دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

دلائل الصدق لنهج الحق13%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147645 / تحميل: 5884
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٥-١
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أصحابه وهم مجزّرون كالأضاحي في رمضاء كربلاء تصهرهم الشمس، وسمع عويل الأطفال، وهم ينادون العطش العطش، وسمع صراخ عقائل الوحي، وهنّ يندبن قتلاهنّ، ورأى وحدة أخيه سيّد الشهداء، وقد أحاط به أنذال أهل الكوفة يبغون قتله تقرّباً لسيّدهم ابن مرجانة، رأى أبو الفضل كل هذه الشدائد الجسام فلم يجزع وسلّم أمره إلى الله تعالى، مبتغياً الأجر من عنده.

٥ ـ الوفاء:

ومن خصائص أبي الفضلعليه‌السلام الوفاء الذي هو من أنبل الصفات وأميزها، فقد ضرب الرقم القياسي في هذه الصفة الكريمة وبلغ أسمى حدّ لها، وكان من سمات وفائه ما يلي:

أ ـ الوفاء لدينه:

وكان أبو الفضل العباسعليه‌السلام من أوفى الناس لدينه، ومن أشدّهم دفاعاً عنه، فحينما تعرّض الإسلام للخطر الماحق من قبل الطغمة الأموية الذين تنكّروا كأشدّ ما يكون التنكّر للإسلام، وحاربوه في غلس الليل وفي وضح النهار، فانطلق أبو الفضل إلى ساحات الوغى فجاهد في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين لترتفع كلمة الله عالية في الأرض، وقد قطعت يداه، وهوى إلى الأرض صريعاً في سبيل مبادئه الدينية.

ب ـ الوفاء لأمّته:

رأى سيّدنا العبّاسعليه‌السلام الأمّة الإسلامية ترزح تحت كابوس مظلم من الذلّ والعبودية قد تحكّمت في مصيرها عصابة مجرمة من الأمويين فنهبت

٦١

ثرواتها، وتلاعبت في مقدراتها، وكان أحد أعمدتهم السياسية يعلن بلا حياء ولا خجل قائلاً: ( إنما السواد بستان قريش ) فأي استهانة بالأمة مثل هذه الاستهانة، ورأى أبو الفضلعليه‌السلام أن من الوفاء لأمّته أن يهبّ لتحريرها وإنقاذها من واقعها المرير، فانبرى مع أخيه أبي الأحرار والكوكبة المشرقة من فتيان أهل البيت:، ومعهم الأحرار الممجدون من أصحابهم، فرفعوا شعار التحرير، وأعلنوا الجهاد المقدّس من أجل إنقاذ المسلمين من الذلّ والعبودية، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة لهم، حتى استشهدوا من أجل هذا الهدف السامي النبيل، فأي وفاء للاَمة يضارع مثل هذا الوفاء؟

ج ـ الوفاء لوطنه:

وغمرت الوطن الإسلامي محن شاقّة وعسيرة أيام الحكم الأموي، فقد استقلاله وكرامته، وصار بستاناً للأمويين وسائر القوى الرأسمالية من القرشيين وغيرهم من العملاء، وقد شاع البؤس والحرمان، وذلّ فيه المصلحون والأحرار، ولم يكن فيه أي ظلّ لحرية الفكر والرأي، فهبّ العباس تحت قيادة أخيه سيّد الشهداءعليه‌السلام إلى مقاومة ذلك الحكم الأسود وتحطيم أروقته وعروشه، وقد تمّ ذلك بعد حين بفضل تضحياتهم، فكان حقاً هذا هو الوفاء للوطن الإسلامي.

د ـ الوفاء لأخيه:

ووفى أبو الفضل ما عاهد الله عليه من البيعة لأخيه ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمنافح الأول عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ولم يرَ الناس على امتداد التاريخ وفاءً مثل وفاء أبي الفضل لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومن المقطوع به أنه ليس في سجلّ الوفاء الانساني

٦٢

أجمل ولا أنظر من ذلك الوفاء الذي أصبح قطباً جاذباً لكل إنسان حرّ شريف.

٦ ـ قوّة الإرادة:

أمّا قوّة الإرادة فانّها من أميز صفات العظماء الخالدين الذين كُتب لهم النجاح في أعمالهم إذ يستحيل أن يحقق من كان خائر الإرادة، وضعيف الهمّة أي هدف اجتماعي، أو يقوم بأي عمل سياسي.

لقد كان أبو الفضلعليه‌السلام من الطراز الأول في قوة بأسه، وصلابة إرادته، فانظمّ إلى معسكر الحق، ولم يهن، ولم ينكل، وبرز على مسرح التأريخ كأعظم قائد فذّ، ولو لم يتّصف بهذه الظاهرة لما كتب له الفخر والخلود على امتداد الأيّام.

٧ ـ الرأفة والرحمة:

وأترعت نفس أبي الفضل بالرأفة والرحمة على المحرومين، والمضطهدين وقد تجلّت هذه الظاهرة بأروع صورها في كربلاء حينما احتلّت جيوش الأمويين حوض الفرات لحرمان أهل البيت من الماء حتى يموتوا أو يستسلموا لهم، ولما رأى العباسعليه‌السلام أطفال أخيه، وسائر الصبية من أبناء اخوته، وقد ذبلت شفاهم، وتغيّرت ألوانهم من شدّة الظمأ ذاب قلبه حناناً وعطفاً عليهم، فاقتحم الفرات، وحمل الماء إليهم، وسقاهم، وفي اليوم العاشر من المحرّم، سمع الأطفال ينادون العطش العطش، فتفتت كبده رحمة ورأفة عليهم، فأخذ القربة، والتحم مع أعداء

٦٣

الله حتى كشفهم عن نهر الفرات، فغرف منه غرفة ليروي ظمأه فأبت رحمته أن يشرب قبل أخيه وأطفاله، فرمى الماء من يده.

فتّشوا في تاريخ الأمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الرأفة والرحمة، التي تحلَّى بها قمر بني هاشم وفخر عدنان.

هذه بعض عناصر أبي الفضل وصفاته، وقد ارتقى بها إلى قمّة المجد التي ارتقى إليها أبوه.

* * *

٦٤

مع الأحداث

٦٥

٦٦

ورافق أبو الفضل العباسعليه‌السلام منذ نعومة أظفاره كثيراً من الأحداث الجسام التي لم تكن ساذجة، ولا سطحية، وانّما كانت عميقة كأشدّ ما يكون العمق، فقد أحدثت اضطراباً شاملاً في الحياة الفكرية والعقائدية بين المسلمين، كما استهدفت بصورة دقيقة إبعاد أهل البيتعليهم‌السلام عن المراكز السياسية في البلاد، واخضاعهم لرغبات السلطة، وما تعمله على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، من أعمال لا تتفق في كثير من بنودها مع التشريع الإسلامي، وقد تجلّى ذلك بوضوح أيّام حكومة عثمان وما سلكته من التصرفات في المجالات الإدارية، فقد عمدت إلى منح مناصب الدولة، وسائر الوظائف العامة إلى بني أميّة وآل معيط، وحرمان بني هاشم، ومن يتّصل بهم من أبناء الصحابة من أي منصب من المناصب العامة، وقد استولى الأمويون على جميع أجهزة الدولة، وراحوا يعملون عامدين أو غير عامدين إلى خلق الأزمات الحادّة بين المسلمين، ومن المقطوع به أنّه لم تكن لأكثرهم أيّة نزعة إسلامية، كما لم تكن لهم أيّة دراية بأحكام القانون الإسلامي، وما تتطلّب إليه الشريعة الإسلامية من إيجاد مجتمع إسلامي متطوّر قائم على المودّة والتعاون وبعيد كلّ البعد عن التأخّر.

لقد أشاعت حكومة عثمان الرأسمالية في البلاد، فقد منحت الأمويين وبعض أبناء القرشيين الامتيازات الخاصة، وفتحت لهم الطريق لكسب

٦٧

الأموال، وتكديسها بغير وجه مشروع، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى خلق اضطراب شامل لا في الحياة الاقتصادية فحسب، وانّما في جميع مناحي الحياة، وأشاعت القلق والتذمّر في جميع الأوساط الإسلامية، فاتجهت قطعات من الجيوش المرابطة في العراق ومصر إلى يثرب، وطالبت عثمان بالاستقامة في سياسته، وإبعاد الأمويين عن جهاز الدولة، كما طالبوه بصورة خاصة بإبعاد مستشاره ووزيره مروان بن الحكم الذي كان يعمل بصورة مكشوفة لتأجيج نار الفتنة في البلاد.

