دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق14%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214653 / تحميل: 4829
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٦-x
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الله تعالى ، كما عن أبي إسحاق الإسفراييني(١) ، أو بنحو الاستقلال والإيجاب كما عن الفلاسفة(٢) ، أو بنحو الاستقلال والاختيار كما هو مذهب العدلية(٣) ، فمن أين يتعيّن الأخير؟!

وفيه : بعد كون المطلوب في المقام هو إبطال مذهب الأشاعرة ، وما ذكر كاف في إبطاله : إنّ مذهب الفلاسفة مثله في مخالفة الضرورة ؛ لأنّ وجود الاختيار وتأثيره من أوضح الضروريات.

على أنّ الإيجاب ينافي فرض وجود القدرة لاعتبار تسلّطها على الطرفين في القول الأحقّ ، ويمكن أن يحمل كلامهم على الإيجاب بالاختيار فيكون صحيحا.

وأمّا مذهب أبي إسحاق ، فظاهر البطلان أيضا ؛ لأنّ الله سبحانه منزّه عن الاشتراك في فعل الفواحش كنزاهته عن فعلها بالاستقلال ، ولأنّه يقبح بأقوى الشريكين أن يعذّب الشريك الضعيف على الفعل المشترك ، كما بيّنه إمامنا وسيّدنا الكاظمعليه‌السلام وهو صبي لأبي حنيفة(٤) .

__________________

(١) كما في محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٠ ، تلخيص المحصّل : ٣٢٥ ، مطارح الأنظار في شرح طوالع الأنوار : ١٩٠.

وقد مرّت ترجمة الإسفراييني في ج ٢ / ٥٩ ه‍ ١ ؛ فراجع.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٧ ، مطارح الأنظار في شرح طوالع الأنوار : ١٩٠ ، شرح العقيدة الطحاوية : ١٢٢.

(٣) الذخيرة في علم الكلام : ٨٤ و ٨٦ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٢ و ٩٦ ـ ٩٧ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٥.

وانظر رأي المعتزلة في : شرح الأصول الخمسة : ٣٢٥ و ٣٦٢ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨١ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٦.

(٤) انظر ذلك مثلا في : التوحيد ـ للصدوق ـ : ٩٦ ب‍ ٥ ح ٢ ، الأمالي ـ للصدوق ـ : ٤٩٤ ح ٦٧٣ المجلس ٦٤ ، مناقب آل أبي طالب ٤ / ٣٣٩ ، الاحتجاج ٢ / ٣٣١ ح ٢٦٩ ، أعلام الدين : ٣١٨.

١٢١

وأمّا ما زعمه من إبطال دعوى الضرورة بقوله : « لأنّ علماء السلف كانوا منكرين » إلى آخره

ففيه : إنّ علماء السلف من العدلية إنّما ذكروا الأدلّة على المدّعى الضروري ، للتنبيه عليه لا لحاجته إليه ، ولذا ما زالوا يصرّحون بضروريّته ، مضافا إلى أنّ عادة الأشاعرة لمّا كانت على إنكار الضروريات ، احتاج منازعهم إلى صورة الدليل مجاراة لهم.

وأمّا قوله : « وأيضا : إنّ كلّ سليم العقل » إلى آخره

فتوضيحه : إنّ سليم العقل يعلم أنّ إرادته لا تتوقّف على إرادة أخرى ، فلا بدّ أن تكون إرادته من الله تعالى ، إذ لو كانت منه لتوقّفت على إرادة أخرى ؛ لتوقّف الفعل الاختياري على إرادته ، فيلزم التسلسل في الإرادات ، وهو باطل.

فإذا كانت إرادته من الله تعالى وغير اختيارية للعبد ، لم يكن الفعل من آثار العبد وقدرته ، بل من آثار الله تعالى ، لوجوب حصول الفعل عقيب الإرادة المتعلّقة به ، الجازمة الجامعة للشرائط ، المخلوقة لله تعالى ، فلم تكن إرادة العبد ولا حصول الفعل عقيبها من آثار العبد ، بل من الله تعالى.

وفيه : إنّ عدم احتياج الإرادة إلى إرادة أخرى ، لا يدّل على عدم كونها من أفعال العبد المستندة إلى قدرته ، فإنّ تأثير قدرته في الفعل لا يتوقّف ذاتا على الإرادة ، ولذا كان الغافل يفعل بقدرته وهو لا إرادة له ، وكذا النائم.

وإنّما سمّي الفعل المقدور اختياريا لاحتياجه غالبا إلى الإرادة والاختيار ، فتوهّم من ذلك اشتراط سبق الإرادة في كلّ فعل مقدور ، وهو

١٢٢

خطأ.

وبالجملة : فعل العبد المقدور نوعان : خارجي ، كالقيام والقعود ونحوهما ؛ وذهني ، وهو أفعال القوى الباطنة ، كالإرادة والعلم والرضا والكراهة ونحوها.

والأوّل مسبوق بالإرادة إلّا نادرا كفعل الغافل والنائم ،والثاني بالعكس ، والجميع مقدور ومفعول للعبد ، ولذا كلّف الإنسان عقلا وشرعا بالمعرفة ، ووجب عليه الرضا بالقضاء ، وورد العفو عن النيّة

وقال تعالى :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (١)

وقال سبحانه :( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) (٢)

وقال تعالى :( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) (٣)

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما لكلّ امرئ ما نوى »(٤)

وقال : «نيّة المرء خير من عمله »(٥) .

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٥٣.

(٢) سورة يوسف ١٢ : ٨٣.

(٣) سورة المائدة ٥ : ٣٠.

(٤) صحيح البخاري ١ / ٢ ح ١ وص ٣٧ ح ٥٣ وج ٣ / ٢٩٠ ح ١٣ وج ٨ / ٢٥٢ ح ٦٣ وج ٩ / ٤٠ ح ١ ، صحيح مسلم ٦ / ٤٨ ، سنن أبي داود ٢ / ٢٦٩ ح ٢٢٠١ ، سنن ابن ماجة ٢ / ١٤١٣ ح ٤٢٢٧ ، سنن الترمذي ٤ / ١٥٤ ح ١٦٤٧ ، سنن النسائي ١ / ٥٩ ، مسند أحمد ١ / ٢٥ ، تهذيب الأحكام ١ / ٨٣ ح ٢١٨ وج ٤ / ١٨٦ ح ٥١٩ ، الأمالي ـ للطوسي ـ : ٦١٨ ح ١٢٧٤ ، دعائم الإسلام ١ / ١٥٦.

(٥) المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٦ / ١٨٥ ح ٥٩٤٢ ، حلية الأولياء ٣ / ٢٥٥ ، تاريخ بغداد ٩ / ٢٣٧ ، إحياء علوم الدين ٥ / ٢٧٠ ، فردوس الأخبار ٢ / ٣٧٣ ح ٧٠٩٦ و ٧٠٩٧ ، أصول الكافي ٢ / ١١٢ ح ١٦٦٩ ، المحاسن ١ / ٤٠٥ ح ٩١٩ ، الهداية ـ للصدوق ـ : ٦٢.

١٢٣

ويشهد لكون الإرادة من الأفعال المستندة إلى قدرة العبد ؛ أنّ الإنسان قد يتطلّب معرفة صلاح الفعل ليحدث له إرادة به ، وقد يتعرّف فساده بعد وجودها فيزيلها بمعرفة فساده ، وإن كانت جازمة فإنّها قد تكون فعلية والمراد استقباليا ، فالقدرة في المقامين على الإرادة حاصلة من القدرة على أسبابها كسائر أفعال القلب ، فكلّ فعل باطني مقدور للإنسان حدوثا وبقاء وزوالا.

