دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

دلائل الصدق لنهج الحق13%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147719 / تحميل: 5905
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٥-١
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الجمر(١) ، بحيث لا تمايز ؛ أو يتّحد به ، بحيث لا اثنينية ولا تغاير ، وصحّ أن يقول : هو أنا ، وأنا هو ، وحينئذ يرتفع الأمر والنهي ، ويظهر من الغرائب والعجائب ما لا يتصوّر من البشر »(٢) !

وقال القوشجي في « شرح التجريد » عند بيان أنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الاتّحاد : « قال بعض الصوفية : إذا انتهى العارف نهاية مراتب العرفان ، انتفى هويّته ، فصار الموجود هو الله وحده ، وهذه المرتبة هي الفناء في التوحيد »(٣) .

وحينئذ فمعنى « الفناء » : هو نفي الشخص هويّته ، وصيرورته هويّة أخرى ، فيصير الموجود هو الله وحده ، ويتّحد وجود العبد بوجوده تعالى!

وعليه : فمعنى « البقاء » : هو بقاء العبد بلحاظ ترقّيه إلى الرتبة العالية ، واتّحاده مع ربّه ، فتكون كثرة الرياضات مفنية للعبد من جهة هويّته الناقصة ، مبقية له من جهة كماله واتّحاده مع الله سبحانه!

وهذا هو الكفر الصريح ، وعين الإلحاد.

فإذا صدق المصنّف في نقله عن بعض الصوفية ، فما وجه تلك القعقعة التىّ ارتكبها الفضل؟!

وما ذلك الإنكار والوقيعة بوليّ الله المصنّف ، الصادق في نقله عن الخارجين عن الدين ، المخالفين لنهج سيّد المرسلين في عبادته وجميع أحواله؟!

وأمّا ما ذكره في تحقيق وحدة الوجود ، من أنّ نسبة الوجود والعدم

__________________

(١) في المصدر : « الحجر ».

(٢) شرح المقاصد ٤ / ٥٧ و ٥٩.

(٣) شرح التجريد : ٤٢٥ المقصد الثالث.

٢٠١

إلى الممكن على السواء ؛ فهو لا يقتضي إلّا نفي الرجحان الذاتي للممكن بالنسبة إلى الوجود والعدم ، وأمّا نفي الوجود الحقيقي للممكن كما زعمه ، فلا ؛ اللهمّ إلّا أن يكون بنحو المسامحة ، وعدّ وجود الممكن ك‍ « لا وجود » بالنسبة إلى وجود الواجب ؛ لأنّه الأصل ، ووجود الممكن فرعه وأثره.

فعبّر عن هذا بتلك الاصطلاحات الفارغة الهائلة ، لكنّه غير ما يريده القائلون بوحدة الوجود من الصوفية وغيرهم

فإنّهم يريدون أنّ الوجود المطلق عين الواجب تعالى ، وأنّ الممكنات تعيّنات له ، فيلزم منه نفي الماهية ، وأن يكون وجود الممكنات من معيّنات وجود الباري ومصاديقه.

فيتمّ ما نقله المصنّف عنهم ، من أنّ الله تعالى نفس الوجود ، وأنّ كلّ موجود هو الله!!(١) .

تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

__________________

(١) تجد عقيدة المتصوّفة في الحلول والاتّحاد في أقوالهم المبثوثة في تراجمهم ، إذا راجعت مظانّها ، فمثلا :

قال المحقّق نصير الدين الطوسي ;: ذهب بعض النصارى إلى حلول الله تعالى في المسيح ، وبعض المتصوّفة إلى حلوله في العارفين الواصلين!

ونقل الفخر الرازي أنّ أبا يزيد البسطامي قال : سبحاني ما أعظم شأني!

وأنّ الحسين بن منصور الحلّاج قال : أنا الحقّ!

وقال : ما في الجبّة إلّا الله!

وأنشد شعرا قال فيه :

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

انظر : المنتظم ٨ / ٣٠ حوادث سنة ٣٠٩ ه‍ ، المسائل الخمسون : ٤١ ـ ٤٢ المسألة ١٢ ، تلخيص المحصّل : ٢٦٠ ـ ٢٦١ ، وفيات الأعيان ٢ / ١٤٠ رقم ١٨٩ ، سير أعلام النبلاء ١٤ / ٣٤٧ و ٣٥٢ ، شذرات الذهب ٢ / ٢٥٥ حوادث سنة ٣٠٩ ه‍.

٢٠٢

إنّه تعالى لا يحلّ في غيره

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّه تعالى لا يحلّ في غيره

من المعلوم القطعي أنّ الحالّ مفتقر إلى المحلّ ، والضرورة قضت بأنّ كلّ مفتقر إلى الغير ممكن

فلو كان الله تعالى حالّا في غيره لزم إمكانه ، فلا يكون واجبا ، وهذا خلف.

وخالفت الصوفية من الجمهور في ذلك ، وجوّزوا عليه الحلول في أبدان العارفين(٢) ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فانظر إلى هؤلاء المشايخ الّذين يتبرّكون بمشاهدهم ، كيف اعتقادهم في ربّهم ، وتجويزهم عليه : تارة الحلول ، وأخرى الاتّحاد ، وعبادتهم الرقص والتصفيق والغناء(٣) ؟!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٨ ـ ٥٩.

(٢) انظر : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٢٣٢ ، تلخيص المحصّل : ٢٦١ ، شرح التجريد ـ للقوشجي ـ : ٤٢٥.

(٣) انظر في ذلك : إحياء علوم الدين ٢ / ٣٩٨ ـ ٤٢٠ ، شرح ديوان ابن الفارض ١ / ١٠.

٢٠٣

وقد عاب الله على الجاهلية الكفّار في ذلك ، فقال عزّ من قائل : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً )(١) .

وأيّ تغفّل أبلغ من تغفّل من يتبرّك بمن يتعبّد الله بما عاب عليه الكفّار؟! (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )(٢) .

ولقد شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسين صلوات الله عليه ، وقد صلّوا المغرب سوى شخص واحد منهم ، كان جالسا لم يصلّ ، ثمّ صلّوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص ، فسألت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص ، فقال : وما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل؟!

أ يجوز أن يجعل بينه وبين الله حاجبا؟!

فقلت : لا.

فقال : الصلاة حاجب بين العبد والربّ!

فانظر أيها العاقل إلى هؤلاء! وعقائدهم في الله تعالى كما تقدّم ، وعبادتهم ما سبق ، واعتذارهم في ترك الصلاة كما مرّ ، ومع ذلك فإنّهم عندهم الأبدال ، فهؤلاء أجهل الجهّال.

* * *

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٣٥.

والمكاء : الصفير ؛ انظر : الصحاح ٦ / ٢٤٩٥ ، لسان العرب ١٣ / ١٦٤ مادّة « مكا ».

والتصدية : التصفيق ؛ انظر : الصحاح ٦ / ٢٣٩٩ ، لسان العرب ٧ / ٢٩٨ ، مادّة « صدي / صدد ».

(٢) سورة الحجّ ٢٢ : ٤٦.

٢٠٤

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : أنّه تعالى لا يجوز أن يحلّ في غيره ؛ وذلك لأنّ الحلول هو الحصول على سبيل التبع ، وأنّه ينفي الوجوب الذاتي.

وأيضا : لو استغنى عن المحلّ لذاته(٢) لم يحلّ فيه ، وإلّا لاحتاج إليه لذاته ، ولزم حينئذ قدم المحلّ ، فيلزم محالان معا(٣) .

وأمّا ما ذكر أنّ الجمهور من الصوفية جوّزوا عليه الحلول ، فقد ذكرنا في الفصل السابق أنّه إن أراد بهذه الصوفية مشايخنا المحقّقين ، فإنّ اعتقاداتهم مشهورة ، ومن أراد الاطّلاع على حقائق عقائدهم فليطالع الكتب التي وضعوها لبيان الاعتقادات

كالعقائد المنسوبة إلى سهل بن عبد الله التستري(٤)

وكاعتقادات الشيخ أبي عبد الله محمّد بن الخفيف ، المشهور بالشيخ الكبير(٥)

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٨٦ ـ ١٩٠.

