دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق14%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214353 / تحميل: 4818
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٦-x
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

السادس : الآيات التي فيها أمر العباد بالأفعال والمسارعة إليها قبل فواتها.

كقوله تعالى :( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٢)

( أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ ) (٣)

( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) (٤)

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ) (٥)

( فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ) (٦)

( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ) (٧)

( وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ) (٨) .

وكيف يصحّ الأمر بالطاعة والمسارعة إليها مع كون المأمور ممنوعا عاجزا عن الإتيان؟!

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٩.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٣٣.

(٣) سورة الأحقاف ٤٦ : ٣١.

(٤) سورة الأنفال ٨ : ٢٤.

(٥) سورة الحجّ ٢٢ : ٧٧.

(٦) سورة النساء ٤ : ١٧٠.

(٧) سورة الزمر ٣٩ : ٥٥.

(٨) سورة الزمر ٣٩ : ٥٤.

١٨١

وكما يستحيل أن يقال للمقعد الزمن : قم ، ولمن يرمى من شاهق جبل : احفظ نفسك(١) فكذا ها هنا.

* * *

__________________

(١) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٥.

١٨٢

وقال الفضل(١) :

أمر العباد بالمسارعة في الخيرات من باب التكليف ، وقد سبق فائدة التكليف(٢) وأنّه ربّما يصير داعيا إلى إقبال العبد إلى الله تعالى.

وخلق الثواب والعقاب عقيب التكليف والبعثة وعمل العباد ، كخلق الإحراق عقيب النار.

فكما لا يحسن أن يقال : لم خلق الله الإحراق عقيب النار؟

كذلك لا يحسن أن يقال : لم خلق الثواب والعقاب عقيب الطاعة والمعصية؟ فإنّه تعالى مالك على الإطلاق ، ويحكم ما يريد.

وأمّا قوله : كيف يصحّ الأمر بالطاعة والمأمور عاجز؟!

فالجواب : ما سبق أنّه ليس بعاجز عن الكسب والمباشرة ؛ والكلام في الخلق والتأثير لا في الكسب والمباشرة(٣) !

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٥٣.

(٢) تقدّم في الصفحة ١٣٦.

(٣) انظر الصفحة ١٥٥.

١٨٣

وأقول :

قد عرفت أنّ هذا كلّه من الهذيان أو التمويه(١) ، فلا يحسن بنا إضاعة القرطاس لأجله مرّة أخرى!

* * *

__________________

(١) راجع الصفحتين ١٤٨ و ١٦٩.

١٨٤

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

السابع : الآيات التي حثّ الله تعالى فيها على الاستعانة به.

قوله تعالى :( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (٢)

( فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) (٣)

( اسْتَعِينُوا بِاللهِ ) (٤) .

فإذا كان الله تعالى خلق الكفر والمعاصي ، كيف يستعان ويستعاذ به؟!

وأيضا : يلزم بطلان الألطاف والدواعي ؛ لأنّه تعالى إذا كان هو الخالق لأفعال العباد ، فأيّ نفع يحصل للعبد من اللطف الذي يفعله الله تعالى؟!

ولكنّ الألطاف حاصلة كقوله تعالى :( أَ وَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ) (٥)

( وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) (٦)

( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ) (٧)

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٠.

(٢) سورة الفاتحة ١ : ٥.

(٣) سورة النحل : ١٦ : ٩٨.

(٤) سورة الأعراف ٧ : ١٢٨ ، ووردت في المصدر بدلا عن هذه آية :( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ) سورة البقرة ٢ : ١٥٣.

(٥) سورة التوبة ٩ : ١٢٦.

(٦) سورة الزخرف ٤٣ : ٣٣.

(٧) سورة الشورى ٤٢ : ٢٧.

١٨٥

( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ) (١)

( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (٢) (٣) .

* * *

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٥٩.

(٢) سورة العنكبوت ٢٩ : ٤٥.

(٣) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٥.

١٨٦

وقال الفضل(١) :

خلق الكفر والمعاصي لا يوجب أن لا يستعان من الخالق ولا يستعاذ به ، فإنّ الاستعانة والاستعاذة لأجل أن لا يخلق ما يوجب الاستعانة والاستعاذة ، ولو كان الأمر كما ذكروا لانسدّ باب الدعاء والطلب من الله تعالى ؛ لأنّه خالق الأشياء.

وهذا من الترّهات التي لا يتفوّه بها عاقل فضلا عن فاضل.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٥٤.

١٨٧

وأقول :

الاستعانة : طلب إعانة المعين على فعل المستعين ، فإذا كان الفعل والأثر لله وحده ، كيف يحصل معنى الاستعانة؟!

كما إنّ الاستعاذة به تعالى من الشيطان إنّما تكون إذا كان الشيطان أثر ، فإذا كان الأثر لله وحده ، كيف يستعاذ به من غير المؤثّر؟!

هذا هو مراد المصنّف لا ما فهمه الخصم!

ودعوى أنّ الاستعانة والاستعاذة لأجل أن لا يخلق موجبهما دعوى شبيهة بالكسب في عدم ظهور معناها ، مع إنّها لا تنافي وجه الاستدلال الذي ذكرناه!

فنحن ندعوه سبحانه بأن يعيننا على فعل الخير ، ويعيذنا من فعل الشيطان وشرّه ، وباب دعائه تعالى مفتوح للسائلين.

وقد تغافل الخصم عمّا ذكره المصنّف من لزوم بطلان الألطاف والدواعي ؛ لعجزه عن الجواب! ولعلّه عن غفلة ؛ لأنّ من كانت بضاعته دعوى الكسب ونحوه لا يعجز عن الجواب.

* * *

١٨٨

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ(١) :

الثامن : الآيات الدالّة على اعتراف الأنبياء بذنوبهم وإضافتها إلى أنفسهم.