ولم يستجب عثمان لمطالب الثوّار، ولم يخضع لرأي الناصحين له، والمشفقين عليه، وظلّ متمسّكاً بأسرته، ومحتضناً لبطانته، تتوافد عليه الأخبار بانحرافهم عن الطريق القويم، واقترافهم لما حرّمه الله، فلم يعن بذلك، وراح يسدّدهم ويلتمس لهم المعاذير، ويتّهم الناصحين بالعداء لأسرته.

وبعدما اختفت جميع الوسائل الهادفة لاستقامة عثمان لم يجد الثوار بُدّاً من قتله، فقَتل شرّ قتلة، ويقول المؤرّخون انّه تولّى قتله خيار أبناء الصحابة كمحمد بن أبي بكر، كما أقرّ قتله كبار الصحابة وعظماؤهم، وفي طليعتهم الصحابي الجليل صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخليله عمّار بن ياسر.

وانتهت بذلك حكومة عثمان وهي من أهمّ الأحداث الجسام التي جرت في عصر أبي الفضلعليه‌السلام وبمرأى ومسمع منه، فقد كان في شرخ الشباب وعنفوانه وقد رأى كيف تذرع الانتهازيّون من الأمويين بمقتل عثمان فطبّلوا له، ورفعوا قميصه الملطّخ بدمائه فجعلوه شعاراً لتمرّدهم على حكم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ذلك الحكم القائم على الحق والعدل.

إنّ أسوأ ما تركت حكومة عثمان أنّها ألقت الفتنة بين المسلمين،

٦٨

وحصرت الثروة عند الأمويين وآل أبي معيط، وعملائهم من القرشيين الحاقدين على العدل الاجتماعي، وبذلك استطاعوا القيام بعصيان مسلّح ضدّ حكومة الامام أمير المؤمنينعليه‌السلام التي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أيّ حال فلنترك حديث عثمان، ونتوجّه إلى ذكر بقيّة الأحداث التي جرت في عصر أبي الفضلعليه‌السلام .

* * *

٦٩

حكومة الامام

والشيء المؤكّد الذي لا خلاف فيه أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قد انتخب انتخاباً شاملاً من جميع قطعات الشعب، فقد سارعت القوات المسلحة التي أطاحت بحكومته إلى مبايعته كما بايعته الجماهير العامة في مختلف الأقاليم الإسلامية سوى الشام، ونفر قليل في يثرب كان من بينهم سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، وبعض الأمويين الذين أيقنوا أن الإمامعليه‌السلام يبسط العدالة الاجتماعية في الأرض، ويحقق المساواة الكاملة بين المسلمين فلا امتياز لأحد على أحد، وبذلك تفوت مصالحهم، فلم يبايعوه، ولم يقف الإمام معهم موقفاً معادياً فلم يوعز إلى السلطات القضائية والتنفيذية باتخاذ الإجراءات الحاسمة ضدّهم، وذلك عملاً بما منحه الإسلام من الحريّات العامة لجميع الناس، سواء كانوا من المؤيّدين للدولة أو من المعارضين لها بشرط أن لا يحدثوا فساداً في الأرض، أو يقوموا بعصيان مسلّح ضدّ الدولة فانّها تكون مضطرّة إلى اتخاذ الاجراءات القانونية ضدّهم.

وعلى أيّ حال فقد بويع الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بيعة عامة عن رضى واختيار من جميع أبناء الشعوب الإسلامية، وأظهروا في بيعته جميع مباهج الفرح والسرور، ولم يظفر بمثل هذه البيعة أحد من الخلفاء الذين سبقوه أو تأخّروا عنه.

وفور تقلّد الإمامعليه‌السلام للخلافة تبنى بصورة إيجابية وشاملة العدل الخالص، والحق المحض، وتنكّر لكل مصلحة شخصية تعود بالنفع عليه

٧٠

أو على ذويه، وقدم مصالح الفقراء والمحرومين على جميع المصالح الأخرى كانت سعادته أن يرى الأوساط الشعبية تنعم بالخير والسعادة، ولا مكان للحاجة والاعواز عندها، ولم يعرف في تاريخ هذا الشرق حاكم مثله في عطفه وحنانه على البؤساء والمحرومين.

ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الحكم عند الإمامعليه‌السلام فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرة ولده أبي الفضلعليه‌السلام فانّه يكشف عن روعة التربية الكريمة التي تربّى عليها في عهد أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض، والتي تركت في نفسه حبّ التضحية والفداء في سبيل الله، كما يكشف عن الأسباب الوثيقة التي دعت القوى الطامعة، والمنحرفة إلى الوقوف في وجه حكومة الإمامعليه‌السلام ، ومناهضتهم لأبنائه من بعده، وفيما يلي ذلك:

منهج حكم الإمام:

أمّا منهج الحكم وفلسفته عند الإمامعليه‌السلام فقد كان مشرقاً وحافلاً بمقومات الارتقاء، والنهوض للشعوب الإسلامية، وفيما أعتقد أنّه لم تعرف الإنسانية في جميع أدوارها نظاماً سياسياً تبنّى العدل الاجتماعي، والعدل الاقتصادي والسياسي مثل ما تبّناه الإمام، وسنّه من المناهج الرائعة في هذه الحقول ونشير إلى بعضها:

١ ـ بسط الحريّات:

وآمن الإمامعليه‌السلام بضرورة منح الحريّات العامة لجميع أبناء الأمّة، وان ذلك من اولوّيات حقوقها، والدولة مسؤولة عن توفيرها لكل فرد من أبناء

٧١

الشعب، وان حرمانهم منها يخلق في نفوسهم العقد النفسية، ويمنع من التقدّم الفكري، والتطوّر الاجتماعي في أبنائها، ويخلد لهم الخنوع والخمول، ويعود عليهم بالاضرار البالغة، أمّا مدى هذه الحرية وسعتها فهي:

أ ـ الحريّة الدينية:

يرى الإمامعليه‌السلام أن الناس أحرار فيما يعتقدون ويذهبون من أفكار دينية، وليس للدولة أن تحول بينهم وبين عقائدهم كما أنّه ليس لها أن تحول بينهم وبين طقوسهم الدينية، وانهم غير ملزمين بمسايرة المسلمين في الأحوال الشخصية، وانّما يتّبعون ما قنن من تشريع عند فقائهم.

ب ـ الحريّة السياسية:

ونعني بها منح الناس الحرية التامة في اعتناق المذاهب السياسية التي تتفق مع رغباتهم وميولهم، وليس للدولة أن تفرض عليهم رأياً سياسياً مخالفاً لما يذهبون إليه، كما أنّه ليس لها أن تفرض عليهم الإقلاع عن آرائهم السياسية الخاصة، وانّما عليها أن تقيم لهم الأدلة والحجج الحاسمة على فساد ذلك المذهب، وعدم صحّته، فان رجعوا إلى الرشاد فذاك، وإلاّ فتتركهم وشأنهم ما لم يحدثوا فساداً في الأرض، أو يخلّوا بالأمن العام، كما اتفق ذلك من الخوارج الذين فقدوا جميع المقوّمات الفكرية، والركائز العلمية، وراحوا يتمادون في جهلهم وغيّهم ويعرضون الناس للقتل والإرهاب، فاضطرّ الإمامعليه‌السلام إلى مقاومتهم بعد أن أعذر فيهم.

ومن الجدير بالذكر أن مما يتفرّع على الحرية السياسية حريّة النقد لرئيس الدولة وجميع أعضائها، فالناس أحرار فيما يتولّون، وينقدون، وقد كان الخوراج يقطعون على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام خطابه، ويخدشون

٧٢

عواطفه بنقدهم الذي لم يكن واقعياً، وانّما كان مبنيّاً على الجهل والمغالطة، فلم يتّخذ الإمام أي إجراء ضدّهم، ولم يسقهم إلى المحاكم والقضاء لينالوا جزاءهم، وبذلك فقد عهد الإمام إلى نشر الوعي العام، وبناء الشخصية المزدهرة للإنسان المسلم.

