دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق14%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213707 / تحميل: 4803
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٦-x
العربية

١
٢

٣
٤

إنه تعالى لا يفعل القبيح

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١)

المطلب الثالث

في أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب

ذهبت الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة إلى أنّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، بل جميع أفعاله حكمة وصواب ، ليس فيها ظلم ولا جور ولا عدوان ولا كذب ولا فاحشة ؛ لأنّ الله تعالى غنيّ عن القبيح ، عالم بقبح القبائح ؛ لأنّه عالم بكلّ المعلومات ، وعالم بغناه عنه ، وكلّ من كان كذلك فإنّه يستحيل عليه صدور القبيح عنه ، والضرورة قاضية بذلك ، ومن فعل القبيح مع الأوصاف الثلاثة استحقّ الذمّ واللوم.

وأيضا : الله تعالى قادر ، والقادر إنّما يفعل بواسطة الداعي ، والداعي إمّا داعي الحاجة ، أو داعي الجهل ، أو داعي الحكمة.

أمّا داعي الحاجة ، فقد يكون العالم بقبح القبيح محتاجا إليه ، فيصدر عنه [ دفعا لحاجته ].

وأمّا داعي الجهل ، فبأن يكون القادر عليه جاهلا بقبحه ، فيصحّ صدوره عنه.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٥.

٥

وأمّا داعي الحكمة ، فبأن يكون الفعل حسنا ، فيفعله لدعوة الداعي إليه.

والتقدير أنّ الفعل قبيح ، فانتفت هذه الدواعي فيستحيل القبح منه تعالى(١) .

وذهبت الأشاعرة كافّة إلى أنّ الله تعالى قد فعل القبائح بأسرها ، من أنواع الظلم والشرك والجور والعدوان ، ورضي بها وأحبّها(٢) .

* * *

__________________

(١) أوائل المقالات : ٥٦ ـ ٥٨ ، تصحيح الاعتقاد : ٤٥ و ٤٩ ـ ٥٠ ، شرح جمل العلم والعمل : ٨٣ و ٨٥ ـ ٨٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٧٩ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٨ و ١٩٩ ، شرح الأصول الخمسة : ٣٠١ ـ ٣٠٢ ، الملل والنحل ١ / ٣٩ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٠.

(٢) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٤٨ ، تمهيد الأوائل : ٣١٧ ـ ٣٢٠ و ٣٦٦ ـ ٣٦٧ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٦٨ ، الملل والنحل ١ / ٨٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥ ، المسائل الخمسون : ٦٠ ـ ٦١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٣ و ٢٣٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ ـ ١٧٤.

٦

وقال الفضل (١) :

قد سبق أنّ الأمّة أجمعت على أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب.

فالأشاعرة من جهة أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه(٢) .

وأمّا المعتزلة فمن جهة أنّ ما هو قبيح منه يتركه ، وما يجب عليه يفعله(٣) .

وهذا الخلاف فرع قاعدة التحسين والتقبيح ، إذ لا حاكم بقبح القبيح منه ، ووجوب الواجب عليه ، إلّا العقل.

فمن جعله حاكما بالحسن والقبح قال بقبح بعض الأفعال منه ووجوب بعضها عليه.

ونحن قد أبطلنا حكمه وبيّنّا أنّ الله تعالى هو الحاكم ، فيحكم ما يريد ويفعل ما يشاء ، لا وجوب عليه ، ولا استقباح منه(٤) هذا مذهب الأشاعرة.

وما نسبه هذا الرجل المفتري إليهم أخذه من قولهم : « إنّ الله خالق

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٨٣.

(٢) المسائل الخمسون ـ للفخر الرازي ـ : ٦١ و ٦٢ ، المواقف : ٣٢٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٩٥.

(٣) المحيط بالتكليف : ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، شرح الأصول الخمسة : ٣٠١ ، المواقف : ٣٢٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٩٥.

(٤) راجع ج ٢ / ٣٥٢ من هذا الكتاب.

٧

كلّ شيء »(١) فيلزم أن يكون خالقا للقبائح

ولم يعلموا(٢) أنّ خلق القبيح ليس فعله ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه ، بل بالنسبة إلى المحلّ المباشر للفعل كما ذكرناه غير مرّة ، وسنذكر تحقيقه في مسألة خلق الأعمال.

* * *

__________________

(١) تمهيد الأوائل : ٣٤١ وما بعدها ، الاعتقاد ـ للبيهقي ـ : ٧٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ ، وانظر ج ٢ / ٣٥٧ من هذا الكتاب.

(٢) يعني بهم الشيعة الإمامية والمعتزلة.

٨

وأقول :

لا يخفى أنّ الأشاعرة لمّا زعموا أنّ الله تعالى خلق الأعمال جميعها ، حسنها وقبيحها ، لزمهم ما ذكره المصنّف من القول : بأنّ الله تعالى فاعل للقبائح بأسرها ، وأجاب الفضل عنه بجوابين :

الأوّل : إنّه لا يقبح من الله فعل القبيح ، إذ لا قبيح منه ولا استقباح بالنسبة إليه ؛ لأنّ قبح الفعل مبنيّ على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ، والأشاعرة لا يقولون بها.

الثاني : إنّ خلق القبيح غير فعله.

وهذان الجوابان ـ مع تضمّن أوّلهما الإقرار بفعل الله سبحانه للقبيح ـ باطلان.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من حكم العقل بالحسن والقبح العقليّين في الأفعال ، وقد أقرّ الخصم به في تحقيقه السابق(١) .

وأمّا الثاني : فلأنّ كون الخلق غير الفعل لا يتصوّر أن يكون مبنيا إلّا على اعتبار أن يكون الفعل قائما في الفاعل وحالّا في ذاته ، بخلاف الخلق ، وهو باطل ؛ لأنّ القتل فعل للقاتل وهو حالّ بالمقتول.

ولو سلّمت المغايرة ، فخلق القبيح صفة نقص في الخالق ، وهو من القبح العقلي المسلّم عندهم على ما أسلفه الخصم.

فإن قلت : الخلق من أفعاله تعالى لا صفاته.

__________________

(١) راجع ج ٢ / ٤١١ فما بعدها من هذا الكتاب.

٩

قلت : المراد بالصفة مطلق ما يفيد الكمال أو النقص لمن ثبت له واتّصف به ، كما يشهد به إرجاع الفضل لبعض الأمثلة التي ألزمهم بها المصنّف إلى صفة النقص أو الكمال ، وبهذا الاعتبار يوصف الله تعالى بالحكمة والغنى والرزق والإحياء ، ونحوها.

ولو سلّم أنّ خلق القبيح ليس صفة نقص في الخالق ، فلا شكّ أنّه مستلزم للنقص في صفاته ؛ لأنّه يعود إلى النقص في القدرة أو العلم أو الحكمة.

ومن المضحك تعليله لكون الخلق غير الفعل ، بأنّه لا قبح بالنسبة إليه ، ضرروة أنّه لا يقتضي المغايرة بينهما ، وإنّما يقتضي أن لا يكون صدور القبيح منه قبيحا ، سواء سمّى صدوره خلقا أم فعلا.

وأمّا قوله : « ولا واجب عليه »

فقد عرفت أنّه مناف لمقتضى الحكمة والعدل ، ومخالف لنصّ الكتاب ، حيث قال تعالى :( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (١)

( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) (٢) و( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (٣) .

كما عرفت بطلان نسبة القبح إلى المحلّ الذي لا أثر له أصلا ، ونفيه عن المؤثّر الموجد ، فإنّه خلاف الضرورة.

* * *

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ٥٤.

(٢) سورة النحل ١٦ : ٩.

(٣) سورة الليل ٩٢ : ١٢.

١٠

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ (١) :

فلزمهم من ذلك محالات

منها : امتناع الجزم بصدق الأنبياء ؛ لأنّ مسيلمة الكذّاب لا فعل له ، بل القبيح الذي صدر عنه من الله تعالى عندهم ، فجاز أن يكون جميع الأنبياء كذلك.

وإنّما نعلم صدقهم لو علمنا أنّه تعالى لا يصدر عنه القبيح ، فلا نعلم حينئذ نبوّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا نبوّة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء ألبتّة.

فأيّ عاقل يرضى لنفسه أن يقلّد من لم يجزم بنبيّ من الأنبياء [ ألبتّة ] ، وأنّه لا فرق عنده بين نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين نبوّة مسيلمة الكذّاب؟!

فليحذر العاقل من اتّباع أهل الأهواء والانقياد إلى طاعتهم ، ليبلّغهم مرادهم ويربح هو الخسران بالخلود بالعذاب(٢) ، ولا ينفعه عذره غدا يوم الحساب.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) في المصدر : في النيران.

١١

وقال الفضل (١) :

قد مرّ مرارا أنّ صدق الأنبياء مجزوم به جزما مأخوذا من المعجزة وعدم جريان عادة الله تعالى على إجراء المعجزة على يد الكذّابين ، وأنّه يجري مجرى المحال العادي(٢) .

فنحن نجزم أنّ مسيلمة كذّاب ؛ لعدم المعجزة ، ونجزم أنّ الله تعالى لم يظهر المعجزة على يد الكاذب ، ويفيدنا هذا الجزم العلم العادي.

فالفرق بينه وبين الأنبياء ظاهر مستند بالعلم العادي ، لا بالقبح العقلي الذي يدّعيه.

وما ذكره من الطامّات والتنفير فهو الجري على عادته في المزخرفات والترّهات.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٨٥.

