دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق14%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214455 / تحميل: 4822
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٦-x
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم عدم الوثوق بوعده ووعيده ؛ لأنّه لو جاز منه فعل القبيح لجاز منه الكذب ، وحينئذ ينتفي الجزم بوقوع ما أخبر بوقوعه من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، ولا يبقى للعبد جزم بصدقه ، بل ولا ظنّ به ؛ لأنّه لمّا وقع منه أنواع الكذب والشرور في العالم ، كيف يحكم العقل بصدقه في الوعد والوعيد؟! وتنتفي حينئذ فائدة التكليف ، وهو الحذر من العقاب ، والطمع في الثواب.

ومن يجوّز لنفسه أن يقلّد من يعتقد جواز الكذب على الله تعالى ، وأنّه لا جزم بالبعث والنشور ، ولا بالحساب ولا بالثواب ولا بالعقاب؟! وهل هذا إلّا خروج عن الملّة الإسلامية؟!

فليحذر الجاهل من تقليد هؤلاء ، ولا يعتذر بأنّي ما عرفت مذهبهم ، فهذا عين مذهبهم وصريح مقالتهم ، نعوذ بالله منها ومن أمثالها.

ومنها : إنّه يستلزم نسبة المطيع إلى السفه والحمق ، ونسبة العاصي إلى الحكمة والكياسة ، والعمل بمقتضى العقل ، بل كلّما ازداد المطيع في طاعته وزهده ورفضه للأمور الدنيوية ، والإقبال على الله تعالى بالكلّيّة ، والانقياد إلى امتثال أوامره واجتناب مناهيه ، نسب إلى زيادة الجهل والحمق والسفه! وكلّما ازداد العاصي في عصيانه ، ولجّ في غيّه وطغيانه ، وأسرف في ارتكاب الملاهي المحرّمة ، واستعمال الملاذّ المزجور عنها

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٧.

٢١

بالشرع ، نسب إلى العقل والأخذ بالحزم

لأنّ الأفعال القبيحة إذا كانت مستندة إليه تعالى جاز أن يعاقب المطيع ويثيب العاصي ، فيتعجّل المطيع بالتعب ولا تفيده طاعته إلّا الخسران ، حيث جاز أن يعاقبه على امتثال أمره ويحصل في الآخرة بالعذاب الأليم السرمد والعقاب المؤبّد ، وجاز أن يثيب العاصي فيحصل بالربح في الدارين ، ويتخلّص من المشقّة في المنزلتين!

ومنها : إنّه تعالى كلّف المحال ؛ لأنّ الآثار كلّها مستندة إليه تعالى ، ولا تأثير لقدرة العبد ألبتّة ، فجميع الأفعال غير مقدورة للعبد ، وقد كلّف ببعضها فيكون قد كلّف ما لا يطاق.

وجوّزوا بهذا الاعتبار ، وباعتبار وقوع القبيح منه تعالى ، أن يكلّف الله تعالى العبد أن يخلق مثله تعالى ومثل نفسه ، وأن يعيد الموتى في الدنيا كآدم ونوح وغيرهما ، وأن يبلع جبل أبي قبيس(١) دفعة ، ويشرب ماء دجلة في جرعة ، وأنّه متى لم يفعل ذلك عذّبه بأنواع العذاب.

فلينظر العاقل في نفسه : هل يجوز له أن ينسب ربّه تعالى وتقدّس إلى مثل هذه التكاليف الممتنعة؟! وهل ينسب ظالم منّا إلى مثل هذا الظلم؟! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

ومنها : إنّه يلزم منه عدم العلم بنبوّة أحد من الأنبياءعليهم‌السلام ؛ لأنّ دليل

__________________

(١) جبل أبي قبيس : هو اسم الجبل المشرف على مكّة المكرّمة ، قيل : سمّي باسم رجل من مذحج كان يكنّى أبا قبيس ، وقيل : كنّاه النبيّ آدمعليه‌السلام بذلك حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس ، وكان في الجاهلية يسمّى « الأمين » لأنّ الحجر الأسود كان مستودعا فيه أيّام الطوفان.

انظر : معجم البلدان ١ / ١٠٣ رقم ١٥٩ ، مراصد الاطّلاع ٣ / ١٠٦٦ ، وانظر مادّة « قبس » في : لسان العرب ١١ / ١١ ، تاج العروس ٨ / ٤٠٥.

٢٢

النبوّة هو : أنّ الله تعالى فعل المعجزة عقيب الدعوة لأجل التصديق ، وكلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق ، فإذا صدر القبيح منه لم يتمّ الدليل.

أمّا الصغرى : فجاز أن يخلق المعجزة للإغواء والإضلال.

وأمّا الكبرى : فلجواز أن يصدّق المبطل في دعواه.

ومنها : إنّ القبائح لو صدرت عنه تعالى لوجبت الاستعاذة [ منه ] ؛ لأنّه حينئذ أضرّ [ على البشر ] من إبليس لعنه الله تعالى ، وكان الواجب ـ على قولهم ـ أن يقول المتعوّذ : أعوذ بالشيطان الرجيم من الله تعالى!

وهل يرضى العاقل لنفسه المصير إلى مقالة تؤدّي إلى التعوّذ من أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وتخليص إبليس من اللعن والبعد والطرد؟!

نعوذ بالله من اعتقاد المبطلين ، والدخول في زمرة الضالّين ، ولنقتصر في هذا المختصر على هذا القدر.

* * *

٢٣

وقال الفضل (١) :

قد عرفت في ما سبق مذهب الأشاعرة في عدم صدور القبيح من الله تعالى ، وأنّ إجماع الملّيّين منعقد على أنّه تعالى لا يفعل القبيح فكلّ ما أقامه من الدلائل قد ذكرنا أنّه إقامة الدليل في غير محلّ النزاع ، فإنّ المدّعى شيء واحد.

وهم يسندونه بالقبح العقلي.

والأشاعرة يسندونه إلى أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه(٢) .

ثمّ إنّ المعتزلة لو أرادوا من نسبة فعل القبيح إليه تعالى أنّه يخلق القبائح من أفعال العباد ـ على رأي الأشاعرة ـ فهذا شيء يلزمهم ؛ لأنّ القبائح من الأشياء كما تكون في الأعراض كالأفعال ، تكون في الجواهر والذوات فالخنزير قبيح ، والعقرب والحيّة والحشرات قبائح ، وهم متّفقون أنّ الله يخلقهم.

فكلّ ما يلزم الأشاعرة يلزمهم في خلق القبائح الجوهريّة.

وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم ولا هو معتقدهم كما صرّحنا به مرارا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٠٣.

(٢) انظر الصفحة ٧ من هذا الجزء.

٢٤

وأقول :

قد سبق أنّ قول الأشاعرة بعدم صدور القبيح منه سبحانه ليس بمعنى أنّه لا يوجد القبائح ، بل بمعنى أنّه لا يقبح منه القبيح وإن صدر منه ، كالزنا ، والقيادة ، والكفر ، ونحوها!(١) .

وحينئذ فيرد عليهم كلّ ما ذكره المصنّف ، إذ ليس الإشكال ناشئا من تسمية ما يصدر عنه من القبيح قبيحا ، بل من جهة القول بصدوره عنه وإيجاده له.

فيكون استنادهم في دفع المحالات إلى أنّه لا قبيح منه ، تقريرا للزومها بعبارة ظاهرها مليح وباطنها قبيح.

وأمّا قوله : « وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم » إلى آخره

ففيه ما مرّ من أنّ فعل القبيح وخلقه بمعنى واحد ، وتعدّد الألفاظ لا أثر له ، فإنّ الإشكال ناشئ من قولهم بإيجاد الله سبحانه للقبائح ، ولا لتسميته خلقا لا فعلا(٢) .

على أنّه لا وجه لامتناعهم من نسبة الفعل إليه تعالى ، بعد إنكارهم للحسن والقبح العقليّين في الأفعال.

وأمّا قوله : « فهذا شيء يلزمهم »

__________________

(١) انظر ج ٢ / ٣٣٢ من هذا الكتاب.

(٢) راجع الصفحة ٩ من هذا الجزء.

٢٥

فمردود بأنّ الخنزير والحشرات ليست قبائح حقيقة ؛ لما فيها من المصالح الكثيرة ، بخلاف قبائح الأعمال فإنّها شرور ومفاسد في الكون.