كقوله تعالى حكاية عن آدمعليه‌السلام :( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ) (٢)

وعن يونسعليه‌السلام :( سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٣)

وعن موسىعليه‌السلام :( إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) (٤)

وقال يعقوب لأولاده :( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) (٥)

وقال يوسفعليه‌السلام :( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) (٦)

وقال نوحعليه‌السلام :( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) (٧) .

فهذه الآيات تدلّ على اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لأفعالهم(٨) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٠.

(٢) سورة الأعراف ٧ : ٢٣.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ : ٨٧.

(٤) سورة النمل ٢٧ : ٤٤ ، سورة القصص ٢٨ : ١٦.

(٥) سورة يوسف ١٢ : ١٨.

(٦) سورة يوسف ١٢ : ١٠٠.

(٧) سورة هود ١١ : ٤٧.

(٨) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٦.

١٨٩

وقال الفضل(١) :

اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لا يدلّ على اعتقادهم بكونهم خالقين ، والمدّعى هو هذا ، وفيه التنازع ، فإنّ كلّ إنسان يعلم أنّه فاعل للفعل ، ولكن الكلام في الخلق والإيجاد ، فليس فيه دلالة لمدّعاه!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٥٦.

١٩٠

وأقول :

سبق أنّ إسناد الفعل الاختياري إلى فاعله صريح الدلالة على إيجاده إيّاه ، وأنّ الكسب بالمعنى الذي فسّره به ، إنّما هو عبارة عن نسبة محلّيّة لا فاعليّة(١) ، فتكون الآيات دليلا واضحا على المطلوب.

وقوله : إنّ « الكلام في الخلق والإيجاد »

مسلّم ؛ والآيات دالّة عليه ، فإنّ الخلق لغة هو الفعل ، وإن كان ينصرف في الاستعمال إلى فعل الله تعالى خاصّة ، ولذا يتقصّده الخصم ، ليستبشع السامع من دعوى الأنبياء في أنفسهم الخلق ، ولم يعلم أنّ الله تعالى نسبه إلى عيسى فقال :( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ) (٢)

ونسبه إلى غيره فقال :( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (٣)

وقال سبحانه :( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٤) .

* * *

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١٥٦ من هذا الجزء.

(٢) سورة المائدة ٥ : ١١٠.

(٣) سورة العنكبوت ٢٩ : ١٧.

(٤) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

١٩١

قال المصنّف ـ طاب مثواه ـ(١) :

التاسع : الآيات الدالّة على اعتراف الكفّار والعصاة بأنّ كفرهم ومعاصيهم كانت منهم.

كقوله تعالى :( وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ )

ـ إلى قوله تعالى : ـ( أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ) (٢)

وقوله تعالى :( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) (٣)

( كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) ـ إلى قوله تعالى : ـ فَكَذَّبْنا(٤)

وقوله تعالى :( أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ ) (٥) ( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) (٦) (٧) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١١.

(٢) سورة سبأ ٣٤ : ٣١ و ٣٢.

(٣) سورة المدّثّر ٧٤ : ٤٢ و ٤٣.

(٤) سورة الملك ٦٧ : ٨ و ٩.

(٥) سورة الأعراف ٧ : ٣٧.

(٦) سورة الأعراف ٧ : ٣٩.

(٧) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٦.

١٩٢

وقال الفضل(١) :

اعتراف الكفّار يوم القيامة لظهور ما ينكره المعتزلة ، وهو أنّ الكسب من العبد ، والخلق من الله تعالى.

ألا ترى إلى قوله تعالى لهم يوم القيامة :( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) (٢) أي كان هذا الجزاء لكسبكم الأعمال السيّئة.

وكلّ هذا يدلّ على أنّ للعبد كسبا يؤاخذ به يوم القيامة ويجزى به ، ولا يدلّ على ما هو محلّ النزاع ، وهو كونه خالقا لفعله وموجدا إيّاه ، فليس فيها دلالة على المقصود.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٥٧.

(٢) سورة الأعراف ٧ : ٣٩.

١٩٣

وأقول :

التعلّل بالكسب عليل ؛ لأنّه معنى حادث اخترعه الأشاعرة ، فكيف تحمل عليه الآية؟! والحال أنّ معناه اللغوي : العمل.

وهل يفهم عربي أنّ معنى الآية( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما )

أنّكم محلّ لفعل أنا خلقته؟!

وهل يصحّ من العدل أن يذيقهم العذاب لأجل جعله لهم محلّا لفعله؟!

وكذا الآيات الأخر صريحة في المطلوب لما عرفت من أنّ إسناد الفعل الاختياري إلى فاعله صريح في إيجاده إيّاه(١) .

* * *

__________________

(١) انظر الصفحة ١٦٩.

١٩٤

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ(١) :

العاشر : الآيات التي ذكر الله تعالى فيها ما يحصل منهم من التحسّر في الآخرة على الكفر ، وطلب الرجعة.

قال تعالى :( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا ) (٢)

( قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً ) (٣)

( وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ) (٤)

( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (٥) (٦) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٢.

(٢) سورة فاطر ٣٥ : ٣٧.

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ : ٩٩ و ١٠٠.

(٤) سورة السجدة ٣٢ : ١٢.

(٥) سورة الزمر ٣٩ : ٥٨.

(٦) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٦.

١٩٥

وقال الفضل(١) :

التحسّر وطلب الرجعة لاكتساب الأعمال السيّئة والاعتقادات الباطلة التي من جملتها اعتقاد الشركاء لله تعالى ، كما هو مذهب المجوس ومن تابعهم من الملّيّين كالمعتزلة وتابعيهم ، وليس في هذه الآيات دليل على مدّعاهم.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٥٨.