هذه بعض صور الحرية التي طبّقت أيام حكم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وهي تمثّل مدى أصالة منهجه السياسي الذي يساير التطور والابداع.

٢ ـ نشر الوعي الديني:

واهتم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بصورة إيجابية بنشر الوعي الديني، وإشاعة المثل الإسلامية بين المسلمين، باعتبارها الركيزة الأولى لإصلاح المجتمع وتهذيبه.

انّ من أُولى معطيات الوعي الديني اقصاء الجريمة، ونفي الشذوذ والانحراف عن المجتمع، وإذا لم يتلوّث بذلك، فقد بلغ غاية الازدهار والتقدّم.

ومن المقطوع به انّا لم نجد أحداً من خلفاء المسلمين وملوكهم قد عني بالتربية الدينية كما عُني الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد حفل نهج البلاغة بالكثير من خطبه التي تهزّ أعماق النفوس، وتدفعها إلى سلوك المناهج الخيّرة، واعتناق الفضائل، وابعادها عن اقتراف الجرائم، وقد أثمرت خطبه في إيجاد طبقة من خيار المسلمين وصلحائهم، قاوموا الانهيار الأخلاقي، وناهضوا التفسخ والتحلل الذي شاع أيام حكم الأمويين، وكان من بين هؤلاء رشيد الهجري وميثم التمّار وعمرو بن الحمق الخزاعي، وغيرهم من بناة الفكر الإسلامي.

٧٣

٣ ـ نشر الوعي السياسي:

أمّا نشر الوعي السياسي في أوساط المجتمع الإسلامي فهو من أهمّ الأهداف السياسية التي تبنّاها الإمامعليه‌السلام في أيّام حكومته.

ونعني بالوعي السياسي هو تغدية المجتمع وإفهامه بجميع الطرق والوسائل بالمسؤولية أمام الله تعالى، على مراقبة الأوضاع العامة في الدولة وغيرها من سائر الشؤون الاجتماعية للمسلمين حتى لا يقع أيّ تمزّق في صفوفهم، أو ايّ تأخّر أو ضعف في حياتهم الفردية والاجتماعية، وقد ألزم الإسلام بذلك، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته » ألقى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله المسؤولية على جميع المسلمين في رعاية شؤونهم، والعمل على حفظ مصالحهم، ودرأ الفساد عنهم.

ومن بين الاَحاديث المهمّة الداعية إلى مقاومة أئمّة الظلم والجور هذا الحديث النبوي الذي ألقاه أبو الأحرار على جلاوزة ابن مرجانة وعبيدة قال: « أيّها الناس: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله »(١) .

وكان هذا الحديث الشريف من المحفّزات لسيّد الشهداءعليه‌السلام على إعلان الجهاد المقدّس ضدّ الحكم الأموي الجائر الذي استحلّ ما حرّم الله، ونكث عهده، وخالف سنّة رسوله، وعمل في عباد الله بالإثم والعدوان.

__________________

(١) حياة الامام الحسين ٣: ٨٠.

٧٤

انّ الوعي السياسي الذي أشاعه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بين المسلمين أيّام حكمه قد خلق شعوراً ثورياً ضد الظالمين والمستبدّين، فقد انبرى المجاهدون الأبطال ممن غذّاهم الإمام بهذه الروح إلى مقارعة الطغاة، وكان على رأسهم أبو الأحرار سيّد الشهداء واخوه البطل الفذّ أبو الفضل العباسعليه‌السلام ، والكوكبة المشرقة من شباب أهل البيتعليهم‌السلام وأصحابهم المجاهدين، فقد هبّوا جميعاً في وجه الطاغية يزيد لتحرير المسلمين من الذلّ والعبوديّة وإعادة الحياة الحرّة الكريمة بين المسلمين وقد سبق هؤلاء العظماء المصلح الكبير حجر بن عديّ الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي ورُشيد الهجري، وميثم التمّار وغيرهم من أعلام الحرية ودعاة الإصلاح الاجتماعي، فقد ثاروا بوجه الطاغية معاوية بن أبي سفيان ممثّل القوى الجاهلية، ورأس العناصر المعادية للإسلام، وعلى أي حال فقد غرس الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام روح الثورة على الظلم والطغيان في نفوس المسلمين، وأهاب بهم أن لا يقارّوا على كظّة ظالم أو سغب مظلوم.

٤ ـ إلغاء المحسوبيات:

وكان مما عني به الإمامعليه‌السلام في أيّام حكومته إلغاء المحسوبيات إلغاءً مطلقاً، فالقريب والبعيد عنده سواء، فليس للقريب امتياز خاص، وانّما شأنه شأن غيره في جميع الحقوق والواجبات كما ساوى بصورة موضوعية بين العرب والموالي مما جعل الموالي يدينون له بالولاء، ويؤمنون بإمامته.

لقد ألغى الإمام جميع صنوف المحسوبيات، وصور العنصريات، وساوى بين المسلمين على اختلاف قومياتهم مساواة عادلة لم يعهد لها نظير في تاريخ الأمم والشعوب، فقد حملت مساواته روح الإسلام

٧٥

وجوهره وحقيقته النازلة من ربّ العالمين، فهي التي تجمع ولا تفرّق ولا تجعل في صفوف المسلمين أي ثغرة يسلك فيها أعداء الإسلام لتشتيت شملهم، وتصديع وحدتهم.

٥ ـ القضاء على الفقر:

أمّا فلسفة الإمامعليه‌السلام في الحكم فتبتني على محاربة الفقر ولزوم اقصاء شبحه البغيض عن الناس لأنّه كارثة مدمّرة للمواهب والأخلاق، ولا يمكّن الأمّة أن تحقّق أي هدف من أهدافها الثقافية والصحيّة وهي فقيرة بائسة، إن الفقير يقف سدّاً حائلاً بين الأمّة وبين ما تصبو إليه من التطوّر والتقدّم والرخاء بين أبنائها ومن الجدير بالذكر أن من بين المخططات التي تزيل شبح الفقر وتوجب نشر الرخاء بين الناس، والتي عني بها الإسلام بصورة موضوعية وهي:

أ ـ توفير المسكن.

ب ـ إقامة الضمان الاجتماعي.

ج ـ توفير العمل.

د ـ القضاء على الاستغلال.

ه‍ ـ سدّ أبواب المرابين.

و ـ القضاء على الاحتكار.

هذه بعض الوسائل التي عني بها الإسلام في اقتصاده، وقد تبنّاها الإمام في أيّام حكومته، وقد ناهضتها القوى الرأسمالية القرشية ودفعت بجميع إمكانياتها للإجهاز على حكم الإمام، الذي قضى على مصالحهم الضيّقة، وبهذا نطوي الحديث عن منهج الإمام وفلسفته في الحكم.

٧٦

القوى المعارضة للإمام:

ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للتعرّف على القوى المعارضة لحكومة الإمام، التي لم تكن لها أيّة أهداف نبيلة، وانّما كانت تبغي الاستيلاء على الحكم للظفر بخيرات البلاد، والتحكّم في رقاب المسلمين بغير حقّ، وفيما يلي ذلك.

السيّدة عائشة:

وانطوت نفس السيّدة عائشة ـ مع الأسف ـ على بغض عارم وكراهية شديدة للإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولعلّ السبب في ذلك ـ فيما نحسب ـ يعود إلى ميل زوجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وإلى بضعته وحبيبته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وإلى سبطيه وريحانتيه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسينعليهما‌السلام واشادته دوماً بفضلهم، وسموّ منزلتهم عند الله، وفرض مودّتهم على عموم المسلمين، كما أعلن الذكر الحكيم ذلك، قال تعالى:( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) وفي نفس الوقت كانت عائشة تعامل معاملة عادية، وفي كثير من الأحيان كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يشير إلى أفعالها، فقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله لنسائه: أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : من ها هنا يتولّد الشرّ وأشار إلى بيتها، وغير ذلك مما أثار عواطفها.

