دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

دلائل الصدق لنهج الحق13%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147646 / تحميل: 5884
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٥-١
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

حيث إنه كان على حد تعبير الرواة: (في ضيق شديد، ومحنة عظيمة) و (لم يزل مغموماً مكروباً حتى قبض)، و (قبل البيعة، وهو باك حزين) وكان كما يقول المدائني: (إذا رجع يوم الجمعة من الجامع، وقد أصابه العرق والغبار، رفع يديه وقال:((اللهم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت، فعجل لي الساعة)) (١) .

إلى آخر ما هنالك، مما لا يمكن استقصاؤه في مثل هذه العجالة..

وواضح: أن كل ذلك سوف يؤدي إلى عكس النتيجة، التي كان يتوخاها المأمون من البيعة، وخصوصاً إذا ما أردنا الملائمة بين مواقفه هذه، وموقفه في نيشابور، وموقفه في صلاتي العيد في مرو.

الموقف السابع:

إنه كان لا يدع فرصة تمر إلا ويؤكد فيها على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، وأنه لم يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله، بعد أن كانوا قد اغتصبوه منهم، بل وإثبات أن خلافة المأمون ليست صحيحة ولا هي شرعية.

أما ما يتعلق بصحة خلافة المأمون:

فنلاحظ: أنهعليه‌السلام حتى في كيفية البيعة يشير ـ على ما صرح به كثير من المؤرخين ـ إلى أن المأمون، الذي يحتل عنوة مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يجهل حتى كيفية ذلك العقد الذي خوله ـ بنظره ـ أن يكون في ذلك المجلس الخطير، حيث إنهعليه‌السلام : (.. رفع يده، فتلقى بظهرها وجه نفسه، وبطنها وجوههم، فقال له المأمون: إبسط

____________

(١) البحار ج ٤٩ ص ١٤٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥.

٢٨١

يدك للبيعة، فقال له:((إن رسول الله هكذا كان يبايع، فبايعته الناس)) (١) .

ونظير ذلك أيضاً: ما روي من أن المأمون قد أمر الناس: أن يعودوا للبيعة من جديد، عندما أعلمه الإمامعليه‌السلام : بأن كل من كان قد بايعه، قد بايعه بفسخ البيعة إلا الشاب الأخير.. وهاج الناس بسبب ذلك. وعابوا المأمون على عدم معرفته بالعقد الصحيح والكيفية الصحيحة للبيعة وهذه القضية مذكورة في العديد من المصادر أيضاً(٢) .

وأما أن الخلافة حق للإمامعليه‌السلام دون غيره:

فلعله لا يكاد يخفى على من له أدنى اطلاع على حياة الإمامعليه‌السلام ومواقفه وقد تحدثنا آنفاً عن موقفه في نيشابور، وهو في طريقه إلى مرو، وكيف أنهعليه‌السلام جعل نفسه الشريفة والاعتراف بإمامته شرطا لكلمة التوحيد، والدخول في حصن الله الحصين..

وأشرنا أيضاً: إلى أنه قد عدد الأئمة الشرعيين، وهو أحدهم في عديد من المناسبات والمواقف حتى فيما كتبه للمأمون. بل لقد المح إلى ذلك أيضاً بل لقد ذكره صراحة فيما كتبه على حاشية وثيقة العهد بخط يده.

كما أن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا خطاب الإمامعليه‌السلام حينما بويع له بولاية العهد، وهو ما يلي:

____________

(١) راجع: المناقب ج ٤ ص ٣٦٩، ٣٦٤ والبحار ج ٤٩ ص ١٤ ٤. وعلل الشرايع، ومقاتل الطالبيين، ونور الأبصار، ونزهة الجليس، وعيون أخبار الرضا.

(٢) راجع: على سبيل المثال: شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤.

٢٨٢

((.. إن لنا عليكم حقاً برسول الله، ولكم علينا حق به، فإذا أنتم أديتم لنا ذلك وجب علينا الحق لكم..)).

ولم يؤثر عنه في ذلك المجلس غير ذلك.. وهو معروف ومشهور بين أرباب السير والتاريخ..

ومن الواضح: أن اقتصاره على هذه الكلمة في ذلك المجلس الذي يقتضي إيراد خطبة طويلة، يتعرض فيها لمختلف المواضيع، وعلى الأقل لشكر المأمون على ما خصه به من ولاية العهد بعده ـ إن اقتصاره على هذا ـ يعتبر أسلوباً رائعاً لتركيز المفهوم الذي يريده الإمامعليه‌السلام في أذهان الناس، وإعطائهم الانطباع الحقيقي عن البيعة، وعن موقفه منها، ومن جهاز الحكم، في نفس مجلس البيعة، حتى لا يبقى هناك مجال للتكهن بأن: الإمام كان يرغب في هذا الأمر، ثم حدث ما أوجب غضبه وسخطه. وقد يكون له الحق في ذلك وقد لا يكون.

يضاف إلى كل ذلك: أنهعليه‌السلام قال لحميد بن مهران، حاجب المأمون:((.. وأما ذكرك صاحبك ـ يعني المأمون، والمأمون جالس ـ،الذي أجلني، فما أحلَّني إلا المحل الذي أحلَّه ملك مصر ليوسف الصديق عليه‌السلام ، وكانت حالهما ما قد علمت.)) .