فثبت أنّ الإرادة ومقدّماتها ـ أعني : تصوّر المراد والتصديق بمصالحه والرضا به من الجهة الداعية إليه ـ مقدورة للعبد ، ومن أفعاله المستندة إليه.

نعم ، ربّما يكون بعض مقدّمات الإرادة من الله تعالى ، وبذلك تحصل الإعانة من الله تعالى لعبده ، كما تحصل بتهيئة غيرها من مقدّمات الفعل ، وعليه يحمل

قول إمامنا الصادقعليه‌السلام : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين »(١) .

فإنّه لا يبعد أنّ المراد بالأمر بين الأمرين دخل الله سبحانه في أفعال العباد ، بإيجاد بعض مقدّماتها ، كما هو واقع في أكثر المقدّمات الخارجية ، التي منها تهيئة المقتضيات ورفع الموانع.

فحينئذ لا يكون العبد مجبورا على الفعل ولا مفوّضا إليه بمقدّماته ، وبذلك يصحّ نسبة الأفعال إلى الله تعالى.

فإنّ فاعل المقدّمات ، لا سيّما الكثيرة القريبة إلى الفعل قد يسمّى

__________________

(١) الكافي ١ / ١٧٩ ح ٤٠٦ ، عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١ / ١٤١ ، التوحيد ـ للصدوق ـ : ٣٦٢ ح ٨ ، الاحتجاج ٢ / ٤٩٠.

١٢٤

فاعلا له ، وعليه يحمل ما ظاهره إسناد أفعال العباد إلى الله تعالى ، كبعض آيات الكتاب العزيز(١) .

والله وأولياؤه أعلم.

* * *

__________________

(١) انظر : سورة البقرة ٢ : ٢٥٣ ، سورة الرعد ١٣ : ١٦ ، سورة الصافّات ٣٧ : ٩٦ ، سورة الزمر ٣٩ : ٦٢.

١٢٥

قال المصنّف ـ زاد الله فضله عليه ـ (١) :

منها : مكابرة الضرورة ، فإنّ العاقل يفرّق بالضرورة بين ما يقدر عليه كالحركة يمنة ويسرة ، والبطش باليد اختيارا ، وبين الحركة الاضطرارية ؛ كالوقوع من شاهق ، وحركة المرتعش ، وحركة النبض ، ويفرّق بين حركات الحيوان الاختيارية وحركات الجماد.

ومن شكّ في ذلك فهو سوفسطائي ، إذ لا شيء أظهر عند العاقل من ذلك ولا أجلى منه.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٢.

١٢٦

وقال الفضل(١) :

قد عرفت جواب هذا في ما مرّ(٢) ، وقد ذكر هذا الرجل هذا الكلام ثمّ كرّره ، كما هو عادته في التكريرات القبيحة الطويلة الخالية عن الجدوى ؛ والجواب ما سبق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٨.

(٢) راجع الصفحة ١١٣ فما بعدها.

١٢٧

وأقول :

مراد المصنّف رحمه‌الله سابقا هو : بيان مدّعى العدلية من كون العباد فاعلين بالضرورة(١) .

ومراده هنا : بيان ما يلزم الأشاعرة من مكابرة الضرورة ، غاية الأمر أنّه بيّن سابقا وجه الضرورة بيانا للمدّعى ، وهو ليس من التكرار.

وأمّا تطويله ، فهو لإيضاح الحجّة للعوامّ عسى أن يرتدع من له قلب.

وأمّا ما أشار إليه من الجواب بمجرّد وجود القدرة وعدمها من دون تأثير لوجودها ، فقد عرفت أيضا أنّه مخالف للضرورة ، فإنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة تحكم بتأثيرها ، ولو لم يكن لها تأثير لم نعلم بوجودها ؛ لاحتمال الفرق بمجرّد وجود الاختيار وعدمه(٢) .

* * *

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١١١.

(٢) تقدّم في الصفحة ١٢٠.

١٢٨

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : إنكار الحكم الضروري من حسن مدح المحسن وقبح ذمّه ، وحسن ذمّ المسيء وقبح مدحه.

فإنّ كلّ عاقل يحكم بحسن مدح من يفعل الطاعات دائما ولا يفعل شيئا من المعاصي ، ويبالغ بالإحسان إلى الناس ، ويبذل الخير لكلّ أحد ، ويعين الملهوف ، ويساعد الضعيف وإنّه يقبح ذمّه ، ولو شرع أحد في ذمّه باعتبار إحسانه عدّه العقلاء سفيها ، ولامه كلّ أحد ، ويحكمون حكما ضروريا بقبح مدح من يبالغ في الظلم والجور والتعدّي والغصب ونهب الأموال وقتل الأنفس ، ويمتنع من فعل الخير وإن قلّ ، وإنّ من مدحه على هذه الأفعال عدّ سفيها ولامه كلّ عاقل.

ونعلم ضرورة قبح المدح والذّم على كونه طويلا وقصيرا ، أو كون السماء فوقه والأرض تحته ، وإنّما يحسن هذا المدح والذمّ لو كان الفعلان صادرين عن العبد ، فإنّه لو لم يصدر عنه لم يحسن توجّه المدح والذمّ إليه.

والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذمّ ، فلم يحكموا بحسن مدح الله تعالى على إنعامه ولا الثناء عليه ، ولا الشكر له ، ولا بحسن ذمّ إبليس وسائر الكفّار والظلمة المبالغين في الظلم ، بل جعلوهما متساويين

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٢.

١٢٩

في استحقاق المدح والذمّ(١) .

فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله ، ويتّبع ما يقوده عقله إليه ، ويرفض تقليد من يخطئ في ذلك ويعتقد ضدّ الصواب ، فإنّه لا يقبل منه غدا يوم الحساب

وليحذر من إدخال نفسه في زمرة الّذين قال الله تعالى عنهم :( وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) انظر : نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٧٠ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٤ ، طوالع الأنوار : ٢٠٢.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٤٧.

١٣٠

وقال الفضل(١) :

حاصل ما ذكره في هذا الفصل : أنّ المدح والذمّ يتوجّهان إلى الأمور الاختيارية ، ويحسن مدح المحسن ويقبح ذمّه ، ويقبح مدح المسيء ويحسن ذمّه ، ولو لا أنّ تلك الأفعال باختيار الفاعل وقدرته لما كان فرق بين الأعمال الحسنة والسيّئة ، ولا يستحقّ صاحب الأعمال الحسنة المدح ولا صاحب الأعمال القبيحة الذمّ ، فعلم أنّ الأفعال اختيارية ، وإلّا يلزم التساوي المذكور ، وهو باطل.

والجواب : إنّ ترتّب المدح والذمّ على الأفعال ، باعتبار وجود القدرة والاختيار في الفاعل وكسبه ومباشرته للفعل ؛ أمّا أنّه لتأثير قدرته في الفعل ، فذلك غير ثابت ، وهو المتنازع فيه ، ولا يتوقّف ترتّب المدح والذمّ على التأثير ، بل يكفي وجود المباشرة والكسب في حصول الترتّب المذكور.

ثمّ ما ذكر أنّ المدح والذمّ لم يترتّب على ما لم يكن بالاختيار ، فباطل مخالف للعرف واللغة ، فإنّ المدح يعمّ الأفعال الاختيارية وغيرها بخلاف الحمد ، واختلف في الحمد أيضا.

وأمّا قوله : « والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح »

إن أراد أنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي للمدح والذمّ المذكورين ، فذلك كذلك ؛ لأنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي أصلا.

وإن أراد نفي الحكم بحسن مدح الله تعالى وثنائه مطلقا ، فهذا من

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٩.

١٣١

مفترياته ، فإنّهم يحكمون بحسن مدح الله وثنائه ؛ لأنّ الشرع أمر به ، لا لأنّ العقل حكم به ، كما مرّ مرارا(١) .