(٢) في إحقاق الحقّ : بذاته.

(٣) المواقف : ٢٧٤ ، شرح المواقف ٨ / ٢٨ ـ ٢٩ مختصرا.

والمحالان هما : قدم المحلّ وهو حادث ممكن ، وإمكان الباري وهو القديم الواجب.

(٤) مرّت ترجمته في الصفحة ١٩٦.

(٥) هو : أبو عبد الله محمّد بن خفيف بن إسفكشاد الشيرازي الشافعي ، شيخ الصوفية ، قيل : هو من أولاد الأمراء في إقليم فارس ، وكان شاعرا ، لقي الحلّاج.

٢٠٥

وكاعتقادات الشيخ حارث بن أسد المحاسبي(١)

وك « التعرّف » للكلاباذي(٢)

و« الرسالة » للقشيري(٣)

__________________

وصحب ابن عطاء وغيره ، ولد سنة ٢٧٦ ه‍ ، وتوفّي سنة ٣٧١ ه‍ ، له تصانيف عديدة ، منها : المعتقد الصغير ، المعتقد الكبير ، آداب المريدين ، الفصول في الأصول ، جامع الإرشاد ، اختلاف الناس في الروح.

انظر : طبقات الصوفية : ٤٦٢ رقم ٩ ، تلبيس إبليس : ٣٢٦ ، سير أعلام النبلاء ١٦ / ٣٤٢ رقم ٢٤٩ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٣ / ١٤٩ رقم ١٣٥ ، البداية والنهاية ١١ / ٢٥٥ حوادث سنة ٣٧١ ه‍ ، هديّة العارفين ٦ / ٤٩ ـ ٥٠.

(١) هو : أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي البصري البغدادي ، أحد مشايخ الصوفية ، وينسب إليه أكثر متكلّمي الصفاتية ، قيل : إنّ أحمد بن حنبل هجره لأنّه تكلّم في شيء من الكلام ، فاستخفى المحاسبي من العامة حتّى أنّه لمّا مات سنة ٢٤٣ ه‍ لم يصلّ عليه إلّا أربعة نفر ؛ ووصف أبو زرعة كتبه بأنّها كتب بدع وضلالات وخطرات ووساوس ؛ ومن مصنّفاته العديدة : رسالة المسترشدين في التصوّف ، وكتاب التفكير والاعتبار ، وكتاب الرعاية لحقوق الله.

انظر : طبقات الصوفية : ٥٦ رقم ٦ ، الأربعين في شيوخ الصوفية : ١٤٢ رقم ١٥ ، تاريخ بغداد ٨ / ٢١١ رقم ٤٣٣٠ ، وفيات الأعيان ٢ / ٥٧ رقم ١٥٢ ، سير أعلام النبلاء ١٢ / ١١٠ رقم ٣٥ ، تهذيب التهذيب ٢ / ١٠٦ ـ ١٠٧ رقم ١٠٥٦ ، هديّة العارفين ٥ / ٢٦٤.

(٢) هو : أبو بكر محمّد بن إبراهيم بن يعقوب الحنفي البخاري الكلاباذي ؛ وكلاباذ محلّة ببخارى ، كان أحد شيوخ الصوفية ، له من المصنّفات : الأربعين في الحديث ، والأسفار والأوتار ، والتعرّف لمذهب التصوّف ، توفّي سنة ٣٨٠ أو ٣٨٤ ه‍.

انظر : معجم البلدان ٤ / ٥٣٦ رقم ١٠٣٣١ ، هديّة العارفين ٦ / ٥٤ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٣٧ رقم ١١٥١١.

(٣) هو : أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي الصوفي ، ولد سنة ٣٧٦ ه‍ ، قدم بغداد سنة ٤٤٨ ه‍ وحدّث بها ، أديب شاعر ، أخذ التصوّف عن أستاذه أبي عليّ الدقّاق ، وتوفّي سنة ٤٦٥ ه‍ ، وله تصانيف عديدة ، منها : الأربعين في الحديث ، والرسالة ـ وهو كتاب مشهور

٢٠٦

وك‍ « العقائد » للشيخ ضياء الدين أبي النجيب السهروردي(١)

[ وك‍ « عوارف المعارف » للشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي(٢) ]

ليظهر عليه عقائدهم المطابقة للكتاب والسنّة ، وما بالغوا فيه من نفي الحلول والاتّحاد.

وأمّا ما ذكره من أنّ عبادتهم الرقص والتصفيق ، فو الله إنّه أراد أن يفضح فافتضح ، فإذا لم يكن المشايخ الصوفية من أهل العبادات ـ مع جهدهم في العبادة وتعمير الأوقات بوظائف الطاعات ، وترك اللذّات ، والإعراض عن المشتهيات ـ فمن هو قادر على أن يعدّ نفسه من أهل الطاعات بالنسبة إليهم؟!

نعم ، هذا الرجل الطامّاتي الذي يصنّف الكتاب ، ويردّ على أهل

__________________

في التصوّف ـ ، والتيسير في علم التفسير.

انظر : تاريخ بغداد ١١ / ٨٣ رقم ٥٧٦٣ ، وفيات الأعيان ٣ / ٢٠٥ رقم ٣٩٤ ، سير أعلام النبلاء ١٨ / ٢٢٧ رقم ١٠٩ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٥ / ١٥٣ رقم ٤٧٣ ، شذرات الذهب ٣ / ٣١٩ سنة ٤٦٥ ه‍.

(١) هو : أبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله بن محمّد بن عمّويه السهروردي ، وهو عمّ شهاب الدين عمر السهروردي ، أحد شيوخ الصوفية ، ولد سنة ٤٩٠ ه‍ في قرية سهرورد ، وهي قرية قريبة من زنجان ، ثمّ قدم بغداد ودرس فيها ، ودخل أصفهان ، توفّي سنة ٥٦٣ ه‍ ، له عدّة مصنّفات ، منها : آداب المريدين ـ في التصوّف والأخلاق ـ ، ومختصر مشكاة المصابيح للبغوي.

انظر : معجم البلدان ٣ / ٣٢٩ رقم ٦٨١١ ، سير أعلام النبلاء ٢٠ / ٤٧٥ رقم ٣٠٢ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٧ / ١٧٣ رقم ٨٨١ ، الطبقات الكبرى ـ للشعراني ـ ١ / ١٤٠ رقم ٢٦١ ، شذرات الذهب ٤ / ٢٠٨ سنة ٥٦٣ ه‍ ، هديّة العارفين ٥ / ٦٠٦.

(٢) مرّت ترجمته في الصفحة ١٩٧.

٢٠٧

الحقّ ، ويبالغ في إنكار العلماء والأولياء طلبا لرضا السلطان محمّد خدا بنده ليعطيه إدرارا(١) ، ويفيض عليه مدرارا(٢) ، فله أن لا يستحسن عبادة المشايخ ، المعرضين عن الدنيا ، الزاهدين عن الشهوات ، القاطعين بادية الرياضات ، كما نقل أنّ أبا يزيد البسطامي ترك شرب الماء سنة تأديبا لنفسه ، حيث دعته نفسه إلى شيء من اللذّات(٣) .

شاهت وجوه المنكرين ، وكلّت ألسنتهم ، وعميت أبصارهم.

وأمّا ما ذكر أنّ الله عاب على أهل الجاهلية بالتصدية ؛ فما أجهله بالتفسير ، وبأسباب نزول القرآن! وقد ذكر أنّ طائفة من جهلة قريش كانوا يؤذون رسول الله ٦ بالمكاء والتصدية عند البيت ليوسوسوا عليه صلاته ، فأنزل الله هذه الآية.