(٢) الإرشاد ـ للجوينى ـ : ٢٧٣ ـ ٢٧٥ ، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١٢٥ ، المواقف : ٣٤١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

١٢

وأقول :

لا شكّ أنّ النبوّة ليست من المحسوسات الخارجية حتّى تعلم بالحسّ الظاهري ، ولا علم لنا بالغيب حتّى نعلم عادة الله فيها ، وأنّه لا يخلق المعجزة إلّا لصادق ، وهو تعالى عندهم لا يقبح عليه شيء.

فكيف يمكن دعوى العادة بإجراء المعجزة على يد الصادق دون الكاذب ، وأنّ كلّ ذي معجزة صادق دون غيره؟!

بل من الجائز أن يكون كلّ ذي معجزة كاذبا ، ومن لا معجزة له صادقا ، فلا يصحّ الجزم بنبوّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره من الأنبياء ، ولعلّ مسيلمة هو النبي دون نبيّنا! وعلى الإسلام السلام!

* * *

١٣

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم تكذيب الله تعالى في قوله :

( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ) (٢)

( وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) (٣)

( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٤)

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (٥)

( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (٦)

( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) (٧)

( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) (٨)

( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) (٩)

ومن يعتقد اعتقادا يلزم منه تكذيب القرآن العزيز فقد اعتقد ما

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٦.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٠٥.

(٣) سورة الزمر ٣٩ : ٧.

(٤) سورة غافر ٤٠ : ٣١.

(٥) سورة فصّلت ٤١ : ٤٦.

(٦) سورة الكهف ١٨ : ٤٩.

(٧) سورة هود ١١ : ١١٧.

(٨) سورة الإسراء ١٧ : ٣٨.

(٩) سورة الأعراف ٧ : ٢٨.

١٤

يوجب الكفر ، وحصل الارتداد والخروج عن ملّة الإسلام.

فليتعوّذ الجاهل والعاقل من هذه المقالة [ الرديئة ] المؤدّية إلى أبلغ أنواع الضلالة.

وليحذر من حضور الموت عنده وهو على هذه العقيدة فلا تقبل توبته.

وليخش من الموت قبل تفطّنه بخطأ نفسه ، فيطلب الرجعة فيقول :

( رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (١) ، فيقال له :

( كَلاَّ ) (٢) !

* * *

__________________

(١ و ٢) سورة المؤمنون ٢٣ : ٩٩ و ١٠٠.

١٥

وقال الفضل (١) :

قد مرّ أنّ كلّ ما يقيم من الدلائل هو إقامة الدليل في غير محلّ النزاع.

فإنّ الأشاعرة مذهبهم المصرّح به في سائر كتبهم : إنّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يرضى بالقبائح.

والإرادة غير الرضا ، وما ذكر من الآيات ليس حجّة عليهم ، إنّما هي حجّة على من جوّز الظلم على الله والرضا بالكفر.

وهذا الرجل أصمّ أطروش لا يسمع نداء المنادي ، وصوّر عند نفسه مذهبا وافترى أنّه مذهب الأشاعرة ، ويورد عليه الاعتراضات ، وليس أحد من المسلمين قائلا بأنّه تعالى ظالم أو راض بالكفر ، تعالى الله عن ذلك.

وما يزعم أنّه يلزم الأشاعرة فهو باطل ؛ لأنّ الخلق غير الفعل.

والعجب أنّه لا يخاف أن يلقى الله بهذه العقيدة الباطلة ، التي هي إثبات الشركاء لله تعالى في الخلق ، مثل المجوس.

وذلك المذهب أردأ من مذهب المجوس بوجه ؛ لأنّ المجوس لا يثبتون إلّا شريكا واحدا يسمّونه ( أهرمن )(٢) ، وهؤلاء يثبتون شركاء

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٨٧.

(٢) وأهرمن ، أي : الشرّ أو الضرّ والفساد ، أو الظلمة ؛ وهو الأصل المحدث

١٦

لا تحصر ولا تحصى( إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) (١) .

* * *

__________________

والأصل الأزلي هو : يزدان ، أي : الخير أو الصلاح والنفع ، أو النور.

انظر : شرح الأصول الخمسة : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ، الملل والنحل ٢ / ٢٦٠ ـ ٢٦١ ، شرح المواقف ٨ / ٤٤.

(١) سورة الصافّات ٣٧ : ٣٥.

١٧

وأقول :

قد سبق أنّ خلق الشيء بالاختيار يتوقّف على الرضا به والحبّ له(١) ، فيلزم ـ بناء على أنّه سبحانه خالق القبائح والفساد والكفر ـ أن تكذب الآيتان الأوليان.

كما يلزم ـ بناء عليه ـ أن تكذب الآيات النافية للظلم منه تعالى ؛ لأنّه إذا خلق ظلم الناس بعضهم لبعض كان هو الظالم للمظلوم حقيقة ، مضافا إلى أنّ خلقه تعالى لسيّئات العباد وتعذيبهم عليها ظلم لهم بالضرورة.

ويلزم ـ أيضا ـ أن تكذب الآية الأخيرة ؛ لأنّه إذا خلق الفحشاء لم يصحّ أن يتنزّه عن الأمر بها ، بل خلقه للفحشاء بقوله : « كوني » بمنزلة أمر الفاعل بها.

فإن قلت : لا ظلم منه تعالى ؛ لأنّه المالك المطلق ، وقد تصرّف في ملكه.

قلت : تصرّف المالك بملكه ـ ذي الحياة والشعور ـ بالإضرار به بلا سبب ظلم له بالضرورة ، ويدلّ عليه قوله تعالى :( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) (٢) .

فإنّه صريح بأنّ إهلاك القرى مع إصلاح أهلها ظلم ، والحال أنّه من التصرّف في الملك.

وممّا ذكرنا يعلم أنّ ما زعمه الخصم من أنّهم ينفون الظلم والرضا

__________________

(١) مرّ كلام الشيخ المظفّر١ بهذا الخصوص في ج ٢ / ٣٦٤ من هذا الكتاب.

(٢) سورة هود ١١ : ١١٧.

١٨

بالكفر والقبائح عن الله تعالى باطل.

ولا يتوقّف إثبات الرضا له تعالى بالقبائح على أنّ يكون بمعنى الإرادة ، وليس هو من قولنا ولا قول أحد.

وإنّما نقول بتوقّف الفعل الاختياري على إرادته ، وهي موقوفة على الرضا به ، فيتوقّف الفعل على الرضا به.

وما زعمه من أنّ الخلق غير الفعل قد سبق بطلانه(١) ، على أنّ الخلق للشيء يتوقّف على الرضا به بالضرورة ، ويستلزم إثبات الظلم لله تعالى وإن لم يسمّ الخلق فعلا.

ولا لوم على المصنّف في عدم التفاته إلى مثل تلك الأجوبة الفارغة عن المعنى ، المبنية على مجرّد الاصطلاح أو على أمور ضرورية الفساد.

وأمّا ما نسبه إلينا من إثبات الشركاء لله سبحانه في الخلق ، فقد سبق ما فيه(٢) ، وأنّ إيجادنا لأفعالنا إنّما هو من آثار قدرته ؛ لأنّ قدرتنا وتأثيرنا من مظاهر قدرته ، ودلائل لطف صنعه وحكمته ، فنحن لم نستغن عنه في حال ، ولم نفعل بقوّة منّا واستقلال.

وأيّ مناسبة لهذا بالشركة في الخلق المنصرف إلى كونه في عرضه تعالى؟! وبقول المجوس بإلهين مستقلّين؟! بل قول الأشاعرة أشبه بقول أكثر المجوس ؛ لأنّهم معا يثبتون القدماء(٣) .

ويزيد الأشاعرة على بعض المجوس بإثباتهم حاجة الله تعالى في

__________________

(١) راجع الصفحتين ٩ ـ ١٠ من هذا الجزء.

(٢) انظر ج ٢ / ٣٥٩ من هذا الكتاب.

(٣) راجع ج ٢ / ٢٦٧ ه‍ ٤ من هذا الكتاب.

١٩

خلقه إلى غيره ، وهو صفاته(١) .

والبعض من المجوس ـ كما قيل ـ يقرّون بالله تعالى ، ويجعلونه خالق الخير ، بلا حاجة منه سبحانه إلى غيره(٢) .

* * *

__________________

(١) انظر الهامش السابق.

(٢) راجع : الملل والنحل ٢ / ٢٦١.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً

____________________________________

من طريق على عن ابن عباس في الآية لا يتمنى الرجل فيقول ليت لي مال فلان واهله : وفي نهي الآية وسوقها توبيخ كبير على غفلة الإنسان عما يتمتع به من النعم العظيمة وعن الله المنعم بها عليه وعن عظيم ملك الله وقدرته ، وجوده ، وحكمته ، فتطمح نفسه الخسيسة إلى خصوص ما عند غيره مما اقتضت حكمة الله ورحمته أن ينعم بها عليه فيتمناه لنفسه مع ان الله قادر على إعطائه مثله وخيرا منه. أفلا يجب على العبد أن يرغب إلى ربه وخالقه مالك الملك القادر المنعم الوهاب. وماذا ينال من التمني إلّا حسراته وخسة الحسد وآلامه( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ) من عطاء الله ونعمته وفضله( مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) وحصل لهم بالملك والجدة والاختصاص ولو بالإرث مثلا. وفي النهاية في الحديث أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وولده من كسبه. أو ان المراد اشارة إلى الغالب من ان الناس يسعون ويسترزقون الله فينعم الله عليهم بكسبهم. و «من» الجارة في «مما» في كلتا الجملتين وعلى كلا الوجهين هي بيانية لبيان النصيب فإن نصيبهم من عطاء الله هو كل ما اكتسبوه لا بعضه. فما بال الذين يركنون إلى أوهام الأماني وهي التي تجر إلى الشر واختلال النظام. يا ايها الذين آمنوا إلّا تعلمون ان الله هو خالقكم ورازقكم ارحم الراحمين واسع الرحمة ، والخزائن والفضل بيده الأمور فارغبوا إليه( وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ ) ولا يزال( بِكُلِّ شَيْءٍ ) حتى تمنيكم الفاسد وحكمة اعطائكم وتفضيل بعضكم على بعض ومصالحكم ودعائكم ورغبتكم فيما عنده وتوكلكم عليه وتسليمكم لحكمته ومشيئته( عَلِيماً ) - ولا زال القرآن الكريم من أول السورة يستقصي ببيانه الشافي مهمات نظام العدل وتهذيب الأخلاق وحقائق الإصلاح الفردي والاجتماعي من الأمر بالتقوى وهي روح الإصلاح وقوامه إلى التذكير بالاخوة البشرية والخلق من نفس واحدة إلى رعاية الأرحام إلى رعاية اليتامى وأحكامهم وحفظ الوصاة بحفظ أموالهم وحسن معاملتهم والولاية عليهم إلى حقوق المواريث والوصايا واحكام النساء والعدل في معاملتهن إلى احكام النكاح وما فيها من الإرشاد إلى الأصلح. إلى رعاية العدل والحقوق إلى النهي عن سوء التمني لشخص ما أنعم الله به على الغير مع ما يقتضيه اللطف في كل مقام من الترغيب والترهيب والتوبيخ

