دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق9%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214376 / تحميل: 4820
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٦-x
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

فلينظر العاقل من نفسه : هل يجوز له أن يقلّد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته ويحتجّ به غدا يوم القيامة ، وهو يوجب الكفر والإلحاد؟!

وأيّ عذر لهم عن ذلك وعن الكفر والإلحاد؟!

( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) (٢) ؟!

هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى ، وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنّه يلزم منها نسبة الله سبحانه إلى كلّ خسيسة ورذيلة! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فليحذر المقلّد وينظر كيف هؤلاء القوم الّذين يقلّدونهم؟! فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والإيضاح اتّباعهم ، كفاهم بذلك ضلالا!

وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتّباع الأهواء ، عرفوا الحقّ بعين الإنصاف وفّقهم الله لإصابة الصواب.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة النساء ٤ : ٧٨.

٣٠١

وقال الفضل (١) :

قد عثرت على ما فصّلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من كتب الأشاعرة ومن فضلات المعتزلة.

ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم كمثل الزبّال يمرّ على نجاسة رجل أكل بالليل بعض الأطعمة الرقيقة كماء الحمّص ، فجرى في الطريق ، فجاء الزبّال وأخذ الحمّص من نجاسته وجعل يلحسه ويتلذّذ به.

فهذا ابن المطهّر النجس! كالزبّال يمرّ على فضلات المعتزلة ويأخذ منها الاعتراضات ويكفّر بها سادات العلماء ، ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر ، يحسب أنّه يحسن صنعا ، نعوذ بالله من الضلال ، والله الهادي.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٠.

٣٠٢

وأقول :

قد عرفت أنّه لم يشتمل كلامه إلّا على التمويه ، الذي لا ينفعه حين الندامة ، ولا يكون له عذرا يوم القيامة ، والعجب منه أنّه يجازي المصنّف بما يدلّ على أنّه فاعل مختار.

فإذا كان الله تعالى هو الذي خلق تكفير المصنّف لهم ، فلينتصف من الله تعالى لا من المصنّف ، وليحارب الله تعالى لا المحلّ الذي لا أثر له أصلا.

ولينظر العاقل أنّ الذي وقع في البين من المخاصمة والعداء كلّه من الله سبحانه ، فيكون لاعبا ، أو من عبيده؟!

وهل يحسن من الله تعالى أن يفعل ذلك ثمّ يعاقب غيره على ما لا أثر له فيه؟! تعالى الله عمّا يصفون.

* * *

٣٠٣
٣٠٤

إبطال الكسب

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

المطلب الثاني عشر

في إبطال الكسب

إعلم أنّ أبا الحسن الأشعري وأتباعه لمّا لزمهم هذه الأمور الشنيعة والإلزامات الفظيعة والأقوال الهائلة ، من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته ، وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شابه ذلك ، التجأ إلى ارتكاب قول توهّم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات( وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ) (٢) ، فقال مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه إنكار العلوم الضرورية ، كما هو دأبه(٣) وعادته في ما تقدّم من إنكار الضروريات ، فذهب إلى إثبات الكسب للعبد ، فقال :

الله تعالى يوجد الفعل ، والعبد مكتسب له(٤) ، فإذا طولب بتحقيق

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة ص ٣٨ : ٣.

(٣) كان في الأصل : « رأيه » ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

(٤) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، مقالات الإسلاميّين :٥٣٩.

٣٠٥

الكسب وما هو؟ وأيّ وجه يقتضيه؟ وأيّ حاجة تدعو إليه؟ اضطرب هو وأصحابه في الجواب عنه

فقال بعضهم : معنى الكسب خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل ، وعدمه عقيب اختياره العدم ، فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق الله الفعل عند اختيار العبد(١) .

وقال بعضهم : معنى الكسب أنّ الله تعالى يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر ألبتّة ، لكنّ العبد يؤثّر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية ، فأصل الفعل من الله تعالى ، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد(٢) .

وقال بعضهم : إنّ هذا الكسب غير معلوم ولا معقول مع أنّه صادر عن العبد(٣) .

* * *

__________________

(١) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ ٥٩ ـ ٦٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، العلم الشامخ : ٣١٩ عن ابن الهمام.

(٢) انظر : تمهيد الأوائل : ٣٤٧ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٤ ـ ٨٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٤ ، العلم الشامخ : ٣٢١ عن أبي منصور السمرقندي.

(٣) انظر : شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، العلم الشامخ : ٣١٧ و ٣٢٥ حكاية عن والد السبكي.

٣٠٦

وقال الفضل (١) :

قد مرّ أنّ مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : أنّ أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله تعالى ، مكسوبة للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلّا له هذا مذهب الشيخ(٢) .

ولو رجع المنصف إلى نفسه علم أنّه على متن الصراط المستقيم في التوحيد ، وتنزيه الله تعالى عن الشركاء في الخلق ، مع إثبات الكسب للعبد ، حتّى تكون قواعد الإسلام ، ورعاية أحكام التكليف والبعثة والثواب والعقاب محفوظة مرعيّة ، من غير تكلّف إيجاد الشركاء في الخلق.

ونحن إن شاء الله تعالى نفسّر كلام الشيخ ونكشف عن حقيقة مذهبه على وجه يرتضيه المنصف ، وينقاد لصحّته المتعسّف ، فنقول :

يفهم من كلام الشيخ أنّه فسّر كسب العبد للفعل بمقارنة الفعل لقدرته وإرادته تارة ، وفسّره بكون العبد محلّا للفعل تارة.

وتحقيقه : إنّ الله تعالى خلق في العبد إرادة يرجّح بها الأشياء ، وقدرة يصحّح بها الفعل والترك.

ومن أنكر هذا فقد أنكر أجلى الضروريات عند حدوث الفعل.

وهاتان الصفتان موجودتان في العبد حادثتان عند حدوث الفعل ،

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٣.

(٢) تقدّم في الصفحة ١١٣ من هذا الجزء.

٣٠٧

فإذا تهيّأ العبد بقبول هاتين الصفتين لإيجاد الفعل ، وذلك الفعل ممكن ، والممكن إذا تعلّقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح ، فهو يوجد لا محالة بقدم الإرادة القديمة الدائمة الإلهية ، والقدرة القديمة ، فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا من الإرادة والقدرة الحادثة.

والصفة القوية تغلب الصفة الضعيفة ، كالنور القوي يقهر النور الضعيف ويغلبه.