وقد أحلّ الله ورسوله اللهو في مواضع كثيرة ، منها : الختان والعرس والإملاك وأيّام العيد ؛ والسماع الذي يعتاده الصوفية مشروط بشرائط كلّها من الشرع ، ولهم فيها آداب وأحوال لا يعرفها الجاهل فيقع فيها.

ثمّ ما نقل من قول واحد من القلندرية(٤) الفسقة ، الّذين يزورون مشهد مولانا الحسين بأيّام الموسم والزيارة ، وجعله مستندا للردّ على كبار المشايخ المحقّقين المشهورين

__________________

(١) إدرارا : عطاء مستمرّا على المجاز هنا ؛ انظر مادّة « درر » في : لسان العرب ٤ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧ ، تاج العروس ٦ / ٤٠٠.

(٢) المدرار : الكثير المتتابع المتوالي على المجاز هنا ؛ انظر مادّة « درر » في : لسان العرب ٤ / ٣٢٦ ، تاج العروس ٦ / ٣٩٧ ، مجمع البيان ٥ / ٢٦١.

(٣) انظر : وفيات الأعيان ٢ / ٥٣١ رقم ٣١٢ ، البداية والنهاية ١١ / ٣٠ حوادث سنة ٢٦١ ه‍.

(٤) مرّت ترجمتها في الصفحة ٦٤.

٢٠٨

فيا للعجب انسلّ إلى الناس من كلّ حدب من حال هذا الرجل الطامّاتي! أنّه لم ينظر إلى كتاب « عوارف المعارف » و« الرسالة القشيرية » ليعرف اهتمام القوم بمحافظة الصلوات ودقائق الآداب ، الذي لا يشقّ أحد من الفقهاء ـ من أهل جميع المذاهب ـ غبارهم في رعاية دقائق الآداب والخشوع والاهتمام بحفظها ومحافظتها ، ليعتقد في كمالاتهم ، ويجعل قول قلندري فاسق [ فسّيق ] سندا في جرحهم وإنكارهم.

وهذا غاية التعصّب والخروج عن قواعد الإسلام ، نعوذ بالله من عقائده الفاسدة الكاسدة.

٢٠٩

وأقول :

لعلّ الفضل بعدوله عن دليل المصنّف على بطلان الحلول ، إلى الدليلين المذكورين الموجودين بلفظهما في « المواقف » وشرحها(١) ؛ تخيّل أنّ الأشاعرة سلكوا طريقة أخرى في الاستدلال على بطلان الحلول ، ولم يعلم أنّ الأدلّة متكرّرة الذكر في كتب المتكلّمين ، وأنّ المناط ـ في هذه الأدلّة حتّى الأخير ـ على استلزام الحلول : الحاجة إلى المحلّ ، والافتقار إليه ؛ إذ لو منعه مانع لما تمّ شيءّ من هذه الأدلّة.

فقد ذكر في « شرح المواقف » وجه قول الماتن في الدليل الأخير :

« لو استغنى عن المحلّ لذاته لم يحلّ فيه »(٢) ، بقوله : « إذا لا بدّ في الحلول من حاجة ، ويستحيل أن يعرض للغنيّ بالذات ما يحوجه إلى المحلّ ؛ لأنّ ما بالذات لا يزول بالغير »(٣) .

على إنّ دليل « المواقف » الأوّل هو عين ما ذكره المصنّف ، والاختلاف في التعبير ، فالأولى الاقتصار على ما ذكره المصنّف.

ثمّ إنّه لا ريب في قول جماعة بالحلول ، كما يدلّ عليه كلام « المواقف » و« شرح المقاصد »(٤) اللذان ذكرناهما في المبحث السابق(٥) ،

__________________

(١) المواقف : ٢٧٤ ، شرح المواقف ٨ / ٢٨.

(٢) المواقف : ٢٧٤.

(٣) شرح المواقف ٨ / ٢٨ المقصد الخامس.

(٤) المواقف : ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٥٧ و ٥٩.

(٥) انظر الصفحة ٢٠٠ وما بعدها.

٢١٠

وقول القوشجي عند بيان أنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الحلول ؛ قال : « وذهب بعض الصوفية إلى أنّه تعالى يحلّ في العارفين »(١) .

ويشهد له ترديد الخصم في مراد المصنّف ، وإن أغفل فيه ذكر القائلين بالحلول تلبيسا للأمر! وليتسنّى له الكلام والطعن على وليّ الله وداعي الحقّ : المصنّف أعلى الله مقامه!

وأمّا إنكاره على المصنّف في أنّ عبادتهم الرقص والتصفيق ، فهو إنكار بارد

قال في « الكشّاف » في تفسير قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )(٢) : « وأمّا ما يعتقده أجهل الناس ، وأعداهم للعلم وأهله ، وأمقتهم للشرع ، وأسوأهم طريقة ، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا واحدا ، وهم الفرقة المفتعلة من التصوّف(٣) ، وما يدينون به من المحبّة والعشق والتغنّي على كراسيّهم ـ خرّبها الله تعالى ـ وفي مراقصهم ـ عطّلها الله ـ بأبيات الغزل المقولة في المردان(٤) الّذين يسمّونهم : شهداء ، وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عند دكّ الطور!! فتعالى الله عنه علوّا كبيرا »(٥) .

__________________

(١) شرح التجريد : ٤٢٥.

(٢) سورة المائدة ٥ : ٥٤.

(٣) في المصدر : « وهم الفرقة المتفعّلة المفتعلة من الصوف » وهو الأنسب بالسياق.

(٤) المردان : جمع أمرد على غير قياس ، كأسود وسودان ، وقياسه : مرد.

والأمرد : هو الشابّ الذي طرّ شاربه ولم تنبت ، ولم تبد لحيته بعد.

انظر مادّة « مرد » في : لسان العرب ١٣ / ٧٠ ، تاج العروس ٥ / ٢٥١ ، القاموس المحيط ١ / ٣٥٠ ، المصباح المنير : ٢١٧.

(٥) تفسير الكشّاف ١ / ٦٢١ ـ ٦٢٢.

٢١١

وكيف ينكر على المصنّف؟! والحال أنّ ابن الفارض(١) ، وهو من أكبر مشايخهم ، قد كان جلّ فضائله عندهم : الرقص والغناء والصعقة في اللهو واللعب!

فلو لم يكن ذلك طريقة مألوفة عندهم ، وشرفا كبيرا بينهم ، لما مدحوه بتلك الجهالات.

نقل شارح ديوانه عن ولده ، أنّه قال : رأيت الشيخ نهض ورقص طويلا ، وتواجد وجدا عظيما ، وتحدّر منه عرق كثير ، حتّى سال تحت قدميه ، وخرّ إلى الأرض واضطرب اضطرابا عظيما

إلى أن قال : فسألته عن سبب ذلك ، فقال : يا ولدي! فتح الله عليّ بمعنى في بيت لم يفتح عليّ مثله ، وهو [ من الكامل ] :

__________________

(١) هو : عمر بن علي بن مرشد بن علي ، الحموي الأصل ، المصري المولد والدار والوفاة ، ولد سنة ٥٧٦ وتوفّي سنة ٦٣٢ ه‍ ، أشعر المتصوّفين ، له ديوان شعر ، وفي شعره فلسفة تتّصل بما يسمّى « وحدة الوجود » ، وكان يلقّب بسلطان العاشقين.

وقد كانت له جوار بالبهنسا ـ وهي مدينة بمصر في الصعيد الأدنى غربي النيل ـ يذهب إليهنّ فيغنّين له بالدفّ والشبّابة وهو يرقص ويتواجد! فماتت إحداهنّ فاشترى جارية تغني له بدلها.

قال عنه الذهبي : صاحب الاتّحاد الذي قد ملأ به التائية ، فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتّحاد الذي لا حيلة في وجوده ، فما في العالم زندقة ولا ضلال! شيخ « الاتّحادية » ينعق بالاتّحاد الصريح في شعره ، وهذه بليّة عظيمة! فتدبّر نظمه وما ثمّ إلّا زيّ الصوفية وإشارات مجملة ، وتحت الزيّ والعبارة فلسفة وأفاعي!