١٠١

(٣٣)وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ

____________________________________

والإنذار بالحكمة والموعظة الحسنة. ومن هذا الاستقصاء الكريم إشارته جل اسمه إلى رعاية الأطراف من الأقارب في الميراث كالأجداد والأعمام والأخوال وان علوا وأولادهم وأولاد الاخوة والأخوات وان نزلوا فقال جل اسمه ٣٣( وَلِكُلٍ ) من صنفي الرجال والنساء( جَعَلْنا ) بحسب الخلقة وسنة الموت والبقاء وشريعة المواريث على العدل والحكمة( مَوالِيَ ) يرثونهم لأنهم الأولى بهم بحسب القرابة وبميراثهم بقاعدة الأقربين وان اولي الأرحام بعضهم اولى ببعض. أو بسبب الولاء ان لم يكن هناك أولو الأرحام( مِمَّا ) أي من الصنف الذي( تَرَكَ ) أباهم من الأقرباء( الْوالِدانِ ) إذا ماتوا قبل ولدهم وتركوا ممن يمت بهم وارثا للميت كالأجداد من ناحية الأب أو الأم. والأعمام أولادهم من ناحية الأب والأخوال أولادهم من ناحية الأم( وَ ) مما تركه( الْأَقْرَبُونَ ) كأولاد الاخوة والأخوات ونحو ذلك.

في التهذيب في الصحيح عن زرارة عن الصادق (ع) في الآية عنى بذلك اولي الأرحام في المواريث فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجره اليه. إنتهى وفي الآية غير ما ذكرنا من التفسير والإعراب ولكن الظاهر منها هو ما ذكرناه( وَ ) من( الَّذِينَ عَقَدَتْ ) مولويتهم لكم( أَيْمانُكُمْ ) جمع يمين بمعنى القسم أو كما قيل بمعنى اليد اليمنى التي تعطى عادة عند العهد والاول اظهر. واخرج البخاري وابو داود وابن جرير والحاكم وفي الدّر المنثور عن غيرهم أيضا من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجر الانصاري دون ذي رحمه للأخوة التي آخى رسول الله (ص) بينهم فلما نزلت هذه الآية ولكل جعلنا موالي نسختها ثم قال والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصرة والنصيحة والرفادة والوصية يوصى له وقد ذهب الميراث أقول وما ذكر في الرواية من النسخ ووجهه لا يكاد ان يستقيم فإنه ما كل إنسان جعل له موالي مما ترك الوالدان والأقربون لكي ينحصر الإرث بهم فينسخ بذلك ارث غيرهم ويكون الإرث بالاخوة من المنسوخ واما جعل الموالي للصنفين من الرجال والنساء فلا يدل على نسخ التوارث بين المهاجرين والأنصار بسبب الاخوة لو كان لذلك حقيقة مضافا إلى ان الظاهر من النصيب هو الميراث لا ما ذكر في الرواية. واخرج أبو داود وابن جرير وعن ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر فنسخ ذلك في الأنفال فقال( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ

١٠٢

أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) .وفي الدّر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنخاس في ناسخه وابن مردويه عن ابن عباس وذكر نحوه. ويعارض الروايات عن ابن عباس ما أخرجه أبو داود وعن ابن أبي حاتم عن ام سعد بنت الربيع وكانت يتيمة في حجر أبي بكر ان قوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) نزلت في أبي بكر وأبيه عبد الرحمن حين ابى الإسلام فحلف أبو بكر ان لا يورثه فلما اسلم امره رسول الله (ص) ان يعطيه سهمه والحديث صحيح في اصطلاحهم. ومع ذلك فالروايتان المذكورتان عن ابن عباس في معنى الذين عقدت ايمانكم وفي الناسخ متعارضة في نفسها. على ان الميراث بالمؤاخاة لو كان له اصل لم يتوقف نسخه على هذه الآية لأنه منسوخ بأولى آيات المواريث وأساس قانون وهو قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) . وان نظم هذه الآية وسوقها ليشهدان بأن حكم الذين عقدت الأيمان ولاءهم متأخر في الرتبة عن حكم اولي الأرحام والأقربين كما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه محتجين بالآية وبقوله تعالى فيها( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) . وفي اصول الكافي وعن العياشي في الصحيح عن ابن محبوب عن الرضا انه سأله عن الآية فقال (ع) إنّما عنى بذلك الأئمة (ع) بهم عقد اللهعزوجل ايمانكم إنتهى ولا يخفى ان اليمين تعقد عقدة مؤداها وعليه الآية ويعقدها الحالف وعليه قوله تعالى في سورة المائدة ٨٨( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) ويعقدها المستحلف آخذ الميثاق والآمر بالحلف وإعطاء العهد وعليه جاءت الرواية نظرا إلى ان يمين الولاء وميثاقه قد أخذها الله على العباد وامر بإعطاء عهدها والرواية ناظرة إلى المصداق العام لجميع المسلمين وغير نافية للمصداق الاتفاقي وهو الإرث بولاء النصرة وضمان الجريرة ومنه ولاء السائبة من المعتقين. ومعنى الرواية جار على مبدأ الأئمة من العترة أهل البيت في كونهم كرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اولى بالمؤمنين من أنفسهم على نهج حديث الغدير المتواتر وانهم داخلون في الميثاق المذكور في قوله تعالى في سورة آل عمران( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ ) إلى قوله تعالى( وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) كما تقدم في الجزء الأول ص ٣٠٣ حتى ٣٠٦ فإن قيل ان نزول هذه الآية كان قبل واقعة الغدير وما هو على نهجها ولفظ عقدتم فيها للماضي فلا يدخل فيها عهد الغدير وميثاقه - قيل - لا يلزم ان يكون المضي في القرآن الكريم باعتبار زمان النزول بل يأتي باعتبار أمر آخر مثل قوله تعالى في الآية الآتية( وَبِما أَنْفَقُوا ) وفي سورة المزّمل ٢٠( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ ) إذ ليس المراد ما تيسر قبل نزول السورة فإن سورة المزّمل

١٠٣

فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى

____________________________________

من أوائل ما نزل من القرآن حال كون الجل من المخاطبين لم يكونوا حينئذ من المسلمين ولم يعرفوا شيئا من القرآن بل المراد ما تيسر عند واجب القراءة. وقوله تعالى في سورة المائدة( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) : وعلى هذا المبدأ يكون الأئمة كرسول الله ورّاث من لا وارث له من أرحامه ومولى العتاقة. أخرج أحمد في مسنده وابو داود في جامعه والحاكم في مستدركه بأسانيد متعددة عن المقدام عن النبي (ص) انا وارث من لا وارث له ارثه واعقل عنه : أو افك عانية وأرث ماله كما في جامع أبي داود. وفي رواية انا ولي من لاولي له افك عنه وأرث ماله. وفي رواية أنا مولى من لا مولى له أرث ماله وأفك عنه. أو افك عانية كما في المستدرك وعلى ما ذكرناه اجماع أهل البيت والإمامية وحديثهم. واما ما جاء في الحديث من ان رسول الله (ص) أمر فيمن لا وارث له بإعطاء ماله لأهل بلده. أو لواحد من قبيلته أو لرجل من قبيلته كما في روايات أبي داود في جامعه فهو تنازل منه (ص) عن حقه كما روى الترمذي عن عائشة انه (ص) أمر بميراث مولاه لأهل القرية(١) كما روى في الوسائل عن الكافي والتهذيب عن علي (ع) في ميراث من لا وارث له انه كان يعطيه أو يأمر بإعطائه لأهل بلده. وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة عن الباقر والصادق والكاظم (ع) ان ميراث من لا وارث له من الأنفال المختصة بالرسول (ص) والإمام (ع) كما احصى روايته في الوسائل وعليه اجماع الإمامية ولئن روي عن بعض الأئمة (ع) انه لبيت المال فهو تنازل منهم عن حقهم لمصلحة الوقت( فَآتُوهُمْ ) تفريع على جعل الموالي المتقدم ذكرهم( نَصِيبَهُمْ ) من تركته إذ قد يكون معهم زوج أو زوجة أو وصية أو دين( إِنَّ اللهَ كانَ ) ولا يزال( عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ) لا يغيب عنه شيء فلا تخونوهم في نصيبهم الذي كتب الله واحذزوا من الله الشهيد ثم استثنى التعليم والإرشاد جلت الطافه في النظام العائلي وامر الأزواج في التأديب والإصلاح فقال جلت الطافه ٣٤( الرِّجالُ قَوَّامُونَ ) القوام كثير القيام. وقام على الشيء أي في تدبيره وإصلاح شؤونه ومنه القيم على اليتيم والمراد من المبالغة هنا دوام قيام الرجل على المرأة في شؤون إرشادها. وتأديبها وتثقيفها ما دامت معاشرة له. فهم قوامون بحسب ناموس الخلقة والفطرة والشريعة( عَلَى