فلمّا أوجد الله تعالى الفعل ، وكان قبل الإيجاد تهيّأت صفة اختيار العبد إلى إيجاد الفعل ، ولكن سبقت القدرة الإلهية فأحدثته ، فبقي للفعل نسبتان :

نسبة إلى العبد ؛ وهي أنّ الفعل كان مقارنا لتهيّؤ الإرادة والاختيار نحو تحصيل الفعل ، وحصول الفعل عقيب تهيّئه ، فعبّر الشيخ عن هذه النسبة بالكسب ؛ لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء والثواب والعقاب على فعل العبد.

ونسبة إلى الله تعالى ؛ وهو أنّه كان مخلوقا لله تعالى ، موجدا منه.

وهذا معنى كون الفعل مخلوقا لله تعالى مكسوبا للعبد.

ثمّ إنّ فعل العبد صفة للعبد ، فيكون العبد محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف هو محلّ لصفته ، كالأسود فإنّه محلّ للسواد ، فيجوز أن يقال ـ باعتبار كون الفعل صفة له ـ : إنّه كسبه ؛ ومعنى الكسب كونه محلّا له.

والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب ، بواسطة كونه محلّا لليبوسة المفرطة.

وهل يحسن أن يقال : لم ترتّب الإحراق على الحطب لسبب كونه محلّا لليبوسة؟! والحال أنّ الحطب لم يحصل بنفسه هذه اليبوسة! وأيّ

٣٠٨

ذنب للحطب؟! وهل هذا الإحراق إلّا الظلم والجور والعدوان؟!

إن حسن ذلك حسن أن يقال : لم جعل الله تعالى الكافر محلّ الكفر ثمّ أحرقه بالنار؟!

والعاقل يعلم أنّه لا يحسن الأوّل فلا يحسن الثاني!

فرّغ جهدك لنيل ما حقّقناه في هذا المقام في معنى الكسب الأشعري ، لئلّا يبقى لك شبهة ، فهذا نهاية التوضيح.

ولكنّ المعتزلي عمي بصره فعظم ضرره ، ألقته الشبهة في مهواة غائلة ، واغتاله القول(١) في مهمّة(٢) هائلة ، ونعم ما قلت شعرا :

ظهر الحقّ من الأشعري والنور جلي

طلع الشمس ولكن عمي المعتزلي(٣)

فانظر إلى هذا الحلّي الجاهل ، كيف افترى في معنى الكسب ، وخلط المذاهب والأقوال ، كالحمار الراتع في جنة عالية ، قطوفها دانية ، والله تعالى يجازيه!

* * *

__________________

(١) في نسخة إحقاق الحقّ : الغول ؛ ولعلّها الأنسب.

(٢) المهمّة : كلّ ما نواه المرء من فعل أو أمر وأراده وعزم عليه وهمّ بأن يفعله ؛ انظر : تاج العروس ١٧ / ٧٦٤ و ٧٦٧ مادّة « همم ».

(٣) نقول : لا ندري ممّ نتعجّب؟! أمن علم هذا الرجل وبراعته في علم الكلام؟! أم من فصاحته وبلاغته ونبوغه في الشعر ومعرفته بالمعاني؟! أم من خلقه الرفيع العالي؟!

والعجب كلّ العجب ممّن يتّبع هذا وأمثاله ويدافع عنهم دون علم ودراية!! ولكن كما قال أبو الطيّب المتنبّي :

شبيه الشيء منجذب إليه

وأشبهنا بدنيانا الطغام

فليتأمّل!

٣٠٩

وأقول :

ظهر لك من تضاعيف الكلمات أنّ الكسب بمعزل عن الحقّ ، وأنّ التنزيه الذي موّهوا به من باب تسمية الشيء باسم ضدّه ، إذ لم يشتمل إلّا على إنكار العدل والرحمة ، وإثبات العبث في التكليف والبعثة.

وأمّا ما ادّعاه من التحقيق ، ففيه وجوه من الخلل :

أمّا أوّلا : فلأنّ قوله : « فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا » ، خطأ ؛ لأنّ تميّز الإرادة والقدرة القديمتين عن الحادثتين لا يوجب أن يوجد الله سبحانه أفعال العباد ، ولا يوجب التزاحم بينهما حتّى تحصل الغلبة.

نعم ، يوجب التزاحم لو قلنا : إنّ قدرة الله على الشيء تستلزم فعله له ، كما يظهر من بعض ما يحكى عن الرازي(١) ، ويظهر من الخصم في المبحث الآتي ، حيث إنّه في أثناء كلامه على قول المصنّف : « وأيضا دليلهم آت » إلى آخره ، قال : « فالاختيار مقدور لله تعالى فيكون مخلوقا لله تعالى ».

ولكن لا يمكن أن يقال : إنّ القدرة تستلزم فعل كلّ مقدور ، لعدم اقتضاء ذاتها له ، وللزوم أن يكون كلّ ممكن فرض موجودا لأنّه مقدور ، أو انحصار قدرته بالموجودات ، وهو كما ترى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إثبات التهيّؤ لإرادة العبد لا فائدة فيه ، إذ لا يصحّح اللوازم الفاسدة من العقاب للعبد بلا ذنب ، والعبث في البعثة والتكليف ،

__________________

(١) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ٢١.

٣١٠

ونحوها ؛ على أنّه إن زعم أنّ التهيّؤ أثر للعبد فقد خرج عن مذهبه ، وإلّا فلا يثمر تكلّفه إلّا تطويل مسافة الجبر.

وأمّا ثالثا : فلأنّ قوله : « لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء » إن أراد به أنّ لفظ الكسب في القرآن يراد به المعنى الذي اصطلحه الأشاعرة ، فهو باطل ؛ لأنّه اصطلاح جديد ، فاللازم حمله على معناه اللغوي ، وهو : العمل(١) .

وأيّ دلالة في ذكر الكسب ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ على كون المراد هو الكسب الأشعري حتّى يحمل عليه؟!

وإن أراد به أنّ وجود لفظ الكسب في القرآن ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ سبب لتسمية المعنى الذي تصوّره الأشعري بالكسب ، ففيه :

إنّا لو تصوّرنا وجها للسببية ، فلا يثبت به إلّا تصحيح الاصطلاح ، لا حمل الكتاب العزيز عليه ، كما هي عادتهم.

وأمّا رابعا : فلأنّ قوله : « إنّ فعل العبد صفة للعبد فيكون محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف محلّ لصفته » ، باطل ؛ لأنّ أفعال الله تعالى صفات له ، لذا يوصف بالمحيي ، والمميت ، والخالق ، والرازق ، ونحوها ، وهو ليس محلّا لها بنحو محلّيّة الأسود للسواد الذي مثّل به.