١٩٦

وأقول :

سبق أنّ الكسب كأصل الفعل لا أثر للعبد فيه(١) ، فكيف يتحسّر لوقوعه منه والمؤثّر غيره؟!

وكيف يطلب الرجعة للعمل وهو عود على بدء؟! لأنّ العمل لغيره ولا قدرة له على الدفع!

وما الفائدة بالرجعة والمحسن مثل المسيء عند الأشاعرة في تجويز العذاب؟! ولعلّه يكون الأمر فيها أسوأ!

ونتيجة مقالتهم أنّ الله سبحانه خلق في العبد الكفر والمعصية ، وجعله محلّا لها بإرادته من دون أثر للعبد أصلا ، ويعاقبه عليهما بأشدّ العقاب!

ويخلق فيه التحسّر وطلب الرجعة ولا يجيبه إليها ، ويخلق فيه الاعتراف بالظلم ، وهو خلق الظلم فيه ، ويخيّره في أفعاله ولا خيار له!

ومع ذلك لا جور ولا سفه في فعله ، بل كلّه عدل ورحمة وصواب ، ما هذا إلّا شيء عجاب!!

* * *

__________________

(١) راجع الصفحة ١٦١ ـ ١٦٢ من هذا الجزء.

١٩٧

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

فهذه الآيات وأمثالها من نصوص الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه

فما عذر فضلائهم؟! وهل يمكنهم الجواب عند هذا السؤال : كيف تركتم هذه النصوص ونبذتموها وراءكم ظهريّا؟! إلّا بأنّا طلبنا الحياة الدنيا وآثرناها على الآخرة!

وما عذر عوامّهم في الانقياد إلى فتوى علمائهم واتّباعهم في عقائدهم؟!

وهل يمكنهم الجواب عند السؤال : كيف تركتم هذه الآيات وقد جاءكم بها النذير ، وعمّرناكم ما يتذكّر فيه من تذكّر؟! إلّا بأنّا قلّدنا آباءنا وعلماءنا من غير فحص ولا بحث ولا نظر ، مع كثرة الخلاف وبلوغ الحجّة إلينا!

فهل يقبل عذر هذين القبيلين ، وهل يسمع كلام الفريقين؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٢.

١٩٨

وقال الفضل(١) :

قد عرفت في ما مضى أنّ النصّ ما لا يحتمل خلاف المقصود(٢) ، وقد علمت في كلّ الفصول من استدلالاته بالآيات أنّها دالّة على خلاف مقصوده ، فهي نصوص مخالفة لمدّعاه.

والعجب أنّه يفتخر ويباهي بإتيانها ثمّ يقول : ما عذر علمائهم وعوامّهم؟!

فنقول : أمّا عذر علمائهم فإنّهم يقولون يوم القيامة : إلهنا كنّا نعلم أنّه لا خالق في الوجود سواك ، وأنت خلقت كلّ شيء ، ونحن كسبنا المعصية أو الطاعة ، فإن تعذّبنا فنحن عبادك ، وإن تغفر لنا فبفضلك وكرمك ، ولك التصرّف كيف شئت.

وأمّا عذر عوامّهم فإنّهم يقولون : إلهنا! إنّ نبيّك محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرنا أن نكون ملازمين للسواد الأعظم ، فقال : عليكم بالسواد الأعظم(٣) ؛ ورأينا في أمّته السواد الأعظم كان أهل السنّة ، فدخلنا فيهم واعتقدنا مثل اعتقادهم ، ورأينا المعتزلة ومن تابعهم من الشيعة كاليهود ، يخفون مذهبهم ويسمّونه التقية ، ويهربون من كلّ شاهق إلى شاهق ، ولو نسب إليهم أنّهم معتزليّون أو شيعة يستنكفون عن هذه النسبة ، فعلمنا أنّ الحقّ مع السواد الأعظم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٥٩.

(٢) راجع الصفحة ١٦٧.

(٣) السنّة ـ لابن أبي عاصم ـ ١ / ٣٩ ح ٨٠ ، تفسير القرطبي ١٤ / ٣٩.

١٩٩

وأقول :

قد سبق أنّ النصّ ما لا يحتمل الخلاف بحسب فهم أهل اللسان(١) ، وأنّ الآيات الكريمة كذلك ، ونحن نكل إلى السامع قوله : « دالّة على خلاف مقصودة »(٢) .

وأمّا ما ذكره في عذر علمائهم فهو لا يسمع عند من يعلم الحقائق والصادق من الكاذب ، ويعلم أنّهم ما قالوا ذلك في الدنيا إلّا لإغواء العوامّ المساكين وتلبيس الحقّ المبين! فيقول لهم : كيف تقولون لا خالق في الوجود سواك ، وأنتم تقولون بألسنتكم ما ليس في قلوبكم؟! فإنّا نشاهد أعمالكم تشهد عليكم بخلاف أقوالكم ، إذ تحتالون للدنيا ومقاصدكم بكلّ حيلة ، وتتنازعون عليها بما ترون لكم من كلّ حول وقوّة.

وكيف تقولون ذلك وهذه آيات الكتاب المجيد تتلى عليكم بنسبة الأفعال إلى العباد؟! وقد صرّح بعضها بلفظ الخلق ، قال تعالى :( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (٣) ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (٤)

فما غايتكم بهذا المقال إلّا الإضلال ، ونفي فعل القبيح عن أنفسكم ، وإثباته للمنزّه عن كلّ عيب ونقص!

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١٦٩.

(٢) المتقدّم في الصفحة السابقة.

(٣) سورة المائدة ٥ : ١١٠.

