحيح مسلم ٩: ١٦١، صحيح البخاري ٢: ٧٧، ٣: ٢٩، فتح الباري ١١: ٤٦٥.

٣٢

شجرة إلّا لعلف ولا يقتل طيرها... ومن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقد ذكرنا أحاديث في ذلك في موضعها. هذا بشأن المدينة المنوّرة، فكيف بك بروضة من رياض الجنّة فيها من أنقذنا من الضّلالة وظلمة الجاهليّة سيّدنا ونبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

ولم يكن الاحتفاء بالمنبر للأسباب التي ذكرناها وحسب؛ وإنّما لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلما عرّف ببقعته الطاهرة ومكان منبره الشريف، فإنّه قد غلّظ وشدّد على من حلف يميناً باطلة عند منبره ولو على شيء يسير.

بسند عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا يحَلِف رجلٌ على يمينٍ آثمةٍ عند هذا المنبر إلّا تبوّأ مقعده من النار ولو على سِواكٍ أخضر)(١) .

فكان بنو أميّة وولاتهم أوّل من انتهك حرمة مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعملوا السيف في أهلها ثلاثة أيّام وقد أباح أمير الوهّابيّين لهم كلّ شيء، فأوغل جيش الشام قتلاً ونهباً وزناً حتّى حبلت ألف امرأة بكر، وقُتل من قُتل من الصحابة والتابعين وحملة القرآن، وكان أميرهم قد ارتقى منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأكل التمر ويطرح النوى في وجوه الأسرى من أهل المدينة استخفافاً منه بحرمة صاحب المنبر ويقول: شاهت الوجوه.

وقد خلت سيرة السلف على التبرّك بالمنبر. عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال: رأيت ناسا من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خلا المسجد أخذوا برمّانة المنبر الصلعاء التي تلي القبر بميامنهم ثمّ استقبلوا القبلة يدعون(٢) .

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ١٩٥، مسند أحمد ٣: ٣٤٤، سنن ابن ماجة ٢: ٧٧٩، السنن الكبرى ١٠: ١٧٦، حيلة الأولياء ٧: ٢٤٨.

(٢) طبقات ابن سعد ٢: ١٩٦.

٣٣

وعن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عبد القاريّ أنّه نظر إلى ابن عمر وضع يده على مقعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من المنبر ثمّ وضعها على وجهه(١) .

القول في معنى حديث الروضة

ذكر النووي في شرحه: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنّة)، ذكروا في معناه قولين أحدهما أنّ ذلك الموضع بعينه ينقل إلى الجنّة؛ والثاني أنّ العبادة فيه تؤدّي إلى الجنّة. قال الطبري في المراد ببيتي هنا قولان: أحدهما القبر، والثاني المراد بيت سكناه على ظاهره، وروى (ما بين حُجرتي ومنبري). قال الطبري: والقولان متّفقان، لأنّ قبره في حجرته وهي بيته.

قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ومنبري على حوضي)، قال القاضي: قال أكثر العلماء: المراد منبره الذي كان في الدنيا. قال: وهذا هو الأظهر. قال: وقيل: إنّ له هناك منبراً على حوضه، وقيل: معناه أنّ قصد منبره والحضور عنده، لملازمة الأعمال الصالحة، يُورِد صاحبَه الحوض ويقتضي شربه منه، والله أعلم(٢) .

فترى العلماء يستشرفون هذه المعاني الجليلة الرائعة: فإنّ الموضع الذي بين بيته ومنبره بقعة من بقاع الجنّة على نحو اليقين، ولذا فهو ينقل إلى الجنّة، وثاني معانيه أنّ له من القدسيّة والمنزلة في أنّ العبادة فيه تؤدّي إلى الجنّة؛ وأيّاً من المعنيين فإنّ البقعة هذه لها حرمة لا ينتهكها إلّا شقيّ حليف للشيطان، وقد فعلها بنو أميّة وخلفهم الوهّابيّون.

وإنّ قدسيّة هذه البقعة المباركة تستمدّ قدسيّتها من اتّصالها بقبره الشريف، لأنّ قبره في حجرته وهي بيته كما بيّن الطبريّ. وأيضاً من اتّصالها بمنبره الميمون الذي كان

____________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) حاشية صحيح مسلم، شرح النووي ٩: ١٦١ - ١٦٢.

٣٤

يعلّم الناس من عليه عباداتهم كما مرّ بنا، فصار المنبر وملازمته، ملازمةً للأعمال الصالحة، ولـمّا كان المنبر على حوض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ الأعمال الصالحة عنده سبب لورود الحوض والنهل منه.

اقتربنا كثيراً من حديث شدّ الرحال الذي تمسّك به ابن تيميّة، وتلقّاه الوهّابيّون حجّة بينهم وبين ربّهم الذي يزعمونه! نعم فلهم كما ألمعنا ربّ غيرُ ربّنا سبحانه؛ فربّهم قد خلق آدمعليه‌السلام على صورته، وله وجه بعين باصرة وفم يضحك حتّى تبدو نواجذه، وله يد ورجل يضعها في جهنّم فيملأ فراغها فتسكت ولا تقول بعد: هل من مزيد؟ وينطق بحرف وصوت وهو بذاته على عرشه قد ملأه، ويتحرّك وينزل إلى سماء الدنيا ويصعد إلى السابعة...، وأنّ لا خلود في جهنّم! ويمنعون من التوسّل بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الله تعالى في قضاء الحوائج، ويحرّمون شدّ الرحال لزيارتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحكمون بالشرك على من قبّل الضريح المقدّس أو توسّل بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدّمه بين يدي حاجته إلى الله تعالى، ويرفعون أصواتهم المنكرة بالبذاءة من القول في شأن ضيوف الرحمن الذين يرون من الجَفْوة أن يحجّوا ولا يتبرّكوا بزيارة نبيّهم، وإنّما يرون أنّ من تمام الحجّ الزيارة، ويعتقدون أنّ النبيّ حيٌّ يسمعهم ويجيبهم إذا سلّموا عليه ويدعو لهم ويشفع لهم فيغفر الله لهم ويرفع درجتهم في الجنّة.

إنّ رفع هؤلاء الأعراب أصواتهم عند حجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبكلمات مخالفة للشرع، إساءة لصاحب المقام الكريم، متابعةً منهم لأسلافهم الأوائل من أعراب نجد الذين أنزل الله تعالى فيهم ما لم ينزله من الذمّ في قوم آخرين إلّا اليهود، فلقد تأخّر إسلام قبائل نجد إلى العام التاسع من هجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي السنة الثامنة تمّ تحرير البيت الحرام، ودخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة، وأذعنت قريش فأظهرت الإسلام،

٣٥

فضربت القبائل من كلّ صوب نحو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بوفودها معلنةً الإسلام، ومن أجله سمّي ذلك العام بعام (الوفود).

وأمّا نجد، فإنّ البعض من قبائلها تأخّر إسلامها إلى العام التاسع، فيما لم يدخل بعضهم الإسلام إلّا في السنة العاشرة. وهم خلال السنوات السابقة لم يكونوا موادعين للمسلمين، فغزاهم رسول الله غير مرّة.

ما نزل فيهم من القرآن

ولم تكن قبائل نجد من الأدب وهي تظهر إسلامها، فأنزل الله تعالى في ذلك بياناً. ولا نريد أن نفيض في سلوك تلك القبائل النجديّة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو أمر يطول وصفه، ولكن نذكر الآيات القرآنيّة التي نزلت في أعراب نجد، فهي أجدر أن تخبرك حقيقتهم التي ورثها أحفادهم، وأضاف إليها ناصبيّ عصره ابن تيميّة ما جعلهم وبالاً على أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

نزل فيهم قوله تعالى:( الْأَعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ إلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَاأَنْزَلَ اللّهُ عَلَى‏ رَسُولِهِ ) (١) .