ثمّ إنّ ما فرّعه عليه بقوله : « فيجوز أن يقال باعتبار كون الفعل صفة له : إنّه كسبه » ، غير تامّ ؛ فإنّه يستدعي أن يقال باعتبار كون أفعال الله تعالى صفة له : إنّه كسبها ، وهو باطل ؛ لأنّ الكسب لا يطلق إلّا حيث يكون الفاعل قاصدا لجلب النفع له أو دفع المضرّة عنه.

__________________

(١) انظر مادّة « كسب » في : لسان العرب ١٢ / ٨٧ ، المصباح المنير : ٢٠٣.

٣١١

وأمّا خامسا : فلأنّ قوله : « والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب » ، ظاهر الفساد ، فإنّه يستلزم صحّة العقاب على الطول والقصر ؛ لأنّه محلّ لهما ، ولا يكون الاختيار فارقا ما دام غير مؤثّر ، ولذا قاس الإنسان على الحطب ، وقاس كفره على يبوسة الحطب ، وهذا القياس فاسد ؛ لعدم الضرر والأذى على الحطب لانتفاء الشعور والإحساس عنه ، ولذا لا يكون الإحراق ظلما له ، بخلاف عذاب الحسّاس الذي لا ذنب منه ولا أثر له بالمعصية أصلا.

فيا عجبا ممّن يتفوّه بهذه الكلمات ، ويزعم أنّه لا تبقي معها شبهة ، وأنّ صاحبها على متن الصراط ، وما هو إلّا كبيته الذي سمّاه شعرا!!

* * *

٣١٢

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

وهذه الأجوبة فاسدة

أمّا الأوّل : فلأنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال ، فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه.

وأيّ فرق بينهما؟! وأيّ حاجة وضرورة إلى التمحّل بهذا؟! وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى الله تعالى ، وأن ينسب الله تعالى إلى الظلم والجور والعدوان وغير ذلك ، وليس بمعلوم.

وأيضا : دليلهم آت في نفس هذا الاختيار ، فإن كان صحيحا امتنع إسناده إلى العبد وكان صادرا عن الله تعالى ، وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به.

وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار ، إمّا العبد أو الله تعالى ، فلا وجه للمخلص بهذه الواسطة ، وإن لم يكن موجبا ، لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ، فيكون الفعل من الله تعالى لا غير ، من غير شركة للعبد فيه.

وأيضا : العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله تعالى الفعل عقيبه ، ويخلق الله تعالى الفعل ابتداء من غير تقدّم اختيار ، فحينئذ ينتفي المخلص بهذا العذر(٢) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٦.

(٢) في المخطوط : القدر.

٣١٣

وقال الفضل (١) :

قد علمت معنى الكسب كما ذكره الشيخ(٢) ، وأمّا هذه الأقوال التي نقلها عن الأصحاب فما رأيناها في كتبهم ، ولكن ما أورد على تلك الأقوال فمجاب

أمّا ما أورد على القول الأوّل ، وهو : « إنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال » ، فباطل ؛ لأنّهما من جملة الصفات ، وهو يدّعي أنّهما من جملة الأفعال ، وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة [ والاختيار ] ممّا يخلقها الله تعالى في العبد ، والعبد بهما يرجّح الفعل(٣) .

فالحمد لله الذي أنطقه بالحقّ على رغم منه ، فإنّه صار قائلا بأنّ أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، ولكن ربّما يدفعه بأنّه من الأفعال الاضطرارية ، وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراريّ.

وأمّا قوله : « دليلهم آت في نفس هذا الاختيار » ، وبيانه : إنّ الاختيار فعل من الأفعال فيكون مخلوقا لله تعالى ؛ لأنّه ممكن ، وكلّ ممكن فهو مقدور لله تعالى ، فالاختيار مقدور لله ، فيكون مخلوقا لله تعالى ، فكيف يقال : إنّ الفعل يخلقه الله تعالى عقيب الاختيار؟!

فجوابه : إنّ الاختيار من الصفات التي يخلقها الله تعالى أوّلا في العبد ، كسائر صفاته النفسانية ، وكيفيّاته المعقولة والمحسوسة ، ثمّ يترتّب

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٣٤.

(٢) انظر الصفحتين ١١٣ و ٣٠٧.

(٣) الإمامية لا تقول بذلك على إطلاقه ، وسيأتي ردّ المصنّف١ عليه.

٣١٤

عليه الفعل ، فلا يأتي ما ذكره من المحذور ؛ لأنّا نختار أنّ الدليل صحيح ، وليس هو مستندا إلى العبد وهو صادر عن الله تعالى.

وأمّا قوله : « وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار » إلى آخر الدليل.

فجوابه : إنّا نختار أنّ الاختيار صادر عن الله تعالى لا عن العبد.

وأيضا : نختار أنّ الاختيار يدلّ العبد ليس موجبا للفعل.

قوله : « لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ».

قلنا : ممنوع لما مرّ من أنّ الاختيار صفة توجب للعبد التوجّه نحو تحصيل الأفعال ، ويخلق الفعل عقيب توجيه العبد للاختيار ، والفعل مقارن لذلك الاختيار ، وليس الأكل كذلك ، فالفرق واضح(١) .

وأمّا قوله : « العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقيبه ».

فنقول : هذا هو المدّعى ، والمراد بالجواز هو الإمكان الذاتي وإن خالفته العادة ، ونحن لا نريد مخلصا بإثبات وجوب خلق الفعل عقيب الاختيار.

* * *

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١١٣.

٣١٥

وأقول :

ينبغي أن نذكر هنا بعض ما في « شرح المقاصد » لتعرف صدق المصنّف في ما حكاه عنهم ، فإنّه بعد بيان أنّ فعل العبد واقع بقدرة الله وحدها ، وأنّ العبد كاسب ، قال :

« لا بدّ من بيان معنى الكسب دفعا لما يقال إنّه اسم بلا مسمّى ، فاكتفى بعض أهل السنّة ، بأنّا نعلم بالبرهان أنّ لا خالق سوى الله تعالى ، ولا تأثير إلّا للقدرة القديمة ، ونعلم بالضرورة أنّ القدرة الحادثة للعبد تتعلّق ببعض أفعاله ، كالصعود دون البعض كالسقوط ، فيسمّى أثر تعلّق القدرة الحادثة كسبا وإن لم تعرف حقيقته.

