دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق9%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213699 / تحميل: 4803
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٦-x
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وقال الفضل(١) :

قد عرفت أنّ خالق الشيء غير فاعله ومباشره(٢) ، فالفعل تارة يطلق ويراد به : الخلق ، كما يقال : الله تعالى فاعل كلّ شيء ، وقد يطلق ويراد به :

المباشرة والاعتمال.

وعلى التقديرين فإنّ الخالق للشيء لا يكون موصوفا بذلك الشيء الذي خلقه ، وإن كان المخلوق من جملة الصفات كما قدّمنا(٣) .

فمن خلق الظلم لا يقال : إنّه ظالم.

وقد ذكرنا أنّه لم يفرّق بين هذين المعنيين(٤) ، ولو فرّق لم يستدلّ بأمثال هذا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٨٠.

(٢) انظر الصفحتين ٩٣ و ١٧٣ من هذا الجزء.

(٣) تقدّم في الصفحتين ١٦٥ و ٢٢٠ من هذا الجزء.

(٤) راجع الصفحة ١٤٩ من هذا الجزء.

٢٤١

وأقول :

إذا أقرّ بإطلاق الفعل على الخلق ، وأنّه يقال : فاعل كلّ شيء ، ويراد خالقه ، فقد صارا مترادفين ، وبطل قوله : إنّ خالق الشيء غير فاعله.

ولو سلّم فلا يرتفع الإشكال بمجرّد هذا الاصطلاح ، إذ يكفينا أن نقول : إنّ من أوجد الظلم والفساد يسمّى ظالما مفسدا لغة وعرفا ، فيلزمهم الإشكال.

وأمّا قوله : « وعلى التقديرين ، فإنّ الخالق للشيء لا يكون موصوفا بذلك الشيء »

فغلط ظاهر ، ضرورة أنّ أكثر صفات الله سبحانه من أفعاله ، كالعادل والرحمن والهادي والمحيي والمميت ونحوها ، بل صفات الذات أيضا من مخلوقاته بزعمهم ؛ لأنّها مغايرة له وصادرة عنه بالإيجاب.

ثمّ إنّ مراد المصنّفرحمه‌الله ب‍ « الآخر » في قوله : « ولهذا لا يصحّ إثبات أحدها إلّا حال نفي الآخر » هو الآخر الضدّ ، لا مطلقا.

وحينئذ فلو ثبت الظلم لأحد لم يصحّ إثبات العدل له في مورد ثبوت الظلم له ، فلا يصحّ وصف الله سبحانه بالعادل حال خلقه للظلم وثبوته له ، وهو كفر آخر.

* * *

٢٤٢

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم منه المحال ؛ لأنّه لو كان هو الخالق للأفعال ، فإمّا أن يتوقّف خلقه لها على قدرتنا ودواعينا ، أو لا ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل : فلأنّه يلزم منه عجزه سبحانه عمّا يقدر عليه العبد ، ولأنّه يستلزم خلاف المذهب ، وهو وقوع الفعل منه والداعي من العبد ، إذ لو كان من الله تعالى لكان الجميع من عنده ، ولأنّه القدرة والداعي إن أثّرا فهو المطلوب ، وإلّا كان وجودهما كوجود لون الإنسان وطوله وقصره.

ومن المعلوم بالضرورة أنّه لا مدخل للّون والطول والقصر في الأفعال ، وإذا كان هذا الفعل صادرا عنه جاز وقوع جميع الأفعال المنسوبة إلينا منّا.

وأمّا الثاني : فلأنّه يلزم منه أن يكون الله تعالى أوجد ـ أي خلق ـ تلك الأفعال من دون قدرتهم ودواعيهم ، حتّى توجد الكتابة والنساجة المحكمتان ممّن لا يكون عالما بهما ، ووقوع الكتابة ممّن لا يد له ولا قلم ، ووقوع شرب الماء من الجائع في الغاية ، الريّان في الغاية ، مع تمكّنه من الأكل.

ويلزم تجويز أن تنقل النملة الجبال ، وأن لا يقوى الرجل الشديد القوّة على رفع تبنة ، وأن يجوز من الممنوع المقيّد العدو ، وأن يعجز القادر

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٨.

٢٤٣

الصحيح عن تحريك الأنملة(١) .

وفي هذا زوال الفرق بين القوي والضعيف ، ومن المعلوم بالضرورة الفرق بين الزّمن والصحيح.

* * *

__________________

(١) الأنملة ـ بالفتح ـ : المفصل الأعلى الذي فيه الظفر من الإصبع ؛ انظر لسان العرب ١٤ / ٢٩٥ مادّة « نمل ».

٢٤٤

وقال الفضل(١) :

نختار القسم الثاني ، وهو أنّ خلقه تعالى لأفعالنا لا يتوقّف على دواعينا وقدرتنا ، وما ذكره من لزوم وجدان الكتابة بدون اليد وغيره من المحالات العادية ، فهي استبعادات ، والاستبعاد لا يقدح في الجواز العقلي.

نعم ، عادة الله جرت على إحداث الكتابة عند حصول اليد والقلم ، وإن أمكن حصوله وجاز حدوثه عقلا بدون اليد والقلم ، ولكن هو من المحالات العادية كما مرّ غير مرّة(٢) .