* * *

__________________

(١) انظر ردّ الفضل بن روزبهان في ج ٢ / ٤١١ ـ ٤١٢.

١٣٢

وأقول :

لا ريب أنّ المدح والذمّ يتبعان حسن الأشياء وقبحها ، والحسن والقبح في الأفعال إنّما يكونان من حيث صدورها من فاعلها وتأثيره فيها بقدرته واختياره ، لا لذواتها ، ولذا لو صدر من النائم أو المكره فعل لم يمدح ولا يذمّ عليه.

وحينئذ فلا يصحّ تعلّق المدح والذمّ بالعبد بمجرّد جعل الله تعالى له محلّا لفعله من دون قدرة له على الامتناع ولا تأثير له في الفعل ، فلا وجه لجعل الكسب موجبا لترتّب مدح العبد وذمّه على الفعل ، فإنّه بأيّ معنى فسّر لم يصدر كأصل الفعل بقدرة العبد واختياره ، وما لم يصدر من العبد شيء لا يحسن مدحه أو ذمّه عليه.

وأمّا ما حكاه عن أهل اللغة من أنّ المدح يعمّ الأفعال الاختيارية وغيرها(١)

ففيه : إنّ مرادهم بالغير هو الصفات كصفاء اللؤلؤ ، لا ما يعمّ الأفعال التي تقع بلا قدرة واختيار ، فإنّه خلاف الضرورة.

ولكن على هذا يشكل ذكر المصنّف للطول والقصر ، وكون السماء فوقنا والأرض تحتنا ، فإنّها ليست من الأفعال حتّى يكون عدم المدح والذمّ عليها شاهدا للمدّعى.

__________________

(١) مثل الثناء على الشيء بما فيه من الصفات الجميلة ، خلقية كانت أو اختيارية ؛ انظر مادّة « مدح » في : المصباح المنير : ٢١٦ ، تاج العروس ٤ / ١٩٩.

١٣٣

ويمكن الجواب عنه : بأنّ مراده أنّهم إذا لم يجعلوا لجهة الصدور مدخلا في حسن المدح والذمّ وقبحهما ، كان اللازم عدم قبح المدح والذمّ على المثالين ونحوهما ممّا لم يصدر عن الإنسان ، وهو خلاف الضرورة.

وأمّا ما ردّد به في بيان مراد المصنّف بقوله : « الأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذمّ »

فخطأ ، إذ ليس شيء ممّا ذكره مرادا له ، وإنّما مراده أنّهم لمّا لم يجعلوا الأفعال صادرة من العبد ـ والحال كما عرفت أنّ لجهة الصدور في الأفعال مدخلا تامّا في استحقاق المدح والذمّ ، وفي حسنهما وقبحهما ـ لزمهم إنكار حسن مدح الله على إنعامه ، وذمّ إبليس والكافرين والظالمين ؛ لأنّ المدح والذمّ غير صادرين من العبد ، وهذا الإنكار خلاف الضرورة.

على أنّه لو أراد المصنّف ما ذكره الخصم أوّلا كان جديرا بالذكر والعجب

إذ كيف يدّعي عاقل أنّه ـ مع قطع النظر عن التكليف الشرعي ـ لا يحسن مدح الله على نعمائه وشكره على آلائه ، ولا يقبح مدح إبليس والكافرين ، وأنّه لا فرق عقلا بين هذين المدحين ، كما لا فرق أيضا بين مدح الله على نعمه وذمّه عليها ، ومدح الظالم على ظلمه وذمّه عليه؟!

فمن ادّعى ذلك كان حقيقا بأن يلحق في المجانين!

* * *

١٣٤

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : إنّه يقبح منه تعالى حينئذ تكليفنا فعل الطاعات واجتناب المعاصي ؛ لأنّا غير قادرين على ممانعة القديم

فإذا كان فاعل فينا للمعصية هو الله تعالى لم نقدر على الطاعة ؛ لأنّ الله تعالى إن خلق فينا فعل الطاعة كان واجب الحصول وإن لم يخلقه كان ممتنع الحصول. ولو لم يكن العبد متمكّنا من الفعل والترك ، كانت أفعاله جارية مجرى حركات الجمادات ، وكما إنّ البديهة حاكمة بأنّه لا يجوز أمر الجماد ونهيه ومدحه وذمّه ، وجب أن يكون الأمر كذلك في أفعال العباد.

ولأنّه تعالى يريد منّا فعل المعصية ويخلقها فينا ، فكيف نقدر على ممانعته؟!

ولأنّه إذا طلب منّا أن نفعل فعلا ولا يمكن صدوره عنّا ، بل إنّما يفعله هو ، كان عابثا في الطلب ، مكلّفا لما لا يطاق ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٣.

١٣٥

وقال الفضل(١) :

هذه الشبهة اضطرّت المعتزلة إلى اختيار هذا المذهب ، وإلّا لم يجترئ أحد من المسلمين على إثبات تعدّد الخالقين في الوجود.

والجواب : إنّ تكليف فعل الطاعات واجتناب المعاصي باعتبار المحلّيّة لا باعتبار الفاعليّة ، ولأنّ العبد لمّا كانت قدرته واختياره مقارنة للفعل ، صار كاسبا للفعل ، وهو متمكّن من الفعل والترك ، باعتبار قدرته واختياره الموجب للكسب والمباشرة ، وهذا يكفي في صحّة التكليف ولا يحتاج إلى إثبات خالقيّته للفعل ، وهو محلّ النزاع(٢) .

وأمّا الثواب والعقاب المترتّبان على الأفعال الاختيارية ، فكسائر العاديّات المترتّبة على أسبابها بطريق العادة من غير لزوم عقلي والتجاء سؤال.

وكما لا يصحّ عندنا أن يقال : لم خلق الله الإحراق عقيب مسيس النار؟ ولم لا يصحّ ابتداء؟ فكذا ها هنا لا يصحّ أن يقال : لم أثاب عقيب أفعال مخصوصة ، وعاقب عقيب أفعال أخرى ، ولم لا يفعلها ابتداء ولم يعكس فيهما؟

وأمّا التكليف والتأديب والبعثة والدعوة ، فإنّها قد تكون دواعي العبد إلى الفعل واختياره ، فيخلق الله الفعل عقيبها عادة ، وباعتبار ذلك يصير

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٢.

(٢) انظر : شرح التجريد : ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

١٣٦

الفعل طاعة ومعصية ، ويصير علامة للثواب والعقاب(١) .

ثمّ ما ذكره أنّه يلزم إذا كان الفاعل للمعصية فينا هو الله تعالى أنّا لا نقدر على الطاعة ، لأنّه إن خلق الطاعة كان واجب الحصول ، وإلّا كان ممتنع الحصول

فنقول : هذا يلزمكم في العلم لزوما غير منفكّ عنكم ؛ لأنّ ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد وما علم الله وجوده فهو واجب الصدور عن العبد ، ولا مخرج عنهما لفعل العبد وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع.

فيبطل حينئذ التكليف ؛ لا بتنائه على القدرة والاختيار بالاستقلال كما زعم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء.

* * *

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٥٤.

١٣٧

وأقول :

من رأى تعبيره عن هذا الدليل بالشبهة يحسب أنّه يأتي في جوابه بالكلام الجزل والقول الفصل ، وإذا جاء إلى جوابه رآه بالخرافات أشبه! فإنّ كلّ ما ذكره لا يجعل متعلّق التكليف من آثار العبد ، فإنّ كلّ ما في الوجود بزعمهم مخلوق لله تعالى ، حتّى الكسب والمحلّيّة.

فمن أين يكون العبد مؤثّرا وموجدا حتّى يصحّ تكليفه؟!

