دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

دلائل الصدق لنهج الحق8%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147692 / تحميل: 5899
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٥-١
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

[ أدلّة الأشاعرة وإبطالها ]

هذا ، وينبغي التعرّض لأدلّة الأشاعرة ، وإبطالها ، تتميما للفائدة ، فنقول :

استدلّوا على مذهبهم بالعقل ـ وقد تقدّم بما فيه(١) ـ وبالنقل ، وهو أمران :

[ الأمر ] الأوّل :

ما يدلّ على إمكان الرؤية ، وهو قوله تعالى حكاية عن موسى ٧ : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي )(٢)

والحجّة به من جهتين :

[ الجهة ] الأولى :

إنّ موسى ٧ سأل الرؤية لنفسه ، ولو امتنعت لما سألها(٣) .

وأجيب عنه بأمور

__________________

(١) راجع الصفحة ٦٣ وما بعدها من هذا الجزء.

(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٤٣.

(٣) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٠ ـ ٦١ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٢.

١٢١

أحسنها : أنّه إنّما سألها على لسان قومه ، ويشهد لصحّته أمور :

الأوّل : الآيات الدالّة على طلبهم لها من موسى ٧.

الثاني : قوله في هذه الآية : (سُبْحانَكَ )(١) فإنّه ظاهر في تنزيه الله عن الرؤية ، وهو يقتضي كونها نقصا ممتنعا عليه سبحانه ، فإذا كان عالما بكونها نقصا ، لم يجز أن يكون قد سألها من نفسه.

واحتمال عدم علمه بالنقص قبل السؤال ـ لو تمّ بالنسبة إلى موسى ـ كان لنا لا علينا ؛ لأنّه لا يصلح حينئذ الاستدلال بسؤاله الرؤية!

على إنّه يكفينا علمه في ثاني الحال بامتناع الرؤية ، ولذا قال : (سُبْحانَكَ ).

الثالث : قوله تعالى حكاية عن موسى ٧ : (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا )(٢) فإنّ المراد ب‍ : (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ ) هو سؤال الرؤية ، كما عن جماعة من المفسّرين(٣) .

فإن قلت :

على هذا كان ينبغي أن يقول : أرهم ينظرون إليك.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ : ١٤٣.

(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٥٥.

(٣) انظر مثلا : تفسير الطبري ٦ / ٧٧ ، تفسير الماوردي ٢ / ٢٦٥ ، الكشّاف ٢ / ١٢١ ، زاد المسير ٣ / ٢٠٦ ، تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٢٠ ، تفسير القرطبي ٧ / ١٨٧ ، تفسير البيضاوي ١ / ٣٦٢ ، البحر المحيط ٤ / ٢٩٩ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٢٣٩ ، الدرّ المنثور ٣ / ٥٦٩.

١٢٢

قلت :

إنّما قال : (أَرِنِي ) لأنّه أثبت لظلمهم ، وأقوى حجّة عليهم ؛ لأنّهم إذا استحقّوا نزول الصاعقة بمجرّد تسبيبهم طلب الرؤية ـ والحال أنّ سائلها لنفسه موسى ، وهو المقرّب عند الله تعالى ـ فكيف لو طلبها لهم؟! وليس سؤاله تقريرا للباطل ، بل هو نوع من بيان الامتناع بلحاظ ما يتعقّبه من أخذ الصاعقة ، الكاشف عن كون طلب الرؤية ظلما فتمتنع.

الجهة الثانية :

إنّه تعالى علّق الرؤية على أمر ممكن في نفسه ، وهو استقرار الجبل ، والمعلّق على الممكن ، ممكن(١) .

وفيه :

منع الكبرى إذا كان المقصود مجرّد فرض الطرفين أو أحدهما ، لا الحقيقة.

ولو سلّمناها فيحتمل أن يكون استقرار الجبل ممتنعا بالغير ، وهو كاف في صحّة تعليق الممتنع عليه ، ولذلك صحّ العكس ، وتعليق الممكن بالذات على الممتنع في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا )(٢) .

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٨١ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٢.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ٢٢.

١٢٣

على إنّه يكفي في صحّة التعليق على الممكن ، إمكان الرؤية في اعتقاد السائلين ، ليترتّب عليه معرفة الامتناع بالعقاب على السؤال ، الذي هو أدلّ من القول ، مضافا إلى قول موسى بعد ذلك : (سُبْحانَكَ ) الدالّ على الامتناع كما عرفت.

الأمر الثاني :

ما دلّ على وقوع الرؤية ، وهو آيات وأخبار عندهم.

أمّا الآيات ، فهي :

قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ )(١) .

وقوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ )(٢) ، حيث حقّر الكفّار وخصّهم بالحجب ، فكان المؤمنون غير محجوبين ، وهو معنى الرؤية(٣) .

وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ )(٤) ؛ لأنّ المراد بالزيادة : الرؤية ، كما رواه صهيب عن النبيّ ٦ ، وذهب إليه كثير من المفسّرين(٥) .

__________________

(١) سورة القيامة ٧٥ : ٢٢ و ٢٣.

(٢) سورة المطفّفين ٨٣ : ١٥.

(٣) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٥٩ و ٦٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٩٢ و ٢٩٥ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٢ و ١٩٥.

(٤) سورة يونس ١٠ : ٢٦.

(٥) انظر مثلا : تفسير الطبري ٦ / ٥٥١ ح ١٧٦٤١ ، تفسير البغوي ٢ / ٢٩٦ ، تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٨١ ، تفسير القرطبي ٨ / ٢١٠.

١٢٤

وأمّا الأخبار :

فروايات كثيرة(١) ، حتّى قال القوشجي : « روى حديث الرؤية أحد وعشرون رجلا من كبار الصحابة »(٢) .

وفيه :

إنّه بعدما قام الدليل العقلي على امتناع رؤيته سبحانه ، يجب التصرّف في الظواهر كما في قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا )(٣) ، لا سيّما وقد أقرّ الخصم وغيره بأنّهم لا يقولون بالرؤية المعهودة القائمة بالشرائط ، التي هي المستفادة من تلك الظواهر ، فيلزم التصرّف فيها عند الفريقين.

ولا معيّن لحملها على المعنى الذي زعموه(٤) ، لا سيّما وهو إلى الآن لم يعرف ما هو؟! ولم يحك الاستعمال عليه في مورد!

على إنّ أخبارهم ليست حجّة علينا ، خصوصا وجلّها ـ أو كلّها ـ مطعون بأسانيدها عندهم ، ومجرّد الرواية عن صحابي لا تثبت روايته لها ، مع إنّهم إن كانوا أمثال أبي هريرة فباب الطعن أوسع!!