وما ذكر أنّه يلزم أن تكون القدرة والداعي إذا لم يكونا مؤثّرين في الفعل ، كاللون والطول والقصر بالنسبة إلى الأفعال ، فهو ممنوع

للفرق بأنّ الفعل يقع عقيب وجود القدرة ، كالإحراق الذي يقع عقيب مساس النار عادة ، ولا يقال لا فرق بالنسبة إلى الإحراق بين النار وغيرها ، إذ لا تجري العادة بحدوث الإحراق عقيب مساس الماء.

فكذلك لم تجر عادة الله تعالى بإحداث الفعل عقيب وجود اللون ، بل عقيب حصول القدرة والداعي مع أنّهما غير مؤثّرين.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٨٢.

(٢) راجع الصفحة ٢١٤ من هذا الجزء.

٢٤٥

وأقول :

لا يخفى أنّ مقصود المصنّف هو : إنّه يلزم انتفاء الفرق في صحّة نسبة الكتابة إلى ذي اليد أو مقطوعها ؛ لأنّ المفروض عدم دخل القدرة وآلاتها في وجود الأفعال ، وذلك باطل بالضرورة.

وكذا الكلام في تأثير الداعي ، وليس المقصود امتناع حصول الكتابة مثلا بدون الآلات ، فإنّه لا ينكر إمكانه ، بل وقوعه في اللوح وغيره.

وأمّا ما ذكره من الفرق بين القدرة والداعي ، وبين اللون والطول والقصر بجريان العادة ، فليس في محلّه ؛ لأنّ المصنّفرحمه‌الله أراد لزوم عدم الفرق في عدم المدخلية والتأثير ، لا لزوم عدم الفرق أصلا ، وإلّا فالفروق كثيرة.

ولا ريب أنّ عدم الفرق بعدم المدخلية والتأثير خلاف الضرورة ، فإنّ كلّ عاقل يدرك مدخلية القدرة والداعي في الفعل وتأثيرهما فيه ، دون اللون والطول والقصر.

* * *

٢٤٦

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : تجويز أن يكون الله تعالى جاهلا أو محتاجا ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ؛ لأنّ في الشاهد فاعل القبيح إمّا جاهل ، أو محتاج ، مع إنّه ليس عندهم فاعلا في الحقيقة ، فلأن يكون كذلك في الغائب ـ الذي هو الفاعل في الحقيقة ـ أولى.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٩.

٢٤٧

وقال الفضل(١) :

قد مرّ أنّ الخالق غير الفاعل ، بمعنى الكاسب والمباشر(٢) ، وخالق القبيح لا يلزم أن يكون جاهلا أو محتاجا ، حيث لا قبيح بالنسبة إليه ، كما في خلقه لما هو قبيح بالنسبة إلى المخلوق ، فلا يلزم منه جهل ولا احتياج.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٨٣.

(٢) انظر الصفحتين ٩٣ و ١٧٣ من هذا الجزء.

٢٤٨

وأقول :

ضرورة العقلاء قاضية بأنّ خلق القبيح وإيجاده أولى بالقبح من كسبه ، بمعنى محلّيّة المحلّ له بلا تأثير ، بل لا معنى لنسبة قبح الفعل الاختياري إلى غير المؤثّر.

فلا محالة يلزم من خلق القبيح أحد الأمرين : الجهل ، والاحتياج ، ولا عبرة بالسفسطات.

* * *

٢٤٩

قال المصنّف ـ رفع الله منزلته ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم منه الظلم ؛ لأنّ الفعل إمّا أن يقع من العبد لا غير

أو من الله تعالى

أو منهما بالشركة ، بحيث لا يمكن تفرّد كلّ منهما بالفعل ، أو لا من واحد منهما

والأوّل : هو المطلوب.

والثاني : يلزم منه الظلم ، حيث فعل الكفر وعذّب من لا أثر له فيه ألبتّة ، ولا قدرة موجدة له ، ولا مدخل له في الإيجاد ، وهو أبلغ أنواع الظلم.

والثالث : يلزم منه الظلم ؛ لأنّه شريك في الفعل ، وكيف يعذّب شريكه على فعل فعله هو وإيّاه؟!

وكيف يبرّئ نفسه من المؤاخذة مع قدرته وسلطنته ، ويؤاخذ عبده الضعيف على فعل فعل هو مثله؟!

وأيضا : يلزم منه تعجيز الله تعالى ، إذ لا يتمكّن من الفعل بتمامه ، بل يحتاج إلى الاستعانة بالعبد.

وأيضا : يلزم المطلوب ، وهو أن يكون للعبد تأثير في الفعل ، وإذا جاز استناد أثر ما إليه ، جاز استناد الجميع إليه.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٩.

٢٥٠

فأيّ ضرورة تحوج إلى التزام هذه المحالات؟!

فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النقائص التي نزّه الله تعالى نفسه عنها وتبرّأ منها!

* * *

٢٥١

وقال الفضل(١) :

نختار أنّ الفعل ـ بمعنى الخلق ـ يصدر من الله تعالى ، والعبد كاسب للفعل ، مباشر له ، ولا تأثير لقدرته في الفعل.

قوله : « يلزم منه الظلم ».

قلنا : قد سبق أنّ الظلم لا يلزم أصلا ؛ لأنّه يتصرّف في ما هو ملك له ، والتصرّف في الملك كيف شاء المالك لا يسمّى ظلما ، ثمّ إنّ تعذيب العاصي بواسطة كونه محلّا للفعل الموجب للعذاب(٢) .

وأمّا قوله : « فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النقائص ».