نعم ، لمّا كان الخنزير والحشرات مؤذية ، أو لا تلائم الطباع ، سمّيت شرورا وقبائح عند من يخفى عليه وجه الحكمة في خلقها والمصالح الثابتة فيها ، وإلّا فالله أجلّ من أن يخلق القبيح ، تبارك الله أحسن الخالقين.

* * *

٢٦

إنّه تعالى يفعل لغرض وحكمة

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المطلب الرابع

في أنّ الله تعالى يفعل لغرض وحكمة

قالت الإمامية : إنّ الله تعالى إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ، ونفع يصل إليهم(٢) .

وقالت الأشاعرة : إنّه لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض ، ولا لمصلحة ترجع إلى العباد ، ولا لغاية من الغايات(٣) .

ولزمهم من ذلك محالات :

منها : أن يكون الله تعالى لاعبا عابثا في فعله ، فإنّ العابث ليس إلّا الذي يفعل لا لغرض وحكمة بل مجّانا ، والله تعالى يقول :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٩.

(٢) الذخيرة في علم الكلام : ١٠٨ وما بعدها ، تقريب المعارف : ١١٤ وما بعدها ، قواعد المرام في علم الكلام : ١١٠.

(٣) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالى ـ : ١١٥ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٩٧ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٢٧

وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (١) ( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) (٢) .

والفعل الذي لا لغرض للفاعل فيه باطل ولعب ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ١٦.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٩١.

٢٨

وقال الفضل (١) :

قد سبق أنّ الأشاعرة ذهبوا إلى أنّ أفعال الله تعالى ليست معلّلة بالأغراض ، وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة(٢) .

ووافقهم على ذلك جماهير الحكماء وطوائف الإلهيّين.

وذهبت المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية إلى وجوب تعليلها(٣) .

ومن دلائل الأشاعرة : إنّه لو كان فعله تعالى لغرض ، من تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ، لكان هو ناقصا لذاته ، مستكملا بتحصيل ذلك الغرض ؛ لأنّه لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه ؛ وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل ، أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه ، لا يكون باعثا على الفعل ، وسببا لإقدامه عليه بالضرورة.

فكلّ ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به من عدمه ، وهو معنى الكمال.

فإذا يكون الفاعل مستكملا بوجوده ناقصا بدونه(٤) ، هذا هو الدليل.

وذكر هذا الرجل أنّه يلزم من هذا المذهب محالات :

منها : أن يكون الله تعالى لاعبا عابثا.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٢٤.

(٢) راجع ج ٢ / ٣٤٦ من هذا الكتاب.

(٣) المحيط بالتكليف : ٢٦٣ ، وانظر : ج ٢ / ٣٤٥ من هذا الكتاب.

(٤) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٢٩

والجواب الحقيقي : إنّ العبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع ، وأفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، راجعة إلى مخلوقاته تعالى ، لكنّها ليست أسبابا باعثة على إقدامه ، وعللا مقتضية لفاعليّته ، فلا تكون أغراضا له ولا عللا غائية لأفعاله تعالى حتّى يلزم استكماله بها ، بل تكون غايات ومنافع لأفعاله وآثارا مترتّبة عليها ، فلا يلزم أن يكون شيء من أفعاله تعالى عبثا خاليا عن الفوائد.

وما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل أفعاله تعالى ، فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة(١) .

* * *

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٠٥.

٣٠

وأقول :

لم ينف الحكماء كلّي الغرض ، وإنّما نفوا الغرض الذي به الاستكمال كما يدلّ عليه كلمات بعضهم(١) ، وهذا الدليل الذي ذكره الخصم وأخذه أتباعهم من ظواهر كلماتهم.

وقد أجاب الإمامية عن هذا الدليل بما قاله نصير الدينرحمه‌الله في التجريد : « ولا يلزم عوده إليه »(٢) .

يعني أنّ الغرض لا يلزم عوده إلى الله تعالى ، بل يجوز أن يعود إلى مصلحة العبد أو نظام الموجودات بما تقتضيه الحكمة.

وأشار إليه المصنّفرحمه‌الله بقوله : « إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ».

فقولهم في هذا الدليل : « لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه » ظاهر البطلان ، فإنّ الحكيم المحسن لا يحتاج في داعيه للفعل إلى أكثر من حصول المصلحة لعبده ، أو احتياج النظام إليه ، فيكون الغرض كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ؛ لأنّه يشهد بحكمته وإحسانه ، ولو فعل لا لغرض لكان ناقصا عابثا.

وقد قسّم الأشاعرة قسمة غير عادلة ، حيث اكتفوا لأنفسهم في مقام

__________________

(١) انظر مثلا : تهافت التهافت : ٤٩١ ، شرح التجريد : ٤٤٣ ، وقد مرّ ذلك في ج ٢ / ٣٤٧ ه‍ ١.

(٢) تجريد الاعتقاد : ١٩٨.

٣١

أفعاله تعالى بمجرّد الإرادة بلا غرض أصلا ، ولم يكتفوا منّا بالغرض العائد إلى العبد أو النظام.

وقالوا : إنّ الاكتفاء به خلاف الضرورة كما سمعته في دليلهم(١) .

وما قيل : إنّ الغرض علّة لعلّيّة العلّة الفاعليّة ، فلو كان لفعله تعالى غرض لاحتاج في علّيّته إليه ، والمحتاج إلى الغير مستكمل به.

ففيه : إنّ هذا الاحتياج ليس من استكمال الذات في شيء ، بل هو من باب شرط الفعل أو شرط كماله نظير احتياجه في علّيّته للكائنات إلى إمكانها ، واحتياجه في كونه رازقا إلى وجود من يرزقه ، وفي تعلّق علمه إلى ثبوت المعلومات.

على أنّ الأشاعرة قائلون باحتياجه في أفعاله تعالى إلى صفاته الزائدة على ذاته ، وإنّه مستكمل بها(٢) فما بالهم يستبشعون من استكماله تعالى بالغرض لو فرض به استكمال لذاته؟!

فإن قلت : نرى بعض الأشياء بلا غرض ولا مصلحة كإماتة الأنبياء ، وإبقاء إبليس ، وتخليد الكفّار بالنار.

قلت : لا ريب أنّ موت الأنبياء مصلحة لهم لخلاصهم من مكاره الدنيا ووصولهم إلى الدرجات العليا ، وهو غرض راجح لهم ، كما أنّ بقاء إبليس مصلحة للمؤمنين بمجاهدتهم له الموجبة لفوزهم بالأجر ، مع أنّ به تمييز الخبيث من الطيّب وتمحيص الناس ، فينال كلّ امرئ استحقاقه ، قال

__________________

(١) انظر الصفحة ٢٩ من هذا الجزء.

(٢) تمهيد الأوائل : ٢٢٧ ، الملل والنحل ١ / ٨١ ـ ٨٢ ، المواقف : ٢٧٩ ، شرح المواقف ٨ / ٤٤ ـ ٤٥.

٣٢

تعالى :( الم * أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (١) .

كما أنّ بقاء إبليس مصلحة له بطول تمكينه من التوبة الخالصة المخلّصة له من غضب الله وعقابه ، ولا ينافيه إخباره سبحانه بأنّه يدخل النار لإمكان كونه مشروطا بعدم التوبة.

وأمّا تخليد أهل النار ، فمع أنّه فرع حكمة الوعيد ، مشتمل على مصلحة للمؤمنين ، لكونه زيادة في نعيمهم وسرورهم بخلاصهم من مثله وتشفّيهم من أعدائهم ، قال تعالى :( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) (٢) .

هذا ، ونقل عن شيخهم الأشعري دليل آخر مضحك ، كما حكاه السيّد السعيد ـ مع ردّه ـ عن السيّد معين الدين الإيجي الشافعي(٣) ، في رسالته التي ألّفها لتحقيق مسألة الكلام

قال : « إعلم أنّه ـ رضي الله عنه ـ قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له ، مع أنّه مناف لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث ، مثل : إنّ أفعال الله تعالى غير معلّلة بغرض ، ودليله كما صرّح به في كتبه أنّه يلزم تأثّر الربّ عن شعوره بخلقه.

__________________

(١) سورة العنكبوت ٢٩ : ١ و ٢.

(٢) سورة المطفّفين ٨٣ : ٣٤.

(٣) هو : محمّد بن صفي الدين عبدالرحمن بن محمّد بن عبدالسلام معين الدين الإيجي الصفوي الشيرازي الشافعي ، ولد سنة ٨٣٢ ه‍ وتوفّي سنة ٩٠٦ ه‍ ، له تصانيف عديدة منها : جوامع التبيان في تفسير القرآن ، كتاب تهافت الفلسفة ، حاشية على التلويح للتفتازاني.