__________________

(١) انظر : التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة ـ للآجري ـ : ٣٧ ـ ١١٣ ح ١ ـ ٦٤.

(٢) شرح التجريد : ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

(٣) سورة الفجر ٨٩ : ٢٢.

(٤) وهو كون الرؤية معنى يحصل في الرائي أو يحدثه الله فيه وإن فقدت جميع شروط الرؤية ، من المقابلة وسلامة الحاسّة وقصد الرؤية وعدم البعد المفرط وغيرها ، وقد لا تحدث الرؤية وإن توفّرت جميع هذه الشروط.

١٢٥

وأمّا الآية الأخيرة : فلا ظهور لها في المدّعى ، والرجوع في تفسيرها إلى رواية صهيب عمل بالرواية ، وقد عرفت ما فيه.

وأمّا الآية الثانية : فظاهرها الحجب عن الله تعالى بلحاظ المكان ، وهو غير مراد قطعا ؛ لأنّ الله سبحانه لا يحويه مكان ، ولا معيّن لإرادة الحجب عن الرؤية حتّى يلزم عدم حجب المؤمنين عنها ، بل يحتمل ـ كما هو الأقرب ـ إرادة الحجب عن رحمته ، ومحلّ القرب المعنوي منه(١) .

وأمّا الآية الأولى : فيمكن أن تكون فيها (ناظِرَةٌ ) بمعنى : منتظرة ، كما هو المرويّ عن أمير المؤمنين ٧ ، ونسب إلى مجاهد ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحّاك(٢) .

وأورد عليه :

أوّلا : بإنكار استعمال النظر بمعنى : الانتظار ، لا سيّما مع التعدية ب‍ ( إلى ).

وثانيا : بأنّ انتظار النعمة غمّ فلا يقع في الجنّة.

والجواب عن الأوّل : إنّ إنكار الاستعمال لا يلتفت إليه مع نصّ علماء اللغة على الوقوع ، كصاحب « القاموس »(٣) ، وعن « الصحاح » وغيره(٤) .

__________________

(١) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٢٦٧ ، الكشّاف ٤ / ٢٣٢ ، مجمع البيان ١٠ / ٢٦٣.

(٢) مجمع البيان ١٠ / ١٧٧ ، وانظر : تفسير الطبري ١٢ / ٣٤٣ ـ ٣٣٤ ح ٣٥٦٥٦ ـ ٣٥٦٦٣ ، شرح الأصول الخمسة : ٢٤٧ وما بعدها.

(٣) القاموس المحيط ٢ / ١٥٠ مادّة « نظر ».

(٤) الصحاح ٢ / ٨٣٠ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٥ / ٧٨ ، لسان العرب ١٤ / ١٩٢ ، تاج العروس ٧ / ٥٣٩ ، مادّة « نظر ».

١٢٦

وقد ورد به الكتاب العزيز وغيره

قال تعالى. (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ )(١) (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ )(٢) (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ )(٣) .

وقال الشاعر(٤) :

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمن يأتي بالفلاح

وقال آخر(٥) :

كلّ الخلائق ينظرون سجاله(٦)

نظر الحجيج إلى طلوع هلال

فإنّ المراد به الانتظار لمناسبة المقام ، ولو أريد به الرؤية لعدّاه إلى ( سجال ) ب‍ ( إلى ) كما قيل.

والجواب عن الثاني : إنّه لا غمّ في انتظار النعم لمن يتيقّن بحصولها عند إرادته ، وطوع مشيئته ، بل ذلك زيادة في نعيمه.

على إنّه لم يظهر من الآية أنّ النظر في الجنّة ، فلعلّه يوم القيامة ، كما

__________________

(١) سورة النمل ٢٧ : ٣٥.

(٢) سورة الحديد ٥٧ : ١٣.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ٥٣.

(٤) نسبه الباقلّاني في تمهيد الأوائل : ٣١٢ إلى حسّان بن ثابت ، ولم نجده في ديوانه ؛ فلاحظ ، فلعلّه ممّا أسقط من أشعاره فلم يذكر في ديوانه.

وانظر : تبصرة الأدلّة في أصول الدين ـ للنسفي ـ ١ / ٣٩٧ ، مجمع البيان ١٠ / ١٧٥ ، تفسير الفخر الرازي ٣٠ / ٢٢٨ و ٢٣٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٣٢ ، باختلاف يسير في بعضها.

(٥) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٢.

(٦) السجال : الخير والكرم والجود هنا على المجاز ، ورجل سجل : جواد ، وأشجل الرجل : كثر خيره وبرّه وعطاؤه للناس ؛ انظر مادّة « سجل » في : لسان العرب ٦ / ١٨١ ، تاج العروس ١٤ / ٣٣٤.

١٢٧

يناسبه ما بعدها ، وهو قوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ )(١) .

ولو سلّم أنّ (ناظِرَةٌ ) ليس بمعنى : منتظرة ، فلا يتّجه استدلالهم بالآية ؛ لأنّ النظر : تأمّل العين للشيء ، لا الرؤية كما في « القاموس » وغيره(٢)

ولذا يتحقّق بدون الرؤية ، قال تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )(٣) مع إنّه قال : (تَراهُمْ يَنْظُرُونَ )

والرؤية لا ترى ، وإنّما يرى تأمّل العين وتقليب الحدقة.

وأيضا : يقال : نظرت إلى الهلال فرأيته ؛ ولو كان النظر بمعنى الرؤية ، لما صحّ تفريعها عليه.

وأيضا : يصحّ وصف النظر بما لا توصف به الرؤية ، كالشزر والخشوع ، ونحوهما ، فلا يكون بمعناها.

فحينئذ لا تدلّ الآية على تعلّق الرؤية به تعالى.

ودعوى : إنّ النظر ، وإن لم يكن بمعنى الرؤية ولا يستلزمها ، إلّا أنّ تأمّل عيونهم ، وتقليب أحداقهم إلى ربّهم ، يدلّ على رجائهم رؤيته تعالى ، فيلزم أن تكون ممكنة ، وإن لم تلزم فعليّتها.

إذ لو كانت نقصا عليه تعالى ، وممتنعة ، لنهوا عن التأمّل إليه

باطلة ؛ لأنّ صريح الآية أنّ نظرهم إليه تعالى نعمة وفائدة لهم.

__________________

(١) سورة القيامة ٧٥ : ٢٤ و ٢٥.

(٢) القاموس المحيط ٢ / ١٤٩ ، الصحاح ٢ / ٨٣٠ ، لسان العرب ١٤ / ١٩١ ، تاج العروس ٧ / ٥٣٨ ، مادّة « نظر ».

