دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق14%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213632 / تحميل: 4800
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٦-x
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وأقول :

لا يخفى أنّ تفسيره للجواز بالإمكان الذاتي خطأ ظاهر ، فإنّ المراد بالجواز كما يظهر من دليلهم وكلماتهم هو الصحّة وعدم الامتناع أصلا حتّى بالغير.

فإنّا نقول أيضا بإمكان التكليف بما لا يطاق ذاتا ، وعدم كونه من الممتنعات الذاتية ،لكن نقول : إنّه ممتنع بالغير ، من حيث قبحه وكونه ظلما ومنافيا للحكمة(١) ، وهم لا يقولون بذلك.

وقد عرفت سابقا ما في قولهم : « لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء » ، وما في إنكارهم للحسن والقبح العقليّين(٢) .

وأمّا قوله : « أحدها : أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه »

ففيه ما تقدّم أيضا من أنّ العلم وصدق الخبر تابعان للمعلوم ووقوع المخبر به ، لا متبوعان ، فلا يجعلان خلافهما ممتنعا لا يطاق(٣) .

وأمّا ما زعمه من أنّ القدرة مع الفعل ، فهو أحد السفسطات ، وستعرف ما فيه.

وقوله : « والتكليف بهذا جائز ، بل واقع إجماعا »

باطل لأمور :

الأوّل : إنّه عليه يلزم كذب قوله تعالى :( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ

__________________

(١) أوائل المقالات : ٥٦ ـ ٥٨.

(٢) انظر ردّ الشيخ المظفّر١ في ج ٢ / ٣٣٢ و ٣٥٣.

(٣) انظر ردّ الشيخ المظفّر١ في ج ٢ / ٣٥٣.

١٠١

وُسْعَها ) (١) ؛ لأنّ كلّ ما علم الله وأراد عدم وقوعه أو أخبر بعدمه ، ممتنع على ما زعم ، فإذا كان التكليف به جائزا وواقعا كان تكليفا بما لا يطاق ولا يسع المكلّف.

كما إنّ كلّ ما يقع بعلمه أو إخباره أو إرادته واجب حينئذ ، والواجب لا تتعلّق به الطاقة والوسع ، لعدم تيسّر عدمه.

فإذا كلّف الله سبحانه به كان أيضا تكليفا بما لا يطاق ، فيكون كلّ ما تعلّق به التكليف عندهم ممّا لا يطاق ، كما ذكره المصنّف ، وتكذب الآية كذبا كلّيّا.

وإن أبيت عن كون الواجب ممّا لا يسع ، فلا ريب أنّ الممتنع ليس ممّا يسع ، فتكذب الآية كذبا جزئيّا.

الثاني : إنّ دعوى الإجماع المذكور إن كانت على وقوع التكليف بما لا يطاق ـ كما هو ظاهر كلامه ـ فهي افتراء ؛ لما عرفت أنّ مذهب الإمامية والمعتزلة امتناعه(٢) ، وأنّ تعلّق علم الله تعالى وإخباره بالشيء لا يجعل نقيضه ممتنعا ، وأنّ إرادته التكوينية لم تتعلّق بأفعال العباد.

وإن كانت دعواه الإجماع على وقوع التكليف بأفعال البشر ـ بما هي لا تطاق عندهم وتطاق عندنا ـ كان إظهاره الإجماع على التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى تدليسا.

الثالث : إنّ القول بوقوع التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى مناف لعدم تجويز التكليف بما لا يطاق في المرتبة الثانية ؛ لأنّ المرتبة

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٢) راجع الصفحة ٩٧ من هذا الجزء.

١٠٢

الأولى تكون حقيقة من الثانية إذا حصلت المخالفة للتكليف ؛ لأنّ المخالفة لا بدّ أن تكون بنقيض المطلوب ، فيكون التكليف بالمطلوب راجعا إلى التكليف بالجمع بينه وبين نقيضه ، بل قد يرجع إلى التكليف بالجمع بين الضدّين أيضا.

مثلا : إذا كلّف الكافر بالإيمان ، والحال أنّ كفره لازم لتعلّق الإرادة الإلهيّة به ، يكون مكلّفا بأن يجمع الضدّين : الإيمان والكفر ، والنقيضين : الإيمان وعدمه ، وكلاهما ممتنع لنفس مفهومه.

وأمّا قوله : « فهذا محلّ النزاع »

ففيه ما لا يخفى ؛ لأنّه في المرتبتين الأوليين ـ أيضا ـ محلّ النزاع بيننا وبينهم.

أمّا الأولى : فلما عرفت أنّهم يجوّزونه فيها وقالوا بوقوعه ، ونحن نمنع من جوازه ووقوعه أصلا ؛ لأنّ محلّ التكليف مطاق عندنا في هذه المرتبة.

وأمّا الثانية : فلأنّا نمنع منه في غيرها ـ فضلا عنها ـ وهم يجوّزونه فيها ؛ لأنّهم يقولون ـ كما ذكر الخصم ـ : إنّ التكليف بهذا القسم الثاني فرع تصوّره ، فمن يقول بتصوّره لا يمنع من التكليف به ، ومن ينكر تصوّره لا يمنع من التكليف به من حيث هو ، وإنّما يمنع منه لعدم إمكان تصوّر الممتنع لذاته لا لعدم جواز التكليف بما لا يطاق.

ولا أدري كيف لا يمكن تصوّره ، فهل يمتنع تصوّره على الباري تعالى أو على عباده؟!

وأمّا تعليله لعدم الجواز في المرتبة الثانية بقوله : « التكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات » ، فممّا لا يرضى به الأشاعرة ؛ لأنّه ليس

١٠٣

مانعا عندهم بعد إنكارهم للحسن والقبح العقليّين ، وقولهم : « لا يقبح منه تعالى شيء »(١) .

فظهر أنّ تكلّف الخصم ـ تبعا للمواقف وشرحها(٢) ـ في بيان هذه المراتب ، ودعوى الفرق بينها ، لا يجديهم نفعا سوى تلبيس الحقيقة ، وإضاعة الحقّ وما ضرّهم لو سلكوا الصراط السوي ، واتّبعوا الكتاب المجيد؟!

* * *

__________________

(١) المسائل الخمسون : ٦١ ، تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٤٤ ، المواقف : ٣٢٨ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٩٥.

(٢) المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

١٠٤

إرادة النبيّ موافقة لإرادة الله

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

المطلب التاسع

في أنّ إرادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم موافقة لإرادة الله تعالى

ذهبت الإمامية إلى أنّ النبيّ يريد ما يريده الله تعالى ويكره ما يكرهه ، وأنّه لا يخالفه في الإرادة والكراهة(٢) .

وذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك ، وأنّ النبيّ يريد ما يكرهه الله تعالى ، ويكره ما يريده ؛ لأنّ الله تعالى يريد من الكافر الكفر ، ومن العاصي العصيان ، ومن الفاسق الفسوق ، ومن الفاجر الفجور ، والنبيّ أراد منهم الطاعات ، فخالفوا بين مراد الله تعالى وبين مراد النبيّ ، وأنّ الله كره من الفاسق الطاعة ومن الكافر الإيمان ، والنبيّ أرادهما منهما ، فخالفوا بين كراهة الله وكراهة نبيّه(٣) .

نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى القول بأنّ مراد النبيّ يخالف مراد الله

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٠.