وقوله تعالى:( يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَ تَمُنّوا عَلَيّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٢) .

عن مجاهد (أسلمنا)، قال: استسلمنا مخافة القتل والسبي(٣) .

____________________

(١) التوبة: ٩٧.

(٢) الحجرات: ١٧.

(٣) الدرّ المنثور ٧: ٥٨٢.

٣٦

وقوله تعالى:( إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) (١) . نزلت في وفد تميم، قبيلة محمّد بن عبد الوهّاب التميميّ النجديّ؛ ذلك أنّهم دخلوا المسجد ونادوا رسول الله من وراء حجراته: أن أخرج إلينا يا محمّد، فآذى ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من صياحهم، فخرج إليهم فقالوا: يا محمّد! جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا؛ قال: قد أذنت لخطيبكم...، وبعد أن قام خطيبهم فراح يعدّد مفاخر قومه وأنّهم أعزّ أهل المشرق وأولي فضلهم لكثرة عددهم وعدّتهم، ومتحدّياً من يعدّد مثل ما لهم! فقام إليه خطيب رسول الله فأجابه فقطعه. ثمّ قام شاعرهم فافتخر بقومه كلّ فخر، فقام حسّان بن ثابت فأجابه؛ (فقال الأقرع بن حابس التميمي: وأبي، إنّ هذا الرجل لمؤتّى له(٢) ، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا. فلمّا فرغ القوم أسلموا)(٣) إنّ القوم لم يأتوا مسلمين، وإنّما أتوا مفاخرين بآثار الجاهليّة. فبعد إساءتهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمناداته وصياحهم من وراء حجراته وباسمه المجرّى من غير رسول أو نبيّ، وهو أمر نهى الله تعالى عنه وفعله أولئك وورثه عنهم أحفادهم الوهّابيّون منذ مائتي سنة تقريباً وحتّى الآن. قال تعالى:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * إِنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتّقْوَى‏ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن

____________________

(١) الحجرات: ٤.

(٢) لموتى له: لموفّق له.

(٣) السيرة النبويّة، لابن هشام ٤: ٢١٢.

٣٧

وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنّهُمْ صَبَرُوا حَتّى‏ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) .

وذكروا في سبب نزول قوله تعالى:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ ) :

عن نافع بن عمر، عن ابن أبي ملكية، قال: كاد الخيّران أن يهلكا: أبو بكر، وعمر، رفعا أصواتهما حين قدم عليه ركب بني تميم، في العام التاسع، ويدعى عام الوفود، فأشار أحدهما بالاقرع بن حابس، وأشار الآخر برجل، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلّا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ ) الآية(٢) .

عامر بن الطُّفيل يأتمر بقتل رسول الله

وممّن قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبائل نجد: وفد عامر ينتهي نسبهم إلى تميم.

وكان في الوفد: عامر بن الطّفيل، وأربد بن قيس، وجبّار بن سلمي؛ قال ابن إسحاق: (وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم. فقدم عامر بن الطفيل عدوّ الله، على رسول الله وهو يريد الغدر به...، وقال لأربد: إذا قدمنا على الرجل فإنّي سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعْلُه بالسيف، فلمّا قدموا على رسول الله قال عامر: يا محمّد، خالني(٣) . قال: (لا والله حتّى تؤمن بالله وحده). وجعل يكلّمه وينتظر

____________________

(١) الحجرات: ٢ - ٥.

(٢) صحيح البخاري ٦: ٤٦، ٨: ١٤٥، مسند أحمد ٢: ٦، سنن الترمذي ٥: ٦٣ / ٣٣١٩، سنن النسائي ٨: ٢٢٦، تفسير الطبري، ح ٣١٦٧٣، أسباب النزول، للواحدي: ١٥٢، سنن أبي يعلى: ٦٨١٦، أحكام القرآن، لابن العربي ٤: ١٠٨، معالم التنزيل، للبغوي: ١٩٩٠.

(٣) خالني: أي تفرّد لي خالياً حتّى أتحدّث معك.

٣٨

من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا يحير شيئاً. ولـمّا أبى عليه رسول الله قال: والله لأملأنّها عليك خيلاً ورجالاً، فلمّا ولّى قال رسول الله: أللّهم اكفني عامر بن الطفيل. فلمّا خرجوا من عند رسول الله، قال عامر لأربد: ويلك يا أربد! أين ما كنت أمرتك به؟... قال: لا أبا لك! لا تعجلْ عليَّ، والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلّا دخلت بيني وبين الرجل حتّى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟... حتّى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله...، ثمّ خرج أصحابه حين وارَوه، فلمّا قدِموا أتاهم قومهم فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا شيء والله، لقد دعانا إلى عبادة شيء لودِدتُ أنّه عندي الآن فأرميه بالنَّبل حتّى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقةً فأحرقتهما)(١) .

عن عبد الله بن عبّاس، وقد ذكر أربد وما قتله الله به فقال:( وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ) (٢) .(٣)

نجد أرض النبوّات الكاذبة

وكما تأخّر إسلام قبائل نجد، وكان منها الذي كان وهي تظهر إسلامها، من سوء أدب وائتمار في قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ نجد هي أرض النبوّة الكاذبة؛ فقد تنبّأ طلحة ابن خويلد وشكّل خطراً على الإسلام، إذ تبعته قبائل نجد.

ومنها كان: مسيلمة الكذّاب الحنفيّ التميميّ النجديّ، الذي ادّعى النبوّة، فاتّبعته تميم.

____________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام ٤: ٢١٣ - ٢١٤.

(٢) الرعد: ١٣.

(٣) السيرة النبويّة، لابن هشام ٤: ٢١٥.

٣٩

وتنبّأت سجاح التميميّة فاتّبعتها قبائل نجديّة وشكّلت خطراً على مسيلمة فدعاها للتفاوض وضرب لها قُبّة عطّرها...، فأقامت عنده ثلاثاً ثمّ انصرفت إلى قومها تعلمهم أنّها تزوّجته وأنّها ضمّت نبوّتها إلى نبوّته!(١)

الشيخ النجديّ

بعد هجرة المسلمين إلى المدينة بدأت مخاوف قريش من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزداد، فاجتمعوا للتشاور في أمر النبيّ، إذ اعترضهم إبليس في هيئة شيخ من أهل نجد، فوقف على باب الدار، فلمّا رأوه قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتّعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأياً ونصحاً، قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم. وبعد التشاور، تعدّدت آراؤهم في طريقة التخلّص من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا والشيخ النجدي يردّها، حتّى أدلى أبو لهب برأيه وهو أن يحمل شابّ من كلّ قبيلة سيفاً فيضربوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضربةً واحدةً فيضيع دمه بين القبائل؛ فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، واتّفقوا على ذلك.

قال السهيلي: وإنّما قال لهم إنّي من أهل نجد لأنّهم قالوا: لا يدخل معكم أحد من أهل تهامة لأنّ هواهم مع محمّد، فلذلك تمثّل لهم في صورة شيخ نجدي. وقد ذكر في خبر بنيان الكعبة أنّه تمثّل في صورة شيخ نجدي أيضاً حين حكموا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في أمر الركن من يرفعه، فصاح الشيخ النجدي: يا معشر قريش! أقد رضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم؟ فلمعنى آخر تمثّل نجديّاً؛ وذلك أنّ نجداً يطلع منها قرن الشيطان، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حين قيل له: وفي نجدنا يا رسول؟ قال: (هنالك الزلازل والفتن ومنها يطلع قرن الشيطان) فلم يبارك عليها كما بارك على

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٢: ٤٩٩.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

قال مولانا وإمامنا سيّد العابدين ، وقبلة أهل الحق واليقين ، سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.