وثمّة سبب في كراهية عائشة للإمام وهو موقفه الصارم الذي وقفه تجاه بيعة أبيها أبي بكر، ومقاطعته لانتخابه، وشجبه لبيعته وبعد سقوط حكومة عثمان كانت تروم إرجاع الخلافة إلى قبيلتها تيم لتكون سياسة الدولة بجميع أجهزتها خاضعة لرغباتها وميولها، وهي على يقين أن

٧٧

الخلافة إذا رجعت للإمامعليه‌السلام فإنّها سوف تعامل كغيرها من أبناء الشعوب الإسلامية، ولا تحظى بأيّة ميّزة، فان جميع الشؤون السياسية والاقتصادية عند الإمامعليه‌السلام لا بدّ أن تسير على وفق الكتاب والسنّة، ولا مجال عنده للأهواء والعواطف، وكانت عائشة تعرف ذلك جيّداً، ولذا أعلنت العصيان والتمرّد على حكومته، وقد انضمّ إليها كل من الزبير وطلحة والامويين وذوي الاطماع والمنحرفين عن الحق من القبائل القرشية الذين ناهضوا الدعوة الإسلامية من حين بزوغ نورها.

وعلى أيّ حال فقد كانت عائشة من أوثق الأسباب في الإطاحة بحكومة عثمان، وقد أفتت بوجوب قتله، ولما أيقنت بهلاكه خرجت إلى مكّة، وهي تتطلع إلى الأخبار، فلما وافاها النبأ بقتله أعلنت فرحتها الكبرى، ولكنها لمّا فوجئت بالبيعة للإمامعليه‌السلام انقلب وضعها رأساً على عقب، وراحت تقول بحرارة:

«قتل عثمان مظلوماً والله لأطلبنّ بدمه .. ».

وأخذت تندب عثمان رياءً لا حقيقة، وقد رفعت قميصه الملطّخ بدمه، وجعلته شعاراً لتمرّدها على السلطة الشرعية التي أعلنت حقوق الإنسان، وتبنّت مصالح المحرومين والمضطهدين والتي كانت أمتداداً لحكومة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعقدت عائشة في مكّة الندوات مع أعضاء حزبها البارزين كطلحة والزبير، وسائر الامويين، وأخذت تتداول معهم الآراء أي بلد يغزونه ليشكّلوا فيه حكومة لهم، ويتّخذوا منه قاعدة لانطلاقهم في محاربة الإمام، والإجهاز على حكومته، وبعد التأمّل والنظر الدقيق في أحوال المناطق الإسلامية أجمع رأيهم على احتلال البصرة لأن لهم بها شيعة وأنصاراً،

٧٨

وأعلنوا بعد ذلك العصيان المسلّح، وزحفوا نحو البصرة، وقد التحق بهم بهائم البشر، وحثالات الشعوب من الذين ليس لهم فكر ولا وعي، وساروا لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى البصرة، وبعد مقاومة عنيفة بينهم وبين الحكومة المركزية فيها استطاعوا احتلالها، وألقوا القبض على حاكمها سهل بن حنيف وجيء به مخفوراً إلى عائشة فأمرت بنتف لحيته، فنتفتها جلاوزتها وعاد ابن حنيف بعد لحيته العريضة شاباً أمرد.

ولما وافت الأنباء الامام أمير المؤمنينعليه‌السلام بتمرّد عائشة، واحتلالها لمدينة البصرة، سارع بجيوشه للقضاء على هذا الجيب المتمرّد، خوفاً من أن تسري نار الفتنة إلى بقيّة الأمصار الإسلامية، وقد ضمّ جيشه القوى الواعية في الإسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر، ومالك الأشتر، وحجر بن عدي، وابن التيهان وغيرهم ممن ساهموا في بناء الإسلام، وإقامة ركائزه في الأرض.

وسرت جيوش الإمام حتى انتهت إلى البصرة فوجدوها محتلّة بجنود مكثفة، وهم يعلنون الطاعة والولاء لأمّهم عائشة، فأرسل الإمام رسله إلى أعضاء القيادة العسكرية في جيش عائشة كطلحة والزبير، فعرضوا عليهم السلم والدخول في مفاوضات بينهم وبين الامام حقناً لدماء المسلمين، فأبوا، وأصرّوا على التمرّد والعصيان مطالبين ـ بوقاحة ـ بدم عثمان، وهم الذين أطاحوا بحكومته، وأجهزوا عليه.

ولما نفدت جميع الوسائل التي اتخذها الإمامعليه‌السلام للسلم اضطّر إلى إعلان الحرب عليهم، وجرت بين الفريقين معركة رهيبة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل، وأخيراً نصر الله الإمام على أعدائه، فقد قُتل طلحة والزبير، وملئت ساحة المعركة بجثث قتلاهم، وقذف الله الرعب في قلوب

٧٩

الأحياء منهم فولّوا منهزمين قابعين بالذلّ والعار.

واستولى جيش الإمام على عائشة القائدة العامة للمتمرّدين، وحملت بحفاوة إلى بعض بيوت البصرة، ولم يتّخذ الإمام معها الإجراءات الصارمة، وعاملها معاملة المحسن الكريم، وسارع الإمام فسرّحها تسريحاً جميلاً إلى يثرب، لتقرّ في بيتها الذي أمرها الله ورسوله أن تسكن فيه، ولا تتدخّل بمثل هذه الأمور التي ليست مسؤولة عنها.

وانتهت هذه الفتنة التي أسماها المؤرّخون ( بحرب الجمل ) وقد أشاعت في ربوع المسلمين الثكل والحزن والحداد، ومزّقت صفوفهم، وألقتهم في شرّ عظيم ومن المؤكّد أن دوافع هذه الحرب لم تكن سليمة، ولم تكن حجّة عائشة وحزبها منطقية، وانّما كانت من أجل المطامع، والكراهية الشديدة لحكم الإمام الذي فقدوا في ظلاله جميع الامتيازات الخاصة، وعاملهم الإمام كما يعامل سائر المسلمين.

لقد شاهد أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هذه الحرب الدامية، ووقف على أهدافها الرامية للقضاء على حكم أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض، وقد استبان له أحقاد القبائل القرشية له واستبان له أن الدين لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم، وانّما كانوا يلوكونه بألسنتهم حفظاً لدمائهم ومصالحهم.

معاوية وبنو أميّة:

وفي طليعة القوى المعارضة لحكومة الإمام والمعادية له، معاوية بن أبي سفيان، وبنوا أميّة، فقد نزع الله الإيمان من قلوبهم، وأركسهم في الفتنة ركساً، فكانوا من ألدّ أعداء الإمام، كما كانوا من قبل من أعداءً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهم الذين ناهضوا دعوته، وكفروا برسالته، وكادوا له في غلس الليل، وفي وضح النهار، حتى أعزّه الله وأذلّهم، ونصره وقهرهم، وقد

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وقال : إنّ معبوده جسم ذو لحم ودم وجوارح وأعضاء!!(١) .

وإنّه بكى على طوفان نوح حتّى رمدت عيناه ؛ وعادته الملائكة لمّا اشتكت عيناه!!(٢) .

فلينصف العاقل [ المقلّد ] من نفسه ، هل يجوز له تقليد مثل هؤلاء [ في شيء ]؟!

وهل للعقل مجال في تصديقهم في هذه المقالات الرديّة(٣) ، والاعتقادات الفاسدة؟!

وهل تثق النفس بإصابة هؤلاء في شيء ألبتّة؟!

* * *

__________________

(١) مقالات الإسلاميّين : ٢٠٩ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٩٤ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٢٢٤.

(٢) الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٩٦.

(٣) في المصدر : الكاذبة.

١٨١

وقال الفضل(١) :

ما ذكره من مذهب المشبّهة والمجسّمة ، وهم على الباطل ، وليسوا من الأشاعرة وأهل السنّة والجماعة.

وأمّا ما نسبه إلى الحنابلة فهو افتراء عليهم ، فإنّ مذهب الإمام أحمد ابن حنبل في المتشابهات : ترك التأويل ، وتوكيل العلم إلى الله تعالى.