(٤) سورة العنكبوت ٢٩ : ١٧.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ومن هنا فإنّ خطاب الآية الأولى موجه للناس ، فهي تقول :( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) ، خاصّة وأنّه قد وردت لفظة( مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) بدل منكم ، وهي تشير إلى شدة ارتباط النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالناس ، حتى كأنّ قطعة من روح الناس والمجتمع قد ظهرت بشكل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا السبب فإنّه يعلم كل آلامهم ، ومطلع على مشاكلهم ، وشريكهم في غمومهم وهمومهم ، وبالتالي لا يمكن أن يتصور صدور كلام منه إلّا في مصلحتهم ، ولا يخطو خطوة إلّا في سبيلهم ، وهذا في الواقع أوّل وصف للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر في هذه الآية.

ومن العجيب أنّ جماعة من المفسّرين الذين وقعوا تحت تأثير العصبية القومية والعربية قالوا : إنّ المخاطب في هذه الآية هم العرب! أي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جاءكم من هذا الأصل!.

إنّنا نعتقد أن هذا هو أسوأ تفسير ذكر لهذه الآية ، لأنا نعلم أنّ الشيء الذي لم يجر له ذكر في القرآن الكريم هو مسألة الأصل والعرق ، ففي كل مكان تبدأ خطابات القرآن ب( يا أَيُّهَا النَّاسُ ) و( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) وأمثالها ، ولا يوجد في أي مورد «يا أيّها العرب» و «يا قريش» وأمثال ذلك.

إضافة الى أنّ ذيل الآية الذي يقول :( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) ينفي هذا التّفسير بوضوح ، لأنّ الكلام فيه عن كل المؤمنين ، من أي قومية أو عرق كانوا.

وممّا يثير الأسف أنّ بعض العلماء المتعصبين قد حجّموا عالمية القرآن وعموميته لكل البشر ، وحاولوا حصره في حدود القومية والعرق المحدودة.

وعلى كل حال ، فبعد ذكر هذه الصفة( مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) أشارت الآية إلى أربع صفات أخرى من صفات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السامية ، والتي لها الأثر العميق في إثارة عواطف الناس وجلب انتباههم وتحريك أحاسيسهم.

ففي البداية تقول :( عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ) أي أن الأمر لا ينتهي في أنّه لا يفرح لأذاكم ومصاعبكم ، بل إنّه لا يقف موقف المتفرج تجاه هذا الأذى ، فهو يتألم

٢٨١

لألمكم ، وإذا كان يصرّ على هدايتكم ويتحمل الحروب المضنية الرهيبة ، فإنّ ذلك لنجاتكم أيضا ، ولتخليصكم من قبضة الظلم والاستبداد والمعاصي والتعاسة.

ثمّ تضيف أنّه( حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ) ويتحمس لهدايتكم.

«الحرص» في اللغة بمعنى قوة وشدة العلاقة بالشيء ، واللطيف هنا أن الآية أطلقت القول وقالت :( حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ) فلم يرد حديث عن الهداية ، ولا عن أي شيء آخر ، وهي تشير إلى عشقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكل خير وسعادة ورقي لكم. وكما يقال : إن حذف المتعلق دليل على العموم.

وعلى هذا ، فإنّه إذا دعاكم وسار بكم إلى ساحات الجهاد المريرة ، وإذا شدّد النكير على المنافقين ، فإنّ كل ذلك من أجل عشقه لحريتكم وشرفكم وعزتكم.

وهدايتكم وتطهير مجتمعكم.

ثمّ تشير إلى الصفتين الثّالثة والرّابعة وتقول :( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) وعلى هذا فإنّ كل الأوامر الصعبة التي يصدرها ، (حتى المسير عبر الصحاري المحرقة في فصل الصيف المقرون بالجوع والعطش لمواجهة عدو قوي في غزوة تبوك) فإنّ ذلك نوع من محبته ولطفه.

وهناك بحث بين المفسّرين في الفرق بين «الرؤوف» و «الرحيم» ، إلّا أنّ الذي يبدو أن أفضل تفسير لهما هو أنّ الرؤوف إشارة إلى محبّة خاصّة في حقّ المطيعين ، في حين أنّ الرحيم إشارة إلى الرحمة تجاه العاصين ، إلّا أنّه يجب أن لا يغفل عن أن هاتين الكلمتين عند ما تفصلان يمكن أن تستعملا في معنى واحد ، أمّا إذا اجتمعتا فتعطيان معنى مختلفا أحيانا.

وفي الآية التي تليها ، وهي آخر آية في هذه السورة ، وصف للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه شجاع وصلب في طريق الحق ، ولا ييأس بسبب عصيان الناس وتمردهم ، بل يستمر في دعوتهم إلى دين الحق :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) فهو حصنه الوحيد أجل لا حصن لي إلّا الله ، فإليه استندت و( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ

٢٨٢

رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) .

إنّ الذي بيده العرش والعالم العلوي وما وراء الطبيعة بكل عظمتها ، وهي تحت حمايته ورعايته ، كيف يتركني وحيدا ولا يعينني على الأعداء؟ فهل توجد قدرة لها قابلية مقاومة قدرته؟ أم يمكن تصور رحمة وعطف أشد من رحمته وعطفه؟

إلهنا ، الآن وقد أنهينا تفسير هذه السورة ، ونحن نكتب هذه الأسطر ، فإن أعداءنا قد أحاطوا بنا ، وقد ثارت أمتنا الرشيدة لقلع جذور الظلم والفساد والاستبداد ، بوحدة لا نظير لها ، واتحاد بين كل الصفوف والطبقات بدون استثناء حتى الأطفال والرضع ساهموا في هذا الجهاد والمقارعة ، ولم يتوان أي فرد عن القيام بأي نوع من التضحية والفداء.

ربّاه ، إنّك تعلم كل ذلك وتراه ، وأنت منبع الرحمة والحنان ، وقد وعدت المجاهدين بالنصر ، فعجل النصر وأنزله علينا ، وارو هؤلاء العطاشى والعشاق من زلال الإيمان والعدل والحرية ، إنّك على كل شيء قدير.

