دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق14%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214658 / تحميل: 4829
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٦-x
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وأقول :

لا ريب أنّ المدح والذمّ تابعان لحسن الأشياء وقبحها ، والحسن والقبح قد لا يعتبر فيهما القصد والاختيار ؛ لعدم كون متعلّقهما من الأفعال الاختيارية ، بل من الصفات الذاتية ، كصفاء اللؤلؤ وكدرته ، وجمال الوجه وحسنه.

وقد يعتبر فيهما القصد والاختيار ؛ لتعلّقهما بالفعل الاختياري ، فإنّ الفعل الاختياري لو وقع بلا قصد لم يوصف بالحسن والقبح ، ولا يحمد عليه الفاعل ولا يذمّ ، كفعل النائم ، فإنّ النائم إذا صدرت منه كلمة الإيمان والكفر لم توصف بحسن ولا قبح منه ، ولا يحمد عليها ولا يذمّ.

وكذا لا يذمّ الشخص على الفعل إذا أكره عليه ، كما وقعت كلمة الكفر من عمّار بإكراه قريش فلم يذمّ عليها ، ونزل قوله تعالى :( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (١) .

ولو انتفى أصل الصدور من الشخص ، كان الفعل أولى بعدم اتّصافه بالحسن والقبح منه ، وكان الشخص أولى بأن لا يحمد أو يذمّ عليه ، سواء لم يرتبط به الفعل أصلا أم ارتبط به بنحو المحلّيّة أو الآليّة بلا اختيار ولا تأثير.

فإنّ الحجارة لا تحمد ولا تذمّ على الإيلام ، ولا يحسن منها ولا يقبح ، وإنّما يحمد الرامي أو يذمّ على الإيلام لحسنه منه أو قبحه

__________________

(١) سورة النحل ١٦ : ١٠٦.

١٦١

بحسب الوجوه والاعتبار ، كضرب اليتيم تأديبا أو عدوانا.

وكذا الحال في الإنسان بناء على صدور فعله من الله تعالى ، فإنّه لا يحسن من الإنسان ولا يقبح ، ولا يحمد عليه ولا يذمّ ؛ لعدم تأثيره في الفعل أصلا ، ومجرّد كونه محلّا لفعله تعالى ، وصيرورته آلة ، وتسميته في الاصطلاح اللفظي كاسبا لا يقتضي حسن الفعل منه أو قبحه ، ولا حمده عليه أو ذمّه ، ما دام غير مؤثّر فيه بوجه ، إذ ليس هو إلّا كالحجارة.

فحينئذ يكون تعلّق المدح والذمّ في القرآن بالمؤمن والكافر ، دليلا على الصدور منهما والتأثير لهما.

وأمّا الوعد والوعيد فلا معنى لتعلّقهما بالشخص ؛ لكونه محلّا للأفعال ، إذ لم يستند إليه شيء حتّى يجزى به والتشبيه بإيثار المسك واختياره وإحراق الحطب والحشيش ، خطأ ؛ لأنّ الكلام في صحّة الوعد والوعيد وبالضرورة : لا يصحّ وعد المسك ، وإبعاد الحشيش

على أنّ حرق الحطب ليس ظلما له ، إذ لا شعور له ، بخلاف تعذيب الإنسان ، فلا معنى لقياس المؤمن والكافر على المسك والحطب.

وأمّا ما ذكره من أنّ المباشرة والكسب لا كلام في أنّهما من العبد ، فإنّ أراد به أنّهما منه حقيقة ، كان خروجا عن مذهبه وشركا بمعتقده ؛ لأنّ كلّ ما في الوجود من الله تعالى

وإن أراد أنّهما منه اصطلاحا ، وبمجرّد التسمية اللفظية لم يحصل به الجواب.

* * *

١٦٢

قال المصنّف ـ أعلى الله منزلته ـ(١) :

الثالث : الآيات الدالّة على أنّ أفعال الله تعالى منزّهة عن أن تكون مثل أفعال المخلوقين في التفاوت والاختلاف والظلم.

قال الله تعالى :( ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) (٢)

( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) (٣)

( ثُمَّ هَدى ) (٤)

والكفر والظلم ليس بحسن.

وقال تعالى :( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِ ) (٥)

والكفر ليس بحقّ.

وقال تعالى :( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) (٦)

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (٧)

( وَما ظَلَمْناهُمْ ) (٨)

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٧.

(٢) سورة الملك ٦٧ : ٣.

(٣) سورة السجدة ٣٢ : ٧.

(٤) سورة طه ٢٠ : ٥٠ ، وأوّل الآية :( الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) .

(٥) سورة الحجر ١٥ : ٨٥.

(٦) سورة النساء ٤ : ٤٠.

(٧) سورة فصّلت ٤١ : ٤٦.

(٨) سورة هود ١١ : ١٠١ ، سورة النحل ١٦ : ١١٨ ، سورة الزخرف ٤٣ : ٧٦.

١٦٣

( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) (١)

( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (٢) (٣) .

* * *

__________________

(١) سورة غافر ٤٠ : ١٧.

(٢) سورة النساء ٤ : ٤٩.

(٣) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٤ ، ولم ترد فيه آية( ثُمَّ هَدى ) .

١٦٤

وقال الفضل(١) :

مذهب جميع الملّيّين أنّ أفعال الله تعالى منزّهة عن أن تكون مثل أفعال المخلوقين ، فإنّ أفعال المخلوقين مشتملة على التفاوت [ والاختلاف ] والظلم ، وأفعال الله تعالى منزّهة عن هذه الأشياء.

فالآيات الدالّة على هذا المعنى دليل جميع الملّيّين ، ولا يلزم الأشاعرة شيء منها ؛ لأنّهم لا يقولون : إنّ أفعال العباد أفعال الله تعالى حتّى يلزم المحذور ، بل إنّهم يقولون : أفعال العباد مخلوقة لله تعالى مكسوبة للعبد.

وهذا التفاوت والاختلاف والظلم بواسطة الكسب والمباشرة ، فالتفاوت والاختلاف واقع في أفعال العباد كما في سائر الأشياء ، كالإنسان وغيره من المخلوقات ، فإنّ الاختلاف والتفاوت واقعان فيها لا محالة.

فهذا التفاوت والاختلاف في تلك الأشياء ؛ بماذا ينسب؟ وبأيّ شيء ينسب؟ فينسب إليه تعالى اختلاف أفعال العباد!

وأمّا الاستدلال بقوله :( أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) (٢) على أنّ الكفر ليس خلقه ، فباطل ؛ لأنّ الكفر مخلوق لا خلق ، ولو كان كلّ مخلوق حسنا لوجب أن لا يكون في الوجود قبيح ، وهو باطل ؛ لكثرة المؤذيات والقبائح المتحقّقة بخلق الله تعالى على ما سيجيء.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٤١.

(٢) سورة السجدة ٣٢ : ٧.

١٦٥

وأمّا الاستدلال بقوله :( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِ ) (١) على أنّ الكفر ليس مخلوقا لله تعالى ؛ لأنّه ليس بحقّ ، فباطل ؛ لأنّ معنى الآية : إنّا ما خلقنا السماوات والأرض إلّا متلبّسين بالحقّ والصدق والجدّ ، لا بالهزل والعبث ، كما قال :( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِ ) (٢)

ولو كان المعنى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلّا بكون كلّ مخلوق حقّا ، لأفاد أنّ الكفر حقّ ، وأنّى يفهم هذا المعنى من هذا الكلام؟!

نعم ، ربّما فهم ذلك الأعرابي الجاف ، الحلّي الوطن ، ذلك المعنى من كلام الله تعالى!

* * *

__________________

(١) سورة الحجر ١٥ : ٨٥.

(٢) سورة الدخان ٤٤ : ٣٨ و ٣٩.

