دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

دلائل الصدق لنهج الحق8%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147031 / تحميل: 5844
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٥-١
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وأقول :

لا معنى لعصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في دعوى الرسالة ، فإنّه بعد فرض النبوّة والرسالة لا يتصوّر الكذب فيها حتّى يعصم الأنبياء عنه.

وأمّا بالنظر إلى ما قبل الرسالة ، فلا تقتضي المعجزة اللاحقة عصمتهم عن الكذب قبلها ، ولكن لمّا كانت المعجزة تدلّ على صدقهم في دعوى الرسالة استنتج صاحب « المواقف » عصمتهم عن الكذب في دعواها(١) ، وأخذه منه الخصم بلا تدبّر ليقال : إنّهم ممّن يقول بعصمة الأنبياء في الجملة.

ثمّ إنّ دعوى إفادة المعجزة القطع لا تتمّ على مذهب الأشاعرة ، إذ يجوز عقلا ـ بناء على قولهم : « لا يقبح منه شيء »(٢) ـ أن يظهرها على يد الكاذب.

ودعوى العادة على عدم ظهورها على يد الكاذب موقوفة على الاطّلاع على كلّ من ظهرت على يده المعجزة ، وأنّه غير كاذب ، وهو غير حاصل ، بل لعلّ كلّ من ظهرت على يده المعجزة كاذب!

على إنّ التخلّف عن العادة ليس قطعي العدم ، لا سيّما في مورد التخلّف عن العادة بصدور المعجزة.

__________________

(١) المواقف : ٣٥٨.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٦ ، المسائل الخمسون : ٦١ المسألة ٣٦ ، المواقف : ٣٢٨.

٣٨١

وأمّا ما زعمه من الإجماع على عصمتهم عن الكفر ، فمناف لما سيأتي في بحث النبوّة من أنّ بعض الأشاعرة وغيرهم من السنّة يجوّزون عليهم الكفر ، بل قال بعضهم بوقوعه(١)

ومناف أيضا لمام يروونه عن النبيّ ٦ أنّه قال : « لو كان نبيّ بعدي لكان عمر »(٢) ، فإنّ العصمة عن الكذب لا تجامع صلاحية عمر للنبوّة وهو كافر أكثر عمره.

فلا بدّ إمّا من منع وجوب العصمة عندهم عن الكفر ، أو الحكم بكذب هذه الرواية وأنّها من مفتعلات القوم.

وأمّا ما نسبه إلى الشيعة تبعا ( للمواقف ) من أنّهم يجوّزون إظهار الكفر تقيّة(٣) ، فكذب عليهم ، وإلّا فليسندوه إلى كتاب من كتبهم!

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٦٤ ، وسيأتي تخريج ذلك مفصّلا في بحث النبوّة.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٥٧٨ ح ٣٦٨٦ وقال : « هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلّا من حديث مشرح بن هاعان » ، تاريخ دمشق ٤٤ / ١١٤ ـ ١١٦ ح ٩٥٦٤ ـ ٩٥٦٩ ، أسد الغابة ٣ / ٦٥٨ ، مختصر تاريخ دمشق ١٨ / ٢٩٠ ، تحفة الأحوذي ١٠ / ١١٩ ح ٣٩٣٣.

وذكره ابن الجوزي في الموضوعات ١ / ٣٢٠ ـ ٣٢١ بلفظ « لو لم أبعث فيكم لبعث عمر » بطريقين ، أوّلهما عن زكريّا بن يحيى ، وثانيهما عن مشرح بن هاعان ، وقال : « هذان حديثان لا يصحّان عن رسول الله ٦.

أمّا الأوّل : فإنّ زكريّا بن يحيى كان من الكذّابين الكبار.

قال ابن عديّ : كان يضع الحديث.

وأمّا الثاني : فقال أحمد ويحيى : عبد الله بن واقد ليس بشيء.

وقال النسائي : متروك الحديث.

وقال ابن حبّان : انقلبت على مشرح بن هاعان صحائفه فبطل الاحتجاج به ».

وقال ابن حبّان أيضا بترجمة مشرح بن هاعان في الثقات ٥ / ٤٥٢ : يخطئ ويخالف.

(٣) المواقف : ٣٥٩ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٢٦٤.

٣٨٢

ومجرّد قول الشيعة بالتقيّة لا يستلزم تعميمها في جميع المقامات ، بل ذلك مذهب بعض السنّة ـ كما ستعرفه في مباحث النبوّة ـ ، وهو الأنسب بهم ، فإنّهم إذا نسبوا إلى رسول الله ٦ قصّة الغرانيق حيث أظهر الكفر تأليفا لقومه ، فتجويزهم عليه وعلى الأنبياء إظهاره تقيّة أولى(١) .

ونسبوا إليه ٦ وإلى إبراهيم الشكّ حيث قال : « نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم »(٢) كما سيجيء.

ومن المعلوم أنّ الشاكّ ليس بمؤمن ، فإظهار الكفر للتقيّة أولى ؛ لأنّ الشكّ أسوأ.

وأمّا تكذيبه للمصنّف ; في نسبته إلى الأشاعرة تجويز الكبائر على الأنبياء ، فسيأتي ما فيه في محلّه إن شاء الله تعالى.

وأمّا ما ادّعاه من أنّ تعظيم الأنبياء وأهل البيت شعارهم ، فستعرف كذبه من نسبتهم إلى الأنبياء ما لا يليق بشأنهم ، وتأويلهم ما لا يقبل التأويل من النصوص على إمامة أمير المؤمنين ٧ ، وجعلهم أهل البيت من سائر المسلمين ، وفضّلوا الأداني عليهم ، مع إنّ الله تعالى ميّزهم بالطهارة من الرجس(٣) ، وأوجب على الأمّة التمسّك بهم ، وجعلهم عدل القرآن المجيد

__________________

(١) المعجم الكبير ٩ / ٣٤ ح ٨٣١٦ وج ١٢ / ٤٢ ح ١٢٤٥٠ ، مجمع الزوائد ٧ / ٧١ و ١١٥ ، وستأتي القصّة بتمامها في مبحث النبوّة.

(٢) صحيح البخاري ٤ / ٢٩٠ ح ١٧٤ كتاب الأنبياء ، صحيح مسلم ٧ / ٩٨ باب فضائل إبراهيم الخليل ٧ ، فتح الباري ٦ / ٥٠٧ كتاب أحاديث الأنبياء ؛ وسيأتي تمام الحديث في مبحث النبوّة.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

٣٨٣

إلى يوم الدين(١) .

وأمّا قوله : « والتعظيم ليس عداوة الصحابة » ، ففيه :

إنّا لا نعادي إلّا المنقلبين على أعقابهم ، الّذين ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، و

يقول فيهم رسول الله ٦ : «سحقا سحقا حتّى لا يخلص من النار إلّا مثل همل النعم »(٢)

وقال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ )(٣) .

* * *

__________________

(١) إشارة إلى حديث الثقلين ؛ وقد مرّ تخريجه مفصّلا في الصفحة ١٨٧ ه‍ ١ من هذا الجزء.

(٢) انظر : صحيح البخاري ٨ / ٢١٦ ح ١٦٤ باب في الحوض ؛ باختلاف يسير.

(٣) سورة المجادلة ٥٨ : ٢٢.

٣٨٤

ترجيح أحد المذهبين

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ(١) :

فلينظر العاقل في المقالتين ، ويلمح المذهبين ، وينصف في الترجيح ، ويعتمد على الدليل الواضح الصحيح ، ويترك تقليد الآباء ، والمشايخ الآخذين بالأهواء ، وغرّتهم الحياة الدنيا ، بل ينصح نفسه ، ولا يعوّل على غيره ، فلا يقبل عذره يوم القيامة ، أنّي قلّدت شيخي الفلاني ، ووجدت آبائي وأجدادي على هذه المقالة ، فإنّه لا ينفعه ذلك يوم القيامة ، يوم يتبرّأ المتبوعون من أتباعهم ، ويفرّون من أشياعهم.