انظر : معجم البلدان ١ / ٦١٢ رقم ٢٢٨٤ ، وفيات الأعيان ٣ / ٤٥٤ رقم ٥٠٠ ، سير أعلام النبلاء ٢٢ / ٣٦٨ رقم ٢٣٢ ، ميزان الاعتدال ٥ / ٢٥٨ رقم ٦١٧٩ ، لسان الميزان ٤ / ٣١٧ رقم ٩٠٢ ، الكواكب الدرّية في تراجم السادة الصوفية ٢ / ١٤٧ رقم ٥٧٥ ، شذرات الذهب ٥ / ١٤٩ سنة ٦٣٢ ه‍ ، الأعلام ٥ / ٥٥.

٢١٢

وعلى تفنّن واصفيه بحسنه

يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف(١)

وقال ولده : كان الشيخ ماشيا في السوق بالقاهرة ، فمرّ على جماعة من الحرس يضربون بالناقوس ويغنّون بهذين البيتين ، وهما [ من المواليا(٢) ] :

مولاي [ سهرنا ] نبتغي منك وصال

مولاي فلم تسمح فنمنا بخيال

مولاي فلم يطرق فلا شكّ بأن

ما نحن إذا عندك مولاي ببال

فلمّا سمعهم الشيخ صرخ صرخة عظيمة ، ورقص رقصا كثيرا في

__________________

(١) شرح ديوان ابن الفارض ١ / ١٠ ، وقد كان في الأصل : « ما لا يوصف » بدل « ما لم يوصف » وهو تصحيف أصلحناه من الديوان وشرحه ؛ انظر : ديوان ابن الفارض : ١٤٧.

(٢) المواليا : هو من فنون الشعر المتأخّرة الموضوعة للغناء ، ولا يلزم فيه مراعاة قوانين العربية ، وهو من بحر البسيط لو لا أنّ له أضربا تخرجه عنه ، أوّل من اخترعه أهل واسط ، اقتطعوا من البسيط بيتين وقفوا شطر كلّ بيت بقافية ، تعلّمه عبيدهم المتسلّمون عمارتهم والغلمان ، وصاروا يغنّون به في رؤوس النخل وعلى سقي المياه ، ويقولون في آخر كلّ صوت : « يا مواليا » إشارة إلى ساداتهم ، فسمّي بهذا الاسم ، ثمّ استعمله البغداديّون فلطّفوه حتّى عرف بهم دون مخترعيه ثمّ شاع.

وقيل : إنّ أوّل من تكلّم بهذا النوع بعض أتباع البرامكة بعد نكبتهم ، فكانوا ينوحون عليهم ويكثرون من قولهم : « يا مواليّا » ، فصار يعرف بهذا الاسم.

ونسج عليه كثير من شعراء الفترة المظلمة ، وبالأخصّ في مصر ، وهو يتركّب في الغالب من بيتين تختتم أشطرهما الأربعة برويّ واحد ، وكثيرا ما تسكّن بالحشو أواخر الألفاظ ، ويدخل فيه من كلام العامة ، ومنه قول صفي الدين الحلّي :

من قال جودة كفوفك والحيا مثلين

أخطا القياس وفي قوله جمع ضدّين

ما جدت إلّا وثغرك مبتسم يا زين

وذاك ما جاد إلّا وهو باكي العين

انظر : تاج العروس ٢٠ / ٣١٦ ـ ٣١٧ مادّة « ولي » ، ميزان الذهب : ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٢١٣

وسط الطريق ، ورقص جماعة كثيرة من المارّين في الطريق ، حتّى صارت جولة وإسماع عظيم [ وتواجد الناس إلى أن سقط أكثرهم إلى الأرض ] والحرس يكرّرون ذلك ، وخلع الشيخ كلّ ما [ كان ] عليه من الثياب ورمى بها إليهم ، وخلع الناس معه ثيابهم ، وحمل بين الناس إلى الجامع الأزهر وهو عريان مكشوف الرأس وأقام في هذه السكرة أيّاما ملقى على ظهره مسجّى كالميّت

وفي تتمّة الواقعة أنّهم اتّخذوا ثيابه للتبرّك(١) !

وحكى ولده ، قال : « حجّ الشيخ شهاب الدين السهروردي شيخ الصوفية ـ إلى أن قال : ـ فصرخ الشيخ شهاب الدين ، وخلع كلّ ما كان عليه ، وخلع المشايخ والقوم الحاضرون كلّ ما كان عليهم »(٢) .

فهذه فضائلهم ، بين تجنّن ، ورقص ، وغناء ، وكشف العورات ، وترك الصلاة أيّاما ، يدّعون بذلك حبّ الله وذكره وعبادته [ من الوافر ] :

أقال الله : صفّق لي وغنّ

وقل كفرا ، وسمّ الكفر ذكرا؟!

وأمّا ما وصفهم به من ترك اللذّات والشهوات ، فالظاهر أنّه من قبيل ما انتقاه من ترك شرب الماء سنة ، الذي لا يصدّق به عاقل ، وهو ممّا لم ترد به الشريعة المطهّرة ، بل حرّمته ؛ لأنّه من الإلقاء باليد إلى التهلكة ، وإضرار النفس وتأليمها.

فليت شعري أكان نبيّنا الأطيب ، والأنبياء قبله ، وخواصّهم ، على

__________________

(١) شرح ديوان ابن الفارض ١ / ١٠ ، وانظر : ج ٢ / ١٩٧ بتفصيل آخر قريب منه.

(٢) شرح ديوان ابن الفارض ١ / ١٣.

٢١٤

تلك الآداب والأحوال السخيفة والعبادات الساخرة؟!

أو كان المشايخ أفضل منهم وأعرف بالله وأعبد له؟!

أو كانت الأحوال والعبادات ممّا زيّنها الشيطان والهوى ، ودعت إليها النفس الأمّارة ، للسمعة والامتياز على الناس؟!

وأمّا ما ذكره من أنّ المصنّف صنّف هذا الكتاب طلبا لرضا السلطان ، فمن المضحكات ؛ لأنّ ذلك السلطان الرشيد ، إنّما نال سعادة الإيمان بسعي الإمام المصنّف وإرشاده ، وهو أمسّ من السلطان بمذهب الإمامية ، فكيف يطلب رضاه بتصنيف هذا الكتاب؟!

وأعجب من ذلك قوله : « ليعطيه إدرارا » فإنّ هذا ليس من عادة علماء الإمامية ، لا سيّما المصنّف ، الذي طلّق الدنيا بعد أن جاءته ، وهجر الرئاسة بعد أن واتته وعاد إلى بلاده!

وأعجب من الجميع نسبة الجهل بالتفسير إلى المصنّف ، وذكره أحد الوجهين في نزول الآية ؛ ليروّج فيه تأييد طريقة الصوفية ، وإلّا فالمذكور عند أصحابه في نزول الآية وجهان :

أحدهما : ما ذكره(١) .

والثاني : ما عن ابن عبّاس : كانت بطون قريش يطوفون بالبيت عراة ، يصفّرون ويصفّقون(٢) .

__________________

(١) مرّ في الصفحة ٢٠٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٩ ح ١٦٠٤٨ ، تفسير البغوي ٢ / ٢٠٨ ، الكشّاف ٢ / ١٥٦ ، تفسير القرطبي ٧ / ٢٥٤ ، تفسير البيضاوي ١ / ٣٨٣ ، تفسير البحر المحيط ٤ / ٤٩١ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٢٩٣ ، الدرّ المنثور ٤ / ٦١.

٢١٥

ونحوه عن ابن عمر(١) .

فهم يقيمون الصفير والتصفيق مقام الصلاة بحسب طريقتهم(٢) .

وهذا الوجه أنسب بتعبير الآية بالصلاة ، وأرجح عند المفسّرين ، وهو دالّ على إنّ الله سبحانه عاب أهل الجاهلية بجعل التصفيق عبادة ، فكيف إذا انضمّ إليه الرقص والغناء والصياح؟!