١٦٦

وأقول :

من العجب أنّ الخصم وأصحابه يطلقون أفعال الله تعالى على مخلوقاته ، فإذا جاءوا إلى أفعال العباد ـ التي هي مخلوقة لله بزعمهم ـ سمّوها أفعال المخلوقين أيزعمون أنّ الخروج عن عهدة الإشكال بمجرّد الاصطلاح والتسمية؟!

على أنّ صريح الآية الأولى عدم التفاوت في خلق الله ، ومنه أفعال العباد عندهم ، فلا يضرّنا عدم تسميتها أفعالا لله تعالى.

وأمّا ما زعمه من التفاوت بواسطة الكسب والمباشرة

ففيه : إنّهم يزعمون أنّ الله تعالى خالق الأشياء كلّها ، فكلّ شيء جعلوا فيه التفاوت ، سواء كان هو الكسب أم غيره ، فهو من خلق الله تعالى ، فيكون التفاوت في خلقه ، وقد نفته الآية ، فلا ينفعهم الفرار إلى الكسب والمباشرة.

ومن المضحك أنّه بعدما زعم أنّ مذهب جميع الملّيّين تنزيه أفعال الله عن التفاوت ، كذّب نفسه بإثبات التفاوت في سائر الأشياء ـ كالإنسان وغيره من المخلوقات ـ ، ونسبه ـ مع التفاوت في أفعال العباد ـ إلى الله تعالى!

وهو أيضا تكذيب لله تعالى في قوله :( ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) (١) ومنشأه الجهل بمعنى الآية ، إذ ليس المراد بالتفاوت في

__________________

(١) سورة الملك ٦٧ : ٣.

١٦٧

الآية الاختلاف بالصورة والمادّة ، أو الحسن والأحسنية ، أو نحو ذلك ، حتّى تكذّب الآية ، بل المراد به الاختلاف بالحسن والقبح ووقوع الخلل وعدم الإتقان في بعضها ، ولكنّ الخصم لا يرضى بهذا ؛ لأنّه يزعم أنّ خلق الله متفاوت بالحسن والقبح.

فإن قلت : لعلّه فهم من لفظ الخلق المعنى المصدري ، فلا يكون قوله بالتفاوت في المخلوقات تكذيبا للآية.

قلت : مع أنّه لا إشعار لكلامه به ؛ لو كان كذلك لما احتاج إلى دعوى كون التفاوت بواسطة الكسب ، على أنّ تعليق الرؤية المنفية بالخلق يدلّ على إرادة المخلوق منه ، مع أنّ القول بوقوع التفاوت في المخلوقات يستوجب نفي الإتقان وثبوت النقص في الله سبحانه بالعجز أو الجهل ، وهو كفر!

وأمّا ما أجاب به عن قوله تعالى :( أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) (١)

حيث قال : إنّ الكفر مخلوق لا خلق ، فغلط واضح ، بناء على قراءة الأكثر بفتح ( لام ) خَلَقَهُ ، ليكون فعلا ، فإنّ الآية حينئذ تكون صريحة في أنّه تعالى أحسن كلّ شيء مخلوق له.

وكذا بناء على قراءته بتسكين ( اللام ) ، ليكون مصدرا وبدل اشتمال من كُلَّ شَيْءٍ ؛ وذلك لأنّ إحسان الخلق إنّما هو باعتبار إحسان المخلوق ، أو يستلزمه ، كما تشهد له القراءة الأولى.

وكيف يمكن أن يقال : إنّ الله سبحانه لم يحسن مخلوقاته ، وهو ينفي الإتقان ويثبت العجز أو الجهل له سبحانه؟!

__________________

(١) سورة السجدة ٣٢ : ٧.

١٦٨

وما زعمه من كثرة القبائح المؤذية في مخلوقات الله تعالى ، يرد عليه ـ مع منافاته لقوله سابقا بعدم صدور القبيح منه تعالى ـ : إنّ المؤذيات ليست قبائح ؛ لما فيها من المصالح الكثيرة ، وإن تخيّلها قبائح من لا يعرف أنّ الله أحسن الخالقين ، وأنّ أفعاله متقنة منزّهة عن القبيح.

وأمّا جوابه عن الآية الثالثة ، بأنّ معناها : إنّا ما خلقنا السماوات والأرض إلّا متلبّسين بالحقّ

ففيه : إنّ هذا هو مراد المصنّف ، وهو بالضرورة يقتضي أن تكون مخلوقاته تعالى كلّها حقّا ، وإلّا فكيف يكون متلبّسا بالحقّ ومخلوقاته ومصنوعاته من الباطل؟!

كما إنّه لا يكون منزّها عن اللعب والعبث إذا كان بعض مخلوقاته لعبا وعبثا!

* * *

١٦٩

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

الرابع : الآيات الدالّة على ذمّ العباد على الكفر والمعاصي ، كقوله تعالى :( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ) (٢) ، والإنكار والتوبيخ مع العجز عنه محال ، ومن مذهبهم أنّ الله خلق الكفر في الكافر وأراده منه ، وهو لا يقدر على غيره ، فكيف يوبّخه عليه؟!

وقال تعالى :( وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ) (٣) ، وهو إنكار بلفظ الاستفهام.

ومن المعلوم أنّ رجلا لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثمّ يقول : ما منعك من التصرّف في حوائجي؟! قبح منه ذلك.

وكذا قوله تعالى :( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ) (٤)

( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ) (٥)

وقوله تعالى :( ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ) (٦)

( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (٧)

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٧.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٨.

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ٩٤.

(٤) سورة النساء ٤ : ٣٩.

(٥) سورة ص ٣٨ : ٧٥.

(٦) سورة طه ٢٠ : ٩٢.

(٧) سورة المدّثّر ٧٤ : ٤٩.

١٧٠

( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (١)

( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) (٢)

( لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ) (٣)

وكيف يجوز أن يقول : لم تفعل ، مع أنّه ما فعله.!

وقوله :( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) (٤)

( لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) (٥)

قال الصاحب بن عبّاد(٦) : كيف يأمر بالإيمان ولم يرده ، وينهى عن المنكر وقد أراده ، ويعاقب على الباطل وقدّره؟!(٧) .

وكيف يصرفه عن الإيمان ويقول :( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) (٨) ؟!

ويخلق فيهم الكفر ثمّ يقول :( كَيْفَ تَكْفُرُونَ ) (٩) ؟!

ويخلق فيهم لبس الباطل ثمّ يقول :( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) (١٠) ؟!

وصدّهم عن سواء السبيل ، ثمّ يقول :( لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ

__________________

(١) سورة الانشقاق ٨٤ : ٢٠.

(٢) سورة التوبة ٩ : ٤٣.

(٣) سورة التحريم ٦٦ : ١.

(٤) سورة آل عمران ٣ : ٧١.

(٥) سورة آل عمران ٣ : ٩٩.

(٦) تقدّمت ترجمته في ج ٢ / ٣٥٨ ه‍ ٣.

(٧) انظر مؤدّاه شعرا في ديوانه : ٤١ ـ ٤٢ الأبيات ٢٣ ـ ٢٥ ، وفي شرح قصيدة الصاحب بن عبّاد في أصول الدين ـ للقاضي جعفر البهلولي المعتزلي ـ : ٦٠ ـ ٦٤.

(٨) سورة يونس ١٠ : ٣٢ ، سورة الزمر ٣٩ : ٦.

(٩) سورة البقرة ٢ : ٢٨ ، سورة آل عمران ٣ : ١٠١.

(١٠) سورة آل عمران ٣ : ٧١.

١٧١

اللهِ ) (١) ؟!

وحال بينهم وبين الإيمان ، ثمّ قال :( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ ) (٢) ؟!

وذهب بهم عن الرشد ، ثمّ قال :( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) (٣) ؟!

وأضلّهم عن الدين حتّى أعرضوا ، ثمّ قال :( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (٤) ؟!(٥) .