وبالجملة : إن كان للعبد إيجاد وتأثير في متعلّق التكليف ، تمّ مطلوبنا ، وإلّا فالإشكال بحاله ، فيلزمهم تكليف العباد بما لا يطاق ، وما لا أثر لهم فيه أصلا وحصول العبث في الطلب.

وأمّا ما زعمه من أنّ الثواب والعقاب من العاديّات

ففيه ـ مع ما عرفت من إشكال حصول العلم بالعادة الغيبية ـ : إنّه لا يمكن أن يكون من عاديّات العادل الرحمن أن يعذّب عبده الضعيف على فعل هو خلقه فيه ، ولا أثر للعبد به بوجه ، فلا يقاس بخلق الإحراق عقيب مسيس النار.

وأمّا ما أشار إليه من الجواب عن العبث في الطلب بقوله : « وأمّا التكليف والتأديب والبعثة »

فخروج عن مذهبه ظاهرا ، إذ كيف يدعو التكليف والتأديب والبعثة العبد إلى الفعل والاختيار ، وهما من الله سبحانه ، ولا أثر للعبد فيهما أصلا عندهم؟!

وأمّا ما زعمه من الإلزام لنا بالعلم ، فممّا لا يرضى به عارف من

١٣٨

قومه فضلا عن غيرهم ؛ لما سبق من أنّ العلم تابع للمعلوم لا متبوع(١) ، وإلّا لما كان الله قادرا مختارا ؛ لأنّ ما علم وجوده واجب ، وما علم عدمه ممتنع ، على نحو ما ذكره في كلامه ، ومن الوهن بالإنسان أن يتعرّض للجواب عن مثل هذه الكلمات التي يعلم فيها مقصد صاحبها.

* * *

__________________

(١) راجع ج ٢ / ٣٥٤ ، وانظر الصفحة ١٠١ من هذا الجزء.

١٣٩

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم أن يكون الله سبحانه أظلم الظالمين ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ؛ لأنّه إذا خلق فينا المعصية ولم يكن لنا فيها أثر ألبتّة ، ثمّ عذّبنا عليها وعاقبنا على صدورها منه تعالى فينا ، كان ذلك نهاية الجور والعدوان ، نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى وصف الله تعالى بالظلم والعدوان.

فأيّ عادل يبقى بعد الله تعالى ، وأيّ منصف سواه ، وأيّ راحم للعبد غيره ، وأيّ مجمع للكرم والرحمة والإنصاف عداه ، مع أنّه يعذّبنا على فعل صدر عنه ، ومعصية لم تصدر منّا بل منه؟!!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٤.

١٤٠

الفصل الرّابع

إمامته عليه السلام

قال الشيخ المفيد: كان الامام بعد أبي جعفر عليه‌السلام ابنه أبا الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام ، لاجتماع خصال الامامة فيه، وتكامل فضله، وأنه لا وارث لمقام أبيه سواه، وثبوت النص عليه بالامامة، والاشارة إليه من أبيه بالخلافة (1) .

وقال المسعودي: لما حضرت الامام الجواد عليه‌السلام الوفاة نص على أبي الحسن وأوصى إليه، وكان سلم المواريث والسلاح إليه بالمدينة، ومضى في سنة عشرين ومئتين من الهجرة في يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة (2) .

وفيما يلي نذكر أهم الأدلة الواردة في إمامته عليه‌السلام وكما يلي:

أولاً - نص آبائه عليه عليه‌السلام :

وردت المزيد من النصوص عن النبي والآل المعصومين عليهم‌السلام تصرح بتعيين أوصياء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفائه من عترته واحدا بعد واحد باسمائهم وأوصافهم، بشكل يجلو العمى عن البصائر وينفي الشك عن القلوب، وسنذكر هنا ثلاثة أحاديث عن آبائه المعصومين عليهم‌السلام كنموذج على تلك النصوص، ونحيل القارئ

__________________

(1) الإرشاد 2: 297.

(2) اثبات الوصية: 192.

١٤١

إلى مظانّ بقيتها (1) .

1 - عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: سمعت جابر بن عبداللّه الأنصاري يقول: قال لي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا جابر، إن أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي أوّلهم عليّ، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد ابن علي المعروف بالباقر، ستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم القائم، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، محمد بن الحسن بن علي... » (2) .

2 - وروى ابن شاذان بالاسناد عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن سلامة عن أبي سلمى راعي أبل رسول اللّه، قال: سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: « ليلة أُسري بي إلى السماء قال لي الجليل جلّ وعلا: « آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه ». قلت: والمؤمنون؟ قال: صدقت يا محمد، من خلفت في أمتك؟ قلت: خيرها. قال: علي بن أبي طالب؟ قلت: نعم يا رب. قال: يا محمد، إنّي اطّلعت إلى الأرض اطلاّعة فاخترتك منها، فشققت لك اسما من أسمائي، فلا اذكر في موضع إلاّ ذكرت معي، فأنا المحمود وأنت محمد، ثم اطّلعت الثانية فاخترت عليّا، وشققت له اسما من أسمائي، فأنا الأعلى وهو علي.

__________________

(1) راجع: اُصول الكافي 1: 286 - 292 - باب ما نص اللّه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأئمّة عليهم‌السلام واحدا فواحدا، إكمال الدين: 250 - 378 - الأبواب 23 - 36، بحار الأنوار 36: 192 - 418 - باب 40 - 48.

(2) ينابيع المودة 3: 398 الباب 94، كشف الغمة / الإربلي 3: 314.

١٤٢

يا محمد، اني خلقتك وخلقت عليا وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ولده من سنخ نور من نوري وعرضت ولايتكم على أهل السماوات وأهل الأرض، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن جحدها كان عندي من الكافرين.

يا محمد، لو أن عبدا من عبيدي عبدني حتى ينقطع أو يصير كالشن البالي، ثم أتاني جاحدا لولايتكم ما غفرت له حتى يقرّ بولايتكم.

يا محمد، أتحبّ أن تراهم؟ قلت: نعم يارب. فقال لي: التفت عن يمين العرش، فالتفت فإذا أنا بعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والمهدي، في ضحضاح من نور قياما يصلّون وهو في وسطهم - يعني المهدي - كأنّه كوكب دري.

قال: يا محمد، هؤلاء الحجج، وهو الثائر من عترتك، وعزتي وجلالي انه الحجة الواجبة لأوليائي، والمنتقم من أعدائي » (1) .

3 - عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: « سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول: أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى عليه‌السلام قصيدتي التي أولها:

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

فلما انتهيت إلى قولي:

خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم اللّه والبركات

يميز فينا كل حقّ وباطل

ويجزي على النعماء والنقمات

__________________

(1) مقتل الحسين / الخوارزمي 1: 95 - 96، فرائد السمطين 2: 319 / 571.

١٤٣

بكى الرضا عليه‌السلام بكاءً شديدا، ثم رفع رأسه إليّ فقال لي: يا خزاعي، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام، ومتى يقوم؟ فقلت: لا يا مولاي، إلاّ أني سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد، ويملأها عدلاً كما ملئت جورا.

فقال: يا دعبل، الإمام بعدي محمد ابني، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره... » (1) .

ثانيا - نص أبيه عليه عليه‌السلام :

فيما يلي نعرض أهم النصوص الواردة عن أبيه عليه‌السلام في النص عليه والإشارة إليه بالإمامة من بعده.

1 - عن إسماعيل بن مهران، قال « لما خرج أبو جعفر عليه‌السلام من المدينة إلى بغداد في الدفعة الاولى من خرجتيه، قلت له عند خروجه: جعلت فداك، إني أخاف عليك في هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك؟ فكر بوجهه إلى ضاحكاً وقال: ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة. فلما اخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه فقلت له: جعلت فداك، أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم التفت إلي فقال: عند هذه يخاف علي، الأمر من بعدي إلى ابني علي » (2) .