(٢) إنقاذ البشر من الجبر والقدر ـ المطبوع ضمن رسائل الشريف المرتضى ـ ٢ / ٢٣٦ ، مجمع البيان ٧ / ٣٩٩ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٨٥.

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٣١٠ ـ ٣١١ ، وانظر ج ٢ / ٣٦٥ من هذا الكتاب.

١٠٥

تعالى ، وأنّ الله تعالى لا يريد من الطاعات ما يريده أنبياؤه ، بل يريد ما أرادته الشياطين من المعاصي وأنواع الفواحش والفساد!

* * *

١٠٦

وقال الفضل (١) :

الإرادة قد تقال ويراد بها : الرضا والاستحسان ، ويقابلها السخط والكراهة ، وقد يراد بها الصفة المرجّحة والتقدير قبل الخلق ، وبهذا المعنى لا يقابلها الكراهة.

فالإرادة إذا أريد بها الرضا والاستحسان ، فلا شكّ أنّ مذهب الأشاعرة أنّ كلّ ما هو مرضيّ لله تعالى فهو مرضيّ لرسوله ، وكلّ ما هو مكروه عند الله مكروه عند رسوله.

وأمّا قوله : « ذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك ، فإنّ النبيّ يريد ما يكرهه الله ويكره ما يريده ؛ لأنّ الله يريد من الكافر الكفر ، ومن المعاصي العصيان والنبيّ أراد منهم الطاعات »

فإن أراد بهذه الإرادة والكراهة الرضا والسخط ، فقد بيّنّا أنّه لم يقع بين إرادة الله وإرادة رسوله مخالفة قطّ.

وإن أراد أنّ الله يقدّر الكفر للكافر والنبيّ يريد منه الطاعة ، بمعنى الرضا والاستحسان ، فهذا صحيح ؛ لأنّ الله أيضا يستحسن منهم الطاعة ويريدها ، بمعنى يقدّرها.

والحاصل : إنّه يخلط بين المعنيين ويعترض ، وكثيرا ما يفعل في هذا الكتاب أمثال هذا ، والله يعلم المصلح من المفسد.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦.

١٠٧

وأقول :

لا أعرف معنى للتقدير قبل الخلق ـ أي في الأزل ـ كما عبّر به سابقا ، إذ لا أزلي إلّا الله عندنا(١) ، وإلّا هو وصفاته عندهم(٢) .

ولعلّه يريد به الصفة المرجّحة على أنّ يكون عطفه عليها للتفسير ، كما يشهد له جعلهما في كلامه معنى واحدا ، لكنّ التعبير عن الصفة الذاتية بالتقدير ـ الذي هو فعل ـ غير مناسب.

وكيف كان فقوله : « لا شكّ أنّ كلّ ما هو مرضيّ لله تعالى فهو مرضيّ لرسوله » باطل ؛ لأنّ الله سبحانه لمّا كان عندهم مريدا لأفعال العباد ، خالقا لها ، لزم أن يكون راضيا بالموجود منها كارها للمعدوم ؛ لتوقّف إرادة الفعل بمعنى الصفة المرجّحة على الرضا به ، وتوقّف إرادة العدم على كراهة الفعل ، إذ بالإرادة يحصل الترجيح

والترجيح فرع الرضا بالراجح والكراهة للمرجوح

فيكون الله سبحانه راضيا بالكفر والمعاصي الموجودة ، كارها للإيمان والطاعات المفقودة ، والنبيّ بخلاف ذلك ، فيختلفان بالرضا والكراهة.

وحينئذ فعلى تقدير أن يريد المصنّف بالإرادة الرضا ، يكون كلامه

__________________

(١) شرح جمل العلم والعمل : ٥٠ ، تقريب المعارف : ٧٥ و ٨٣ ، المنقذ من التقليد ١ / ٧٠.

(٢) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٢٦ و ٣٢ و ٤٧ ، تمهيد الأوائل : ٤٨ ـ ٤٩ ، الملل والنحل ١ / ٨٢ ، المسائل الخمسون : ٤٣ ـ ٤٤ ، شرح المواقف ٨ / ٤٤ ـ ٤٥.

١٠٨

تامّا وما نسبه إلى الأشاعرة صحيحا.

وأمّا قوله : « وإن أراد أنّ الله تعالى يقدّر الكفر »

ففيه : إنّه لو فرض إرادة المصنّف له ، فهو يستلزم الرضا بالموجود والكراهة للمعدوم ، سواء أريد بالتقدير الصفة المرجّحة أم الفعل ؛ لتوقّف الصفة على الرضا والكراهة كما عرفت ، وتوقّف الفعل على الصفة ، وحينئذ يلزم المخالفة بين الله ورسوله بالرضا والكراهة ، كما عرفت.

* * *

١٠٩
١١٠

إنّا فاعلون

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب العاشر

في : إنّا فاعلون

اتّفقت الإمامية والمعتزلة على : « إنّا فاعلون » وادّعوا الضرورة في ذلك(٢) .

فإنّ كلّ عاقل لا يشكّ في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية ، وإنّ هذا الحكم مركوز في عقل كلّ عاقل ، بل في قلوب الأطفال والمجانين.

فإنّ الطفل لو ضربه غيره بآجرة تؤلمه فإنّه يذمّ الرامي دون الآجرة ، ولو لا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لما استحسن ذمّ الرامي دون الآجرة ، بل هو حاصل في البهائم.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠١.

(٢) الذخيرة في علم الكلام : ٧٣ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٢ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٥٠ ـ ١٥١ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٩.

وانظر رأي المعتزلة في : المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٨ / ٣ و ١٣ ، شرح الأصول الخمسة : ٣٢٣ و ٣٣٦ ، المحيط بالتكليف : ٢٣٠ ، الملل والنحل ١ / ٣٩ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠.

١١١

قال أبو الهذيل : « حمار بشر أعقل من بشر(١) ؛ لأنّ حمار بشر إذا أتيت به إلى جدول كبير فضربته لم يطاوع على العبور ، وإن أتيت به إلى جدول صغير جازه ؛ لأنّه فرّق بين ما يقدر عليه ، وما لا يقدر عليه ، وبشر لم يفرّق بينهما ، فحماره أعقل منه »(٢) .

وخالفت الأشاعرة في ذلك وذهبوا إلى أنّه لا مؤثّر إلّا الله تعالى(٣) ، فلزمهم من ذلك محالات.

* * *

__________________

(١) هو : أبو عبدالرحمن بشر بن غياث المريسي ، فقيه حنفي متكلّم ، كان يقول بالإرجاء ، ومن اصحاب الرأي ، وله مقالات فاسدة ، توفّي ببغداد سنة ٢١٨ أو ٢١٩ ه‍.

انظر ترجمته في : تاريخ بغداد ٧ / ٥٦ رقم ٣٥١٦ ، معجم البلدان ٥ / ١٣٨ رقم ١١١٧٩ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٧٧ رقم ١١٥.

(٢) منهاج السنّة النبوية ٣ / ١٠٨.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧١ ـ ٧٢ ، الإبانة عن أصول الديانة : ١٢٦ ـ ١٣١ المسألة ١٩٤ ـ ٢٠٥ وص ١٤٢ ذيل المسألة ٢٢٦ وص ١٤٦ الجواب ٢٣٣ ، تمهيد الأوائل : ٣١٧ ـ ٣١٩ ، الإنصاف ـ للباقلّاني ـ : ٤٣ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٩٩ ، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١١٥ الدعوى الرابعة ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠ الفرقة الرابعة ، المسائل الخمسون : ٥٩ المسألة ٣٤ ، شرح العقائد النسفية : ١٣٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٣ و ٢٣٨ وما بعدها ، شرح المواقف ٨ / ١٤٥ ـ ١٤٦ و ١٧٣ ـ ١٧٤ ، شرح العقيدة الطحاوية : ١٢٠ ـ ١٢١ ؛ وانظر : خلق أفعال العباد ـ للبخاري ـ : ٢٥ ـ ٤٦.