والمصنّف قد بيّن الإيراد على هذا الوجه الظاهر الراجح ، وإلّا فأيّ وجه لتسمية الآية لذلك العمل بالصلاة؟!

على أنّه لا تنافي بين الوجهين ؛ لجواز أن تكون قريش ـ بعبادتها السخيفة ـ أرادت أن توسوس على النبيّ ٦ في صلاته.

وأمّا قوله : « وقد أحلّ الله ورسوله اللهو في مواضع ».

فلو سلّم ، فلهو الصوفية خارج عن هذه المواضع عادة ، وهو دائم للعبادة في كراسيّهم ومراقصهم ، كما يستفاد من كلام « الكشّاف » السابق(٣) ، ولا يتوقّف على وقت وشرط كاستماعهم للغناء.

روى ابن خلّكان في ترجمة الجنيد من « وفيات الأعيان » ، وهو من أكبر مشايخ الصوفية ، أنّه قال : ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها! قيل له : وما هي؟ قال : مررت بدرب القراطيس فسمعت جارية تغنّي من

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ح ١٦٠٤٠ ـ ١٦٠٤٣ و ١٦٠٤٦ و ١٦٠٤٧ ، أسباب النزول ـ للنيسابوري ـ : ١٣١ ، لباب النقول : ١١١.

(٢) تنوير المقباس : ١٩٢ ، تفسير الطبري ٦ / ٢٣٨ ح ١٦٠٣٨ ، تفسير الماوردي ٢ / ٣١٦ ، زاد المسير ٣ / ٢٦٩ ، تفسير الفخر الرازي ١٥ / ١٦٥ ، الدرّ المنثور ٤ / ٦١.

(٣) تقدّم في الصفحة ٢١١.

٢١٦

دار ، فأنصتّ لها ، فسمعتها تقول [ من الطويل ] :

إذا قلت : أهدى الهجر لي حلل البلى(١)

تقولين : لولا الهجر لم يطب الحبّ

وإن قلت : هذا القلب أحرقه الهوى

تقولي : بنيران الهوى شرف القلب

وإن قلت : ما أذنبت! قلت مجيبة :

حياتك ذنب لا يقاس به ذنب

فصعقت وصحت(٢) !

وليت شعري كيف حسن له الإنصات إلى غناء الأجنبية؟!

وكيف لم ينتفع بكتاب الله العظيم ، وكلمات نبيّه الكريم مثل ما انتفع بشعر المغنّية؟!

وظنّي أنّه لو انضمّ إلى غناها رقصها معه لكان أنفع!!

وأمّا ما شاهده المصنّف في حضرة سيّد الشهداء ٧ ، فغير عجيب من جهة ترك الصلاة ، فهذا ابن الفارض ـ المعظّم عندهم ـ قد أقام أيّاما في سكرته بلا صلاة ، كما عرفت.

وقال شارح ديوانه : « حكى جماعة ممّن يوثق بهم ، ممّن صحبوه وباطنوه ، أنّه لم ينظمها ـ أي قصيدته التي زعم أنّ النبيّ ٦ في المنام

__________________

(١) البلى : التلف والهلاك ، وبلي الثوب : خلق فهو بال ، وإخلاق الثوب : تقطيعه ، وبلي الميّت : أفنته الأرض.

انظر : المصباح المنير : ٢٤ مادّة « بلي » ، لسان العرب ٤ / ١٩٥ ـ ١٩٦ ، مادّة « خلق ».

(٢) وفيات الأعيان ١ / ٣٧٤ رقم ١٤٤.

٢١٧

سمّاها ب‍ : نظم السلوك ـ على حدّ نظم الشعراء أشعارهم ، بل كانت تحصل له جذبات يغيب فيها عن حواسّه [ نحو ] الأسبوع والعشرة أيّام ؛ فإذا أفاق أملى ما فتح الله عليه منها من الثلاثين والأربعين والخمسين بيتا! ثمّ يدع حتّى يعاوده(١) ذلك الحال »(٢) .

والظاهر أنّ المراد بغيبوبة حواسّه مجرّد تعطيل حركاته الظاهرية عن فعل الواجبات ونحوها ، وإلّا فكيف يقدر على نظم الشعر ، ولا يمكن دعوى الكرامة ـ بفتح الله عليه ـ من دون شعوره أصلا؟! فإنّ الكرامة لا تكون مع عدم التوفيق للصلاة التي هي عمود الدين.

وكذا ما شاهده المصنّف غير عجيب من جهة دعوى الوصول إلى الله تعالى ، فإنّ عليها جماعة من الصوفية كما صرّح به ابن القيّم الحنبلي في « شرح منازل السائرين » ـ على ما نقله السيّد السعيد عنه ـ قال : « ويعرض للسالك على درب الفناء معاطب ومهالك ، لا ينجيه منها إلّا بصيرة العلم ، منها : [ أنّه ] إذا اقتحم عقبة الفناء ظنّ أنّ صاحبها قد سقط عنه الأمر والنهي ، ويقول قائلهم : من شهد الحقيقة سقط عنه الأمر ؛ ويحتجّون بقوله تعالى : (اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ )(٣) ، ويفسّرون ( اليقين ) بشهود الحكم التكويني(٤) ، وهي الحقيقة عندهم ؛ وهذا زندقة ونفاق وكذب منهم على أنفسهم ونبيّهم وإلههم »(٥) .

__________________

(١) في الأصل : يعتاده.

(٢) شرح ديوان ابن الفارض ١ / ٨.

(٣) سورة الحجر ١٥ : ٩٩.

(٤) في المصدر : الكوني.

(٥) مدارج السالكين في شرح منازل السائرين ١ / ١٦٠ ـ ١٦٤ ، وعنه في إحقاق الحقّ ١ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٢١٨

وعن الغزّالي في « الإحياء » أنّه أنكر على دعواهم بلوغ العبد بينه وبين الله إلى حالة أسقطت عنه الصلاة ، وأحلّت له شرب الخمر ، ولبس الحرير ، وترك الصلاة ، ونحوها ، وحكم بأنّ قائل هذا يجب قتله ، وإن كان في خلوده في النار نظر(١) .

وعن اليافعي اليمني الشافعي(٢) ، أنّه انتصر لهم في كتابه الموسوم ب‍ : « روض الرياحين »(٣) ، وردّ على الغزّالي ، فقال : « ولو أنّ الله تعالى أذن

__________________

(١) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ـ المطبوع ضمن مجموعة رسائل الغزّالي ـ :٢٤٨ ، وعنه في إحقاق الحقّ ١ / ٢٠١.

ولم نجده في « إحياء علوم الدين » ، ولعلّ الكتاب المذكور كان ملحقا بكتاب « الإحياء » في إحدى طبعاته فنسب النصّ إليه دونه سهوا ، أو كان فصلا أو بابا من « الإحياء » ثمّ انتسخ وكثرت نسخه على شكل رسالة مستقلّة ، وكم له من نظير!

كما حكم ابن حزم بكفرهم حين ذكر شنائع عقائدهم ، فانظر : الفصل ٣ / ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٢) هو : أبو السعادات عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني الشافعي ، ويافع قبيلة باليمن من قبائل حمير ، ولد سنة ٦٩٨ ه‍ ، وتوفّي بمكّة المكرّمة سنة ٧٦٨ ه‍ ، صوفي شاعر ، كان يتعصّب للأشعري ، وله مبالغة في تعظيم ابن عربي ، مشارك في العلوم ، له تصانيف كثيرة ، منها : مرآة الجنان وعبرة اليقظان ، روض الرياحين في حكايات الصالحين ، مرهم العلل المعضلة في أصول الدين ، الإرشاد والتطريز في التصوّف ، ديوان شعر.