* * *

٢٨٣
٢٨٤

سورة يونس

مكيّة

وعدد آياتها مائة وتسع آيات

٢٨٥
٢٨٦

«سورة يونسعليه‌السلام »

محتوى وفضيلة هذه السورة

هذه السورة من السور المكية ، وعلى قول بعض المفسّرين فإنّها نزلت بعد سورة الإسراء وقبل سورة هود ، وتوكّد ـ ككثير من السور المكية ـ على عدة مسائل أساسية وأصولية ، وأهمها مسألة المبدأ والمعاد.

غاية ما في الأمر أنّها تتحدث أوّلا عن مسألة الوحي ومقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ تتطرق إلى نماذج وعلامات الخلقة العظيمة التي تدل على عظمة اللهعزوجل ، وبعد ذلك تدعو الناس إلى الالتفات إلى عدم بقاء الحياة المادية في هذه الدنيا ، وحتمية زوالها ، ووجوب التوجه إلى الآخرة والتهيؤ لها عن طريق الإيمان والعمل الصالح.

وقد ذكرت السورة ـ كدلائل وشواهد على هذه المسائل ـ أقساما مختلفة من حياة كبار الأنبياء ، ومن جملتهم نوح وموسى ويونسعليهم‌السلام ولهذا سمّيت بسورة يونس.

وقد ذكرت كذلك ، لتأييد هذه المباحث ، كلاما عن عناد وتصلب عبدة الأوثان ، وترسم وتوضح لهم حضور الله سبحانه في كل مكان وشهادته ، وتستعين لإثبات هذه المسألة بأعماق فطرة هؤلاء التي تتعلق بالواحد الأحد عند ما يقعون في المشاكل والمعضلات ، حيث يتّضح هذا التعلق الفطري بالله سبحانه.

٢٨٧

وأخيرا فإنّها تستغل كل فرصة للبشارة والإنذار ، البشارة بالنعم الإلهية التي لا حدود لها للصالحين ، والإنذار والإرعاب للطاغين والعاصين ، لتكملة البحوث أعلاه.

ولهذا فإنّنا نقرأ في رواية عن الإمام الصّادقعليه‌السلام : «من قرأ سورة يونس في كل شهرين أو ثلاثة مرّة ، لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين ، وكان يوم القيامة من المقربين»(1) ، وذلك لأنّ آيات التحذير والوعيد وآيات التوعية كثيرة في هذه السورة ، وإذا ما قرئت بدقة وتأمل ، فإنّها ستكشف ظلمة الجهل عن روح ابن آدم ، وسيبقى أثرها عدّة أشهر على الأقل ، وإذا ما أدرك الإنسان محتوى السورة وعمل بها ، فإنّه سيكون ـ يقينا ـ يوم القيامة من المقربين.

ربّما لا نحتاج أن نذكّر بأنّ فضائل السور ـ كما قلنا سابقا ـ لا يمكن تحصيله بمجرّد تلاوة الآيات من دون إدراك معناها ، ومن دون العمل بمحتواها ، لأن التلاوة مقدمة للفهم، والفهم مقدمة للعمل!.

* * *

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 290 ، وتفاسير أخرى.

٢٨٨

الآيتان

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ(2) )

التّفسير

رسالة النّبي :

في هذه السورة نواجه ـ مرّة أخرى ـ الحروف المقطعة في القرآن ، والتي ذكرت بصورة (ألف ولام وراء) وقد تحدثنا في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف في تفسير هذه الحروف بالقدر الكافي ، وسنبحثها في المستقبل ـ إن شاء الله تعالى ـ في الموارد المناسبة ، وسنضيف إليها مباحث ومطالب جديدة.

بعد هذه الحروف تشير الآية أوّلا إلى عظمة آيات القرآن وتقول :( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ) .

إنّ التعبير ب (تلك) وهي اسم إشارة للبعيد ، بدل (هذه) التي تشير للقريب،والذي

٢٨٩

جاء نظيره في بداية سورة البقرة ، يعتبر من التعبيرات الجميلة واللطيفة في القرآن ، وهو كناية عن عظمة ورفعة مفاهيم القرآن ، لأنّ المطالب اليسيرة والبسيطة يشار لها غالبا باسم الإشارة القريب ، أمّا المطالب المهمّة العالية المستوى ، والتي تعانق السحاب في علو أفقها ، فإنّها تبيّن باسم الإشارة البعيد.

إنّ توصيف الكتاب السماوي ـ أي القرآن ـ بأنّه (حكيم) هو إشارة إلى أن آيات القرآن محكمة ومنظمة ودقيقة ، بحيث لا يمكن أن يأتيها أو يخالطها أي شكل من أشكال الباطل والخرافة ، فهي لا تقول إلّا الحق ، ولا تدعو إلّا إلى طريق الحق.

أمّا الآية الثّانية فإنّها تبيّن ـ ولمناسبة تلك الإشارة التي مرّت إلى القرآن والوحي الإلهي في الآية السابقة ـ واحدا من إشكالات المشركين على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو نفس الإشكال الذي جاء في القرآن بصورة متكررة. وهذا التكرار يبيّن أن هذا الإشكال من إشكالات المشركين المتكررة ، وهو : لماذا نزل الوحي الإلهي من الله على إنسان مثلهم؟ ولماذا لم تتعهد الملائكة بمسؤولية هذه الرسالة الكبيرة؟ فيجيب القرآن عن هذه الأسئلة فيقول :( أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ) .

الواقع أنّ كلمة «منهم» تضمنت الجواب على سؤالهم ، أي إنّ القائد والمرشد إذا كان من جنس أتباعه ، ويعلم أمراضهم ، ومطلع على احتياجاتهم ، فلا مجال للتعجب ، بل العجب أن يكون القائد من غير جنسهم ، بحيث يعجز عن قيادتهم نتيجة عدم اطلاعه على وضعهم.