ولأهل السنّة والجماعة هاهنا طريقان :

أحدهما : ترك التأويل ؛ وهو ما اختاره أحمد [ ابن حنبل ]

وتوكيل العلم إلى الله تعالى(٢) ، كما قال الله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا )(٣) ، فهؤلاء يتركون آيات التشبيه على ظواهرها ، مع نفي الكيفية والنقص عن ذاته وصفاته تعالى ، لا أنّهم يقولون بالجسمية المشاركة للأجسام ، كما ذهب إليه المشبّهة.

فلم لا يجوز تقليد هؤلاء؟!

وأيّ فساد يلزم من هذا الطريق؟! مع إنّ نصّ القرآن يوافقهم في توكيل العلم إلى الله تعالى!

وما ذكره من الطامّات والترّهات فليس من مذهب أهل الحقّ ؛ والرجل معتاد بالطامّات.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٧٤.

(٢) وهذا هو ثاني الطريقين.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ٧.

١٨٢

وأقول :

المفهوم من كلامه : إنّ اسم أهل السنّة والجماعة مخصوص بالأشاعرة ، وهو غير مسلّم عند المعتزلة والمجسّمة وغيرهم ، فهم في هذا الاسم سواء.

وكيف يختصّ هذا الاسم بالأشاعرة وهو قد حدث قبل شيخهم الأشعري ، في أيّام معاوية؟!(١) .

ونسب الشهرستاني في « الملل والنحل » القول بالجسمية إلى الكرّامية وعدّهم من الصفاتية ، وهم من أهل السنّة(٢) .

__________________

(١) فقد أطلقت هذه التسمية بعد صلح الإمام السبط الحسن بن عليّ ٨ مع معاوية ابن أبي سفيان في سنة ٤١ ه‍ ، فسمّيت هذه السنة ب‍ : عام الجماعة ، وهي السنة التي سنّ فيها لعن الإمام عليّ ٧ على المنابر! ومن ذلك انتزع اسم أهل السنّة والجماعة لمخالفي أمير المؤمنين الإمام عليّ ٧ ، المتّبعين لمعاوية ، المجتمعين على سنّته!

انظر : العبر في خبر من غبر ١ / ٣٦ حوادث سنة ٤١ ه‍ ، البداية والنهاية ٨ / ١٨ حوادث سنة ٤١ ه‍ ، تطهير الجنان واللسان ـ المطبوع مع الصواعق المحرقة ـ : ٢٢.

(٢) الملل والنحل ١ / ٩٩.

والكرّامية ـ بفتح الكاف وتشديد الراء المهملة ـ : أصحاب أبي عبد الله محمّد ابن كرّام النيسابوري ، كان والده يحفظ الكرم ، فقيل له : الكرّام ، وقيل : إنّه من بني تراب.

ولد بقرية من قرى زرنج ، ونشأ بسجستان ، ثمّ دخل بلاد خراسان بعد المجاورة بمكّة خمس سنين ، وانصرف إلى سجستان ، ثمّ إلى نيسابور ، فلمّا شاعت بدعته ـ وهي أنّ الإيمان باللسان ، فهو مؤمن وإن اعتقد الكفر بقلبه! ـ حبسه

١٨٣

ونسبه في « المواقف »(١) إليهم أيضا ، وإلى مقاتل بن سليمان(٢) وغيره(٣) .

__________________

طاهر بن عبد الله بن طاهر ، ولمّا أفرج عنه خرج إلى ثغور الشام ، وعند عودته إلى نيسابور سجنه محمّد بن طاهر بن عبد الله ثمانية أعوام لأجل بدعته.

وخرج من نيسابور سنة ٢٥١ ه‍ متوجّها إلى بيت المقدس ، وتوفّي فيها سنة ٢٥٥ ه‍ ، وقيل سنة ٢٥٦ ه‍ ، ودفن بباب أريحا ، وقيل أيضا : إنّه مات بالشام سنة ٢٥٥ ه‍.

انظر : الأنساب ـ للسمعاني ـ ٥ / ٤٣ « الكرّامي » ، ميزان الاعتدال ٦ / ٣١٤ رقم ٨١٠٩ ، لسان الميزان ٥ / ٣٥٣ رقم ١١٥٨ ، البداية والنهاية ١١ / ١٨ حوادث سنة ٢٥٥ ه‍.

(١) المواقف : ٢٧٣ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٢٥ المقصد الثاني.

(٢) هو مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني ، أبو الحسن البلخي ، صاحب التفسير ، وقال العسقلاني : قال ابن حبّان : كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم ، وكان مشبّها يشبّه الربّ سبحانه وتعالى بالمخلوقين ، وكان يكذب مع ذلك في الحديث ، أصله من بلخ ، وانتقل إلى البصرة فمات بها عام ١٥٠ ه‍.

انظر : ميزان الاعتدال ٦ / ٥٠٥ رقم ٨٧٤٧ ، تهذيب التهذيب ٨ / ٣٢٠ ـ ٣٢٥ رقم ٧١٤٦ ، وفيات الأعيان ٥ / ٢٥٥ رقم ٧٣٣ ، شذرات الذهب ١ / ٢٢٧ حوادث سنة ١٥٠ ه‍.

(٣) مثل : معاذ العنبري ( ٢٠٨ ـ ٢٨٨ ه‍ ) ، الذي سأله أحدهم عن الله : أله وجه؟

فقال : نعم!

حتّى سأله عن جميع الأعضاء ، من أنف وفم وصدر وبطن ، فأثبتها جميعا!

قال السائل : فاستحييت أن أذكر الفرج ؛ فأومأت بيدي إلى فرجي

فقال : نعم!

فقلت : أذكر أم أنثى؟

فقال : ذكر!

وسئل عن أمور كهذه ، فأجاب بما تقشعرّ منه الأبدان! تعالى الله عن ذلك علوّا

١٨٤

وذكر فيها وفي « الملل والنحل » مثل ما ذكره المصنّف ; من خرافات المجسّمة وأضعافه(١) .

وأمّا ما ذكره من أنّ مذهب أحمد بن حنبل ليس كذلك

ففيه ما قاله السيّد السعيد ; أنّه كذلك بشهادة فخر الدين الرازي ، حيث قال في رسالته المعمولة لتفضيل مذهب الشافعي : إنّ أحمد بن حنبل كان في نهاية الإنكار على المتكلّمين في التنزيه ، ولمّا كان في غاية المحبّة للشافعي ، ادّعت المشبّهة أنّه [ كان ] على مذهبهم(٢) .

ولو سلّم سلامة أحمد من القول بالتشبيه ، فالمصنّف ; إنّما نقل القول بالجسمية عن الحنابلة ، ولا ملازمة بينهم وبينه في المسائل الأصولية ، بل وبعض الفرعية ، كغيره من مذاهبهم مع أتباعه.

ثمّ ما ذكره من أنّ أحمد يترك آيات التشبيه على ظواهرها مع نفي الكيفية والنقص ، تناقض ظاهر ، فإنّ إبقاءها على ظواهرها يقتضي الجسمية ، وإثبات كيفية ما ، وذلك نقص.

على إنّ أقلّ ما يقتضيه ترك التأويل : التوقّف في نفي التشبيه

__________________

كبيرا.

انظر : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ، طبقات الحنابلة ـ لابن أبي يعلى ـ ١ / ٣١٢ رقم ٤٨٩.

(١) المواقف : ٢٧٣ و ٤٢٩ ، الملل والنحل ١ / ٩٢ ـ ١٠٠ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٢٥ ـ ٢٦ و ٣٩٩.

(٢) إحقاق الحقّ ١ / ١٧٦ ، وانظر : مناقب الإمام الشافعي ـ للرازي ـ : ١٣٨.

أي أنّ الفخر الرازي جعل قول أحمد بالتجسيم من المسلّمات ؛ لأنّ المشبّهة قد ادّعت أنّ الشافعي على مذهبهم ؛ لأنّ أحمد ـ القائل بالتجسيم ـ كان في نهاية المحبّة والتعظيم للشافعي ، وكان ـ كذلك ـ في غاية الإنكار لمذاهب المتكلّمين في التنزيه!

١٨٥

والجسمية ، ولذا أنكر على أهل التنزيه كما ذكره الرازي ، وذلك كاف في نقص أحمد ، إذ صار من المشكّكين في ما لا يشكّ فيه ذو معرفة.