فنقول : أنا أخبره بالذي دعاهم إلى تخصيص الخلق بالله تعالى ، وهو الهرب والفرار من الشرك الصريح الذي لزم المخالفين ممّن يدّعون أنّ العبد خالق مثل الربّ ، وهذا فيه خطر الشرك ، وهم يهربون من الشرك!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٨٤.

(٢) انظر الصفحتين ٩٣ و ٢٣٠ من هذا الجزء.

٢٥٢

وأقول :

لا يمكن أن يكون مجرّد الملك مصحّحا لعذاب من لا ذنب له ؛ لما سبق من أنّه ليس من أحكام الملكيّة جواز إضرار المالك بملكه الحسّاس ، بلا جرم منه ، ولا فائدة له ، بل هو مناف لمقتضى الملكيّة من رعاية المملوك وحمايته عمّا يضرّه(١) .

وأمّا ما أخبر به من الأمر الداعي لأصحابه ، فلو صدق فيه ، فلم أثبتوا لأنفسهم قدرة وإرادة وغيرهما من الصفات الزائدة بزعمهم على الذات ، وأثبتوا لأنفسهم أيضا ملكيّة؟!

وادّعوا مشاركة الله سبحانه في الكلّ! والحال أنّ المشاركة فيها أعظم من المشاركة في الفعل ، بل لو كان الشرك مطلقا باطلا لم تصحّ مشاركة الله تعالى في الوجود والشيئية ، وفي ثبوت الهوية.

فالحقّ ـ كما سبق ـ أنّ المشاركة في ما لا نقص به على الله سبحانه من الأمور التي لا توجب الإلهية ، ولا المعارضة ، أو المماثلة له ، جائزة وواقعة ، كما في محلّ النزاع.

وكيف يكون فيها نقص؟! وهي من مظاهر القدرة الربّانيّة ، ودلائل النزاهة ، حيث جعل قدرة العبيد الفعّالة دليلا على قدرته العظمى ، وطريقا إلى نزاهته عن أفعالهم القبيحة!

نعم ، أنا أخبره أنّ الذي دعاهم إلى الالتزام بذلك وسلوك أسوأ

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٩٥ من هذا الجزء.

٢٥٣

المسالك ، هو التعصّب للأسلاف ، والاقتداء بآثار الآباء.

ومن المضحك أنّه في مقام إنكار تأثير العبيد يثبت التأثير لهم فيقول :

« أنا أخبره بالذي دعاهم » فأشرك بمذهبه ، وأساء باعتقاده إلى ربّه!

وما زال يعاقب المصنّف عقاب الفاعلين للفاعلين المؤثّرين!

أعاذنا الله من مخالفة العمل للقول ، والتعرّض لسخطه ، إنّه أرحم الراحمين.

* * *

٢٥٤

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم مخالفة القرآن العظيم والسنّة المتواترة والإجماع وأدلّة العقل.

* أمّا الكتاب فإنّه مملوء من إسناد الأفعال إلى العبيد ، وقد تقدّم بعضها(٢) .

وكيف يقول الله تعالى :( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٣) ولا خالق سواه؟!

ويقول :( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) (٤) ولا تحقّق لهذا الشخص ألبتّة؟!

ويقول :( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) (٥)

( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (٦)

( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (٧)

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٠.

(٢) تقدّم في الصفحة ١٥٢ ـ ١٥٣ من هذا الجزء.

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

(٤) سورة طه ٢٠ : ٨٢.

(٥) سورة فصّلت ٤١ : ٤٦ ، سورة الجاثية ٤٥ : ١٥.

(٦) سورة النجم ٥٣ : ٣١.

(٧) سورة الكهف ١٨ : ٧.

٢٥٥

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (١)

( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (٢) ولا وجود لهؤلاء؟!

ثمّ كيف يأمر وينهى ولا فاعل؟! وهل هو إلّا كأمر الجماد ونهيه؟!

* وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إعملوا ، فكلّ ميسّر لما خلق له »(٣)

«نيّة المؤمن (٤) خير من عمله »(٥)

«إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى »(٦)

* والإجماع دلّ على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى ، فلو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب الرضا به ، والرضا بالكفر حرام بالإجماع.

فعلمنا أنّ الكفر ليس من فعله تعالى ، فلا يكون من خلقه.

* * *

__________________

(١) سورة الجاثية ٤٥ : ٢١.

(٢) سورة ص ٣٨ : ٢٨.

(٣) صحيح البخاري ٦ / ٢٩٨ ح ٤٤٦ وج ٩ / ٢٨٤ ح ١٧٦ ، صحيح مسلم ٨ / ٤٧ ، سنن أبي داود ٤ / ٢٢٨ ح ٤٧٠٩ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٠ ح ٧٨ ، سنن الترمذي ٤ / ٣٨٨ ح ٢١٣٦ ، مسند أحمد ١ / ٨٢ ، التوحيد ـ للصدوق ـ : ٣٥٦ ح ٣ ، مجمع البحرين ـ للطريحي ـ ٣ / ٥٢١ مادّة « يسر ».

(٤) كان في الأصل : « المرء » ، وهو تصحيف ، والمثبت من المصادر.

(٥) تقدّم تخريجه في الصفحة ١٢٣ ه‍ ٥ ، فراجع.

(٦) تقدّم تخريجه في الصفحة ١٢٣ ه‍ ٤ ، فراجع.