قال الإمام الرازي : هي صفة تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة الله تعالى ، فإنّ الصلاة والقتل مثلا كلاهما حركة ، ويتمايزان بكون إحداهما طاعة والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به التمايز ، فأصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وخصوصية الوصف بقدرة العبد ، وهي المسمّاة ب‍ :

الكسب(١) .

وقريب من ذلك ما يقال : إنّ أصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وتعيّنها بقدرة العبد ، وهو كسب ، وفيه نظر.

وقيل : الفعل الذي يخلقه الله تعالى في العبد يخلق معه قدرة للعبد متعلّقة به ، يسمّى كسبا للعبد ، بخلاف ما إذا لم يخلق معه تلك القدرة.

__________________

(١) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، وانظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ١٠.

٣١٦

وقيل : إنّ للعبد قدرة تختلف بها النسب والإضافات فقط ، كتعيين أحد طرفي الفعل والترك وترجيحه ، ولا يلزم منها وجود أمر حقيقي ، فالأمر الإضافي الذي يجب من العبد ولا يجب عند وجود الأثر هو الكسب.

و هذا ما قالوا هو ما يقع به المقدور بلا صحّة انفراد القادرية ، وما يقع في محلّ قدرته ، بخلاف الخلق ، فإنّه ما يقع به المقدور مع صحّة انفراد القادرية ، وما يقع لا في محلّ قدرته.

فالكسب لا يوجب وجود المقدور ، بل يوجب ـ من حيث هو كسب ـ اتّصاف الفاعل بذلك المقدور ؛ ولهذا يكون مرجعا لاختلاف الإضافات ، ككون الفعل طاعة أو معصية ، حسنا أو قبيحا ، فإنّ الاتّصاف بالقبيح بقصده وإرادته قبيح ، بخلاف خلق القبيح ، فإنّه لا ينافي المصلحة والعاقبة الحميدة ، بل ربّما يشتمل عليهما.

وملخّص الكلام ما أشار إليه الإمام حجّة الإسلام ، وهو : إنّه لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقا لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو أنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا ، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه عندنا بالاكتساب.

إلى أن قال : فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تسمّى كسبا له ، وباعتبار نسبتها إلى قدرة الله تعالى خلقا ، فهي خلق للربّ ووصف للعبد وكسب له ، وقدرته خلق للربّ ووصف للعبد وليس بكسب له(١) »(٢) .

وإنّما أطلنا بنقل كلامه لتعرف حال أساطينهم فضلا عن مثل هذا

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد : ٦٠.

(٢) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٣١٧

الخصم.

ويكفي في بطلان هذه الكلمات مجرّد النظر فيها ، مع أنّ الكسب ـ بأيّ معنى فسّر ـ إن كان من فعل الله تعالى دون العبد فلا فائدة في إثباته ، وإن كان من أثر العبد فقد خالفوا مذهبهم ولم يكن موجب لإثباته وإنكار تأثير العبد في الفعل.

ولو لا تعلّق القصد بردّ ما أورده الخصم لكان الأولى الإعراض عن مثله ، إلّا إنّه لا مناص من ردّه ، فنقول :

أمّا ما ذكره من أنّ الإرادة من جملة الصفات ، فصحيح ، سواء أراد بالصفات ما كان من مقولة الكيف ، أو ما لوحظ فيه جهة التلبّس لا الحدوث ، لكن لا ينافي أن تكون الإرادة فعلا باعتبار حدوثها ، ولذا يقول المتكلّمون : إنّ الله تعالى فاعل للعدل والرحمة والمغفرة باعتبار حدوثها منه ، وموصوف بها باعتبار تلبّسه بها(١)

فصحّ قول المصنّف : « إنّ إرادة العبد من جملة الأفعال ».

على أنّه لا أثر للاصطلاح والتسمية ، فإنّ كلام المصنّف في الصدور الذي يسلّمه القائل بالقول الأوّل ، فأورد عليه أنّه إذا جازصدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه إلى آخره.

وأمّا قوله : « وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة ممّا يخلقها الله تعالى في العبد »

فإن أراد أنّها ربّما يخلقها الله تعالى ، فلا يضرّنا القول به ، وإن أراد أنّها مخلوقة له دائما ، فكذب علينا ، كيف؟! وقد سبق أنّ العبد فاعل لها ،

__________________

(١) انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي ٣ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٣١٨

قادر عليها وجودا وعدما ، ولو بالقدرة على أسبابها!

وأمّا حمده لله تعالى على إقرار المصنّف بأنّ بعض أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، فمن المضحك ، إذ لم يظهر من المصنّف اختيار أنّ إرادة العبد صادرة عن الله تعالى إن لم يظهر منه الخلاف ، ومجرّد قول أصحابه به ـ لو سلّم ـ لا يستلزم أن يقول المصنّف به ، إذ ليس هو من أصول الدين.

على أنّ القول بأنّ بعض أفعالنا مخلوق لله تعالى لا ينافي مذهبنا ؛ لأنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في الإيجاب الكلّي حيث يقولون : إنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى(١) ، ونحن نمنعه ، فلا ينافي الإيجاب الجزئي.

ثمّ إنّ معنى قول الخصم : « ولكن ربّما يدفعه » إلى آخره ؛ هو أنّ المصنّف قد يجيب عن ذلك بأنّ الإرادة والاختيار ليسا محلّ النزاع ؛ لأنّ النزاع إنّما هو في الأفعال الاختيارية ، وليست الإرادة والاختيار صادرين بالاختيار.

وفيه : إنّ المصنّف لا يجيب بهذا ؛ لأنّ الإرادة عنده فعل اختياري(٢) ، أي من آثار قدرة العبد ، وإنّما يجيب بخطأ الخصم ، حيث زعم أنّ الإرادة عندنا من أفعال الله تعالى ، كما عرفت.

ثمّ إن أراد بقوله : « وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراري » إنكار كون الاختيار فعلا ، فباطل ؛ لما عرفت من معنى الفعل.

وإن أراد به دعوى أنّ الاختيار مسبوق بالاختيار ، لزمه التسلسل.

__________________

(١) الإبانة عن أصول الديانة : ٤٦ ، تمهيد الأوائل : ٣٤١ ، المواقف : ٣١١.

(٢) مناهج اليقين : ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٣١٩

وإن أراد به أنّ الاختيار من آثار قدرة العبد ، فنعم الوفاق ، ولزمهم إشكال المصنّف بقوله : « إن جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه ».