انظر : طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ١٠ / ٣٣ رقم ١٣٥٤ ، طبقات الشافعية ـ للأسنوي ـ ٢ / ٣٣٠ رقم ١٢٨٩ ، الكواكب الدرّية في تراجم السادة الصوفية ٣ / ٢٤ رقم ٦٣٥ ، شذرات الذهب ٦ / ٢١٠ سنة ٧٦٨ ه‍ ، البدر الطالع : ٣٨٥ رقم ٢٥٥ ، هديّة العارفين ٥ / ٤٦٥ ، معجم المؤلّفين ٢ / ٢٢٩ رقم ٧٨٣٣.

(٣) كان في الأصل : « رفض الصالحين » وفي إحقاق الحقّ : « روض الصالحين » ، وكلاهما تصحيف بيّن من اسم كتابه « روض الرياحين في حكايات الصالحين » ،

٢١٩

لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا ، وعلم العبد ذلك الإذن يقينا فلبسه ، لم يكن منتهكا(١) للشرع »!

ثمّ قال : « فإن قيل : من أين يحصل له علم اليقين؟!

قلت : من حيث حصل للخضر حيث قتل الغلام ، وهو وليّ لا نبيّ ـ على القول الصحيح ـ عند أهل العلم ، كما إنّ الصحيح عند أهل الجمهور [ منهم ] أنّه الآن حيّ ، وبهذا قطع الأولياء ، ورجّحه الفقهاء والأصوليّون وأكثر المحدّثين »(٢) .

وفيه :

أنّه لو جاز هذا ، لجاز نسخ أحكام الشريعة بلا نبوّة!

ومن سوّغ هذا فقد أعطى منزلة الأنبياء لغيرهم ، وأثبت أنبياء بلا خاصّة نبوّة ـ من العصمة ، والنصّ من الله تعالى ، ونحوهما ـ ، ونفى الحاجة إلى النبيّ في الأحكام!

وهذا مخالف لضرورة الدين ،

وقد قال رسول الله ٦ : «حلال محمّد حلال [ أبدا ] إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام [ أبدا ] إلى يوم القيامة »(٣) .

__________________

وقد أثبتنا الصحيح وفق ما ورد في ترجمته من كتب التراجم ؛ انظر الهامش السابق.

(١) كان في الأصل وإحقاق الحقّ : « متهتّكا » وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) روض الرياحين : ٥٥٥ ، وعنه في إحقاق الحقّ ١ / ٢٠١.

(٣) الكافي ١ / ٧٩ ح ١٧٥ والحديث فيه عن الإمام أبي عبد الله الصادق ٧.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الألطاف.

ويحتمل أن يراد هذا المعنى من الآية التي ذكرها الخصم.

الرابع : التيسير والتسهيل ، وبالإضلال تشديد الامتحان ، ولعلّ منه هذه الآية ، فإنّه سبحانه يضرب الأمثال المذكورة في الآية امتحانا ، فتسهل عند قوم ، وتشتدّ عند آخرين ، هذا كلّه في الهداية والإضلال.

وأمّا الختم المذكور في قوله تعالى :( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) (١) .

فالمراد به : التشبيه ، ضرورة عدم الختم حقيقة على سمعهم ، وعدم الغشاوة على أبصارهم ، فكذا على قلوبهم.

والمعنى : إنّ الكفر تمكّن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها ، وصاروا كمن لا يعقل ، ولا يسمع ، ولا يبصر ، كما قال تعالى :( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (٢) .

ويحتمل(٣) أن يكون الختم كناية عن ضيق قلوبهم عن النظر إلى الدلائل ، وعدم انشراح صدورهم للإسلام ، وإنّما نسبه إلى الله تعالى على الوجهين لخذلانه سبحانه لهم ، وعدم رعايته لهم بمزيد الألطاف ، لكثرة ذنوبهم ، وتتابع مناوأتهم للحقّ ، ولكن لا تزول به القدرة والاختيار ، ولذا قال سبحانه في آية أخرى :( بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٤) .

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٧.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٧١.

(٣) في مطبوعة طهران : ولا يحتمل.

(٤) سورة النساء ٤ : ١٥٥.

٢٦١

فاستثنى القليل وأثبت لهم الإيمان بعدما طبع على قلوبهم ؛ لأنّ لهم أفعالا حسنة تجرّهم إلى الإيمان والسعادة.

ويحتمل أن يريد :( فَلا يُؤْمِنُونَ )

إلّا إيمانا قليلا لعدم تصديقهم بكلّ ما يلزم التصديق به.

وأمّا تأويله لقوله تعالى :( أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١) فتأويل بعيد ؛ لأنّ ظاهرها أنّه أحسن الخالقين الفاعلين حقيقة ، كعيسى المذكور بقوله تعالى :

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ) (٢) لا الخالقين بالزعم والتقدير ، بل لا يصحّ أوّل التأويلين ؛ لأنّ عبدة الأصنام لا يزعمون أنّها خالقة ، بل يرونها مقرّبة إلى الله تعالى.

وأمّا الآية التي ادّعى مناسبتها لحال العدليّة ، فخطأ ؛ لأنّ مذهبهم لا يناسب الإشراك كما عرفت(٣) ، وإنّما يناسبه مذهب من يدّعي تعدّد القدماء وتركّب الإلهية ، ويرون أنفسهم شركاء لله تعالى في صفاته الذاتية ؛ لأنّ صفاتهم كصفاته زائدة على الذات(٤) !

* * *

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

(٢) سورة المائدة ٥ : ١١٠.

(٣) تقدّم في ج ٢ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٤) راجع ردّ الفضل في ج ٢ / ١٧٥.

٢٦٢

الجواب عن شبه المجبّرة

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب الحادي عشر

في نسخ شبههم

إعلم أنّ الأشاعرة احتجّوا على مقالتهم بوجهين ، هما أقوى الوجوه عندهم ، يلزم منهما الخروج عن العقيدة!

ونحن نذكر ما قالوا ، ونبيّن دلالتهما على ما هو معلوم البطلان بالضرورة من دين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

الأوّل : قالوا : لو كان العبد فاعلا لشيء ما بالقدرة والاختيار ، فإمّا أن يتمكّن من تركه أو لا

والثاني : يلزم منه الجبر ؛ لأنّ الفاعل الذي لا يتمكّن من ترك ما يفعله موجب لا مختار ، كما يصدر عن النار الإحراق ولا تتمكّن من تركه.

والأوّل إمّا أن يترجّح الفعل حالة الإيجاد ، أو لا والثاني ؛ يلزم منه ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجّح ؛ لأنّهما لمّا استويا من كلّ وجه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، وبالنسبة إلى القادر الموجد ، كان ترجيح القادر للفعل على الترك ترجيحا للمساوي بغير مرجّح ، وإن ترجّح ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢١.

٢٦٣

فإن لم ينته إلى حدّ الوجوب ، أمكن حصول المرجوح مع تحقّق الرجحان ، وهو محال.

أمّا أوّلا ؛ فلامتناع وقوعه حالة التساوي ، فحالة المرجوحية أولى.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّه مع قيد الرجحان يمكن وقوع المرجوح ، فلنفرضه واقعا في وقت ، والراجح في آخر ، فترجيح أحد الوقتين بأحد الأمرين لا بدّ له من مرجّح غير المرجّح الأوّل ، وإلّا لزم ترجيح أحد المتساويين بغير مرجّح ، فينتهي إلى حدّ الوجوب ، وإلّا تسلسل.

وإذا امتنع وقوع الأثر إلّا مع الوجوب ـ والواجب غير مقدور ، ونقيضه ممتنع غير مقدور أيضا ـ فيلزم الجبر والإيجاب ، فلا يكون العبد مختارا(١) .

الثاني : إنّ كلّ ما يقع فإنّ الله تعالى قد علم وقوعه قبل وقوعه ، وكلّ ما لم يقع فإنّ الله قد علم في الأزل عدم وقوعه.

وما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع ، وإلّا لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا ، وهو محال.

وما علم عدم وقوعه فهو ممتنع ، إذ لو وقع انقلب علم الله تعالى جهلا ، وهو محال أيضا ، والواجب والممتنع غير مقدورين للعبد ، فيلزم الجبر(٢) .