١١٢

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأنّه يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ، ومكسوبا للعبد.

والمراد بكسبه إيّاه : مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو دخل في وجوده سوى كونه محلّا له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري(٢) ، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون مخلوقة لله تعالى مفعولة للعبد

فالعبد فاعل وكاسب ، والله خالق ومبدع هذا حقيقة مذهبهم.

ولا يذهب على المتعلّم أنّهم ما نفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد حتّى يكون الخلاف في أنّه فاعل أو لا ، كما صدّر الفصل بقوله : « إنّا فاعلون » واعترض الاعتراضات عليه.

فنحن أيضا نقول : إنّا فاعلون ، ولكن هذا الفعل الذي اتّصفنا به هل هو مخلوق لنا أو خلقه الله فينا وأوجده مقارنا لقدرتنا واختيارنا ، وهذا شيء لا يستبعده العقل.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٥.

(٢) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، تمهيد الأوائل : ٣٤٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٥ و ١٤٦.

١١٣

فإنّ الأسود هو الموصوف بالسواد ، والسواد مخلوق لله تعالى ، فلم لا يجوز أن يكون العبد فاعلا ويكون الفعل مخلوقا لله تعالى؟!

ودليل الأشاعرة : إنّ فعل العبد ممكن في نفسه ، وكلّ ممكن مقدور لله تعالى ؛ لشمول قدرته ـ كما ثبت في محلّه ـ ، ولا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد ؛ لامتناع اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد ؛ لما هو ثابت في محلّه.

وهذا دليل لو تأمّله المتأمّل يعلم أنّ المدّعى حقّ صريح ، ولا شكّ أنّ الممكن ، إذا صادفته القدرة القديمة المستقلّة توجده ، ولا مجال للقدرة الحادثة.

والمعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء ، وهو إثبات تعدّد الخالقين غير الله تعالى في الوجود ، وهذا خطأ عظيم واستجراء كبير ، لو تأمّلوا قباحته لارتدعوا منه كلّ الارتداع ، كما سنبيّن لك إن شاء الله تعالى في أثناء هذه المباحث.

ثمّ إنّ مذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية ، أنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب ، بل باختيار ، ولهم في اختيار هذا المذهب طرق

منها : ما اختاره أبو الحسين(١) من مشايخهم وذكره هذا الرجل ،

__________________

(١) هو : محمّد بن علي بن الطيّب البصري ، شيخ المعتزلة ، وصاحب التصانيف الكلامية ، بصري سكن بغداد ودرس فيها الكلام إلى حين وفاته سنة ٤٣٦ ه‍ ، ولم تذكر أيّ من المصادر تاريخا لولادته ، إلّا إنّه قيل : قد شاخ.

له تصانيف عديدة ، منها : المعتمد في أصول الفقه ـ ومنه أخذ فخر الدين الرازي كتاب « المحصول » ـ ، تصحيح الأدلّة ، شرح الأصول الخمسة ، كتاب في

١١٤

وهو : ادّعاء الضرورة في إيجاد العبد فعله ، ويزعم أنّ العلم بذلك ضروري لا حاجة به إلى الاستدلال(١) .

وبيان ذلك : إنّ كلّ فاعل يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش ، وإنّ الأوّل مستند إلى دواعيه واختياره ، وإنّه لولا تلك الدواعي والاختيار لم يصدر عنه شيء ، بخلاف حركة المرتعش ، إذ لا مدخل فيه لإرادته ودواعيه.

وجعل أبو الحسين ومن تابعه من الإمامية إنكار هذا سفسطة مصادمة للضرورة(٢) كما اشتملت عليه أكثر دلائل هذا الرجل في هذا المبحث.

والجواب : إنّ الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيارية ضروري ، لكنّه عائد إلى وجود القدرة ، منضمّة إلى الاختيار في الأولى وعدمها في الثانية ، لا إلى تأثيرها في الاختيارية وعدم تأثيرها في غيرها(٣) .

والحاصل : إنّا نرى الفعل الاختياري مع القدرة ، والفعل الاضطراري بلا قدرة ، والفرق بينهما يعلم بالضرورة ، ولكن وجود القدرة مع الفعل الاختياري لا يستلزم تأثيرها فيه ، وهذا محلّ النزاع ، فتلك التفرقة التي تحكم بها الضرورة لا تجدي للمخالف نفعا.

__________________

الإمامة ، وغير ذلك.

انظر : تاريخ بغداد ٣ / ١٠٠ رقم ١٠٩٦ ، وفيات الأعيان ٤ / ٢٧١ رقم ٦٠٩ ، لسان الميزان ٥ / ٢٩٨ رقم ١٠٠٩ ، شذرات الذهب ٣ / ٢٥٩ حوادث سنة ٤٣٦ ه‍ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٥١٨ رقم ١٤٧٦٢.

(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠.

(٢) المواقف : ٣١٣.

(٣) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٥٢.

١١٥

ثمّ إنّ دعوى الضرورة في إثبات هذا المدّعى باطل صريح ؛ لأنّ علماء السلف كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ، ومعترفين مثبتين له بالدليل.

فالموافق والمخالف له اتّفقوا على نفي الضرورة عن هذا المتنازع فيه ، لا التفرقة بالحسّ بين الفعلين ، فإنّه لا مدخل له في إثبات المدّعى ؛ لأنّه مسلّم بين الطرفين ، فكيف يسمع نسبة كلّ العقلاء إلى إنكار الضرورة فيه؟!

وأيضا : إنّ كلّ سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه ، علم أنّ إرادته للشيء لا تتوقّف على إرادته لتلك الإرادة ، وأنّه مع الإرادة الجازمة منه الجامعة يحصل المراد ، وبدونها لا يحصل ، ويلزم منها : إنّه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عقيبها ، وهذا ظاهر للمنصف المتأمّل ، فكيف يدّعي الضرورة في خلافه(١) ؟!

فعلم أنّ كلّ ما ادّعاه هذا الرجل من الضرورة في هذا المبحث فهو مبطل فيه.

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٥٢ ـ ١٥٣.

١١٦

وأقول :

قوله : « نحن أيضا نقول : إنّا فاعلون »

مغالطة ظاهرة ؛ لأنّ فعل الشيء عبارة عن إيجاده والتأثير في وجوده ، وهم لا يقولون به ، وإنّما يقولون : إنّا محلّ لفعل الله سبحانه(١) ، والمحلّ ليس بفاعل ، فإنّ من بنى في محلّ بناء لا يقال : إنّ المحلّ بان ، وفاعل ؛ نعم ، يقال : مات وحيي ونحوهما ، وهو قليل.

وقوله : « وهذا شيء لا يستبعده العقل »

مكابرة واضحة ؛ لأنّ المشاهد لنا صدور الأفعال منّا لا مجرّد كوننا محلّا ، كما تشهد به أعمال الأشاعرة أنفسهم فإنّهم يجتهدون في تحصيل غاياتهم كلّ الاجتهاد ، ولا يكلونها إلى إرادة الله تعالى ، وتراهم ينسبون الخلاف بينهم وبين العدلية إلى الطرفين ، ويجعلون الأدلّة والردود من آثار الخصمين ، ويتأثّرون كلّ التأثّر من خصومهم ، وينالونهم بما يدلّ على إنّ الأثر في المخاصمة لهم

فكيف يجتمع هذا مع زعمهم أنّا محلّ صرف؟!