وقد نصّ الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز(٢) ، ولكن أين الآذان السامعة والقلوب الواعية؟!

وهل يشكّ العاقل في الصحيح من المقالتين ، وأنّ مقالة الإمامية هي أحسن الأقاويل ، وأنّها أشبه بالدين ، وأنّ القائلين بها هم الّذين قال الله تعالى فيهم : (فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ )(٣) ؟!

فالإمامية هم الّذين قبلوا هداية الله واهتدوا بها ، وهم أولوا الألباب.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٩.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ) سورة البقرة ٢ : ١٦٦.

(٣) سورة الزمر ٣٩ : ١٧ و ١٨.

٣٨٥

ولينصف العاقل من نفسه أنّه لو جاء مشرك وطلب شرح أصول دين المسلمين في العدل والتوحيد رجاء أن يستحسنه ويدخل فيه معهم ،هل كان الأولى أن يقال له ـ حتّى يرغب في الإسلام ويتزيّن في قلبه أنّه من ديننا ـ : إنّ جميع أفعال الله تعالى حكمة وصواب ، وإنّا نرضى بقضائه ، وإنّه منزّه عن فعل القبائح والفواحش ، لا تقع منه ، ولا يعاقب الناس على فعل يفعله فيه ، ولا يقدرون على دفعه عنهم ، ولا يتمكّنون من امتثال أمره

أو يقال : ليس في أفعاله حكمة وصواب ، وإنّه يفعل السفه والفاحشة ، ولا نرضى بقضاء الله تعالى ، وإنّه يعاقب الناس على ما فعله فيهم ، بل خلق فيهم الكفر والشرك ويعاقبهم عليهما ، ويخلق فيهم اللون والطول والقصر ويعذّبهم عليها؟!

وهل الأولى أن يقول : من ديننا أنّ الله لا يكلّف الناس ما لا يقدرون عليه ولا يطيقون

أو نقول : إنّه يكلّف الناس ما لا يطيقون ، ويعاقبهم على ترك ما لا يقدرون على فعله؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى يكره الفواحش ولا يريدها ولا يحبّها ولا يرضاها

أو نقول : إنّه يحبّ أن يشتم ويسبّ ويعصى بأنواع المعاصي ، ويكره أن يمدح ويطاع ، ويعذّب الناس لمّا كانوا كما أراد ولم يكونوا كما كره؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولا يجوز عليه ما يجوز عليها

٣٨٦

أو نقول : إنّه يشبهها؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّ الله تعالى يعلم ويقدر ويحيي ويدرك لذاته

أو نقول : إنّه لا يدرك ولا يحيي ولا يقدر ولا يعلم إلّا بذوات قديمة ، ولولاها لم يكن قادرا ولا عالما ولا غير ذلك من الصفات؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى لمّا خلق الخلق أمرهم ونهاهم

أو نقول : إنّه لم يزل في القدم ، ولا يزال بعد فنائهم طول الأبد يقول : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، لا يخلّ بذلك أصلا؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى تستحيل رؤيته والإحاطة بكنه ذاته

أو نقول : يرى بالعين ، إمّا من جهة من الجهات له أعضاء وصورة : أو يرى بالعين لا في جهة؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّ أنبياءه وأئمّته منزّهون عن كلّ قبيح وسخيف

أو نقول : إنّهم اقترفوا المعاصي المنفّرة عنهم ، وإنّه يقع منهم ما يدلّ على الخسّة والذلّة ، كسرقة درهم وكذب وفاحشة ، ويداومون على ذلك مع إنّهم محلّ وحيه وحفظة شرعه وإنّ النجاة تحصل بامتثال أوامرهم القوليّة والفعليّة؟!

فإذا عرفت أنّه لا ينبغي أن يذكر لهذا السائل عن دين الإسلام إلّا مذهب الإمامية دون قول غيرهم ، عرفت عظم موقعهم في الإسلام!

وتعلم أيضا بزيادة بصيرتهم ؛ لأنّه ليس في التوحيد دليل ولا جواب عن شبهة إلّا من أمير المؤمنين ٧ وأولاده : أخذ ، وكان جميع العلماء

٣٨٧

يستندون إليه على ما يأتي.

فكيف لا يجب تعظيم الإمامية والاعتراف بعلوّ منزلتهم؟!

فإذا سمعوا شبهة في توحيد الله أو في عبث بعض أفعاله ، انقطعوا بالفكر فيها عن كلّ أشغالهم ، فلا تسكن نفوسهم ولا تطمئنّ قلوبهم حتّى يتحقّق الجواب عنها.

ومخالفهم إذا سمع دلالة قطعية على إنّ الله تعالى لا يفعل الفواحش والقبائح ، ظلّ ليله ونهاره مهموما طالبا لإقامة شبهة يجيب بها ، حذرا أن يصحّ عنده أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح ، فإذا ظفر بأدنى شبهة قنعت نفسه وعظم سروره بما دلّت الشبهة عليه.

فشتّان ما بين الفريقين ، وبعد ما بين المذهبين!

ولنشرع في تفصيل المسائل ، وكشف الحقّ فيها بعون الله تعالى ولطفه

* * *

٣٨٨

وقال الفضل(١) :

حاصل ما ذكر في هذا الفصل تحكيم الإنصاف ، والرجوع إلى الوجدان ، والدليل في ترجيح مذهب الإمامية ، وأنّ المنصف إذا ترك التقليد ، ونظر إلى المذهبين نظر الإنصاف ، علم أنّ مذهب الإمامية مرجّح.

ومثل هذا في حال من أراد دخول الإسلام وحاول أن يتبيّن عنده ترجيح مذهب من المذاهب ، فلا شكّ أنّ معتقدات الإمامية أبين وأظهر عند العقول ، وأقرب من سائر المذاهب إلى التلقّي والقبول.

ونحن إن شاء الله تعالى في هذا الفصل نحذو حذوه ، ونجاريه فصلا بفصل ، وعقيدة بعقيدة ، على شرط تجنّب التهمة والافتراء ، ومحافظة شريطة الصدق والإنصاف

فنقول : لو استجار مشرك في بلاد الإسلام ، وأراد أن يسمع كلام الله رجاء أن يستحسنه ويميل قلبه إلى الإسلام ، فطلب من العلماء أصول دين الإسلام في العدل والتوحيد ، ليرغب بفهمه إلى الملّة البيضاء

فيا معشر العقلاء :

هل الأولى أن يقال له ـ حتّى يرغب ويتزيّن الإسلام في قلبه ـ : إنّ الإله الذي ندعوك إلى طاعته وعبوديّته هو خالق كلّ الأشياء ، وهو الفاعل المختار ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، وهو يحكم ما يريد ، ولا شريك له في الخلق والتصرّف في الكائنات ، ولا تسقط ورقة ولا تتحرّك نملة إلّا

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣١٧.

٣٨٩

بحكمه وإرادته وقضائه وقدره ، دبّر أمور الكائنات في أزل الآزل ، وقدّر ما يجري وما يصدر عنهم قبل خلقهم وإيجادهم ، ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم ، وأفعاله حكمة وصواب ، ولا قبيح في فعله ، ولا يجب عليه شيء

وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب ، فهو تصرّف في ملكه ، ولا يتصوّر منه ظلم ، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ، وهو منزّه عن فعل القبائح ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه ، ونحن نرضى بقضائه ، والقضاء غير المقتضي

هل الأولى هذا؟! أو يقال : الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق ، فأنت تخلق أفعالك والناس يخلقون أفعالهم ، وهو الموجب الذي لا تصرّف له في الكائنات بالإرادة والاختيار ، بل هو كالنار إذا صادف الحطب يجب عليه الإحراق.