« أيّها الخلق المطيع ، الدائب السريع ، المتردّد في منازل التقدير ، المتصرّف في فلك التدبير ».

لفظة « أي » : وسيلة إلى نداء [10 / ب ] المعرّف باللام ، كما جعلوا « ذو » وسيلة إلى الوصف بأسماء الأجناس ، و « الذي » وسيلة إلى وصف المعارف بالجمل ؛ لأنَّ إلصاق حرف النداء بذي اللام يقتضي تلاصق أداتي التعريف ، فإنّهما كمثلين كما قالوا ، وإنَّما جاز في لفظ الجلالة للتعويض ولزوم الكلمة المقدسة ، كما تقرر في محلّه ، واعطيت حكم المنادى ، والمقصود بالنداء وصفها ، ومن ثمّ التزم رفعه ، واقحمت هاء التنبيه بينهما تاكيداً للتنبيه المستفاد من النداء ، وتعويضاً عمّا تستحقه « أي » من الإضافة.

« والخلق » : في الأصل مصدر بمعنى الإِبداع والتقدير ، ثم استعمل بمعنى المخلوق ، كالرزق بمعنى المرزوق.

« والدائب » ـ بالدال المهملة واخره باء موحدة ـ : اسم فاعل من دَأَبَ فلان في عمله أي جدّ وتعب.

و جاء في تفسير قوله تعالى :( وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ ) (1) ، أي مستمرين في عملهما على عادة مقررة جارية(2) ، والمصدر

________________________

(1) إبراهيم ، مكية ، 14 : 33.

(2) تفسير التبيان 6 : 297 / مجمع البيان 3 : 316 / تفسير الفخر الرازي 19 : 128 / الجامع لأحكام

٨١

« دَأْب » باسكان الهمزة وقد تحرك ، ودُؤُب بضمّتين(1) .

« والسرعة » : كيفية قائمة بالحركة ، بها تقطع من المسافة ما هو أطول في زمان مساوٍ أو أقصر ، وما هو مساوٍ في زمن أقصر.

ووصفهعليه‌السلام القمر بالسرعة ربما يعطي بحسب الظاهر أن يكون المراد سرعته باعتبار حركته الذاتية ، وهي التي يدور بها على نفسه.

وتحرك جميع الكواكب بهذه الحركة ممّا قال به جم غفير من أساطين الحكماء ، وهو يقتضي كون المحو المرئي في وجه القمر شيئاً غيرثابت في جرمه ، وإلَّا لتبدل وصفه ، كما قاله سلطان المحققين(2) قدس الله روحه في شرحالإشارات(3) ، وستسمع فيه كلاماً إن شاء الله.

و الأظهر أنَّ ما وصفه بهعليه‌السلام من السرعة إنَّما هو باعتبار حركته العرضية التي بتوسط فلكه ، فإن تلك الحركة على تقدير وجودها غيرمحسوسة ولامعروفة ، والحمل على المحسوس المتعارف أولى.

________________________

القرآن 9 : 367 / المفردات : 174.

(1) الصحاح 1 : 123 / تاج العروس 1 : 242 مادة ( دأب ) فيهما.

(2) سلطان المحققين ، الخواجه نصير الدين الطوسي ، محمد بن محمد بن الحسن الجهروردي القمي.حجة الفرقة الناجية ، فخر الشيعة الإمامية ، ناموس دهره ، فيلسوف عصره ، افضل الحكماء والمتكلمين ، سلطان العلماء والمحققين ، علامة البشر ، نصير الملة والدين ، الذي ارتفع صيته في الآفاق ، خضع له الموافق والمخالف؛ له مكتبة تناهز الأربع مئة ألف كتاب ، أقام المنجمين والفلاسفة ، ووقف عليهم الأوقاف ، أسس المرصد المعروف بمراغه ، زها العلم في زمنه ؛ له مؤلفات منها تحرير اقليدس ، تحرير المجسطي ، شرح الاشارات ، الفصول النصيرية ، الفرائض النصيرية ، التذكرة النصيرية ، وغيرها.

مات سنة 672 هـ = 1273 م ودفن في الروضة المطهرة الكاظمية.

انظر : روضات الجنات 6 : 300 رقم 588 / تاسيس الشيعة : 395 / تنقيح المقال 3 : 179 رقم 11322 / شذرات الذهب 5 : 339 / البداية والنهاية 13 : 267 / جامع الرواة 2 : 188 / تاريخ مختصر الدول : 286 / فوات الوفيات 3 : 246 رقم 414 / تاريخ آداب اللغة العربية 2 : 245رقم 1 / أعيان الشيعة 9 : 414 / نقد الرجال : 331 رقم 691 / أمل الآمل 2 : 299 رقم 904.

(3) شرح الاشارات والتنبيهات 2 : 34.

٨٢

و سرعة حركة القمر(1) بالنظر الى سائر الكواكب ؛ أما الثوابت فظاهر ، لكون حركتها أبطأ الحركات حتى أنَّ القدماء لم يدركوها ؛ وأمَّا السيارات فلأن زحل[11 / أ] يتم الدور في ثلاثين سنة ، والمشتري في اثنتي عشرة سنة ، والمريخ في سنة وعشرة أشهر ونصف ، وكلاً من الشمس والزهرة وعطارد في قريب سنة ، وأما القمر فيتم الدور في قريب من ثمانية وعشرين يوماً.

هذا ولا يبعد أن يكون وصفهعليه‌السلام القمر بالسرعة باعتبار حركته المحسوسة على أنّها ذاتية له ، بناء على تجويز كون بعض حركات السيارات فيأفلاكها من قبيل حركة الحيتان في الماء ، كما ذهب إليه جماعة ، ويؤيده ظاهر قوله تعالى :( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (2) .

ودعوى امتناع الخرق على الأفلاك لم تقرن بالثبوت ، وما لفَّقه الفلاسفة لاثباتها أوهن من بيت العنكبوت ؛ لابتنائه على عدم قبول الأفلاك باجزائها للحركة المستقيمة ، ودون ثبوته خرط القتاد(3) ، والتنزيل الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ناطق بانشقاقها(4) .

وما ثبت من معراج نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجسده المقدس الى السماء السابعة صاعداً شاهد بانخراقها.

________________________

(1) في هامش بعض النسخ ما لفظه : نُقل عن بعض الأكابر أنّ ما يدل على سرعة حركة القمر ـ أيضاً ـ التناسب العددي ببن « القي » واسم « السريع » ، إذ كلّ منهما ثلاثمائة وأربعون ، والتناسببحسب النقاط أيضاً ، هو من الأسرار!!!.

(2) الأنبياء ، مكية ، 21 : 33.

(3) قوله : « دون ثبوته خرط القتاد » مثل مشهور يضرب للدلالة على استحالة حصول شيء ما والقتاد : شجر شاك صلب فيه مثل الابر ، والخرط نزع قشر الشجر جذباً بالكف. والمعنى أنتحمل نزع قشر القتاد أهون من حصول العمل.

انظر : لسان العرب 3 : 342 و 7 : 284 / مجمع الامثال 1 : 265 ت 1395. (4) المراد بانشقاقها : انشعاب فيها في القيامة ، كقوله تعالى « وانشقت السماء فهي يومئذ واهية » [ الحاقة ، مكية ، 69 : 16 ] وقوله تعالى : « إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت » [ انفطار ، مكية ، 82 : 1 و 2 ] إلى غير ذلك من الآيات ، « منه ». قدس سره ، هامش الأصل.

٨٣

تكملة :

أرادعليه‌السلام بمنازل التقدير منازل القمر الثمانية والعشرين ، التي يقطعها في كل شهر بحركته الخاصة ، فيرى كلّ ليلة نازلاً بقرب واحد منها ، قال الله تعالى :( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (1) .