* * *

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٩٩.

(٢) سورة النساء ٤ : ٣٩.

(٣) سورة التكوير ٨١ : ٢٦.

(٤) سورة المدّثّر ٧٤ : ٤٩.

(٥) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٤.

١٧٢

وقال الفضل(١) :

قد سبق أنّ ذمّ العباد على الكفر ؛ لكونهم محلّ الكفر والكاسبين المباشرين له.

والإنكار والتوبيخ في قوله تعالى :( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ) (٢) ؛ لكسبهم الكفر ، وهم غير عاجزين عن الكسب ؛ لوجود القدرة على الكسب ، وإن كانوا عاجزين عن دفع الكفر عنهم بحسب الإيجاد والخلق.

والأوّل كاف في ترتّب التوبيخ على فعلهم.

وأمّا ما ذكر من أنّ مذهبهم أنّ الله تعالى خلق الكفر في الكافر وأراده منه ، وهو لا يقدر على غيره ، فكيف يوبّخه عليه؟!

فقد ذكرنا جوابه في ما سبق أنّ التوبيخ باعتبار الكسب والمحلّيّة ، لا باعتبار التأثير والخالقيّة(٣) .

وقد ذكرنا في ما سبق أنّ هذا يلزمهم في العلم بعينه(٤) .

وكذا حكم باقي ما ذكر من الآيات المشتملة على توبيخ الله تعالى عباده بالشرك والمعاصي ، فإنّ كلّ هذه التوبيخات متوجّهة إلى العباد باعتبار المحلّيّة والكسب ، لا باعتبار الخلق.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٤٧.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٨.

(٣) راجع الصفحتين ١٣١ و ١٥٥.

(٤) راجع الصفحة ١٣٧.

١٧٣

وأمّا ما ذكره من كلمات الصاحب ، فهو كان وزيرا متشدّقا في الإنشاء ، معتزليا ، ذكر الكلمات على وتيرة أرباب الترسّلات والمراسلات ، وليس فيه دليل ، وما أحسن ما قيل في أمثال كلامه :

كلامك يا هذا كبندق فارغ

خليّ عن المعنى ولكن يقرقر

* * *

١٧٤

وأقول :

بعد قولهم : « إنّ الله تعالى خالق كلّ شيء » يكون الكسب أيضا من مخلوقاته كما سبق(١) ، ويكون العبد عاجزا عنه كأصل الفعل ، فلا يصحّ توبيخ العبد عليه أيضا.

وما زعمه من وجود القدرة على الكسب ، إن أراد بها القدرة المؤثّرة فيه ، فقد خرج عن مذهبه حيث يقول : لا مؤثّر إلّا الله تعالى وكلّ شيء مخلوق له

وإن أراد بها غير المؤثّر ، فهي لا تصحّح التوبيخ ، مع أنّ مثلها عندهم متعلّق بأصل الفعل ، فلا داعي للفرار إلى الكسب.

وأمّا ما زعمه من أنّ هذا يلزمنا في العلم ، فقد مرّ مرارا ما فيه(٢) .

وأمّا كون الصاحبرحمه‌الله وزيرا متشدّقا في الإنشاء ، فلا ينافي علوّ مكانته في العلم ، كما هو معلوم لكلّ أحد ، وتشهد به رصانة معاني كلامه المذكور

وما زعمه أنّه كان معتزليا ، فهو كما زعمه الذهبي أنّ السيّد المرتضىرحمه‌الله كان معتزليا(٣)

__________________

(١) راجع الصفحة ١٦٧.

(٢) انظر الصفحة ١٣٨ ـ ١٣٩ من هذا الجزء ، وج ٢ / ٣٥٣ من هذا الكتاب.

(٣) انظر : سير أعلام النبلاء ١٧ / ٥٨٨ رقم ٣٩٤.

١٧٥

ومن نظر أحوال الصاحب عرف أنّه شريف الحسب ، إماميّ المذهب ، عريق الولاء لأهل البيت(١) ، لا يتحكّم على الحقّ بلعلّ وليت.

ولينظر المنصف أنّ الخالي عن المعنى هو كلام الصاحب أو كلام الخصم!!

* * *

__________________

(١) انظر : عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١ / ١٢ ، لسان الميزان ١ / ٤١٣ ـ ٤١٦ رقم ١٢٩٥ ، أمل الآمل ٢ / ٣٤ رقم ٩٦ ، أعيان الشيعة ٣ / ٣٢٨.

١٧٦

قال المصنّف ـ رفع الله في الخلد أعلامه ـ(١) :

الخامس : الآيات التي ذكر الله تعالى فيها تخيير العباد في أفعالهم وتعلّقها بمشيئتهم :

قال تعالى :( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (٢)

( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) (٣)

( فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ) (٤)

( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) (٥)

( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) (٦)

( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (٧)

( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ) (٨) .

وقد أنكر الله تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه وأضافها إلى الله

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٩.

(٢) سورة الكهف ١٨ : ٢٩.

(٣) سورة فصّلت ٤١ : ٤٠.

(٤) سورة التوبة ٩ : ١٠٥.

(٥) سورة المدّثّر ٧٤ : ٣٧.

(٦) سورة المدّثّر ٧٤ : ٥٥ ، سورة عبس ٨٠ : ١٢.

(٧) سورة المزّمّل ٧٣ : ١٩ ، سورة الإنسان ٧٦ : ٢٩.

(٨) سورة النبأ ٧٨ : ٣٩.

١٧٧

تعالى بقوله :( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا ) (١)

( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) (٢) (٣) .

* * *

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ١٤٨.

(٢) سورة الزخرف ٤٣ : ٢٠.

(٣) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٥.

١٧٨

وقال الفضل(١) :

هذه الآيات تدلّ على أنّ للعبد مشيئة ، وهذا شيء لا ريب فيه ولا خلاف لنا فيه ، بل النزاع في أنّ هذه المشيئة التي للعبد ، هل هي مؤثّرة في الفعل موجدة إيّاه؟ أو هي موجبة للمباشرة والكسب؟

فإقامة الدليل على وجود المشيئة في العبد غير نافعة له.

وأمّا قوله : « قد أنكر الله تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه وأضافها إلى الله تعالى بقوله :( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا ) (٢) .

فنقول : هذا الإنكار بواسطة إحالة الذنب على مشيئة الله تعالى عنادا وتعنّتا ، فأنكر الله عليهم عنادهم وجعل المشيئة الإلهيّة علّة للذنب ، وهذا باطل.

ألا ترى إلى قوله :( وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (٣) كيف نسب عدم الإشراك إلى المشيئة؟! ولو لا أنّ الإنكار في الآية الأولى لجعل المشيئة علّة للذنب ، وفي الثانية لتعميم حكم المشيئة الموجبة للخلق ، لم يكن فرق بين الأولى والثانية ، والحال أنّ الأولى واردة للإنكار على ذلك الكلام ، وهو منقول عنهم ، والثانية من الله تعالى من غير إنكار ، فليتأمّل المتأمّل ليظهر عليه الحقّ.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٥٠.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١٤٨.

(٣) سورة الأنعام ٦ : ١٠٧.

١٧٩

وأقول :

صريح الآيات إرجاع الإيمان والكفر ونحوهما إلى مشيئة العبد ، ولا معنى للإرجاع إليها بدون تأثيرها.

ثمّ إنّ إيجاب المشيئة للكسب ـ كما زعم ـ إن كان بمعنى تأثيرها فيه ، فهو خلاف مذهبهم ، وإلّا فلا يصحّ الإرجاع إليها.

وأمّا ما ذكره من أنّ هذا الإنكار بواسطة إحالة الذنب إلى مشيئة الله تعالى إلى آخره

ففيه : إنّ صريح الآية إحالتهم أصل الشرك إلى مشيئة الله تعالى ، ولا يفهم من الآية أنّهم يعدّون الشرك ذنبا ، فضلا عن إحالتهم جهة الذنب إلى مشيئة الله تعالى.