والعبد إذا عمل حسنة وجب عليه الثواب ، فهذه الحسنة كالدين على رقبته يجب عليه ثوابها ، وإذا عمل سيّئة يجب عليه عقابها ، وليس له أن يتفضّل ويتجاوز بفضله عن ذلك الذنب ، بل الواجب واللازم عليه عقابه ، كالنار الواجب عليها الإحراق.

وإنّه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق وعلم متقدّم ، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق ، وله الشركاء في الخلق ، وهو يخلق والناس يخلقون؟!

وهل الأولى أن يقال له : من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار ، يكلّف الناس كيفما شاء ؛ لأنّه يتصرّف في ملكه ، فإذا أراد كلّفهم حسب طاقتهم ، وجاز له ولا يمتنع عليه أن يكلّف فوق الطاقة ، لكن بفضله وكرمه لم يكلّف الناس فوق الطاقة ولم يقع هذا

٣٩٠

أو يقال : إنّه يجب عليه أن يكلّف الناس حسب طاقتهم ، وليس له التصرّف فيهم ، ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته ، ولكنّ الخير والطاعة برضاه وحبّه ، والشر والمعصية بغير رضاه

أو نقول : إنّه مغلول اليد ، فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو خالقه ، ولا يخلق الشرّ ، فللشرّ فواعل غيره ، وله شركاء في الملك والتصرّف؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولكن له صفات تأخذ معرفتها أنت من صفات نفسك ، غير إنّ صفات نفسك حادثة وصفاته قديمة

أو نقول : إنّه لا صفات له ، ولا يجوز عليه أن يعرف صفاته من صفات الكمال؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ الله تعالى عالم بعلم أزلي ، قادر بقدرة أزلية ، حيّ بحياة سرمدية ، متكلّم بكلام أزلي

أو يقال له : إنّ الصفات مسلوبة عنه ، وليس له علم ولا قدرة ، بل ذاته تعلم الأشياء بلا علم ؛ فيتحيّر ذلك المسكين ، أنّ العالم كيف يعلم بلا علم ، وكيف يقدر بلا قدرة؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ الله تعالى كان في الأزل متكلّما بكلام نفسي هو صفة ذاته ، وبعد ما خلق الخلق خاطب الرسل بذلك الكلام ، وأمر الناس ونهاهم

أو يقال له : إنّه خلق الكلام وليس هو بمتكلّم ، فإنّ خالق الكلام لا يسمّى متكلّما ، وإنّه أحدث الأمر والنهي بعد الخلق بلا تقدير وإرادة سابقة؟!

٣٩١

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى مرئي يوم القيامة لعباده ، ليزداد بذلك شغفه في عبادة ربّه ، رجاء أن ينظر إليه يوم القيامة ، ولكن هذه الرؤية بلا كيفية كما سترى وتعلم

أو يقال له : هذا الربّ لا ينظر إليه في الدنيا ولا في الآخرة؟!

وهل الأولى أن يقال : إنّ أنبياء الله تعالى مكرّمون معصومون من الكذب والكبائر ، ولكنّهم بشر لا يأمنون من إمكان وقوع الصغائر عنهم ، فلا تيأس أنت من عفو الله وكرمه ، إن صدر عنك معصية فإنّهم أسوة الناس ، ويمكن أن يقع منهم الذنب ، فأنت لا تقنط من الرحمة

أو يقال له : الأنبياء كالملائكة يستحيل عليهم الذنب ، فإذا سمع بشيء من ذنوب الأنبياء ، كما جاء في القرآن : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ )(١) يتردّد في نبوّة آدم ؛ لأنّه وقع منه المعصية فلا يكون نبيّا؟!

وهل الأولى أن يقال : إنّ رسول الله ٩ لمّا بعث إلى الناس تابعه جماعة من أصحابه ، وأقاموا في خدمته وصحبته طول أعمارهم ، وقاسوا الشدائد والبلايا في إقامة الدين ودفع الكفرة ، وذكرهم الله في القرآن وأثنى عليهم بكلّ خير ورضي عنهم

ثمّ بعده قاموا بوظائف الخلافة ، ونشروا الدين ، وفتحوا البلاد ، وأظهروا أحكام الشريعة ، وأحكموا قواعد الحدود ، حتّى بقي منهم الدين ، وانحفظت من سعيهم الشريعة إلى يوم الدين

أو يقال له : إنّ هؤلاء الأصحاب بعد رسول الله ٩خالفوه ، ورجعوا إلى الكفر ، ولم يهد محمّد ٩ إلّا سبعة عشر نفرا؟!

__________________

(١) سورة طه ٢٠ : ١٢١.

٣٩٢

فيا معشر العقلاء : انظروا إلى المذهبين! وتأمّلوا وأمعنوا في عقائد الفريقين! (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً )(١) (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )(٢) .

وأمّا ما ذكر أنّه ليس في التوحيد دليل ولا جواب شبهة إلّا ومن أمير المؤمنين عليّ ؛ فإنّ هذا لا يختصّون به دوننا ، بل كلّ ما نأخذه من العقائد ، ونتلقّى من الأدلّة ، فإنّها مأخوذة من تلك الحضرة ومن غيره من أكابر الصحابة كالخلفاء الراشدين سواء ، وككبار الصحابة الّذين شهد رسول الله ٩ بعلمهم واجتهادهم وأمانتهم.

وهم يذكرون الأشياء من الأئمّة ويمزجون كلّ ما ينقلون عنهم بألف كذبة كالكهنة السامعة لأخبار الغيب ، ونحن لا نرويه ولا ننقله إلّا بالأسانيد الصحيحة المعتبرة المعتمدة ، والحمد لله على ذلك التوفيق.

* * *

__________________

(١) سورة هود ١١ : ٢٤.

(٢) سورة العنكبوت ٢٩ : ٦٣.

٣٩٣

وأقول :

لا يخفى أنّه قد دلّس في مذهب قومه ، وموّه ما شاء ولبّس في مذهب الإمامية ، وافترى من غير حياء ـ كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ـ ، فخالف ما اشترطه من الصدق والإنصاف ، اتّباعا للهوى ، وتعصّبا لدين الأسلاف.

ونحن بعون الله تعالى نكشف عن وجه الحقيقة غشاءها ، ونعيد إلى مرآة الحقّ صفاءها.

أمّا ما ذكره أوّلا في تقرير مذهب الأشاعرة بقوله : « خالق كلّ الأشياء »

فهو أوّل تمويه ؛ لأنّ مورد النزاع هو أفعال العباد ، وأنّها مفعولة لله سبحانه أو للعبد ، فكان اللازم النصّ عليها ليتّضح حال المذهبين ، ولم يكف ذكر ما ينصرف لغيرها ، فينبغي أن يقال للمشرك المتحيّر : إنّه تعالى خالق كلّ الأشياء ، حتّى الزنا ، واللواط ، والكذب ، والظلم ، والنهب ، والسرقة ، والقتل ، ونحوها.

ولا ريب أنّه حينئذ يستنكره ويستكرهه ويعدّه من منافيات وجدانه لأنّه يجد أنّه فاعل فعله.

ولو ذكر له الشرك الذي هو عليه وقيل : إنّه مخلوق لله تعالى ، لقال هذا دليل رضاه به ؛ لأنّ الفعل بالاختيار لا يصدر بدون رضا الفاعل فلا داعي للعدول عنه.