__________________

(1) إكمال الدين: 372 / 6 باب 35، عيون أخبار الرضا 2: 296 / 35 الباب 66، ينابيع المودة 3: 348 الباب 86، فرائد السمطين 2: 337 / 591.

(2) اُصول الكافي 1: 323 / 1 باب الاشارة والنص على أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ، الارشاد 2: 298.

١٤٤

2 - وعن الحسين بن محمد، عن الخيراني، عن أبيه، أنه قال: « كان يلزم باب أبي جعفر عليه‌السلام للخدمة التي كان وكل بها، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يجيئ في السحر في كل ليلة، ليعرف خبر علّة أبي جعفر عليه‌السلام ، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر عليه‌السلام وبين أبي إذا حضر قام أحمد وخلا به أبي، فخرج ذات ليله وقام أحمد عن المجلس وخلا أبي بالرسول، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام، فقال الرسول لأبي: إن مولاك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إني ماضٍ والأمر صائر إلى ابني علي، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي.

ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه، وقال لأبي: ما الذي قد قال لك؟ قال: خيراً. قال: قد سمعت ما قال، فلم تكتمه؟ وأعاد ما سمع فقال له أبي: قد حرم الله عليك ما فعلت، لأنّ الله تعالى يقول: ( وَلَا تَجَسَّسُوا ) (1) فاحفظ الشهادة لعلنا نحتاج إليها يوماً ما، وإياك أن تظهرها إلى وقتها.

فلما أصبح أبي كتب نسخة الرسالة في عشر رقاع، وختمها ودفعها إلى عشرة من وجوه العصابة، وقال: إن حدث بي حدث الموت قبل أن اطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها.

فلما مضى أبو جعفر عليه‌السلام ذكر أبي أنه لم يخرج من منزله حتى قطع على يديه نحو من أربعمائة إنسان، واجتمع رؤساء العصابة عند محمد بن الفرج يتفاوضون هذا الأمر، فكتب محمد بن الفرج إلى أبي يعلمه باجتماعهم عنده، وأنه لولا مخافة الشهرة لصار معهم إليه، ويسأله أن يأتيه، فركب أبي وصار إليه، فوجد القوم مجتمعين عنده، فقالوا لأبي: ما تقول في هذا الأمر؟ فقال أبي لمن عنده الرقاع:

__________________

(1) سورة الحجرات 49: 12.

١٤٥

احضروا الرقاع، فأحضروها، فقال لهم: هذا ما أُمرت به.

فقال بعضهم: قد كنا نحب أن يكون معك في هذا الأمر شاهد آخر؟ فقال لهم: قد آتاكم الله عزوجل به، هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة، وسأله أن يشهد بما عنده، فأنكر أحمد أن يكون سمع من هذا شيئاً، فدعاه أبي إلى المباهلة، فقال لما حقق عليه: قد سمعت ذلك، وهذه مكرمة كنت أحب أن تكون لرجل من العرب لا لرجل من العجم، فلم يبرح القوم حتى قالوا بالحق جميعاً » (1) .

3 - وعن محمد بن الحسين الواسطي: أنه سمع أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر يحكي أنه أشهده على هذه الوصية المنسوخة: « شهد أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر أن أبا جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام أشهده أنه أوصى إلى علي ابنه بنفسه وأخواته، وجعل أمر موسى إذا بلغ إليه، وجعل عبد الله بن المساور قائماً على تركته من الضياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك إلى أن يبلغ علي بن محمد (2)، صير عبد الله بن المساور ذلك اليوم إليه، يقوم بأمر نفسه واخوانه،

__________________

(1) اُصول الكافي 1: 323 / 2 باب الاشارة والنص على أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ، الارشاد 2: 300.

(2) في بيان للعلامة المجلسي قال: لعله للتقية من المخالفين الجاهلين بقدر الامام عليه‌السلام ومنزلته وكماله في صغره وكبره، اعتبر بلوغه في كونه وصياً، وفوض الأمر ظاهراً قبل بلوغه إلى عبد الله، لئلا يكون لقضاتهم مدخلاً في ذلك، فقوله عليه‌السلام : (إذا بلغ) يعني أبا الحسن عليه‌السلام . وقوله عليه‌السلام : (صير) أي بعد بلوغ الامام عليه‌السلام صيره عبد الله مستقلاً في امور نفسه ووكل امور أخواته إليه عليه‌السلام . قوله: (ويصيّر) بتشديد الياء، أي عبد الله أو الامام عليه‌السلام (أمر موسى إليه) أي إلى موسى (بعدهما) أي بعد فوت

١٤٦

ويصير أمر موسى إليه، يقوم لنفسه بعدهما على شرط أبيهما في صدقاته التي تصدق بها، وذلك يوم الأحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين.

وكتب أحمد بن أبي خالد شهادته بخطه، وشهد الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام - وهو الجواني - على مثل شهادة أحمد بن أبي خالد في صدر هذا الكتاب، وكتب شهادته بيده، وشهد نصر الخادم وكتب شهادته بيده » (1) .

4 - وعن الصقر ابن أبي دلف قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا عليهما‌السلام يقول: « إن الامام بعدي إبني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والامام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه، ثم سكت، فقلت له: يا ابن رسول الله، فمن الامام بعد الحسن؟ فبكى عليه‌السلام بكاءً شديداً، ثم قال: إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر. فقلت له: يا ابن رسول الله، لم سمي القائم؟ قال: لأنه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته. فقلت له: ولم سمي المنتظر؟ قال: لأن له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها، فينتظر خروجه المخلصون، وينكره المرتابون، ويستهزئ بذكره الجاحدون، ويكذب فيها الوقاتون، ويهلك فيها

__________________

عبد الله والامام عليه‌السلام ، ويحتمل التخفيف أيضاً. وقوله: (على شرط أبيهما) متعلق بيقوم في الموضعين. بحار الأنوار 50: 123.

(1) أصول الكافي 1: 325 / 3 باب الاشارة والنص على أبي الحسن الثالث عليه‌السلام .

١٤٧

المستعجلون، وينجو فيها المسلّمون » (1) .

5 - وعن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه: « أن أبا جعفر عليه‌السلام لما أراد الخروج من المدينة إلى العراق ومعاودتها، أجلس أبا الحسن عليه‌السلام في حجره بعد النص عليه، وقال له: ما الذي تحب أن أهدي إليك من طرائف العراق؟ فقال عليه‌السلام : سيفاً كأنه شعلة نار. ثم التفت إلى موسى ابنه وقال له: ما تحب أنت؟ فقال: فرساً. فقال عليه‌السلام : أشبهني أبو الحسن، وأشبه هذا أمه » (2) .

6 - وعن أحمد بن هلال، عن أمية بن علي القيسي، قال: « قلت لأبي جعفر الثاني عليه‌السلام : من الخلف من بعدك؟ قال: ابني علي » (3) .

وعنه، قال: « أخبرني محمد بن إسماعيل بن بزيع أنه حضر أمية بن علي وهو يسأل أبا جعفر الثاني عليه‌السلام عن ذلك، فأجاب بمثل ذلك الجواب » (4) .

ثالثاً - اجماع الامامية:

نقل الاجماع على امامة أبي الحسن الهادي عليه‌السلام جملة من أعلام الامامية المعروفين ومنهم:

1 - قال الشيخ المفيد بعد ايراده النص على أبي الحسن عليه‌السلام من أبيه: والأخبار في هذه الباب كثيرة جداً، إن عملنا على إثباتها طال بها الكتاب، وفي إجماع العصابة على إمامة أبي الحسن عليه‌السلام وعدم من يدعيها سواه في وقته ممن

__________________

(1) إكمال الدين: 378 / 3 باب 36.