انظر : هديّة العارفين ٦ / ٢٢٣ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٤٠١ رقم ١٤٠٠٤.

٣٣

وأنت تعلم أنّه لا يشكّ ذو فكرة(١) أنّ علمه تعالى بالممكنات والغايات المترتّبة عليها صفة ذاتية ، وفعله موقوف على صفة ذاتية ، وكم من الصفات الذاتية موقوفة على صفة مثلها ، وتعالى جدّ ربّنا عن أن يحصل له بواسطة شعوره بغاية شوق وانفعال في ذاته الأقدس كما في الحيوانات »(٢) .

والأولى في ردّه أن يقال : إنّه إن أراد بتأثّره تعالى حصول الانفعال له ، فهو غير لازم من القول بالغرض.

وإن أراد به أنّ الغرض يكون داعيا له إلى الفعل ، فهو المطلوب ، ولا بأس به أصلا.

ثمّ إنّه لا مناص للأشاعرة عن القول بالغرض ؛ لأنّهم قالوا بحجّية القياس(٣) ، وهو لا يتمّ إلّا إذا كانت التكاليف التي هي من أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، إمّا لكون العلّة في القياس غرضا كما في أكثر المقامات ، أو لاستلزامها للغرض ، بلحاظ أنّ سببية الشيء لأن يكلّف سبحانه اختيارا تستدعي وجود غرض له ملازم لتلك العلّة ، وإلّا فكيف صارت علّة لفعل الله وهو التكليف؟!

على أنّ الالتزام بثبوت علّة لفعل من أفعاله تعالى وإن لم تكن علّة غائية ، يستلزم القول بصحّة الأغراض ؛ لأنّ النقص المفروض يأتي أيضا

__________________

(١) في المصدر : « مرّة » ، والمرّة ، القوّة وشدّة العقل ؛ انظر : لسلن العرب ١٣ / ٧٤ مادّة « مرر ».

(٢) إحقاق الحقّ ١ / ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

(٣) التبصرة في أصول الفقه : ٤١٩ مسألة ٣ ، المستصفى من علم الأصول ٢ / ٢٣٤ ، المحصول في علم أصول الفقه ٢ / ٢٤٥ ، الإحكام في أصول الأحكام ـ للآمدي ـ ٣ / ١٦٤ وما بعدها ، المواقف : ٣٦.

٣٤

من تلك العلّة ؛ لأنّها تستدعي حاجته في فعله إليها.

فلا بدّ من القول بأنّ الحاجة إلى العلّة لا تستوجب النقص سواء كانت العلّة غائية أم لا.

وأمّا ما ذكره في الجواب عن العبث ؛ فهو عين ما في « شرح المواقف »(١) .

وفيه : إنّ الفعل إذا تجرّد عن الغرض كان عبثا ولعبا وإن اشتمل في نفسه على مصلحة ، ضرورة أنّ من استأجر أجيرا على فعل فيه مصلحة ، ولكن لم يستأجر لغرض المصلحة بل مجّانا وبلا غاية له ولا لغيره ، عدّ عابثا لاعبا.

على أنّ قوله : « أفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح » إلى آخره

إنّ أراد به أنّ ذلك أمر لازم ، فهو لا يتمّ على قولهم : « لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء »!

وإن أراد أنّه أمر اتّفاقي ، فكيف يتنزّه الله سبحانه عن اللعب أي الخلق بلا مصلحة ، ويراه عيبا عليه ، والحال أنّه يجوز عليه أن يخلق ما لا مصلحة فيه؟!

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٣٥

قال المصنّف ـ رحمه الله تعالى ـ (١) :

ومنها : إنّه يلزم أن لا يكون الله سبحانه محسنا إلى العباد ، ولا منعما عليهم ، ولا راحما لهم ، ولا كريما في حقّ عباده ، ولا جوادا ، وكلّ هذا ينافي نصوص الكتاب العزيز ، والمتواتر من الأخبار النبوية ، وإجماع الخلق كلّهم من المسلمين وغيرهم ، فإنّهم لا خلاف بينهم في وصف الله تعالى بهذه الصفات على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز.

وبيان لزوم ذلك : إنّ الإحسان إنّما يصدق لو فعل المحسن نفعا لغرض الإحسان إلى المنتفع ، فإنّه لو فعله لغير ذلك لم يكن محسنا ؛ ولهذا لا يوصف مطعم الدابّة لتسمن حتّى يذبحها بالإحسان في حقّها ، ولا بالإنعام عليها ، ولا بالرحمة ؛ لأنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه لا لغرض آخر يرجع إليه.

وإنّما يكون كريما وجوادا لو نفع الغير للإحسان وبقصده ، ولو صدر منه النفع لا لغرض لم يكن كريما ولا جوادا ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فلينظر العاقل المنصف من نفسه ، هل يجوز أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى العبث في أفعاله ، وأنّه ليس بجواد ولا محسن ولا راحم ولا كريم؟! نعوذ بالله من مزالّ الأقدام ، والانقياد إلى مثل هذه الأوهام.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٩.

٣٦

وقال الفضل (١) :

جوابه : منع الملازمة ؛ لأنّ خلوّ الفعل عن الغرض لا يستدعي كون الفاعل غير محسن ولا راحم ولا منعم.

فإنّ معنى الغرض ما يكون باعثا للفاعل على الفعل ، ويمكن صدور الإحسان والرحمة والإنعام من الفاعل من غير باعث له ، بل للإفاضة الذاتية التي تلزم ذات الفاعل.

نعم ، لو كان خاليا من المصلحة والغاية لكان ذلك الفعل عبثا.

وقد بيّنّا أنّ أفعاله تعالى مشتملة على الحكم والغايات والمصالح ، فلا تكون أفعاله عبثا.

وأمّا قوله : « إنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه »

فإن أراد بالقصد الغرض والعلّة الغائيّة ؛ فممنوع.

وإن أراد الاختيار وإرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه بالتعيين ؛ فذلك في حقّه تعالى ثابت ، وهذا لا يتوقّف على وجود الغرض والعلّة الغائيّة.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٣٤.

٣٧

وأقول :

منع الملازمة مكابرة ظاهرة ، ضرورة أنّ الفعل لا لغاية وغرض ، عبثّ ، والعبث لا يكون إحسانا وإنعاما وكرما ، بل مع قطع النظر عن العبث لا يكون الفعل بنفسه إحسانا بلا قصد الإحسان ، وإلّا لكان كذلك وإن صدر لغاية أخرى ، كما في مثال المصنّف بمطعم الدابّة ؛ وهو خلاف الضرورة.

قال الشاعر :

لا تمدحنّ ابن عبّاد وإن هطلت

كفّاه بالجود سحّا يخجل الدّيما(١)

فإنّها خطرات من وساوسه

يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما(٢)

فإنّه جعل عطاءه الوافر لا لغاية الإحسان والفضل ، ليس من الكرم ، وإن أساء وأجحف في حقّ ابن عبّاد.

وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني ، فهو عين القول بالغرض ؛ لأنّ إرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه عبارة عن قصد الداعي ، والداعي هو الغرض.

* * *

__________________

(١) السّحّ : الصّبّ المتتابع الكثير ، وهنا كناية عن العطاء الكثير المتواصل ؛ انظر : لسان العرب ٦ / ١٨٨ مادّة « سحح ».

والدّيم ، جمع ديمة : المطر الدائم في سكون بلا رعد ولا برق ، وهي هنا على المجاز : العطاء الدائم المستمرّ ؛ انظر : لسان العرب ٤ / ٤٤٦ و ٤٥٨ مادّتي « دوم » و« ديم ».

(٢) البيتان لأبي بكر الخوارزمي في هجاء الوزير الصاحب بن عبّاد ؛ انظر ديوانه : ٤٠٩ ـ ٤١٠ رقم ٢١٤ ، وانظر : مرآة الجنان ٢ / ٣١٤ ، شذرات الذهب ٣ / ١٠٥.

٣٨

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم أن تكون جميع المنافع التي جعلها الله تعالى منوطة بالأشياء غير مقصودة ولا مطلوبة لله تعالى ، بل وضعها وخلقها عبثا.

فلا يكون خلق العين للإبصار ، ولا خلق الأذن للسماع ، ولا اللسان للنطق ، ولا اليد للبطش ، ولا الرجل للمشي ، وكذا جميع الأعضاء التي في الإنسان وغيره من الحيوانات.