وأمّا ما زعمه من أنّه لولا الجمع الذي ذكره لم يكن فرق بين الأولى والثانية

ففيه : إنّ الفرق واضح ؛ لأنّ الأولى في مقام الإنكار على من نفى المشيئة المؤثّرة فعلا عن نفسه وأضافها إلى الله تعالى ، والثانية في مقام فرض مشيئته تعالى ، وأنّه لو فرض تعلّقها بعدم الشرك لما أشركوا.

* * *

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

اللازم ممتنع الانفكاك عن الملزوم، وحكم المنجّم بما سيقع، والطبيب الحاذق حيث يقول: الشيء الفلاني ينذر بكذا وكذا من هذا الباب(١) .

الدليل الثاني: بسيط الحقيقة كلّ الأشياء

ربّما يستدل على علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد بالقاعدة الشريفة التي تفطّن إليها الفيلسوف الكبير صدر الدين الشيرازي وهي: « بسيط الحقيقة كلّ الأشياء على النحو الأتم الأكمل الأبسط » وهذه القاعدة تثبت علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد في مرتبة الذات بالتوضيح التالي :

إذا لاحظنا الوجودات الخاصة كالسماء والأرض ونحوهما نرى ثمّة وجوداً كوجود السماء ـ مثلاً ـ ولهذا الوجود حداً، وينتزع من حدّه ماهيّة، وهي ماهيّة السماء، فيلاحظ حينئذ أشياء ثلاثة: ذات الوجود، وحدّه، والماهية المنتزعة من حد، فينحلّ الملحوظ إلى ثلاثة :

١ ـ حقيقة الوجود.

٢ ـ حد ذلك الوجود، والمراد من الحد: فقدان تلك المرتبة من حقيقة الوجود الثابت لمرتبة اُخرى.

٣ ـ الماهيّة المنتزعة من ذلك الحد التي تكون قالباً للوجود الخاص به.

فيكون الموجود ـ بعد الانحلال ـ مركباً من أشياء ثلاثة لا يكون المتحقّق منها إلّا نفس الوجود.

وأمّا الحدّ فهو راجع إلى الفقدان، كما أنّ الماهيّة أمر عدمي أيضاً ولكنّه صار موجوداً بالوجود، ولولاه لما كان لها وجود.

فكلّ موجود كان مركّباً من هذه الاُمور الثلاثة أي من ( وجود وعدم وعدمي )

__________________

(١) المنظومة قسم الفلسفة: ص ١٦٤.

٣٢١

فهو مركّب بأسوء أنواع التركيب الذي لا ينفك عنها الامكان.

إذا عرفت هذا، فالله سبحانه بما أنّه لا كثرة في ذاته أبداً، يجب أن يجمع في مقام ذاته كلّ وجود، بحيث لا يشذّ عن وجوده وجود، إذ لو صدق أنّه شيء، وذلك الوجود شيء آخر مسلوب عنه سبحانه لصار محدوداً، والمحدود يلازم الإمكان، وكلّ محدود مركّب، وكلّ مركّب ممكن، فينتج أنّه لا شيء من الواجب ممكناً.

فعلى ذلك فوجوده سبحانه يجب أن يكون مع صرافته وبساطته جامعاً لكلّ وجود يتصوّر، بحيث لا يمكن سلب وجود عن مرتبة ذاته، وإلّا يلزم تركيبه من: أمر وجودي ( وهو ذاته )، وأمر عدمي ( وهو سلب ذلك الوجود عن ساحة ذاته )، وكان استجماعه لكلّ شيء لا بنحو الكثرة والتعدّد حتى يلزم التركيب بصورة أسوء وأبشع، بل ذلك الاستجماع يكون بنحو أتم وأعلى، أي بشكل جمعي رتقي بحيث يكون في وحدته كلّ الوجودات، ولا يكون اشتماله على هذه الكثرات والوجودات موجباً لإنثلام وحدته وانتقاض بساطته.

فوجوده سبحانه مشتمل وجامع لكلّ وجود، لكن كلّ وجود ملغى عنه حده، الذي تنتزع عنه ماهيّته وإن كان كماله موجوداً فيه.

وإن شئت توضيح هذا المطلب أكثر من ذلك فلاحظ حال الملكات بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنها.

فإنّ الملكة حالة بسيطة جامعة ـ على نحو الأتم والأبسط ـ فكان كلّ فعل يصدر منها وكلّ ظهور ينشأ منها، فالإنسان الواجد لملكة النحو قادر على الإجابة عن كلّ سؤال يرد عليه، وهذه الأجوبة الكثيرة الصادرة عنه بفضل تلك الملكة، كانت موجودة في نفس الملكة، لكن لا بتفاصيلها وخصوصيّاتها وحدودها وقيودها، بل بكمالها ووجودها الأتم والأبسط، إذ لولاها لكان معطي الكمال فاقداً له.

فكما أنّ الملكة ـ مع بساطتها ـ واجدة لكمال كلّ الأجوبة، وكمال وجودها

٣٢٢

لكن لا على نحو التمايز والخصوصيّات، وإلّا تلزم الكثرة ويلزم التركيب بشرّ صورها في « الملكة ».

فكذلك كلّ علّة واجدة لكمال معلولها ولبّ كمالها على النحو الأتم والأبسط.

إذا عرفت هذا، فاستوضح للوقوف على استجماع ذاته تعالى لكلّ كمال صدر منه ولكلّ وجود ظهر منه، من حديث الملكة.

فإنّ ما سوى الله من أرض وسماء ومن إنسان وحيوان، ومن شجر وحجر، كلّها موجودات تفصيليّة، وتحقّقات امكانيّة، لا يعقل أن تكون موجودة في ذاته سبحانه بهذه الكثرات والتفصيلات، وإلّا يلزم انقلاب البسيط إلى المركّب، وانقلاب الواجب إلى الممكن، وهو أمر لا يصح لأي حكيم أن يتفوّه به.

ومع ذلك كلّه فذاته سبحانه ذات كاملة مشتملة لكلّ كمال موجود في هذه الموجودات، بل جامعة كذلك لجميع الوجودات لكن لا بخصوصيّاتها بل هي ـ بما أنّها وجود أتم وتحقّق أكمل ـ جامعة لتلك الكمالات بأشدّها وأكملها وأحسنها.

فكما أنّ « المائة » بوحدتها مشتملة على التسعين والثمانين مع شيء زائد، لا بمعنى أنّ التسعين والثمانين موجودتان في المائة بنحو التفصيل بل بمعنى أنّ وجود المائة ببساطته تشتمل على كمال كلّ من الرقمين بنحو أتم وأكمل.

فالله سبحانه بحكم البرهان المذكور من أنّه لا يمكن سلب مرتبة من مراتب الوجود عنه، وإلّا لزم التركّب في ذاته، وبفضل برهان آخر هو أنّ معطي الكمال لا يكون فاقداً له، وجوده أكمل الموجودات، وأتمّها، فإذا فرض العلم بذاته وحضور ذاته لديه، كان ذلك عبارة اُخرى عن علمه بالوجودات الامكانيّة لكن لا بوجه التفصيل، بل بنحو البساطة والوحدة.

٣٢٣

وهذا هو ما يقال من: « أنّ وجوده سبحانه كشف إجمالي عن الأشياء بلا طروء تركيب وحدوث امكان ».

وعلى الجملة فالله سبحانه ـ بفضل هذين البرهانين ـ لا يمكن أن يشذّ عنه أيُّ كمال وأيّ وجود وإليك إعادة البرهانين :

١ ـ لو صحّ سلب وجود عنه، أو سلب كمال للزم تركيب ذاته سبحانه من « أمر وجودي وأمر عدمي » وهذا ممّا ينافي بساطته، ويستلزم التركيب في ذاته تعالى، وهو ملازم للامكان الموجب للاحتياج إلى العلّة.