(٣) سورة الأعراف ٧ : ١٩٨.

١٢٨

ومن الواضح أنّ التأمّل ليس بنفسه نعمة وفائدة فلا بدّ :

إمّا من حمل النظر إليه تعالى على رؤيته ، فيكون مجازا في المفرد ، ويثبت مطلوبهم

أو من حذف مضاف ، أي : ناظرة إلى نعمة ربّها وثوابه ، فيكون مجازا في الحذف.

ولا معيّن للأوّل ، بل المتعيّن الثاني ، لتعديته ب‍ ( إلى ) ، إذ لو كان بمعنى الرؤية لتعدّى بنفسه رعاية للمعنى.

فمع هذه الأمور كلّها ، كيف يمكنهم الاستدلال بالآية؟! والحال أنّه يكفينا في منع دلالتها أنّها على تقدير ظهورها في الرؤية ، تكون ظاهرة في الرؤية المعروفة ذات الشرائط الخاصة ، وهم لا يقولون بها كما ذكروا ، فلا بدّ من حمل النظر في الآية على أمر آخر ، ولا معيّن للمعنى الذي يدّعونه.

هذا ، وقد نسب القوشجي إلى أمير المؤمنين ٧ أنّ المعنى : ناظرة إلى ثواب ربّها(١) .

فمن الغرائب إعراصه عنه بعد النسبة ، وأخذه بغيره!!

فإذا تركوا قول عالم علم الكتاب ، وباب مدينة علم النبيّ ٦ ، وعديل القرآن ، الذي أمروا بالتمسّك به ، فنحن لرواية صهيب وأبي هريرة وأمثالهما أترك!

واعلم أنّ استدلال القوم على الإمكان والوقوع بالظواهر التي لا تفيد اليقين ، ليس في محلّه ما لم يثبت الإمكان بدليل يقيني ، فتكون مؤيّدة له ؛

__________________

(١) شرح التجريد : ٤٣٥.

١٢٩

لأنّ احتمال الامتناع ـ ما دام باقيا ـ لا ترفعه الظواهر الظنّية.

والمسألة ممّا يطلب فيها اليقين ، فلا وجه للاستدلال بالظواهر لمن عجز عن إثبات الإمكان بدليل عقلي ، أو ضرورة ، كالرازي والتفتازاني وشارح « المواقف » وغيرهم(١) .

ونحن لمّا أثبتنا الامتناع بضرورة العقل ، ساغ لنا الاستدلال بالظواهر تأييدا لحكم العقل.

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ و ٢٧٧ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨١ و ١٩١ ، شرح المواقف ٨ / ١١٥ و ١١٦ و ١٢٩ ، شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

١٣٠

مباحث النظر

١٣١
١٣٢

العلم بالنتيجة واجب بعد المتقدّمتين

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ(١) :

المسألة الثانية

في النظر وفيه مباحث :

[ المبحث ] الأوّل

إنّ النظر الصحيح يستلزم العلم

الضرورة قاضية بأنّ كلّ من عرف أنّ الواحد نصف الاثنين ، وأنّ الاثنين نصف الأربعة ، فإنّه يعلم أنّ الواحد نصف نصف الأربعة.

وهذا الحكم لا يمكن الشكّ فيه ، ولا يجوز تخلّفه عن المقدّمتين السابقتين ، وأنّه لا يحصل من تينك المقدّمتين : أنّ العالم حادث ، و [ لا ] أنّ النفس جوهر ، [ أ ] وأنّ الحاصل أوّلا أولى من حصول هذين.

وخالفت الأشاعرة كافّة العقلاء في ذلك(٢) ، فلم يوجبوا حصول

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٩ ـ ٥٠.

(٢) انظر : شرح العقائد النسفية : ٦٩ ـ ٧٠ ، شرح المقاصد ١ / ٢٤٠ ـ ٢٤٧ ، شرح المواقف ١ / ٢٠٧ ـ ٢٢٤.

١٣٣

العلم عند حصول المقدّمتين ، وجعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا ، يمكن أن يحصل ، وأن لا يحصل!

ولا فرق بين حصول العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة ، عقيب قولنا : « الواحد نصف الاثنين ، والاثنان نصف الأربعة » ؛ وبين حصول العلم بأنّ العالم محدث ، أو أنّ النفس جوهر ، أو أنّ الإنسان حيوان ، أو أنّ العدل حسن ، عقيب قولنا : « الواحد نصف الاثنين ، والاثنان نصف الأربعة »!

وأيّ عاقل يرضى لنفسه اعتقاد أنّ من علم أنّ الواحد نصف الاثنين ، والاثنين نصف الأربعة ، يحصل له علم أنّ العالم محدث؟!

وأنّ من علم أنّ العالم متغيّر ، وأنّ كلّ متغيّر محدث ، يحصل له العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة ، وأنّ زيدا يأكل ، ولا يحصل له العلم بأنّ العالم محدث؟!

وهل هذا إلّا عين السفسطة؟!

١٣٤

وقال الفضل(١) :

مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري أنّ حصول العلم ـ الذي هو النتيجة ـ عقيب النظر الصحيح ، بالعادة.

وإنّما ذهب إلى ذلك بناء على إنّ جميع الممكنات مستندة ـ عنده ـ إلى الله سبحانه ابتداء ، أي بلا واسطة ، وعلى إنّه قادر مختار ، فلا يجب عنه صدور شيء منها ، ولا يجب عليه ، ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلّا بإجراء العادة ، بخلق بعضها عقيب بعض ، كالإحراق عقيب مماسّة النار ، والريّ بعد شرب الماء ، فليس للمماسّة والشرب مدخل في وجود الإحراق والريّ ، بل الكلّ واقعة بقدرته واختياره تعالى ، فله أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، وأن يوجد الإحراق بدون المماسّة ، وكذا الحال في سائر الأفعال.

وإذا تكرّر صدور الفعل منه ، وكان دائما أو أكثريّا ، يقال : إنّه فعله بإجراء العادة ؛ وإذا لم يتكرّر ، أو تكرّر قليلا ، فهو خارق العادة أو نادر.

ولا شكّ أنّ العلم بعد النظر ممكن ، حادث ، محتاج إلى مؤثّر ، ولا مؤثّر إلّا الله ، فهو فعله الصادر عنه بلا وجوب منه ، ولا عليه ، وهو دائم أو أكثريّ ، فيكون عاديّا(٢) .