كما أنهعليه‌السلام قد قال أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة:((إن من أخذ برسول الله، لحقيق بأن يعطي به)) ، وذلك عندما عرض له المأمون بالمن عليه بأن جعله ولي عهده، وفي غير هذه المناسبة أيضاً.

المأمون يعترف بأحقية آل علي بالأمر:

ولعل من أعظم المواقف الجديرة بالتسجيل هنا موقفةعليه‌السلام مع المأمون، عندما حاول هذا أن يحصل منهعليه‌السلام على اعتراف بأن العباسيين والعلويين سواء بالنسبة لقرباهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك من أجل أن يثبت ـ بزعمه ـ أن له ولبني أبيه حقاً في الخلافة.

فكانت النتيجة: أن نجح الإمامعليه‌السلام في انتزاع اعتراف من المأمون بأن العلويين هم الأقرب.. وتكون النتيجة ـ على حسب منطق المأمون، ومنطق أسلافه كما قدمنا ـ هي: أن العلويين هم الأحق بالخلافة والرياسة، وأنه هو، وآباءه غاصبون، ومعتدون..

٢٨٣

فبينما المأمون والرضاعليه‌السلام يسيران، إذ قال المأمون:

(.. يا أبا الحسن، إني فكرت في شيء، فنتج لي الفكر الصواب فيه: فكرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية.

فقال له أبو الحسن الرضاعليه‌السلام :((إن لهذا الكلام جوابا، إن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت..

فقال له المأمون: إني لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه..

قال له الرضاعليه‌السلام :أنشدك الله يا أمير المؤمنين، لو أن الله تعالى بعث نبيه محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام، يخطب إليك ابنتك، كنت مزوجه إياها؟.

فقال: يا سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!.

فقال له الرضاعليه‌السلام ،أفتراه كان يحل له أن يخطب إلي)) ؟.

قال: فسكت المأمون هنيئة، ثم قال: (أنتم والله، أمس برسول الله رحماً)(١) .

وكانت هذه ضربة قاضية وقاصمة للمأمون. لم يكن قد حسب لها أي حساب. ولم يكن ليتمكن في مقابل ذلك من أي عمل ضد الإمامعليه‌السلام ، بعد أن كان هو الجاني على نفسه، فـ‍ (على نفسها جنت براقش).

____________

(١) كنز الفوائد للكراجكي ص ١٦٦، والفصول المختارة من العيون والمحاسن ص ١٥، ١٦، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٨، ومسند الإمام الرضاعليه‌السلام ج ١ ص ١٠٠.

٢٨٤

وبعد كل ذلك فقد قدمنا قول ابن المعتز:

وأعطاكم المأمون حق خلافة

لـنا حقها، لكنه جاد بالدنيا

وخلاصة الأمر:

إنهعليه‌السلام لم يكن يدخر وسعا في إحباط مسعى المأمون، وتضييع الفرصة عليه، وإفهام الناس أنه مكره على هذا الأمر، مجبر عليه. والتأكيد على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، ولذا فلا يمكن أن يعتبر قبوله بولاية العهد اعترافا بشرعية الخلافة العباسية، أو بشرعية أي تصرف من تصرفاتها. كما أنه إذا كان ذلك حقاً للإمام اغتصبه الغاصبون، واعتدى عليه فيه المعتدون، فليس المأمون حق في أن يعرض لهعليه‌السلام بالمن عليه، بما جعل له من ولاية العهد.

وكذلك ليس للمأمون بعد: أن يدعي العدل والإنصاف، فضلاً عن الإيثار والتضحية في سبيل الآخرين، بعد أن فضح الإمام أهدافه من لعبته تلك، وعرف كل أحد أنها لم تكن شريفة ولا سليمة.

الأكذوبة المفضوحة:

وبعد.. فقد ذكر بعض أهل الأهواء، كابن قتيبة، وابن عبد ربه، واقعة خيالية، غير تلك التي ذكرناها آنفاً وهي:

أن المأمون قال لعلي بن موسى: علام تدعون هذا الأمر؟!.

قال:((بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..)) .

٢٨٥

فقال المأمون: (إن لم تكن إلا القرابة، فقد خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هو أقرب إليه من علي، أو من هو في قعدده. وإن ذهبت إلى قرابة فاطمة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن الأمر بعدها للحسن، والحسين، فقد ابتزهما علي حقهما، وهما حيان، صحيحان، فاستولى على ما لا حق له فيه). فلم يحر علي بن موسى له جواباً(١) .. انتهى.

وهي واقعة مزيفة ومجعولة من أجل التغطية على الواقعة الحقيقية، التي جرت بينهما، والتي تنسجم مع كل الأحداث والوقائع، وجميع الدلائل والشواهد متظافرة على صحتها، ألا وهي تلك التي قدمناها آنفاً..

والدليل على زيف هذه الرواية: أنها لا توافق نظرة أئمة أهل البيت ورأيهم في الخلافة ومستحقها، لأنهم يرون ـ كما تدل عليه تصريحاتهم المتكررة، وأقوالهم المتضافرة ـ: أن منصب الإمامة لا يكون إلا بالنص.

وأما الاستدلال بالقرابة، فقد قلنا في الفصل الأول من هذا الكتاب: أن أول من التجأ إليه أبو بكر، ثم عمر. ثم الأمويون، فالعباسيون، ثم أكثر، إن لم يكن كل مطالب بالخلافة.. وأنه إذا كان في كلام الأئمة وشيعتهم ما يفهم منه ذلك، فإنما اقتضاه الحجاج مع خصومهم.