ثمّ تشير إلى محتوى الوحي الإلهي. وتلخصه في أمرين :

الأوّل : إنّ الوحي الذي أرسلناه ، مهمته إنذار الناس وتحذيرهم من عواقب الكفر والمعاصي :( أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ) .

والثّاني : هو( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) .

وفي الوقت الذي يوجد بحث بين المفسّرين في المقصود من «قدم الصدق» ، إلّا

٢٩٠

أنّ أحد التفاسير الثلاثة المذكورة هنا ـ أوكل الثلاثة ـ قابل للقبول بصورة علمية.

فالتّفسير الأوّل : إن «قدم الصدق» هذا إشارة إلى أن الإيمان له بـ «سابقة فطرية» ، وإنّ المؤمنين عند ما يظهرون إيمانهم فهم في الحقيقة يصدقون فطرتهم ـ لأنّ أحد معاني القدم هو السابقة ـ كما يقولون : لفلان قدم في الإسلام ، أو قدم في الحرب ، أي إنّ له سبقا في الإسلام أو الحرب.

والثّاني : إنّه إشارة إلى مسألة المعاد ونعيم الآخرة ، لأنّ أحد معاني القدم هو المقام والمنزلة ، وهو يناسب كون الإنسان يرد إلى منزله ومقامه برجله ، وهذا التّفسير يعني أنّ للمؤمنين مقاما ومنزلة ثابتة وحتمية عند الله سبحانه ، وأن أي قوّة لا تستطيع تغييرها وجعلها في شكل آخر.

أمّا التّفسير الثّالث فهو أن القدم بمعنى القدوة والزعيم والقائد ، أي إننا أرسلنا للمؤمنين قائدا ومرشدا صادقا.

لقد وردت عدّة روايات عن طريق الشيعة والسنة لهذه الآية تفسر قدم الصدق بأنّه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ولاية عليعليه‌السلام وتؤيد هذا المعنى(1) .

وكما قلنا فإنّ من الممكن أن تكون البشارة بكل هذه الأمور هي المرادة من التعبير أعلاه.

وتنهي الآية حديثها بذكر اتهام طالما كرّره المشركون واتهموا به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت :( قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ كلمة (إن) و «لام» التأكيد وصفة «المبين» ، كلها دلائل على مدى تأكيد أولئك الكفار على هذه التهمة ، وعبروا ب (هذا) لتصغير مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتقليل من أهميته.

أمّا لماذا اتهموا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسحر؟ فجوابه واضح ، ذلك أنّهم لم يكونوا

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 177 ، وتفسير القرطبي ، ج 5 ، ص 3145.

٢٩١

يمتلكون الجواب المقنع مقابل إعجاز كلامه وشريعته وقوانينه العادلة الرفيعة. فلم يكن لهم سبيل إلّا أن يفسروا هذه الظواهر الخارقة للعادة بأنّها سحر ، وبهذا فقط يمكنهم إبقاء البسطاء تحت سيطرة الجهل وعدم الاطلاع على الواقع.

إنّ أمثال هذه التعبيرات التي كانت تصدر من ناحية الأعداء ضد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دليل بنفسها على أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقوم بأعمال خارقة للعادة ، بحيث تجذب القلوب والأفكار نحوها ، خاصّة وأن التأكيد على السحر في شأن القرآن المجيد هو بنفسه دليل قاطع وقوي على الجاذبية الخارقة الموجودة في هذا الكتاب السماوي ، ولأجل خداع الناس فإنّهم كانوا يجعلونه في إطار السحر.

وسنتحدث عن هذا الموضوع في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

* * *

٢٩٢

الآيتان

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) )

التّفسير

معرفة الله والمعاد :

بعد أن أشار القرآن الكريم إلى مسألة الوحي والنّبوة في بداية هذه السورة ، انتقل في حديثه إلى أصلين أساسيين في تعليمات وتشريعات جميع الأنبياء ، ألا وهما المبدأ والمعاد ، وبيّن هذين الأصلين ضمن عبارات قصيرة في هاتين الآيتين.

فيقول أوّلا :( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) . وكما أشرنا سابقا ، فإنّ كلمة (يوم) في لغة العرب ، وما يعادلها في سائر اللغات ، تستعمل

٢٩٣

في كثير من الموارد بمعنى المرحلة ، كما نقول : في يوم ما كان الاستبداد يحكم بلادنا ، أمّا اليوم فهي في ظل الثورة الاسلامية تنعم الحرية ، ويعني أن مرحلة الاستبداد قد انتهت وجاءت مرحلة استقلال الشعب وحريته(1) .

وعلى هذا فإنّ مفهوم الجملة أعلاه يكون : إنّ الله سبحانه قد خلق السماء والأرض في ستة مراحل ، ولما كنّا قد تحدثنا عن هذه المراحل الستة سابقا ، فإنّنا لا نكرر الكلام هنا(2) .

ثمّ تضيف الآية :( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) . كلمة «العرش» تأتي أحيانا بمعنى السقف ، وأحيانا بمعنى الشيء الذي له سقف ، وتارة بمعنى الأسرّة المرتفعة ، هذا هو المعنى الأصلي لها ، أمّا معناها المجازي فهو القدرة ، كما نقول : فلان تربع على العرش ، أو تحطمت قوائم عرشه ، أو أنزلوه من العرش ، فكلها كناية عن تسلم القدرة أو فقدانها ، في الوقت الذي يمكن أن لا يكون للعرش أو الكرسي وجود في الواقع أصلا ، ولهذا فإنّ( اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) تعني أنّ الله سبحانه قد أمسك بزمام أمور العالم(3) .