هذا مذهب الأشاعرة في هذه المسألة.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٢) شرح المواقف ١ / ٢٤١ ـ ٢٤٣ ، وانظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخرين : ٦٦.

١٣٥

وقد بيّنّا في ما سبق أنّ المراد من العادة ماذا(١) .

فالخصم إمّا أنيقول : إنّ استلزام النظر الصحيح للعلم واجب ، وتخلّفه عنه محال عقلا ؛ فهذا باطل ؛ لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط [ عقلا ] ، فلا يكون التخلّف محالا عقلا.

وإن أراد الوجوب عادة ـ بمعنى استحالة التخلّف عادة وإن جاز عقلا ـ ، فهذا عين مذهب الأشاعرة كما بيّنّا.

وأمّا قوله : إنّ الأشاعرة « جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا » ، فافتراء محض ؛ لأنّ من قال بالاستلزام عادة ـ على حسب ما ذكرناه من مراده ـ لم يكن قائلا بكونه اتّفاقيا ، كما صوّره هو في الأمثلة على شاكلة طامّاته وترّهاته ، وكأنّه لم يفرّق بين اللزوم العادي ، وكون الشيء اتّفاقيا ؛ أو يفرّق ولكن يتعامى ليتيسّر له التشنيع والتنفير.

والله العالم.

* * *

__________________

(١) انظر الصفحة ٦٣ من هذا الجزء.

١٣٦

وأقول :

قد عرفت ممّا سبق في المبحث الثاني من المسألة الأولى(١) أنّه لو قلنا باستناد الممكنات كلّها إلى الله تعالى بلا واسطة ، وأنكرنا العلاقة والسببية بين الحوادث المتعاقبة خارجا ، أو طبعا ، لزم عدم الحكم على الجسم بالحدوث ، ولا على المركّب بالإمكان ، ولزم جواز وجود العرض بلا معروض ، والجسم بلا مكان ؛ وكلّها باطلة إلى غير ذلك ممّا مرّ.

ومنه يعلم ما في قوله : « لا مؤثّر إلّا الله تعالى » كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

وأمّا قوله : « فله أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، وإن يوجد الإحراق بدون المماسّة ».

فإن أراد به أنّ له أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، مع كون النار والمماسّ لها على طبيعتهما ، فممنوع ؛ إذ ليس محلّا للقدرة ، لكونه محالا.

وإن أراد به أنّ له الإيجاد ، مع تغيير الطبيعة ، فمسلّم ؛ ولكنّه خارج عن محلّ الكلام.

كما أنّ إيجاد الإحراق بلا مماسّة إن أراد به الإحراق المطلق ، فمسلّم.

وإن أراد به الإحراق الذي ينشأ بشخصه من النار ، فممنوع.

ولا يخفى أنّ التوقّف على الأسباب لا ينافي القدرة ؛ لأنّ المقدور

__________________

(١) انظر الصفحة ٥١ وما بعدها من هذا الجزء.

١٣٧

بالواسطة مقدور.

كما أنّ وجوب المسبّب بعد اختيار السبب لا ينافي القدرة والاختيار ، فظهر وجوب العلم بالنتيجة عند حصول النظر الصحيح.

وقوله : « هذا باطل ؛ لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط »

واضح البطلان ؛ لأنّه إن أراد بالشرائط الأعمّ من شرائط القياس وشرائط العلم ـ من العقل ، والحياة ، وعدم النوم ، والغفلة ـ فإمكان عدم التفطّن مع اجتماع الشرائط من أظهر المحالات.

وإن أراد بها خصوص شرائط القياس ، فإمكان عدم التفطّن مسلّم ، لكن اعتبار وجود شرائط العلم مفروغ عنه في كلام كلّ مباحث بمثل المقام.

وأمّا ما ذكره من أنّ نسبة المصنّف إلى الأشاعرة أنّهم جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا ، افتراء محض ؛ فغريب!

إذ لم يرد المصنّف بكون الحصول اتّفاقيا الحصول في بعض الأوقات دون بعض ، بل أراد به الحصول بلا لزوم ؛ لأنّه قال : « اتّفاقيا ، يمكن أن يحصل ، وأن لا يحصل » فوصف الاتّفاقي بما يمكن حصوله وعدمه ، لا بالحصول في وقت دون آخر ؛ وهو صريح في ما قلنا.

على إنّه لو أراد بالحصول الاتّفاقي الحصول في بعض الأوقات ، لم يبعد عن الصدق ؛ لأنّ الخصم لم يجعل في أوّل كلامه حصول العلم بعد النظر دائميا ، بل قال : هو دائم أو أكثري ، كما هو عين كلام شارح « المواقف ».

١٣٨

فإنّه نقل لفظ « المواقف » وشرحها بعينه ، من قوله : « بناء » إلى قوله : « فيكون عاديّا »(١) ، وحينئذ فأيّ الأمرين أراده المصنّف يكون ما صوّره من الأمثلة واردا عليهم ؛ وهو ظاهر.

__________________

(١) المواقف : ٢٧ ، شرح المواقف ١ / ٢٤١ ـ ٢٤٣.

١٣٩
١٤٠

النظر واجب بالعقل لا بالسمع

قال المصنّف ـ طاب رمسه ـ(١) :

المبحث الثاني

في أنّ النظر واجب بالعقل

الحقّ أنّ مدرك وجوب النظر عقليّ لا سمعي ، وإن كان السمع قد دلّ عليه أيضا بقوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا )(٢) .

وقال الأشاعرة قولا يلزم منه انقطاع حجج الأنبياء ، وظهور المعاندين عليهم ، وهم معذورون في تكذيبهم! مع إنّ الله تعالى قال : (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )(٣)

فقالوا : إنّه واجب بالسمع لا بالعقل ، وليس يجب بالعقل شيء ألبتّة!(٤) .

فيلزمهم إفحام الأنبياء ، واندحاض حجّتهم ؛ لأنّ النبيّ إذا جاء إلى المكلّف فأمره بتصديقه واتّباعه ، لم يجب ذلك عليه إلّا بعد العلم بصدقه ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٠ ـ ٥١.

(٢) سورة يونس ١٠ : ١٠١.

(٣) سورة النساء ٤ : ١٦٥.

(٤) الملل والنحل ١ / ٨٨ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٦٤ ـ ٦٥ ، شرح المقاصد ١ / ٢٦٢ ، شرح المواقف ١ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

١٤١

إذ بمجرّد الدعوى لا يثبت صدقه ، بل ولا بمجرّد ظهور المعجزة على يده ما لم ينضمّ إليه مقدّمات

منها : إنّ هذه المعجزة من عند الله تعالى.