وبعد.. فهل يخفى على الإمامعليه‌السلام ضعف ووهن هذه الحجة، مع أننا نراه يصرح في أكثر من مناسبة بأن القرابة لا تجدي ولا تفيد ـ كما سنشير إليه ـ وأنه لا بد في الإمام من جدارة وأهلية في مختلف الجهات، وعلى جميع المستويات.

ولقد كان على المأمون ـ لو صحت هذه الرواية ـ أن يغتنمها فرصة، ويعلنها على الملأ، ويشهر بالإمامعليه‌السلام ، ليسقطه ـ ومن ثم.. يسقط العلويين كلهم من أعين الناس.. ويسلبهم وإلى الأبد السلاح الذي كانوا يحاربونه ويحاربون آباءه به.. مع أن ذلك هو ما كان يبحث عنه المأمون ليل نهار، ويدبر المكايد، ويعمل الحيل، من أجله، وفي سبيله..

____________

(١) راجع: عيون الأخبار ج ٢ ص ١٤٠، ١٤١، طبع مصر سنة ١٣٤٦، والعقد الفريد ج ٥ ص ١٠٢، و ج ٢ ص ٣٨٦، طبع دار الكتاب العربي..

٢٨٦

وعدا عن ذلك كله. كيف يمكن أن تنسجم هذه الرواية مع مواقف الإمام، وتصريحاته المتكررة حول مسألة الإمامة، وبأي شيء تثبت، وحول أوصاف الإمام ووظائفه، والتي لو أردنا استقصاءها لاحتجنا إلى عشرات الصفحات؟!.

وكذلك.. مع احتجاج الإمامعليه‌السلام على العلماء والمأمون في أكثر من مناسبة بالنص، وأيضاً مع موقفهعليه‌السلام في نيشابور؟!

اللهم إلا أن يكون أعلم أهل الأرض ـ باعتراف المأمون قد نسي حجته، وحجة آبائه، وكل من ينتسب إليهم، ويذهب مذهبهم..

تلك الحجة ـ التي عرفوا وكل المتشيعين لهم بها على مدى الزمان ـ نسيها ـ في تلك اللحظة فقط، لأن المأمون هو الذي يسأل، والرضا هو الذي يجيب!!.

وبعد، فهل يستطيع أن يشك في ذلك أحد.. وهو يرى رسالة الرضا، التي كتبها للمأمون تلبية لطلبه، وجمع له بها أصول الإسلام، والتي صرح فيها بالنص على عليعليه‌السلام . بل وذكر فيها الأئمة الاثني عشر، الذين نص عليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلهم بأسمائهم، حتى من لم يكن قد ولد بعد منهم؟!. وهذه الرسالة مشهورة وقد أوردها واستشهد بها غير واحد من المؤرخين والباحثين(١) .

وفيها يصف الإمامعليه‌السلام أئمة الهدى أدق وصف، وأروعه، وأوفاه.

____________

(١) وكان آخرهم الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه: نظرية الإمامة ص ٣٨٨، وقال: إنها من المخطوطات الموجودة في دار الكتب المصرية تحت رقم ١٢٥٨.

٢٨٧

بل إن المأمون نفسه كان يرى وجوب نصب الإمام من قبل الله كالنبي، كما يتضح من مناظرته الشهيرة لعلماء وقته، التي أوردها غير واحد من كتب التاريخ، والأدب، والرواية، وذكرها في العقد الفريد أيضاً قبل ذكره لهذه الرواية المفتعلة. وإن كان قد تصرف فيها (أي في المناظرة)، فحرف فيها، وحذف منها الكثير.. وأشار إليها أيضاً أحمد أمين في ضحى الإسلام ج ٢ ص ٥٧، وغيره..

فلماذا لا يلزمه الإمام بمقالته التي كان يلزم نفسه بها؟!. أم يمكن أن لا يكون مطلعاً على مقالة المأمون هذه، التي سار ذكرها في الآفاق؟!.

ويحسن بنا هنا أن ننبه إلى أن الاختلاف في نقل مثل هذه القضايا، حسب أهواء الناقلين لم يكن بالأمر الذي يخفى على أحد.

فقد رأينا: أن جواب أحمد بن حنبل في المحنة بخلق القرآن، يرويه كل من الشيعة، والمعتزلة، وأهل السنة بصور ثلاثة مختلفة، ومناظرة هشام لأبي الهذيل العلاف يروي المعتزلة أن الغلبة فيها كانت لأبي الهذيل، بينما يروي الشيعة، ويؤيدهم المسعودي(١) أن الغلبة فيها كانت لهشام. إلى غير ذلك من عشرات القضايا بل المئات..

ولكن الأمر هنا مختلف تماماً، إذ إن مختلق الرواية هنا قد غفل عن أن روايته المفتعلة تتنافى كلياً مع نظرة الأئمةعليهم‌السلام ورأيهم في الخلافة ومستحقها.. ويبدو أنه لم يكن مطلعا على الآراء المختلفة الشائعة آنذاك في مسألة الإمامة، ولذا نراه ينسب إلى الإمامعليه‌السلام رأياً لا يقول به، ولا يقره. وإنما هو يناسب رأي الشيعة الزيدية القائلين بإمامة ولد عليعليه‌السلام من فاطمة، بشرط أن يكون بليغاً، شجاعاً، عادلاً مجتهداً،

____________

(١) مروج الذهب ج ٤ ص ٢١.