ولا خلق الحرارة في النار للإحراق ، ولا الماء للتبريد ، ولا خلق الشمس والقمر والنجوم للإضاءة ، ومعرفة الليل والنهار للحساب.

وكلّ هذا مبطل للأغراض والحكم والمصالح ، ويبطل علم الطبّ بالكلّيّة ، فإنّه لم يخلق الأدوية للإصلاح ، ويبطل علم الهيئة ، وغيرها.

ويلزم العبث في ذلك كلّه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٠ ـ ٩١.

٣٩

وقال الفضل (١) :

إذا قلنا : إنّ أفعاله تعالى محكمة متقنة ، مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، هي راجعة إلى مخلوقاته ، لا يلزم أن تكون منافع الأشياء غير مقصودة لله تعالى

بل هو الحكيم خلق الأشياء ورتّب عليها المصالح ، وقبل خلق الأشياء قدّرها ودبّرها ، ولكن ليست أفعاله محتاجة إلى علّة غائيّة كأفعالنا [ الاختيارية ]

فإنّا لو فقدنا العلّة الغائيّة لم نقدر على الفعل الاختياري ، وليس هو تعالى كذلك ؛ للزوم النقص والاحتياج

بل الآثار والمصالح تترتّب على أفعاله من غير نقص الاحتياج إلى العلّة الغائية الباعثة للفاعل ، ولولاها لم يتصوّر الفعل الاختياري من الفاعل(٢) .

هذا هو المطلوب من كلام الأشاعرة ، لا نفي منافع الأشياء ، وأنّها لم تكن معلومة لله تعالى وقت خلق الأشياء

مثلا : اقتضت حكمة خلق العالم أن يخلق الشمس مضيئة ، وفي إضاءتها منافع للعباد ، فالله تعالى قبل أن يخلق الشمس كان يعلم هذه المنافع المترتّبة عليها لخلقها ، وترتّب المنافع عليها من غير احتياج إلى

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٣٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٢٠٤.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وطالبوه بالإجابات المقنعة الكافية، وجعلوا ذلك شرطاً لإسلامهم والتصديق به وبرسالته، فأجابهم الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأجوبة كافية شافية مذكورة بتفصيلها في محلّها فأسلموا على أثر ذلك(١) ، والقصة بطولها جديرة بالمطالعة.

وقد بلغت هذه الحملات المعادية للإسلام ذروتها بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وغياب شخصه الكريم عن الساحة فشهد عهد الخلفاء موجات هائلةً من التيارات الإلحادية، والمحاولات التشكيكيّة وطرح التساؤلات العويصة، التي هبّت على المجتمع الإسلاميّ لتزعزع المسلمين عن عقيدتهم، وذلك عندما أخذ يتوافد على المدينة جموع القساوسة والرهبان والأحبار يحملون إلى المسلمين الأسئلة العويصة، والشبهات المريبة.

ولمـّا كان مجرد الاطلاّع على الأحكام والمعارف الإسلاميّة وحدها لا يكفي في مواجهة تلكم الحملات والتيارات، بل ينبغي أن يكون المتصدّي للرد على تلك الشبهات مضطلعاً ومطّلعاً على ما في الأديان والمباديء الاخرى من عيوب ونواقص، وثغرات، لذلك، فإنّ المتصدّرين لمقام الخلافة كانوا يعانون صعوبات جمّةً وعجزاً ذريعاً في الإجابة عليها، أو كانت الردود غير مقنعة ولا كافية.

إنّ التأريخ الإسلاميّ يحدثنا أنّ المسلمين لم يبلغوا من الناحية الفكريّة والعلميّة والإحاطة بالمبادئ والأديان الاخرى درجةً تؤهلهم للقيام بذلك، ولم يقدر أحد منهم، على مجابهة اولئك العلماء المتوافدين من أرباب الأديان أو الملحدين إلى عاصمة الدولة الإسلاميّة من كلِّ فج عميق بهدف الإيقاع بالإسلام والمسلمين.

وقد أثبتت الوقائع التي وقعت في ذلك العهد، أنّ الشخص الوحيد الذي كانت ترجع إليه الاُمّة، ويرجع إليه من تسلّموا مسند الخلافة والحكومة بعد النبيّ لحلِّ تلك المعضلات وردِّ تلك الشبهات والإجابة على تلك التساؤلات، كان هو الإمام عليّعليه‌السلام .

وإليك نماذج من تلك الأسئلة :

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسيّ ( من علماء القرن السادس الهجريّ ) ١: ١٦ ـ ٢٤.

١٤١

١. جاء بعض أحبار اليهود إلى أبي بكر فقال: أنت خليفة نبيّ هذه الاُمّة ؟

قال: نعم.

فقال: إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم اممهم ؛ فأخبرني عن الله تعالى، أين هو أفي السماء أم في الأرض ؟

فقال أبو بكر: هو في السماء على العرش.

فقال اليهوديّ: فأرى الأرض خاليةً منه وأراه على هذا القول في مكان دون مكان.

فقال أبو بكر: هذا كلام الزنادقة.

فولىّ الحبر متعجّباً يستهزئ بالإسلام فاستقبله أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فقال: « يا يهوديّ قد عرفت ما سألت عنه وما أجبت به، وإنّا نقول: إنّ الله عزّ وجلّ أيّن الأين فلا أين له، وجلّ أن يحويه مكان وهو في كلِّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدِّق ما ذكرته لك »(١) .

٢. حضر مجلس عليعليه‌السلام في جامع الكوفة أحد يهود اليمن فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك وانعته لنا كأنّا نراه وننظر إليه، فسبح عليّعليه‌السلام ربّه وقال :

« الحمد لله الذي هو أوّل بلا بديء ممّا، ولا باطن فيما، ولا يزال مهما، ولا ممازج مع ما، ولا خيال وهما. ليس بشبح فيُرى، ولا بجسم فيتجزّأ، ولا بذي غاية فيتناهى، ولا بمحدَث فيبصر، ولا بمستتر فيكشف، ولا بذي حجب فيحوى، كان ولا أماكن تحمله أكنافها، ولا حملة ترفعه بقوّتها، ولا كان بعد أن لم يكن، بل حارت الأوهام أن تكيّف المكيّف للأشياء، ومن لم يزل بلا مكان، ولا يزول باختلاف الأزمان وكيف يوصف بالأشباح، وينعت بالألسن الفصاح » إلى آخر المفصّل(٢) .

٣. عن سلمان الفارسيّ في حديث طويل ذكر فيه قدوم كبير النصارى ( الجاثليق )

__________________

(١) الإرشاد للمفيد: ١٠٨ في قضايا أمير المؤمنين.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ٤٩٠ ـ ٤٩١.

١٤٢

إلى المدينة مع مائة من النصارى بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

وسأل أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها ثمّ ارشد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فسأله عنها وكان ممّا سأل عنه أنّه قال: ( اخبرني عن وجه الربِّ تبارك وتعالى )، فدعا عليّ بحطب ونار فأضرمه، فلمّا اشتعلت قال عليّعليه‌السلام له: « أين وجه هذه النّار ؟ ».

قال النصرانيّ هي وجه من جميع حدودها فقالعليه‌السلام : « هذه النار مدّبرة مصنوعة لا يعرف وجهها، وخالقها لا يشبهها، ولله المشرق والمغرب، فأينما تولّوا فثمّ وجه الله، لا يخفى على ربِّنا خافية »(١) .

٤. وسأله رأس الجالوت ( اليهودي )عن مسائل بعد ما سأل أبا بكر فلم يجبه

سأله: ما أصل الأشياء ؟

فقالعليه‌السلام : هو الماء لقوله سبحانه:( وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) ( الانبياء: ٣٠ ).

وما جمادان تكلّما ؟

فقالعليه‌السلام : هما الأرض والسماء لقوله تعالى:( فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) ( فصلت: ١١ ).

ما شيئان ينقصان ويزيدان ولا يرى الخلق ذلك ؟فقالعليه‌السلام : هما الليل والنهار لقوله تعالى:( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) ( الحديد: ٦ ).

إلى غير ذلك من المسائل العويصة، والصعبة التي أجاب عنها الإمام عليّعليه‌السلام بسرعة أدهشت الجاثليق وأثارت إعجابه(٢) .

هذا ولم تقتصر الموارد التي واجه فيها قادة المسلمين شبهات وأسئلة عجزوا عن

__________________

(١) قضاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب: ٨٨ ( طبعة النجف ).