وأمّا ما أجاب عن قول المصنّف : « ودليلهم آت في نفس الاختيار »

ففيه : إنّ إشكال المصنّف إنّما هو على صاحب القول الأوّل الذي يذهب إلى أنّ الاختيار صادر عن العبد ، ومنه يعلم ما في جوابه أيضا عن الإشكال الثالث بقوله : « فجوابه : إنّ الاختيار صادر عن الله لا عن العبد ».

وأمّا ما ذكره من الفرق بين الاختيار والأكل

ففيه : إنّ التوجّه الذي يوجبه الاختيار ـ كما زعم ـ إن كان أثرا للعبد كان خروجا عن مذهبه ، وإلّا فأيّ فائدة في إثبات التوجّه غير تطويل مسافة الجبر؟! ضرورة أنّ الفرق المهمّ بين الاختيار والأكل مثلا ، هو الفرق في مقام تأثير العبد في الفعل بوجه من الوجوه ، لا الفرق كيفما كان ، وإلّا فالفروق كثيرة.

واعلم أنّ الأشاعرة لمّا رأوا مفاسد الجبر زعموا أنّ المخلص منها يحصل بوجود القدرة والاختيار في العبد ؛ لأنّهما هما المحقّقان للكسب ، وإن كانا معا من فعل الله تعالى كأصل الفعل ، فحينئذ يكون وجود الاختيار لازما لا مناص منه ليكون به المخلص ، فإذا جعلوه عاديا غير لازم الوجود واقعا ، لا سيّما والعاديّات قد تتخلّف ، لم يكن مخلصا.

وهذا هو مقصود المصنّف في كلامه الأخير.

وقد توهّم الخصم أنّ المصنّف ادّعى أنّ مخلصهم بإثبات وجوب

٣٢٠

خلق الفعل عقيب الاختيار ، فأجاب بما سمعته.

وكيف يدّعيه المصنّف وكلّ أحد يعلم أنّ ما جعلوه مخلصا هو وجود الاختيار لا وجوب خلق الله الفعل عقيبه؟!

وبهذا تعرف مقدار تدبّر هذا الخصم! * * *

٣٢١

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ (١) :

وأمّا الثاني : فلأنّ كون الفعل طاعة أو معصية ، إمّا أن يكون نفس الفعل في الخارج ، أو أمرا زائدا عليه.

فإن كان الأوّل ، كان أيضا من الله تعالى ، فلا يصدر عن العبد شيء ، فيبطل العذر.

وإن كان الثاني ، كان العبد مستقلّا بفعل هذا الزائد.

وإذا جاز إسناد هذا الفعل ، فليجز إسناد أصل الفعل!

وأيّ ضرورة للتمحّل بمثل هذه المحاذير الفاسدة التي لا تنهض بالاعتذار؟!

وأيّ فارق بين الفعلين؟! ولم كان أحدهما صادرا عن الله تعالى والآخر صادرا عن العبد؟!

وأيضا دليلهم آت في هذا الوصف ، فإن كان حقّا عندهم امتنع إسناد هذا الوصف إلى العبد ، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به.

وأيضا كون الفعل طاعة ، هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة ، وكونه موافقا لأمر الشريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل ، إن طابق الأمر كان طاعة ، وإلّا فلا.

وحينئذ لا يكون الفعل مستندا إلى العبد ، لا في ذاته ، ولا في شيء من صفاته ، فينتفي هذا العذر أيضا كما انتفى عذرهم الأوّل.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٧.

٣٢٢

وأيضا الطاعة حسنة والمعصية قبيحة ، ولهذا ذمّ الله تعالى إبليس وفرعون على مخالفتهما أمر الله.

وكلّ فعل يفعله الله تعالى فهو حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من الله.

فلو كان أصل الفعل صادرا من الله امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن.

فالمعصية التي تصدر من العبد إذا كانت صادرة من الله امتنع وصفها بالقبح ، فلا تكون معصية ، فلا يستحقّ فاعلها الذمّ والعقاب ، فلا يحسن من الله تعالى ذمّ إبليس وأبي لهب وغيرهما ، حيث لم يصدر عنهم قبيح ولا معصية ، فلا تتحقّق معصية من العبد ألبتّة!

وأيضا المعصية قد نهى الله تعالى عنها إجماعا ، والقرآن مملوء من المناهي والتوعّد عليها.

وكلّ ما نهى الله عنه فهو قبيح ، إذ لا معنى للقبيح عندهم إلّا ما نهى الله عنه ، مع إنّها قد صدرت عن إبليس وفرعون وغيرهما من البشر.

وكلّ ما صدر من العبد فهو مستند إلى الله تعالى ، والفاعل له هو الله لا غير عندهم ، فيكون حسنا وقد فرضناه قبيحا ، وهذا خلف.

وأمّا الثالث : فهو باطل بالضرورة ، إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول ، وكفاهم من الاعتذار الفاسد اعتذارهم بما لا يعلمون.

وهل يجوز للعاقل المنصف من نفسه المصير إلى هذه الجهالات ، والدخول في هذه الظلمات ، والإعراض عن الحقّ الواضح ، والدليل اللائح ، والمصير إلى ما لا يفهمه القائل ولا السامع؟!

٣٢٣

ولا يدري هل يدفع عنهم ما التزموا به أو لا؟! فإنّ هذا الدفع وصف من صفاته ، والوصف إنّما يعلم بعد علم الذات ، فإذا لم يفهموه كيف يجوز لهم الاعتذار به؟!

فلينظر العاقل في نفسه قبل دخوله في رمسه ، ولا يبقى للقول مجال ، ولا يمكن الاعتذار بهذا المحال!

* * *

٣٢٤

وقال الفضل (١) :

القول الثاني الذي ذكره في معنى الكسب هو مذهب القاضي أبي بكر الباقلّاني من الأشاعرة

ومذهبه : إنّ الأفعال الاختيارية من العبد واقعة بمجموع القدرتين ، على أنّ تتعلّق قدرة الله تعالى بأصل الفعل ، وقدرة العبد بصفته ، أعني بكونه طاعة أو معصية إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا يوصف بها أفعاله تعالى ، كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء ، فإنّ ذات اللطم واقعة بقدرة الله تعالى وتأثيره ، وكونه طاعة على الأوّل ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره(٢) .

هذا مذهب القاضي ، وهو غير مقبول عند عامّة الأصحاب ؛ لشمول الأدلّة المبطلة لمدخلية اختيار العبد في التأثير في أصل الفعل تأثيره في الصفة بلا فرق.