و هي : الشرطان ، والبطين ، والثريا ، والدّبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة [ 11 / ب ] ، والطرف والجبهة ، والزبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك الأعزل ، والغفر ، والزبانا ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، والفرغ المقدم ، والفرغ المؤخر ، والرشاء.

و هذه المنازل مشهورة فيما بين العرب ، متداولة في محاوراتهم ، مذكورة في أشعارهم ، وبها يتعرفون الفصول(2) ، فإنهم لما كانت سنوهم ـ لكونها باعتبار الأهلّة ـ مختلفة الأوائل لوقوعها في وسط الصيف تارة وفي وسط الشتاء اخرى ، احتاجوا إلى ضبط السنه الشمسية ، ليشتغلوا في أشغال كل فصل منها بما يهمّهم في ذلك الفصل ، فوجدوا القمر يعود إلى وضعه الأوَّل من الشمس في قريب من ثلاثين يوماً ، ويختفي في أواخر الشهر ليلتين أو ما يقاربهما ، فاسقطوا يومين من زمان الشهر فبقي ثمانية وعشرون ، وهو زمان ما بين ظهوره بالعشيات في أول الشهر وآخر رؤيته بالغدوات في أواخره ، فقسموا دور الفلك على ذلك ، فكان كلّ قسم اثنتي عشرة درجة وإحدى وخمسين دقيقة تقريباً ، فسمّوا كل قسم منزلاً ، وجعلوا لها علامات من الكواكب القريبة من المنطقة ، وأصاب كلّ برج من البروج الاثني عشر منزلان وثلثاً.

ثم توصلوا إلى ضبط السنة الشمسية بكيفية قطع الشمس[ 12 / أ ] لهذه

________________________

(1) يس ، مكية ، 36 : 39.

(2) للتوسعة في معرفة ذلك أنظر : عجائب المخلوقات : 33 ذيل حياة الحيوأن / وعلم الفلك.

٨٤

المنازل ، فوجدوها تقطع كلّ منزل في ثلاثة عشر يوماً تقريباً.

وذلك لأنهم رأوها تستتر دائماً ثلاثة منها ما هي فيه بشعاعها ، وما قبلهابضياء الفجر ، وما بعدها بضياء الشفق.

فرصدوا ظهور المستتر بضياء الفجر ، ثم بشعاعها ثم بضياء الشفق فوجدوا الزمان بين ظهوري كل منزلين ثلاثة عشر يوما بالتقريب ، فأيام المنازل ثلاثمائة وأربعة وستون ، لكنّ الشمس تعود إلى كل منزل بعد قطع جميعها في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً ، وهي زائدة على أيَّام المنازل بيوم ، فزادوا يوماً في منزل الغفر ، وانضبطت لهم السنة الشمسية بهذا الوجه ، وتيسر لهم الوصول إلى تعرّف أزمان الفصول وغيرها.

تذنيب :

القمر إذا أسرع في سيره فقد يتخطى منزلاً في الوسط ، وإن أبطأ فقد يبقى ليلتين في منزل ، أول الليلتين في أوله ، وآخرهما في آخره ، وقد يرى في بعض الليالي بين منزلين.

فما وقع في الكشاف ، وتفسير القاضي عند قوله تعالى :( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ) (1) من أنه ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولايتقاصر عنه(2) ، ليس كذلك فاعرفه.

إكمال :

الظاهر أن مرادهعليه‌السلام بتردد القمر في منازل التقدير ، عوده اليها في الشهر اللاحق بعد قطعه إياها في السابق ، فتكون كلمة « في » بمعنى إلى ، ويمكنأن تبقى على معناها الأصلي بجعل المنازل ظرفاً للتردد ، فان حركته التي يقطع بها تلك المنازل لما كانت مركبة من شرقية وغربية جعل كانه لتحركه فيها بالحركتين

________________________

(1) يس ، مكية ، 36 : 39.

(2) تفسير الكشاف 4 : 16 ، انوار التنزيل 4 : 188.

٨٥

المختلفتين متردد يقدّم رجلاً ويؤخر أُخرى.

وأما على رأي من يمنع جواز قيام الحركتين المختلفتين بالجسم ، ويرى أنّ للنملة المتحركة بخلاف حركة الرحى سكوناً حال حركة الرحى ، وللرحي سكوناً حال حركتها ، فتشبيهه بالمتردد أظهر كما لا يخفى.

إيضاح :

« الفلك » ، مجرى الكواكب ، سمّي به تشبيهاً بفلكة المغزل(1) في الاستدارة والدوران.

قال : الشيخ أبو ريحان البيروني(2) : إنَّ العرب والفرس سلكوا في تسمية السماء مسلكاً واحداً ، فإن العرب تسمي السماء فلكاً تشبيهاً لها بفلك الدولاب والفرس سموها بلغتهم آسمان ، تشبيها لها بالرحى فإنّ « آس » هو الرحى بلسانهم ، و « مان » دال على التشبيه(3) ، انتهى [12 / ب].

والمراد بـ « فلك التدبير » ، أقرب الأفلاك التسعة إلى عالم العناصر ، أي : الفلك الذي به تُدبّر بعض مصالح عالم الكون والفساد.

وقد ذكر بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى :( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) (4) أنّ المراد بها الأفلاك(5) ؛ وهو أحد الوجوه التي أوردها الشيخ الجليل أمين

________________________

(1) انظر : لسان العرب 10 : 478 ، مادة ( فلك ).

(2) محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي ، من نوابغ العلماء ، فيلسوف رياضي ، سكن الهند فترة ، له المام بالفلسفة اليونانية والهندية ، اشتهر بالهيئة ، له مؤلفات كثيرة محصورة في فهرست مخصوص بها ، يقع في ستين صفحة ، منها : التفهيم ، الآثار الباقية ، الجماهر.

والبيروني قيل نسبة إلى سكناه خارج خوارزم ، بناءاً على قراءتها بالتخفيف ، وقيل أنها مدينة في السند. مات سنة 440 هـ = 1048 م له ترجمه في : اللباب 1 : 197 / عيون الأنباء : 459 / الأعلام 5 : 314 / معجم الادباء 17 : 180 رقم 62 / تاريخ مختصر الدول : 186 / روضات الجنات 7 : 351 رقم 669 / الذريعة 1 : 507 رقم 2501 / وانظر مقدمة التفهيم الفارسية.

(3) التفهيم لأوائل صناعة التنجيم : 45 / وانظر فرهنك جامع آنندراج 1 : 72.

(4) النازعات ، مكية ، 79 : 5.

(5) اختلفت مذاهب المفسرين في قبول ذلك ورده أنظر كلاّ من : القرطبي في تفسيره

٨٦

الإسلام أبو علي الطبرسيرضي‌الله‌عنه في تفسيره الكبير الموسوم بمجمع البيان ، عند تفسيرهذه الآية(1) .

ويمكن أن يكون على ضرب من المجاز ، كما يسمى ما يقطع به الشيء قاطعاً.

وربّما يوجد في بعض النسخ : « المتصرف في فلك التدوير » ، وهو صحيح أيضاً ، وإن كانت النسخة الاُولى أصح ، والمراد به رابع أفلاك القمر ، وهو الفلك الغير المحيط بالأرض ، المركوز هو فيه ، المتحرك ـ أسفله على توالي البروج ، وأعلاه بخلافه ، مخالفاً لسائر تداوير السيارة ـ كلّ يوم ثلاث عشرة درجة وثلاث دقائق وأربعاً وخمسين ثانية. وهو مركوز في ثخن ثالث أفلاكه لمسمى بالحامل ، المباعد مركزه مركز العالم بعشر درج ، المتحرك على التوالي كلّ يوم أربعاً وعشرين درجة واثنتين وعشرين دقيقة وثلاثاً وخمسين ثانية.