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ١: ٤٩٠ ـ ٤٩١ عنه البحار٤٠: ٢٢٤.

١٤٣

ردهّا والإجابة عليها على ما ذكرناه، بل هناك عشرات الموارد الاخرى نذكر بعضها إجمالاً :

١. سؤال الغلام اليهوديّ من عمر بن الخطاب في اليوم الأوّل من خلافته وإرجاع الخليفة له إلى الإمام عليّعليه‌السلام (١) .

٢. بعد أن ارتد الحارث بن سنان الأسدي الذي كان أحد الصحابة، والتحق بالروم، حث الروم على طرح بعض الأسئلة على المسلمين، فتوجّه ممثل الروم إلى المدينة وطرح بعض الأسئلة(٢) .

٣. سؤال القائد الروميّ من عمر(٣) .

٤. الأسئلة التي طرحها علماء اليهود على عمر حول أصحاب الكهف(٤) .

٥. سؤال كعب الأحبار من عمر(٥) .

٦. وفود أسقف نجران على عمر وطرح بعض الأسئلة عليه(٦) .

٧. وفود جماعة من اليهود على عمر وطرح بعض الشبهات والمواضيع عليه(٧)

٨. وفود جماعة من اليهود على عمر أيضاً وطرح بعض الأسئلة عليه(٨) .

٩. سؤال كعب الأحبار من عمر، وإحالة عمر له على الإمام أيضاً(٩) .

__________________

(١) الغدير ٦: ١٦٨، نقلاً عن كتاب زين الفتى في تفسير هل أتى تأليف أحمد بن محمّد بن عليّ العاصميّ الشافعيّ ( مخطوط )، علي والخلفاء: ١٣٨ ـ ١٤٥، نقلاً عن فرائد السمطين ١: باب ٦٦ ( مخطوط ).

(٢) قضاء أمير المؤمنين: ٢٦٣.

(٣) تذكرة الخواص لابن الجوزيّ المتوفّي عام ( ٦٥٦ ه‍ ): ١٤٤ ـ ١٤٧ ( طبع النجف الأشرف ).

(٤) غاية المرام للبحرانيّ المتوفّي عام ( ١١٠٧ ه‍ ): ٥١٧، والغدير ٦: ٤٧ نقلاً عن العرائس في قصص الأنبياء: ٢٢٧.

(٥) كنز العمال للمتّقي الهنديّ ٤: ٥٥ نقلاً عن طبقات ابن سعد المتوفّي عام ( ٢٠٧ ه‍ ).

(٦) تفسير البرهان ٢: ١٠٧، عليّ والخلفاء: ١٧١ نقلاً عن كتاب زين الفتى.

(٧) قضاء أمير المؤمنين للتستريّ: ٦٧ ( طبعة النجف )، عليّ والخلفاء: ١٧٦.

(٨) قضاء أمير المؤمنين: ٨٢ ( طبعة النجف )، عليّ والخلفاء: ١٧٨.

(٩) قضاء أمير المؤمنين: ٦٤، البحار ٩: ٤٨٣ ( الطبعة القديمة ).

١٤٤

١٠. سؤال كعب الأحبار من عثمان وإرجاع عثمان له على الإمام عليّ(١) .

١١. طرح سؤال عويص من الروم على معاوية والتماس معاوية الجواب من الإمام عليّ بطريقة ماكرة(٢) .

١٢. طرح أسئلة اُخرى من جانب البلاط الرومانيّ على معاوية واستمداد معاوية الأجوبة من الإمام عليّعليه‌السلام (٣) .

١٣. طرح أسئلة للمرّة الثالثة من جانب الامبراطور الرومانيّ على معاوية والتماس معاوية الأجوبة من الإمام عليّعليه‌السلام أيضاً(٤) .

إنّ هذه الوقائع ووقائع كثيرةً اُخرى تشير بوضوح إلى عدم قدرة الاُمّة، على مواجهة الشبهات والشكوك التي كان يبثّها ويلقيها أعداء الإسلام على المسلمين لتقويض عقيدتهم، فهل كان من الجائز أن يترك الله سبحانه الاُمّة الإسلاميّة ـ والحال هذه ـ من دون أن يربّي ويخلّف فيهم من يصون الدين ويحفظ عقيدة اتباعه من أخطار التشكيك، وذلك بالوقوف في وجه كلّ مشكّك وصاحب شبهة بالمنطق أو الجدل المفحم، وهل يمكن ذلك إلا لمن يكون عارفاً بأبعاد الدين وقضاياه تفصيلاً، ويكون محيطاً بما في الأديان الاخرى وما في كتبها وعند علمائها ؟

أليس أي نكسة تصيب المسلمين في هذا المجال من شأنها أنّ تؤثر على معنويّتهم وتزعزع اعتقادهم، وتزيد من جرأة الأعداء وطمعهم في إخراج المسلمين من دينهم ؟.

إنّ بقاء أي دين وعقيدة، يرتبط بمدى قدرة المدافعين عن حياضه، والذبّ عن كيانه الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ، إمّا بقوّة السلاح أو بقوّة المنطق من قبل

__________________

(١) عليّ والخلفاء: ٣١٣ نقلاً عن كتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين: ١١٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) قضاء أمير المؤمنين: ٧٨ و ١١٤، عليّ والخلفاء: ٣٢٠.

(٤) قضاء أمير المؤمنين: ١٦ نقلاً عن مناقب ابن شهر بن آشوب.

١٤٥

الشخصيات المؤهلة القادرة على الدفاع الحازم.

بل لابدّ من الاعتراف بأنّ القوّة العسكريّة وحدها غير كافية للمحافظة على سطوع الدين وبقائه، وسلامته على مدار الزمان، فلابدّ ـ مضافاً إلى ذلك ـ من وجود الشخصيّات العلميّة اللائقة التي تحرس سياج الدين، وتلبّي احتياجات الاُمّة، وتمدّها وتمدّ عقيدتها بطاقة البقاء والاستقامة والحياة.

من هنا يتعين على صاحب الدعوة تربية وتعيين من يكون جديراً بتحمل هذه المسؤولية وقادراً على القيام بها لينير للمسلمين طريقهم، ويصون من شبهات العابثين المغرضين إيمانهم وعقيدتهم.

* * *

٥. الفراغ في مجال صيانة الدين من التحريف

إنّ من أهم ما كان يقوم به النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو محافظته الشديدة على الدين وصيانته من التحريف والدسّ، فقد كان يعلم المسلمين كتابهم العزيز، ويراقب ما أخذوه عنه من اُصول وفروع فينبّه على خطأهم، ويدلّهم على الحق.

ولا ريب أنّ من أبرز ما تتمتّع به أمّة من الامم، هو قدرتها على حفظ دينها من كيد الكائدين ودس الداسيّن وتحريف المحرفين، وهو الخطر الذي تعرضت له جميع الأديان السالفة والمذاهب السابقة وعانت منه أسوء أنواع الدسّ والتحريف وإلى هذا يشير القرآن إلى ما عانى منه دين موسى على أيدي أتباعه اليهود، إذ قال:( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء: ٤٦ ).

ولقد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم بهذه المهمة الخطيرة في حياته الشريفة فكيف يمكن تحقيق ذلك بعد وفاته ؟ وكيف يمكن حفظ الدين من التحريف بعده ؟!

إنّ صيانة الدين من التحريف والدسّ، لا تمكن إلّا إذا توفرت لدّى الاُمّة اُمور ثلاثة :

١٤٦

١. أنّ تكون الاُمّة قد بلغت في الرشد الفكريّ والعقليّ مبلغاً يؤهلها للحفاظ على أسس الشريعة ومفاهيمها من أي دسّ وتحريف.

٢. أن تكون فروع الدين واُصوله واضحةً ومعلومةً لدى الاُمّة، وضوحاً يمكِّنها من تمييز الحقّ عن الباطل، والدخيل عن الأصيل في مفاهيمه، وعقائده وتشريعاته.

٣. أن يكون لديها كلّ ما صدر من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من أحاديث ونصوص كاملة، لتقدر بمراجعة ما لديها من الحديث وعلم الكتاب ومعارفه، على أن تميِّز الصحيح من المجعول والوارد من الموضوع.