وأمّا قياس ما نحن فيه على الأسود فليس في محلّه ، إذ ليس السواد متعلّقا لقدرة العبد حتّى يحسن الاستشهاد به وقياس فعل العبد عليه!

وأمّا ما ذكره من دليل الأشاعرة ، فإن كان المراد بالمقدّمة القائلة : « كلّ ممكن مقدور لله تعالى » ، هو : أنّ كلّ ممكن مصدر قدرته تعالى حتّى أفعال

__________________

(١) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٥ ـ ١٤٦.

١١٧

العباد ، فهو مصادرة ، ولا يلزم من إمكانها المبيّن في المقدّمة الأولى إلّا احتياجها إلى المؤثّر ، وجواز تأثير قدرة الله تعالى فيها ، لا تأثيرها فعلا بها.

وبهذا بطلت المقدّمة الثالثة ؛ لأنّه لم يلزم اجتماع قدرتين مؤثّرتين ، فإنّ التأثير عندنا لقدرة العبد في فعله ، وإنّما قدرة الله تعالى صالحة للتأثير فيه ، وأن تتغلّب على قدرة العبد.

ولسخافة هذا الدليل لم يشر إليه نصير الدينرحمه‌الله في « التجريد » ، ولا تعرّض له القوشجي الشارح الجديد.

وأمّا ما ذكره من أنّ المعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء وهو : إثبات تعدّد الخالقين غير الله تعالى ، فهو منجرّ إلى الانتقاد على الله سبحانه حيث يقول في كتابه العزيز :( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١) .

وقد مرّ أنّ الرديء هو إثبات تعدّد الخالقين المستقلّين بقدرتهم وتمام شؤون أفعالهم.

أمّا إثبات فاعل غير الله تعالى ، أصل وجوده وقدرته من الله تعالى ، وتمكّنه وفعله من مظاهر قدرة الله سبحانه وتوابع مخلوقيّته له ، فمن أحسن الأمور وأتّمها اعترافا بقدرة الله تعالى ، وأشدّها تنزيها له.

أترى أنّ عبيد السلطان إذا فعلوا شيئا بمدد السلطان يقال : إنّهم سلاطين مثله ، ويكون ذلك عيبا في سلطانه ، مع أنّ مددهم منه ليس كمدد العباد من الله تعالى ، فإنّ السلطان لم يخلق عبيده وقدرتهم ولا شيئا من

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

١١٨

صفاتهم ، فكيف يكون القول : بأنّا فاعلون لأفعالنا رديّا منافيا لعظمة الله تعالى؟! واعلم أنّ الخلق لغة : الفعل والاختراع ، قال تعالى :( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (١) ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (٢) .

نعم ، المنصرف منه عند الإطلاق فعل الله تعالى ، فتخيّل الخصم أنّه قد أمكنت الفرصة ، وهو من جهالاته! ولو كان مجرّد صحّة إطلاق الخالقين على العباد عيبا في مذهبنا لكان عيبا في قوله تعالى :( تَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٣) .

وكان إطلاق القادرين العالمين المريدين عليهم أولى بالعيب في مذهبهم ؛ لأنّ القدرة والعلم والإرادة صفات ذاتية لله تعالى ، زائدة على ذاته بزعمهم(٤) كزيادتها على ذوات العباد.

فكيف يشركون فيها معه البشر ، ويثبتون القادرين المريدين العالمين غير الله؟!

نعم ، لا ريب عند كلّ عاقل برداءة القول بقدماء شركاء لله في القدم ، محتاج إليهم في حياته وبقائه وأفعاله وعلمه حتّى بذاته ، كما هو مذهب الأشاعرة.

وما بالهم لا يستنكرون من إثبات الملك لأنفسهم كما يثبتونه لله تعالى فيقولون : الله مالك ونحن مالكون؟!

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ١١٠.

(٢) سورة العنكبوت ٢٩ : ١٧.

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

(٤) راجع ج ٢ / ٢٦٧ ومصادر الهامش رقم ٤.

١١٩

وأمّا ما ذكره من الجواب عن دعوى الضرورة ، فممّا تكرّر ذكره في كتبهم ، وهو ظاهر الفساد ؛ لأنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة والاختيار في الحركات الاختيارية ، تحكم بتأثير القدرة فيها ، وأنّا فاعلون لها ، ولذا يذمّ الطفل الرامي لعلمه الضروري بأنّه مؤثّر ، كما بيّنه المصنّفرحمه‌الله .

على أنّه لو لم يكن للقدرة تأثير لم يعلم وجودها ، إذ لا دليل عليها غيره ، ومجرّد الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية لا يقضي بوجودها ؛ لاحتمال الفرق بخصوص الاختيار وعدمه.

فإن قلت : الاختيار هو الإرادة ، وهي : عبارة عن الصفة المرجّحة لأحد المقدورين ، فيكون وجود الاختيار مستلزما لوجود القدرة.

قلت : المراد أنّها مرجّحة في مورد حصول القدرة لا مطلقا حتّى يلزم وجودها ، على أنّه يمكن أن تكون مرجّحة لأحد مقدوري الله تعالى ، بأن يكون قد أجرى عادته على أنّ تكون إرادة العبد مخصّصة لأحد مقدوريه تعالى ، بأن يخلق الفعل عند خلقها.

هذا ، مضافا إلى أنّ إثبات القدرة بلا تأثير ليس إلّا كإثبات الباصرة للأعمى بلا إبصار ، وإثبات السامعة للأصمّ بلا إسماع! وكما إنّ القول بهذا مخالف للضرورة ، فالقول بوجود القدرة بلا تأثير كذلك.

وهل خلق القدرة ـ وكذا الاختيار ـ بلا تأثير إلّا من العبث؟! تعالى الله عنه.

نعم ، قد يرد على العدلية أنّ تأثير قدرة العبد في الأفعال الاختيارية ، وإن كان ضروريا ، إلّا إنّه أعمّ من أن يكون بنحو الاشتراك بينها وبين قدرة

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

هذا هو التلوّن والتزلزل، وعدم سكون الريح.

تلوّنٌ فظيع يجرّ إلى الكفر والارتداد، لأنّه إنكارٌ للحقّ بعد معرفته، وبغيٌ على الإمام بعد معرفة لزوم مودّته.

وقد رُوي أنّه سأله الأصبغ بن بناتة في محضر معاوية فقال له: ـ

يا صاحب رسول الله، إنّي احلفك بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة، وبحقّ حبيبه محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله إلّا أخبرتني:

أشهدتَ غديرَ خمّ؟

قال أبو هريرة: بلى شهدته.

فقال الأصبغ: فما سمعته يقول في عليّ عليه السلام؟

قال أبو هريرة: سمعته يقول: مَن كنتُ مولاه فعليٌ مولاه، اللَّهُمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصُر مِن نصره، واخذُل من خذله.

فقال له الأصبغ: فأنت إذاً واليت عدوّه، وعاديت وليّه.

فتنفّس أبو هريرة الصعداء، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون (1) .