وأمّا ما ذكره من أنّ نصّ القرآن يوافقهم

فحاصله : إنّ الآية الكريمة نصّ في أنّ الراسخين في العلم جاهلون بالمتشابهات ، ويكلون علمها إلى الله تعالى ، بدعوى أنّ قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ )(١) جملة مستأنفة ، ولا أظنّ عارفا يرضى به وينكر أن يكون (الرَّاسِخُونَ ) عطفا على لفظ الجلالة.

كيف؟! وذلك يستلزم ـ بعد مخالفة الظاهر ـ أن يكون علم التأويل مختصّا بالله تعالى ، فيكون النبيّ ٦ مرسلا بما يجهله وما يخلو عن الفائدة له ولأمّته! ومخطئا في قوله بحقّ أمير المؤمنين ٧ :إنّه عالم علم الكتاب (٢) .

وظنّي أنّ الداعي لهم إلى مخالفة الظاهر ، والتزام هذه المحاذير ، هو إنكار فضل آل محمّد ٦ ، فإنّهم لو أقرّوا بأنّ قوله : (وَالرَّاسِخُونَ ) عطف على لفظ الجلالة ، لم يمكنهم إنكار أنّ العترة من الراسخين في العلم ، العالمين بمتشابه القرآن ، بعد أن أخبر النبيّ ٦ بأنّهم قرناء

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٧.

(٢) هذا إشارة إلى تفسير قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) سورة الرعد ١٣ : ٤٣.

انظر : مناقب الإمام عليّ ٧ـ للمغازلي ـ : ٢٦٢ ح ٢٥٨ ، شواهد التنزيل ـ للحسكاني ـ : ١ / ٣٠٧ ـ ٣١٠ ح ٤٢٢ ـ ٤٢٧ ، زاد المسير ٤ / ٢٦١ ، تفسير القرطبي ٩ / ٢٢٠ ، مجمع البيان ٦ / ٥٠ ، وانظر : ينابيع المودّة ١ / ٣٠٥ ـ ٣٠٨ ح ١ ـ ١٣.

١٨٦

القرآن ، ولا يفارقونه حتّى يردا عليه الحوض(١) ، فإنّه يقتضي علمهم بكلّ ما فيه ، وإلّا لفرّق بينهم وبينه الجهل به.

__________________

(١) إشارة إلى الحديث الشريف المتواتر أنّ رسول الله ٦ قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » ، المرويّ في أمّهات مصادر الجمهور ، فانظر مثلا :

صحيح مسلم ٧ / ١٢٢ ـ ١٢٣ ، سنن الترمذي ٥ / ٦٢١ ح ٣٧٨٦ وص ٦٢٢ ح ٣٧٨٨ ، مسند أحمد ٣ / ١٤ و ١٧ و ٢٦ و ٥٩ وج ٤ / ٣٦٧ و ٣٧١ وج ٥ / ١٨٢ و ١٨٩ ، فضائل أحمد : ٧٦ ح ١١٤ ، الطبقات الكبرى ٢ / ١٥٠ ، سنن الدارمي ٢ / ٢٩٢ ح ٣٣١١ ، السنّة ـ لابن أبي عاصم ـ : ٦٢٨ ـ ٦٣١ ح ١٥٤٨ ـ ١٥٥٨ ، أنساب الأشراف ٢ / ٣٥٧ ، خصائص الإمام عليّ ٧ـ للنسائي ـ : ٦٩ ـ ٧٠ ح ٧٤ ، مسند أبي يعلى ٢ / ٢٩٧ ح ١٠٢١ وص ٣٠٣ ح ١٠٢٧ وص ٣٧٦ ح ١١٤٠ ، المعجم الصغير ـ للطبراني ـ ١ / ١٣١ و ١٣٥ ، المعجم الأوسط ٤ / ٨١ ح ٣٤٣٩ وص ١٥٥ ح ٣٥٤٢ ، المعجم الكبير ٣ / ٦٥ ح ٢٦٧٨ وج ٥ / ١٥٣ و ١٥٤ ح ٤٩٢١ ـ ٤٩٢٣ وص ١٦٦ ح ٤٩٦٩ وص ١٦٩ ـ ١٧٠ ح ٤٩٨٠ و ٤٩٨١ وص ١٨٢ ح ٥٠٢٥ و ٥٠٢٦ وص ١٨٣ ح ٥٠٢٨ وص ١٨٦ ح ٥٠٤٠ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١١٨ ح ٤٥٧٦ و ٤٥٧٧ وص ١٦٠ ـ ١٦١ ح ٤٧١١ ووافقه الذهبي في التلخيص ، حلية الأولياء ١ / ٣٥٥ رقم ٥٧ وج ٩ / ٦٤ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٢ / ١٤٨ وج ٧ / ٣٠ ـ ٣١ وج ١٠ / ١١٤ ، تاريخ بغداد ٨ / ٤٤٢ رقم ٤٥٥١ وقد بتر الحديث فلم يذكر إلّا الثقل الأوّل فقط!! ، مناقب الإمام عليّ ٧ـ للمغازلي ـ : ٢١٤ ـ ٢١٥ ح ٢٨١ ـ ٢٨٤ ، مناقب الإمام عليّ ٧ـ للخوارزمي ـ : ١٥٤ ح ١٨٢ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٢١٦ ح ٨٧٠٢ وص ٢٢٠ ح ٨٧١٤ ، فردوس الأخبار ١ / ٥٣ ح ١٩٧ ، تفسير الفخر الرازي ٨ / ١٧٩ ، كفاية الطالب : ٥٣ ، ذخائر العقبى : ٤٧ ـ ٤٨ ، مختصر تاريخ دمشق ١٧ / ١٢٠ ، تفسير الخازن ١ / ٢٥٧ وقد ذكر الثقل الأوّل فقط ولم يتمّ الحديث!! ، فرائد السمطين ٢ / ١٤٢ ـ ١٤٧ ح ٤٣٦ ـ ٤٤١ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٦٣ ـ ١٦٥ ، الدرّ المنثور ٢ / ٢٨٥ ، الجامع الصغير : ١٥٧ ح ٢٦٣١ ، كنز العمّال ١ / ١٧٢ ـ ١٧٣ ح ٨٧٠ ـ ٨٧٣ وص ١٧٨ ح ٨٩٨.

هذا ، وقد توسّع العلّامة السيّد عليّ الحسيني الميلاني ـ حفظه الله ورعاه ـ في دراسة هذا الحديث الشريف من كلّ جوانبه ـ ألفاظه وطرقه وأسانيده ودلالته ـ في الأجزاء ١ ـ ٣ من موسوعته « نفحات الأزهار » ، فجزاه الله خيرا ؛ فراجع.

١٨٧

فالحقّ أنّ الراسخين في العلم ، عالمون بالمتشابه كلّه ، وأنّهم مخصوصون بالعترة ، ولذا خصّهم رسول الله ٦ بعدم المفارقة للقرآن ، وأوجب على أمّته التمسّك به وبهم.

١٨٨

إنّه تعالى ليس في جهة

قال المصنّف ـ شرّف الله منزلته ـ(١) :

المبحث الرابع

في أنّه تعالى ليس في جهة

العقلاء كافّة على ذلك ، خلافا للكرّامية ، حيث قالوا : « إنّه تعالى في جهة الفوق »(٢) .

ولم يعلموا أنّ الضرورة قضت بأنّ كلّ ما هو في جهة ، فإمّا أن يكون لابثا فيها ، أو متحرّكا عنها ، فهو [ إذا ] لا ينفكّ عن الحوادث ، وكلّ ما لا ينفكّ عن الحوادث فهو حادث ، كما تقدّم.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) الملل والنحل ١ / ٩٩ ، المواقف : ٤٢٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٩.

١٨٩

وقال الفضل(١) :

هذا القول للكرّامية ؛ لأنّهم من جملة من يقول : إنّه جسم ؛ ولكن قالوا : غرضنا من الجسم أنّه موجود ، لا أنّه متّصف بصفات الجسم.

فعلى هذا ، لا نزاع معهم إلّا في التسمية ، ومأخذها التوقيف ، ولا توقيف ها هنا(٢) .