ولا ريب أنّ الاُمّة الإسلاميّة قد وصلت آنذاك بفضل جهود صاحب الدعوة، إلى درجة مرموقة من الوعي والحفظ لنص الكتاب الكريم ما يجعلها قادرةً على حفظ النصّ القرآنيّ من التحريف، وصونه من محاولات الزيادة والنقصان كما نرى ذلك في قصة الصحابيّ الجليل « ابيّ بن كعب » الذي كان له موقف عظيم من عثمان في قضية إثبات الواو في آية الكنز، وإليك الواقعة كما ينقلها تفسير الدرّ المنثور عن علباء بن أحمر: ( انّ عثمان بن عفان لـمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا(١) أن يلقوا ( الواو ) التي في سورة البراءة في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة: ٣٤ ).

قال ابيّ: ( لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي ) فألحقوها(٢) .

فقد كان عثمان يريد أن يقرأ قوله تعالى:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ) بدون واو العطف لتكون هذه الجملة وصفاً للأحبار اليهود وهذا مضافاً إلى كونه خلاف التنزيل وتغييراً في ما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه على مسامع القوم، فإنّ حذف الواو كان يعني، أنّ آية حرمة الكنز لا ترتبط بالمسلمين، بل هي صفة للأحبار والرهبان وكان يقصد من

__________________

(١) هكذا في الأصل، والصحيح: أراد إلّا أن يراد الكتّاب.

(٢) الدرّ المنثور ٣: ٢٣٢.

١٤٧

هذا إضفاء طابع الشرعيّة على اكتناز الأموال الطائلة الذي كان يقوم به جماعة من بطانة الخليفة كما يشهد بذلك التأريخ.

ولكن عثمان لم يستطع تحقيق هذا المطلب فقد عارضه أبّي بن كعب، واعترض عليه هذا التغيير الطفيفة اللفظي في الظاهر.

وهذا يكشف عن مدى حفظ الاُمّة لنصّ الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة. بيد أنّ حفظ الاُمّة كان محدوداً لا يتجاوز هذا الحدّ، إذ كان غير شامل لجوانب اخرى من الشريعة واُصولها ومصادرها وينابيعها.

ويدل على ذلك :

أوّلاً: أنّ الامّة اختلفت في تفسير الكثير من آيات القرآن، وبيان مقاصده ومعارفه اختلافاً جرّ إلى تعدّد المذاهب، ونشوء الاتّجاهات المختلفة، والتيارات المتضاربة وكلّ يتمسّك بالكتاب وربّما بالسنّة.

فمن جبريّة إلى معتزلة، إلى صفاتيّة إلى خوارج، إلى مرجّئة، وشيعة، وكلّ منها يتفرع إلى فرق وطوائف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في العقيدة والمسلك، وفي الاُصول والفروع(١) .

فهل يمكن أن يكون كلّ ذلك هو الحقّ الذي تضمّنه القرآن، ودعا إليه ؟!!

أليس ذلك يدل على أنّ الاُمّة لم تبلغ في الإحاطة بالشريعة والنضج الفكريّ الإسلاميّ ذلك المستوى الذي يؤهلها لحفظ الاُصول والفروع، والمحافظة على ما يتّصل بالكتاب والسنة، وطرح ما لا يمتّ إليهما بصلة.

ثانياً: أنّ التأريخ يشهد بأنّ الأمّة الإسلاميّة ـ في عصر الخلفاء ـ يوم اتّسعت رقعة البلاد الإسلاميّة واستوعبت شعوباً كثيرةً، شهدت دخول جماعات عديدة من أحبار

__________________

(١) راجع للوقوف على هذه المذاهب وفروعها: الملل والنّحل للشهرستانيّ والفرق بين الفرق وغيرهما ممّا ألّف في هذا المجال.

١٤٨

اليهود وعلماء النصارى في الإسلام، مثل كعب الأحبار وتميم الداريّ ووهب بن منبّهوعبد الله بن سلام، الذين تسللوا إلى صفوف المسلمين، وراحوا يدسون الأحاديث الإسرائيليّة، والخرافات والأساطير النصرانيّة في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم.

وقد ظلت هذه الأحاديث المختلفة، تخيِّم على أفكار المسلمين ردحاً طويلاً من الزمن، وتؤثر في حياتهم العمليّة، وتوجّهها في الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف في غفلة من المسلمين وغفوتهم. ولم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير، إلّا من عصمه الله كعليّعليه‌السلام الذي راح يحذّر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلفة فقال: « ولو علم النّاس أنّه منافق كذّاب، لم يقبلوا منه ولم يصدّق، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله ورآه وسمع منه وأخذ عنه وهم لا يعرفون حاله »(١) .

نماذجٌ وأرقامٌ عن الأحاديث الموضوعة :

وحسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين وما تعرضت له أحاديثهم ولمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الاُمّة ما كتب في هذا الصدد مثل كتاب :

ميزان الاعتدال للذهبيّ.

وتهذيب التهذيب للعسقلانيّ.

ولسان الميزان للعسقلانيّ

ونظائرها من الكتب التي صنفت في هذا المجال.

ولعل فيما قاله البخاري صاحب « الصحيح » المعروف، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرّة، حيث قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري :

إنّ أبا عليّ الغسّانيّ روي عنه أنّه قال: خرّجت الصحيح من ٦٠٠ ألف

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٢٠٥.

١٤٩

حديث(١) .

وروى عنه الإسماعيليّ أنّه قال :

أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح(٢) .

ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمّة الحديث أخبار تآليفهم ( الصحاح والمسانيد ) من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن غيرها، وقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثاً وقال، انتخبته من خمسمائة ألف حديث(٣) .

ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار على ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثاً اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث(٤) .

وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث اُصول دون المكررات صنفه من ثلاثمائة ألف(٥) .

وذكر أحمد في مسنده ثلاثين ألف حديث وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين وألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث(٦) .

وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلامة الأمينيّ في موسوعته ( الغدير ) ـ الجزء الخامس ـ باستخراج أسماء الكذّابين والوضّاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم ٧٠٠.

وما قام به رحمه الله وإن كان عملاً كبيراً يشكر عليه، غير أنّه لو قام بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك الباحث الكبير.

__________________

(١) من الهدى الساري مقدمة فتح الباري: ٤.

(٢) من الهدى الساري مقدمة فتح الباري: ٥.

(٣) طبقات الحفّاظ للذهبيّ ٢: ١٥٤، تاريخ بغداد ٩: ٥٧.

(٤) إرشاد الساري ١: ٢٠٨، صفوة الصفوة ٤: ١٤٣.

(٥) طبقات الحفاظ للذهبيّ ٢: ١٥١، ١٥٧، شرح صحيح مسلم للنووي ١: ٣٢.

(٦) طبقات الذهبيّ ٩: ١٧.

١٥٠

والذي يرشدك إلى كثرة الاحاديث الموضوعة الكاذبة ما يوجد في ترجمة شرذمة قليلة من أولئك الجمّ الغفير من الكذّابين، من أنّه وضع عشرة آلاف حديث كما ذكروه في ترجمة أحمد بن عليّ الجويباريّ.

فقد قام الباحث المتقدم الذكر بعد ما أورد من الأرقام في ترجمة اولئك الكذابين بإحصاء عدد الأحاديث التي وضعوها أو قلبوها فبلغت ما يقارب النصف مليون حديثاً.

وهذه الأرقام راجعة إلى واحد وأربعين شخصاً(١) .

وقد الفّت في تمييز الأحاديث الموضوعة من الأحاديث الصحيحة كتب نذكر منها ما ألّفه أبو الفرج عبد الرحمان بن عليّ المعروف بابن الجوزيّ البغداديّ المتوفّى ( ٥٩٧ ه‍ ) الذي ذكر كلّ حديث موضوع.

وقد تنبّأ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بما سيصيب سنتّه الشريفة ويصيب المسلمين فيما بعد على أيدي الكذّابين، ووضّاعي الحديث وأعداء الإسلام، وأخبر عن وجود من يقف في وجه هذا الخطر العظيم إذ قال: « يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد »(٢) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « إنّ فينا أهل البيت في كلِّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين »(٣) .

أليس كلّ هذا يستوجب، أن يربّي النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده من يتمتّع بالعصمة الكافية والعلم الواسع ليحفظ الدين من محاولات التحريف، ويصون الشريعة من أي خيانة ودسّ ؟

__________________

(١) راجع الغدير ٥: ٢٤٧ ـ ٢٤٩ تحت عنوان ( قائمة الموضوعات والمقلوبات ).

(٢) رجال الكشّيّ: ٥.