__________________

(١) وفي كنز العمال ومختصرة في رواية الديلمي عن ابن عباس ان مولى لرسول الله (ص) توفى فقال (ص) انظروا همشهريا له فأعطوه ميراثه يعني من هو من أهل بلده

١٠٤

النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ

____________________________________

النِّساءِ ) بالاستحقاق والفضيلة لا تحكما بل بما اقتضته الحكمة في الخلق وحسن النظام وذلك( بِما فَضَّلَ اللهُ ) آلههم وخالقهم على الحكمة به( بَعْضَهُمْ ) أي بعض الرجال والنساء وهم الرجال بحسب النوع والغالب( عَلى بَعْضٍ ) أي النساء بحسب النوع والغالب من قوة المدارك وكمال الخلقة والأخلاق كما لا يخفى ذلك كله حتى ان المشرحين متفقون بحسب ما وجدوه بالتتبع على ان دماغ الرجل وقلبه اكبر من دماغ المرأة وقلبها في جميع الأدوار للقلب والدماغ وقد اقتضت حكمة الاجتماع والاشتباك في العشرة المدنية والتناسل والتربية ان يخلق الله هذين الصنفين من الإنسان على هذا الناموس لكي ينضوي الصنفين في كنف الآخر فتستحكم الروابط ويستوسق الارتباط. مع ان صفات كل من الصنفين هي النعمة بحسب ذلك الصنف فيما يراد منه في حياته الفردية والاجتماعية. وهي النعمة على مجموع النوع في بقائه وانتظام امره. فرب فضل لفاضل يعود بالنعمة على المفضول. ورب مفضولية هي نعمة على المفضول. فشرع للرجال أن يكونوا قوامين على من يرتبط معهم في العشرة من النساء بسبب فضل الرجال( وَبِما أَنْفَقُوا ) في شأنهن وعليهن( مِنْ أَمْوالِهِمْ ) وليس المراد ما مضى من الإنفاق قبل زمان النزول فإن الآية عامة لكل زمان بل المراد الاستلفات إلى ما يتمثل في الوجود من الإنفاق قبل ترتيب الآثار الثابتة للقيمومة من الإرشاد والتعليم والتأديب فإن الإحالة على واجب المستقبل أمر لا يمثل للأذهان فضيلة الإنفاق( فَالصَّالِحاتُ ) من النساء صلاحهن على الاستقامة فيما يراد منهن فهن( قانِتاتٌ ) أي مطيعات وفي تفسير القمّي عن رواية أبي الجارود قانتات أي مطيعات. واطلاق الصفة فضلا عن معنى القنوت يفيد الدوام وملكة الطاعة. وإن كان القنوت مختصا بطاعة الله فإن وصفهن بذلك يتكفل بكونهن مطيعات لأزواجهن على ما أمر الله به( حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ ) الغيب كالغياب والغيبة مصدر غاب خلاف الشهود أي حافظات لغيبة الناس من ان يقع فيها ما لا يرضى الناس ان يقع فيها ولا ينبغي وقوعه فيها مما فيه توهين وغدر لحقوقهن اغتناما لفرصة غيابهم. والظاهر في تمجيدهن بالصفة كونها عن ملكة تعم غيب الناس وأزواجهن فإن ذلك هو المناسب لوصف الصالحات واثبت في حفظهن لغيب أزواجهن

١٠٥

بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ

____________________________________

في انفسهن وأموالهم ومالهم وغير ذلك من الحقوق. وفي الآية تنبيه على ان الغيب له حرمة ينبغي ان يحفظ فيها عن وقوع المنافي فيه( بِما حَفِظَ اللهُ ) أي بالنحو الذي حفظه الله في شريعته بأوامره ونواهيه وزواجره وما شرعه من الحقوق كما هو مفصل في القرآن الكريم وفي أبوابه من السنة من آداب الشريعة بل حتى الحقوق العرفية التي يريد الأزواج رعايتهم وحفظ شرفهم في حفظها دون ما جوزه الشارع مما يلزم من أداء الشهادة ولوازم نصح المستشير وأمثال ذلك فإنه ليس مما حفظ الله الغيب فيه. وقد ذكر في الآية تفاسير أخر وهذا هو الظاهر والأنسب( وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ ) اصل الارتفاع وكنى به هنا عن ارتفاع الزوجة بطغيانها عن طاعة زوجها وحقوقه وتباعدها بتمردها عن ذلك. ويكون ذلك بعد التدرج منها بالخروج عن الطاعة وحفظ حقوق الزوج وواجباته فتكون أوائل التدرج في ذلك منها باعمالها وأخلاقها منذرة ببلوغها مقام النشوز الوخيم ، والطغيان في الخروج عن الموافقة والاستقامة. وهذه الأوائل هي مقام الخوف الذي شرع الله فيه التدرج بالاستصلاح واذن فيه بقوله تعالى( فَعِظُوهُنَ ) بما يرجى تأثيره من أنحاء المواعظ من نحو الترغيب بثواب المطيعات لأزواجهن والإنذار بسوء عواقب المعصية ووبال النشوز وعقابه بما جاء في الكتاب والسنة بل حتى من التجارب عواقب النواشز وحسن حال المطيعات( وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ) في التبيان وقيل هو هجر المضاجعة وهو قول أبي جعفر (ع) وقال «يعني أبي جعفر الباقر «ع») يحول ظهره إليها : ونسبه في المبسوط إلى رواية أصحابنا أقول وهو الظاهر من الآية فإن المضاجع فيها ظرف للهجران لظهور كلمة «في» في الظرفية وان تحويل ظهره إليها مع ما يلزمه من عدم تكليمه لها هو الذي تتجلى منه ظواهر الهجران المؤلم للمرأة دون ترك الكلام معها مع إقباله عليها بمقاديم بدنه إذ يحتمل ان يكون ترك الكلام لفكر أو كسل أو نعاس ونحو ذلك. واما ذكره في الدّر المنثور عما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس «لا تضاجعها في فراشك» فإنه غير الهجران في المضاجع ولا يكون المضجع على هذا ظرفا للهجران نعم يمكن التكلف لتأويله بأن كلمة «في» للسببية داخلة على محذوف يئول إليه تأويل الكلام ولكن فيه من التكلف ومخالفة الظاهر ما لا يخفى. ولا يصح في الآية ما قيل من حملها على المعنيين المذكورين وذلك لما ذكرنا مرارا من ان اللفظ لا يجوز ان يجمع فيه بين المعنيين أو المعاني المتعددة. وفي

١٠٦

وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٥)وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما

____________________________________

الدّر المنثور ذكر عمن أخرج عن ابن عباس في معنى الهجران في المضاجع روايات متعددة متعارضة( وَاضْرِبُوهُنَ ) في التبيان وأما الضرب فإنه غير مبرح بلا خلاف إنتهى والمبرح هو ما يوجب المشقة والشدة والظاهر اتفاق المسلمين على هذا القيد وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص عن رسول الله (ص) في خطبته في حجة الوداع. وأخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول الله (ص). ورواه في الدّر المنثور عما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أقول ويلزم ذلك ان لا يكون الضرب مدميا ولا كاسرا بل ولا في المواضع التي هي معرض للخطر وسوء الأثر. وفي التبيان قال أبو جعفر يعني الباقر (ع) بالسواك واخرج ابن جرير عن عطا عن ابن عباس بالسواك ونحوه ولعل المراد بعود مثل عود السواك. وكيف كان فلا تصلح الروايتان من حيث سندهما لتقييد الضرب في الآية نعم يكفي في تقييدها الإجماع على ان لا يكون مبرحا. والمعلوم من الآية كون الضرب للتوصل إلى إصلاح المرأة وانابتها إلى الطاعة فيلزم الاقتصار على اقل ما يرجى به حصول الغرض كما وكيفا ويتدرج فيه ما لم يحصل اليأس من تأثيره. وكذا الكلام بالنسبة إلى التدرج في الوعظ إلى الهجران إلى الضرب والجمع بين بعضها وبينها. والآية الكريمة زعيمة ببيان هذه التفاصيل ببيان ان ذلك لأجل التوصل إلى التأديب والاستصلاح والطاعة بقوله تعالى( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ ) فيما تجب فيه طاعة الزوجات( فَلا تَبْغُوا ) ولا تتطلبوا( عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ) بتشبثات التهم وسوء الظن وتكليف القلوب فوق ما تقتضيه الأحوال فإنكم مأمورون بمعاشرتهن بالمعروف وبعض الظن اثم وامر القلوب بيد الله( إِنَّ اللهَ كانَ ) ولا يزال( عَلِيًّا ) في عدله واحكامه وحكمته( كَبِيراً ) في جلاله لا يكلف فوق الطاقة ولا يهمل ارشاد عباده في نظام اجتماعهم وتعليمهم. وسيأتي إن شاء الله في أواخر السورة ما يعود إلى خوف المرأة من نشوز الزوج واعراضه وحكمة إصلاحه ٣٥( وَإِنْ خِفْتُمْ ) يا ايها الذين تعنيهم شؤون الزوجين بسبب الروابط والأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس عند ظهور المنافرة بين الزوجين وخشيتهم من عاقبة ذلك( شِقاقَ بَيْنِهِما ) باستمرار الخلاف بحيث ينشق ائتلافهما إلى شقين متباينين في