«التدبر» من مادة (التدبير) وفي الأصل من (دبر) بمعنى الخلف وعاقبة الشيء ، وعلى هذا فإنّ معنى التدبير هو التحقق من عواقب الأعمال ، وتقييم المنافع ، ثمّ العمل طبق ذلك التقييم. إذن ، وبعد أن تبيّن أنّ الخالق والموجد هو الله سبحانه ، اتّضح أنّ الأصنام ، ـ هذه الموجودات الميتة والعاجزة ـ لا يمكن أن يكون لها أي تأثير في مصير البشر ، ولهذا قالت الآية في الجملة التالية :( ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) (4) .

__________________

(1) من أجل مزيد التوضيح ، وذكر الأمثلة في هذا المجال راجع ذيل الآية (54) من سورة الأعراف.

(2) المصدر السّابق.

(3) لمزيد التوضيح والاطلاع على معاني العرش المختلفة ، راجع تفسير الآية (54) من سورة الأعراف و (255) من سورة البقرة.

(4) لقد أوضحنا توضيحا كافيا مسألة الشفاعة المهمّة في المجلد الأوّل في تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

٢٩٤

وتتحدث الآية التالية ـ كما أشرنا ـ عن المعاد ، وتبيّن في جمل قصار أصل مسألة المعاد ، والدليل عليها ، والهدف منها!.

فتقول أوّلا :( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ) وبعد الاستناد إلى هذه المسألة المهمّة والتأكيد عليها تضيف :( وَعْدَ اللهِ حَقًّا ) ثمّ تشير إلى الدليل على ذلك بقولها :( إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) أي إنّ هؤلاء الذي يشكّون في المعاد يجب عليهم أن ينظروا إلى بدء الخلق ، فإنّ من أوجد العالم في البداية يستطيع أن يعيده من جديد. وقد مر بيان هذا الاستدلال بصورة أخرى في الآية (29) من سورة الأعراف ضمن جملة قصيرة تقول :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) وقد سبق شرح ذلك في تفسير سورة الأعراف.

إنّ الآيات المرتبطة بالمعاد في القرآن توضح أنّ العلة الأساسية في تشكيك وتردد المشركين والمخالفين ، هي أنّهم كانوا يشكون في إمكان حدوث مثل هذا الشيء ، وكانوا يسألون بتعجب بأنّ هذه العظام النخرة التي تحولت إلى تراب ، كيف يمكن أن تعود لها الحياة وترجع إلى حالتها الأولى؟ ولهذا نرى أنّ القرآن قد وضع إصبعه على مسألة الإمكان هذه ويقول : لا تنسوا أن الذي يبعث الوجود من جديد ، ويحيي الموتى هو نفسه الذي أوجد الخلق في البداية.

ثمّ تبيّن الهدف من المعاد بأنّه لمكافأة المؤمنين على جميع أعمالهم الصالحة حيث لا تخفى على الله سبحانه مهما صغرت :( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ ) أمّا أولئك الذين اختاروا طريق الكفر والإنكار ، ولم تكن لديهم أعمال صالحة ـ لأنّ الإعتقاد الصالح أساس العمل الصالح ـ فإنّ العذاب الأليم وأنواع العقوبات بانتظارهم :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ) .

وهنا نقطتان تسترعيان الانتباه :

1 ـ لما لم يكن لله سبحانه وتعالى مكان خاص ، وخاصّة إذا علمنا أنّه موجود

٢٩٥

في كل مكان في جميع العوالم ، وأنّه أقرب إلينا منّا ، فإنّ هذه الحقيقة قد جعلت المفسّرين يفسرون( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ) في هذه الآية ، والآيات الأخرى في القرآن ، تفاسير مختلفة : فقيل تارة أن المقصود هو أنّكم ترجعون إلى جزاء الله سبحانه.

وربّما اعتبر بعض الجاهلين هذا التعبير دليلا على تجسم الله سبحانه في يوم القيامة ، وبطلان هذه العقيدة أوضح من أن يحتاج إلى بيان وإثبات.

إلّا أنّ الذي يبدو بدقة من خلال آيات القرآن الكريم ، إنّ عالم الحياة كقافلة تحركت من عالم العدم وتستمر في مسيرتها اللانهائية نحو اللانهاية التي هي ذات الله المقدسة ، بالرغم من أنّ المخلوقات محدودة ، والمحدود لا يمكن أن يكون لا نهائيا قط ، غير أنّ سيره إلى التكامل لا يتوقف أيضا ، وحتى بعد قيام القيامة فإنّ السير التكاملي سيستمر ، كما أوضحنا ذلك في بحث المعاد.

يقول القرآن الكريم :( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً ) .

ويقول :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ ) .

ولما كان بداية الحركة من جهة الخالق ، حيث شعت منه أوّل بارقة للحياة ، وأن هذه الحركة التكاملية ـ أيضا ـ تسير نحوه ، فقد عبّرت الآية بالرجوع. وبعبارة مختصرة فإنّ هذه التعبيرات إضافة إلى أنّها تشير إلى أن بداية حركة عامّة الموجودات من الله سبحانه ، فإنّها تبيّن أيضا أنّ هدف هذه الحركة وغايتها ، هي ذات الله المقدسة. وإذا لا حظنا أن تقديم كلمة «إليه» يدل على الحصر ، سيتّضح أن اي وجود غير ذات الله المقدسة لا يمكن أن يكون هدفا وغاية لهذه الحركة التكاملية لا الأصنام ولا أي مخلوق آخر ، لأنّ كل هذه الوجودات محدودة ، ومسير الإنسان مسير لا نهائي.

