دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق14%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214747 / تحميل: 4834
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٦-x
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

من تعاملهم مع الهنود الحمر في امريكا ، ولو تجاوزنا بعض المظالم والضغوطات التي قمنا بها في حروبنا غير المشروعة ضدهم ، فأن تعاملنا ( شعوب اوروبا ) مع شعوب الشرق يبقىٰ باعثاً علىٰ العداء والبغضاء ، فلو لم يستطع الاوروبيون الاستفادة مباشرة من الشرقيين كما حصل في الهند ، حيث كانوا لا يبقون لهم الّا ما يسدون به رمقهم ، بأسم الضرائب ، فقد كانوا يحصلون منهم الاموال من خلال تجارة غير مشروعة ومضاربات مالية ، ومن هنا يتّضح حجم الانحطاط الاخلاقي الذي وصل اليه الاوروبيون ، ولو اردنا محاكمة التجّار الاوروبيون علىٰ ضوء قانونهم التجاري لما نجىٰ إلّا القليلين منهم من اشد العقوبات ».

حرب الافيون في الصين

ثم يقول الدكتور لوبون :

« ومن الصفحات السوداء في تاريخ اوروبا ، تلك التي تختص بالعلاقة مع الصين في القرن التاسع عشر ، ولربما ينال احفادنا يوماً ما عقاب ما فعلناه هناك علىٰ يد الصينيين(1) ، فما هو تعليق الشعوب الاوروبية علىٰ الحرب المدمرة التي تعرف بحرب الافيون ، حيث قام الانجليز بادخال سمّ قاتل ( الترياق ) الىٰ الصين ، فعارضت الحكومة الصينية آنذاك هذا العمل لكن الانجليز اجبروهم علىٰ الاستسلام والقبول في النهاية بالقوة ومن خلال دوي ________________

(1) ونحن أيضاً ننتظر ذلك اليوم ، حيث تنتقم الشعوب المستضعفة ، وليس الشعب الصيني فقط ، منهم ان شاء الله.

٢٢١

المدافع ، وصحيح ان بريطانيا تجني حالياً مائة وخمسين مليون جنيه في السنة من تجاره ( الترياق ) ، لكنه وحسب الاحصائية التي قام بها حديثاً الدكتور كريستليب(1) فأن هذا الترياق ينتهي بستمائة الف صيني سنوياً الىٰ خشبة الاعدام ، وحرب الترياق المدمرة مثال يحتفظ به الصينيون علىٰ وحشية الاوروبيين وانحطاطهم الاخلاقي ، وهو ما سينقلونه لأجيالهم اللاحقة أيضاً(2) فعندما كان المبشرون الانجليز يدعون الصينيين الىٰ النصرانية ، كان جوابهم : سبجان الله ! انكم تسمّونا اولاً وتقتلوننا وبعد ذلك تعطونا دروساً في التقوىٰ والعفة.

وبعد ان ينقل الدكتور لوبون حديثاً عن السيد ششوار(3) في بعض الصينيين والهنود للاوروبيين ، يضيف :

« تعاملنا مع شعوب الشرق ، يعطيعم الحق في بعضنا والعداء لنا ، فكلما تصورت نفسي شرقياً لا اجد تردداً في اظهار ذلك البغض والعداء للاوروبيين ، فحتىٰ لو اظهرنا نحن الاوروبيين الامانة والصدق حالياً في جميع معاملاتنا مع شعوب الشرق ، يبقىٰ من مصلحة الشرق ان يقطع كل علاقة له بالقرب مع الغرب ويكمل الجدار القديم الذي بناه ذلك الملك العاقل علىٰ حدود الصين ».

________________

(1) Dr. Chritlieb

(2) يجب ان نشكر الشعب الصيني الذي وصفهم بالوحوش والبرابرة ، في حين ان بعض ابناء شعبنا ورغم المآسي التي لحقت بهم من الاوروبيين وهي اخطر مئات المرات من حرب الافيون ، لا يزالون يعبدونهم مثل الاصنام.

3 ـ Mr. Rochechouart

٢٢٢

كان ذلك اعترافاً من اشهر علماء اوروبا المنصف الدكتور لوبون ، ويظهر منه المستوىٰ الذي وصل اليه ظلم الغرب واعتداءاته علىٰ الشعوب والدول المستضعفة التي تطالب بأستقلالها وحقوقها ، اجل هؤلاء السارقون الدوليون والمدججون بالسلاح والتكنولوجيا والسباع الضارية ، هم انفسهم الذين يعتبرون قطع يد السارق عقاباً له عملاً وحشياً خلافاً للعواطف الانسانية !

سعادة الدكتور ، هذه بضع نماذج قدمتها لكم عن قوانين الاسلام العظيم ، واعتذر لضيق المجال عن ذكر جميع القوانين التي اتىٰ بها الاسلام ، ومقارنتها بالقوانين الوضعية التي تحكم عالمنا المعاصر.

فهذه القوانين السامية هي التي ادت الىٰ انتشار الاسلام بسرعة بين الناس في عالم الامس وعالم اليوم ، كما ان دقتها العلمية هي التي جعلت كبار علماء العالم يسلمون امام عظمة نبي الاسلام الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته.