ومن عجيب التلوّن والتزلزل وعدم الثبات تزلزل الزبير بن العوّام ابن عمّة النبيّ صلى الله عليه وآله وابن عمّة أمير المؤمنين عليه السلام، لذي هو عبرة لمن اعتبر ودرسٌ لمن تدبّر.

حيث إنّه بعد سابقة إيمانه، وخدمته، وولائه لعليّ عليه السلام، أصبح محارباً له وباغياً عليه، ومؤجّجاً لفتنة الجمل والعمل الأرذل (2) .

فالصحيح الحقّ، والخُلق الأليق، أن يكون إيمان المرء ثابتاً مستقرّاً، ويكون في حياته ساكناً، غير متزلزل.

__________________

(1) لاحظ السفينة / ج 8 / ص 672، وتلاحظ لمزيد معرفة حاله ووضاعته كتب الرجال.

(2) راجع سفينة البحار / ج 3 / ص 444.

١٨١

والمطلوب هو الإيمان المستقرّ الذي أشار إليه قوله عزّ اسمه: ـ

( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) (1) .

ويتحقّق ذلك في الإنسان بعون الله تعالى، وببركة أهل البيت عليهم السلام بملازمتهم وعدم مفارقتهم.

ففي حديث الإمام الرضا عليه السلام: ـ «مَن لزَمناه لزمناه، ومَن فارقنا فارقناه» (2) .

والمؤمن الحقيقي ثابت القدم في إيمانه، ومتصلّبٌ في عقيدته.

قال عزّ اسمه: ـ ( يُثَبِّتُ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّـهُ الظَّالِمِينَ ) (3) .

وفي حديث الإمام الباقر عليه السلام: ـ (المؤمن أصلب من الجبل، الجبل يُستقلّ منه، والمؤمن لا يُستقلّ من دينه شيء) (4) .

__________________

(1) سورة الأنعام: الآية 98.

(2) وسائل الشيعة / ج 18 / ص 92 / باب 10 / ح 13.

(3) سورة إبراهيم: الآية 27.

(4) اُصول الكافي / ج 2 / ص 189.

١٨٢

(11)

وطيب المخالقة

المخالقة: مفاعلة من الخُلق بضمّتين، يعني: المعاشرة.

يُقال: خالَقَ القوم أي عاشرهم بخلق حَسَن.

فتكون المخالقة هنا بمعنى المعاشرة مع الناس.

والطيب: هو الحسن الذاتي، ويُطلق على ما هو طيّبٌ واقعاً وذاتاً، لذلك يطلق على العطور بأنّها طيب، ولا يقال للشيء المعطّر بأنّها طيب، بل يقال: إنّه مطيّب.

وفيها نحن فيه المعاشرة مع الناس قد تكون بسجيّة طيّبة، وقد تكون بسجيّة غير طيّبة.

وفي هذا الدّعاء الشريف عبّر الإمام عليه السلام بطيب المخالقة، ولم يقل حسن المخالقة، إشارة إلى طلب السجيّة الطيّبة الذاتيّة الواقعيّة، والعلاقة الودّية الحقيقيّة، فهي التي تكون حلية الصالحين، وزينة المتّقين.

دون العلاقة الحسنة الظاهريّة، التي قد تكون مراوغة وحيلة إذا لم تطابق قلب الإنسان وباطنه..

فإنّك ترى أنّه قد يعاشر أحدٌ مع شخصٍ، فيُحسن في معاشرته ويضاحكه

١٨٣

ويمازحه ويلاطفه بلسانه، مراوغةً مصانعةً، لا حقيقة، وهذه مخالقة غير طيّبة، بل غير حسنة كما هو المنقول عن شريح القاضي الذي ضُرب به المثل في مراوغاته ومصانعاته فقيل:

(شريح أدهى من الثعلب).

في قضيّةٍ ينقلها الشعبي، وجاء ذكره في كتاب الدميري (1) .

فالطيب من المخالقة هي التي تكون حقيقيّة واقعيّة، ويستمرّ عليها حتّى تصير سجيّة ذاتيّة، وهي المطلوبة في الدعاء الشريف.

والاُسوة والقدوة في المخالقة والمعاشرة الطيّبة مع الناس هم أهل البيت عليهم السلام الذين طابت معاشراتهم مع الناس في جيميع أدوار حياتهم، في حكومتهم وغير حكومتهم، مع أصحابهم وغير أصحابهم، مع أوليائهم وأعدائهم، حتّى مع خدّامهم.

كانت معاشراتهم معهم طيّبة حقيقيّة، وصافية صفو الماء الزلال، وصادقةً صدق الحقّ الأبلج، كما تلاحظ ذلك بوضوح في سيرتهم الغرّاء، وحياتهم المباركة.

ومن أمثلة ذلك: ـ

1 ـ أمير المؤمنين عليه السلام... ذهب إلى السوق، واشترى ثوبين، أحدهما بدرهمين، والآخر بثلاث دراهم.

فأعطى الثوب ذا الثلاث دراهم لخادمه قنبر المعاشر معه، ولبس هو عليه السلام الثوب ذا الدرهمين.

2 ـ الإمام الحسين عليه السلام.. وهب بستانه لغلامه صافي، حتّى أنّه استأذن منه لدخوله هو إلى البستان.

وهبه له لكونه غلاماً شكوراً، ومُنفقاً من طعامه على كلب البُستان، فأحسن الإمام في عشرته.

__________________

(1) حياة الحيوان / ج 1 / ص 173.

١٨٤

3 ـ الإمام الصادق عليه السلام.. أبطأ عليه خادمه ونام ويم ينجز ما طلبه الإمام منه، فسار الإمام عليه السلام في طلبه فوجده نائماً، فجلس عند رأس الخادم، يروّح له بيده حتّى لا يصيبه الحرّ.

وفي برهةٍ من الزمان كان الإمام الصادق عليه السلام مبعّداً إلى الحيرة (1) من قبل المنصور الدوانيقي الذي عادى الإمام عليه السلام، محاربةً لعلمه الإلهي، ومعارضةً لحقّه الشرعي، وإغلاقاً لباب أهل البيت عليهم السلام الذين كانوا الأصحاب الحقيقيّين لخلافة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.

وحين وجود الإمام الصادق عليه السلام في الحيرة كان معه خادمه المعلّى بن خنيس، وفي ليلة من تلك الليالي التي كانت من ليالي الصيف، أمر الإمام عليه السلام أن يُفرش له فراشه في الصحراء، ليكون نومه وعبادته هناك.

وأمرَ أن يُؤتى بسراجٍ ومركبٍ له وللمعلّى بن خنيس.

فجيء بسراجٍ وبغلةٍ وحمار..

فركب هو عليه السلام الحمار، وأمر المعلّى أن يركب البغل الذي هو أحسن من الحمار، فذهبوا إلى الصحراء، ثمّ ذهبوا من هناك إلى زيارة مرقد أمير المؤمنين عليه السلام، فتلاحظ طيب عشرته مع خادمه حيث فضّله على نفسه في المركب إيثاراً.

4 ـ الإمام الرضا عليه السلام.. كان يجلس على مائدة الطعام مع غلمانه وخَدَمه، وهو سلطان الدِّين والدّنيا والآخرة.

حتّى في حال مسموميّته وتألّمه لم يترك ذلك، بل كان يعاشرهم بأطيب المخالقة، وأفضل معاشرة.

__________________

(1) الحيرة: كانت بلدة على بُعد 5 كيلومترات من جنوب الكوفة كما في المنجد / ص 170.