٢ ـ إنّ معطي الكمال لا يمكن أن يكون فاقداً له فالله الصادر منه كلّ الأشياء، لا يصحّ أن يكون فاقداً لكمالات تلك الأشياء.

فعلى ذلك لا يمكن أن يكون وجوده سبحانه مثل سائر المراتب من الوجود بأن يكون وجدان ذاته عين فقدانه لوجود آخر، ومع ذلك كلّه لا يمكن أن تكون تلك الكثرات الامكانية موجودة فيها بحدودها وخصوصيّاتها، وإلّا يلزم تركيب أسوأ من التركيب السابق.

فلا محيص من أن يكون ذلك الوجود البسيط مشتملاً على وجود أقوى، وآكد من الوجودات الخاصّة، المتشتتة، المحدودة، التي من حدودها يحصل التركيب من « الوجدان والفقدان » والعلم بهذا الوجود الآكد الأقوى، نفس العلم بكلّ الكمالات، وكلّ الوجودات التالية الصادرة منه.

فهو بوجوده الجمعي الواحد واقف على ذاته، وواقف على كلّ ما يصدر منه.

وإن شئت فقل: إنّ صرف الوجود يجمع كلّ وجود، ولا يشذّ عنه شيء، ولكن المشتمل عليه هو ذات الوجود من كلّ شيء لا بخصوصيّته الخاصّة الناشئة عن حدّه. فالوجودات الخاصّة بخصوصيّاتها والماهيّات الموجودة بها غير متحقّقة في الأزل، وإذ لم يكن المعلوم بخصوصيّته في الأزل لا يتصور العلم به كذلك، ولكن

٣٢٤

هناك وجوداً أكمل ومعلوماً أتمّ يكون العلم به أتمّ أنواع العلم بهذه الوجودات الصادرة منه.

إن قلت: كيف يصحّ أن يقال إنّ النحو الأدنى من كلّ وجود، معلوم له سبحانه في الأزل حسب الفرض إذ كيف يصير النحو الأعلى من كلّ وجود، والنحو الأظهر من كلّ تحقّق، علماً بالنحو الأدنى، مع أنّ النحو الأدنى من كلّ وجود لا يكون موجوداً في الأزل.

غير أنّ الاجابة عن هذا السؤال، بعد التوجّه إلى ما مثّلنا من حديث « الملكة » واضح فإنّ العلم بتمام الشيء وكماله، علم بمراتبه النازلة مثل كون العلم بالإنسان الذي هو عبارة عن الحيوان الناطق نفس العلم بالمراتب التالية من النبات والجماد.

وحينئذ يكون الوجود بالنحو الأعلى نفس التحقق للوجود الأدنى مع كمال آخر، وجمال زائد.

وعلى ذلك فالمعلوم الامكاني، وان لم يكن في الأزل بخصوصيّاته وتفاصيله لكنّه كمال وجوده وتمام تحقّقه موجود في الأزل بوجوده سبحانه فهو سبحانه ـ ببساطته ـ جميع الكمالات والجمالات، والعلم بالذات لا ينفك عن العلم بتلك الكمالات التي لا تنفك عن العلم بما صدر عنه من الكمالات.

قال صدر المتألّهين :

لـمّا كان وجوده تعالى وجود كلّ الأشياء ـ لما حققنا سابقاً من أنّ البسيط الحقيقي من الوجود يجب أن يكون كلّ الأشياء ـ فمن عقل ذلك الوجود عقل جميع الأشياء، وذلك الوجود هو بعينه عقل لذاته، وعاقل، فواجب الوجود عاقل لذاته بذاته، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه، وعقله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه، فعقله لجميع ما سواه سابق على جميع ما سواه، فثبت أنّ علمه تعالى بجميع الأشياء حاصلة في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه فهذا هو العلم الكمالي التفصيلي بوجه والاجمالي بوجه، وذلك لأنّ المعلومات على كثرتها وتفصيلها

٣٢٥

بحسب المعنى موجودة بوجودة واحد بسيط، ففي هذا المشهد الالهي والمجلي الأزلي ينكشف وينجلي الكلّ من حيث لا كثرة فيها، فهو الكلّ في وحده(١) .

قال العلّامة الطباطبائي: « إنّ ذاته المتعالية حقيقة الوجود الصرف البسيط الواحد بالوحدة الحقّة الذي لا يداخله نقص ولا عدم، فلا كمال وجوديّاً في تفاصيل الخلقة بنظامها الوجودي إلّا وهي واجدة له بنحو أعلى وأشرف، غير متميّز بعضها من بعض لمكان الصرافة والبساطة فما سواه من شيء فهو معلوم له تعالى في مرتبة ذاته المتعاليّة علماً تفصيليّاً في عين الإجمال وإجماليّاً في عين التفصيل(٢) .

إلى هنا تمّ الكلام في علمه بأفعاله أي الأشياء قبل وجودها. بقي البحث عن علمه بها بعد الايجاد. وإليك الكلام فيه.

علمه سبحانه بالأشياء بعد الايجاد

يستدل على علمه بالأشياء بعد ايجادها بوجوه :

الأوّل: قيام الأشياء به يستلزم علمه بها

إنّ الأشياء أعمّ من المجرّدات والماديّات ـ معلولة لله سبحانه على سبيل ترقّب الأسباب والمسبّبات، وكلّ معلول حاضر بوجوده العيني عند علّته غير غائب ولا محجوب عنه، فالأشياء في عين معلوليّتها نفس علمه العقلي بعد الإيجاد(٣) .

وتوضيحاً لهذا الدليل نقول :

إنّ كلّ موجود سواه فهو ممكن في وجوده، معلول في تحقّقه ـ له سبحانه ـ و

__________________

(١) الاسفار: ج ٦، ص ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٢) نهاية الحكمة: ص ٢٨٩.

(٣) نهاية الحكمة: ص ٢٩٠، الطبعة الجديدة.

٣٢٦

ليس معنى المعلوليّة إلّا تعلّقه وجوداً بالعلّة، وقيامه بها قياماً حقيقيّاً، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

فكما أنّ المعنى الحرفي قائم ـ حدوثاً وبقاءً ـ بالمعنى الاسمي، بحيث لو قطع النظر عن المعنى الاسمي لما كان للمعنى الحرفي تحقّق في وعاء الوجود، فهكذا المعلول، فصلته بالعلّة أشدّ من صلة المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

فإذا قلنا « سرت من البصرة » فهناك معنىً اسميا من: السير، والبصرة، وهناك معنىً حرفيّاً وهو ابتداء السير من ذلك البلد.

فحقيقة الابتداء الحرفي ليس شيئاً مستقلاًّ، بل هو أمر مندكّ قائم بالطرفين، وهكذا مثل المعلول الصادر من العلّة، بمعنى مفيض الوجود، فليس للمعلول واقعيّة سوى قيامه بالعلّة، واندكاكه فيها وتعلّقه وتدلّيه بها.

وما هذا هو شأنه لا يخرج عن حيطة وجود العلّة، ومجال ثبوتها، إذ الخروج عن ذلك المجال مساوٍ للانعدام ومساوق للبطلان.

وعلى الجملة: فالمعلول بالنسبة إلى العلّة كالوجود الرابط بالنسبة إلى « الوجود المستقل » فكما أنّ الوجود الرابط لا يستغني عن « الوجود المستقل » آناً واحداً من الآنات، بل يستمد منه وجوده ـ كلّ وقت وحين ـ فهكذا المعلول يستمد وجوده ـ حدوثاً وبقاءً ـ من العلّة، وما هذا شأنه لا يمكن أن يخرج عن حيطة وجود العلّة، ومجال تحقّقه. ومعنى ذلك حضوره لدى العلّة وما نعني من العلم سوى الحضور.