(2) عيون المعجزات: 119، بحار الأنوار 50: 123 / 5.

(3) كفاية الأثر: 280.

(4) كفاية الأثر: 280.

١٤٨

يلتبس الأمر فيه، غنىً عن إيراد الأخبار بالنصوص على التفصيل (1) .

وقال في موضع آخر: ثم ثبتت الامامية القائلون بإمامة أبي جعفر عليه‌السلام بأسرها على القول بامامة أبي الحسن علي بن محمد من بعد أبيه عليهما‌السلام ونقل النص عليه إلا فرقة قليلة العدد شذوا عن جماعتهم، فقالوا بإمامة موسى بن محمد أخي أبي الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام ، ثم إنهم لم يثبتوا على هذا القول إلا قليلاً حتى رجعوا إلى الحق ودانوا بإمامة علي بن محمد عليهما‌السلام ورفضوا القول بإمامة موسى بن محمد، وأقاموا جميعاً على إمامة أبي الحسن عليه‌السلام (2) .

2 - وقال ابن شهرآشوب: رواة النص على إمامة أبي الحسن علي بن محمد النقي عليه‌السلام جماعة منهم: إسماعيل بن مهران، وأبو جعفر الأشعري، والخيراني، والدليل على إمامته إجماع الامامية على ذلك وطريق النصوص والعصمة، والطريقان المختلفان من العامة والخاصة من نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إمامة الاثني عشر، وطريق الشيعة النصوص على إمامته عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام (3) .

رابعاً - شواهد اخرى:

وهناك شهادات نوردها وان كنا في غنى عنها، لكون أغلبها وارد عن مخالفي مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، ولكننا نعتقد أنها تؤكد شهرة النص حتى عند المخالفين، سيما وأنها توكد امامته عليه‌السلام وكونه أحد الأئمة أو عاشرهم. وفيما يلي نذكر بعضها.

1 - قال الذهبي: علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن

__________________

(1) الارشاد 2: 300.

(2) الفصول المختارة: 317.

(3) المناقب / ابن شهرآشوب 4: 402.

١٤٩

زين العابدين، السيد الشريف، أبو الحسن العلوي الحسيني الفقيه، أحد الاثني عشر، وتلقبه الامامية الهادي (1) .

2 - وقال ابن حجر الهيتمي: علي العسكري، سمي بذلك لأنه لما وجه المتوكل لاشخاصه من المدينة المنورة إلى سر من رأى، أسكنه بها، وكانت تسمى العسكر، فعرف بالعسكري، وكان وارث أبيه علماً وسخاء... (2) .

3 - ويقول ابن العماد الحنبلي: أبو الحسن علي بن الجواد محمد بن الرضا علي بن الكاظم موسى بن جعفر الصادق العلوي الحسيني المعروف بالهادي، كان فقيهاً إماماً متعبداً، وهو أحد الأئمّة الاثني عشر (3) .

4 - وقال اليافعي: أبو الحسن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني، عاش أربعين سنة، وكان متعبداً فقيهاً إماماً (4) .

5 - وقال الخطيب البغدادي: علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن الهاشمي، أشخصه جعفر المتوكل على الله من مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بغداد ثم إلى سر من رأى، فقدمها وأقام بها عشرين سنة وتسعة اشهر إلى ان توفي ودفن بها في أيام المعتز بالله، وهو أحد من يعتقد الشيعة والامامية فيه (5)، ويعرف بأبي الحسن العسكري (6) .

__________________

(1) تاريخ الاسلام / الذهبي: 218 وفيات سنة 251 - 260.

(2) الصواعق المحرقة: 207.

(3) شذرات الذهب 2: 128.

(4) مرآة الجنان 2: 119.

(5) الظاهر: الامامة فيه، بلا حرف العطف.

(6) تاريخ بغداد 12: 56 / 6440.

١٥٠

6 - وقال السمعاني: أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المعروف بالعسكري، من عسكر سر من رأى، أشخصه جعفر المتوكل على الله من مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بغداد، ثم إلى سر من رأى، فقدمها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر، إلى أن توفي بها في أيام المعتز بالله، وهو أحد من يعتقد الشيعة فيه الامامية (1)، ويعرف بأبي الحسن العسكري (2) .

7 - وقال خير الدين الزركلي: أبو الحسن العسكري، علي الملقب بالهادي ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر الحسيني الطالبي، عاشر الأئمّة الاثني عشر عند الامامية، وأحد الأتقياء الصلحاء (3) .

8 - وأذعن أبو عبد الله الجنيدي بأن الامام الهادي عليه‌السلام أعلم منه، وأنه تعلم منه ضروباً من العلم، وأنه خير أهل الأرض، وأنه يحفظ القرآن من أوله إلى آخره ويعلم تأويله وتنزيله، والجنيدي هو الذي عهد إليه عمر بن الفرج الرخجي أن يعلم الامام عليه‌السلام بأمر المعتصم، وكان معروفاً بعداء أهل البيت عليهم‌السلام ، فذهل من حدّة ذكاء الامام عليه‌السلام وغزارة علمه مع كون الامام عليه‌السلام صبياً لم يبلغ الثامنة، الأمر الذي جعل الجنيدي ينتهي عن النصب والعداء لأهل البيت عليهم‌السلام ، ويدين بالولاء لهم ويعتقد بالامامة ويهتدي إلى سواء السبيل (4) .

* * *

__________________

(1) الظاهر: الامامة.

(2) الأنساب 4: 194.

(3) الأعلام 5: 140.

(4) إثبات الوصية / المسعودي: 222.

١٥١

الفصل الخامس

مكارم أخلاقه ومنزلته عليه السلام

يتحلّى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بصفات الكمال ومعالي الأخلاق التي ميزت شخصياتهم العظيمة عن سائر من عاصرهم في العبادة والعلم والحلم والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من مظاهر العظمة، ذلك لأنّهم استوحوا من جدهم المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله رساليته وروحانيته وأخلاقيته، وتجسدت فيهم شخصيته، فكانوا اختصارا لجميع عناصرها الأخلاقية والروحية والانسانية، وصاروا رمزا للفضيلة والمروءة وقدوةً صالحة للانسانية.

ولقد أوتي الامام الهادي عليه‌السلام كسائر آبائه الطاهرين من الفضائل ومكارم الأخلاق مالم يؤت أحد من معاصريه، فلم ير مثله في عبادته وتهجّده وطاعته لربه، فضلاً عن زهده وتقواه وحسن سيرته وعلمه الجم وحكمته وبلاغته.

قال الشاعر:

ولست أحصي مكرمات الهادي

فإنها في العدّ كالأعداد (1)

من هنا نال الامام عليه‌السلام إعجاب كبار العلماء والمؤرخين ممن عاصره وغيرهم، على اختلاف نزعاتهم وميولهم، فأشادوا بشخصيته الفذة وصفاته الرفيعة وسجاياه الحميدة ومعالي أخلاقه وتفوقه على سائر المعاصرين له.

__________________

(1) الأنوار القدسية / الشيخ محمد حسين الأصفهاني: 101.

١٥٢

وشهد له عليه‌السلام من رجال البلاط وزير المعتمد عبيداللّه بن يحيى بن خاقان ت 263 هـ الذي وصفه بالفضل والنبل والجزالة لابنه أحمد بن عبيداللّه، وكان قد سأله عن الامام العسكري عليه‌السلام ، فقال له: « يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الاجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبيك؟ فقال عبيداللّه بن خاقان: يابني ذاك إمام الرافضة، ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا. فسكت ساعة، ثم قال:... ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً » (1) .