ولو اجتهدوا في ترغيبه وإقناعه لقال : ما لكم خرجتم عن مذهبكم؟!

٣٩٤

فإنّه لا فعل لي بزعمكم ، والخالق لشركي هو الله فرغّبوه دوني!

وكذا الكلام في بقية الفقرات التي أراد بها أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وموّه فيها بإظهار ما ينصرف إلى غيرها.

ويزيد إشكالا قوله : « هو الفاعل المختار » ؛ لأنّ الله سبحانه عندهم موجب لصفاته فلا يكون مختارا على الإطلاق.

وبالجملة : هذه الفقرات بالنظر إلى ما عدا أفعال العباد مشتركة بين المذهبين ، وبالنظر إلى أفعال العباد قد موّه بها ، فلا معنى لذكرها في مقام التفاضل.

وأمّا قوله : « دبّر أمور الكائنات في أزل الآزال »

فإن أراد به أنّه أجراها على موازينها وقام بشؤونها ، فهو ليس في الأزل ، بل حين خلقها وأوجدها ، وإن أراد أنّه تروّى بها ورتّب كيفية خلقها ، فهو باطل ؛ لأنّه غني عن التروّي ، عالم بكلّ شيء في الأزل ، فإذا أراد شيئا قال له : (كُنْ فَيَكُونُ )(١) ، بلا إجالة فكر.

وأمّا قوله : « ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم ».

فهو من الفضول في مقام التفاضل ؛ لاشتراك القول به بين الجميع.

وأمّا قوله : « وأفعاله حكمة وصواب ، ولا قبيح في فعله ».

فهو ممّا أريد به خلاف ظاهره ، فإنّ ظاهره تنزيه وخير ، ولكنّه تأبّط شرّا ؛ لأنّه لو صرّح للمشرك بأنّ من أفعاله الزنا ، واللواط ، وظلم الناس بعضهم بعضا ، والإفساد في الأرض ، وجميع الفتن ، لجزم بأنّها ليست

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١١٧ ، سورة آل عمران ٣ : ٤٧ و ٥٩ ، سورة الأنعام ٦ : ٧٣ ، سورة النحل ١٦ : ٤٠ ، سورة مريم ١٩ : ٣٥ ، سورة يس ٣٦ : ٨٢ ، سورة غافر ٤٠ : ٦٨.

٣٩٥

حكمة وصوابا.

وكذا قوله : « لا يجب عليه شيء ».

فإنّه لو فهم أنّ المقصود منه أنّه لا يجب عليه الرحمة وجزاء عبده بالطاعة وفعل الجميل ، وأنّه يجوز أن يعذّب المطيع المحسن بلا ذنب ، لأنكر صلاحيّته للربوبية ، وحكم بعدم عدله وحكمته ، ولم ير بالدخول بالإسلام على تقدير أحقّيّته فائدة تقتضي إتعاب النفس في اتّباع أحكامه.

وكذا قوله : « وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب ، فهو تصرّف في ملكه ، ولا يتصوّر منه ظلم ، لا يسأل عمّا يفعل ».

فإنّه لو علم أنّ المراد أنّه يجوز عقاب من آمن به وعبده طول عمره ولم يذنب قطّ ، وثواب من كفر به وسبّه مدّة حياته ، وأنّه لا يسأل عن ذلك ، لحكم بأنّ تجويز ذلك تجويز للجور والسفه عليه سبحانه ، وبادر إلى الاعتراض والسؤال عن هذا العمل الوحشي.

ومعنى قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ )(١) على مذهب أهل العدل ، أنّه لمّا علمت حكمته وعدله فلا يسأل عن فعله إذا خفي وجهه ، لا أنّه لا يسأل عن فعله وإن نافى الرحمة والعدل والحكمة(٢) .

وأمّا قول الخصم : « وهم يسألون ».

فممّا يزيد المتحيّر حيرة ؛ لأنّه بعد ما ذكر له أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لا يتصوّر وجها لمسؤوليّتهم عن شيء لا تأثير لهم فيه أصلا.

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ٢٣.

(٢) انظر : تفسير الكشّاف ٢ / ٥٦٨ ، مجمع البيان ٧ / ٧٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

٣٩٦

وكذا يزيده حيرة قوله : « وهو منزّه عن فعل القبائح ، حيث لا قبيح بالنسبة إليه ».

إذ كيف لا يقبح فعل القبيح في حقّه وهو أحقّ من تنزّه عن القبيح.

وأمّا قوله : « ونحن نرضى بقضائه ».

فهو ـ لو صحّ ـ ممّا يشترك به الفريقان ، إلّا إنّه بإضافة قوله :

« والقضاء غير المقضي » يترك السامع متعجّبا من إرادته به وجوب الرضا بالقضاء دون المقضي ، والحال أنّ الرضا بأحدهما لا ينفكّ عن الرضا بالآخر.

وأمّا ما ذكره في تقرير مذهب الإمامية من أنّ : « الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق »

فتلبيس ظاهر ؛ لأنّ إسناد أفعال العباد إليهم لا يستلزم الشركة ، كإسناد الملكية والقدرة لهم ، بل ذلك من مظاهر القدرة الربّانية وتوابع العبودية ؛ لأنّه تعالى أعطانا قدرة على أفعالنا ومكّننا من الاختيار ، ولا قدرة لنا من عند أنفسنا ففعلناها بإرادتنا مع احتياجنا في كلّ آن إليه.

وهذا هو الصنع العجيب ، حيث خلق ما يؤثّر الآثار بلا مباشرة منه تعالى للأثر ، ولا حاجة له إلى المؤثّر ، بل لنزاهته عن إتيان فواحش الأعمال وحكمته في جعل القدرة والاختيار للعبد ، ففي هذا إطراء لقدرته تعالى وتنزيه له عن القبيح.

وأمّا قوله : « وهو الموجب الذي لا تصرّف له في الكائنات بالإرادة والاختيار »

فهو من أظهر الكذب ؛ لأنّ كلّ أحد يعلم أنّ مذهب أهل العدل أنّ الله تعالى متصرّف بأفعاله من خلق السماوات والأرض والأجسام

٣٩٧

والأعراض بإرادته واختياره ، وإنّما الذي يصف الله سبحانه بالموجب هو الأشاعرة ؛ لأنّه عندهم موجب لصفاته ؛ ومجرّد قولنا : إنّه تعالى يجب عليه برحمته وعدله إعطاء العوض ؛ لا يقتضي أن يكون موجبا لا مختارا حتّى لو سمّينا العوض دينا عليه ، فإنّ أداء الدين اختياري للعبد ، فكيف لله تعالى؟! وهذا من جهالات الخصم وخرافاته.

وأمّا قوله : « وإذا عمل سيّئة يجب عليه عقابها وليس له أن يتفضّل »

فأكذب من الأوّل ، كما ستعرف.

قال نصير الدين ١ في ( التجريد ) : « والعفو واقع ؛ لأنّه حقّه تعالى ولا ضرر عليه في تركه ولأنّه إحسان ، وللسمع والإجماع على الشفاعة »(١) .

وقال القوشجي في شرحه : « اتّفقت الأمّة على إنّه تعالى يعفو عن الأمّة وعن الصغائر مطلقا ، وعن الكبائر بعد التوبة ، ولا يعفو عن الكفر قطعا ، واختلفوا في جواز العفو عن الكبائر بدون التوبة ، فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنّه جائز عقلا غير جائز سمعا ، وذهب الباقون إلى وقوعه عقلا وسمعا ، واختاره المصنّف »(٢) .

فأين ما اشترطه الفضل من الصدق والإنصاف؟!