٢٨٨

يخرج بالسيف ضد كل ظلم وانحراف إلخ.. وبأن إمامة عليعليه‌السلام قد ثبتت بالوصف والإشارة إليه، لا بالتصريح والنص عليه(١) .

كما أنه غفل عن أن الذين كانوا يحتجون بالقرابة والإرث هم العباسيون، الذين كانوا إلى عصر المهدي ـ كما قدمنا ـ يدعون انتقال الخلافة إليهم عن طريق عليعليه‌السلام ، ومحمد بن الحنفية، وفي عصر المهدي عدلوا عن ذلك، لما يتضمنه من اعتراف للعلويين، ورأوا أن يجعلوا إمامتهم عن طريق العباس وأبنائه.. وحاولوا تقوية هذه النحلة بكل وسيلة، وبذلوا من أجلها الأموال الطائلة للعلماء والفقهاء، والشعراء.

ولم يكن لتخفى على أحد أبيات مروان بن أبي حفصة المتقدمة:

هل تطمسون من السماء نجومها

أو تــسـتـرون إلـــخ..

ولا قوله:

أنى يكون وليس ذلك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

وقد أجابه جعفر بن عفان المعاصر له. على هذا البيت بقوله:

مـا لـلطليق ولـلتراث وإنـما

صلى الطليق مخافة الصمصام(٢)

وكيف يخفى كل ذلك على الإمامعليه‌السلام ، خصوصاً بعد أن كان الجدل في هذا الموضوع قائماً على قدم وساق في زمن هارون، بل وفي زمن المأمون كما يظهر من قول ابن شكلة المتقدم:

فضجت أن نشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث الـنبي

____________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ١٩٧ ر ١٩٨.

(٢) مقتل الحسين للمقرم ص ١١٩، والأغاني ج ٩ ص ٤٥، طبع ساسي، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠١، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٣١٣، وقاموس الرجال ج ٢ ص ٣٩٣، وغير ذلك.

٢٨٩

ومن قول القاسم بن يوسف وهي قصيدة طويلة فلتراجع(١) .

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه.. وبعد كل تلك الوقائع الشهيرة التي حدثت قبل خلافة المأمون، وأثناءها بالنسبة لدعوى العباسيين هذه، فلا يمكن أبداً أن تجري المحاورة بين أعلم أهل الأرض (باعتراف المأمون) وبين المأمون أعلم خلفاء بني العباس على هذا النحو من السذاجة والبساطة. اللهم إلا إذا كان أعلم أهل الأرض، لا يرى ولا يسمع، أو أنه كان يعيش في غير هذا العالم، أو في سرداب تحت هذا الأرض. واللهم إلا إذا كان القائل: ما للطليق وللتراث إلخ.. أعلم بالحجة للدعوى التي يدعيها أعلم أهل الأرض من مدعي الدعوى نفسه.. وهل لم يكن يحسن أن يقول للمأمون ـ لو سلم أنه احتج بالقرابة ـ: إن قرابة العباس لا تفيده، بعد أن تخلى عنها يوم الإنذار. وبعد أن كان من الظالمين، الذين حرمهم الله من عهده. حيث قال تعالى:( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) . وبعد أن ترك الهجرة معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وبعد أن حارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر. وبعد جهله بالدين وأحكامه، ولقد قال سبحانه: ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدّي إِلّا أَن يُهْدَى‏ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.. ) (٢) . إلى آخر ما هنالك.

وأخيراً.. وبعد أن لم يبق مجال للشك في زيف هذه الرواية وافتعالها. فإننا نرى أن لنا كل الحق في أن نسجل هنا: أنه لم يخف علينا، ونأمل أن لا يخفى على أحد سر ذكر ابن عبد ربه هذه الرواية المزيفة المفتعلة، بعد ذكره لرواية احتجاج المأمون على علماء وقته في أفضلية عليعليه‌السلام على جميع الخلق، والتي تصرف فيها ما شاء له حقده ونصبه، الحذف والتحريف، فإنه ـ على ما يبدو ـ ليس إلا من أجل التشويش على تلك، وإبطال كل أثر لها، ظلماً للحقيقة، وتجنيا على التاريخ.

____________

(١) الأوراق للصولي ص ١٨٠، وقد تقدم شطر منها في بعض فصول هذا الكتاب.

(٢) يونس آية ٣٥.

٢٩٠

الموقف الثامن:

وأعتقد أنه أعظمها أثراً، وأعمها نفعاً، وهو ما كتبهعليه‌السلام على وثيقة العهد، التي كتبها المأمون بخط يده..

فإننا إذا ما رجعنا إليه نجد: أن كل سطر فيه، بل كل كلمة لها مغزى عميق، ودلالة هامة، تلقي لنا ضوءاً كاشفاً على خطتهعليه‌السلام في مواجهة مؤامرات المأمون، وخططه، وأهدافه.

فلقد كان يعلم: أن هذه الوثيقة ستقرأ في مختلف الأقطار الإسلامية، ولذلك نراهعليه‌السلام قد اتخذها وسيلة لإبلاغ الأمة الحقيقة كل الحقيقة، وتعريفها بواقع نوايا وأهداف المأمون. وأيضاً تأكيد حق العلويين، وكشف المؤامرة التي تحاك ضدهم..