١٨٥

وهكذا سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام، الذين هم أشرف خلق الله تعالى، ترى أنّهم كانوا يحسنون المعاشرة الطيّبة مع جميع طبقات الخلق، ويأمرون بحسن المعاشرة، وطلاقة الوجه مع المعاشرين.

ففي حديث الإمام الصادق عليه السلام قال: ـ

قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

يا بني عبد المطّلب، إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فألقوهم بطلاقة الوجه، وحُسن البُشر (1) .

وفي حديثٍ آخر: ـ

صنائع المعروف، وحُسن البُشر، يكسبان المحبّة، ويُدخلان الجنّة.. والبخل وعبوس الوجه يبعّدان من الله، ويُدخلان النار (2) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال: ـ

عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، إنّه لابدّ لكم من الناس... (3) .

وفي حديث أبي الربيع الشامي قال: ـ

دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام، والبيت غاصّ بأهله، فيه الخراساني، والشامي، ومن أهل الآفاق.

فلم أجد موضعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد الله عليه السلام وكان متّكئاً ثمّ قال: يا شيعة آل محمّد، إنّه ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يُحسن صحبة من صَحِبَه، ومخالقة مَن خالقَه، ومرافقة مَن رافقَهُ، ومجاورة مَن جاورَهُ، وممالحة مَن مالحهُ.

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 84.

(2) اُصول الكافي / ج 2 / ص 85.

(3) اُصول الكافي / ج 2 / ص 464.

١٨٦

يا شيعة آل محمّد، اتّقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله (1) .

فطيب المخالقة، وحسن المعاشرة مع الناس، من الصفات الكريمة، والخصال المباركة التي تجعلنا من شيعة آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.

إذ هي من حلية الصالحين، وزينة الأتقياء..

والمتّقون الصالحون هم شيعة أهل البيت عليهم السلام.

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 465.

١٨٧

١٨٨

(12)

والسَّبقِ إلى الفضيلة

السَبْق بسكون الباء هو: التقدّم...

يُقال: سَبَق إلى الشيء سبْقاً يعني: تقدّم إليه وخلَّفَ غيره.

والفضيلة: مقابل الرذيلة والنقيصة.

ومعنى الفضيلة هي الدرجة الرفيعة والمقام الرفيع.

وكذلك ما يوجب تلك الدرجة والمقام، كالإحسان إلى الخلق، وإعانة الضعيف، وكفالة اليتيم، وإغاثة الملهوف، والانتصار للمظلوم، وإطعام الطعام، ونشر العلم، وجهاد العدوّ، والمجاهدة مع النفس، وإتيان اُمور الخير، كلّ ذلك من موجبات الفضيلة.

والمطلوب في هذه الفقرة من الدعاء الشريف هو ما يكون من حلية الصالحين وزينة المتّقين، وهو استباقهم وحيازتهم قصب السبق في درك الفضائل، والأعمال الخيريّة التي توجب الفضيلة والدرجة الرفيعة.

والتسابق إلى مفاضل الأعمال، وصنائع الخيرات فضلٌ محبوب ومرغوب رُغّب فيه شرعاً وعقلاً، وكتاباً وسنّةً.

١٨٩

قال تعالى: ـ

( وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (1) .

وقال عزّ اسمه: ـ

( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (2) .

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: ـ

(مَن فُتح له بابٌ من الخير فلينتهزه، فإنّه لا يدري متى يُغلق) (3) .

وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: ـ

(إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأوّلين والآخرين في صعيدٍ واحد، ثمّ ينادي منادٍ أين أهل الفضل؟

قال: فيقوم عُنقُ من الناس، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: ما كان فضلكم؟ فيقولون: كنّا نصِلُ مَن قطَعَنا، ونُعطي مَن حَرَمنا، ونعفو عمّن ظَلَمنا.

فيُقال لهم: صدقتم، اُدخلوا الجنّة) (4) .

وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام لعمّار: ـ

(يا عمّار، أنت ربُّ مالٍ كثير؟

قال: نعم، جُعلتُ فداك.

قال عليه السلام: ـ فتؤدّي ما افترض الله عليك من الزكاة؟

قال: ـ نعم.

__________________

(1) سورة المائدة: الآية 48.

(2) سورة الواقعة: الآيتان 10 و 11.

(3) ميزان الحكمة / ج 7 / ص 444.

(4) مستدرك السفينة / ج 8 / ص 233.

١٩٠

قال عليه السلام: ـ فتصِل قرابتك؟

قال: ـ نعم.

قال عليه السلام: ـ فتصِل إخوانَك؟

قال: ـ نعم.

فقال عليه السلام: ـ يا عمّار، إنّ الماي يَفنى، والبدن يَبلى، والعمل يبقى، والديّان حيٌّ لا يموت.

يا عمّار: إنّه ما قدّمت فلن يسبقك، وما أخّرتَ فلن يلحقَك) (1) .

وفي حديثه الآخر: ـ

(أيّما مؤمن أوصل إلى أخيه المؤمن معروفاً فقد أوصل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله) (2) .

والمثلُ الأعلى، والقدوة الأسمى في السّبق إلى الفضائل هم أهل البيت عليهم السلام، وفيهم نزل قوله تعالى: ـ ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) » (3) .

فهم عليهم السلام سبقوا الناس في جميع الفضائل منذ أوّل خلقهم في عالم الذرّ، إلى آخر حياتهم في عالم الدُّنيا...

وهم السابقون إلى الله تعالى في الدُّنيا والآخرة..

سبقوا إلى الجواب ببلى، عند سؤاله تعالى: في الذرّ.

وسبقوا إلى الخيرات في الدُّنيا.

وسبقوا إلى الجنّة في الآخرة.

ومَن غير عليّ عليه السلام كان سبّاقاً إلى الفضائل؟!

__________________

(1) الكافي / ج 4 / ص 27 / ح 7.

(2) الكافي / ج 4 / ص 27 / ح 8.

(3) تفسير الصافي / ج 5 / ص 120، وإحقاق الحقّ / ج 3 / ص 114.

١٩١

أليس كان هو السابق إلى الإسلام، وكان إسلامه عن فطرة، وإسلام الناس عن كفر (1) ؟

ألم يكن هو السابق إلى تفدية نفسه المباركة لرسول الله صلى الله عليه وآله في ليلة المبيت بين أربعمائة سيف من المشركين؟

وهل غيره سبق إلى الجهاد في سبيل الله، والجُهد في طاعة الله، والاجتهاد في عبادة الله؟

ولقد أجاد كافي الكفاة الصاحب بن عبّاد في وصف أمير المؤمنين عليه السلام في نثره وفي شعره.

قال في النثر الذي وصف به عليّاً وذكر نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ

(صنوه الذي واخاه، وأجابه حين دعاه، وصدّقه قبل الناس ولبّاه، وساعده وواساه، وشيّد الدِّين وبناه، وهَزَم الشرك وأخزاه، وبنفسه على الفراش فداه، ومانَع عنه وحماه، وأرغَمَ من عانده وقلاه، وغسله وواراه، وأدّى دَينه وقضاه، وقام بجميع ما أوصاه، ذاك أمير المؤمنين لا سواه) (2) .