وكونه تعالى في جهة الفوق ـ على وجه الجسمية ـ باطل بلا خلاف ، لكن جرت العادة في الدعاء بالتوجّه إلى جهة الفوق ؛ وذلك لأنّ البركات الإلهية إنّما تنزل من السماء إلى الأرض.

وقد جاء في الحديث أنّ امرأة بكماء أتي بها إلى النبيّ ٦ فقال لها رسول الله ٦ : من إلهك؟ فأشارت إلى السماء ، فقبل رسول الله ٦ إيمانها(٣)

وذلك لجريان العادة بالتوجّه إلى السماء عند ذكر الإله ، وهذا يمكن أن يكون مبنيا على إرادة العلوّ والتفوّق ، فيعبّرون عن العلوّ العقلي بالعلوّ

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٢) ورد مؤدّاه في : الملل والنحل ١ / ١٠٠ ، المواقف : ٢٧٣ ، شرح المواقف ٨ / ٢٥ و ٢٦.

(٣) انظر : صحيح مسلم ٢ / ٧١ ، مسند أحمد ٢ / ٢٩١ ، الموطّأ : ٦٧٨ ح ٨ ، المعجم الكبير ١٩ / ٣٩٨ ح ٩٣٧ وج ٢٢ / ١١٦ ح ٢٩٧ ، مجمع الزوائد ٤ / ٢٤٤ ، إتحاف السادة المتّقين ٢ / ١٠٥ ، كنز العمّال ١ / ٤١١ ح ١٧٤٤ وص ٤١٢ ح ١٧٤٦ ، المواقف : ٢٧٢ ؛ وفيها : « أين الله؟ » بدل « من إلهك؟ ».

١٩٠

الحسّي.

فإن أراد الكرّامية هذا المعنى فهو صحيح ، وإن أرادوا ما يلزم الأجسام من الكون في الجهة والحيّز ، فهو باطل.

١٩١

وأقول :

ذكر الشهرستاني في « الملل والنحل » الكرّامية ، وعدّهم من الصفاتية وأهل السنّة ، وقال : هم أصحاب أبي عبد الله محمّد بن كرّام ، وهم طوائف يبلغ عددهم اثنتي عشرة فرقة.

ثمّ قال : نصّ أبو عبد الله على إنّ لمعبوده على العرش استقرارا ، وعلى إنّه بجهة فوق ذاتا ، وأطلق عليه اسم « الجوهر » ، فقال في كتابه المسمّى « عذاب القبر » : إنّه أحديّ الذات ، أحديّ الجوهر ، وإنّه مماسّ للعرش من الصفحة العليا ، ويجوز عليه الانتقال والتحوّل والنزول!

ومنهم من قال : إنّه على بعض أجزاء العرش! وقال بعضهم : امتلأ العرش به! وصار المتأخّرون منهم إلى أنّه تعالى بجهة فوق ومحاذ للعرش.

ثمّ اختلفوا ، فقال العابدية منهم : إنّ بينه وبين العرش من البعد والمسافة ما لو قدّر مشغولا بالجواهر لاتّصلت به(١) .

... إلى غير ذلك ممّا ذكره من خرافاتهم وضلالاتهم التي صاروا إليها بمجرّد الهوى وعدم المبالاة بالله سبحانه.

وقال في « المواقف » وشرحها : ذهب أبو عبد الله محمّد بن كرّام إلى أنّه تعالى في الجهة ككون الأجسام فيها ، وهو أن يكون بحيث يشار إليه أنّه هاهنا أو هناك ، وهو مماسّ للصفحة العليا من العرش ، ويجوز عليه

__________________

(١) الملل والنحل ١ / ٩٩ ـ ١٠٠.

١٩٢

الحركة والانتقال وتبدّل الجهات(١) .

فعلى هذا ، كيف يقول الفضل : كونه تعالى في جهة الفوق ـ على جهة الجسمية ـ باطل بلا خلاف؟!

ثمّ بعد هذا ناقض نفسه وردّد في مرادهم ، فإنّه لا يناسب الحكم بعدم الخلاف!

ثمّ إنّ اللازم ـ بمقتضى التصريح بأنّه تعالى جوهر ، وإثباتهم الجهة والحيّز والمماسّة لله تعالى ، وتجويزهم الحركة والانتقال عليه سبحانه ـ أن يكون مرادهم بالجسم هو الجسم الحقيقي ، لا الموجود.

لكن قال في « المواقف » وشرحها : « الكرّامية ـ أي بعضهم ـ قالوا :

هو جسم ـ أي : موجود ـ ، وقوم آخرون منهم قالوا : هو جسم ـ أي : قائم بنفسه ـ ؛ فلا نزاع معهم على التفسيرين إلّا في التسمية [ أي : إطلاق لفظ الجسم عليه ] ، ومأخذها التوقيف ، ولا توقيف هاهنا »(٢) .

فلاحظ وتدبّر!

وأمّا حديث « البكماء » ، ففي « المواقف » أنّ السؤال وقع فيه ب‍ : « أين الله؟ » لا : « من إلهك؟(٣) » كما ذكره الخصم! وذلك أنسب في مقام الاستشهاد لو صحّ الحديث!

__________________

(١) المواقف : ٢٧١ ، شرح المواقف ٨ / ١٩.

(٢) المواقف : ٢٧٣ ، شرح المواقف ٨ / ٢٥.

(٣) المواقف : ٢٧٢ ، شرح المواقف ٨ / ٢٤.

١٩٣
١٩٤

إنّه تعالى لا يتّحد بغيره

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّه تعالى لا يتّحد بغيره

الضرورة قاضية ببطلان الاتّحاد ، فإنّه لا يعقل صيرورة الشيئين شيئا واحدا.

وخالف في ذلك جماعة من الصوفية من الجمهور ، فحكموا بأنّه تعالى يتّحد بأبدان العارفين(٢) ، حتّى تمادى بعضهم وقال : إنّه تعالى نفس الوجود ، وكلّ موجود هو الله تعالى!

وهذا عين الكفر والإلحاد.

الحمد لله الذي فضّلنا باتّباع أهل البيت ، دون اتّباع أهل الأهواء الباطلة.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٧.

(٢) انظر : كتاب التجلّيات ـ لابن عربي ـ : ١٣ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٢٣٢ ، شرح التجريد ـ للقوشجي ـ : ٤٢٥.

١٩٥

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى لا يتّحد بغيره ؛ لامتناع اتّحاد الاثنين(٢) .

وأمّا ما نسبه إلى الصوفية من القول بالاتّحاد ، فإن أراد به محقّقي الصوفية ، ك‍ :

أبي يزيد البسطامي(٣) ،

وسهل بن عبد الله التستري(٤) ،

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٧٩ ـ ١٨١.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٢٥ ، المواقف : ٢٧٤ ، شرح المواقف ٤ / ٦٠ ـ ٦٢ وج ٨ / ٢٨.

(٣) هو : طيفور بن عيسى بن سروشان البسطامي ، الصوفي الزاهد ، كان جدّه مجوسيا فأسلم ، ولد في بسطام ـ وهي بلدة من أعمال خراسان ، بين دامغان ونيسابور ـ وتوفّي سنة ٢٦١ وقيل : ٢٦٤ ه‍.

انظر : طبقات الصوفية : ٦٧ رقم ٨ ، معجم البلدان ١ / ٥٠٠ رقم ١٩٠١ ، وفيات الأعيان ٢ / ٥٣١ رقم ٣١٢ ، سير أعلام النبلاء ١٣ / ٨٦ رقم ٤٩ ، شذرات الذهب ٢ / ١٤٣ وفيات سنة ٢٦١ ه‍.

(٤) هو : أبو محمّد ، سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى التستري ، الصوفي الزاهد ، ولد سنة ٢٠٠ أو ٢٠١ ه‍ في مدينة تستر ـ وهي تعريب شوشتر ـ من كور الأهواز في إقليم خوزستان بإيران ، له مصنّفات عديدة ، منها : دقائق المحبّين ، ومواعظ العارفين ، وجوابات أهل اليقين ؛ توفّي بالبصرة سنة ٢٨٣ ه‍.