٢٥٦

وقال الفضل(١) :

قد عرفت في ما سبق أجوبة كلّ ما استدلّ به من آيات الكتاب العزيز(٢) .

ثمّ إنّ كلّ تلك الآيات معارضة بالآيات الدالّة على أنّ جميع الأفعال بقضاء الله وقدره وإيجاده وخلقه ، نحو :

( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (٣) أي عملكم

و( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (٤) وعمل العبد شيء

( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) (٥) وهو يريد الإيمان إجماعا ، فيكون فعّالا له ، وكذا الكفر ، إذ لا قائل بالفصل.

وأيضا : تلك الآيات معارضة بالآيات المصرّحة بالهداية والضلال والختم ، نحو :

( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) (٦)

و( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ) (٧) وهي محمولة على حقائقها كما هو الظاهر منها.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٨٦.

(٢) انظر الصفحة ١٥٤ من هذا الجزء.

(٣) سورة الصافّات ٣٧ : ٩٦.

(٤) سورة الزمر ٣٩ : ٦٢.

(٥) سورة هود ١١ : ١٠٧.

(٦) سورة البقرة ٢ : ٢٦.

(٧) سورة البقرة ٢ : ٧.

٢٥٧

وأنت تعلم أنّ الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها ، خصوصا في المسائل العقلية ، ووجب الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقلية القطعية.

وقد ذكرنا في ما سلف من الكلام ما يغني في إثبات المقصد.

وأمّا ما استدلّ به على تعدّد الخالقين من قوله تعالى :( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١) ، فالمراد بالخالقين هناك : ما يدّعي الكافرون من الأصنام.

فكأنّه يقول : تبارك الله الذي هو أحسن من أصنامكم الّذين تجعلونهم الخالقين المقدّرين بزعمكم ، فإنّهم لا يقدرون على شيء ، والله يخلق مثل هذا الخلق البديع المعجب.

أو المراد من الخالقين : المقدّرين للخلق ، كالمصوّرين ، لا أنّه تعالى أثبت لنفسه شركاء في الخلق.

ولكنّ المعتزلة ومن تابعهم يناسب حالهم ما قال الله تعالى :( وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

(٢) سورة الزمر ٣٩ : ٤٥.

٢٥٨

وأقول :

قد ظهر ممّا سبق أنّ أجوبته لا تصلح أن توسم باسم الجواب(١) ، ودعواه هنا المعارضة بالآيات الأخر باطلة.

أمّا قوله تعالى :( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (٢) ، فقد عرفت في أوّل المطلب الأوّل أنّ المراد به السماوات والأرض ، وما فيهما من الأجسام والأعراض والأجرام ، لا ما يشمل أفعال العباد ، فراجع(٣) .

وأمّا قوله تعالى :( أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (٤) فالمراد فيه ب‍ ( ما يعملون ) هو : ما ينحتونه من الأصنام لا عملهم(٥) ، إذ لا معنى للإنكار على عبادتهم لما ينحتون بحجّة أنّه خلقهم وأعمالهم التي منها عبادتهم التي أنكر عليها!

وأمّا قوله تعالى :( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) ، فالظاهر أنّ معناه أنّه تعالى فعّال لما يريد فعله وتكوينه.

ومن أوّل الدعوى أنّه يريد تكوين الإيمان ، وإنّما يريده تكليفا وتشريعا.

وأمّا المعارضة بالآيات الواردة في الهداية والإضلال والختم ، فمبنيّة

__________________

(١) انظر الصفحة ١٥٦ من هذا الجزء.

(٢) سورة الرعد ١٣ : ٦١ ، سورة الزمر ٣٩. ٦٢ ، سورة غافر ٤٠ : ٦٢.

(٣) راجع ج ٢ / ٣٤٣.

(٤) سورة الصافّات ٣٧ : ٩٥ و ٩٦.

(٥) انظر : تفسير الماوردي ٥ / ٥٨ ، الكشّاف ٣ / ٣٤٥ ، مجمع البيان ٨ / ٢٨١.

تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٥١.

٢٥٩

على أنّ المراد بالهداية والإضلال : خلق الهدى والضلال ، وهو ممنوع ؛ بل المراد بالهداية أحد أمور :

الأوّل : الدلالة والإرشاد ، كما في قوله تعالى : إنّا( هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (١) ( إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) (٢) .

وقوله تعالى :( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) (٣)

وقوله تعالى :( إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٤) .

.. إلى غيرها من الآيات الكثيرة.

الثاني : الإثابة والإنعام ، كما في قوله تعالى :( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ) (٥) .

فإنّ المراد هنا بالهداية : الإثابة ؛ لوقوعها بعد القتل والموت ، كما إنّ المراد هنا بالإضلال : إبطال أعمالهم.

ومثلها في إرادة الإثابة قوله تعالى :( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (٦) .

الثالث : التوفيق وزيادة الألطاف ، كما في قوله تعالى :( مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) (٧) ، ونقيضه الإضلال بأن يكلهم إلى أنفسهم ، ويمنعهم زيادة

__________________

(١) سورة البلد ٩٠ : ١٠.

(٢) سورة الإنسان ٧٦ : ٣ ، وتمام الآية :( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) .

(٣) سورة فصّلت ٤١ : ١٧.

(٤) سورة الشورى ٤٢ : ٥٢.

(٥) سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ٤٧ : ٤ و ٥.

(٦) سورة يونس ١٠ : ٩.

(٧) سورة الإسراء ١٧ : ٩٧.