١٠٧

فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً

____________________________________

العداوة والبغضاء( فَابْعَثُوا ) الخطاب في الآية بصيغة الجمع وليس في عصر الخطاب من له ولاية الحكم الشرعي إلّا واحد وهو رسول الله (ص) فمقتضى ظاهرها ان بعث الحكمين عند خوف الشقاق لا يختص بمن له الولاية العامة. وعن تفسير العياشي وفي الدّر المنثور عن عبيدة السلماني أن امير المؤمنين علي «ع» أمر الفئامين الذين جاءا مع الرجل والمرأة أن يبعثوا حكما من اهله وحكما من أهلها ولم يكن «ع» هو المتصدي للبعث. نعم من يكون له الولاية بسيطرته منفذا لأحكام التحكيم كما في سائر الأحكام الشرعية. لكن في التبيان أن المأمور ببعث الحكمين هو السلطان الذي يترافعان اليه. وجعله أصح الأقوال. وفي المسالك انه قول الأكثر. وفي مجمع البيان وهو الظاهر في الاخبار عن الصادقين «ع» وفي كنز العرفان وهو المروي عن الباقر والصادق «ع» وهو الأصح لأن أول الكلام في «خفتم» يدل عليه أقول اما الرواية عن الباقر والصادق «ع» فلم اعثر على اثر لها بل لعل المستفاد مما سنشير إليه من الروايات خلافه. واما الخطاب في «خفتم» فيدل على خلاف ما ذكره كما ذكرناه( حَكَماً ) الحكم هو من ينصب للتحكيم( مِنْ أَهْلِهِ ) أي من أهل الزوج( وَحَكَماً ) آخر( مِنْ أَهْلِها ) وذكر الأهل لأنهم اقرب إلى الاطلاع على الخفايا ومناهج الإصلاح. والظاهر عدم الانحصار بهم خصوصا مع عدمهم أو عدم صلاحيتهم لذلك ولا بد من كون الحكم بحسب حكمة الآية صالحا للكفاية في المقام بحسب ذاته واهتدائه لما يراد فيه مكلفا عاقلا مسلما إذا كان الزوجان مسلمين أو كان أحدهما مسلما. وفي اعتبار العدالة شك نعم يعتبر الاطمئنان بامانتهما في المقام واما الذكورة والحرية فالإطلاق ينفي اشتراطهما في المقام. وقد استفاض الحديث في ان حكمهما بالفراق موقوف على اذن الزوجين أو اشتراط الحكمين عليهما واتفاق الحكمين كما في موثقة سماعة عن الصادق «ع» وموثقة ابن مسلم عن أحدهما «ع» وصحيحة الحلبي وروايتي أبي بصير عن الصادق «ع» والبطائني عن الكاظم «ع» وعلى ذلك ما أشرنا إليه من رواية عبيدة السلماني عن امير المؤمنين (ع). وان اشتراط الاذن من المرأة واجتماع الحكمين في الفراق جار على الغالب في المقام من كونه بالخلع والمباراة ومن هنا يؤخذ انه لا يمضي إسقاط الحكمين لحقوق أحد الزوجين أو كليهما إلّا باذنه أو إذنهما. نعم يحكمان بما يقتضيه نشوز أحدهما أو كليهما من الأحكام الشرعية فينفذ الحاكم ذلك بسيطرته ان لم يتيسر لهما إصلاح الزوجين( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً ) الظاهر من السياق كون

١٠٨

يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٦)وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً

____________________________________

الضمير عائدا إلى الحكمين فإن أرادا إصلاح شأن الزوجين وكان ذلك من نيتهما لا ميل كل واحد لجانب( يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) ويجمع رأيهما على الصواب( إِنَّ اللهَ كانَ ) ولا يزال( عَلِيماً ) بحقائق الأمور وحكمتها( خَبِيراً ) بالسرائر والنيات. ثم شاء الله ان يواصل لطفه على الإنسان بهدايته إلى اسباب السعادة وصالح الأعمال ومكارم الأخلاق وحسن السلوك في الحياة الدنيا والقيام بحقوق النوع. وصدّر ذلك بأفضل الأوامر وأساس النجاة وروح الصلاح وجامع الهدى فقال جلت آلاؤه ٣٦( وَاعْبُدُوا اللهَ ) إلهكم يا أيها الناس( وَلا تُشْرِكُوا بِهِ ) في العبادة( شَيْئاً ) وهذا النهي بمنزلة التفسير للأمر المعطوف عليه فإن عبادة الله لا تستقيم لها حقيقة مع الإشراك به في العبادة وقد تقدم بعض البيان لمعنى العبادة في الجزء الأول ص ٥٧ حتى ٥٩ وحاصل الأمر هنا استشعروا مظاهر الخضوع لله إلهكم بالخضوع الذي يوفى به حق امتياز الله إله العالمين بالإلهية. ويقرب ان ينظر في معنى العبادة إلى طاعة الله إله العالمين في أوامره ونواهيه باعتبار الخضوع لمقام إلهيته بالطاعة والإذعان لان الطاعة هي باب السعادة في الدارين وينظر بالشرك هنا إلى ما يعم مخالفة الله بالاتباع للهوى والانقياد للشيطان فإن ذلك وإن لم يوجب منه محض المعاصي في الأعمال كفرا وخروجا عن الدين لكنه خلل في حق الخضوع لله ومقام إلهيته على حد قوله في سورة يس( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) ( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) أي أحسنوا إحسانا نائب عن فعله في الدلالة على الأمر والتأكيد في الإغراء بالإحسان يقال احسن إليه وأحسن به كما يقال أساء إليه وأساء به كما في قول كثير : -

اسيئي بنا أو احسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية ان تقلت

وقد تكرر قوله تعالى في الوصية بالوالدين( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) كما في سورة البقرة ٨١ والأنعام ١٥٠ والاسراء ٢٢. وإن قول القائل احسن به وبالوالدين إحسانا يدل على دوام الإحسان وعدم الإساءة. وذلك لأن معناه جعل فعله به حسنا وإحسانا ومعنى الآية وأحسنوا بالوالدين فعلكم معهم. وهذا الوجه ظاهر من شعر كثير وان كان في استعمال

١٠٩

وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ

____________________________________

القرآن الكريم اظهر. بخلاف احسن إليه فإن معناه أو صل إليه إحسانا وهو يجتمع مع انقطاع الإحسان. وهذا هو السر في دوام تعبير القرآن الكريم في الوصية بالوالدين بهذه العبارة المذكورة في الآية( وَبِذِي الْقُرْبى ) والرحم( وَالْيَتامى ) فإنهم مورد الرحمة والرأفة والإحسان( وَالْمَساكِينِ ) وهم الفقراء مع ضعف يرثى فيه لحالهم. ولا يخفى ما في الإحسان بهؤلاء المذكورين من الأهمية في كرم الأخلاق والرحمة والاسعاف والقيام بالواجب( وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ ) بضم الجيم والنون. وفي الدّر المنثور ذكر جماعة اخرجوا من طرق عن ابن عباس في قوله تعالى( وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى ) يعني الذي بينك وبينه قرابة.( وَالْجارِ الْجُنُبِ ) يعني الذي ليس بينك وبينه قرابة. وعن تفسير العياشي عن ابن عباس نحوه. فيكون التكرار لذي القربى باعتبار امتيازه بحق الجوار ايضا. قال في الكشّاف وانشدوا لبلعان أو بلعاء بن قيس : -

لا يجتوينا(١) مجاور ابدا

ذو رحم أو مجاور جنب

وفي المصباح عن بعض اللغويين أن الجنب بمعنى الأجنبي وهو ظاهر القاموس. ومقتضى القاموس والمصباح أن القربى كالقرابة مختصة بالقرب في الرحم لا في المكان لكن في الكشّاف اختار تفسير الآية بالذي قرب جواره والذي جواره بعيد. وفي مختصر التبيان نوع اضطراب وأظنه من الاختصار أو الناسخ واقتصر في مجمع البيان على نقل الأقوال( وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ) بفتح الجيم وسكون النون في القاموس هو شق الإنسان وغيره. وفي الدّر المنثور ذكر من أخرج عن ابن عباس انه الصاحب في السفر. ومن أخرج عن علي (ع) انه امرأة الرجل ومن أخرج عن ابن مسعود وابن عباس مثله أقول ولا مانع من شموله للأمرين ويشهد لذلك روايتهما معا عن ابن عباس وكذا من يصاحبه في الحضر بجنبه ماشيا أو جالسا. وفي التبيان نسب الأمرين إلى القيل وقال وقيل هو المنقطع إليك رجاء رفدك وقيل انه جميع هؤلاء وهو أعم فائدة وتبعه على ذلك في مجمع البيان وزاد فيه الخادم الذي يخدمك كما اختار العموم أقول إن إدخال المنقطع رجاء الرفد إذا لم يكن له صحبة إلى الجنب في الخارج يستلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الاستعمال( وَابْنِ السَّبِيلِ ) وهو المنقطع به في سفره عن مدد قومه

__________________

(١) من اجتوى البلاد إذا كرهها واستوخمها أو لم يوافقه ماؤها وهواؤها

١١٠

وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٧)الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٨)وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ

____________________________________

ووطنه وموارد نفعه ورفع احتياجه وفي تفسير القمّي أبناء الطريق الذين يستعينون بك في طريقهم وفي التبيان المسافر وقيل هو الضيف وقال أصحابنا يدخل فيه الفريقان قلت كما يعرف ذلك من مباحث الزكاة( وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) يعني العبيد والإماء كما في التبيان. وان وجوه الرجحان للإحسان بالذين ذكروا لهي راجحة في سنن الأخلاق الفاضلة والنفوس المهذبة ولا يدخل فيها ما هو معصية لله أو يستلزم إساءة إلى شخص آخر. وقد كبر شأن الإحسان بهؤلاء المذكورين إذ قرن وصيته به بالوصية بعبادته وعدم الإشراك به. ولعمر الحق ان هذه الأمور الموصى بها لمما تنادي به الفطرة وتهتف به الحجّة ويشهد بها الوجدان وتحث عليه الفضيلة ، وتبعث عليه الأخلاق الفاضلة والعاطفة الصالحة ولا يحيد عنها إلّا من أعجبته نفسه الساقطة بخيلائها الممقوت واستكباره التعيس ، فيكون مختالا بغروره استكبارا ، فخورا من عجبه بنفسه بما ليس فيه قد اغفله ذلك عن انه عبد مخلوق مربوب لإله واحد قهار ، واغفله أيضا عما يراد منه مما فيه سعادته وارتفاعه من حضيض النقص( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً ) باستكباره وعجبه بنفسه وما زينه له جهله المركب ،( فَخُوراً ) بالموهومات وهو غريق في ضعة الجهل والنقصان وويل لمن كان الله لا يحبه وكفى بذلك مقتا وشقاء ٣٧( الَّذِينَ ) من لؤمهم وشقائهم الذي جره إليهم ضلال استكبارهم وعجبهم بأنفسهم( يَبْخَلُونَ ) بما آتاهم الله من فضله في موارد السماحة ومكاسب الفضيلة بطاعة الله ومحاسن الإنفاق من مال الله( وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) من مال أو علم ومنه العلم بنبوة رسول الله وصفاته( وَأَعْتَدْنا ) بما أحضرنا مصداقا للوعيد بما يستحق من العذاب( لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ٣٨وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ) إذ سنح لهم ان ينفقوا شيئا أنفقوه لا طاعة لله ولا لحسن الإنفاق في مورده بل( رِئاءَ النَّاسِ ) ولأجل ذلك وقد ذكر معنى الرئاء في الجزء الأول ص ٢٣٤( وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) يوم المعاد وقد اسلسوا قيادهم

١١١

وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٩)وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ

____________________________________

للشيطان باتباعه حتى طمع فيهم فلا ينفك في الغواية وصار بسوء اختيارهم قرينا لهم لدوام اغوائه لهم أعاذنا الله منه( وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ ) هذا القرين المشوم المهلك بقبائح غوايته وخسة اقترانه( قَرِيناً ) فهل ترى الشيطان يقف في غوايته للإنسان على حد. إلّا تراه يرديه في أقبح الكفر والنفاق وقبايح الأعمال أفلا ترى انقياد بعض الناس لغوايته إلى اخس الأحوال وأقبحها واشنعها. وكلمة «الذين» في الآية السابقة بدل من «من» في قوله تعالى من كان مختالا. ودعوى انها مرفوعة أو منصوبة على الذم تحتاج إلى شاهد من تغير صورة الإعراب ولا شاهد. ودعوى انها مبتدأ وخبره محذوف كما في الكشّاف وتفسير الرازي تحتاج إلى قرينة وداع لما قدّراه فضلا عن كونه تكلفا بعيدا عن كرامة القرآن. ودعوى ان الخبر قوله تعالى( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ ) الآية كما ذكره في التبيان ومجمع البيان تحتاج إلى رابط مع أن الآية التي جعلوها خبرا تخرج عن تمجدها؟؟؟ العام إلى محل لا تصلح له واين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر من قوله تعالى( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ) الآية ٣٩( وَما ذا عَلَيْهِمْ ) من الوبال أو الخسران أو النقص أو سوء العاقبة أو غير ذلك من المحاذير( لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) أليس الايمان بالله دين الفطرة ونور المعلومة وسناء الحجّة القيمة. وان الإيمان باليوم الآخر لمن اسمى المعارف الموصولة إلى الحقائق وحق الايمان بذلك زعيم بنوع من تهذيب الإنسان وتكميله وحسن اجتماعه مع نوعه بما يشعر به من الرغبة والرهبة. ذلك اليوم الذي بشر وانذر به الأنبياء الذين قامت الحجج على نبوتهم وعصمتهم والكتاب الكريم الذي حفته الأدلة على انه منزل من الله بل انه بنفسه من وجوه متعددة هو الحجّة على ذلك( وَ ) ماذا عليهم لو( أَنْفَقُوا ) كما أمرهم الله وحكمت العقول مع ذلك بحسنه ومنه الإنفاق في الموارد المذكورة( مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ) أفلا يعتبرون بأن الإنسان يولد طفلا لا يملك لنفسه شيئا فيتقلب في جميع أدوار حياته في نعم الله ورزقه وقد يصير ذا مال وثروة طائلة فهل من قدرته إنزال اللبن لرضاعه ونمو الزرع والغرس ونتائجهما وسلامة ذلك من الآفات. أم من قدرته انتاج الحيوان الذي ينتفع به أم بيده أرباح المكاسب أفلا يعتبر بأنه كم من كادح في كسبه لم يربح إلّا الخسران والإملاق وكم من ذي ثروة عاد

١١٢

وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٤٠)إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً

____________________________________

بالرغم عليه فقيرا. أفلا يشعرون بان ما في أيديهم هو رزق الله من خزائن رحمته التي لا تنقص فلما لا ينفقون كما أمرهم الله ويطلبون منه الثواب المضاعف والخلف( وَكانَ اللهُ ) ولا يزال( بِهِمْ ) في أمر ايمانهم وإنفاقهم ونياتهم وجميع شؤونهم( عَلِيماً ) يجزيهم جزاءهم ٤٠( إِنَّ اللهَ ) الغني القدوس المتعال( لا يَظْلِمُ ) الظلم معروف ويتعدى إلى مفعولين يقال ظلمه حقه وماله( مِثْقالَ ) أي ثقل ووزن( ذَرَّةٍ ) ذكروا أن الذرة هي أصغر النمل وفي مجمع البيان والكشاف وقيل هي جزء من اجزاء الهباء في الكوة من اثر الشمس. وهذا أقصى ما يعرفه بالحسّ نوع الناس من الصغر لضرب المثل( وَإِنْ تَكُ ) أي تكن ويطرد في مثل هذا حذف النون( حَسَنَةً ) بالنصب لأنها خبر. والحكم المذكور وفائدة الكلام إنّما هي باعتبار الخبر وعنوانه فلذا اعتبر الاسم المقدر مؤنثا لأن الحكم إنّما هو لما يتحد مع الخبر كما في قوله تعالى( «فَإِنْ كُنَّ نِساءً ) .( وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً ) .( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً ) .( فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ» ) أي وإن تكن التي بمقدار الذرة حسنة. وفي مجمع البيان وان تك زنة الذرة حسنة. ويدفعه ان الزنة والمقدار ليس هي الحسنة بل هي المقدر وزنه بزنة الذرة. وكذا قول الكشّاف وان يك مثقال ذرة حسنة وانّما انّث ضمير المثقال لأنه مضاف إلى مؤنث إنتهى ويدفعه مضافا إلى ما ذكرناه ان تأنيث المضاف باعتبار المضاف إليه شاذ لا يناسب كرامة القرآن على ان الاعتبار لا يساعد على تأثير المضاف إليه المحذوف هذا الأثر. وفي التبيان «وان تك فعلته حسنة» وهو جيد يرجع إلى ما ذكرناه والعجب من مجمع البيان إذ لم يذكر هذا الوجه الوجيه مع انه لا يغادر شيئا من التبيان لا يذكره( يُضاعِفْها ) بما يشاء من المضاعفة. والمضاعفة هي ان يزاد على الشيء مثله في المقدار أو أمثاله. ومضاعفة الحسنة هي ان يعتبرها الله برحمته للواسعة في مقام الجزاء بمقدار ضعفها أو أضعافها أي يضاعف جزاءها. وفي سورة البقرة ٢٤٤ أضعافا كثيرة( وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ ) من فضله العظيم ورحمته الواسعة على الحسنة بمقدار الذرة( أَجْراً عَظِيماً ) بحسب ما يشاء من المضاعفة ويجعل الكل بعنوان الأجر تكريما للمطيع ، وإكمالا لابتهاجه. فويل للذين لم يعبدوا الله وأشركوا به. ولم يتبعوا سبيل الرشاد في امتثال أوامره ونواهيه بعد ما قامت عليهم الحجج في الدنيا وانقطعت المعاذير.