وأمّا قوله : « وإنّه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق ولا علم متقدّم ، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق »

فأكذب من الأوّلين ؛ لأنّا نقول : إنّه تعالى عالم لذاته في الأزل وهو

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٢) شرح التجريد : ٥٠١.

٣٩٨

ظاهر ، وقد قضى ـ أي حكم ـ بالأزل بكلّ شيء من الكائنات سوى أفعال عباده كما يظهر من أخبار أهل البيت :.

نعم ، لم يكن بالأزل القضاء ببعض معانيه كالخلق والإعلام والتكليف ، ومجرّد قولنا بعدم زيادة صفاته تعالى على ذاته لا يستلزم عدم علمه في الأزل بالأشياء ، كيف؟! وعلمه عين ذاته!

وأمّا قوله في تقرير مذهبه ثانيا : « وهل الأولى أن يقال له : من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار »

فهو لا يختصّ بمذهبه ، بل هم يرونه سبحانه موجبا لصفاته.

وأمّا قوله : « يكلّف الناس كيف ما يشاء » إلى تمام ما ذكره في بيان جواز التكليف بما لا يطاق

ففيه : إنّه لو سمعه المشرك لقال : على هذا يكون الإله الذي تدعون إليه غير منزّه عن السفه والجهل ، ولا مأمون الجور ، ولا يؤمنه دعوى عدم الوقوع ، ولا ضمان أن لا يقع.

وأمّا قوله في تقرير مذهب الإمامية : « أو يقال : إنّه يجب عليه أن يكلّف الناس حسب طاقتهم »

فلا ريب أنّه أنسب بالحكمة والعلم والعدل ، وأقوى في رغبة السامع من القول بأنّه يجوز أن يكلّف بما لا يطاق.

وأمّا قوله : « ليس له التصرّف فيهم »

فظاهره كذب صريح ، وقد أراد به أنّه يمتنع عليه أن يكلّف بما لا يطاق ، كما ذكره بعبارته بعدها ، لكن قال فيها : « ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد » وهو كذب صريح ؛ لأنّ التكليف بما لا يطاق ليس من مراده ، وهو ممتنع الفعل والإرادة بالغير ، أعني الحكمة والعدل.

٣٩٩

وأمّا قوله في تقرير مذهبه ثالثا : « وهل الأولى أن يقال : إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته »

ففيه : إنّه لو صرّح بأنّ من جملة ما جرى بتقديره وإرادته أفعال الإنسان ، حسنها وقبيحها ، لعدّه السامع مكابرة لوجدانه ، واستنكر من نسبة القبيح إلى من يريد معرفة ربوبيّته ، وحكم بمناقضة نسبة الأفعال إليه مع الحكم بأنّه لا يرضى بالمعصية ؛ لأنّ فعل المختار يستلزم رضاه

على إنّا أولى بأن نقول : الطاعة برضاه والمعصية بغير رضاه ، فلا وجه لتخصيص الأشاعرة به.

وأمّا ما نسبه إلى الإمامية من أنّهم يقولون : إنّه سبحانه مغلول اليد

فكذب بجرأة عظيمة على جلال الله وقدسه ، فإنّ غلّ اليد إنّما يناسب القصور عن الفعل لا التنزّه عنه ، أو كونه جورا وظلما كعذاب من لا ذنب له والتكليف بما لا يطاق ، فيكون ممتنعا بالغير ، وإن كان سبحانه أقدر كلّ قادر عليه.

فعلى رأي الخصم : إنّه سبحانه لمّا وصف نفسه بأنّه ليس بظلّام للعبيد ، كان معناه أنّه سبحانه مغلول اليد ، ولا موجب لهذا الكذب علينا على الوجه الأشنع إلّا الانتصار لدين الأسلاف.

وأمّا قوله : « فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو فاعله ، ولا يخلق الشرّ ، فللشرّ فواعل غيره » إلى آخره

فهو من الجهل الفاضح ، لأنّا نقول : إنّا فاعلون لأفعالنا خيرا وشرّا ، فلا وجه للتفصيل.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولكن

٤٠٠

له صفات تأخذ معرفتها » إلى آخره

ففيه : مع إنّ القول بعدم المشابهة مشترك ظاهرا بين الفريقين ، لا يجتمع مع القول بأخذ صفاته من صفات البشر ؛ لأنّ أخذ معرفة صفة من صفة يقتضي المشابهة بينهما ويلزمه أن يكون الموصوفان متشابهين ؛ لأنّ اقتضاء الذاتين للأمرين المتشابهين ، دليل على تشابه الذاتين ، فلا معنى لقوله : « لا يشبه الأشياء ».

وأمّا قوله : « أو نقول : إنّه لا صفات له »

فإن أراد به أنّه لا صفات له زائدة على ذاته ، مغايرة له في الوجود ، فهو قولنا ، وهو الحقّ الصريح.

وإن أراد به انتفاء العلم عنه ، أي انكشاف الأشياء له وحضورها عنده ، وانتفاء القدرة وباقي الصفات عنه فهو باطل ، بعد أن تكون ذاته تعالى بنفسها مصدرا لآثار العلم ، والقدرة ، والإرادة ، وغيرها من الصفات ، بلا حاجة منه إلى الصفات المغايرة له ، فلا يشبه مخلوقاته في الحاجة إلى غيرها في صدور الآثار عنها.

نعم ، لمّا كانت ذاته المقدّسة مصدرا لآثار الصفات ، صحّ أن ينتزع له وصف الحيّ القادر العالم إلى غيرها من صفاته ، فهو سبحانه حيّ قادر عالم أزلا وأبدا ، وهذا معنى جليّ لا يحير فيه إلّا من لا إدراك له.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّ الله تعالى كان في الأزل متكلّما بكلام نفسي صفة ذاته »

ففيه : إنّ هذا لا يكفي في البيان ، بل ينبغي أن يضاف إليه أنّه صفة مغايرة لسائر الصفات ، فعنده يحير ذلك الطالب للمعرفة في فهم معناه ولا يجده معقولا ، ويرى الطلب في الأزل والأبد حيث لا مطلوب ،

٤٠١

ولا مطلوب منه من السفه.

وأمّا قوله : « أو يقال : إنّه خلق الكلام وليس هو بمتكلّم ؛ لأنّ خالق الكلام لا يسمّى متكلّما »

فغير صحيح ؛ لصحّة انتزاع وصف المتكلّم له تعالى من خلقه للكلام ، لاختلاف أنحاء تلبّس الذات بالمبدأ ـ كما مرّ ـ على إنّ ذلك مناقشة لفظية في كلمة لم تثبت في الكتاب ، ولم يلزم الحكم بصحّة إطلاقها عليه تعالى ، إلى غير ذلك ممّا عرفته سابقا(١) .

وأمّا قوله : « وإنّه أحدث الأمر والنهي بلا تقدير وإرادة سابقة »

فكذب ظاهر ؛ لأنّا لا ننكر التقدير والإرادة في السابق ، وقولنا بعدم زيادة صفاته تعالى لا يستدعي عدم الإرادة الأزلية المنتزعة من ذاته تعالى ، كالعلم والقدرة والحياة الأزليّات ، وإنّما يتأخّر المراد لوقته ، كما هو كذلك على قولهم.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى مرئي يوم القيامة » إلى قوله : « ولكن هذه الرؤية بلا كيفية ، كما سترى وتعلم »

ففيه : إنّه يستلزم إنكار السامع من وجهين :

الأوّل : إنّه تعالى لو كان صالحا لتعلّق الرؤية به ، فلم لا يرى في الدنيا ، والرؤية فيها أولى ، ليحصل اليقين به وجدانا ، فيطلبها السامع حينئذ فيقع القائل في الحيرة.