* * *

__________________

(١) المطالب العالية من العلم الإلهي ٨ / ١١ ـ ١٢ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨١ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢١ ، المواقف : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٩ ـ ١٥١.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٨ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٨ / ١٨ ، المواقف : ٣١٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٣١ ، شرح المواقف ٨ / ١٥٥.

٢٦٤

وقال الفضل (١) :

أوّل ما ذكره من الدليلين للأشاعرة قد استدلّ به أهل المذهب ، وهو دليل صحيح بجميع مقدّماته كما ستراه واضحا إن شاء الله تعالى.

وأمّا الثاني ممّا ذكره من الدليلين فقد ذكره الإمام الرازي على سبيل النقض(٢) ، وليس هو من دلائل الأئمّة الأشاعرة ، وقد ذكر الإمام هذا النقض في شبهة فائدة التكليف والبعثة بهذا التقرير.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكروه في لزوم سقوط التكليف ، إن لزم القائل بعدم استقلال العبد في أفعاله ، فهو لازم لهم أيضا لوجوه :

الأوّل : إنّ ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد ، وإلّا جاز انقلاب العلم جهلا.

وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلّا جاز الانقلاب.

ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته ، لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال ، فقد لزمكم في مسألة علم الله

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩١.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٨ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٨ / ١٨.

٢٦٥

تعالى بالأشياء.

قال الإمام الرازي : « ولو اجتمع جميع العقلاء لم يقدروا أن يوردوا على هذا الوجه حرفا »(١) .

وقد أجابه شارح « المواقف » كما سيرد عليك(٢) .

* * *

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٨.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

٢٦٦

وأقول :

ما نقله عن الرازي من النقض به لا ينافي الاستدلال به ، فإنّه إن تمّ دلّ على أنّ أفعال العباد جبرية ليست من آثار قدرتهم.

وقد صرّح القوشجي بأنّ الأشاعرة استدلّوا به ، كما ذكره في بحث العلم من الأعراض(١) ، عند قول نصير الدين1 في « التجريد » : « وهو تابع بمعنى أصالة موازنة في التطابق »(٢) .

والظاهر أنّ الخصم إنّما فرّ من تسميته دليلا ليكون فساده أهون على نفسه!

* * *

__________________

(١) شرح التجريد : ٣٣٥.

وقد جاء مؤدّاه في : الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، تبصرة الأدلّة في أصول الدين ٢ / ٦٢٤.

وكذا جاء مؤدّاه في : المواقف وشرحها وشرح المقاصد كما مرّ آنفا في الصفحة ٢٦٤.

(٢) تجريد الاعتقاد : ١٧١.

٢٦٧

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ (١) :

والجواب عن الوجهين من حيث النقض ومن حيث المعارضة

أمّا النقض ، ففي الأوّل من وجوه :

الأوّل ـ وهو الحقّ ـ : إنّ الوجوب من حيث الداعي والإرادة ، لا ينافي الإمكان في نفس الأمر ، ولا يستلزم الإيجاب وخروج القادر عن قدرته وعدم وقوع الفعل بها.

فإنّا نقول : الفعل مقدور للعبد ، يمكن وجوده منه ، ويمكن عدمه ، فإذا خلص الداعي إلى إيجاده ، وحصلت الشرائط ، وارتفعت الموانع ، وعلم القادر خلوص المصالح الحاصلة من الفعل عن شوائب المفسدة ألبتّة ، وجب من هذه الحيثية إيجاد الفعل.

ولا يكون ذلك جبرا ولا إيجابا بالنسبة إلى القدرة والفعل لا غير.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٢.

٢٦٨

وقال الفضل (١) :

هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار ، ومرادنا نفي الاختيار ، سواء كان ممكنا في نفس الأمر أو لا.

وكلّ من لا يتمكّن من الفعل وتركه فهو غير قادر ، سواء كان منشأ عدم تمكّنه عدم الإمكان الذاتي لفعله ، أو عدم حصول الشرائط ووجود الموانع ، فما ذكره ليس بصحيح.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩٤.

٢٦٩

وأقول :

لمّا زعم الأشاعرة في أوّل الدليلين أنّ العبد إمّا أن يتمكّن من ترك ما فعله أو لا ، فإن لم يتمكّن كان موجبا لا مختارا ، ويلزم الجبر ، أجاب المصنّفرحمه‌الله : « إنّا نختار أنّه لا يتمكّن ».

قولكم : « كان موجبا لا مختارا ».

قلنا : ممنوع ؛ لأنّ عدم التمكّن من الترك إنّما هو بسبب اختيار الفعل وتمام علّته ، فلا ينفي كونه مختارا ، ولا ينافي إمكان الفعل في نفسه وتأثير قدرة العبد فيه.

وهذا معنى ما يقال : « الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ».

وأورد عليه الخصم بأنّ هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار ، ومرادنا نفي الاختيار ، وهو كلام لا محصّل له.

ولعلّه يريد أنّا ندّعي أنّ الفعل اضطراري غير اختياري ، لعدم التمكّن من تركه بعد الاختيار والإرادة المؤثّرة ، وإن لم يصر فاعله بذلك موجبا.

وفيه ـ مع أنّ دليل الأشاعرة صريح في لزوم كون الفاعل موجبا ـ يشكل بأنّ عدم التمكّن من الترك بعد الإرادة المؤثّرة لا ينفي حدوثه بالاختيار ، ولا ينافي كونه مقدورا بالذات ، وغاية ما يثبت أنّ الفعل بعد الإرادة التامّة يصير واجبا بالغير ، لا واجبا بالذات ، ولا صادرا بالجبر.

وأمّا ما زعمه من أنّ من لم يتمكّن من الفعل لعدم حصول شرائطه غير قادر عليه ، فهو ممّا لا دخل له بمطلوب الأشاعرة من أنّ الفعل الواقع

٢٧٠

من العبد مجبور عليه!

على أنّ انتفاء شرائط الفعل لا ينفي القدرة عليه ما دامت الشرائط ممكنة.

ولست أعرف كيف بنى الخصم أنّه أجاب عن كلام المصنّف ، مع إنّه سيذكر معنى كلام المصنّف بلفظ شرح « المواقف » ويبني عليه ، ولعلّ الفرق أنّه وجده في الشرح فاعتبره من غير تمييز!

* * *

٢٧١

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

الثاني : يجوز أن يترجّح الفعل ، فيوجده المؤثّر ، أو العدم فيعدمه ، ولا ينتهي الرجحان إلى الوجوب على ما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين(٢) ، فلا يلزم الجبر ولا الترجيح من غير مرجّح.

قوله : « مع ذلك الرجحان لا يمتنع النقيض ، فليفرض واقعا في وقت ، فترجيح الفعل وقت وجوده يفتقر إلى مرجّح آخر ».

قلنا : ممنوع ؛ بل الرجحان الأوّل كاف ، فلا يفتقر إلى رجحان آخر.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٢.

(٢) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ١ / ١٠٧ ـ ١٠٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢٩ ، شرح المقاصد ١ / ٤٨١ ـ ٤٨٢.

٢٧٢

وقال الفضل (١) :

لا يصحّ أن يكون المرجّح في وقت ترجيح الفعل هو المرجّح الأوّل ، ولا بدّ أن يكون هذا المرجّح غير المرجّح الأوّل ؛ لأنّ هذا المرجّح موجود عند وقوع الفعل مثلا في وقت وقوعه ، ولهذا ترجّح الفعل.

فلو كان هذا المرجّح موجودا عند عدم الفعل ، ولم يترجّح به الفعل ، فلا يكون مرجّحا ، وإذا ترجّح به الفعل فيكون حكم الوقتين مساويا.

ويلزم خلاف المفروض ؛ لأنّا فرضنا أنّ الفعل يوجد في وقت ويعدم في الآخر ، ولا بدّ من مرجّح غير المرجّح الأوّل ليترجّح به الفعل في وقت وينتهي إلى الوجوب ، وإلّا يتسلسل فيتمّ الدليل بلا ورود نقض.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩٦.