وهو واقع في ثخن ثاني أفلاكه المسمى بالمائل الموافق مركزه مركز العالم ، المماسّ مقعّره محدب النار الفاضل عن الحامل الموافق له في ميل منطقته عن منطقة البروج بمُتِّمَمين متدرجي الرّقة إلى نقطتي الأوج والحضيض ، المتحرك على خلاف التوالي كل يوم إحدى عشرة درجة وتسع دقائق وسبع ثوان.

وهو واقع في جوف أول أفلاكه المسمى بالجوزهر الموافق مركزه مركز العالم ، ومنطقته منطقة البروج ، والمماسّ محدّبه مقعر ممثل عطارد ، المتحرك كالثاني كلّ يوم ثلاث دقائق واحدى عشرة ثانية.

* * *

________________________

91 : 491 / والفخر الرازي في تفسيره 31 : 27 ـ 32 بتفصيل فيهما ، وتفسير أبو السعود 9 : 96 / والبيضاوي 5 : 171 / والبحر المحيط 9 : 491 / والنهر الماد 8 : 418 / الكشاف4 : 693.

(1) مجمع البيان 5 : 430

٨٧

وهم وتنبيه :

من غرائب الأوهام ما حكم به صاحب المواقف(1) ، من أنَّ غاية الغلظ في كلّ من المتممين مساوية لبعد مركز الحامل عن مركز العالم(2) .

و هذا مما يكذبه العيان ويبطله قاطع البرهان [13 / أ] ، وكونها ضعفا له مما لا ينبغي أن يرتاب فيه من له أدنى تخيل ، ويمكن إقامة البرهان عليه بوجوه عديدة.

ويكفي في التنبيه عليه أنَّ التفاضل بين نصفي قطري الحامل والمائل بقدرما بين المركزين ، فيكون ضعف ذلك تفاضل القطرين(3) .

ولنا على ذلك برهان هندسي أوردناه في شرحنا على شرح الجغميني(4) .

والعجب من المحقق الدواني(5) كيف وفق صاحب المواقف على ذلك الوهم ،

________________________

(1) عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار ، عضد الدين الفارسيّ ، ألشافعي ، الملقب بالعضدي أوالعضد الايجي ، نسبة الى بلدة في نواحي شيراز ، أخذ عن مشايخ عصره أمثال الشيخ الهنكي ، ولازمه ، ولي القضاء للمماليك ، برع في المعقول والأصول والمعاني والعربية ، له شرح المختصر ، والمواقف في الكلام ، تلمذ عليه الكرماني ، والعفيفي ، والتفتازاني. له محنة مع صاحب كرمان حبسه على أثرها فمات في الحبس سنة 756 هـ = 1355 م.

له ترجمة في : الدرر الكامنة 2 : 322 رقم 2278 / طبقات الشافعية الكبرى 6 : 08 1 / شذراتالذهب 6 : 174 / هدية ألأحباب : 218 / بغية الوعاة 2 : 75 رقم 1476 / روضات الجنات 5 : 49 رقم 438 / معجم المؤلفين 5 : 119 / الأعلام 3 : 295 / الكنى والألقاب 2 : 472.

(2) المواقف : 208.

(3) تاتي الإشارة إلى البرهان على ذلك قريبا ، وأورد الاعتراض بصورة مفصلة مع البرهان في الكشكول 2 : 348.

(4) ألجغميني : تسمية للكتاب باسم نسبة المؤلف ، إذ اسمه الأصلي ملخص الهيئة أو الهيئة البسيطة ومؤلفه محمود بن محمد بن عمر الجغميني ، وجغمين من قرى خوارزم له شروح ولشروحه شروح منها شرح الشيخ المصنفقدس‌سره ولا زأل الشرح مخطوطا.

(5) محمد بن أسعد الصديقي الدواني ، جلال الدين الحكيم المتكلم ، من أفاضل المحققين والفلاسفة

٨٨

وأصرَّ على حقيته قائلاً : إن البرهان القائم على خلافه مخالف للوجدان فلا يلتفت إليه.

وأعجب من ذلك أنَّه استدلَّ على حقية ما زعمه حقاً بأنه لو فرض تطابق المركزين ثم حركة الحامل إلى الأوج فبقدر ما يتباعد المركزان يتباعد المحيطان(1) .

وأنت ، وكل سليم التخيل تعلمان أن دليله هذا برهان تامّ على نقيض مدّعاه ، فإيراده له من قبيل إهداء السلاح إلى الخصم حال الجدال ، وصدورمثله عجيب من مثله.

تبصرة :

لا يبعد أن تكون الإضافة في « فلك التدبير » من قبيل إضافة الظرف إلى المظروف ، كقولهم مجلس الحكم ، ودار القضاء ، أي الفلك الذي هو مكان

________________________

في القرن التاسع ، سطع نجمه في بلدته شيراز مهد الفلسفة ، استبصر آخر أمره ، له كتب منها شرح هياكل ألنور ، ألأربعون السلطانية ، شرح خطبة الطوالع ، وغيرها تصل الى ألستين مؤلفاً اختلف في تاريخ وفاته فقيل : 902 ، 906 ، 907 ، 908 ، 918 ، 928 هـ = 1496 ـ 1521 م.

له ترجمة في : هدية الأحباب : 154 / الضوء اللامع 7 : 133 / شذرات ألذهب 8 : 170 ، معجم المؤلفين 9 : 47 / الأعلام 6 : 32.

(1) حاصل البرهان على ما جاء في الكشكول 2 : 204 هو :

إذا تماست دأئرتان من داخل صغرى وعظمى ، فغاية البعد بين محيطيهما بقدر ضعف ما بين مركزيهما ، كدائرتي « أ ب حـ ، أ د هـ » ألمتماستين على نقطة « أ » ، وقطر العظمى « أ هـ » ، وقطر الصغرى « ا حـ » وما بين المركزين « رح ». فخط « حـ هـ » ضعف خط « رح » ؛ لأنا إذا توهمنا حركة الصغرى لينطبق مركزها على مركز العظمى ، ونسميها حينئذٍ دائرة « ط ي » فقد تحرك محيطها على قطر العظمى بقدر حركة مركزها فخطوط « أ ط ر ح ى » متساوية ، وخطا « أ ط ى هـ » متساويان أيضاً ، لأنهما الباقيان بعد أسقاط نصفي قطر الصغرى من نصفي قطر العظمى ، فخط « رح » ألذي كان يساوي خط « أ ط » يساوي خط « ي هـ » أيضا ، وقد كان يساوي خط « حـ ي » ، فخط « حـ هـ » ضعف خط « رح » وذلك ما أردناه ، والتقريب ظاهر كما لا يخفى.

لاحظ الشكل :

٨٩

التدبير ومحله ، نظراً إلى أنَّ ملائكة سماء الدنيا يدبرون أمر العالم السفلّي فيه ، أو إلى أنَّ كلاً من السيارات السبع تدبر في فلكها أمراً هي مسخرة له بأمرخالقها ومبدعها ، كما ذكره جماعة من المفسرين [13 / ب] في تفسير قوله تعالى :( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) (1) (2) .

و يمكن أن يراد بـ « فلك التدبير » مجموع الأفلاك التي تتدبر بها الأحوال المنسوبة إلى القمر بأسرها ، وتنضبط بها الأمور المتعلقة به بأجمعها ، حتى تشابه حركة حامله حول مركز العالم ، ومحاذاة قطر تدويره نقطة سواه إلى غيرذلك.

وتلك الأفلاك الجزئية هي الأربعة السالفة مع ما زيد عليها لحل ذينك الإشكالين ، ومع ما لعلَّه يُحتاج إليه أيضا في انتظام بعض أموره وأحواله التي ربما لم يطلع عليها الراصدون في أرصادهم ، وإنما يطلع عليها المؤيدون بنور الإمامة والولاية.