(٣) الكافي ١: ٢٥.

١٥١

خلاصةُ ما سبق

لقد تبين مما تقدم أنّ الإمام الذي يخلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو من يقوم مقامه في سدّ ما حدث بوفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله من فراغ هائل بل فراغات كبرى في الحياة الإسلاميّة :

فكما أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقوم إلى جانب مهمّة التبليغ للدين الإلهيّ ب‍ :

١. بيان معالم الشريعة وأحكامها حسب الحاجات المتجددة في حياة الاُمّة.

٢. شرح معاني القرآن الكريم، وتفسير آياته، وبيان مقاصده وكشف القناع عن أسراره ورموزه وأبعاده حسب اقتضاء الظروف والنفوس.

٣. هداية الاُمّة نحو التكامل الروحيّ والمعنويّ بتوحيد صفوف الاُمّة وجمع شملها، وتعاهدها بالتربية والتزكية

٤. الدفاع عن حمى الشريعة، بالرد على الشبهات، والإجابة على الأسئلة العويصة وتبديد الشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام.

٥. صيانة الدين عن محاولات الدسّ والتحريف، في مفاهيمه وشرائعه.

أقول: كما أنّ وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يملأ هذه الفراغات الهائلة، فإنّ فقدانه يوجب حدوثها، فلابدّ من إمام معصوم ليملأها كما كان النبيّ يملأها بحزمه وعلمه، وقيادته وهدايته.

فعلى الإمام ـ بما لديه من علم شامل بأبعاد الشريعة وجزئياتها ـ أن يعالج مشاكل الاُمّة المستحدثة، ويفسّر لهم الكتاب العزيز ويكشف لهم ما لم يكشف من أبعاده ووجوهه، ويعين الاُمّة على مواصلة طريق التكامل الذي بدأته بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدافع عن حمى الشريعة برد الشبهات، والإجابة الوافية على الأسئلة العويصة التي يثيرها الأعداء، بهدف احراج المسلمين وزعزعتهم عن عقيدتهم، ويصون الدين والعقيدة من أي تحريف ودسّ.

وبالتالي، يقوم بكل ما يقوم به النبيّ من قيادة وهداية، وتربية وتزكية.

١٥٢

ولمّا كانت هذه المسؤوليات لا ينهض بها إلّا الإمام اللاّئق بخلافة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله القادر على سدّ الفراغ الكبير الذي يحدثه غياب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا توجد هذه اللياقة بالتربية العاديّة المتعارفة بل لا بدّ من عناية ربانية واعداد إلهيّ.

ولمّا كانت معرفة مثل هذا الإمام اللائق المعصوم متعذرةً على الاُمّة، يتعين على الله سبحانه العارف بعباده، المحيط بهم، أن يعرّف الاُمّة بالإمام وينصبه لهم. ولا يترك الأمر إلى نظر الاُمّة ورأيها لتختار حسب ما ترى، وتشاء.

ثمّ إنّ الشيخ الرئيس ( ابن سينا ) أشار في بعض كلماته إلى فوائد تنصيب الإمام، التي ترجع إلى بعض ما ذكرنا، وإليك بعض نصوص كلماته: ( ثمّ إنّ هذا الشخص الذي هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليس ممّا يتكرر وجود مثله في كلّ وقت فإنّ المادة التي تقبل كمال مثله يقع في قليل من الأمزجة، فيجب لا محالة، أن يكون النبيّ قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في اُمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً ).

إلى أن قال ـ في الفصل الخامس ـ: ثمّ يجب أن يفرض السانّ ( أي الشارع ) طاعة من يخلفه، وأن لا يكون الاستخلاف إلّا من جهته ( أي من جهة السانِّ الشارع ) أو بإجماع من أهل السابقة على من يصححون، علانيةً، عند الجمهور أنّه مستقل بالسياسة وأنّه أصيل العقل حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة وحسن التدبير، وأنّه عارف بالشريعة حتّى لا أعرف منه تصحيحاً.

إلى أن قال: ويسنّ عليهم أنّهم إذا افترقوا وتنازعوا للهوى والميل، أو أجمعوا على غير من وجدوا الفضل فيه والاستحقاق فقد كفروا بالله.

والاستخلاف بالنصّ أصوب، فإنّ ذلك لا يؤدي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف )(١) .

__________________

(١) الشفاء ٢ ( الفن الثالث عشر في الإلهيّات ـ المقالة العاشرة الفصل الثالث والخامس ـ في المبدأ والمعاد ): ٥٥٨ و ٥٦٤ ( طبعة إيران ).

١٥٣

الطريق الثالث

٣

الخلافة عند النبيّ

والصحابة والاُمم السابقة

١. تصوّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مسألة القيادة بعده.

٢. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ.

٣. صيغة القيادة والخلافة عند الأمم السالفة.

لقد دلّت المحاسبات العقليّة والاجتماعيّة السابقة على لزوم تعين الإمام من جانب الله تعالى، وأثبتت أنّ إيكال الأمر إلى نظر إلامّة وانتخابها وتعيينها خطأ فاضح، يأباه العقل وترفضه المصالح العامّة وتعارضه المحاسبات الاجتماعيّة.

هذا ويمكن الاستدلال أيضاً على لزوم نصب الإمام من جانب الله بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم إيكال ذلك إلى رأي الاُمّة، بالأدلّة النقلية والتاريخيّة وهي تشمل :

١ / تصوّرهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مسألة القيادة من بعده.

٢ / تصوّر الصحابة عن هذه المسألة.

٣ / صيغة القيادة ـ لدى الأمم السابقة ـ وسيرتهم في ذلك بعد غيبة أنبيائهم.

وإليك فيما يلي بيان هذه الاُمور والأدلة بالتفصيل :

١٥٤

١. تصوّر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن القيادة بعده :

لا ريب أنّ من أهمّ الأدلة على لزوم نصب الإمام والقائد بعد النبيّ هو تصوّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه عن هذه المسألة، فماذا كان هذا التصوّر ؟

هل كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يعتقد بلزوم نصب الإمام والقائد من جانب الله ؟ أم كان يعتقد ترك ذلك إلى نظر الاُمّة وإرادتها وإختيارها ؟ أم كان يعتبر ذلك من شؤونه واختصاصاته على الأقل ؟

إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول الأكرم وموقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قضية القيادة بعده، تدلّ على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعتبر أمر القيادة وتعيين القائد مسألةً إلهيّةً وحقاً إلهيّاً فالله سبحانه هو الذي له أن يعين القائد وينصب الخليفة الذي يخلِّف النبيّ بعد وفاته. ولا نجد في كلّ ما نقل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ما يدل على إرجاع الأمر إلى اختيار الاُمّة ونظرها، أو إلى اراء أهل الحلّ والعقد واجتماعهم، أو غير ذلك من صور الانتخاب والتعيين غير الإلهيّ.

إنّ الأدلة والشواهد النقليّة تشهد برمتها بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر للاُمّة مراراً بأنّ تعيين الأمير من بعده أمر إلهيّ، وليس له في ذلك شيء، فلا يمكنه أن يقطع لأحد عهداً بأن يستخلفه من بعده، دون أن يأذن الله تعالى له في ذلك أو يأتيه منه سبحانه أمر ووحي.

وفيما يأتي نذكر شاهدين تأريخيين على ذلك، والشاهد الأوّل أكثر صراحة في ما ذكرناه :

١. لـمّا عرض الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه على بني عامر الذين جاؤوا إلى مكة في موسم الحجِّ ودعاهم إلى الإسلام قال له كبيرهم: ( أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ ).

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء »(١) .

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

١٥٥

٢. لما بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله سليط بن عمرو العامريّ إلى ملك اليمامة ( هوذة بن عليّ الحنفيّ ) الذي كان نصرانياً، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً، فقدم على هوذة، فأنزله وحباه وكتب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه: ( ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي، وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك ).

فقدم سليط على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بما قال هوذة، وقرأ كتابه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو سألني سيابةً من الأرض ما فعلت باد وباد ما في يده »(١) .

ونقل ابن الأثير على نحو آخر فقال: أرسل هوذة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفداً يقول له :

( إن جعل له الأمر من بعده أسلم وصار إليه ونصره، وإلاّ قصد حربه ).

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فمات بعده قليل لا ولا كرامة أللّهم اكفنيه »(٢) .