[ومنها : إنّه تعالى ] فعلها لغرض التصديق.

ومنها : إنّ كلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق

لكنّ العلم بصدقه حيث يتوقّف على هذه المقدّمات النظرية ، لم يكن ضروريا ، بل يكون نظريّا.

فللمكلّف أن يقول : لا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، والنظر لا أفعله إلّا إذا وجب عليّ وعرفت وجوبه ، ولم أعرف وجوبه إلّا بقولك ، وقولك ليس بحجّة عليّ قبل العلم بصدقك!

فتنقطع حجّة النبيّ ، ولا يبقى له جواب يخلص به ، فتنتفي فائدة بعثة الرسل ، حيث لا يحصل الانقياد إلى أقوالهم ، ويكون المخالف لهم معذورا.

وهذا هو عين الإلحاد والكفر! نعوذ بالله منه.

فلينظر العاقل المنصف [ من نفسه ] ، هل يجوز له اتّباع من يؤدّي مذهبه إلى الكفر؟!

وإنّما قلنا بوجوب النظر ؛ لأنّه دافع للخوف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة.

١٤٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ النظر في معرفة الله واجب بالإجماع ، والاختلاف في طريق ثبوته.

فعند الأشاعرة طريق ثبوته : السمع ، لقوله تعالى : (انْظُرُوا )(٢) ؛ ولأنّ معرفة الله واجبة إجماعا ، وهي لا تتمّ إلّا بالنظر ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به فهو واجب ، ومدرك هذا الوجوب هو السمع كما سيتحقّق بعد هذا.

وأمّا المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية(٣) ، فهم أيضا يقولون بوجوب النظر ، لكن يجعلون مدركه العقل لا السمع(٤) .

ويعترضون على الأشاعرة بأنّه لو لم يجب النظر إلّا بالشرع لزم إفحام

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٥١ ـ ١٥٥.

(٢) سورة يونس ١٠ : ١٠١.

(٣) إنّ القول بأنّ الإمامية تبع للمعتزلة في علم الكلام ، وأنّهم متّفقون معهم في العقيدة ، قول باطل لا أساس له من الصحّة جملة وتفصيلا

فللإمامية رأيهم المستقلّ ، ومن الخطأ في التعليل والاعتباط في الرأي أن نجعل موافقة الإمامية للمعتزلة دليلا على تأثّرهم بهم ، أو حضور إماميّ عند معتزليّ شاهدا على استجداء العقيدة واستماحة الفكر ، بل إنّ الاحتكاك الفكري هو الذي ينمّي التفكير ويصحّح طرق الاستدلال ويقصّر السبل ويسهّلها ؛ وقد نشأ علم الكلام واستقرّت طرقه ومناهجه عند الإمامية قبل غيرهم.

وقد فصّل البحث في ذلك سماحة الشيخ محمّد رضا الجعفري ـ حفظه الله ـ في مقاله : « الكلام عند الإمامية » المنشور في مجلّة « تراثنا » ، العددين ٣٠ ـ ٣١ ، ص ١٤٤ ـ ٢٩٩ ؛ فراجع.

(٤) شرح الأصول الخمسة : ٤٢ ـ ٤٣ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٦٧ ـ ١٧١.

١٤٣

الأنبياء ، وعجزهم عن إثبات نبوّتهم في مقام المناظرة كما ذكره من الدليل.

والجواب من وجهين :

[ الجواب ] الأوّل : النقض :

وهو : إنّ ما ذكرتم من إفحام الأنبياء ، مشترك بين الوجوب الشرعي ـ الذي هو مذهبنا ـ ، والوجوب العقلي ـ الذي هو مذهبكم ـ ، فما [ هو ] جوابكم فهو جوابنا!

وإنّما كان مشتركا ، إذ لو وجب النظر بالعقل فوجوبه ليس ضروريا ، بل بالنظر فيه ، والاستدلال عليه بمقدّمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة من أنّ المعرفة واجبة ، وأنّها لا تتمّ إلّا بالنظر ، وأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب

فيقول المكلّف حينئذ : لا أنظر أصلا ما لم يجب ، ولا يجب ما لم أنظر ، فيتوقّف كلّ واحد من وجود النظر مطلقا ، ووجوبه على الآخر.

لا يقال : إنّه يمكن أن يكون وجوب النظر فطريّ القياس ، فيضع النبيّ للمكلّف مقدّمات ينساق ذهنه إليها بلا تكلّف ، ويفيده العلم بذلك ـ يعني بوجوب النظر ضرورة ـ ، فيكون الحكم بوجوب النظر ضروريا محتاجا إلى تنبيه على طرفيه.

لأنّا نقول : كونه فطريّ القياس مع توقّفه على ما ذكرتموه من المقدّمات الدقيقة الأنظار ، باطل.

وعلى تقدير صحّته ـ بأن يكون هناك دليل آخر ـ فللمكلّف أن لا يستمع إليه وإلى كلامه الذي أراد تنبيهه به ، ولا يأثم بترك النظر أو الاستماع ، إذ لم يثبت بعد وجوب شيء أصلا ، فلا يمكن الدعوة وإثبات

١٤٤

النبوّة ، وهو المراد بالإفحام.

والجواب الثاني : الحلّ :

وهو أن يقال : [ النبيّ له أن يقول ] ـ إذا قال المكلّف : لا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، والنظر لا أفعله إلّا إذا وجب عليّ وعرفت وجوبه ـ:

إنّ الوجوب عليك محقّق بالشرع في نفس الأمر ، ولكن لا يلزم أن تعرف ذلك الوجوب.

فإن قال : الوجوب موقوف على علمي به.

قلنا : لا يتوقّف ؛ إذ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب ، فلو توقّف الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدور ، فليس الوجوب في نفس الأمر موقوفا على العلم بالوجوب.

فإن قال : ما لم أعرف الوجوب لم أنظر.

قلنا : ماذا تريد بالوجوب الذي ما لم تعرفه لم تنظر؟!

فإن قال : أريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله ثوابا.

قلنا : فقد أثبتّ الشرع حيث قلت بالثواب ، وإلّا فبطل قولك :

« ووجوبه لا أعرفه إلّا بقولك » ، فاندفع الإفحام.

وإن قال : أردت بالوجوب ما يكون ترك الواجب به قبيحا لا يستحسنه العقلاء ، ويترتّب عليه المفسدة ، فيرجع إلى استحسان العقل.