________________________

(1) النازعات ، مكية ، 79 : 5.

(2) تقدمت الإشارة إليهم في الهامش رقم « 5 » صحيفة : 15 وقد جاء في هامش الأصل ما لفظه :

روى الشيخ الجليل أبو علي في تفسيره الصغير [ جمع الجوامع 2 : 600] قولاً : بان المقسّمات فيقوله تعالى « فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا » [ الذاريات ، مكية ، 51 : 4 ] هي الكواكب ، منه. قدّس سرّه.

٩٠

وحينئذٍ يراد بالتدبير التدبير الصادر عن الفلك نفسه ، وتكون اللام فيه للعهد الخارجي ، أي التدبير الكامل الذي ينتظم به جميع تلك الأمور ، والله أعلم.

تتمة :

لا يبعد أن يراد بـ « فلك التدبير » الفلك الذي يدبره القمر نفسه ، نظرا إلى ما ذهب إليه طائفة من أن كلّ واحد من السيارات السبع مدبِّر لفلكه ، كالقلب في بدن الحيوان.

قال سلطان المحققين ، نصير الملة والحق والدين قدس الله روحه ، في شرح الإشارات : ذهب فريق إلى أن كل كوكب منها ينزل مع أفلاكه منزلة حيوان واحد ذي نفس واحدة ، تتعلق بالكوكب أول تعلقها ، وبأفلاكه بواسطة الكوكب ، كما تتعلق نفس الحيوان بقلبه أولاً ، وبأعضائه الباقية بعد ذلك ، فالقوة المحركة منبعثة عن الكوكب الذي هو كالقلب في أفلاكه ، التي هي كالجوارح والأعضاء الباقية(1) ، انتهى كلامه زيد إكرامه.

ويمكن أن يكون هذا هومعنى ما أثبته له [14 / أ]عليه‌السلام من التصرف في الفلك ، والله أعلم بمقاصد أوليائه سلام الله عليهم أجمعين.

خاتمة :

خطابهعليه‌السلام للقمر ، ونداؤه له ، ووصفه إيَّاه بالطاعة والجد ، والتعب والتردد في المنازل ، والتصرف في الفلك ، ربما يعطي بظاهره كونه ذا حياة وإدراك ، ولا استبعاد في ذلك نظراً إلى قدرة الله تعالى ، إلّا أنّه لم يثبت بدليل عقليّ قاطع يشفي العليل ، أو نقليّ ساطع لا يقبل التأويل ، نعم أمثال هذه الظواهر ربما تشعر به ، وقد يُستند في ذلك بظاهر قوله تعالى :( وَالشَّمْسِ

________________________

(1) شرح الإشارات والتنبيهات 2 : 32.

٩١

وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (1) ، فإن الواو والنون لا تستعمل حقيقة لغير العقلاء.

و قد أطبق الطبيعيون على أنَّ الأفلاك بأجمعها حية ناطقة عاشقة ، مطيعة لمبدعها وخالقها ، وأكثرهم على أنَّ غرضها من حركاتها نيل التشبه بجنابه ، والتقرب إليه جل شأنه ، وبعضهم على أن حركاتها لورود الشوارق القدسية عليها آناً فآنا ، فهي من قبيل هزَّة الطرب والرقص الحاصل من شدّة السرور والفرح.

و ذهب جمّ غفير منهم إلى أنه لا ميت في شيء من الكواكب أيضا ، حتى اثبتوا لكلّ واحد منها نفساً على حِدَة تحركه حركة مستديرة على نفسه ، وابن سينا(2) في الشفاء مال إلى هذا القول ورجحه(3) وحكم به في النمط السادس من الإشارات(4) ، ولو قال به قائل لم يكن مجازاً ، فإن كلام ابن سينا وأمثاله وإن لم يكن حجة يركن إليها الديانيون في أمثال هذه المطالب ، إلاّ إنه يصلح للتأييد.

و لم يرد في الشريعة المطهرة ـ على الصادع بها وآله أفضل الصلوات وأكمل التسليمات ـ ما ينافي ذلك القول ، ولا قام دليل عقليّ على بطلانه.

وإذا جاز أن يكون لمثل البعوضة والنملة فما دونها حياة ، فأيّ مانع من أن

________________________

(1) الأنبياء ، مكية ، 21 : 33.

(2) ابن سينا ، الحسين بن عبد الله بن سينا البخاري ، أبو علي الملقب بالشيخ الرئيس ، الفيلسوف الشهير ، نادرة الزمان ، أعجوبة الدهر ، له مشاركة في أغلب العلوم والفنون ، افتى على المذهب الحنفي وعمره اثنتا عشرة سنة ، صنف القانون في الطب ولما يبلغ السابعة عشرة ، له الشفاء ، والإشارات ، وغيرها كثير ، أخذ الفقه عن أسماعيل الزاهد ، والفلسفة والمنطق ، عن النائلي ، وأعتمد على نفسه في حل أكثر المطالب ، مات سنة 427 وقيل 28 هـ = 1035 ـ 1036 م.

له ترجمة في روضات الجنات 3 : 170 ت 268 / وفيات الأعيان 2 : 157 ت 190 / مرآة الجنان 3 : 47 / الكنى وألألقاب 1 : 320 / عيون الأنباء : 437 / خزانة ألأدب 4 : 466 / لسان الميزان 2 : 291 ت 1218 / سير أعلام النبلاء 17 : 531 ت 356 / الجواهر المضية 2 : 63 / البداية والنهاية12 : 42 / ميزان ألاعتدال 1 : 539 ت 2014 / دائرة ألمعارف الاسلامية 1 : 203 / وغيرها كثير.

(3) الشفاء 2 : 45 ، الفصل السادس ، حركات الكواكب من السماء والعالم ، قسم الطبيعيات.

(4) الاشارات والتنبيهات 2 : 34.

٩٢

يكون لمثل تلك الأجرام الشريفة أيضاً ذلك.

وقد ذهب جماعة إلى أنَّ لجميع إلأشياء نفوساً مجرَّدة ونطقاً ، وج علوا قوله تعالى :( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ) (1) محمولاً على ظاهره.

وليس غرضنا من هذا الكلام توجيح القول بحياة الأفلاك ، بل كسر سورة استبعاد المصرين على ، إنكاره وردّه ، وتسكين صولة المشنعين على من قال به أو جوّزه.

وقد قدمنا في فواتح هذا هذا الشرح ـ الذي نسأل الله أن يوفقنا لإتمامه ـ كلاماً مبسوطاً في هذا [ 14 / ب ] الباب ، ذكرنا ما قيل فيه من الجانبين(2) ، والله الهادي.

* * *

________________________

(1) الاسراء ، مكية ، 17 : 44.

(2) هذا وغيره كثير مما يأتي يدل على أنه كتب غير هذا الشرح أيضا لباقي الأدعية ، ولكن لم تصل الينا لحد ألآن ، نسأل الله التوفيق للعثور على الباقي.

٩٣

قال مولانا وإمامناعليه‌السلام :

« امنت بمن نوّر بك الظُلمَ ، وأوضح بك البُهَم ، وجعلك آية من ايات ملكه ، وعلامة من علامات سلطانه ، وامتهنك بالزيادة والنقصان ، والطلوع والاُفول ، والإنارة والكسوف ، في كلّ ذلك أنت له مطيع ، وإلى إرادته سريع ».

« الإيمان » ، وان اختلفت الاُمة في أنه التصديق القلبي وحده ، أو الإقرار اللساني وحده ، أو كِلا الأمرين معا ، أو أحدهما ، أو مع العمل الأركاني ، كما تقدم تفصيله وتحقيق الحق فيه في فواتح هذا الشرح(1) .

________________________

(1) الإيمان في اللغة هو التصديق أو إظهار الخضوع والقبول. يقال : آمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمنت به ، اي صدقته وأظهرت له الخضوع والقبول لما يقوله.