فبينما نراهعليه‌السلام يبدأ كلامه ـ فيما كتبه في الوثيقة المشار إليها ـ بداية غير طبيعية، ولا مألوفة في مناسبات كهذه حيث قال:((الحمد لله الفعال لما يشاء، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.. . لا يأتي بعدها بما يناسب المقام، ويتلائم مع سياق الكلام، من تمجيد الله، والثناء عليه على أن ألهم أمير المؤمنين! هذا الأمر.. بل نراه يأتي بعبارة غريبة، وغير متوقعة، ألا وهي قوله:يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور..)) الخ.

أفلا توافقني ـ قارئي العزيز ـ على أنهعليه‌السلام يريد أن يوجه أنظار الناس إلى أن الأمر ينطوي على خيانة مبيتة، وأن هناك صدوراً تخفي غير ما تظهر؟!..

ثم.. ألا توافقني على أن هذه العبارة تعريض بالمأمون نفسه، من أجل تعريف الناس بحقيقة نواياه وأهدافه؟!. هذا مع علمهعليه‌السلام بأن هذه الوثيقة سوف ترسل إلى مختلف أقطار العالم الإسلامي، لتقرأ على الملأ العام، كما حدث ذلك بالفعل.

وإذا ما وصلنا إلى فقرة أخرى، مما كتبهعليه‌السلام على وثيقة العهد، فإننا نراه يقول:((.. وصلاته على نبيه محمد خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين..)) فإننا إذا لاحظنا: أنه لم تجر العادة في الوثائق الرسمية في ذلك العهد بعطف (الآل) على (محمد)، ثم توصيفهم ب‍ـ (الطيبين الطاهرين) ـ نعرف أن هذا ليس إلا ضربة أخرى للخليفة المأمون، وهجوم آخر عليه، حيث إنه يتضمن التأكيد على طهارة أصل الإمامعليه‌السلام ، وسنخه، ومحتده، وعلى أن الآل قد اختصوا بهذه المزية، وليس لكل من سواهم. حتى الخليفة المأمون، مثل هذا الشرف، ولا مثل تلك المزية..

٢٩١

ثم نراهعليه‌السلام يعقب ذلك بقوله:((.. إن أمير المؤمنين.. عرف من حقنا ما جهله غيره..)) .

فما هو ذلك الحق الذي جهله الذي كلهم، حتى بنو العباس، فيما عدا المأمون؟!.

فهل يمكن أن تكون الأمة الإسلامية قد أنكرت أنهمعليهم‌السلام أبناء بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!. أليس ذلك منهعليه‌السلام إعلان للأمة بأسرها بأن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، وأنه لم يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله، بعد أن كان قد اغتصبه منهم الغاصبون، واعتدى عليهم به المعتدون؟!. بل أليس ذلك ضربة للمأمون نفسه، وأن خلافته ليست شرعية، ولا صحيحة، لأنه كآبائه مغتصب لحق غيره؟!.

نعم.. إن الحق الذي جهله الناس هو حق الطاعة. ولم يكن الإمامعليه‌السلام يتقي المأمون، ولا غيره من رجال الدولة، في إظهار هذا الحق، وبيان أن خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كانت في عليعليه‌السلام ، وولده الطاهرين، وأنه يجب على الناس كلهم طاعتهم، والانقياد لهم. وقد أعلنعليه‌السلام ذلك في نيشابور كما قدمنا.. ورأيناه يصرح به، ويطلب من الناس أن يعلم شاهدهم غائبهم به، في محضر من رجال الدولة في خراسان.

ففي الكافي: بسنده عن محمد بن زيد الطبري قال: كنت قائماً على رأس الرضاعليه‌السلام بخراسان، وعنده عدة من بني هاشم، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي، فقال:((يا إسحاق، بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم: أن الناس عبيد لنا!. لا وقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٩٢

ما قلته قط، ولا سمعته من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله، ولكنني أقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، موال لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب)) (١) .

وستأتي الإشارة إلى هذه الرواية مرة أخرى في الفصل الآتي.. وليتأمل في عبارته الأخيرة، فليبلغ إلخ.. وليلاحظ أيضاً أنه اختار لتوجيه خطابه: إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي!!.

وفي الكافي أيضاً بسنده عن معمر بن خلاد قال: سأل رجل فارسي أبا الحسنعليه‌السلام ، فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال:((نعم . قال: مثل طاعة علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؟. قال:نعم)) (٢) .

والمراد بأبي الحسن هو الرضاعليه‌السلام ، لأنه هو الذي كان في خراسان، وهو الذي يروي عنه معمر بن خلاد كثيراً.. ومثل ذلك كثير لا مجال لتتبعه.

____________

(١) الكافي ص ١٨٧، وأمالي المفيد ص ١٤٨ ط النجف وأمالي الطوسي ج ١ ص ٢١، ومسند الإمام الرضاعليه‌السلام ج ١ ص ٩٦.

(٢) الكافي: ج ١ ص ١٨٧، والاختصاص ٢٧٨، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ١٠٣ عنه.

٢٩٣

ويقولعليه‌السلام في وثيقة العهد، بعد تلك العبارة مباشرة:((.. فوصل أرحاماً قطعت، وآمن أنفساً فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذا افتقرت)) .

وهو كما ترى.. في حين يشكر المأمون، ويكتب تحت اسمه:((بل جعلت فداك)) ـ حسب رواية الإربلي فقط ـ، لا ينسى أن يشوب ذلك بالإزراء ضمناً على آبائه العباسيين. ويذكر بما اقترفوه في حق العلويين، حيث كانوا يلاحقونهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبونهم في كل سهل وجبل، كما قدمنا..