قلنا : فأنت تعرف هذا الوجوب إذا راجعت العقلاء ، وتأمّلت فيه بعقلك ، فإنّ كلّ عاقل يعرف أنّ ترك النظر في معرفة خالقه ـ مع بثّ النعم ـ

١٤٥

قبيح ، وفيه مفسدة ، فبطل قوله : « ولم أنظر ما لم أعرف الوجوب » ، واندفع الإفحام.

لا يقال : هذا الوجه الثاني هو عين [ القول ب‍ ] الحسن والقبح العقليّين ، وليس هذا مذهب الأشاعرة ، بل هذا إذعان لمذهب المعتزلة ومن تابعهم.

قلنا : لأنّا نقول : ليس هذا من الحسن والقبح اللذين وقع فيهما المنازعة أصلا ؛ لأنّ الحسن والقبح ، بمعنى تعلّق المدح والثواب والذمّ والعقاب ، هو محلّ النزاع ، فهو عند الأشاعرة شرعيّ ، وعند المعتزلة عقليّ.

وأمّا الحسن والقبح ، بمعنى ملاءمة الغرض ومنافرته ، وترتّب المصلحة والمفسدة عليهما ، فهما عقليّان بالاتّفاق ؛ وهذا من ذاك الباب ، وسنبيّن لك [ حقيقة ] هذا المبحث في فصل الحسن والقبح إن شاء الله تعالى.

ثمّ اعلم أنّا سلكنا في دفع لزوم الإفحام [ عن الأنبياء ] مسلكا لم يسلكه قبلنا أحد من السلف ، وأكثر ما(١) اطّلعنا عليه من كلامهم لم يفد دفع الإفحام ، كما هو ظاهر على من يراجع كلامهم ، والله العالم.

إذا عرفت هذا ، علمت أنّ الإفحام مندفع على تقدير القول بالوجوب الشرعي في هذا المبحث ، فأين الانجرار إلى الكفر والإلحاد؟!

ثمّ إنّ من غرائب طامّات هذا الرجل أنّه أورد شبهة على كلام الأشاعرة ، وهي مندفعة بأدنى تأمّل ، ثمّ رتّب عليه التكفير والتفسيق ، وهذا

__________________

(١) كان في الأصل : « من » ، وهو تصحيف ؛ والمثبت في المتن من المصدر.

١٤٦

غاية الجهل والتعصّب ، وهو رجل يريد ترويج طامّاته ليعتقده القلندرية والأوباش(١) ورعاع الحلّة من الرفضة والمبتدعة.

__________________

(١) الأوباش من الناس : الأخلاط والضروب المتفرّقون والسفلة ؛ انظر : الصحاح ٣ / ١٠٢٤ ، لسان العرب ١٥ / ٢٠٠ ، تاج العروس ٩ / ٢١٩ ، مادّة « وبش ».

١٤٧

وأقول :

إنّ الجواب النقضي إنّما يتوجّه إذا كان الدليل العقلي على الوجوب ـ نظريا أو ضروريا ـ محتاجا إلى تنبيه.

وأمّا إذا كان ضروريا غنيا عن التنبيه ، فلا ، كالدليل الذي ذكره المصنّف.

فإنّالمقدّمة الأولى منه ، وهي :

« إنّ النظر دافع للخوف » وجدانية ؛ لأنّ النظر إمّا أن يحصل به القطع المؤمّن للقاطع ، أو يوجب الأمان من جهله لو لم يقطع ؛ لأنّ النظر غاية المقدور.

والمقدّمة الثانية ، وهي :

« إنّ دفع الخوف واجب » ضرورية أوّلية ، لا تحتاج إلى التنبيه كالأولى.

فإن قلت :

أين الخوف حتّى يوجب دفعه؟!

قلت :

لا ريب أنّ كلّ عاقل يحتمل بالضرورة أنّ له ربّا لازم العبادة ، وأنّه يعاقبه بجهله فيه ، وترك النظر في معرفته ، والإخلال بعبادته ، فيحصل له الخوف بالضرورة ، فيحتاج إلى النظر ، ويجب عليه عقلا.

١٤٨

ولا يخفى أنّ الخصم أخذ هذا الجواب النقضي بعينه من « المواقف » وشرحها ، من غير تدبّر بعدم انطباقه على المورد ؛ لأنّ المصنّف ذكر لوجوب النظر دليلا ضروريا ، وما ذكره في « المواقف » دليل آخر نظريّ!

فرأى الخصم أنّ صاحب « المواقف » ذكر جوابا سمّاه نقضيا ، فأخذه بلفظه من غير معرفة بعدم انطباقه على الدليل الذي في الكتاب ، وأنّه لا يكون نقضا عليه ، وإنّما يكون نقضا على ما بيّنه في « المواقف ».

ثمّ إنّه قد ذكر في « المواقف » نظير الدليل البديهي المذكور ، وجعله دليلا على وجوب المعرفة عقلا ، لا على وجوب النظر ، فقال : « المعرفة دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، وهو ـ أي الخوف ـ ضرر ، ودفع الضرر عن النفس واجب [ عقلا ] »(١) .

ولو قال : المعرفة دافعة للخوف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة ؛ لكان أولى.

وأمّا ما ذكره في الحلّ :

فيرد عليه أمور :

الأوّل :

إنّ قوله : « الوجوب عليك محقّق بالشرع في نفس الأمر » كلام غير نافع ، وهو الذي اقتصر عليه علماء الأشاعرة ؛ لأنّ تحقّق وجوب النظر في الواقع وإن لم يتوقّف على العلم ، لكن لا يؤثّر في لزوم إطاعة المكلّف له

__________________

(١) المواقف : ٢٨ ـ ٣١ ، شرح المواقف ١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

١٤٩

ما لم يعلمه ، فإنّ من لا يعرف الوجوب يكون معذورا في مخالفته وترك النظر ، فيلزم الإفحام.

ولو ادّعيت عدم المعذورية عقلا في مخالفة الوجوب الشرعي الواقعي ، بمجرّد احتمال المكلّف له ، رجعت إلى حكم العقل ، وصار المحرّك للمكلّف على النظر هو العقل لا الشرع.

وبالجملة : إنّما يرتفع الإفحام بعلم المكلّف بالوجوب ، لا بمجرّد وجوده في الواقع ، وقول مدّعي النبوّة لا يفيده العلم ، فلا يرتفع الإفحام ، بخلاف الدليل العقلي ، فإنّه يثبت الوجوب ، ويفيد العلم به ، فيرتفع الإفحام.

الثاني :

إنّه لا يلزم من قول المكلّف : « أريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله ثوابا » أن يكون مثبتا للشرع ، مذعنا به ؛ لأنّ استعمال اللفظ في معنى لا يستلزم اعتقاد المستعمل بالمعنى ، بل يكفيه سماعه له مستعملا به عند أهل الشرع ، فإذا أراده صحّ كلامه من غير اعتقاد به ، ولزم الإفحام.