وقال في شعره في غديريّته المعروفة في مدح أمير المؤمنين عليه السلام، أنشدها كمحاورةٍ سُئل فيها فأجاب في 25 بيتاً: ـ

قالت: فَمَنْ صاحبُ الدِّين الحنيف أجِب؟

فقلتُ: أحمدُ خيرُ السّادةِ الرُّسلِ

قالت: فَمَنْ بعدَه تُصفي الولاءُ له؟

قلت: الوصيّ الذي أربى على زُحلِ

قالت: فَمَنْ باتَ مِن فَوق الفراشِ فَدى؟

فقلت: أثيبُ خلقِ اللهِ في الوَهَلِ

__________________

(1) سُئل بعض العلماء: متى أسلم عليّ عليه السلام؟

فأجاب: ومتى كفر؟ حتّى يكون أسلم، إنّه جدّد الإسلام.

فهو عليه السلام وُلد على الإيمان وفطرة الإسلام ودين رسول الله صلى الله عليه وآله، وجدّده في البعثة.

(2) الكنى والألقاب / ج 2 / ص 368.

١٩٢

قالت: فَمَنْ ذا الذي آخاهُ عن مِقةٍ؟

فقلت: من حاز ردَّ الشمس في الطفلِ

قالت: فَمَنْ زُوَّج الزّهراء فاطمة؟

فقلت: أفضلُ مَن حافٍ ومُنتعلِ

قالت: فَمَنْ والدُ السبطين إذ فَرَعا؟

فقلت: سابقُ أهلِ السَبق في مَهَلِ

قالت: فَمَنْ فاز في بَدرٍ بمعجزها؟

فقلت: أضربَ خلقِ الله في القُللِ

قالت: فَمَنْ أسَدُ الأحزاب يفرسها؟

فقلت: قاتلُ عمروِ الضيغمِ البطلِ

قالت: فيومُ حُنين مَن فَرا وبَرا

فقلت: حاصدُ أهلِ الشِّركِ في عجلِ

قالت: فَمَنْ ذا دُعي للطّير يأكله؟

فقلت: أقربُ مَرضيٍّ ومُنتحِلِ

قالت: فَمَنْ تِلْوُه يومَ الكساء أجِب؟

فقلت: أفضلُ مَكسوٍ ومُشتمِلِ

قالت: فَمَنْ سادَ في يوم «الغدير» أَبِنْ؟

فقلت:: مَن كان للإسلام خيرُ وليّ

قالت: فَمفي مَن أتى في هل أتى شَرَفٌ؟

فقلتُ: أبذلُ أهلِ الأرض للنُفَلِ

قالت: فمَنْ راكعٌ زكّى بخاتمه؟

فقلت: أطعنهم مُذ كان بالاُسُلِ

قالت: فمَنْ ذا قسيمُ النار يُسهُمها؟

فقلت: مَن رأيُه أذكى من الشُّعلِ

قالت: فمَنْ باهَلَ الطّهرُ النبيُّ به؟

فقلت: تاليه في حِلٍّ ومُرتحِلِ

قالت: فمَنْ شِبْهُ هارونٍ لنعرِفُه؟

فقلت: مَن لم يُحِلْ يوماً ولم يزلِ

قالت: فمَنْ ذا غدا بابَ المدينة قُل؟

فقلت: مِن سألوهُ وهو لم يَسلِ

قالت: فمَنْ قاتَلَ الأقوامَ إذ نكثوا؟

فقلت: تفسيرُه في وقعةِ الجملِ

قالت: فمَنْ حارَبَ الأرجاسَ إذ قَسَطوا؟

فقلت: صفّين تُبدي صفحةَ العملِ

قالت: فمَنْ قارَعَ الأنْجاسَ إذ مَرَقوا؟

فقلت: معناه يومَ النّهروان جَلي

قالت: فمَنْ صاحبَ الحوضِ الشريف غداً؟

فقلت: مَن بيتُهُ في أشرف الحُللِ

قالت: فمَن ذا لواءَ الحمدِ يحملُه؟

فقلت: مَن لم يكن في الرّوع بالوَجِلِ

قالت: أكلُّ الذي قد قلتَ في رجلٍ؟

فقلت: كلُّ الذي قد قلتُ في رجلِ

قالت: فمَنْ هو هذا الفردُ سِمْهُ لنا؟

فقلتُ: ذاكَ أميرُ المؤمنينَ عليّ (1)

__________________

(1) الغدير / ج 4 / ص 40.

١٩٣

وهذه الدراسة تعطينا أنّ السبق إلى الفضيلة من مفاخر صفات الصالحين وسجايا المتّقين، المحبوبة عند ربّ العالمين، والشرع المبين، ومن موجبات عظيم الأجر والثواب في يوم الدِّين..

كلّ هذا مضافاً إلى نتائجه الحسنة في نفس هذه الحياة الدُّنيا، فإنّ السبق إلى الفضائل من صنائع المعروف التي تدفع مصارع السوء، وتحفظ الإنسان من البلايا العظيمة كما هو المجرّب المحسوس في قضايا المحسنين.

من ذلك ما حدّث بعض السادة الأجلّاء الثقات ما مضمونه: ـ

أنّه كان في بعض البلاد المقدّسة شخصٌ مؤمنٌ صالح، وكان رجلاً تاجراً متمكِّناً ثريّاً، يحبّ الخير، ويصنع الخير لمن يعرفه ومَن لا يعرفه، خصوصاً الزائرين.

رأى في بعض الأيّام أحد زوّار ذلك البلد المقدّس لم يحصّل على فندقٍ أو محلّ مسكنٍ يسكنه في مدّة زيارتهم هو وعائلته.

وكانت تلك الزيارة أوّل زيارتهم لذلك البلد المقدّس الذي لم يعرف فيه أحداً ولم يتعرّف على أحد.

وكانوا قد جلسوا على رصيفٍ في الطريق ينتظرون الحصول على غرفةٍ فارغة.

فصادفهم هذا التاجر المؤمن، وسألهم: لماذا أنتم جالسون هنا؟

قالوا: ننتظر الحصول على مكانٍ نستأجره ونسكنه.

فقال لهم: ـ لي بيتٌ واسع، ومكانٌ مناسب، ودارٌ مفروشة مع وجبات الطعام.

ففرحوا وأجابوا بالقبول، بعنوان أن يسكنوا في بيته، ثمّ يعطون له الاُجرة التي تدفع إلى الفنادق للسكن والطعام، ظنّاً منهم أنّ بيته معدّ لإيجار الزائرين.

فذهب بهم ذلك التاجر إلى بيته، وأكرمهم غاية الإكرام، وبقوا عنده عشرة أيّام، يخدمهم فيها بالإطعام والإكرام، بغاية الحفاوة والاحترام.

وحينما أرادوا الانصراف والرجوع إلى وطنهم حضّروا له النقود، لدفع ثمن

١٩٤

الإيجار والوجبات الغذائيّة، لكنّه لم يقبل منهم أيّ مال، وأدنى نقود.

وبالرغم من أنّهم أصرّوا عليه كثيراً بالقبول، لم يستجب لهم ذلك، وأجابهم بأنّي آخذ ثمن الإيجار والخدمة من الإمام عليه السلام بأكثر ممّا آخذه منكم، فليطيب خاطركم بذلك.

فتشكّروا منه، وودّعوه راجعين إلى بلدهم.

ومضت على ذلك الأيّام والسنين، ثمّ إنّ ذلك التاجر حدثت له مشكلة سياسيّة أدّت إلى أن يُسجن، ويحتمل عليه الإعدام..

واُجريت عليه لقاءات مع المسؤولين، وسؤال وجواب، ورتّبت له ملفّات شدّدت عليه الأمر.