٢٦٠

الألطاف.

ويحتمل أن يراد هذا المعنى من الآية التي ذكرها الخصم.

الرابع : التيسير والتسهيل ، وبالإضلال تشديد الامتحان ، ولعلّ منه هذه الآية ، فإنّه سبحانه يضرب الأمثال المذكورة في الآية امتحانا ، فتسهل عند قوم ، وتشتدّ عند آخرين ، هذا كلّه في الهداية والإضلال.

وأمّا الختم المذكور في قوله تعالى :( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) (١) .

فالمراد به : التشبيه ، ضرورة عدم الختم حقيقة على سمعهم ، وعدم الغشاوة على أبصارهم ، فكذا على قلوبهم.

والمعنى : إنّ الكفر تمكّن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها ، وصاروا كمن لا يعقل ، ولا يسمع ، ولا يبصر ، كما قال تعالى :( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (٢) .

ويحتمل(٣) أن يكون الختم كناية عن ضيق قلوبهم عن النظر إلى الدلائل ، وعدم انشراح صدورهم للإسلام ، وإنّما نسبه إلى الله تعالى على الوجهين لخذلانه سبحانه لهم ، وعدم رعايته لهم بمزيد الألطاف ، لكثرة ذنوبهم ، وتتابع مناوأتهم للحقّ ، ولكن لا تزول به القدرة والاختيار ، ولذا قال سبحانه في آية أخرى :( بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٤) .

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٧.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٧١.

(٣) في مطبوعة طهران : ولا يحتمل.

(٤) سورة النساء ٤ : ١٥٥.

٢٦١

فاستثنى القليل وأثبت لهم الإيمان بعدما طبع على قلوبهم ؛ لأنّ لهم أفعالا حسنة تجرّهم إلى الإيمان والسعادة.

ويحتمل أن يريد :( فَلا يُؤْمِنُونَ )

إلّا إيمانا قليلا لعدم تصديقهم بكلّ ما يلزم التصديق به.

وأمّا تأويله لقوله تعالى :( أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١) فتأويل بعيد ؛ لأنّ ظاهرها أنّه أحسن الخالقين الفاعلين حقيقة ، كعيسى المذكور بقوله تعالى :

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ) (٢) لا الخالقين بالزعم والتقدير ، بل لا يصحّ أوّل التأويلين ؛ لأنّ عبدة الأصنام لا يزعمون أنّها خالقة ، بل يرونها مقرّبة إلى الله تعالى.

وأمّا الآية التي ادّعى مناسبتها لحال العدليّة ، فخطأ ؛ لأنّ مذهبهم لا يناسب الإشراك كما عرفت(٣) ، وإنّما يناسبه مذهب من يدّعي تعدّد القدماء وتركّب الإلهية ، ويرون أنفسهم شركاء لله تعالى في صفاته الذاتية ؛ لأنّ صفاتهم كصفاته زائدة على الذات(٤) !

* * *

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

(٢) سورة المائدة ٥ : ١١٠.

(٣) تقدّم في ج ٢ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٤) راجع ردّ الفضل في ج ٢ / ١٧٥.

٢٦٢

الجواب عن شبه المجبّرة

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب الحادي عشر

في نسخ شبههم

إعلم أنّ الأشاعرة احتجّوا على مقالتهم بوجهين ، هما أقوى الوجوه عندهم ، يلزم منهما الخروج عن العقيدة!

ونحن نذكر ما قالوا ، ونبيّن دلالتهما على ما هو معلوم البطلان بالضرورة من دين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

الأوّل : قالوا : لو كان العبد فاعلا لشيء ما بالقدرة والاختيار ، فإمّا أن يتمكّن من تركه أو لا

والثاني : يلزم منه الجبر ؛ لأنّ الفاعل الذي لا يتمكّن من ترك ما يفعله موجب لا مختار ، كما يصدر عن النار الإحراق ولا تتمكّن من تركه.

والأوّل إمّا أن يترجّح الفعل حالة الإيجاد ، أو لا والثاني ؛ يلزم منه ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجّح ؛ لأنّهما لمّا استويا من كلّ وجه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، وبالنسبة إلى القادر الموجد ، كان ترجيح القادر للفعل على الترك ترجيحا للمساوي بغير مرجّح ، وإن ترجّح ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢١.

٢٦٣

فإن لم ينته إلى حدّ الوجوب ، أمكن حصول المرجوح مع تحقّق الرجحان ، وهو محال.

أمّا أوّلا ؛ فلامتناع وقوعه حالة التساوي ، فحالة المرجوحية أولى.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّه مع قيد الرجحان يمكن وقوع المرجوح ، فلنفرضه واقعا في وقت ، والراجح في آخر ، فترجيح أحد الوقتين بأحد الأمرين لا بدّ له من مرجّح غير المرجّح الأوّل ، وإلّا لزم ترجيح أحد المتساويين بغير مرجّح ، فينتهي إلى حدّ الوجوب ، وإلّا تسلسل.

وإذا امتنع وقوع الأثر إلّا مع الوجوب ـ والواجب غير مقدور ، ونقيضه ممتنع غير مقدور أيضا ـ فيلزم الجبر والإيجاب ، فلا يكون العبد مختارا(١) .

الثاني : إنّ كلّ ما يقع فإنّ الله تعالى قد علم وقوعه قبل وقوعه ، وكلّ ما لم يقع فإنّ الله قد علم في الأزل عدم وقوعه.