وذكر ابن أبي الحديد عن أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ت 255 هـ في تعداد صفاته وصفات آبائه المعصومين عليهم‌السلام قوله: من الذي يعدّ من قريش أو من غيرهم ما يعدّه الطالبيون عشرة في نسق، كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاكٍ؟ فمنهم خلفاء، ومنهم مرشّحون: ابن ابن ابن ابن، هكذا إلى عشرة، وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي عليهم‌السلام ، وهذا لم يتّفق لبيتٍ من بيوت العرب ولا من بيوت العجم » (2) .

وقال ابن شهرآشوب: كان عليه‌السلام أطيب الناس مهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صمت عليه هيبة الوقار، وإذا تكلم عليه سيماء البهاء، وهو من بيت الرسالة والامامة، ومقر الوصية والخلافة، شعبة من دوحة النبوة منتضاة مرتضاة، وثمرة من شجرة الرسالة مجتناة

__________________

(1) اصول الكافي1: 504 / 1 باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام من كتاب الحجة، إكمال الدين: 42 مقدمة المؤلف، الارشاد2: 322، روضة الواعظين: 250، إعلام الورى 2: 147.

(2) شرح نهج البلاغة 15: 278.

١٥٣

مجتباة (1) .

وقال الشيخ علي بن عيسى الاربلي: إذا قال بذّ الفصحاء، وحير البلغاء، وأسكت العلماء، إن جاد بخل الغيث، وإن صال جبن الليث، وإن فخر أذعن كل مساجل، وسلم إليه كل مناضل، وأقر لشرفه كل شريف،... وإن ذكرت العلوم فهو موضح إشكالها، وفارس جلادها وجدالها، وابن نجدتها وصاحب أقوالها، واطلاع نجادها وناصب أعلام عقالها (2) .

ولسنا نريد من خلال كلمات هؤلاء الأعلام أن ندخل في تقييم الإمام عليه‌السلام لمجرد أنهم شهدوا له، لأنّه عليه‌السلام يختصّ من موقع إمامته بالدرجة الرفيعة عند اللّه، ويتمتّع بملكات قدسية في جميع جوانب المعرفة والروحانية والصلاح والخلق الرفيع، وهي التي جعلت هؤلاء العلماء وآخرين غيرهم يذعنون لعظم شخصيته ويظهرون له الإكبار والاحترام والثناء.

من هنا نأتي إلى ذكر نبذة من معالي الفضيلة وعناصر العظمة والملكات القدسية والخصال الروحانية التي تحلى بها الامام الهادي عليه‌السلام من العلم والعبادة والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من مناقبه الفذّة وخصاله الفريدة التي ورثها عن آبائه المعصومين وكما يلي:

أولاً - العلم:

بدت على الامام الهادي عليه‌السلام مظاهر العلم والمعرفة منذ حداثة سنه، فقد تميز كأبيه بالإمامة المبكرة، لأنه أسند إليه منصب الامامة بكل ما تتطلبه من علم كامل بالشريعة وأحكامها وهو في سن الثامنة من عمره الشريف، وتلك

__________________

(1) المناقب 4: 401.

(2) كشف الغمة 3: 164.

١٥٤

ظاهرة نلاحظها لأول مرّة في تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام متمثلة بالامام الجواد وثانياً بولده الامام الهادي عليهما‌السلام ، وهو أمر لا يصدق على سائر الناس، ولا يقع في دائرة الإمكان الا أن يكون المعني محاطاً بالعناية الالهية وواقعاً ضمن دائرة الاصطفاء الالهي الذي جعل عيسى بن مريم عليهما‌السلام يتكلم في المهد ويتولى مهام النبوة وهو في السابعة من عمره، وجعلت يحيى بن زكريا عليهما‌السلام نبياً وهو في بواكير الصبا.

روى الصفار بالاسناد عن علي بن محمد النوفلي، قال: « سمعت أبا الحسن العسكري عليه‌السلام يقول: اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، وإنما كان عند آصف حرف واحد فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ، فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان عليه‌السلام ، ثم انبسطت له الأرض في أقل من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً، وحرف واحد عند الله تعالى مستأثر به في علم الغيب » (1) .

وكان الامام الهادي عليه‌السلام أبرز المعاصرين له في العلم والمعرفة والتقوى والعبادة والوجاهة والقيادة والريادة، ولقد تسالم العلماء والفقهاء على الرجوع إلى رأيه المشرق في المسائل المعقدة والغامضة من أحكام الشريعة الاسلامية ومسائل العقائد المختلفة، حتى ان المتوكل العباسي وهو ألدّ أعدائه كان يرجع إلى رأي الامام عليه‌السلام في المسائل التي اختلف فيها علماء عصره، مقدماً رأيه عليه‌السلام على آرائهم، وكانوا يرجعون إليه في كل معضلة، ويلجأون إليه في كل مأزق، وأمرهم في ذلك مشتهر حتى أذعن سائر العلماء المعاصرين له ممن ناظرهم بتفوقه العلمي، ولو رأوا أدنى قصور في ذلك لأظهروه سيما وان من حوله يحاولون الكيد له ويتربّصون به وبأصحابه، ولذلك شواهد كثيرة تدل

__________________

(1) بصائر الدرجات: 231 / 3.

١٥٥

بمجموعها على أنه عليه‌السلام كان أعلم أهل زمانه وأرجحهم كفة بلا خلاف.

نبوغه المبكر:

ذكر الرواة بوادر كثيرة من ذكائه، كان منها أن المعتصم بعد شهادة الامام الجواد عليه‌السلام عهد إلى عمر بن الفرج الرخجي أن يشخص إلى يثرب ليختار معلماً لأبي الحسن الهادي عليه‌السلام ، وقد عهد إليه أن يكون المعلم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهم‌السلام ليميل به عن نهجهم حسب اعتقاده، فاختار أبا عبد الله الجنيدي الذي وقف ذاهلاً أمام نبوغه وتفوقه، حيث كان يملي على المعلم بما فيه استفاده له، وأذعن المعلم بأنه يتعلم منه ولا يعلمه كما يظن الناس، وانه عليه‌السلام خير أهل الأرض وأفضل من خلق الله تعالى، وأخيراً قال بإمامته وعرف الحق وقال به.

روى المسعودي بإسناده عن الحميري، عن محمد بن سعيد مولى لولد جعفر بن محمد، قال: « قدم عمر بن الفرج الرخجي المدينة حاجاً بعد مضي أبي جعفر الجواد عليه‌السلام فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين المعادين لأهل بيت رسول الله عليهم‌السلام ، فقال لهم: ابغوا لي رجلاً من أهل الأدب والقرآن والعلم، لا يوالي أهل هذا البيت، لأضمّه إلى هذا الغلام وأوكله بتعليمه، وأتقدم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه. فأسموا له رجلاً من أهل الأدب يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالجنيدي، وكان متقدماً عند أهل المدينة في الأدب والفهم، ظاهر الغضب والعداوة.

فأحضره عمر بن الفرج وأسنى له الجاري من مال السلطان، وتقدم إليه بما أراد، وعرفه أن السلطان أمره باختيار مثله وتوكيله بهذا الغلام، قال: فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن عليه‌السلام في القصر بصريا، فإذا كان الليل أغلق الباب

١٥٦

وأقفله، وأخذ المفاتيح إليه، فمكث على هذا مدة، وانقطعت الشيعة عنه وعن الاستماع منه والقراءة عليه.