وهذا الإبطال مشهور في كتب الأشاعرة(٣) فليس من خواصّه.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٣٩.

(٢) التقريب والإرشاد ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٤٧ ، المواقف : ٣١٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٧.

(٣) المعروف أنّ أوّل من أثبت من الأشاعرة تأثيرا غير مستقلّ لقدرة العبد في الفعل هو أبو المعالي الجويني في كتابه « النظامية » كما في العلم الشامخ : ٣٣١ ، وحكاه عنه كذلك الشهرستاني في الملل والنحل ١ / ٨٥ ، وردّه الشهرستاني في نهاية الإقدام في علم الكلام : ٧٨ ـ ٧٩ قائلا باستحالة هذا التأثير.

هذا ، ولم يعرف للأشاعرة قول بتأثير قدرة العبد إلّا عند متأخّريهم ، كالشعراني في اليواقيت والجواهر ١ / ١٣٩ ـ ١٤١ ، والزرقاني في مناهل العرفان ٢ / ٢٩ ـ ٣٢.

٣٢٥

وأمّا باقي ما أورده على معنى الكسب حسب ما هو مذهب القاضي فغير وارد عليه ، ونحن نبطله حرفا بحرف ، فنقول :

أمّا قوله : « كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة ، وكونه موافقا لأمر الشريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل » إلى آخر الدليل.

فجوابه : إنّا لا نسلّم أنّ كونه موافقا لأمر الشريعة شيء يرجع إلى ذات الفعل ، فإنّ المراد من رجوعه إلى ذات الفعل إن كان المراد أنّه ليس صفة الفعل ، بل هو ذات الفعل ، فبطلانه ظاهر.

وإن كان المراد أنّه راجع إلى الذات ، بمعنى أنّه وصف للذات فمسلّم ، لكن لا نسلّم عدم جواز إسناده إلى العبد باعتبار الصفة ، وهذا أوّل الكلام.

ثمّ إنّ ما ذكر أنّ : « الطاعة حسنة والمعصية قبيحة وكلّ فعل يفعله الله تعالى فهو حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من الله ، فلو كان أصل الفعل صادرا من الله امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن » إلى آخره.

فجوابه : إنّ الطاعة حسنة والمعصية قبيحة عند الأشاعرة ، ولكنّ مدرك هذا الحسن والقبح هو الشرع لا العقل ، فكلّ فعل يفعله الله تعالى فهو حسن بالنسبه إليه ، وربّما يكون قبيحا بالنسبة إلى المحلّ كالعاصي.

قوله : « فلو كان أصل الفعل صادرا من الله تعالى امتنع وصفه بالقبح ».

قلنا : المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى ، وكلّ ما كان صادرا

٣٢٦

من الله تعالى كالخلق ، امتنع وصفه بالقبح.

والمعصية صادرة من العبد ويجوز وصفها بالقبح ، فلا يلزم شيء ممّا ذكره بتفاصيله.

وأمّا قوله : « وأمّا الثالث : فهو باطل بالضرورة ، إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول ».

فنقول : هذا القول إن صدر من الأشاعرة ، يكون مراد القائل : إنّ هناك شيء ينسب إليه أوصاف فعل العبد ، ولا بدّ من إثبات شيء لئلّا يلزم بطلان التكليف والثواب والعقاب ، ولكنّه غير معلوم الحقيقة ، وعلى هذا الوجه لا خلل في الكلام.

* * *

٣٢٧

وأقول :

لا يخفى أنّ نسبة القول الثاني إلى القاضي الباقلّاني منافية لقوله سابقا : « هذه الأقوال ما رأيناها في كتب الأصحاب »!!(١) .

والظاهر : إنّ المصنّف مختصّ بإبطال مذهب القاضي بالوجوه المذكورة ؛ لأنّ ما تخيّل الخصم مشاركة المصنّف للأشاعرة فيه هو قوله :

« وأيضا : دليلهم آت في هذا الوصف » ، وهو ـ كما ترى ـ توطئة للإيراد لا نفسه ؛ لأنّ المنظور إليه في الإيراد هو قوله بعده : « فإن كان ـ أي دليلهم ـ حقّا امتنع إسناد هذا الوصف إلى العبد ، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به ».

وبهذا تعلم أنّ الخصم لم يجب عن هذا الوجه ، كما أنّه لم يتعرّض للجواب عمّا قبله الذي هو أوّل الوجوه.

واعلم أنّ المصنّف أبطل قول القاضي بخمسة وجوه :

الأوّلان منها راجعان إلى إبطال تفرقة القاضي بين الفعل وصفته.

وثالثها : إلى إبطال قوله بإسناد الوصف إلى العبد.

وأخيراها : إلى إبطال قوله بأنّ أصل الفعل من الله تعالى.

وقد عرفت أنّ الخصم أغفل جواب الأوّل ، ولم يفهم الثاني ، كما أنّه أغفل جواب الأخير ، وهو ما ذكره المصنّف بقوله : « وأيضا المعصية قد نهى الله تعالى عنها » إلى آخره.

وحاصله : إنّ المعصية ـ يعني أصل الفعل ـ كالزنا منهيّ عنه ، وكلّ

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٣١٤ من هذا الجزء.

٣٢٨

ما نهى الله تعالى عنه قبيح ، فإذا زعم القاضي وقومه أنّ الزنا مثلا فعل الله تعالى كان حسنا ، وهذا خلف.

وأمّا الثالث ، وهو الذي ذكره بقوله : « وأيضا : كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة »

فقد أجاب عنه الخصم بقوله : « فجوابه : إنّا لا نسلّم » إلى آخره.

وردّد فيه بمراده بالرجوع بين أمرين لم يردهما قطعا ، فإنّ مراده بالرجوع في قوله : « وكونه موافقا لأمر الشريعة يرجع إلى ذات الفعل » هو استناد الموافقة إلى ذات الفعل ، لا أنّها ذاته أو وصفه كما تخيّله الخصم.

وحاصل مقصود المصنّف ـ كما هو صريح كلامه ـ : إنّ معنى كون الفعل طاعة هو كونه موافقا للأمر ، وكونه موافقا له مستند إلى ذات الفعل ، لا إلى العبد ، فكيف يقول القاضي باستناد الطاعة إلى العبد؟! ومنه يعلم ما في قول الخصم : « لا نسلّم عدم جواز إسناده إلى العبد باعتبار الصفة ».