ويتّضح من ذلك القاعدة أنّ الموجودات الامكانية بما أنّها فعله، هي علمه أيضاً فهي بوجوداتها الامكانية علم لله علماً فعلياً.

وإن أردت مزيد توضيح فلاحظ الصور الذهنية، فإنّ الصورة الذهنيّة أفعال للنفس مع أنّها في نفس الوقت علوم فعليّة لها، فالعلم والفعل مجتمعان.

وهذا البرهان هو المنقول عن شيخ الاشراق وقد أوضحه المحقّقون.

٣٢٧

قال العلّامة الحلّي; :

« إنّ كلّ موجود سواه، ممكن، وكلّ ممكن فإنّه مستند إليه، فيكون عالماً به سواء أكان جزئياً أم كلّياً، كان موجوداً قائماً بذاته أو عرضاً قائماً بغيره، وسواء أكان موجوداً في الأعيان أو متعقّلاً في الأذهان، لأنّ وجود الصورة في الذهن من الممكنات أيضاً فسيتند إليه، وسواء كانت الصورة الذهنية صورة أمر وجودي أو عدمي ممكن، أو ممتنع، فلا يعزب عن علمه شيء من الممكنات ولا من الممتنعات.

ثمّ إنّ العلّامة; وصف هذا الدليل بأنّه برهان شريف قاطع(١) .

والحاصل: انّ وزان الممكن بالنسبة إلى الواجب وزان المعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي، ووزان الوجود الرابط بالنسبة إلى الوجود التام المستقل، فليس للمعلول واقعيّة سوى القيام والارتباط والتدلّي بالعلّة.

فما سوى الله ـ ماديّاً ومجرّداً، جوهراً وعرضاً ـ مخلوق له، فهو في عين الوجود قائم به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ومرتبط به، وما هذا هو حاله لا يمكن أن يكون غائباً عن الله مستوراً عليه، لأنّه وجوده قائم بوجود العلّة، كما يكون المعنى الحرفي قائماً بالمعنى الاسمي.

وإن شئت قلت: إنّ وزان الممكن بالنسبة إلى الواجب وزان الفقير المطلق بالنسبة إلى الغني، فالعالم بحكم فقره المطلق محتاج إليه في وجوده وتحقّقه، في حدوثه وبقائه، وما هذا شأنه لا يمكن غيابه، لأنّ غيابه عن العلّة مساوق للإنعدام.

الثاني: سعة وجوده دليل على علمه بالاشياء

لقد أثبتت البراهين القاطعة على أنّ وجوده سبحانه مجرّد عن المادة والمدّة ،

__________________

(١) كشف المراد: ص ١٧٥.

٣٢٨

مجرّد عن الزمان والمكان، فوجوده فوق كلّ قيد زماني أو مكاني، وكلّ من كان كذلك فوجوده غير محدود وغير متناه لأنّ المحدوديّة والتقييد فرع كون الشيء سجيناً في الزمان والمكان، فهذا هو الذي لا يتجاوز إطار محيطه، وزمانه، وأمّا الموجود المجرَّد عن ذينك القيدين، المتجرّد من إطار الزمان والمكان بل الخالق لهما، وللمادّة، فهو فوق الزمان والمكان، والمادّة، والمدّة، لا يحدّه شيء من ذلك العوارض ولا يحصر حاضر منها، ولهذا لا يمنعه المكان من الإحاطة والسيطرة على ما قبله، وما بعده.

ولتوضيح هذه الحقيقة نأتي بالأمثلة التالية :

١ ـ إنّ النملة الصغيرة الماشية على سجّادة منسوجة بألوان مختلفة لا يمكنها بحكم صغر جسمها ومحدوديّة حواسّها أن تشاهد إلّا اللّون الذي تسير عليه دون بقية الألوان.

أمّا الإنسان الواقف على طاولة، المشرف على تلك السجّادة فإنّه يرى جميع ألوانها ويحيط بكلّ نقوشها دون إستثناء، لأنّه لا ينظر إليها من زاوية دون زاوية كما هي في تلك النملة.

٢ ـ إنّ الإنسان الجالس في غرفة، الناظر إلى خارجها من كوة صغيرة، لا يمكنه مشاهدة إلّا ناقة واحدة من قافلة النوق والابل التي تمرّ أمام الغرفه بعكس من يقف على سطح تلك الغرفة المشرف على الطريق من شاهق، فإنّه يرى كلّ ما في تلك القافلة من الإبل والنوق جملة واحدة، ومن دون أن يمنعه عن ذلك قيد المكان.

٣ ـ إنّ الإنسان الجالس على حافة نهر جار لا يرى إلّا بعض الأمواج المائيّة التي تمرّ أمام عينيه دون بقيّة الأمواج الكائنة في منبع النهر أو مصبّه بخلاف من يراقب ذلك النهر من طائرة هليكوبتر أو من فوق مكان شاهق، فإنّه يرى جميع التعرّجات والتموّجات في ذلك النهر جملة واحدة وفي وقت واحد.

٣٢٩

وإنّما يرى هؤلاء الأشياء جميعها بخلاف غيره لأنّه لا ينظر إليها من خلال المكان المحدود.

هذه الأمثلة وإن كانت أقلّ بكثير عمّا يناسب ساحته سبحانه غير أنّها تكفي لإلقاء بعض الضوء على الحقيقة، وتقريب سعة علمه إلى الذهن.

وعلى الجملة فالله المجرّد عن الزمان والمكان، المجرّد عن كلّ حدّ وقيد، بما أنّه لا يحيط به شيء، بل هو المحيط بالأشياء جميعاً، لا يصحّ في مجال علمه تقديم وتأخير، وماض وحاضر، أو حاضر ومستقبل، بل العالم بأجمعه حاضر لديه وهو يحيط بجميع ما خلق دونما استثناء.

وقد عرفت أنّه لا معنى لحقيقة العلم إلّا حضور المعلوم لدى العالم، فبما أنّ وجوده سبحانه وجود غير متناه، لا يحدّه حدّ ولا يقيّده قيد، فهو في كلّ الأزمنة والأمكنة، وحاضر مع كلّ الأشياء والموجودات، والّا يلزم أن يكون وجوده محدوداً متناهياً، وعند ذلك يتحقّق علمه بكلّ حاضر لديه، وبكلّ ماثل فلا يغيب عن وجوده شيء ولا ذرّة.

وقد أشار الإمام علي7 إلى هذه الحقيقة إذ قال :

« إنّ الله عزّ وجلّ أيّنَ الأين فلا أين له، وجلّ أن يحويه مكان، وهو في كلّ مكان، بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره »(١) .

الثالث: إتقان المصنوع دليل علمه

إنّ الكون ـ من حيث سعته، واشتماله على أسرار ورموز ـ أشبه ما يكون بمحيط لا تعرف سواحله التي قد غمرته الظلمة، وغابت شواطيه في جنح المجهول ،

__________________

(١) الارشاد للمفيد: ص ١٠٨، قضايا أمير المؤمنين7 .

٣٣٠

ولم يوفّق الإنسان إلّا إلى كشف بعض سطوحه بما سلّطه من أضواء كاشفة له، فيما لا تزال أعماقه غير مكشوفة له بل لا يزال القسم الأعظم من سطوحه مجهولة.

إنّ عالم الخلقة أشبه ما يكون بهذا المحيط فإنّ الإنسان رغم ما قام به من جهود جبّارة للتعرّف على حقائقه، ورموزه، لم يقف إلّا على قدر قليل من أسراره بينما لا تزال أكثرها غير معلومة له.