ثم إني لقيته في يوم جمعة فسلمت عليه، وقلت له: ما حال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه؟ فقال منكراً علي: تقول الغلام ولا تقول الشيخ الهاشمي! أنشدك الله هل تعلم بالمدينة أعلم مني؟ قلت: لا. قال: فإني والله أذكر له الحزب من الأدب أظن أني قد بالغت فيه، فيملي علي بما فيه أستفيده منه، ويظن الناس أني أعلمه وأنا والله أتعلم منه.

قال: فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما سمعته منه، ثم لقيته بعد ذلك، فسلمت عليه، وسألته عن خبره وحاله، ثم قلت: ما حال الفتى الهاشمي؟ فقال لي: دع هذا القول عنك، هذا والله خير أهل الأرض، وأفضل من خلق الله تعالى، وإنه لربما همّ بالدخول فأقول له: تنظر حتى تقرأ عشرك. فيقول لي: أي السور تحب أن أقرأها ؟ وأنا أذكر له من السور الطوال ما لم يبلغ إليه، فيهذّها بقراءة لم أسمع أصح منها من أحد قط، بأطيب من مزامير داود النبي التي بها من قراءته يضرب المثل.

قال: ثم قال: هذا مات أبوه بالعراق وهو صغير بالمدينة، ونشأ بين هذه الجواري السود، فمن أين علم هذا؟ قال: ثم ما مرت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته وعرف الحق وقال به » (1) .

قال الشاعر:

حار فيه فكر الجنيدي مذ

شاهد فيه ما حير الأفكارا

جاء يملي له العلوم صغيراً

فإذا بالصغار تهدي الكبارا (2)

__________________

(1) إثبات الوصية / المسعودي: 222.

(2) الذخائر / اليعقوبي: 63.

١٥٧

روايات عن مقامه العلمي:

ان أهم صفات الامامة بعد ثبوت النص على الامام، هي السبق في العلم والحكمة، لكونها ضرورة لازمة في الامام لأجل أن يكون أهلاً لهذه المنزلة، وكفؤاً لهذه المسؤولية، وقطباً تلتف حوله الناس، وتطمئن إلى سبقه في العلم والحكمة والمعرفة، وقدرته الفائقة في مواجهة ما تبتلى به الاُمّة والدولة، فلا يحتاج إلى غيره ممن هم محتاجون إلى إمام يهديهم ويرشدهم، اذ لا يصح أن يلتف الناس حول رجل ويسلمون إليه قيادهم، وهم يجدون من هو أعلم منه أو أرجح فهماً وحكمةً ومعرفةً في شؤون الدين والدنيا، وهذه الناحية تكاد تكون بديهية لازمت جميع الأنبياء والأوصياء بين أقوامهم، وهي أشد ما تكون بروزاً وظهوراً في حياة خاتم الأنبياء وأوصيائه عليهم‌السلام .

روى الشيخ الصدوق بالاسناد عن أحمد بن علي الأنصاري، عن الحسن ابن الجهم، قال: « حضرت مجلس المأمون يوماً وعنده علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ، وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة، فسأله بعضهم فقال له: يا بن رسول الله، بأي شيء تصحّ الامامة لمدعيها؟ قال: بالنص والدليل. قال له: فدلالة الامام فيما هي؟ قال: في العلم واستجابة الدعوة.... » (1) .

وهكذا كان أئمة الهدى عليهم‌السلام ، فلم يعرف عن أحدهم أنه تلكأ يوماً في مسألة، أو أفحمه أحد في حجة، بل كان سبقهم نوعاً من الاعجاز، وأظهر ما يكون ذلك مع الامام محمد الجواد وولده الامام الهادي عليهما‌السلام ، فقد أوتيا العلم والحكمة وفصل الخطاب ولما يبلغا الحلم، وسبقا علماء ومتكلمي عصرهما،

__________________

(1) عيون أخبار الرضا / الشيخ الصدوق 1: 216.

١٥٨

وشهدوا لهما بالفضل والتقدم والسبق.

وللامام الهادي جملة احتجاجات ومناظرات وأجوبة على مسائل شتى ناظر وأجاب خلالها كثيراً من المناوئين وغيرهم، باسلوب هادئ متين مدعم بالحجة والمنطق والبرهان الساطع، ولم يجتمع إليه أحد من أولئك المناظرين إلا وأذعن بتفوقه العلمي وسبقه المعرفي، وفيما يلي نورد بعض الروايات الدالة على غزارة علمه وتفوقه ورجحان كفته.

1 - سورة تخلو من سبعة أحرف:

في شرح شافية أبي فراس، قال: ومما نقل أن قيصر ملك الروم كتب إلى خليفة من خلفاء بني العباس كتاباً يذكر فيه: إنا وجدنا في الانجيل أنه من قرأ سورة خالية من سبعة أحرف حرّم الله تعالى جسده على النار. وهي: الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء، فإنا طلبنا هذه السورة في التوراة فلم نجدها، وطلبناها في الزبور فلم نجدها، فهل تجدونها في كتبكم؟

فجمع الخليفة العلماء وسألهم في ذلك، فلم يجب منهم أحد عن ذلك إلا النقي علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام ، فقال: إنها سورة الحمد، فإنها خالية من هذه السبعة أحرف. فقيل: الحكمة في ذلك أن الثاء من الثبور، والجيم من الجحيم، والخاء من الخيبة، والزاي من الزقوم، والشين من الشقاوة، والظاء من الظلمة، والفاء من الفرقة أو من الآفة. فلما وصل إلى قيصر وقرأه فرح بذلك فرحاً شديداً، وأسلم لوقته، ومات على الاسلام، والحمد لله رب العالمين (1) .

2 - معنى المال الكثير:

روى السمعاني والخطيب البغدادي بالاسناد عن الحسين بن يحيى، قال:

__________________

(1) شرح شافية أبي فراس / ابن أمير الحاج: 563.

١٥٩

« اعتل المتوكل في أول خلافته، فقال: لئن برئت لأتصدقن بدنانير كثيرة، فلما برئ جمع الفقهاء فسألهم عن ذلك فاختلفوا، فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر، فسأله فقال: يتصدق بثلاث وثمانين ديناراً. فعجب قوم من ذلك، وتعصب قوم عليه وقالوا: تسأله يا أمير المؤمنين من أين له هذا؟ فرد الرسول إليه، فقال له: قل لأمير المؤمنين: في هذا الوفاء بالنذر، لأن الله تعالى قال: « لقد نصركم الله في مواطن كثيرة » (1) . فروى أهلنا جميعاً أن المواطن في الوقائع والسرايا والغزوات كانت ثلاثة وثمانين موطناً، وأن يوم حنين كان الرابع والثمانين، وكلما زاد أمير المؤمنين في فعل الخير كان أنفع له وأجرى (2) عليه في الدنيا والآخرة » (3) .

3 - جواز تكنية الكافر:

عن كتاب الاستدراك: « نادى المتوكل يوماً كاتباً نصرانياً: أبا نوح، فأنكروا كنى الكتابيين، فاستفتى فاختلف عليه، فبعث إلى أبي الحسن عليه‌السلام ، فوقع عليه‌السلام : ( بِسْمِ اللَّـهِ الرَّ‌حْمَـٰنِ الرَّ‌حِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) (4)، فعلم المتوكل أنه يحل ذلك، لأن الله قد كنى الكافر » (5) .

4 - من حلق رأس آدم؟:

روى الخطيب البغدادي بالاسناد عن محمد بن يحيى المعاذي، قال: « قال

__________________

(1) سورة التوبة: 9 / 24.

(2) في تاريخ بغداد: وآجر.

(3) تاريخ بغداد 12: 57 / 6440، الأنساب / السمعاني 4: 194.

(4) سورة المسد: 111 / 1.

(5) بحار الأنوار 10: 391 / 4.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420