هذا.. ولا بأس أن نقف قليلاً عند قوله:((وإنه جعل إلي عهده، والإمرة الكبرى ـ إن بقيت ـ بعده)) .

فإننا لا نكاد نتردد في أنهعليه‌السلام يشير بقوله:((إن بقيت بعده)) إلى ذلك الفارق الكبير بالسن بينه عليه‌السلام ، وبين المأمون، وأنه يتعمد توجيه الأنظار إلى عدم طبيعية هذا الأمر، وإلى عدم رغبته فيه.

وإنه كان يريد أن يعرف الناس بأنه يتوقع في أن لا يدخر المأمون وسعاً من أجل التخلص منه، ولو بالاعتداء على حياتهعليه‌السلام ، فيما لو سنحت له الفرصة لذلك، بعد أن يكون قد حقق كل ما كان يريد تحقيقه، ووصل إلى ما كان يطمح إلى الوصول إليه، حيث لا بد حينئذ أن (يحل العقدة التي أمر الله بشدها). ولا بد أيضاً أن تنكشف خيانته للملأ، ويظهر ما يخفيه في صدره، على حد تعبيرهعليه‌السلام .. وإلا فما هو الداعي لهعليه‌السلام لإقحام هذا الشرط ـ إن بقيت ـ في أثناء مثل هذا الكلام.

وإننا إذا نظرنا بعمق إلى قوله بعد ذلك:((فمن حل عقدة أمر الله بشدها، وفصم عروة أحب الله إيثاقها.. )) .. وتأملنا قوله السابق:

((يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور . وقوله اللاحق:لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه..)) فلسوف نعرف: أنهعليه‌السلام يعرض هنا بالمأمون نفسه، ويقول الناس جميعاً: إنه لا يشك في أن المأمون سوف ينقض العهد، ويحل العقدة.

ويلاحظ هنا أيضاً: أنه وصف هذه العقدة بأنها مما أمر الله بشده، وأحب إيثاقه.. وهذا لعله لا يختلف عما كانعليه‌السلام يردده، ويؤكد عليه كثيراً، ونص عليه آنفاً، وهو أن المأمون لم يجعل له إلا الحق الذي جهله غيره، واغتصبه هو وآباؤه، منهعليه‌السلام ومن آبائه..

٢٩٤

وإذا ما وصلنا إلى قولهعليه‌السلام :((.. بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض بعدها على العزمات، خوفاً من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية ..)) الخ.

فإننا نراه كأنه يستشهد لإطاعته المأمون، وعدم إصراره على الرفض الموجب لتعريض نفسه، والعلويين، وشيعته لهلاك، والاضطهاد ـ يستشهد لذلك ـ بما جرى لسالفه: وهو أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، حيث صبر على الفلتات(١) التي كانت من خلفاء عصره، ولم يعترض عليه‌السلام على ما كانوا قد عقدوا العزم عليه، من المضي قدما في مخططاتهم، التي كانت تستهدف إبعاده عن مسرح السياسة، وتكريس الأمر الواقع، وتثبيته، لأنه يخدم مصالحهم، ويرضي مطامحهم.

ـ لم يعترض عليعليه‌السلام على ذلك ـ لأنه خاف من شتات الدين،

____________

(١) ومن المحتمل جداً أنهعليه‌السلام : يشير إلى تعبير عمر((كانت بيعة أبي بكر فلتة))إلخ ـ ولكنه عمم الكلام بحيث يشمل غير بيعة أبي بكر أيضاً، باعتبار أن بيعة عمر وعثمان، ومعاوية وغيرها، كانت أيضاً من الفلتات، أو باعتبار تفرعها على بيعة أبي بكر التي كانت فلتة..

٢٩٥

واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية.. وهذا مما قد نص عليه عليعليه‌السلام نفسه في أكثر من مورد، وأكثر من مناسبة، قالعليه‌السلام :((.. وأيم الله، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر، ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه.. ، ويقول:إن الله لما قبض نبيه، استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أدنى خلف..)) (١) .

وهكذا تمام كان الحال بالنسبة للإمام الرضاعليه‌السلام ، حفيد عليعليه‌السلام ، ووارثه، الذي كان زمانه لا يبعد حال الناس فيه على حال الجاهلية، فإنه آثر أن يصبر على هذه المحنة، خوفاً من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، وذلك بتعريض نفسه، وشيعته، والعلويين للهلاك، أو على الأقل للاضطهاد، الأمر الذي سوف تكون له أسوأ النتائج على الدين والأمة، كما قلنا..

وإذا ما قرأنا بعد ذلك قولهعليه‌السلام :((.. وقد جعلت الله على نفسي، ـ إن استرعاني على المسلمين، وقلدني خلافته ـ العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة، بطاعة الله، وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. .. فإن ما يسترعي انتباهنا هو تنصيصه على بني العباس خاصة وأنه سوف يعمل فيهم بطاعة الله، ورسوله..فلا يسفك دماً حراماً، ولا يبيح فرجاً ولا مالاً، إلا ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه.) إلخ.

فإن هذا التنصيص إنما هو في مقابل (الأرحام التي قطعت، وفزعت، وتلفت، وافتقرت..)، من العلويين، على يد بني العباس، الذين فعلوا بهم. أكثر من فعل بني أمية معهم، حسبما قدمنا.