انظر : الصحاح 5 : 2071 / القاموس 1518 / مجمل اللغة 1 : 102 / ومعجم مقاييس اللغة.

وبتفصيل في لسان العرب 13 : 23.

وفي عرف أهل الكلام من ألمسلمين على أربعة معان هي :

1 ـ الإيمان : فعل قلبي ، وهو قسمان :

أ ـ تصديق خاص أي تصديق الرسول الأعظم بما جاء به من الله تعالى مع حفظ المظاهر ـ إجمالاً أوتفصيلاً ـ ذهب إليه الأشاعرة والماتريديه ، ومن المعتزلة الصالحي وابن الراوندي.

ب ـ معرفة الله تعالى مع توحيده بالقلب ، وأضاف قسم منهم : وما جاء به الرسل. والإقرار اللساني بركن فيه عندهم. ذهب إليه الجهمية ، وبعض الفقهاء.

2 ـ الإيمان عمل لساني ، وهو قسمان :

أ ـ إضافة المعرفة القلبية ، واليه ذهب غيلان الدمشقي.

ب ـ الإيمان مجرد الإقرار اللساني لا غير ، واليه مال الكرامية.

٩٤

.............................................................................

________________________

3 ـ الإيمان عمل القلب واللسان معا ، وفيه أقوال :

أ ـ إقرار باللسان ، ومعرفة بالقلب ، واليه ذهب أبو حنيفة ، وأغلب الفقهاء ، وقسم من المتكلمين.

ب ـ تصديق بالقلب واللّسان معاً ، وهو قول الأشعري ، والمريسي.

ج ـ اقرار باللسان واخلاص بالقلب.

4 ـ الإيمان فعل بالقلب واللسان وسائر الجوارح ، واليه ذهب أصحاب الحديث ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، والاوزاعي ، والمعتزلة ، والخوارج ، والزيدية.

ولآراء الجميع تفصل في كتبهم.

هذا ، وما لنا ولأقوألهم وآرائهم ، هاك قول أمير المؤمنين عليه السلام : « الإيمان : معرفة بالقلب ، وإقرار باللّسان ، وعمل بالأركان » نهج البلاغة ، الحكمة 227.

وقول الإمام الصادق عليه السلام :

« ليس الإيمان بالتحلّن ، ولا بالتمنّي ، ولكن الإيمان ما خلص في القلب وصدقه الأعمال ».

وهكذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : « الإيمان قول وعمل أخوان شريكان ».

وقول الإمام الرضا عليه السلام :

« الإيمان : عقد بالقلب ، ولفظ باللّسان ، وعمل بالجوارح ، لا يكون ألإيمان إلّا هكذا ».

ولا يخفى أنَّ الإيمان أمر ـ مفهوم ـ إعتباري ، قابل للزيادة والنقصان ، والشدّة وألضعف ، وعليه شواهد من القران الكريم والروايات.

والاسلام : يتحقق بإظهار الشهادتين فقط لا غير ، فتكون النسبة بينه والإيمان هي العموم والخصوص المطلق ، إذ كل مؤمن مسلم وزيادة. وليس كلّ مسلم مؤمنا. والقرآن الكريم شاهد عليه ، قال الثه تعالى : «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم » [ الحجرات ، مدنية ، 49 : 14]

وهكذا قول الإمام الصادق عليه السلام : « الإسلام : شهادة أن لا إله إلّا الله ، والتصديق برسول الله (ص) ؛ به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس. والايمان : الهدى ، وما ثبت في القلوب من صفة الإسلام ، وما ظهر من العمل ، وألإيمان أرفع من الإسلام بدرجة ».

وإلى الفرق بينهما اشار عليه السلام كما في الكافي « الإيمان إقرار وعمل ، والإسلام إقرار بلاعمل ».

هذا هو رأي الشيعة الإمامية الإثني عشرية بنحو الإجمال ، وللتوسعة في جميع ما تقدم ينظر :

الكافي 2 : 24 ـ 28 / معاني الأخبار : 186 ، باب معنى الاسلام والايمان / حق اليقين للسيد شبر2 : 331 بتفصيل لطيف / تفسير ألقرآن الكريم للمولى الشيرازي 1 : 245 / بحار الأنوار65 : 225 ـ 309 / إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : 436 / تجريد الاعتقاد : 309 / كشف

٩٥

إ لَّا أنَّ الإيمان المعدى بالباء لا خلاف بينهم في أنَّه التصديق القلبي بالمعنى اللغوي.

و « النور » والضوء مترادفان لغة ، وقد تسمى تلك الكيفية إن كانت من ذات الشيء ضوءاً ، وإن كانت مستفادة من غيره نورا ، وعليه قوله تعالى :( جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا ) (1) .

و « الظُلَم » : جمع ظلمة ، ويجمع على ظُلُمات أيضاً ، وهي عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مضيئا(2) .

و « البُهَم » ـ بضم الباء الموحدة وفتح الهاء ـ : جمع بُهْمة ، بضم الباء وإسكان الهاء ، وهي مما يصعب على الحاسة إدراكه إن كان محسوساً ، وعلى الفهم إن كان معقولاً(3) .

و « الآية » : العلامة.

و « السلطان » : مصدر بمعنى الغلبة والتسلط ، وقد يجىء بمعنى الحجة والدليل ، لتسلطه على القلب وأخذه بعنانه.

و « المِهْنة » ـ بفتح الميم ، وكسرها ، واسكان الهاء ـ : الخدمة والذل والمشقة ، والماهن : الخادم.

و « امْتهنه » : استعمله في المهنة.

و « طلوع » الكوكب : ظهوره فوق الأفق أومن تحت شعاع الشمس.

________________________

المراد : 454 / توضيح المراد : 874 / تفسير القمي 1 : 30 / مقالات الاسلاميين : 132 / 266 / الفصل في الملل والنحل 3 : 225 / 39 / الذريعة إلى مكارم الشريعة 1 : 126 ـ 130 / فتح القدير 1 : 34 / الكشاف 1 : 37 / كشاف اصطلاحات الفنون 1 : 94 / المفردات : 25 / حاشية الكنبوي على شرح الجلال 1 : 195. وغيرها من كتب الكلام والتفاسير في تفسير الآية 3 منسورة البقرة.

(1) يونس ، مكية ، 10 : 5.

(2) الصحاح 5 : 1978 / تاج العروس 8 : 374 / المفردات : 315. وانظر للتفصيل ، لسان العرب12 : 377.

(3) معجم مقاييس اللغة 1 : 311 / تاج العروس 8 : 206 / لسان العرب 12 : 56.

٩٦

« وافوله غروبه تحته ».

و « الكسوف » ، زوال الضوء عن الشمس أو القمر للعارض المخصوص ، وقد يفسر الكسوف بحجب القمر ضوء الشمس عنّا ، أو حجب الأرض ضوءالشمس عنه ، وهو تفسير للشيء بسببه.

و قال جماعة من أهل اللغة : الأحسن أن يقال في زوال ضوء الشمس كسوف ، وفي زوال ضوء القمر خسوف(1) [15 / أ] ، فإن صحّ ما قالوه فلعلهعليه‌السلام أراد بالكسوف زوال الضوء المشترك بين الشمس والقمر لا المختص بالقمر وهو الخسوف ، ليكون خلاف الأحسن(2) فتدبر.

و لا يخفى أنَّ امتهان القمر حاصل بسبب كسف الشمس أيضاً ، فانه هوالساتر لها ، ولما كان شمول الكسوف للخسوف أشهر من العكس اختارهعليه‌السلام ، والله أعلم.