الثاني : إنّه لا يتصوّر معنى معقولا للرؤية بلا كيفية ، فينفر المتحيّر عن الدين المشتمل على ما لا يعقل ، فيقع بدل ما أرادوا من الشغف في

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر ١ في الصفحة ٢٢٩ من هذا الجزء.

٤٠٢

العبادة النفرة عنها وعن أصل الدين ، ويعدّ وعدهم في الرؤية غير المعقولة مسخرة ؛ وكاف في شغفه في العبادة أن يعرف ما يستحقّ بها من الثواب الجزيل والقرب من رحمة ربّه الكريم.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّ أنبياء الله مكرّمون معصومون من الكذب والكبائر »

ففيه :

أوّلا : إنّه لا معنى للعصمة عن الكذب في دعوى الرسالة كما هو مراده ، وقد سبق.

وثانيا : إنّهم لا ينزّهون الأنبياء عن الكبائر قبل النبوّة ، وبعضهم لا ينزّههم حتّى عن الكفر قبلها! وأمّا بعد النبوّة فلا ينزّهونهم عن الكبائر سهوا ، بل عمدا عند بعضهم ، كما ستسمع إن شاء الله تعالى.

وأمّا قوله : « ولكنّهم بشر لا يأمنون من إمكان وقوع الصغائر »

ففيه : إنّ هذا موجب للنفرة منهم ؛ لأنّ من جاء لتأسيس شرع أو تقوية شرع سابق ، لا يحسن أن يخالفه ، ولا يكون مع المخالفة محلّا للوثوق والاتّباع.

فكيف يسكن إليه الحائر وقد قرعوا سمعه ـ قبل الإيمان به ـ بأنّه يفعل المعاصي ويخالف ما جاء به؟!

ولا يخفى أنّ لفظ « الإمكان » في كلامه فضلة لا محلّ لها!

وأمّا قوله : « فلا تيأس أنت من عفو الله وكرمه ، إن صدر منك ذنب »

ففيه : إنّ هذا قبل السؤال إغراء بالمعصية ودعوة إليها!

وقوله : « فإنّهم أسوة الناس ، ويمكن أن يقع منهم الذنب »

٤٠٣

متناقض المفاد ؛ لأنّ الأسوة هو المتّبع ، ومن يقع منه الذنب يحرم اتّباعه ، مع إنّ العاصي لا يكون أسوة حسنة.

وأمّا قوله في تقرير مذهب الإمامية ، أنّ : « الأنبياء كالملائكة ، يستحيل عليهم الذنب »

فهو افتراء عليهم ؛ لأنّ العصمة عندهم عن الذنب لا تنافي القدرة عليه ، وإلّا لم يصحّ التكليف ؛ على أنّه منقوض بالعصمة عن الكبائر عندهم ، فإنّهم يقولون بها كما زعم.

وأمّا ما ذكره من أنّه : « إذا سمع المتحيّر بشيء من ذنوب الأنبياء ، كما جاء في القرآن : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى )(١) ، يتردّد في نبوّة آدم »

ففيه : إنّه إذا تردّد قيل له : إنّ المراد بالمعصية ترك الأولى(٢) ، وإرادة خلاف الظاهر غير عزيزة في كلام العرب ، وإلّا لم يمكن أن يذكر له أنّ الله ليس بجسم ؛ لأنّه يتردّد في ربوبيّته إذا سمع قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى )(٣) ، ونحوه.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّ رسول الله ٩ لمّا بعث إلى الناس تابعه جماعة من أصحابه » إلى آخره

ففيه : إنّ هذا خارج عمّا نحن بصدده ؛ لأنّ الكلام في ما هو أقرب إلى العقل المتحيّر من الأمور العقليّة ، لا في الأمور التاريخية التي تتبع

__________________

(١) سورة طه ٢٠ : ١٢١.

(٢) انظر : تنزيه الأنبياء ـ للشريف المرتضى ـ : ٢٥ ، عصمة الأنبياء ـ للفخر الرازي ـ : ٢٩ ـ ٣٠.

(٣) سورة طه ٢٠ : ٥.

٤٠٤

واقعها وتحتاج إلى السبر والاطّلاع ، فالذي ينبغي أن يذكر في مسألة الإمامة ، أنّه :

هل الأولى أن يقال له : إنّ أئمّتنا معصومون مطهّرون من الذنوب ، عالمون بكلّ ما جاء به النبيّ من عند الله ، حافظون لكلّ حكم أراده الله ، منصوص عليهم كأوصياء الأنبياء ، قادرون على سياسة الأمّة على حسب القانون الإلهي ، لا يخطئون ولا يجهلون

أو يقال له : إنّ أئمّتنا ممّن يختارهم الأمّة ، ولو واحد ، حتّى إنّ النبيّ ٦ ترك أمّته سدى ، وأوكل الأمر إلى اختيارهم مع قرب عهدهم بالكفر ، وإن أدّى الحال إلى اختيار مثل : معاوية ، ويزيد ، وعبد الملك ، والوليد ، والمنصور ، والرشيد ، وأشباههم من ملوك الجور والضلال والجهل والفساد ، فهم أئمّتنا ويجب علينا اتّباعهم وتعظيمهم؟!

ولو سلّم أنّ للأمور التاريخية دخلا في ما نحن فيه ، بلحاظ أنّ منها ما يستقرّ به العقل ، ومنها ما يستبعده ، فاللازم أن نذكر في مذهب الإمامية كما ذكر في مذهبه شيئا من التفصيل

فنقول :

لمّا بعث الله تعالى رسوله ٦ وصدع بأمره ، تبعه الناس اختيارا واضطرارا ، وكان فيمن صحبه أناس أخبرهم الرهبان والكهنة بعلوّ أمره ، وبعد صيته ، فصحبوه طلبا للدنيا ، وصحبه آخرون للخوف ، ولكثير منهم ترات(١) عند النبيّ ٦ وابن عمّه ووزيره ، فلمّا أراد الله تعالى

__________________

(١) التّرات ، جمع التّرة : وهي الثأر ؛ انظر : لسان العرب ٥ / ٢٧ ـ ٢٨ مادّة « ذحل » وج ١٥ / ٢٠٥ مادّة « وتر ».

٤٠٥

قبض نبيّه ٦ إليه أوصى ابن عمّه ـ المعدود أخاه ونفسه بأمر الله ـ كما هي عادة الأنبياء وأهل الولاية.

ولمّا قبضه الله إليه وجد أولئك المتصنّعون فرصة الأطماع والثارات ، واغتنم بعضهم مشغولية الوصي بجهاز النبيّ ٦ فبادروا لعقد البيعة لواحد منهم ، وأعانهم أهل المكر والخداع ، واتّبعهم الرعاع!

فكان الأمر كما قال تعالى منكرا عليهم : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ )(١) ، وكما أخبر رسول الله ٦ أنّهم يرتدّون على أدبارهم القهقرى(٢) ، وأنّه يكون في هذه الأمّة مثل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل(٣) ، الذي من جملته مخالفة أخيه وإرادة قتله ، ولم يبق مع وصيّه إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )(٤) .

فلمّا تمّ الأمر لأولئك القوم وقد كانوا سمعوا من النبيّ ٦ وقوع الفتح بعده لبلاد كسرى وقيصر ، والنفس أمّارة بالإمارة ، ساروا لفتح تلك البلاد ، ووقع الفتح على أيديهم ، فساسوا البلاد على حسب أهوائهم ، وغيّروا الأحكام بآرائهم ، واستأثر ثالثهم بالفيء حتّى كبت به بطنته ، ولو تركوا الأمر لأهله لعمّ الإسلام والعدل وفتحوا الدنيا بأسرها.

فهل ترى أنّ هذا التاريخ أقرب إلى الاعتبار ، أو التأريخ الذي ذكره الخصم؟!