وفي آخر الأمر جاء عنده في السجن أحد المسؤولين الكبار الذي كانت له درجة عسكريّة رفيعة، وبيده ملفّةٌ كبيرة تخصّني.

فنظر إليَّ مليّاً، ثمّ سألتي ألست أنت الحاجّ فلان، من أهل مدينة كذا، وتسكن دار كذا، في محلّة كذا؟

وأنا في كلّ المسائل اُجيبه بنعم، وتخيّلت أنّه يعرف هذه الخصوصيّات من الأسئلة التي طُرحت عليَّ سابقاً..

لكنّه قال لي: ـ أتعرفني؟

قلتُ في دهشةٍ: لا مع الأسف.

فرفع قُبّعته العسكريّة، وقال: هل عرفتني الآن؟

قلت: ملامحكم مأنوسة عندي، مَن أنتم؟

قال: أنا ذلك الشخص الذي نزلتُ مع عائلتي عندك في سنة كذا، وبقيتُ في بيتك عشرة أيّام، استضفتني فيها بكلّ كرامة.

ثمّ قال: هذه ملفّة إضبارتك التي تنتهي بإعدامك، لكن أنا اُمزّقها، واُسقط

١٩٥

حكم الإعدام قِبال ذلك العطف والإكرام، فمزّقها أمامي وحكم بتسريحي.

فنجوت من الإعدام والسجن بفضل السبق إلى ذلك العمل الخيري الذي عملته أنا محبّةً للإمام عليه السلام وزائريه.

١٩٦

(13)

وإيثار التفضّل

الإيثار: هو التقديم والاختيار على النفس.

قال تعالى: ـ ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) أي يقدّمون عليها.

ويُقال: آثرتُ ذلك أي اخترته، وفضّلته، وقدّمته.

والتفضّل: هو الابتداء بالإحسان.

فإنّ صنع المعروف والفعل الحَسَن قد يكون جزاءً وهو الإحسان..

وقد يكون تطوّلاً وابتداءً به وهو التفضّل، ومنه المواساة.

فالتفضّل هو الابتداء بالإحسان، وابتداء المعروف.

ومن حلية الصالحين وزينة المتّقين أنّهم يقدّمون غيرَهم على أنفسهم ويبتدئون بالفضل والإحسان.

وهو مرغوبٌ وممدوح كتاباً وسنّةً.

أمّا الكتاب فقوله تعالى: ـ

( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .

__________________

(1) سورة الحشر: الآية 9.

١٩٧

وقد أجمع الفريقان في أحاديثهم أنّها نزلت في الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأهل بيته سلام الله عليهم (1) .

ففي حديث شيخ الطائفة الطوسي مسنداً أنّه جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فشكا إليه الجوع.

فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بيوت أزواجه..

فقُلن: ما عندنا إلّا الماء.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من لهذا الرجل الليلة؟

فقال عليّ عليه السلام: أنا له يا رسول الله، وأتى فاطمة عليها السلام وقال لها: ـ

هل عندك يا بنتَ رسول الله صلى الله عليه وآله شيء؟

فقالت: ما عندنا إلّا قوت العشيّة، لكنّا نُؤثِر ضيفنا.

فقال: يا ابنة محمّد نوّمي الصبية، واطفئي المصباح.

فلمّا أصبح عليّ عليه السلام غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله، فأخبره الخبر، فلم يبرح حتّى أنزل الله تعالى: ـ ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2) .

وأمّا السنّة، فيستفاد فضل الإيثار والمواساة في أحاديث بابه مثل: ـ

1 ـ حديث المفضّل قال: كنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام فسأله رجلٌ: في كم تجب الزكاة من المال؟

فقال له: الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟

فقال: اُريدهما جميعاً.

فقال: أمّا الظاهرة ففي كلّ ألف خمسة وعشرون درهماً.

__________________

(1) كنز الدقائق / ج 13 / ص 175، وإحقاق الحقّ / ج 9 / ص 144.

(2) أمالي شيخ الطائفة / ص 188.

١٩٨

وأمّا الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك (1) .

2 ـ حديث السعداني عن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: ـ

( فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (2) .

قال عليه السلام: ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ قال الله عزّوجلّ: ـ

لقد حقّت كرامتي ـ أو مودّتي ـ لمن يراقبني، ويتحابّ بجلالي..

إنّ وجوههم يوم القيامة من نور، على منابر من نور، عليهم ثيابٌ خُضر.

قيل: مّن هم يا رسول الله؟

قال: قومٌ ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، ولكنّهم تحابّوا بجلال الله، ويدخلون الجنّة بغير حساب، نسأل الله أن يجعلنا منهم برحمته (3) .

3 ـ حديث الطبرسي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: ـ

اُتيَ رسول الله صلى الله عليه وآله بأسيرين ـ يهوديّين مستحقّين للقتل ـ فأمر النبيّ بضرب عنقهما، فضُرب عنق واحدٍ منهما، ثمّ قُصد الآخر.

فنزَلَ جبرئيل فقال: ـ يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤوك السلام، ويقول: ـ لا تقتله، فإنّه حسن الخلق سخيُّ قومه.

فقال اليهودي تحت السيف: هذا رسول ربّك يخبرك؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم.

قال: والله ما ملكتُ درهماً مع أخ لي قطّ، ولا قطبتُ وجهي في الحرب، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك محمّد رسول الله.

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 74 / ب 28 / ص 396 / ح 24.

(2) سورة غافر: الآية 40.

(3) بحار الأنوار / ج 74 / ب 28 / ص 396 / ح 25.

١٩٩

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا ممّن جرّه حسنُ خلقه وسخاؤه إلى جنّات نعيم (1) .

وعليه فالإيثار والمواساة فضيلة ممدوحة، وخليقة طيّبة، بدليل الكتاب والسنّة.

وأهل البيت عليهم السلام هم القدوة في إيثار التفضّل، والابتداء بالفضل والإحسان إلى الغير.

وقد آثروا على أنفسهم ثلاثة أيّام في سبيل الله مسكيناً ويتيماً وأسيراً، لا يريدون بذلك منهم جزاءً ولا شكوراً، إلّا رضا الله تعالى، فخصّهم الله بسورة الدهر، كما تلاحظه في جميع تفاسير الفريقين.

ودراسة موجزة في إنفاقاتهم تعطيك صورة واضحة عن أنّهم كانوا قمّة الخلق في الإيثار والمواساة.

من ذلك ما تقرأه في باب إنفاقات أمير المؤمنين عليه السلام (2) .

كإيثاره بالتصدّق بجميع أمواله، ووقف عيون ماءه، وتخصيص حوائطه وبساتينه للفقراء والمساكين، ولم يدّخر لنفسه ديناراً ولا درهماً، ولا حطاماً من حطام الدُّنيا.

قال أبو الطفيل: رأيت عليّاً عليه السلام يدعو اليتامى فيطعمهم العسل ويلعقهم ذلك، حتّى قال بعض أصحابه: لوددتُ أنّي كنتُ يتيماً.

في حين لم يشبع هو من خبز الشعير، ولم يأكل خبز البُرّ، وكان إدامُه الملح فقط، وربما ائتدم باللبن الحامض كما في حديث سويد بن غفلة.

وكان يقول: ـ (أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ، وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ) (3) .

__________________

(1) مشكاة الأنوار / ص 231.

(2) لاحظ بحار الأنوار / ج 41 / ص 24 / باب إنفاقات أمير المؤمنين عليه السلام.

(3) نهج البلاغة / الكتاب 45.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420