وما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع ، وإلّا لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا ، وهو محال.

وما علم عدم وقوعه فهو ممتنع ، إذ لو وقع انقلب علم الله تعالى جهلا ، وهو محال أيضا ، والواجب والممتنع غير مقدورين للعبد ، فيلزم الجبر(٢) .

* * *

__________________

(١) المطالب العالية من العلم الإلهي ٨ / ١١ ـ ١٢ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨١ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢١ ، المواقف : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٩ ـ ١٥١.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٨ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٨ / ١٨ ، المواقف : ٣١٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٣١ ، شرح المواقف ٨ / ١٥٥.

٢٦٤

وقال الفضل (١) :

أوّل ما ذكره من الدليلين للأشاعرة قد استدلّ به أهل المذهب ، وهو دليل صحيح بجميع مقدّماته كما ستراه واضحا إن شاء الله تعالى.

وأمّا الثاني ممّا ذكره من الدليلين فقد ذكره الإمام الرازي على سبيل النقض(٢) ، وليس هو من دلائل الأئمّة الأشاعرة ، وقد ذكر الإمام هذا النقض في شبهة فائدة التكليف والبعثة بهذا التقرير.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكروه في لزوم سقوط التكليف ، إن لزم القائل بعدم استقلال العبد في أفعاله ، فهو لازم لهم أيضا لوجوه :

الأوّل : إنّ ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد ، وإلّا جاز انقلاب العلم جهلا.

وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلّا جاز الانقلاب.

ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته ، لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال ، فقد لزمكم في مسألة علم الله

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩١.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٨ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٨ / ١٨.

٢٦٥

تعالى بالأشياء.

قال الإمام الرازي : « ولو اجتمع جميع العقلاء لم يقدروا أن يوردوا على هذا الوجه حرفا »(١) .

وقد أجابه شارح « المواقف » كما سيرد عليك(٢) .

* * *

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٨.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

٢٦٦

وأقول :

ما نقله عن الرازي من النقض به لا ينافي الاستدلال به ، فإنّه إن تمّ دلّ على أنّ أفعال العباد جبرية ليست من آثار قدرتهم.

وقد صرّح القوشجي بأنّ الأشاعرة استدلّوا به ، كما ذكره في بحث العلم من الأعراض(١) ، عند قول نصير الدين1 في « التجريد » : « وهو تابع بمعنى أصالة موازنة في التطابق »(٢) .

والظاهر أنّ الخصم إنّما فرّ من تسميته دليلا ليكون فساده أهون على نفسه!

* * *

__________________

(١) شرح التجريد : ٣٣٥.

وقد جاء مؤدّاه في : الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، تبصرة الأدلّة في أصول الدين ٢ / ٦٢٤.

وكذا جاء مؤدّاه في : المواقف وشرحها وشرح المقاصد كما مرّ آنفا في الصفحة ٢٦٤.

(٢) تجريد الاعتقاد : ١٧١.

٢٦٧

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ (١) :

والجواب عن الوجهين من حيث النقض ومن حيث المعارضة

أمّا النقض ، ففي الأوّل من وجوه :

الأوّل ـ وهو الحقّ ـ : إنّ الوجوب من حيث الداعي والإرادة ، لا ينافي الإمكان في نفس الأمر ، ولا يستلزم الإيجاب وخروج القادر عن قدرته وعدم وقوع الفعل بها.

فإنّا نقول : الفعل مقدور للعبد ، يمكن وجوده منه ، ويمكن عدمه ، فإذا خلص الداعي إلى إيجاده ، وحصلت الشرائط ، وارتفعت الموانع ، وعلم القادر خلوص المصالح الحاصلة من الفعل عن شوائب المفسدة ألبتّة ، وجب من هذه الحيثية إيجاد الفعل.

ولا يكون ذلك جبرا ولا إيجابا بالنسبة إلى القدرة والفعل لا غير.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٢.

٢٦٨

وقال الفضل (١) :

هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار ، ومرادنا نفي الاختيار ، سواء كان ممكنا في نفس الأمر أو لا.

وكلّ من لا يتمكّن من الفعل وتركه فهو غير قادر ، سواء كان منشأ عدم تمكّنه عدم الإمكان الذاتي لفعله ، أو عدم حصول الشرائط ووجود الموانع ، فما ذكره ليس بصحيح.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩٤.

٢٦٩

وأقول :

لمّا زعم الأشاعرة في أوّل الدليلين أنّ العبد إمّا أن يتمكّن من ترك ما فعله أو لا ، فإن لم يتمكّن كان موجبا لا مختارا ، ويلزم الجبر ، أجاب المصنّفرحمه‌الله : « إنّا نختار أنّه لا يتمكّن ».

قولكم : « كان موجبا لا مختارا ».

قلنا : ممنوع ؛ لأنّ عدم التمكّن من الترك إنّما هو بسبب اختيار الفعل وتمام علّته ، فلا ينفي كونه مختارا ، ولا ينافي إمكان الفعل في نفسه وتأثير قدرة العبد فيه.

وهذا معنى ما يقال : « الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ».

وأورد عليه الخصم بأنّ هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار ، ومرادنا نفي الاختيار ، وهو كلام لا محصّل له.

ولعلّه يريد أنّا ندّعي أنّ الفعل اضطراري غير اختياري ، لعدم التمكّن من تركه بعد الاختيار والإرادة المؤثّرة ، وإن لم يصر فاعله بذلك موجبا.