وتعهده والتزامه بأن يعمل في المسلمين عامة. وفي بني العباس خاصة، بطاعة الله، وسنة رسوله.. هو التزام بنفس الخط الذي التزم به عليعليه‌السلام ، وتعهد بانتهاجه. الأمر الذي كان سبباً في إبعاده عن الخلافة في الشورى، واضطلاع عثمان بها. بل كان ذلك هو السبب في إبعاده عنها، بالنسبة لما قبل ذلك أيضاً، وما جرى بعده.

____________

(١) راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٣٠٧، ٣٠٨ وغير ذلك.

٢٩٦

وعليعليه‌السلام هو نفس ذلك الذي استشهد به آنفاً، وبين أنه صبر على الفلتات، ولم يعترض على العزمات خوفاً من شتات الدين إلخ.. والالتزام بخط عليعليه‌السلام لن يرضي المأمون، والعباسيين، والهيئة الحاكمة، ولن يكون في مصلحتهم، حسبما المحنا إليه في فصل: جدية عرض الخلافة..

كما أننا لا نستبعد كثيراً: أنهعليه‌السلام يريد أن ينبه على مدى التفاوت بين المنطلقات لسياسات أهل البيت، ومنطلقات سياسات خصومهم، التي عرفت جانباً منها في القسم الأول من هذا الكتاب.

ومن هنا نعرف السر في قولهعليه‌السلام :((.. وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي..)) فإنه إشارة إلى أنهعليه‌السلام سوف ينطلق في كل نصب وعزل ـ تماماً كالإمام عليعليه‌السلام ـ من مصلحة الأمة، وعلى وفق رضا الله، وتعاليم رسوله. لا من مصالح شخصية، أو اعتبارات سياسية، أو قبلية، أو غير ذلك من الاعتبارات، التي لا يعترف بها الإسلام، ولا يقيم لها وزناً.

وإذا ما قرأنا قولهعليه‌السلام :((.. وإن أحدثت، أو غيرت، أو بدلت، كنت للغير مستحقاً، وللنكال متعرضاً، وأعوذ بالله من سخطه)) إلخ..

فإننا ندرك للتو أنهعليه‌السلام يريد ضرب العقيدة، التي كان قد شجعها الحكام، وروج لها علماء السوء.. من أن الخليفة، بل مطلق الحاكم في منأى ومأمن من أي مؤاخذة، أو عقاب، مهما اقترف من جرائم، وأتاه من موبقات، فهو فوق القانون، ولا يجوز لأحد الخروج، أو الاعتراض عليه، في أي ظرف من الظروف والأحوال، حتى ولو رمى القرآن بالنبل، وقتل ابن بنت رسول الله، فضلاً عما عدا ذلك من الجرائم والموبقات..

والإمام.. الذي يعرف كيف كانت سيرة المأمون، وسائر خلفاء بني العباس، ومن لف لفهم، والتي عرفت فيما تقدم طرفاً منها، والذين كانوا يتمتعون بهذه الحصانة الزائفة.. قد أراد أن يوجه ضربة قاضية لهم جميعا، حتى للمأمون. وأشياعه، وكل من كان الطواغيت والظلمة على شاكلتهم، ويبين لهم. وللملأ أجمع: أن الحاكم حارس للنظام والقانون، ولا يمكن أن يكون فوق النظام والقانون، ولذا فلا يمكن أن يكون في منأى عن العقاب والقصاص، لو ارتكب أي جريمة، أو اقترف أية عظيمة.

٢٩٧

فالمأمون، وآباؤه، وأشياعهم، كانوا يضحون بكل شيء في سبيل أنفسهم، ومصالحهم الشخصية، ويقترفون كل عظيمة في سبيل تدعيم حكمهم، وتقوية سلطانهم.. أما الإمامعليه‌السلام فهو مستعد لأن يقدم نفسه ـ إن اقتضى الأمر ـ للعقاب والنكال، عند صدور أية مخالفة، وحصول أي تجاوز عما يرضي الله تعالى، وعن سنة رسوله.

وبعد كل ما تقدم.. نراه يعبر عن عدم رضاه بهذا الأمر، وعدم تهالكه عليه، لعلمه بعدم تماميته له، ويقول بصريح العبارة:((إنه أمر لا يتم، لأن (.. الجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك))) . كما أن في هذا تنويه مهم منهعليه‌السلام بذكر الركن الثاني من أركان إمامة أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو أن الله تعالى اختصهم بأمور غيبية، وعلوم لدنية، منعها عن سائر الناس، وهذان الكتابان: الجفر، والجامعة، هما من الكتب التي أملاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على علي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكتبها بخط يده، وقد أظهر الأئمةعليهم‌السلام بعض هذه الكتب التي بخط عليعليه‌السلام ، وبإملاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعدة من كبار شيعتهم، واستشهدوا بها في موارد عديدة في الأحكام(١) .

وفي الحقيقة.. إن الإمامعليه‌السلام ، وإن قبل ولاية العهد مكرها من المأمون.. ولكنه يريد بكلامه هذا، واستشهاده بالجفر والجامعة أن يقول له، ولكل من كان على شاكلته بصريح العبارة:((.. قد أنبأنا الله بأخباركم، وسيرى الله عملكم. ورسوله، والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون، ويجزيكم على ظلمكم وبغيكم علينا، وانتهاككم الحرمات منا، ولعبكم بدمائنا وأعراضنا، وأموالنا)) .