إنّ هذين النموذجين التاريخيين الذين لم تمسّهما أيدي التحريف والتغيير يدلان بوضوح كامل على تصوّر النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مسألة الخلافة والقيادة من بعده، فهما يدلاّن على أن هذه المسألة كانت إذا طرحت على النبيّ، وسئل عمّن سيخلّفه في أمر قيادة الأمّة كان يتجنب إرجاعها إلى نفسه، أو إلى نظر الاُمّة، بل يرجع أمرها إلى الله تعالى. أو يتوقّف في إبداء النظر فيه على الأقل.

على أنّ مسألة انتخاب الخليفة القائد بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لو كانت من شؤون الاُمّة وصلاحياتها وجب أن يصرح النبيّ بذلك أو يشير إلى أصل الموضوع ولو بالإجمال.

بل وجب أن يبيّن للاُمّة الطريقة الصحيحة للانتخاب، ويذكر لهم الشروط والضوابط اللازمة في الناخب، والمنتخب، لكي يتحقق هذا الأمر بوجه صحيح، بينما نجد النبيّ لا يتعرض لهذا الأمر أبداً، ولم يؤثر عنه أي نقل، وإرشاد وتعليم في هذا المجال، رغم أهميّة الموضوع وخطورته البالغة، مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد تعرّض لاُمور أسهل وأبسط

__________________

(١) طبقات ابن سعد الكبرى ١: ٢٦٢.

(٢) الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢: ١٤٦.

١٥٦

من ذلك فهل مسألة القيادة، والإدارة والإمرة ـ وخصوصاً في تلك الظروف العصيبة وبالنسبة إلى تلك الاُمّة الناشئة ـ أقلّ شأناً، وأهميّةً من المستحبّات والمكروهات التي ورد فيها الكثير الكثير من الأحاديث النبويّة ؟

* * *

٢. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ

إنّ المتتبع في تاريخ الصحابة والخلفاء والذين تعاقبوا على مسند الحكومة بعد النبيّ، يرى بوضوح أنّ الطريقة التي اتبعها أولئك الصحابة، والخلفاء كانت هي الطريقة الانتصابيّة لا الانتخابيّة الشعبيّة.

فالخليفة السابق كان يعين الخليفة اللاحق، إمّا مباشرة أو بتعيين شورى تتولى هي تعيين الخليفة والاتفاق عليه ولم يترك أحد من أولئك الخلفاء أمر القيادة إلى نظر الاُمّة وإرادتها واختيارها، أو يتكل على آراء المهاجرين والأنصار، أو أهل الحلّ والعقد ليختاروا هم ـ بمحض إرادتهم ـ من يشاؤون للخلافة والإمرة.

فمن يلاحظ تاريخ الصدر الأوّل يرى، أنّ خلافة ( عمر بن الخطاب ) تمت بتعيين من أبي بكر.

وأمّا خلافة ( عثمان بن عفان ) فتمت بواسطة شورى عيّن ( عمر بن الخطاب ) أفرادها وأمرهم بانتخاب الخليفة من بين انفسهم، ولم يترك أحد من هؤلاء أمر القيادة إلى اختيار الاُمّة.

وإليك تفصيل الأمر في كيفية استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب ويليه تفصيل لكيفية استخلاف عمر بن الخطاب لعثمان بن عفان.

أ ـ استخلاف أبي بكر لعمر

قال ابن قتيبة الدينوري في تاريخ الخلفاء: ( دعا ( أبو بكر ) عثمان بن عفان ،

١٥٧

فقال: اكتب عهدي، فكتب عثمان، وأملى عليه: ( بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها، إنّي استخلف عليكم عمر بن الخطاب فإن تروه عدل فيكم ظنّي به ورجائي فيه، وإن بدّل وغيّر فالخير أردت، ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )(١) .

ويظهر من ابن الاثير ـ في كامله ـ أنّ أبا بكر أملى على عثمان عهده، ولكنّه غشي عليه أثناء الإملاء، فأكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه، ثمّ إنّه لـمّا أفاق أبو بكر من غشيته، وافق على ما كتبه عثمان، وإليك نصّ ما كتبه ابن الأثير: ( إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خالياً ليكتب عهد عمر فقال له: اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة، أمّابعد ثم اغمي عليه فكتب عثمان: فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً.

ثمّ أفاق أبو بكر فقال: اقرأ عليّ، فقرأ عليه، فكبّر أبو بكر، وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي )(٢) .

قال عثمان: نعم.

قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.

فلمّا كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس فجمعهم، وأرسل الكتاب مع مولىً له مع ( عمر ) وكان عمر يقول للناس: انصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله إنّه لم يألكم نصحاً.

فسكت الناس فلمّا قرأ عليهم الكتاب سمعوا له وأطاعوا(٣) .

__________________

(١) الإمامة والسياسة للدينوريّ المتوفّي ( ٢٦٢ ه‍ ): ١٨ ( طبعة مصر ).

(٢) هل يمكن أن يلتفت الخليفة إلى الخطر الكامن في ترك الأمّة دون خليفة يستخلفها عليهم ولا يلتفت إليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

(٣) الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢: ٢٩٢ وطبقات ابن سعد الكبرى ٣: ٢٠٠ ( طبعة بيروت ).

١٥٨

وقد نقل موضوع استخلاف ( أبي بكر ) ل ( عمر ) عدة من أعلام التأريخ والحديث بهذين النحوين من النقل.

ب ـ استخلاف عثمان

وأمّا قصة استخلاف عثمان فهي كالآتي، كما نقلها وأثبتها كتّاب التأريخ وأعلام السيرة :

قال ابن قتيبة الدينوريّ في كتابه الإمامة والسياسة: ( قال عمر: ساستخلف النفر الذين توفيّ رسول الله وهو عنهم راض

فأرسل إليهم فجمعهم، وهم عليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن عوّام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمان بن عوف وكان طلحة غائباً فقال :

يا معشر المهاجرين الأولين: إنّي نظرت في أمر الناس، فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم، فتشاوروا ثلاثة أيام، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك، وإلاّ فأعزم عليكم بالله أن لا تتفرقوا من اليوم الثالث حتّى تستخلفوا أحدكم )(١) .

وكتب ابن الأثير في كامله: ( انّ عمر بن الخطاب لـمّا طعن قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت ؟ فقال: من استخلف ؟ لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ولو كان سالم مولى حذيفة حياً لاستخلفته

فقال رجل: أدلّك عليه ؟ عبد الله بن عمر، فقال ( عمر ): قاتلك الله كيف استخلف من عجز عن طلاق امرأته الى أن قال :

عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنهّم من أهل الجنّة وهم عليّ

__________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوريّ المتوفّي عام ( ٢٦٢ ه‍ ): ٢٣.

١٥٩

وعثمان وعبد الرحمان وسعد والزبير بن عوّام وطلحة بن عبد الله.

فلمّا أصبح عمر، دعا عليّاً وعثمان وسعداً وعبد الرحمان والزبير، فقال لهم :

إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلّا فيكم. وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض. فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها، واختاروا منكم رجلاً، فإذا متّ فتشاوروا ثلاثة أيّام، وليصلّ بالناس صهيب، ولا يأتي اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير ».

فاجتمع هؤلاء الرهط في بيت حتّى يختاروا رجلاً منهم.

قال لصهيب: « صلِّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا، فحكّموا عبد الله بن عمر فان لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس )(١) .

وممّا يدلّ على أنّ هذا الموقف والرأي لم يكن موقف الصحابة ورأيهم خاصّة في مسألة الاستخلاف والقيادة بل إنّ الرأي العام في ذلك العهد كان يعتقد ضرورة استخلاف القائد والحاكم، وعدم ترك الأمر إلى نظر الناس وإرادتهم وانتخابهم، نظريات لطائفة من الشخصيّات نذكر بعضها فيما يأتي :

١. نقل أنّ عمر بن الخطاب لـمّا أحس بالموت قال لابنه [ عبد الله ]: ( اذهب إلى عائشة واقراها مني السلام، واستأذن منها أن أقبر في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر.

فأتاها عبد الله بن عمر فأعلمها فقال: ( نعم وكرامة ).

ثمّ قالت: ( يا بنيّ أبلغ عمر سلامي فقل له: لا تدع أمّة محمّد بلا راع استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فإنّي أخشى عليهم الفتنة )(٢) . فأتى عبد الله

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣: ٣٥.

(٢) وهل يمكن أن تلتفت أمّ المؤمنين إلى هذه النكتة ولا يلتفت إليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420