الثالث :

إنّ نتيجة قوله : « وإن قال : أردت بالوجوب ما يكون الواجب به قبيحا » إلى آخره ، أن يكون الوجوب عقليا ، وحينئذ ـ لو تمّ ـ لا يكون جوابا حلّيا عن إشكال الإفحام بناء على الوجوب الشرعي.

فظهر أنّ زيادة الخصم على جواب الأشاعرة بقوله : « فإن قال : ما لم أعرف الوجوب لم أنظر » إلى آخر جوابه ، زيادة لاغية لا تنفع

١٥٠

الأشاعرة ؛ لاشتمالها على مقدّمتين :

أولاهما : لا تدفع الإفحام.

والثانية : تجعل الوجوب عقليا كما عرفته في الأمرين الأخيرين.

واعلم أنّ دليل المصنّف العقلي كما يثبت وجوب النظر لمعرفة الله تعالى ، يثبت وجوب النظر لمعرفة النبيّ ، إلّا أنّ وجه الخوف مختلف ، ولا يبعد أنّ المصنّف أراد الأمرين كما هو ظاهر من كلامه.

والله العالم.

* * *

١٥١
١٥٢

المعرفة واجبة بالعقل

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

المبحث الثالث

في أنّ معرفة الله تعالى واجبة بالعقل

الحقّ أنّ وجوب معرفة الله تعالى مستفاد من العقل ، وإن كان السمع [ قد ] دلّ عليه ؛ لقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ )(٢) ؛ لأنّ شكر النعمة(٣) واجب بالضرورة ، وآثار النعمة علينا ظاهرة ، فيجب علينا أن نشكر فاعلها ، وإنّما يحصل بمعرفته ؛ ولأنّ معرفة الله دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة.

وقالت الأشاعرة : إنّ معرفة الله واجبة بالسمع لا بالعقل(٤) ، فلزمهم ارتكاب الدور ، المعلوم بالضرورة بطلانه ؛ لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة الموجب ، فإنّ من لا نعرفه بشيء من الاعتبارات ألبتّة ، نعلم ـ بالضرورة ـ أنّا لا نعرف أنّه أوجب ، فلو استفيدت معرفة الموجب من معرفة الإيجاب لزم الدور المحال.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥١ ـ ٥٢.

(٢) سورة محمّد ٦ ٤٧ : ١٩.

(٣) في المصدر : المنعم.

(٤) الملل والنحل ١ / ٨٨ ، المواقف : ٢٨ ، شرح المواقف ١ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

١٥٣

وأيضا : لو كانت المعرفة إنّما تجب بالأمر ، لكان الأمر بها إمّا أن يتوجّه إلى العارف بالله تعالى ، أو إلى غير العارف ، والقسمان باطلان ، فتعليل الإيجاب بالأمر محال.

أمّا بطلان الأوّل ؛ فلأنّه يلزم منه تحصيل الحاصل ، وهو محال.

وأمّا بطلان الثاني ؛ فلأنّ غير العارف بالله يستحيل أن يعرف : أنّ الله قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب.

وإذا استحال أن يعرف أنّ الله تعالى قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب ، استحال أمره ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، وسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى.

١٥٤

وقال الفضل(١) :

لا بدّ في هذا المقام من تحرير محلّ النزاع أوّلا ، فنقول :

وجوب معرفة الله تعالى ـ الذي اختلف فيه ـ هل إنّه مستفاد من الشرع أو العقل؟

إن أريد به الاستحسان ، وترتّب المصلحة ، فلا يبعد أن يقال : إنّه مستفاد من العقل ؛ لأنّ شكر المنعم موقوف على معرفته ، والشكر واجب ـ بهذا المعنى ـ بالعقل ، ولا نزاع للأشاعرة في هذا.

وإن أريد به ما يوجب ترتّب الثواب والعقاب ، فلا شكّ أنّه مستفاد من الشرع ؛ لأنّ العقل ليس له أن يحكم بما يوجب الثواب عند الله.

والمعتزلة يوافقون أهل السنّة في أنّ الحسن والقبح ـ بهذا المعنى ـ مركوزان في العقل ، ولكنّ الشرع كاشف عنهما.

ففي المذهبين لا بدّ وأن يؤخذ(٢) من الشرع ، إمّا لكونه حاكما ، أو لكونه كاشفا(٣) .

فكلّ ما يرد على الأشاعرة في هذا المقام بقولهم : « إنّ الشرع حاكم بالوجوب دون العقل » يرد على المعتزلة بقولهم : « إنّ الشرع كاشف للوجوب » ؛ لأنّ في القولين لا بدّ من الشرع ليحكم أو يكشف.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٦٠ ـ ١٦١.

(٢) كان في الأصل : « يوجد » ، وهو تصحيف ؛ والمثبت في المتن من المصدر.

(٣) أي كاشفا عن حكم العقل بوجوب النظر.

١٥٥

ثمّ ما ذكر من أنّ معرفة الله دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة

فنحن نقول فيه ـ بعد تسليم حكم العقل بالحسن والقبح في الأفعال ، وما يتفرّع عليهما من الوجوب والحرمة وغيرهما ـ : نمنع حصول الخوف المذكور ؛ لعدم الشعور بما جعلتم الشعور به سببا له من الاختلاف وغيره.

ودعوى ضرورة الشعور من العاقل ممنوعة ؛ لعدم الخطور في الأكثر ، فإنّ أكثر الناس لا يخطر ببالهم أنّ هناك اختلافا بين الناس في ما ( ذكروا : أنّ )(١) لهذه النعم منعما قد طلب منهم الشكر عليها ، بل هم ذاهلون عن ذلك ، فلا يحصل لهم خوف أصلا.

وإن سلّم حصول الخوف ، فلا نسلّم أنّ العرفان ـ الحاصل بالنظر ـ يدفعه ، إذ قد يخطئ فلا يقع العرفان على وجه الصواب ؛ لفساد النظر ، فيكون الخوف حينئذ أكثر.

ثمّ ما ذكر من لزوم الدور ، مندفع بأنّ وجوب المعرفة بالشرع في نفس الأمر ، لا يتوقّف على معرفة الإيجاب [ وإن توقّف على الإيجاب ] في نفس الأمر ، فلا يلزم الدور.