وأمّا ما أجاب به عن الرابع بقوله : « ثمّ إنّ ما ذكر أنّ الطاعة حسنة » إلى آخره

فخطأ ظاهر ؛ لأنّ حاصل مراد المصنّف بهذا الوجه أنّه لو كان أصل الفعل صادرا عن الله تعالى ـ كما يزعمه القاضي وقومه ـ لكان حسنا وامتنع قبحه ، فلا يكون معصية ؛ لأنّها قبيحة فلا تتحقّق من العبد معصية ألبتّة ، ولا يحسن ذمّه وعقابه!

والحال : إنّا علمنا أنّ الله سبحانه ذمّ إبليس وأبا لهب وغيرهما ، وهذا وارد على القاضي وقومه ، سواء كان الحسن والقبح عقليّين أم شرعيّين ، لامتناع كون فعل الله تعالى قبيحا بقبح عقلي أو شرعي.

٣٢٩

ولا نعقل ما ذكره الخصم وأصحابه أنّ الفعل الواحد الشخصي يكون حسنا بالنسبة إلى فاعله المؤثّر فيه ، قبيحا بالنسبة إلى محلّه الذي لا أثر فيه أصلا.

كما إنّه لا معنى لجعل المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى ، فإنّه أشبه باللغو ، إذ كيف يمكن إثبات صدورها ممّن لم يوجدها ونفي صدورها عن خالقها وموجدها؟! وهل معنى للخلق إلّا الصدور والإيجاد؟!

هذا ، ويمكن أن يريد المصنّف بهذا الوجه الإشكال على دعوى القاضي صدور وصف المعصية من العبد ، لا الإشكال على دعواه صدور أصل الفعل من الله تعالى كما بيّنّا.

فيكون معنى كلامه : إنّ أصل الفعل إذا كان صادرا عن الله سبحانه كما زعمه القاضي ، بطل قوله بصدور وصف المعصية عن العبد ؛ لأنّ فعل الله تعالى لا يوصف بالقبيح ، فلا يوصف بالمعصية ، ويلزمه انتفاء المعصية عن العبد ، كما يلزمه أن لا يحسن من الله سبحانه ذمّ إبليس وسائر العصاة ، والحال أنّ الله تعالى قد ذمّهم.

وأمّا قوله : « يكون مراد القائل : إنّ هناك شيء ينسب إليه » إلى آخره

ففيه : إنّه إذا لم يطّلع على كلمات القائل ومحلّه من العلم ، فكيف حكم بأنّ هذا مراده؟!

على أنّ الشيء المجهول الذي أثبته إن كان للعبد تأثير فيه ، بطل مذهبهم ، وإلّا بطل التكليف والبعثة والعقاب!

٣٣٠

القدرة متقدّمة [ على الفعل ]

قال المصنّف ـ أعلى الله منزلته ـ(١) :

المطلب الثالث عشر

في أنّ القدرة متقدّمة

ذهبت الإمامية والمعتزلة كافّة إلى أنّ القدرة التي للعبد متقدّمة على الفعل(٢) .

وقالت الأشاعرة هنا قولا غريبا عجيبا ، وهو : إنّ القدرة لا توجد قبل الفعل ، بل مع الفعل ، غير متقدّمة عليه لا بزمان ولا بآن(٣) .

فلزمهم من ذلك محالات ، منها : تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ الكافر مكلّف بالإيمان إجماعا منّا ومنهم.

فإن كان قادرا عليه حال كفره ، ناقضوا مذهبهم من أنّ القدرة مع الفعل غير متقدّمة عليه.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٩.

(٢) الذخيرة في علم الكلام : ٨٨ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٧ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١٠٤ ، تجريد الاعتقاد : ١٧٥ ، شرح الأصول الخمسة : ٣٩٠ ـ ٣٩١.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٢ ، تمهيد الأوائل : ٣٢٥ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٥٢ ، شرح المقاصد ٢ / ٣٥٣ ، شرح المواقف ٦ / ٨٨.

٣٣١

وإن لم يكن قادرا عليه ، لزمهم تكليف ما لا يطاق.

وقد نصّ الله تعالى على امتناعه فقال :( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (١) .

والعقل دلّ عليه ، وقد تقدّم(٢) .

وإن قالوا : إنّه غير مكلّف حال كفره ، لزم خرق الإجماع ؛ لأنّ الله تعالى أمره بالإيمان ، بل عندهم أنّه أمرهم في الأزل ونهاهم ، فكيف لا يكون مكلّفا؟!

* * *

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٢) راجع الصفحة ٩٧ ـ ٩٨ من هذا الجزء.

٣٣٢

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ القدرة حادثة مع الفعل ، وإنّها توجد حال حدوث الفعل وتتعلّق به في هذه الحالة ، ولا توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلّقها به ، إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل ، بل امتنع وجوده فيه

وإن لم يمتنع وجوده قبله ، بل أمكن ، فلنفرض وجوده فيه فالحالة التي فرضناها أنّها حالة سابقة على الفعل ليست كذلك ، بل هي حال الفعل ، هذا خلف محال

لأنّ كون المتقدّم على الفعل مقارنا يستلزم اجتماع النقيضين ، أعني كونه متقدّما وغير متقدّم ، فقد لزم من وجود الفعل قبله محال ، فلا يكون ممكنا ، إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات.

وإذا لم يكن الفعل ممكنا قبله لم يكن مقدورا قبله ، فلا تكون القدرة عليه موجودة حينئذ ، ولا شكّ أنّ وجود القدرة بعد الفعل ممّا لا يتصوّر

فتعيّن أن تكون موجودة معه ، وهو المطلوب(٢) .

هذا دليل الأشاعرة على هذا المدّعى.

وأمّا ما ذكر من لزوم المحالات أنّ الكافر مكلّف بالإيمان بالإجماع ، فإن كان قادرا على الإيمان حال الكفر لزم أن تكون القدرة متقدّمة على الفعل ، وهو خلاف مذهبهم

وإن لم يكن قادرا لزم تكليف ما لا يطاق.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٤٣.

(٢) انظر : شرح المواقف ٦ / ٨٨ ـ ٩٠.

٣٣٣

فجوابه : إنّا نختار أنّه غير قادر على الإيمان حال الكفر ، ولا يلزم وقوع تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ شرط صحّة التكليف عندنا أن يكون الشيء المكلّف به متعلّقا للقدرة ، أو يكون ضدّه متعلّقا للقدرة ، وهذا الشرط حاصل في الإيمان ، فإنّه وإن لم يكن مقدورا له قبل حدوثه ، لكنّ تركه بالتلبّس بضدّه ـ الذي هو الكفر ـ مقدور له حال كونه كافرا(١) .