ثم نراه يترقى في صراحته، حيث يقول:((.. لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه..)) أي أنه لو لم يقبل بهذا الأمر لتعرض لسخط المأمون.. والكل يعلم ماذا كان يعني سخط أولئك الحكام، الذين كانوا لا يحتاجون إلى أي مبرر لاقترافهم أي جريمة. وإقدامهم على أي عظيمة.

وأخيراً.. ورغم أن المأمون قد تقدم منهعليه‌السلام وطلب منه أن يشهد الله، والحاضرين على نفسه.. نراه يأبى أن يكون المأمون، ولا أي من الحاضرين شاهداً على نفسه، ولا جعل لهم على نفسه سبيلا، لأنه

____________

(١) راجع: كتاب مكاتيب الرسول ج ١ من ص ٥٩ حتى ص ٨٩، فقد أسهب القول حول هذه الكتب، واستشهادات الأئمة بها، وغير ذلك.

٢٩٨

كان يعلم بما كانت تكنه صدورهم. وتضطرم به قلوبهم عليه. بل جعل الله فقط شهيداً عليه، واستعان بالآية الكريمة، التي تقطع الطريق على كل أحد، وتكتفي بالله شهيداً، حيث قال:((وأشهدت الله على نفسي ( وكفى بالله شهيداً ) )) .

وإذا كان لا بد من كلمة:

وإذا كان لا بد في نهاية المطاف من كلمة، فإننا نقول: إن أولئك الذين عاشوا في تلك الفترة، ووقفوا على الظروف والملابسات التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام ـ إن هؤلاء ولا شك ـ كانوا أقدر منا على فهم جميع ما كان يرمي إليه الإمامعليه‌السلام من كل كلمة، كلمة، مما كتبه على وثيقة العهد..

وإذا كان هناك من يرى: أن بعض الفقرات تحتمل غير ما قلناه..

فإننا نرى: أن كون بعض الفقرات الأخرى لا يحتمل غير ما قلنا، وأيضاً بما أن ما ذكرناه هو الذي يساعد على الجو العام. الذي توحي به النصوص التاريخية الكثيرة جداً، والتي قدمنا وسيأتي شطر منها ـ إن ذلك ـ وهو ما يجعلنا نجزم بأن ما فهمناه هو بعض ما كان يرمي إليهعليه‌السلام مما كتبه على وثيقة العهد.

ملاحظات هامة:

إن من الأمور الغريبة حقاً أن نرى نفس الخليفة يكتب وثيقة العهد ـ الطويلة جداً! ـ بخط يده.. وأغرب منه أنه تقدم إلى الإمامعليه‌السلام ، وقال له: (اكتب خطك بقبول هذا العهد. وأشهد الله والحاضرين عليك، بما تعده في حق الله ورعاية المسلمين...)(١) .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة إلى المأمون، وأنه يريد تطويق هذا الموضوع من جميع جهاته، وإن استلزم ذلك كل تلك الأمور، وإلا.. فما هو الداعي لأن يكتب له العهد بخط يده!! ثم أن يتقدم إليه بنفسه!!. ثم ما الداعي لأن يطلب من الإمام ذلك!!.

هذا.. ولا بأس أيضاً بملاحظة تعبير المأمون بـ‍ (قبول)!!. ثم ملاحظة أنه طلب منه أن يكتب هذا القبول ب‍ـ (خط يده)!!. ثم طلب منه أن يشهد الله والحاضرين على نفسه!!.

____________

(١) مآثر الإنافة ج ٢ ص ٣٣٢.

٢٩٩

حقا.. إنها للعبقرية السياسية:

وعلى كل حال.. فلا شك أن المحاورات السياسية تعتبر من الصنايع المستظرفة،، وذلك لما تتضمنه من تعريضات، وكنايات، حسبما تفرضه الاتجاهات السياسية، التي يلتزم بها المتحاورون..

ولذا.. نلاحظ أنهعليه‌السلام .. وإن كان يضمن كلامه الشكر للمأمون، بل ويكتب تحت اسمه ـ حسب رواية الاربلي فقط ـ:((بل جعلت فداك)) . ولكنه يبطن كلامه، ويضمنه تعريضات عميقة، بلهجة معتدلة، لا عنف فيه.

وذلك يعني: أن الإمامعليه‌السلام لم يتنازل عن مبدئه، ولا حاد عن نهجه، الذي اختطه لنفسه، بوحي من رسالة الله، وتعاليم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخطى جده عليعليه‌السلام .. لم يحد عنه قيد شعرة، ولا هاون فيه، ولا حابى أحداً، حتى في هذا الموقف.

ولعمري.. لو كان ما كتبه الإمام الرضاعليه‌السلام على وثيقة العهد من شخص عادي آخر، لكان يقال عنه الشيء الكثير تعظيماً وتبجيلاً، حيث إنه لم يضل عن خطته التي اختطها لنفسه، ولا حاد عن نهجه قيد أنملة.. مع أن المأمون كان قد فاجأه بطلب الكتابة على الوثيقة، ولم يكن هو مستعداً، ولا متوقعا لذلك، لأن العادة لم تكن قد جرت على ذلك..

وهذا ولا شك مما يزيد من عظمة الإمام، ويعلي من شأنه، ويستدعي المزيد من التعظيم والتبجيل له.

ولكن الحقيقة هي: أنه ـ وهو الإمام المعصوم ـ غني عن كل تلكم التقريظات، وعن ذلكم التعظيم والتبجيل..

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456