وفيه ـ مع أنّ دليل الأشاعرة صريح في لزوم كون الفاعل موجبا ـ يشكل بأنّ عدم التمكّن من الترك بعد الإرادة المؤثّرة لا ينفي حدوثه بالاختيار ، ولا ينافي كونه مقدورا بالذات ، وغاية ما يثبت أنّ الفعل بعد الإرادة التامّة يصير واجبا بالغير ، لا واجبا بالذات ، ولا صادرا بالجبر.

وأمّا ما زعمه من أنّ من لم يتمكّن من الفعل لعدم حصول شرائطه غير قادر عليه ، فهو ممّا لا دخل له بمطلوب الأشاعرة من أنّ الفعل الواقع

٢٧٠

من العبد مجبور عليه!

على أنّ انتفاء شرائط الفعل لا ينفي القدرة عليه ما دامت الشرائط ممكنة.

ولست أعرف كيف بنى الخصم أنّه أجاب عن كلام المصنّف ، مع إنّه سيذكر معنى كلام المصنّف بلفظ شرح « المواقف » ويبني عليه ، ولعلّ الفرق أنّه وجده في الشرح فاعتبره من غير تمييز!

* * *

٢٧١

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

الثاني : يجوز أن يترجّح الفعل ، فيوجده المؤثّر ، أو العدم فيعدمه ، ولا ينتهي الرجحان إلى الوجوب على ما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين(٢) ، فلا يلزم الجبر ولا الترجيح من غير مرجّح.

قوله : « مع ذلك الرجحان لا يمتنع النقيض ، فليفرض واقعا في وقت ، فترجيح الفعل وقت وجوده يفتقر إلى مرجّح آخر ».

قلنا : ممنوع ؛ بل الرجحان الأوّل كاف ، فلا يفتقر إلى رجحان آخر.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٢.

(٢) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ١ / ١٠٧ ـ ١٠٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢٩ ، شرح المقاصد ١ / ٤٨١ ـ ٤٨٢.

٢٧٢

وقال الفضل (١) :

لا يصحّ أن يكون المرجّح في وقت ترجيح الفعل هو المرجّح الأوّل ، ولا بدّ أن يكون هذا المرجّح غير المرجّح الأوّل ؛ لأنّ هذا المرجّح موجود عند وقوع الفعل مثلا في وقت وقوعه ، ولهذا ترجّح الفعل.

فلو كان هذا المرجّح موجودا عند عدم الفعل ، ولم يترجّح به الفعل ، فلا يكون مرجّحا ، وإذا ترجّح به الفعل فيكون حكم الوقتين مساويا.

ويلزم خلاف المفروض ؛ لأنّا فرضنا أنّ الفعل يوجد في وقت ويعدم في الآخر ، ولا بدّ من مرجّح غير المرجّح الأوّل ليترجّح به الفعل في وقت وينتهي إلى الوجوب ، وإلّا يتسلسل فيتمّ الدليل بلا ورود نقض.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩٦.

٢٧٣

وأقول :

لا يخفى أنّ عندنا مسألتين :

الأولى : إنّه هل يمكن ترجّح أحد طرفي الممكن على الآخر برجحان ناش عن ذات الممكن ، غير منته إلى حدّ الوجوب ، بحيث يجوز أنيوجد ممكن بذلك الرجحان من غير احتياج إلى فاعل ، فينسدّ باب إثبات الصانع أو لا يمكن؟

لا ريب أنّه لا يمكن ؛ لأنّ فرض إمكان الشيء يقتضي جواز وقوع الطرفين بالنظر إلى ذاته.

وفرض مرجوحية أحد الطرفين بالنظر إلى ذاته ، يقتضي امتناع وقوع المرجوح ؛ لامتناع ترجّح المرجوح بالضرورة.

ولذا قال نصير الدين1 في « التجريد » : « ولا يتصوّر الأولوية لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته »(١) .

الثانية : إنّه هل يمكن ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بمرجّح لا ينتهي إلى حدّ الوجوب ـ كما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين(٢) ونقله المصنّف عنهم ـ أو لا يمكن؟

ودليل الأشاعرة من فروع هذه المسألة ، ومبنيّ على عدم إمكان الترجيح بذلك المرجّح ، وهو ممنوع ؛ لأنّ إمكان وقوع الفعل لأجله وكفايته

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ١١٣.

(٢) راجع ما تقدّم انفا في الصفحة ٢٧٢.

٢٧٤

في الإقدام على الفعل ، لا يستلزم خروجه عن المرجوحية ، مع فرض عدم الفعل.

هذا إذا أريد بالمرجّح الأمر الداعي إلى الاختيار.

وأمّا لو أريد به المركّب منهما ومن سائر أجزاء العلّة ، كما هو المقصود في مقام ترجيح أحد طرفي الممكن ، فلا محالة يكون المرجّح موجبا ؛ ولأجله جعل المصنّف الحقّ هو الجواب الأوّل السابق.

* * *

٢٧٥

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

الثالث : لم لا يوقعه القادر مع التساوي؟ فإنّ القادر يرجّح أحد مقدوريه على الآخر ، من غير مرجّح.

وقد ذهب إلى هذا جماعة من المتكلّمين(٢) ، وتمثّلوا في ذلك بصورة وجدانية ، كالجائع يحضره رغيفان متساويان من جميع الوجوه ، فإنّه يتناول أحدهما من غير مرجّح ، ولا يمتنع من الأكل حتّى يترجّح لمرجّح ، والعطشان يحضره إناءان متساويان من جميع الوجوه ، والهارب من السبع إذا عنّ(٣) له طريقان متساويان فإنّه يسلك أحدهما ولا ينتظر حصول المرجّح.