١١٣

(٤١)فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤٢)يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً

____________________________________

وما أعظم حسرتهم وأسوأ حالهم يوم الحساب ٤١( فَكَيْفَ ) حالهم( إِذا جِئْنا ) يوم القيامة( مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ) أرسل إليهم رسول أو قام فيهم نبي أو امام هدى( بِشَهِيدٍ ) يشهد عليهم في ذلك المحشر العظيم بأنه قد بلغهم وبشر وانذرهم وأقام لهم الحجج وقطع المعاذير وأظهر دين الحق ونصر دلالة العقل عليه وحفظ لهم احكام الشريعة. ولا حاجة في ذلك اليوم إلى الشهيد ولكن يؤتى به عليهم زيادة في خزيهم ببيان ما كانوا عليه من البغي والعناد للحق لحسرة ندامتهم جزاء بما كانوا يكسبون( وَجِئْنا بِكَ ) يا رسول الله( عَلى هؤُلاءِ ) الذين كانوا موجودين حين النزول( شَهِيداً ) تعلن ما جئتهم به في دار الدنيا من الحجج على دعوتك الصالحة وما قمت به احسن قيام في التبليغ والإنذار والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وما قاسيته منهم من عناد الضلال وشدة الأذى وتألبهم عليك مجاهرة ونفاقا. وفي رواية الكافي وسعيد بن عبد الله ما يعطي ان المراد من «هؤلاء» في الآية هم الشهداء على الأمم ورسول الله شهيد عليهم. لكن في الروايات ضعف. وفي تفسيرها للآية إشكال وفيما ذكر في تفسير البرهان من روايات العياشي نوع معارضة لها ٤٢( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ ) فيما جاءهم به من الله ومن الدين والشريعة( لَوْ (١) تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ) أي تكونون ترابا وجزءا منها فتسوى بهم وتكون سواء لا يمتازون عنها بوجه( وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً ) يقال كتمت زيدا الحديث والخبر. وقد اختلفت كلمات المفسرين كما ذكره في التبيان ومجمع البيان فمنها ما يؤدي إلى أن الجملة وعدم كتمانهم للحديث داخلة فيما يودونه يومئذ ومعطوف على جملة لو تسوى. وهو مؤدى ما في الدّر المنثور في ذكر ما أخرج عن ابن عباس في السؤال عن هذه الآية. ومنها أن الجملة معطوفة على جملة «يود» وعليه ما صححه الحاكم في المستدرك عن حذيفة ثم عقبة بن عامر الجهني وأبي مسعود الأنصاري بسماعهم من فم رسول الله (ص) ومنها لا يكتمون الله في جوارحهم كما في الدّر المنثور عن ابن عباس بل وما صححه الحاكم

__________________

(١) قد ذكرنا الكلام في «لو» بعد «يود» في الجزء الأول ص ١٠٩ و ١١٠

١١٤

(٤٣)يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ

____________________________________

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : وعن العياشي عن مسعدة بن صدقة عن الصادق عن أبيه عن جده قال قال امير المؤمنين في خطته يصف هول القيامة ختم الله على الأفواه فلا تكلم وتكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا. فالراجح كما هو الصواب كون الجملة معطوفة على جملة «يود» أو مستأنفة ٤٣( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) أخرج الترمذي في تفسير جامعه عن عطا عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي امير المؤمنين (ع) قال صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا اعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل الله وذكر الآية. وأخرج أبو داود في كتاب الأشربة بسنده عن سفيان عن عطا عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي (ع) أن رجلا من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر فأمّهم علي في المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون فخلّط فيها فنزلت الآية. وأخرج الحاكم في تفسير المستدرك بسنده عن سفيان عن عطا عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي (ع) دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر فحضرت صلاة المغرب فتقدم رجل فقرأ قل يا أيها الكافرون فالتبس عليه فنزلت الآية. وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفيه فائدة كبيرة وهي أن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى امير المؤمنين علي دون غيره وقد برأه الله منها فإنه روى هذا الحديث. وفي الدّر المنثور أخرج عبد بن حميد وابو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والحاكم وصححه عن علي قال صنع لنا عبد الرحمن طعاما إلى آخر المتن الذي رواه الترمذي. وقد سمعت روايتي أبي داود والحاكم ولم أطلع على رواية الباقين ممن ذكرهم السيوطي لكي أعرف خطأه في النقل عنهم كما أخطأ في النقل عن أبي داود والحاكم(١) وأخرج ابن جرير وفي الدّر المنثور عن ابن المنذر عن علي (ع) أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ قل يا أيها الكافرون

__________________

(١) وصاحب المنار تبع السيوطي في هذا الخطأ أو فقال في تفسيره (روى أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه صنع لنا عبد الرحمن إلى آخر ما ذكره الترمذي. ولم أجد أثرا لهذه الرواية في مجتبى النسائي

١١٥

فخلط فيها. وفيه أيضا أخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال نزلت في أبي بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد صنع لهم علي طعاما وشرابا فأكلوا وشربوا ثم صلى علي بهم المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون حتى خاتمتها فقال ليس لي دين وليس لكم دين فنزلت الآية. وأخرج أحمد والترمذي وابو داود والنسائي وفي كنز العمال ومختصره ذكروا أيضا جماعة ممن أخرجوه أيضا عن عمر لما نزل تحريم الخمر قال اللهم بين لنا في الخمر بيانا فنزلت الآية التي في البقرة فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في النساء يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية وفي الدّر المنثور في آية المائدة أخرج ابن المنذر عن محمد ابن كعب القرضي وذكر حديثا فيه ثم أنزلت التي في النساء بينا رسول الله «ص» يصلي إذ غنى سكران خلفه فانزل الله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية. وإنك لتعرف سقوط الرواية وانها من جنايات الأهواء إذا نظرت إلى الروايات الست المتقدمة واختلافها واضطرابها(١) وإلى نسبة السيوطي وصاحب المنار متن الترمذي إلى رواية أبي داود والنسائي والحاكم وتزيد بصيرة إذا عرفت ما في تهذيب التهذيب عن الواقدي من أن أبا عبد الرحمن السلمي عبد الله ابن حبيب شهد مع علي صفين ثم صار عثمانيا أي معاديا لعلي ومواليا لمعاوية وجرى اصطلاحهم على ان مثل هذا في عداوة علي وموالاة معاوية يسمى عثمانيا. ومما يدل على معاداته لعلي ما أخرجه أحمد في مسند علي برجال الصحة عندهم عن سعد بن عبيدة قال تنازع أبو عبد الرحمن السلمى وحبان بن عطية فقال أبو عبد الرحمن قد علمت ما الذي جرّأ صاحبك «يعني علياعليه‌السلام » قال حبان فما هولا أبا لك قال وذكر عن علي «ع» حديث طلبه للمرأة التي كتب معها حاطب بن بلتعة إلى قريش يخبرهم بان رسول الله يريد ان يغزوهم فأراد عمران يضرب عنق

__________________

(١) ففي حديث الترمذي أن صاحب الدعوة والطعام والشراب هو عبد الرحمن بن عرف وإمام الجماعة هو علي (ع) والتخليط هو نعبد ما تعبدون. وفي حديث أبي داود أن صاحب الدعوة رجل من الأنصار وعبد الرحمن مدعو وإمام الجماعة علي. وفي حديث أن صاحب الدعوة رجل من الأنصار ولم يذكر اسما. وفي حديث ابن جرير لم يذكر دعوة وذكر أن إمام الجماعة هو عبد الرحمن ولم يذكر تخليطه. وفي رواية عكرمة أن صاحب الدعوة هو علي (ع) وهو إمام الجماعة وأن التخليط لم يكن في قراءة السورة بل بعدها وهو ليس لي دين وليس لكم دين. ومقتضى حديث عمران هذه الاية نزلت بعد تحريم الخمر وفي روايتي أبي داود والحاكم أن الخمر عند نزوله لم تكن محرمة. فانظر وتعجب!

١١٦

حاطب فقال له رسول الله (ص) لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة الحديث فإنه لا يفد على هذه الجرأة على امير المؤمنين (ع) إلّا من كان معاديا له يقول في شأنه المقدس انه يجترئ على الكبائر اغترارا بكونه بدريا

ثم نقول في امالي الصدوق بسند معتبر عن الصادق (ع) قال قال رسول الله (ص) أول ما نهاني عنه ربي جل جلاله عبادة الأوثان وشرب الخمر الحديث وفي الدّر المنثور أخرج البيهقي في الشعب عن علي (ع) سمعت رسول الله (ص) يقول لم يزل جبرائيل ينهاني عن عبادة الأوثان وشرب الخمر الحديث وأخرج البيهقي عن أمّ سَلَمة ان رسول الله (ص) قال كان من أول ما نهاني عنه ربي وعهد إلي بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر ملاحاة الرجال. وفي كنز العمال ومختصره عن الطبراني عن أبي الدرداء وعن معاذ عن النبي (ص) نحوه وعن أبي نعيم في الدلائل عن علي (ع) قيل للنبي هل عبدت وثنا قط قال (ص) لا ، قالوا هل شربت خمرا قط قال لا ، وفي الكافي والتهذيب وعيون الصدوق وعلله عن علي بن إبراهيم عن الريان وفي التفسير عن ياسر الخادم عن الرضا (ع) ما بعث الله نبيا قط إلّا بتحريم الخمر. وفي الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة عن الصادق (ع) ما بعث الله نبيا قط إلّا وفي علم الله انه إذا أكمل دينه كان فيه ترحيم الخمر ولم تزل الخمر حراما وانّما ينقلون من خصلة إلى خصلة ولو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين. ونحوه ما في الكافي والتهذيب عن إبراهيم اليماني عن الصادق (ع). وما في الكافي عن زرارة عن الباقر (ع) والمعنى أن الخمر لم تزل حراما عند الله وفي كل دين ولكن قد يستفحل الضلال وحكم الجاهلية في الأمم إلى أن يروها حلالا فإذا بعث الله نبيا آخر قد لا يفاجئهم في أول نبوته وتبليغه بتحريمها لأن الحكمة تقتضي أن يتدرج معهم في بيان المحرمات ببيان خصلة خصلة ولو حملهم دفعة على ترك جميع المحرمات لما انقادوا إلى الدين ولقطع بهم دونه. ويشهد تدرج القرآن الكريم ببيان أن فيها إثما كبيرا وإثمها اكبر مما يزعمه الناس كما مضى في سورة البقرة وانها رجس من عمل الشيطان ليوقع بها العداوة والبغضاء بينهم. كما في سورة المائدة. وما كان كما ذكرناه لا بد من ان يكون النبي عالما بتحريمه من أول الأمر ولا بد في كماله وعصمته وأهليته للنبوة ودعوتها من أن لا يكون مدة عمره الشريف قد لوث قدسه بشربها قبل النبوة وبعدها. اذن فمن تربى بتربية رسول الله (ص) ونهج من صغر سنه نهجه وتأدب من طفوليته بآدابه وآمن برسالته من أولها وكان أطوع له (ص)

١١٧

من ظله كيف يقال في شأنه انه كان يشرب الخمر امّ الخبائث والموقعة في الفواحش والسالبة للعقل وشرف الإنسانية والملحقة للإنسان بمجنون الوحوش.