٢٧٣

وأقول :

لا يخفى أنّ عندنا مسألتين :

الأولى : إنّه هل يمكن ترجّح أحد طرفي الممكن على الآخر برجحان ناش عن ذات الممكن ، غير منته إلى حدّ الوجوب ، بحيث يجوز أنيوجد ممكن بذلك الرجحان من غير احتياج إلى فاعل ، فينسدّ باب إثبات الصانع أو لا يمكن؟

لا ريب أنّه لا يمكن ؛ لأنّ فرض إمكان الشيء يقتضي جواز وقوع الطرفين بالنظر إلى ذاته.

وفرض مرجوحية أحد الطرفين بالنظر إلى ذاته ، يقتضي امتناع وقوع المرجوح ؛ لامتناع ترجّح المرجوح بالضرورة.

ولذا قال نصير الدين1 في « التجريد » : « ولا يتصوّر الأولوية لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته »(١) .

الثانية : إنّه هل يمكن ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بمرجّح لا ينتهي إلى حدّ الوجوب ـ كما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين(٢) ونقله المصنّف عنهم ـ أو لا يمكن؟

ودليل الأشاعرة من فروع هذه المسألة ، ومبنيّ على عدم إمكان الترجيح بذلك المرجّح ، وهو ممنوع ؛ لأنّ إمكان وقوع الفعل لأجله وكفايته

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ١١٣.

(٢) راجع ما تقدّم انفا في الصفحة ٢٧٢.

٢٧٤

في الإقدام على الفعل ، لا يستلزم خروجه عن المرجوحية ، مع فرض عدم الفعل.

هذا إذا أريد بالمرجّح الأمر الداعي إلى الاختيار.

وأمّا لو أريد به المركّب منهما ومن سائر أجزاء العلّة ، كما هو المقصود في مقام ترجيح أحد طرفي الممكن ، فلا محالة يكون المرجّح موجبا ؛ ولأجله جعل المصنّف الحقّ هو الجواب الأوّل السابق.

* * *

٢٧٥

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

الثالث : لم لا يوقعه القادر مع التساوي؟ فإنّ القادر يرجّح أحد مقدوريه على الآخر ، من غير مرجّح.

وقد ذهب إلى هذا جماعة من المتكلّمين(٢) ، وتمثّلوا في ذلك بصورة وجدانية ، كالجائع يحضره رغيفان متساويان من جميع الوجوه ، فإنّه يتناول أحدهما من غير مرجّح ، ولا يمتنع من الأكل حتّى يترجّح لمرجّح ، والعطشان يحضره إناءان متساويان من جميع الوجوه ، والهارب من السبع إذا عنّ(٣) له طريقان متساويان فإنّه يسلك أحدهما ولا ينتظر حصول المرجّح.

وإذا كان هذا الحكم وجدانيا ، كيف يمكن الاستدلال على نقيضه؟!

الرابع : إنّ هذا الدليل ينافي مذهبهم ، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به ؛ لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدّين(٤) ، فالمتمكّن من الفعل يخرج عن القدرة ؛ لعدم التمكّن من الترك.

وإن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدّين ، لزمهم وجود الضدّين دفعة

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٣.

(٢) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ١ / ١٠٨ ، شرح المقاصد ١ / ٤٨٤.

(٣) عنّ الشيء : ظهر أمامك ؛ انظر : لسان العرب ٩ / ٤٣٧ مادّة « عنن ».

(٤) تمهيد الأوائل : ٣٢٦ و ٣٣٦ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٠١ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٥٣ ، المواقف : ١٥٣.

٢٧٦

واحدة ؛ لأنّ القدرة لا تتقدّم على المقدور عندهم(١) .

وإن فرضوا للعبد قدرة موجودة حال وجود قدرة الفعل لزمهم ، إمّا اجتماع الضدّين أو تقدّم القدرة على الفعل.

فانظر إلى هؤلاء القوم الّذين لا يبالون في تضادّ أقوالهم وتعاندها!

* * *

__________________

(١) تمهيد الأوائل : ٣٣٦ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٩٧ ـ ١٩٨ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٥٢ ، المواقف : ١٥١.

٢٧٧

وقال الفضل (١) :

اتّفق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح ، والحكم بعد تصوّر الطرفين ، أي تصوّر الموضوع الذي هو إمكان الممكن ، وتصوّر المحمول ـ الذي هو معنى كونه محوجا إلى السبب ـ ضروري بحكم بديهة العقل بعد ملاحظة النسبة بينهما ، ولذلك يجزم به الصبيان الّذين لهم أدنى تمييز

ألا ترى إلى كفّتي الميزان إذا تساوتا لذاتيهما ، وقال قائل : ترجّحت إحداهما على الأخرى بلا مرجّح من خارج ، لم يقبله صبي مميّز ، وعلم بطلانه بديهة.

فالحكم بأنّ أحد المتساويين لا يترجّح على الآخر إلّا بمرجّح مجزوم به عنده بلا نظر وكسب ، بل الحكم مركوز في طباع البهائم ، ولذا تراها تنفر من صوت الخشب(٢) .

وما ذكر من الأمثلة ، كالجائع في اختيار أحد الرغيفين وغيره ، فإنّه لمّا خالف الحكم البديهي ، يجب أن يكون هناك مرجّح لا يعلمه الجائع ، والعلم بوجود المرجّح من القادر غير لازم ، بل اللازم وجود المرجّح.

وأمّا دعوى كونه وجدانيا مع اتّفاق العقلاء بأنّ خلافه بديهي ، دعوى باطلة كسائر دعاويه ؛ والله أعلم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩٩.

(٢) انظر : شرح المواقف ٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

٢٧٨

وأمّا قوله في الوجه الرابع : « إنّ هذا الدليل ينافي مذهبهم ، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به ؛ لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدّين » إلى آخره.

فنقول في جوابه : عدم صلاحية القدرة للضدّين لا يمنع صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة ، فإنّ المراد من الاحتجاج نفي الاختيار عن العبد ، وإثبات أنّ الفعل واجب الصدور عنه ، وليس له التمكّن من الترك ، وذلك يوجب نفي الاختيار.

فإذا كان المذهب أنّ القدرة لا تصلح للضدّين ، وبلغ الفعل حدّ الوجوب لوجود المرجّح الموجب ، لم يكن العبد قادرا على الترك ، فيكون موجبا لا مختارا ، وهذا هو المطلوب

فكيف يقول : إنّ كون القدرة غير صالحة للضدّين يوجب عدم صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة؟!

فعلم أنّه من جهله وكودنيّته لا يفرّق بين ما هو مؤيّد للحجّة وما هو مناف لها!

ثمّ ما ذكر أنّهم [ إن ](١) خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدين ، لزمهم إمّا اجتماع الضدّين ، أو تقدّم القدرة على الفعل ؛ فهذا شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذورا.

والأشاعرة إنّما نفوا هذا المذهب وقالوا : إنّ القدرة لا تصلح للضدّين(٢) ؛ لأنّ القدرة عندهم مع الفعل(٣) ، فيجب أن لا يكون صالحا

__________________

(١) أثبتناه من « إبطال نهج الباطل ».

(٢) راجع تخريجه المارّ آنفا في الصفحة ٢٧٦ ه‍ ٤.

(٣) راجع تخريجه المارّ آنفا في الصفحة ٢٧٧ ه‍ ١.

٢٧٩

للضدّين ، وإلّا لزم اجتماع الضدّين!

أنظروا معاشر المسلمين إلى هذا السارق الحلّي ، الذي اعتاد سرقة الحطب من شاطئ الفرات ، حسب أنّ هذا الكلام حطب يسرق! كيف أتى بالدليل وجعله اعتراضا! والحمد لله الذي فضحه في آخر الزمان ، وأظهر جهله وتعصّبه على أهل الإيمان.

* * *

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456