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤.

(٢) انظر مثلا : صحيح البخاري ٨ / ٢١٦ ـ ٢١٧ ح ١٦٤ ـ ١٦٦.

(٣) انظر : المستدرك على الصحيحين ١ / ٢١٨ ح ٤٤٤ ، تاريخ دمشق ١٣ / ٩٨ ، مختصر تاريخ دمشق ٦ / ٣٣٧ ، كنز العمّال ١ / ٢١١ ح ١٠٦٠.

(٤) سورة يوسف ١٢ : ١٠٣.

٤٠٦

وأمّا ما زعمه من أنّ الأخذ من أمير المؤمنين ٧ لا يختصّ به الإمامية ؛ فالحاكم فيه هو الإنصاف ، كيف؟! وقد خالفه عامّة السنّة بكلّ ما قدروا عليه من أصول الدين وفروعه ، ونبذوه وراء ظهورهم ، ورجعوا إلى من عرفوه بخلافه وانحرافه عنه وعن أبنائه الطاهرين!

وأمّا ما زعمه من أنّهم أخذوا أيضا العقائد من الخلفاء وأكابر الصحابة ؛ فنحن لم نسمع لمن عناهم شيئا من المعارف ، ولم نعلم أنّ النبيّ ٦ شهد لأحد منهم بالعلم والاجتهاد والأمانة! ولكن روى لهم بعض أوليائهم شيئا من ذلك كذبا على النبيّ ٦(١)

وإنّما قال رسول الله ٦ : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها »(٢) ،

__________________

(١) انظر مثلا : الموضوعات ـ لابن الجوزي ـ ١ / ٣٠٣ ـ ٣٣٥.

(٢) ورد هذا الحديث الصحيح في كثير من كتب الجمهور ، فانظر مثلا :

معرفة الرجال ـ ليحيى بن معين ـ ١ / ٧٩ رقم ٢٣١ وج ٢ / ٢٤٢ رقم ٨٣١ و ٨٣٢ وصحّحه ، سنن الترمذي ٥ / ٥٩٦ ح ٣٧٢٣ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١١ / ٥٤ ح ١١٠٦١ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٣٧ ح ٤٦٣٧ وقال : « هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه » وح ٤٦٣٨ وص ١٣٨ ح ٤٦٣٩ ، حلية الأولياء ١ / ٦٤ ، تاريخ بغداد ٢ / ٣٣٧ وج ٤ / ٣٤٨ وج ٧ / ١٧٣ وج ١١ / ٤٨ ـ ٥٠ ، الاستيعاب ٣ / ١١٠٢ ، مناقب الإمام عليّ عليه السلام ـ للمغازلي ـ : ١١٥ ـ ١٢٠ ح ١٢٠ ـ ١٢٩ ، مصابيح السنّة ٤ / ١٧٤ ح ٤٧٧٢ ، مناقب الإمام عليّ عليه السلام ـ للخوارزمي ـ : ٨٣ ح ٦٩ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٧٨ ـ ٣٨٤ ح ٨٩٧٤ ـ ٨٩٨٧ ، أسد الغابة ٣ / ٥٩٧ ، جامع الأصول ٨ / ٦٥٧ ح ٦٥٠١ ، تذكرة الخواصّ : ٥٢ ، كفاية الطالب : ٢٢٠ ـ ٢٢٢ ، الرياض النضرة ٣ / ١٥٩ ، ذخائر العقبى : ١٤١ ـ ١٤٢ ، مختصر تاريخ دمشق ١٨ / ١٦ ـ ١٧ ، البداية والنهاية ٧ / ٢٨٦ ، مشكاة المصابيح ٣ / ٣٥٧ ح ٦٠٩٦ ، مجمع الزوائد ٩ / ١١٤ ، لسان الميزان ١ / ٤٣٢ رقم ١٣٤٢ ، الجامع الصغير ـ للسيوطي ـ ١ / ١٦١ ح ٢٧٠٤ و ٢٧٠٥ ، جامع الأحاديث ـ للسيوطي ـ ٣ / ٢٨٢ ح ٨٦٤٩ ، تاريخ الخلفاء : ٢٠٢ ، كنز العمّال ١١ / ٦٠٠ ح ٣٢٨٨٩ و ٣٢٨٩٠ وص

٤٠٧

ولا تؤتى المدينة إلّا من بابها ، فمن أتاها من غيره فهو سارق.

وأمّا ما ادّعاه من أنّا نمزج ما ننقله بألف كذبة ، وأنّهم ينقلون بالأسانيد الصحيحة ؛ فيكفي المنصف في ردّه ما ذكرناه في مقدّمة الكتاب.

والحمد لله الذي جعلنا ممّن يأخذ عن نبيّه وباب مدينة علمه ، وجعلنا ممّن تمسّك بالثقلين ، ونسأله جوارهم في الدارين.

* * *

__________________

٦١٤ ح ٣٢٩٧٨ و ٣٢٩٧٩ وج ١٣ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ح ٣٦٤٦٣ ، إتحاف السادة المتّقين ٦ / ٢٤٤.

وقد صنّف الحافظ أحمد بن محمّد بن الصدّيق الغماري الحسني كتاب « فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم علي » جمع فيه طرقه ، وسلك فيه مسلكا مبتكرا أثبت فيه صحّة الحديث بتسعة مسالك ، وأبطل جميع الأكاذيب والادّعاءات بعدم صحّة سند الحديث ؛ فراجع.

٤٠٨

إثبات الحسن والقبح العقليّين

قال المصنّف ١(١) :

المطلب الثاني

في إثبات الحسن والقبح العقليّين

ذهب الإمامية ومن تابعهم من المعتزلة إلى أنّ من الأفعال ما هو معلوم الحسن والقبح بضرورة العقل ، كعلمنا بحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضارّ.

فإنّ كلّ عاقل لا يشكّ في ذلك ، وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب ، وإنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.

ومنها : ما هو معلوم بالاكتساب أنّه حسن أو قبيح ، كحسن الصدق الضارّ ، وقبح الكذب النافع.

ومنها : ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو قبحه ، كالعبادات(٢) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٢.

(٢) شرح جمل العلم والعمل : ٨٥ ـ ٨٩ ، تقريب المعارف : ٩٧ ـ ٩٩ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ٨٤ ـ ٨٧ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٦١ وما بعدها ، تجريد الاعتقاد : ١٩٧ ، شرح الأصول الخمسة : ٣٠٢ وما بعدها ، المحيط بالتكليف : ٢٣٤.

٤٠٩

وقالت الأشاعرة : إنّ الحسن والقبح شرعيّان ، ولا يقضي العقل بحسن شيء ولا قبحه ، بل القاضي بذلك هو الشرع ، فما حسّنه فهو حسن ، وما قبّحه فهو قبيح(١) .

* * *

__________________

(١) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٩٨ ـ ٩٩ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٢٨ و ٢٣٤ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٧٠ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٦ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٨١.

٤١٠

وقال الفضل(١) :

قد سبق أنّ الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة(٢) :

الأوّل : صفة الكمال والنقص ، يقال : العلم حسن ، والجهل قبيح ، ولا نزاع في أنّ هذا أمر ثابت للصفات في أنفسها ، وأنّ مدركه العقل ، ولا تعلّق له بالشرع.

الثاني : ملاءمة الغرض ومنافرته ، وقد يعبّر عنهما بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة ، وذلك أيضا عقلي ، أي يدركه العقل ، كالمعنى الأوّل.

الثالث : تعلّق المدح والثواب بالفعل ، عاجلا وآجلا ، والذمّ والعقاب كذلك ، فما تعلّق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمّى حسنا ، وما تعلّق به الذمّ في العاجل والعقاب في الآجل يسمّى قبيحا.