2 ـ إنّ كلمة «القسط» تعني في اللغة إعطاء سهم آخر ، ولذلك فقد أخفي فيها

٢٩٦

مفهوم العدل والإنصاف. واللطيف أنّ الآية قد استعملت هذه الكلمة في حق ذوي الأعمال الصالحة فقط ، ولم تذكرها في جزاء الكافرين والسيئي الأعمال ، وذلك لأنّ العذاب ليس على شكل الحصص والأرباح ، وبتعبير أخر فإنّ كلمة القسط تناسب الجزاء الحسن فقط ، لا العقاب.

* * *

٢٩٧

الآيتان

( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) )

التّفسير

جانب من آيات عظمة الله :

لقد مرّت في الآيات السابقة إشارة عابر إلى مسألة المبدأ والمعاد ، إلّا أن هذه الآيات وما بعدها تبحث بصورة مفصلة هذين الأصلين الأساسيين اللذين يمثلان أهم دعامة لدعوة الأنبياء ، وبتعبير آخر فإنّ الآيات اللاحقة بالنسبة للسابقة بمثابة التفصيل للإجمال.

لقد أشارت الآية الأولى التي نبحثها إلى جوانب من آيات عظمة الله سبحانه في عالم الخلقة فقالت :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ) .

إنّ الشمس التي تعم العالم بنورها لا تعطي النور الحرارة للموجودات فحسب ، بل هي العامل الأساس في نمو النباتات وتربية الحيوانات ، وإذا دقّقنا النظر رأينا

٢٩٨

أنّ كل حركة على وجه الكرة الأرضية ، حتى حركة الرياح وأمواج البحار وجريان الأنهار والشلالات ، هي من بركات نور الشمس ، وإذا ما انقطعت هذه الأشعة الحياتية عن كرتنا الأرضية يوما فإنّ السكون والظلمة والموت سيخيّم على كل شيء في فاصلة زمنية قصيرة.

والقمر بنوره الجميل هو مصباح ليالينا المظلمة ، ولا تقتصر مهمّته على هداية المسافرين ليلا وإرشادهم إلى مقاصدهم ، بل هو بنوره المناسب يبعث الهدوء والنشاط لكل سكان الأرض.

ثمّ أشارت الآية إلى فائدة أخرى لوجود القمر فقالت :( وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ) أي إنّكم لو نظرتم إلى القمر ، وأنّه في أوّل ليلة هلال رفيع ، ثمّ يكبر حتى يكون بدرا في ليلة النصف من الشهر ، وبعدها يبدأ بالنقصان التدريجي حتى اليوم أو اليومين الأخيرين حيث يغيب في المحاق ، ثمّ يظهر على شكل هلال من جديد ويدور إلى تلك المنازل السابقة ، لعلمتم أن هذا الاختلاف ليس عبثا ، بل إنّه تقويم طبيعي دقيق جدّا يستطيع الجاهل والعالم قراءته ، ويقرأ فيه تاريخ أعماله وأمور حياته(1) .

ثمّ تضيف الآية : إن هذا الخلق والدوران ليس عملا غير هادف ، أو هو من باب اللعب ، بل( ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ ) .

وفي النهاية توكّد الآية :( يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) إلّا أنّ هؤلاء الغافلين وفاقدي البصيرة بالرغم من أنهم يمرون كثيرا على هذه الآيات والدلائل ، إلّا أنّهم لا يدركون أدنى شيء منها.

وتتطرق الآية الثّانية إلى قسم آخر من العلامات والدلائل السماوية والأرضية الدالّة على وجوده سبحانه ، فتقول :( إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي

__________________

(1) لقد بحثنا في المجلد الثاني حول كون القمر تقويما طبيعيا يمكن من خلال حالاته المختلفة تعيين أيام الشهر بدقة (راجع تفسير الآية 189 من سورة البقرة).

٢٩٩

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) فليست السماء والأرض بذاتهما من آيات الله وحسب ، بل إن كل واحدة من الموجودات التي توجد فيهما تعتبر آية بحد ذاتها ، إلّا أنّ الذين يدركون تلك الآيات هم الذين سمت أرواحهم وصفت نتيجة لتقواهم وبعدهم عن المعاصي ، وهم الذين يقدرون على رؤية وجه الحقيقة وجمال المعشوق.

* * *

ملاحظات

وهنا ملاحظات ينبغي الانتباه لها :

1 ـ هناك نقاش طويل بين المفسّرين في الفرق بين كلمتي الضياء والنور ، فالبعض منهم اعتبرهما مترادفتين وأن معناهما واحدا ، والبعض الأخر قالوا : إنّ الضياء استعمل في ضوء الشمس فالمراد به النور القوي ، أمّا كلمة النور التي استعملت في ضوء القمر فإنّها تدل على النور الأضعف.

الرأي الثّالث في هذا الموضوع هو أنّ الضياء بمعنى النور الذاتي ، أمّا النور فإنّه أعم من الضياء ويشمل الذاتي والعرضي ، وعلى هذا فإنّ اختلاف تعبير الآية يشير إلى هذه النقطة. وهي أنّ الله سبحانه قد جعل الشمس منبعا فوّارا للنور ، في الوقت الذي جعل للقمر صفة الاكتساب ، فهو يكتسب نوره من الشمس.

والذي يبدو أنّ هذا التفاوت مع ملاحظة آيات القرآن ، هو الأصح ، لأنا نقرا في الآية (16) من سورة نوح :( وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) وفي الآية (61) من سورة الفرقان ،( وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً ) فإذا لا حظنا أنّ نور السراج ينبع من ذاته ، وهو منبع وعين للنور ، وأن الشمس قد شبهت في الآيتين بالسراج ، سيتّضح أنّ هذا التفاوت مناسب جدا في الآيات مورد البحث.

2 ـ هناك اختلاف بين أهل الكتاب وكتّاب اللغة في أن (ضياء) جمع أم مفرد ،

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420