وايضا ان الإنسان إذا سكر وعربد ظهر عليه في هذيانه ما كان مطويا في نفسه من عادياته ومألوفاته ومرتكزات مخيلته ، ومكتومات خواطره في الحب والبغضاء. وأن مثل امير المؤمنين (ع) إذا عربد ظهر مرتكزات ذهنه وآثار عاداته ومألوفاته وما نشأ عليه من أوائل شعوره من بغض الأوثان وتسفيه عبادة الجاهلية والشرك فيقول وينادي لا اعبد رجس الأوثان. سفها لكم ايها المشركون لا اعبد الحجر والخشب المنحوت وكيف اجعل من ذلك آلهة مع الله وكيف أكون من المشركين وينشد ما قاله أبوه أبو طالب

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

ولكن قصاص الرواة قد نسبوا لقدس رسول الله في مناكير رواياتهم ما هو اشنع من ذلك رووا أنه (ص) - وحاشا قدسه - قرأ في مكّة بمحضر قريش سورة النجم ولما تلا( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) قال على الأثر تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ونسبوا لقدس جميع الأنبياء والرسل إذا قرءوا القى الشيطان في قراءتهم مثل خرافة الغرانيق وفسروا بذلك قوله تعالى في سورة الحج المدنية وما من نبي ولا رسول إلّا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته. وتتابعت على ذلك جملة من التفاسير كما أشرنا إليه في الجزء الأول من كتاب الهدى ص ١٢٣ - ١٢٨ ولينظر على الأقل إلى ما ذكره في الدّر المنثور في الآية المذكورة من سورة الحج. ولم تترك بعض الروايات قدس رسول الله (ص) بدون ان تلوثه بالخمر ففي الدّر المنثور عن تميم الداري انه كان يهدى لرسول الله (ص) كل عام راوية من خمر فلما كان عام حرمة الخمر جاء برواية فلما رآها رسول الله (ص) ضحك الحديث(١)

__________________

(١) وزيد على ذلك بالنسبة لأمير المؤمنين (ع) فقد ذكر السيد الرضي في حقائق التأويل عن كتاب أبي الحسن الكرخي في كتاب الاشربة من مختصره حيث قرأه على القاضي عبد الله بن محمد الاكفاني وأجاز له روايته عن مصنفه بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى «صاحب امير المؤمنين وخاصته من أهل الكوفة» قال شربت عند علي بن أبي طالب نبيذا فخرجت من عنده عند المغرب فأرسل معي قنبر مولاه يهديني إلى بيتي إنتهى فذكرت الرواية الظالمة الضالة بذلك ان امير المؤمنين (ع) بعد تحريم الخمر وفي ايام خلافته يسقي بعض خواصه في بيته نبيذا يسكره بحيث

١١٨

ومقتضى روايات الدّر المنثور عن ابن عباس ان آية( وَأَنْتُمْ سُكارى ) نسختها آية( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) وفي رواية آية الوضوء وفي اخرى انها قبل أن تحرم الخمر وأن المراد سكر الخمر. ولكن ذكر ان عبد بن حميد أخرج عن ابن عباس أنه قال النعاس ويشبه أن يكون من ذلك ما أخرجه البخاري عن أنس عن رسول الله (ص) إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول وفي الكافي في الموثق عن الصادق (ع) سئل عن الآية فقال سكر النوم. وفي الصحيح عن الباقر (ع) يعني سكر النوم وروى العياشي عن الباقر (ع) نحوه. والسكر ضد الصحو وهو حالة تعتري الإنسان تعبث بشعوره وتخرجه عن استقامته الطبيعية. ومن ذلك ان يذهل عما يقول أو يفعل كلا أو بعضا فيفعل أو يقول ما لا يعلمه ولا يريده. وللسكر مراتب مختلفة ومنه الحالة التي تعتري الإنسان بهذه الصفة من شدة النعاس وهي المرادة من سكر النوم أي السكر الذي يكون من مقدمات النوم أو بقاياه في الاستيلاء على الحواس والشعور ومنه قول الطرماح

مخافة ان يرين النوم فيهم

بسكر سنانة كل الريون

وانشد الرضي في حقائق التأويل شاهدا على ذلك

وركب سروا حتى كأن رقابهم

من السكر في الظلماء خيطان خروع

نعم قد كثر استعماله في سكر الخمر لكن هذه الكثرة لا تمنع ارادة المعنى العام في الآية خصوصا مع اقتضاء الغاية لإرادته فإن قوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) يدل على أن المراد حفظ صورة الصلاة والالتفات إليها. وصونها عن الذهول عنها والتخليط في افعالها وأقوالها. فإن إحرازهم لكونهم يعلمون ما يقولون فيها يلزمه الصحو العادي. ولو قيل ان السكر حقيقة في سكر الخمر مجاز في سكر النوم لكانت الغاية على ما قررنا قرينة على إرادة معنى يعم ما زعموه من الحقيقة والمجاز. وانّما خص بالذكر سكر النوم في روايات ابن عباس والباقر والصادق (ع) نظرا إلى حال السائلين واكثر المسلمين في ان محل ابتلائهم الذي يقتضي بيان الحكم لهم هو سكر النوم لا لحصر مدلول الآية به. واما قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا ) فالخطاب فيه للمؤمنين الموجودين في حال الخطاب نهيا لهم عن ان يقربوا الصلاة على تلك الحالة في المستقبل فإن خطاب المعدومين ودخولهم فيه قبيح كما هو المذهب الصحيح نعم يعم الحكم غير الموجودين

__________________

يحتاج من سكره إلى من يهديه إلى بيته مع انه كثير التردد إلى امير المؤمنين ليس غريبا يضل الطريق فأرسل معه قنبر مولاه ليهديه ونعم الحكم الله والموعد القيامة

١١٩

من المؤمنين للإجماع على الاشتراك في احكام الإسلام. ودعوى ان الخطاب للمؤمنين السكارى في حال الخطاب مجازفة باردة ومن اين علم بوجود السكارى حال الخطاب. فلا وقع لوقوع البعض في الحيص والبيص في صحة خطاب السكران وتكليفه. ولا يدل هذا النهي بإحدى الدلالات على ان شرب الخمر والمسكر حلال لكي يقال ان الآية باعتبار دلالتها على حل شرب الخمر والمسكر قد نسختها آية إنّما الخمر والميسر كما ذكر في الدّر المنثور من أخرجه عن ابن عباس ومنهم أبو داود والنسائي. ومن الغريب ما ذكر من انه أخرج عن ابن عباس أنَّ آية السكارى نسختها آية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية ومن المعلوم ان كون الإنسان يعلم ما يقول يلزمه صحوه من السكر ولكن ذكر العلم بما يقولون لكي يشعر بوجه النهي والجهة التي تصان عنها الصلاة وللاشارة إلى رذيلة السكر والخروج به عن حالة العقلاء وشرف الشعور والإنسانيه. والآية بنهيها وحكمة غايتها تدل على فساد الصلاة في حالة السكر. وقوله تعالى( لا تَقْرَبُوا ) هو على معنى القرب تأكيدا لاحترام الصلاة واجتنابها حال السكر حتى باجتناب القرب منها. ومن أنحاء القرب منها دخول المسجد. وحكى عن بعضهم ان المراد لا تقربوا موضع الصلاة وهو المسجد فحذف المضاف وهو «موضع» وذكر له بعض وجها آخر وهو أنَّ المسجد سمّي في الآية بالصلاة باعتبار كثرة وقوعها فيه أو سمي بذلك تعريبا لتسمية اليهود موضع عبادتهم «صلاتا» أقول ومع ان هذا كله خلاف الظاهر في نفسه يلزم منه أن تكون الأحكام الآتية في الآية أحكاما للمسجد واللازم باطل لأن المساجد خصوصا في زمان الخطاب ليست معرضا لأن تكون في الاسفار حيث لا يوجد الماء كما في البراري فيتيمم لدخولها كما في قوله تعالى( أَوْ عَلى سَفَرٍ ) و( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) . ولأن الإجماع قائم على انه ليس من أحكام المساجد ان الذي يجيء من الغائط منهي عن دخولها حتى يتيمم ان لم يجد ماء بل ما الحكمان إلّا من احكام الصلاة على حقيقتها : وجملة( وَأَنْتُمْ سُكارى ) حالية والواو فيها لبيان الحال. ولا يخفى ان التتبع في صحيح الكلام والتدبر له يقضي بأن الجملة الاسمية يؤتى بها في ضمن النهي حالا في مقام يكون مضمونها ظاهر المنافاة للفعل المنهي عنه فيؤتى بها استلفاتا إلى تلك المنافاة واحتجاجا لحكمة النهي. فكأنه قيل ان الصلاة المطلوب بها الطاعة في الإتيان بها بحدودها والإقبال بها في الخضوع لله وعبادته والتدبر في قراءتها وأذكارها والتوسل بدعائها كيف يؤتى بها في حال السكر مع ما يعرف من منافاة ما هو المطلوب لطيش السكر

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420