يقول أحد الاختصاصيين في الطبيعة الحيوية والأبحاث النووية :

« لقدكنت عند بدء دراستي للعلوم شديد الاعجاب بالتفكير الإنساني، وبقوّة الأساليب العلميّة إلى درجة جعلتني اَثِقُ كلّ الثقة بقدرة العلوم على حلّ أية مشكلة في هذا الكون بل على معرفة منشأ الحياة، والعقل وادراك معنى كلّ شيء، وعندما تزايد علمي ومعرفتي بالأشياء من الذرة إلى الأجرام السماوية، ومن الميكروب الدقيق إلى الإنسان، تبيّن لي أنّ هناك كثيراً من الأشياء التي لم تستطع العلوم حتّى اليوم اَنْ تجدَ لها تفسيراً أو تكشف عن أسرارها النقاب، وتستطيع العلوم أن تمضي في طريقها ملايين السنين ومع ذلك فسوف تبقى كثير من المشكلات حول تفاصيل الذرّة والكون والعقل كما هي لا يصل الإنسان إلى حلّ لها أو الاحاطة بأسرارها »(١) .

وقال أنيشتاين ـ عند ما كان واقفاً على درج مكتبته ـ: « إنّ نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى السماء »(٢) .

ويقصد بذلك: انّه لم يتسلّق من درجات العلم والمعرفة سوى درجات معدودة جداً، وإنّ المسافة بين معلوماته إلى مجهولاته كالمسافة بين الأرض والسماء.

حقاً إنّ الإنسان عند ما يقيس حجمه بأحجام الأجسام والأجرام السماوية، و

__________________

(١) الله يتجلى في عصر العلم: ص ٣٥ ـ ٣٦، بول كلارنس ابرسولد.

(٢) رسالة الاسلام، السنة الرابع العدد الاول ٢٤.

٣٣١

ما بينها من فواصل وأبعاد، يدرك مدى صغر حجمه وضآلة معلوماته وضحالة معارفه.

إنّ أضخم مكتبة توصلّت البشرية إلى تأسيسها في الوقت الحاضر هي الآن في أمريكان حيث تضم عشرة ملايين كتاباً، وما يقوم في « لينينغراد »، وما يوجد في متاحف بريطانيا ومع ذلك فإنّ كلّ هذه الكتب لا تتجاوز معلومات البشر حول الأرض وقليل جداً من الفضاء الخارجي.

إنّ ملاحظة كلّ جهاز بسيط أو معقد ـ كقلم أو كومپيوتر ـ يدلّنا على أنّ صانعه عالم بما يسود ذلك الجهاز من القوانين والعلاقات، كما تدل دائرة معارف ضخمة على علم مؤلّفها وجامعها بما فيها.

إنّ المصنوع بما فيه من اتقان ودقّة، وتركيب عجيب ونظام بديع، ومقادير معيّنة يحكي عن أنّ صانعه مطّلع على هذه القوانين والرموز، عارف بما يتطلبه ذلك المصنون من مقادير وأنظمة.

ومن هنا يشهد الكون ابتداءً من الذرّة الدقيقة إلى المجرّة الهائلة، ومن الخليّة الصغيرة إلى أكبر نجم، بما يسوده من أنظمة وقوانين، وتخطيط بالغ الدقّة، وتركيب بالغ الاتقان، على أنّ خالق الكون عالم بكلّ ما تنطوي عليه هذه الأشياء وما يسودها من أسرار وقوانين، وانّ من المستحيل الممتنع أن يكون جاهلاً.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله :

( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / ١٤ ).

وقال تعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) ( سورة ق / ١٦ ).

ومن وقف على علم التشريح ظهر له ذلك ظهوراً تامّاً.

__________________

(١) الملك: ١٤.

(٢) ق: ١٦.

٣٣٢

كلام للمحقق الطوسي

ثمّ إنّ المحقّق الطوسي استدلّ على علمه سبحانه بوجوه ثلاثة نذكر منها اثنين :

١ ـ الإحكام.

٢ ـ استناد كلّ شيء إليه.

حيث قال: والإحكام واستناد كل شيء إليه من دلائل العلم.

وقال العلّامة في شرح الدليل الأوّل: إنّه تعالى فعل الأفعال المحكمة، كلّ من هو كذلك فهو عالم.

أمّا المقدّمة الأُولى فحسّية، لأنّ العالم إمّا فلكي أو عنصري، وآثار الحكمة والإتقان فيهما ظاهر مشاهد.

وأمّا الثانية فضروريّة لأنّ الضرورة قاضية بأنّ غير العالم يستحيل منه وقوع الفعل المحكم المتقن مرّة بعد اُخرى.

وقال في شرح الدليل الثاني: إنّ كلّ موجود سواه ممكن، وكلّ ممكن فإنّه مستند إلى الواجب إمّا ابتداءً أو بوسائط، وقد سلف أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، والله تعالى عالم بذاته، فهو عالم بغيره(١) .

جمل درّية لأئمة أهل البيت:

إنّ لأئمّة أهل البيت جملاً وكلماً درّية حول علمه سبحانه نقتبس منها ما يلي :

__________________

(١) كشف المراد: ص ١٧٤ ـ ١٧٥ ـ طبعة صيدا ١٣٥٣ ه‍.ق، ولاحظ: كشف الفوائد له أيضاً: ص ٤٣، طبعة طهران ١٣١١ ه‍.ق.

٣٣٣

١ ـ قال الإمام علي7 :

« علم ما يمضى وما مضى. مبتدع الخلائق بعلمه ومنشئها بحكمته(١) .

٢ ـ سأل منصور بن حازم الصادق7 : أرأيت ما كان وما هوكائن إلى يوم القيامة، أليس فيعلم الله ؟ فقال: بلى قبل أن يخلق السماوات والأرض(٢) .

٣ ـ سأل الحسين بن بشار أبا الحسن علي بن موسى الرضا7 : أيعلم الله الشيء الّذي لم يكن، أن لو كان كيف يكون ؟ ولا يعلم إلّا ما يكون ؟

فقال: إنّ الله تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء. قال الله عزّ وجلّ:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣) .

وقال لأهل النار:( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (٤) .

فقد علم الله عزّ وجلّ أنّه لو ردّهم لعادوا لما نهوا عنه.

وقال للملائكة لـمّا قالوا:( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) . قال:( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (٥) . فلم يزل الله عزّ وجلّ علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها فتبارك ربّنا تعالى علوّاً كبيراً. خلق الأشياء وعلمه بها سابق لها كما شاء كذلك لم يزل ربّنا عليماً سميعاً بصيراً(٦) .

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١٩١.

(٢) التوحيد للصدوق: ص ١٣٥ باب العلم الحديث ٥.

(٣) الجاثية: ٢٩.

(٤) الأنعام: ٢٨.

(٥) البقرة: ٣٠.

(٦) التوحيد: ص ١٣٦ الحديث ٨.

٣٣٤

مراتب علمه سبحانه

قد تبيّن ممّا ذكرنا انّ علمه سبحانه بالأشياء ذا مراتب هي :

الأُولى: علمه سبحانه بالأشياء بنفس علمه بالذات، وما عرفت من أنّ العلم بالذات علم بالحيثيّة الّتي تصدر بها المعاليل منه سبحانه، والعلم بنفس الحيثيّة علم بنفس الأشياء.

وقد عرفت انّ هناك بياناً آخر لعلم الله سبحانه بالأشياء في مرتبة الذات قبل الإيجاد والخلق، ويرجع أصلها إلى القاعدة الفلسفيّة: « بسيط الحقيقة كل الأشياء » والّذي معناه أنّه جامع كل كمال وجمال ولا يشذّ عن حيطته شيء.

الثانية: إنّ الأشياء بنفسها فعله وعلمه وانّه لا مانع من أن يكون فعل الفاعل نفس علمه، كما أنّ الصور المرتسمة في الذهن فعل الذهن وعلمه، وانّ القائم بوجوده الخارجي مرتبة من مراتب فعله.