* * *

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٦ / ٩٨.

٣٣٤

وأقول :

ما ذكره من دليل الأشاعرة هو عين ما في « المواقف » وشرحها بألفاظه(١) ، وقد أشكلا فيه بما أغفله الخصم إضاعة للحقّ.

وحاصله : إنّه إن كان المراد بوجود الفعل قبل وجوده هو وجوده بشرط كونه قبل الوجود ، فهو مسلّم المحاليّة ، ولا كلام فيه.

وإن كان المراد به وجوده في زمان عدم الفعل بدلا عن العدم ، فهو ليس بمحال.

وأمّا ما أجاب به عن لزوم التكليف بما لا يطاق ، فهو مبنيّ على ما ذهبوا إليه من تعلّق القدرة بطرف دون آخر(٢) ، وهو باطل.

ولو سلّم فقدرة الكافر إنّما تعلّقت بترك الإيمان ، والمطلوب تعلّقها بالإيمان ، ليكون ممّا يسع المكلّف الذي نفت الآية التكليف بغيره.

وبالضرورة : إنّ مجرّد تعلّق القدرة بالكفر وبترك الإيمان لا يجعل الإيمان ممّا يسع المكلّف ومصداقا له.

وأجيب عن أصل الإشكال بأنّ الكافر مكلّف في الحال بالإيمان في ثاني الحال.

وفيه : مع أنّه مناف لما يزعمونه ـ كما ستعرف ـ من أنّ التكليف مع

__________________

(١) المواقف : ١٥١ ، شرح المواقف ٦ / ٨٨.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٨ ، تمهيد الأوائل : ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠.

٣٣٥

الفعل : أنّ المفروض تكليف الكافر بالإيمان في حال كفره ، لا في ثاني الحال ؛ ولو سلّم ، فإن كان ثاني الحال حال كفر أيضا ، بقي الإشكال ، وإن كان حال إيمان ، فالإيمان واجب حينئذ لا مقدور ؛ لأنّ الشيء إذا وجد وجب.

ومنه يعلم وجه تشنيع المعتزلة على الأشاعرة بلزوم عدم العصيان ؛ لأنّ المكلّف به ليس بمقدور قبل وجوده وواجب حينه(١) .

وقد صحّح القوشجي تشنيعهم بتقرير أنّه قبل الإتيان غير مقدور ، وحينه يحصل الامتثال ، وحينئذ فهو أيضا وارد بالنسبة إلى التكليف بالإيمان(٢) .

* * *

__________________

(١) انظر : المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٨ / ٢٥٠ ، شرح المواقف ٦ / ٩٦ ـ ٩٧.

(٢) شرح التجريد : ٣٦٢.

٣٣٦

قال المصنّف ـ شرّف الله قدره ـ(١) :

ومنها : الاستغناء عن القدرة ؛ لأنّ الحاجة إلى القدرة إنّما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود ، وهذا إنّما يتحقّق حال العدم ؛ لأنّ حال الوجود هي حال الاستغناء عن القدرة ؛ لأنّ الفعل حال الوجود يكون واجبا فلا حاجة به إلى القدرة.

على أنّ مذهبهم أنّ القدرة غير مؤثّرة ألبتّة ؛ لأنّ المؤثّر في الموجودات كلّها هو الله تعالى(٢) .

فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول ؛ لأنّه خلاف مذهبهم.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٩.

(٢) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ٧٥ ، المواقف : ١٥٠ ، شرح العقائد النسفية : ١٤٦.

٣٣٧

وقال الفضل(١) :

الحاجة إلى القدرة اتّصاف العبد بصفة تخرجه عن الاضطرار ، حتّى يصحّ كونه محلّا للثواب والعقاب ، إذ لو لم تكن هذه القدرة حادثة مع الفعل ، لا يتحقّق له صورة الاختيار ، والله حكيم يخلق الأشياء لمصالح لا تحصى.

ولا يلزم من عدم كون القدرة مؤثّرة في الفعل الاستغناء عنها من جميع الوجوه ، ولا يلزم أن يكون البحث عنها فضولا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٤٥.

٣٣٨

وأقول :

إذا لم تكن القدرة مؤثّرة ، فكيف يعلم وجودها؟! وكيف يخرج عن الاضطرار؟! ومن أين تكون مصحّحة للثواب والعقاب؟! على أنّ الثواب عندهم تفضّل محض ، والعقاب تصرّف في الملك بلا حاجة إلى القدرة(١) .

وأمّا ما زعمه من أنّه لو لم تكن القدرة حادثة لا تتحقّق له صورة الاختيار ، فخطأ ؛ إذ لا يتوقّف إيجاد صورة الاختيار على وجود القدرة إذا لم يكن لهما أثر أصلا كما زعموا ، على أنّه لا فائدة في صورة الاختيار بلا تأثير ، كما لا نتصوّر حكمة في خلق القدرة غير التأثير.

ولو سلّم فالبحث عنها ـ بلحاظ جهة التأثير ـ فضول.

* * *

__________________

(١) انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٢٣ و ١٣٤ و ١٤٠ ، المواقف : ٣٧٨ ، شرح المقاصد ٥ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

٣٣٩

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : إلزام حدوث قدرة الله تعالى أو قدم العالم ؛ لأنّ القدرة مقارنة للفعل ، وحينئذ يلزم أحد الأمرين ، وكلاهما محال

لأنّ قدرة الله تعالى يستحيل أن تكون حادثة ، والعالم يمتنع أن يكون قديما.

ولأنّ القدم مناف للقدرة ؛ لأنّ القدرة إنّما تتوجّه إلى إيجاد المعدوم ، فإذا كان الفعل قديما امتنع استناده إلى القادر.

ومن أعجب الأشياء بحث هؤلاء القوم عن القدرة للعبد والكلام في أحكامها ، مع أنّ القدرة غير مؤثّرة في الفعل ألبتّة ، وإنّه لا مؤثّر غير الله تعالى ، فأيّ فرق بين القدرة واللون وغيرهما بالنسبة إلى الفعل ، إذا كانت غير مؤثّرة ولا مصحّحة للتأثير؟!

وقال أبو عليّ ابن سينا رادّا عليهم : « لعلّ القائم لا يقدر على القعود »(٢) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣٠.

(٢) الإلهيّات من كتاب الشفاء : ١٨٢.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420