وهذا المعنى الثالث محلّ النزاع ، فهو عند الأشاعرة شرعي ؛ وذلك لأنّ أفعال العباد كلّها ليس شيء منها بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ولا ذمّ فاعله وعقابه ، وإنّما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها.

وعند المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية عقلي ، كما ذكر هذا الرجل.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٤١.

(٢) انظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٨٢ ـ ١٨٣.

٤١١

هذا هو المذهب ، وكثيرا ما يشتبه على الناس أحد المعاني الثلاثة بالآخر ، ويحصل منه الغلط فتحفظ عليه ، وإنّما كرّرنا هذا المبحث وأعدناه في الموضع ليتحفّظ عليه.

* * *

٤١٢

وأقول :

ضاق على القوم طريق الاعتذار ، واتّسع عليهم سبيل الانتقاد ، فأقرّوا بالحسن والقبح العقليّين في الأفعال بالتزامهم بالمعنى الأوّل على إطلاقه وهم لا يشعرون ؛ لأنّ العلم ـ ونحوه ممّا جعلوه صفة ـ هو في الحقيقة من الأفعال ، ولذا يكلّف الإنسان بالعلم ومعرفة الأحكام.

لكن إذا ثبت للإنسان قيل : إنّه صفة له ، وكذا كلّ ما هو من نحوه من الأفعال ؛ كالصدق ، والكذب ، والإحسان ، والإساءة ، والعدل ، والظلم ، ونحوها.

وحينئذ فيكون معنى حسنها : إنّه ممّا ينبغي فعلها ، ويستحقّ فاعلها المدح عند العقلاء ، ومعنى قبحها : إنّها ممّا ينبغي تركها ، ويستحقّ فاعلها الذمّ عند العقلاء.

وأمّا ما ذكروه من المعنى الثاني ، فغير متّجه ؛ لأنّ دعوى أنّ الحسن والقبح عقليّان بهذا المعنى غير صحيحة ، إذ إنّ الملاءمة والمنافرة إنّما يستلزمان الحبّ والبغض ، والتحسين والتقبيح الطبعيّين ، لا الحسن والقبح العقليّين ، كما هو ظاهر.

هذا ، وقد أطلق القوم على ملاءمة الغرض ومنافرته : المصلحة والمفسدة ، والظاهر إرادة المصلحة والمفسدة عند الفاعل باعتبار ميله وعدمه ، ولا يمكن أن يريدوا بهما المصلحة والمفسدة الواقعيّتين ، فإنّه لا يصحّ جعلهما تعبيرا آخر عن الملاءمة والمنافرة.

وأمّا المعنى الثالث ، فإنّ معنى الحسن فيه : إنّه ما يستحقّ فاعله

٤١٣

المدح عند العقلاء ، ومعنى القبيح : ما يستحقّ فاعله الذمّ عند العقلاء ، وهذا هو محلّ النزاع ، فإنّا نثبته ، وهم ينكرونه ، فإدخال كلمة « الثواب والعقاب » في تعريفهما خطأ ظاهر.

فالحقّ أنّ النزاع بيننا وبينهم في أنّ الفعل هل فيه جهة تحسّنه أو تقبّحه عقلا ، أو لا؟ بل يتبع في حسنه وقبحه أمر الشارع ونهيه ، ولا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها ، فما نهي عنه شرعا قبيح ، وما لم ينه عنه حسن ، كالواجب والمندوب ، وكالمباح عند أكثرهم ، وكفعل الله سبحانه ؛ لأنّها جميعا لم ينه عنها شرعا.

وأمّا فعل الصبي فقد قال في « شرح المواقف » : « مختلف فيه »(١) .

وأمّا فعل البهائم فقد قال : « قيل : إنّه لا يوصف بحسن ولا قبح باتّفاق الخصوم »(٢) .

وكيف كان! فقد اختار الأشاعرة الثاني(٣) .

والحقّ عندنا : الأوّل ؛ ضرورة أنّه ـ مع قطع النظر عن الشرع ـ نرى الفرق الواضح بين السجود والتعظيم للملك القهّار ، والسجود والتعظيم لخسيس الأحجار ، وبين الصدق النافع والكذب الضارّ.

وعلى رأي الأشاعرة لا فرق بينهما عقلا ، مع قطع النظر عن الشرع(٤) ، وهو حقيق بالعجب.

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٨١.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٨١.

(٣) شرح المواقف ٨ / ١٨١.

(٤) الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٣٠ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٤ ، شرح المواقف ٨ / ١٨٢.

٤١٤

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

وهو باطل لوجوه

الأوّل : إنّهم أنكروا ما علمه كلّ عاقل من حسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضارّ ، سواء كان هناك شرع أم لا(٢) ، ومنكر الحكم الضروري سوفسطائي.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٣.

(٢) الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ ، المواقف : ٣٢٤ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٤١٥

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ حسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضارّ ؛ إن أريد بهما صفة الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة فلا شكّ أنّهما عقليّان ، كما سبق.

وإن أريد بهما تعلّق المدح والثواب والذمّ والعقاب ، فلا نسلّم أنّه ضروري ، بل هو متوقّف على إعلام الشارع.

وكيف يدرك تعلّق الثواب وهو من الله ، وبالشرع والإعلام من الشارع؟!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٦٣.

٤١٦

وأقول :

قد عرفت أنّ الصدق والكذب فعلان في أنفسهما ، وأنّ الحسن والقبح ثابتان لهما عقلا مع قطع النظر عن لحاظ الوصفيّة والملاءمة والمنافرة ؛ فيتمّ المطلوب.

ولا دخل للثواب والعقاب في محلّ النزاع حتّى يقال : لا دخل للعقل في إدراكهما!

* * *

٤١٧

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

الثاني : لو خيّر العاقل الذي لم يسمع الشرائع ولا علم شيئا من الأحكام ، بل نشأ في بادية خاليا من العقائد كلّها ، بين أن يصدق ويعطى دينارا ، وبين أن يكذب ويعطى دينارا ، ولا ضرر عليه فيهما ، فإنّه يتخيّر الصدق على الكذب.

ولو لا حكم العقل بقبح الكذب وحسن الصدق لما فرّق بينهما ولا اختار(٢) الصدق دائما.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٣.

(٢) في طبعة القاهرة : وما اختار.

٤١٨

وقال الفضل(١) :

قد سبق جواب هذا(٢) ، وأنّ مثل هذا الرجل لو فرضنا أنّه يختار الصدق بحكم عقله ، فإنّه يختاره لكونه صفة كمال ، أو موجب مصلحة.

وهذا لا نزاع في أنّهما عقليّان ، لا أنّه يختاره لكونه موجبا للثواب والعقاب ، وكيف وهو لا يعرف الثواب ولا العقاب؟!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٦٧.

(٢) انظر الصفحة ٤١٦.

٤١٩

وأقول :

قد عرفت ما فيه ممّا سبق(١) ، فلا حاجة إلى الإعادة ، ولا أدري متى كان إيجاب الثواب والعقاب معنى للحسن والقبح العقليّين حتّى يدّعيه الإمامية ، ويكون محلّا للنزاع.

وإنّما نقول في المثال : إنّ الصدق ـ بما هو فعل صادر من الشخص ـ حسن عقلا ، والكذب ـ كذلك ـ قبيح عقلا ، وهم ينكرونه.

ولا يخفى أنّ جعله لاختيار الصدق فرضيا دليل على تكلّفهم في إثبات الحسن والقبح العقليّين بالمعنيين اللذين زعم عدم النزاع بهما.

* * *

__________________

(١) انظر الصفحتين ٤١٣ ـ ٤١٤.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456