انظر : الفهرست ـ للنديم ـ : ٣٢٢ المقالة الخامسة / الفنّ الخامس ، طبقات الصوفية : ٢٠٦ رقم ١٠ ، معجم البلدان ٢ / ٣٤ رقم ٢٥١٧ ، وفيات الأعيان ٢ / ٤٢٩ رقم ٢٨١ ، سير أعلام النبلاء ١٣ / ٣٣٠ رقم ١٥١ ، شذرات الذهب ٢ / ١٨٢ وفيات سنة ٢٨٣ ه‍.

١٩٦

وأبي القاسم الجنيد البغدادي(١) ،

والشيخ السهروردي(٢)

فهذا نسبة باطلة ، وافتراء محض ، وحاشاهم عن ذلك!

بل صرّحوا كلّهم في عقائدهم ببطلان الاتّحاد ؛ فإنّه مناف للعقل والشرع.

بل هم أهل محض التوحيد ، وحقيقة الإسلام ناشئة من أقوالهم ، ظاهرة على أعمالهم وعقائدهم ، وهم أهل التوحيد والتمجيد.

وفي الحقيقة : هم الفرقة الناجية ، ولهم في مصطلحاتهم عبارات تقصر عنها أفهام غيرهم ، وفي اصطلاحاتهم البقاء والفناء.

__________________

(١) هو : الجنيد بن محمّد بن الجنيد الخزّاز البغدادي القواريري الصوفي ، أصله من نهاوند ، ومولده ومنشؤه بالعراق ، كان شيخ وقته في الصوفية ، ولد سنة بضع وعشرين ومائتين ، وتفقّه على يد أبي ثور ـ صاحب الشافعي ـ ، وقيل : كان على مذهب سفيان الثوري ؛ توفّي ببغداد سنة ٢٩٨ ه‍.

انظر : طبقات الصوفية : ١٥٥ رقم ١ ، وفيات الأعيان ١ / ٣٧٣ رقم ١٤٤ ، سير أعلام النبلاء ١٤ / ٦٦ رقم ٣٤ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٢ / ٢٦٠ رقم ٦٠ ، شذرات الذهب ٢ / ٢٢٨ وفيات سنة ٢٩٨ ه‍.

(٢) هو : شهاب الدين عمر بن محمّد بن عبد الله التيمي السهروردي ، يرجع نسبه إلى محمّد بن أبي بكر ، ولد سنة ٥٣٩ في سهرورد ـ وهي قرية قريبة من زنجان ـ قدم بغداد وهو شابّ وسمع فيها الحديث ، وكانت له صحبة مع الشيخ عبد القادر ، كان شافعي المذهب ، وكان شيخ شيوخ الصوفية ببغداد ، له عدّة تصانيف ، منها :

« عوارف المعارف » في بيان طريقة الصوفية ، حكمة الإشراق ، النفحات السماوية ؛ توفّي ببغداد سنة ٦٣٢ ه‍.

انظر : معجم البلدان ٣ / ٣٢٩ رقم ٦٨١١ ، وفيات الأعيان ٣ / ٤٤٦ رقم ٤٩٦ ، سير أعلام النبلاء ٢٢ / ٣٧٣ رقم ٢٣٩ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٨ / ٣٣٨ رقم ١٢٣٢ ، شذرات الذهب ٥ / ١٥٣ وفيات سنة ٦٣٢ ه‍ ، الكواكب الدرّية ٣ / ١٤٤ رقم ٥٧٤.

١٩٧

والمراد من « الفناء » : محو العبد صفاته وهويّته التعينية بكثرة الرياضات(١) ، والاصطلام(٢) من الوارد الحقّ.

و« البقاء » : هو تجلّي الربوبية على العبد بعد السلوك والمقامات ، فيبقى العبد بربّه(٣) .

وهذه أحوال لا يطّلع عليها إلّا أربابها ، ومن سمع شيئا من مقالاتهم ولم يفهم إرادتهم من تلك الكلمات ، حمل كلامهم على الاتّحاد والحلول.

عصمنا الله من الوقيعة في أوليائه ، فقد ورد في الحديث الصحيح القدسي : «من عادى لي وليّا فقد آذنته بحرب »(٤)

وأمّا ما نقل عنهم أنّهم يقولون : إنّه تعالى نفس الوجود ؛ فهذه مسألة دقيقة لا تصل حوم(٥) فهمها(٦) أذهان مثل هذا الرجل.

وجملتها أنّهم يقولون : إنّه لا موجود إلّا الله.

ويريدون به أنّ الوجود الحقيقي لله تعالى ؛ لأنّه من ذاته لا من غيره ، فهو الموجود في الحقيقة ، وكلّ ما كان موجودا غيره فوجوده من الله ، وهو

__________________

(١) انظر : اصطلاحات الصوفية ـ لابن عربي ـ : ٩ رقم ٣٨.

(٢) الاصطلام : نوع وله يرد على القلب فيسكن تحت سلطانه ، أو : هو الوله الغالب على القلب ، وهو قريب من الهيمان ؛ انظر : اصطلاحات الصوفية ـ لابن عربي ـ : ١٥ رقم ٩٣ ، معجم اصطلاحات الصوفية ـ للكاشاني ـ : ٥٥.

(٣) انظر : اصطلاحات الصوفية ـ لابن عربي ـ : ٩ رقم ٣٧ ، معجم اصطلاحات الصوفية ـ للكاشاني ـ : ٣٦٧.

(٤) صحيح البخاري ٨ / ١٨٩ ح ٨٩.

(٥) حام فلان على الأمر حوما وحومانا وحياما : رامه وطلبه ودار عليه ؛ انظر : تاج العروس ١٦ / ١٨٧ مادّة « حوم ».

والمراد هنا هو : الطرف والحدّ ، فكأنّه قال : لا يصل إلى شيء من فهمها

(٦) كانت الجملة في الأصل هكذا : « لا يصل حول فهمه » ؛ والمثبت من المصدر.

١٩٨

في حدّ ذاته لا موجود ولا معدوم ؛ لأنّه ممكن ، وكلّ ممكن فإنّ نسبة الوجود والعدم إليه على السواء ، فوجوده من الله ، فهو موجود بوجود ظلّيّ هو من ظلال الوجود الحقيقي ، فالموجود حقيقة هو الله تعالى.

وهذا عين التوحيد ، وكمال التفريد ، فمن نسبهم مع فهمه هذه العقيدة إلى الكفر ، فهو الكافر ؛ لأنّه كفّر مسلما بجهة إسلامه.

١٩٩

وأقول :

لا ريب في قول جماعة من الصوفية بالاتّحاد ، كما يشهد له إنكار الخصم لصحّة النسبة إذا أراد المصنّف محقّقي الصوفية ، فلو أراد غيرهم لم ينكره الخصم.

وقال في « المواقف » : « إنّ المخالف في هذين الأصلين ـ يعني [ عدم ] الحلول و [ عدم ] الاتّحاد ـ طوائف ثلاث ـ إلى أن قال : ـ الثالثة : بعض الصوفية ، وكلامهم مخبّط بين الحلول والاتّحاد »(١) .

ثمّ قال : « ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره ، ويقول : لا حلول ولا اتّحاد ، إذ كلّ ذلك يشعر بالغيرية ، ونحن لا نقول بها ، بل نقول : ليس في دار الوجود غيره ديّار ؛ وهذا العذر أشدّ قبحا وبطلانا من ذلك الجرم(٢) ، إذ يلزم تلك المخالطة التي لا يجترئ على القول بها عاقل ، ولا مميّز أدنى تمييز »(٣) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد » بعد إبطال الحلول والاتّحاد : « والمخالفون : منهم نصارى ـ إلى أن قال : ـ ومنهم بعض المتصوّفة ، القائلون : بأنّ السالك إذا أمعن في السلوك ، وخاض لجّة الوصول(٤) ، فربّما يحلّ الله فيه! تعالى [ الله ] عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا ، كالنار في

__________________

(١) المواقف : ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٢٩ ـ ٣١.

(٢) في المواقف وشرحها : الجزم.

(٣) المواقف : ٢٧٥ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٣١.

(٤) في المصدر : « وخاصة لجهة الأصول » ؛ وهو تصحيف.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456