هذا كلّه حسب البراهين الفلسفيّة الكلامية غير أنّ الذكر الحكيم دلّ على أنّ لعلمه سبحانه مظاهر خاصّة، عبّر عنه :

تارة باللوح المحفوظ.

وثانية بالكتاب المسطور.

وثالثة بالكتاب المبين.

ورابعة بالكتاب المكنون.

وخامسة بالكتاب الحفيظ.

وسادسة بالكتاب المؤجّل.

وسابعة بالكتاب المطلق.

وثامنة بالإمام المبين.

٣٣٥

وتاسعة باُمّ الكتاب.

وعاشرة بلوح المحو والأسباب

وعن اللوح المحفوظ قال سبحانه :

( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ( البروج / ٢١ و ٢٢ ).

وعن الكتاب المسطور قال سبحانه :

( وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ *فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ) ( الطور / ٢ و ٣ ).

وقال سبحانه :

( إلّاأَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) ( الأحزاب / ٦ ).

وقال عزّ اسمه:( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ *وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ *وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ) ( القمر / ٥١ ـ ٥٣ ).

وعن الكتاب المبين قال سبحانه :

( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام / ٥٩ ).

وقال سبحانه :

( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ إلّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( يونس / ٦١ ).

وقال سبحانه :

( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( النمل / ٧٥ ).

وعن الكتاب المكنون قال سبحانه :

( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) ( الواقعة / ٧٧ و ٧٨ ).

٣٣٦

وعن الكتاب الحفيظ قال سبحانه :

( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) ( ق / ٤ ).

وعن الكتاب المؤجّل قال سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ) ( آل عمران / ١٤٥ ).

وعن الكتاب المطلق قال سبحانه :

( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) ( الاسراء / ٤ ).

وقال سبحانه :

( لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( الأنفال / ٦٨ ).

وقال سبحانه :

( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ) ( الحج / ٧٠ ).

وقال سبحانه :

( قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) ( طه / ٥٢ ).

وقال سبحانه :

( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلّا فِي كِتَابٍ ) ( الحديد / ٢٢ ).

وعن الإمام المبين قال تعالى :

( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) ( يس / ١٢ ).

٣٣٧

وعن لوح « اُمّ الكتاب » قال تعالى :

( يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ( الرعد / ٣٩ ).

( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الزخرف / ٤ ).

وعن لوح المحو والاثبات، يقول سبحانه:( يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ( الرعد / ٣٩ ).

ثم إنّ المفسّرين ومثلهم الحكماء اختلفوا في حقيقة هذه الكتب وخصوصيّاتها، فذهب الحكماء إلى أنّها موجودات مجرّدة كالعقول والنفوس المستتر فيها كل صغيرة وكبيرة.

وذهب آخرون إلى أنّها ألواح ماديّة سطّرت فيها الأشياء بكيفيّاتها وأسبابها الموجبة لها وأوقاتها المضروبة لها.

وقد استشكل عليه بأنّ ذلك يقتضي عدم تناهي الأبعاد، وقد قامت البراهين العقليّة والنقليّة على خلاف ذلك، فلابدّ من تخصيص ذلك بموجودات بعض النشآت.

فأجاب آخرون إلى أنّ الأشياء سطرّت فيها على نحو الرمز لا بالتفصيل.

غير أنّ كل هذه المذاهب والأقوال ممّا لا يصحّ الركون إليه فالمسألة من المعارف العليا التي يجب الايمان بها ولا يمكن التعرّف عليها.

القضاء من مراتب علمه

ثم إنّه ربّما يعد من مراتب علمه سبحانه « القضاء ».

والقضاء عندهم عبارة عن الوجود الإجمالي لجميع الأشياء، كما أنّ القدر عبارة عن الوجود التفصيلي لها.

٣٣٨

فبما أنّ الصادر الأوّل حاوٍ لكلّ كمال موجود في الكائنات والموجودات التالية، هو قضاء الله سبحانه عندهم ومن مراتب علمه تعالى، فالعلم به، بجميع ما دونه من المراتب، كما أنّ القدر عبارة عن الوجود التفصيلي للأشياء سواء كانت بصورها العلميّة القائمة الموجودات المجرّدة، أم بوجودها الخارجي الشخصي.

فهذه مراتب علمه سبحانه، غير أنّ الغور والتعمّق في بيان حقائقها من الاُمور العويصة التي لا يتمكن الإنسان من الوقوف عليها والتطلّع إليها من خلال هذه العلم.

نعم، القضاء والقدر من المعارف العليا التي نطق بها القرآن الكريم، وسنبحث عنها لدى الحديث عن عدله سبحانه سواء أصحّ تفسيرهما بالوجود الاجمالي للأشياء، أو بالوجود التفصيلي لها أم لا.

وأخيراً نقول: إنّ هذه التعابير العشرة الواردة في القرآن الكريم، يمكن ارجاع بعضها إلى البعض الآخر، كما يمكن عدّ كل منها مرتبة مستقلة من مراتب علمه، ويظهر ذلك بالغور في الآيات الواردة في هذا المجال.

شمول علمه تعالى للجزئيات

إنّ للباحثين في علمه سبحانه بالأشياء مذاهب شتّى حتّى إنّ بعضهم أنكره من أصله.

كما أنّ للمثبتين آراء مختلفة أنهاها المحقق السبزواري إلى أحد عشر رأياً نشير إلى بعضها هنا :

الأوّل: إنّ له تعالى علماً بذاته دون معلولاتها لأنّ الذات المتعالية أزليّة، وكل معلول حادث، فلا يمكن أن يكون الحادث معلوماً في الأزل.

وقد عرفت بطلان هذا الرأي من وجوه مختلفة، منها :

٣٣٩

١ ـ إنّ العلم بالذات من الجهة الّتي تنشأ عنها المعلولات علم بنفس المعلول، وقد أوضحنا هذا البرهان في ما سبق.

٢ ـ إنّ بسيط الحقيقة كل الأشياء وإنّ العلم بالذات علم إجمالي بنفس المعاليل قبل الايجاد، وقد أوضحنا هذا الدليل أيضاً.

الثاني: ما ينسب إلى شيخ الاشراق وتبعه فيه جمع من المحقّقين بعده، هو أنّ الأشياء أعمّ من المجرّدات، والماديّات حاضرة بوجودها العيني لديه سبحانه وغير غائبة عنه تعالى ولا محجوبة، وهو علمه التفصيلي بالأشياء بعد الإيجاد.

وقد عرفت إتقان هذا القول، غير أنّ علمه سبحانه بالأشياء لا يختصّ بهذا القسم إذ هو علم بالأشياء بعد الايجاد بالعلم الحضوري.

الثالث: إنّ ذاته المتعالية علم تفصيلي بالمعلول الأوّل، واجمالي بما دونه، وذات المعلول الأوّل علم تفصيلي بالمعلول الثاني، وإجمالي بما دونه وعلى هذا القياس.

وقد عرفت أنّ خلو الذات الإلهية المقدّسة عن كمال العلم بما دون المعلول الأوّل غير تامّ، كيف وهو وجود صرف لا يسلب عنه كمال.

الرابع: ما ينسب إلى المشائيين من أنّ له علماً حضورياً بذاته المتعالية، وعلماً تفصيلياً حصولياً بالأشياء قبل إيجادها، بحضور ماهيّاتها ( الصورة المرتسمة ) على النظام الموجود في الخارج لذاته تعالى، وهذه الماهيّات قائمة به سبحانه نحو قيامها بأذهاننا فهوعلم عنائي له.

وفيه أنّ لازم ذلك خلو الذات عن العلم بالأشياء في مرتبة الذات. وقد عرفت ثبوته بالبرهانين المتقدّمين.

الخامس: إنّ علمه سبحانه بالمعلول الأوّل حضوري لحضور هويته الخارجية

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420