كشف نقاب :

لمّا افتتحعليه‌السلام الدعاء بخطاب القمر ، وذكر أوصافه وأحواله ، منالطاعة والجدّ والسرعة ، والتردد في المنازل ، والتصرف في الفلك ، وأراد أنيذكر جملاً اُخرى من أوصافه وأحواله سوى ما مر ؛ جرى عليه « السلام على النمط الذي افتتح عليه الدعاء من خطاب القمر ، ونقل الكلام من أسلوب إلى آخر ؛ على ما هودأب البلغاء المفلقين من تلوين الكلام في أثناء المحاورات كما ذكره صاحب المفتاح في بحث الالتفات(3) ؛ وجعل تلك الجمل ـ مع تضمنها لخطاب القمر وذكر أحواله ـ موشحة بذكر الله سبحانه ، والثناء عليه جلَّ شأنه ، تحاشيا

________________________

(1) ينظر صحاح اللغة 4 : 1350 و 1421 / القاموس : 1097 / تاج العروس 6 : 84 ، 232 / وانظر المفردات : 148 المواد ( خسف ، كسف ).

(2) والذي جعله أهل اللغة خلاف الأحسن هو إطلاق الكسوف على الخسوف ، وحده الأعلى الأمر الشامل له ولغيره ، وهذا كما قالوه : من أنَّ تعدية ألصلاة بعلى إذا أُريد بها مجموع المعاني الثلاثة لاتدل على التضمنية. ( منه ).

(3) مفتاح العلوم : 86 ، 181.

٩٧

عن أنْ يتمادى به الكلام خالياً عن ذكر المفضل المنعام ، فقال : « آمنت بمن نوّربك الظلم » إلى آخره ، معبّراً عن المؤمَن به جلَّ شأنه بالموصول ليجعل الصلة مشعرة ببعض أحوال القمر ، ويعطف عليها الأحوال الاُخر فتتلائم جمل الكلام ، ولا تخرج عن الغرض المسوق له من بيان تلك الأوصاف والأحوال.

و التعبير بالنكرة الموصوفة وإن كان يحصل به هذا الغرض أيضاً إلَّا أن المقام ليس مقام التنكيركما لا يخفى.

فإن قلت : مضمون الصلة لا بدَّ أن يكون أمراً معلوماً للمخاطب ، معهوداً بينه وبين المتكلم انتسابه إلى الموصول قبل ذكر الصلة ، ولذلك لم يجز كونها إنشائية كما قرروه ، والمخاطب هنا هو القمر وهو ليس من ذوي العلم فكيف يلقى إليه الموصول مع الصلة؟.

قلت : كونه من غيرذوي العلم ليس أمرا مجزوماً به ، وقد مر الكلام فيه قبيل هذا(1) ، سلّمنا ، لكن تنزيل غير العالم منزلة العالم لاعتبار مناسب غيرقليل في كلام البلغاء ، فليكن هذا منه ، على أنَّ التنزيل المذكور لا مندوحة عنه في أصل نداء القمر وخطابه ، فإن الخطاب توجيه الكلام نحو الغير للإفهام ، فلا بدّ من تنزيله منزلة من يفهم.

و اللام في « الظُلِّم » للاستغراق ، أعني : العرفي منه لا الحقيقي ، والمراد الظُلّم المتعارف تنويرها بالقمر ، من قبيل جمع الأمير الصاغة.

ويمكن جعله للعهد الخارجي.

و الحق أن لام الاستغراق العرفي ليست شيئا وراء لام العهد الخارجي ، فإن المعرف بها هوحصة معينة من الجنس أيضاً ، غايته أنَّ التعيين فيها نشأ من العرف ، وقد أوضحت هذا في تعليقاتي على المطول(2) .

________________________

(1) انظر صحيفة : 91 ، بحث « خاتمة ».

(2) مخطوط لم ير النور بعد.

٩٨

تتمة : [15]

ا لتنكير في قولهعليه‌السلام : «وَجَعَلَكَ آيةً من آيات مُلكِهِ » ، يمكن أن يكون للنوعيّة ، كما قالوه في قوله تعالى :( وعلى أبصارهم غشاوة ) (1) (2) ، والأظهر أن يُجعل للتعظيم.

فإن قلت : احتمال التحقير أيضاً قائم ، وهذا كما قالوه في قوله تعالى :( إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن ) (3) : إنّ التنكير فيه يحتمل التعظيم والتحقير معاً ، أي عذاب شديد هائل ، أو عذاب حقير ضعيف ، فلمطويت عنه كشحاً!؟.

قلت : الاحتمالان في الآية الكريمة متكافئان بحسب ما يقتضيه الحال ، فلذلك جوزهما علماء المعاني من غيرترجيح ، بخلاف ما نحن فيه ، فان الحمل على التحقير وان كان لا يخلو من وجه ـ أيضاً ـ نظراً إلى ما هو أعظم منه من آيات ملكه جلَّ شأنه ، إلَّا أنَّ الحمل على التعظيم كأنَّه أوفق بالمقام ، وأنسب بمقتضى الحال ، فلذلك ضربت عن ذكره صفحاً.

وإن أبَيْت إلَّا أن تساوي الأمرين في ذلك فلا مشاحة معك ، وللناس فيما يعشقون مذاهب.

و قولهعليه‌السلام : « وامتهنك » إلى آخره ، مبين ومفسّر للآية والعلامة ، وكون إحدى الجملتين مبيناً ومفسراً لبعض متعلقات الاُخرى لا يوجب كمال الاتصال بينهما المقتنر لفصلها عنها ، إنَّما الموجب له أن تكون الثانية مبينة وكاشفة عن نفس الأولى ، كما في قوله تعالى :( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ

________________________

(1) البقرة ، مدنية ، 2 : 7.

(2) أنظر الكشاف للزمخشري 1 : 53.

(3) مريم ، مكية ، 19 : 45.

٩٩

يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ) (1) فان القول المذكور مبين للوسوسة وكاشف عنها.

وأما امتهان القمر بالأمور المذكورة فهو نفس علامة الملك والسلطنة ، لانفس جعله علامة لهما ، فلا مانع من وصل جملته بجملة الجعل فتدبر ، على أنّ أحوال القمر التي هي علاماتٌ لملكه وسلطانه جلَّ شأنه ليست منحصرة في الامتهان بالأمور المذكورة بل لها أفراد أُخر ، وكذلك الجعل المذكور ، فوصل جملة الامتهان بما قبلها يجري مجرى عطف الخاص على العام كما لا يخفى.

وتقديم الظرفين في قولهعليه‌السلام : » أنت له مطيع وإلى إرادته سريع « للدلالة على الاختصاص ، كما في قوله تعالى :( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) (2) .

ويمكن أن يكون رعاية السجع أيضاً ملحوظة ، والله أعلم [16 / أ].

إيضاح :

الباء في قولهعليه‌السلام « نوّر بك الظُلَم » إما للسببية أو للالة.

ثم إنَّ جعلنا الضوء عرضاً قائماً بالجسم ـ كما هو مذهب أكثر الحكماء(3) ، ومختار سلطان المحققين قدّس الله روحه في التجريد(4) ـ فالتركيب من قبيل سوّدت الشيء وبيّضته ، أي صيرته متصفاً بالسواد والبياض.

و إن جعلناه جسما ـ كما هو مذهب القدماء من أنه أجسام صغار شفافة تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء ـ فالتركيب من قبيل لبّنته وتمرته ، أي صيّرته ذا لبن أو تمر(5) .

________________________

(1) طه ، مكية ، 120 : 20.

(2) التغابن ، مدنية ، 64 : 1.

(3) منهم الفخر الرازي ، انظر التفسير الكبير 17 : 35.

(4) تجريد الاعتقاد : 167.

(5) للتوسعة في بحث الضوء أُنظر مطالع الأنظار شرح طوالع الأنوار 1 : 245 ، كشّاف اصطلاحات

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697