ثمّ ما ذكر من أنّ المعرفة لا تجب إلّا بالأمر ، والأمر إمّا أن يتوجّه إلى العارف أو الغافل ؛ وكلاهما باطل

فنقول في جوابه : المقدّمة الثانية القائلة : بأنّ تكليف غير العارف باطل لكونه غافلا ؛ ممنوعة

__________________

(١) في المصدر : « ذكر ، وأنّ ».

١٥٦

إذ شرط التكليف : فهمه وتصوّره ، لا العلم والتصديق به ؛ لأنّ الغافل من لا يفهم الخطاب ، أو لم يقل له : إنّك مكلّف ؛ فتكليف غير العارف ليس من المحال في شيء ؛ والله أعلم.

١٥٧

وأقول :

لا يخفى أنّ معنى الوجوب هو : لزوم الفعل ، وعبّر بعضهم بطلب الفعل مع المنع من الترك ، وهذا ممّا لا يشتبه في نفسه على أحد ، ولا في كونه ـ هو دون غيره ـ محلّ النزاع ، فأيّ وجه لتركه؟!

والترديد في معنى الوجوب بين أمرين لا ربط لهما بالمقصود ، اللهمّ إلّا أن يريد الترديد في سبب الوجوب العقلي ودليله ، لا في معناه ، فهو حسن إذا كان غرضه ـ من الشقّ الأوّل في الترديد ـ تسليم الدليل الأوّل الذي استدلّ به المصنّف ، مع إرادة الخصم بالاستحسان هو الاستحسان على وجه اللزوم.

لكنّ دعوى تسليم الأشاعرة لهذا الدليل ، وعدم النزاع لهم في وجوب شكر المنعم ، غير صحيحة ، لا سيّما إذا أريد به إثبات وجوب المعرفة عقلا.

فإنّهم أنكروا وجوب المعرفة عقلا ـ كما سمعت ـ ، وأنكروا وجوب شكر المنعم عقلا ، مدعين :

أوّلا : إنّه تصرّف في ملك الغير ، فلا يجوز بدون إذنه.

وثانيا : إنّه لو وجب عقلا ، فإن كان لا لفائدة ، يلزم العبث ؛ وإن كان لفائدة : إمّا في الدنيا ، وأنّه مشقّة ؛ أو في الآخرة ، ولا استقلال للعقل فيها.

ويرد على الأوّل : إنّهم إن أرادوا بملك الغير : الجوارح والقوى المدركة ؛ ففيه : إنّ الله سبحانه إنّما خلقها ليتصرّف بها صاحبها ، إلّا أن

١٥٨

يثبت منع الشرع في مورد فيستثنى.

وإن أرادوا به أفعال العبد ؛ فهي عندهم مخلوقة لله تعالى ، فلا تصرّف للعبد فيها ، على إنّ الأصل الإباحة عند الشكّ كما حقّق في أصول الفقه(١) .

ويرد على الثاني : إنّا نختار أنّه لفائدة الشاكر ، سواء قلنا : إنّها في الدنيا ؛ لأنّ المشقّة لا يلتفت إليها في جنب الفائدة ، كيف؟! ولا تحصل فائدة غالبا بدون مشقّة

أم في الآخرة ؛ لأنّ العقل مستقلّ بها ، وحاكم بالثواب عند الله تعالى ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وأمّا قوله : « وإن أريد به ما يوجب ترتّب الثواب والعقاب ، فلا شكّ أنّه مستفاد من الشرع »

فهو خارج عن المقام ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في أصل الوجوب العقلي ودليله ، ولا ربط له بمسألة استحقاق الثواب والعقاب على طاعة التكاليف الشرعية ومخالفتها.

كما إنّ قولنا بالاستحقاق لا يتوقّف على كشف الشرع بالضرورة.

وكيف كان ، فإن أقرّ الخصم بوجوب معرفة الله تعالى عقلا ، وأنّ العقل ملزم للإنسان بالمعرفة وإن لم يعرف الشرع ، لوجوب شكر المنعم عقلا ، الموقوف على المعرفة ، فهو المطلوب.

__________________

(١) انظر : المستصفى من علم الأصول ١ / ٧٥ ، إرشاد الفحول : ٤٧٣ ، المواهب السنية ـ المطبوع بهامش الأشباه والنظائر ، للسيوطي ـ : ٨٣ ، العدّة في أصول الفقه ٢ / ٧٤١ ـ ٧٥١ ، كفاية الأصول : ٣٣٨ و ٣٥٥.

١٥٩

ولكنّ أصحابه لا يعترفون به وإن أنكر ذلك تبعا لأصحابه! فما هذه التفاصيل الخارجة عن المقصود ، والأغاليط التي لا يعرف معناها ، ولا نتيجة لها ، إلّا تشويش الكلام وتلبيس الحقّ!

ومن جملة الخبط في كلامه قوله : « والمعتزلة يوافقون أهل السنّة في أنّ الحسن والقبح بهذا المعنى مركوزان في العقل »

فإنّ حقّ العبارة أن يقول : « ثابتان بالشرع » ، بدلا عن قوله :

« مركوزان في العقل » ؛ لأنّ الأشاعرة لا يقولون بالثواب والعقاب عقلا(١) .

وأمّا ما أجاب به عن الدليل الثاني الذي ذكره المصنّف ، فهو عين لفظ « المواقف » وشرحها ، من قوله : « نحن نقول بعد تسليم » إلى قوله :

« فيكون الخوف حينئذ أكثر »(٢)

ويرد عليه أوّلا : إنّ منع حصول الخوف بدعوى عدم شعور الناس بسببه وهو « الاختلاف » خطأ ظاهر ، سواء أراد المصنّف بالاختلاف ، الاختلاف في وجود الله تعالى ، أم في أنّ لهذه النعم منعما.

وذلك لأنّ الاختلاف في الأمرين أظهر الوجدانيات والمشاهدات ، وأبين محالّ الخلاف في الديانات ، فكيف يمكن أن لا يشعر به الناس؟!

نعم ، ربّما لا يبالي الناس بالجهل ومقتضى الخوف ، وهو أمر آخر.

ويرد عليه ثانيا : إنّ تقييد المنعم بأنّه قد طلب الشكر عليها ، خطأ آخر ؛ لمنافاته لمذهبنا ، وهم يريدون حكاية دليلنا ، فإنّا نقول : إنّ وجوب شكر المنعم عقلي لا شرعي ، وإنّما الشرع مؤكّد(٣) .

__________________

(١) الملل والنحل ١ / ٨٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٨٣.

(٢) المواقف : ٣١ ، شرح المواقف ١ / ٢٧٠.

(٣) انظر : الذخيرة في علم الكلام : ١٧٠ ـ ١٧١.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456