وإذا كان هذا الحكم وجدانيا ، كيف يمكن الاستدلال على نقيضه؟!

الرابع : إنّ هذا الدليل ينافي مذهبهم ، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به ؛ لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدّين(٤) ، فالمتمكّن من الفعل يخرج عن القدرة ؛ لعدم التمكّن من الترك.

وإن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدّين ، لزمهم وجود الضدّين دفعة

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٣.

(٢) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ١ / ١٠٨ ، شرح المقاصد ١ / ٤٨٤.

(٣) عنّ الشيء : ظهر أمامك ؛ انظر : لسان العرب ٩ / ٤٣٧ مادّة « عنن ».

(٤) تمهيد الأوائل : ٣٢٦ و ٣٣٦ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٠١ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٥٣ ، المواقف : ١٥٣.

٢٧٦

واحدة ؛ لأنّ القدرة لا تتقدّم على المقدور عندهم(١) .

وإن فرضوا للعبد قدرة موجودة حال وجود قدرة الفعل لزمهم ، إمّا اجتماع الضدّين أو تقدّم القدرة على الفعل.

فانظر إلى هؤلاء القوم الّذين لا يبالون في تضادّ أقوالهم وتعاندها!

* * *

__________________

(١) تمهيد الأوائل : ٣٣٦ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٩٧ ـ ١٩٨ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٥٢ ، المواقف : ١٥١.

٢٧٧

وقال الفضل (١) :

اتّفق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح ، والحكم بعد تصوّر الطرفين ، أي تصوّر الموضوع الذي هو إمكان الممكن ، وتصوّر المحمول ـ الذي هو معنى كونه محوجا إلى السبب ـ ضروري بحكم بديهة العقل بعد ملاحظة النسبة بينهما ، ولذلك يجزم به الصبيان الّذين لهم أدنى تمييز

ألا ترى إلى كفّتي الميزان إذا تساوتا لذاتيهما ، وقال قائل : ترجّحت إحداهما على الأخرى بلا مرجّح من خارج ، لم يقبله صبي مميّز ، وعلم بطلانه بديهة.

فالحكم بأنّ أحد المتساويين لا يترجّح على الآخر إلّا بمرجّح مجزوم به عنده بلا نظر وكسب ، بل الحكم مركوز في طباع البهائم ، ولذا تراها تنفر من صوت الخشب(٢) .

وما ذكر من الأمثلة ، كالجائع في اختيار أحد الرغيفين وغيره ، فإنّه لمّا خالف الحكم البديهي ، يجب أن يكون هناك مرجّح لا يعلمه الجائع ، والعلم بوجود المرجّح من القادر غير لازم ، بل اللازم وجود المرجّح.

وأمّا دعوى كونه وجدانيا مع اتّفاق العقلاء بأنّ خلافه بديهي ، دعوى باطلة كسائر دعاويه ؛ والله أعلم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩٩.

(٢) انظر : شرح المواقف ٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

٢٧٨

وأمّا قوله في الوجه الرابع : « إنّ هذا الدليل ينافي مذهبهم ، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به ؛ لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدّين » إلى آخره.

فنقول في جوابه : عدم صلاحية القدرة للضدّين لا يمنع صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة ، فإنّ المراد من الاحتجاج نفي الاختيار عن العبد ، وإثبات أنّ الفعل واجب الصدور عنه ، وليس له التمكّن من الترك ، وذلك يوجب نفي الاختيار.

فإذا كان المذهب أنّ القدرة لا تصلح للضدّين ، وبلغ الفعل حدّ الوجوب لوجود المرجّح الموجب ، لم يكن العبد قادرا على الترك ، فيكون موجبا لا مختارا ، وهذا هو المطلوب

فكيف يقول : إنّ كون القدرة غير صالحة للضدّين يوجب عدم صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة؟!

فعلم أنّه من جهله وكودنيّته لا يفرّق بين ما هو مؤيّد للحجّة وما هو مناف لها!

ثمّ ما ذكر أنّهم [ إن ](١) خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدين ، لزمهم إمّا اجتماع الضدّين ، أو تقدّم القدرة على الفعل ؛ فهذا شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذورا.

والأشاعرة إنّما نفوا هذا المذهب وقالوا : إنّ القدرة لا تصلح للضدّين(٢) ؛ لأنّ القدرة عندهم مع الفعل(٣) ، فيجب أن لا يكون صالحا

__________________

(١) أثبتناه من « إبطال نهج الباطل ».

(٢) راجع تخريجه المارّ آنفا في الصفحة ٢٧٦ ه‍ ٤.

(٣) راجع تخريجه المارّ آنفا في الصفحة ٢٧٧ ه‍ ١.

٢٧٩

للضدّين ، وإلّا لزم اجتماع الضدّين!

أنظروا معاشر المسلمين إلى هذا السارق الحلّي ، الذي اعتاد سرقة الحطب من شاطئ الفرات ، حسب أنّ هذا الكلام حطب يسرق! كيف أتى بالدليل وجعله اعتراضا! والحمد لله الذي فضحه في آخر الزمان ، وأظهر جهله وتعصّبه على أهل الإيمان.

* * *

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420