٢٢٣

البحث في قوانين الاسلام العسكرية

العقيد : ما ارودتموه في اثبات قوة القوانين الاسلامية من الناحية العلمية وفي جميع شؤون الحياة المادية والمعنوية ، قياساً بقوانين عالم اليوم ، مقنع جداً ، لكن الجزء الذي ارأىٰ صعوبة في قبوله من كلامكم ، هو ان القوانين الاسلامية المحيّرة للعقول هي العامل الوحيد في التقدّم السريع الذي كان للاسلام في عالم الامس وانتشاره في عالم اليوم ، لأنه والحق يقال ، وكما اشار الىٰ ذلك الكثير من المبشرين المسيحيين فان الحروب الكثيرة التي خاضها المسلمون ، لعبت دوراً كبيراً وهاماً في تقدم الاسلام وانتشاره.

الشيخ : سيادة العقيد ! ان الذين يرون ان الاسلام انتشر بالسيف ، أمّا ان يكونوا من اعداء الاسلام أو أنَّهم ممن يجهلون البرنامج العسكري والحربي للاسلام ، ولا يدركون الهدف الاساسي الذي ينشده المسلمون من الحرب ، ولأثبات بطلان التهم التي تصدر من اعداء الاسلام وخاصة المبشرين المسيحيين الذين استفادوا من جهل المسلمين بتاريخهم وادعوا أن الاسلام انتشر بالسيف والقوة ، سوف أكون مضطراً لشرح البرنامج العسكري الاسلامي وهدف المسلمين من الحرب.

جوع وميدان معركة !

وفي هذه الاثناء ارتفع صوت عامل مطعم القطار في الممر :

٢٢٤

الغداء الغداء ايها السادة الغداء جاهز.

نظر الشيخ وبقية الاصدقاء الىٰ ساعاتهم فوجدوا الوقت ، اول الظهر.

الدكتور : سيادة العقيد ، الوقت اول الظهر ، ولن ادعك تجر هذا الشيخ الىٰ ساحة القتال وهو جائع ، فأنت عسكري وتستطيع تحمل الجوع ، لكن هذا العم يتحدث لنا منذ ساعات وبالتأكيد ليس بأستطاعته الآن شرح برنامج الاسلام العسكري ببطن فارغة.

العقيد : سعادة الدكتور ، اتصوّر انك اتّخذت الشيخ ذريعة ، والحقيقة انكم انتم الجائعون ، وهنا ضحك الاصدقاء.

الدكتور : بالتأكيد ، الجميع جياع ، والامر لا يختص بي سوىٰ انني تكلمت بصراحة ، لكنكم اضمرتم ذلك ، حسناً ، مع انني جائع جداً ، إلّا اني اوافق علىٰ الحديث عن البرنامج الحربي يطرحه الاسلام اولاً ، ثم نذهب للغداء من بعد.

العقيد : شكراً علىٰ ذلك.

الشيخ : قبل الدخول في بحث قوانين الاسلام العسكرية ، لابد من الاشارة إلى أن الاسلام دين كامل ومذهب مستقل ، ولو كان هذا الدين لا يملك برنامجاً ، واحكاماً فيما يتعلق بالامور العسكرية فانه بلا شك ناقص وغير تام.

ولا بدّ ان يكون لهذا الدين السماوي الكامل افضل واكمل القوانين أيضاً في المجال العسكري ، لأن الاسلام لا يواجه في مسيرة الكمال التي يدعو لها اهل العلم والمنطق أو الناس البسطاء غير المتعلمين فقط ، بل هناك الجبابرة

٢٢٥

والطواغيت الذين يُعد الاسلام خطراً مواجهاً لهم في استمرار سيطرتهم واستضعافهم للناس والمحرومين ، لذلك من الطبيعي ان يقفوا ضده ويضعوا العوائق في طريقه ، وهؤلاء الذين لم يتعاملوا مع المسلمين إلّا بمنطق القوة والسيف ، كان لابدّ للمسلمين أيضاً ان يواجهونهم بنفس المنطق الذي لا يفهمون غيره وان يزيلوهم عن طريق الدعوة الىٰ الاسلام الذي هو السبيل لكمال الانسان وسعادته ، والآن حيث اتّضحت الحاجة الىٰ برنامج ونظام حربي الاسلامي ، لابد من شرح قوانين الاسلام واحكامه العسكرية لمعرفة قوتها وقيمتها الحقيقية.

ان اغلب الحروب ، تحدث للتوسع وفتح البلدان واستعمارها واستثمارها ، وفي هذه الحروب تهاجم دولة ، دولة اخرىٰ وتحاول الانتصار عليها بأية وسيلة حتىٰ تسيطر علىٰ ذلك البلد وتوسع من دائرة سلطتها وحكومتها ، لذلك نشاهد الجرائم والمآسي التي تأتي بها تلك الحروب في الماضي والحاضر وتلك الاعمال الدنيئة التي يخجل الانسان من ذكرها.

أمّا الاسلام فلا يهدف من حروبه فتح البلدان أو استثمار الشعوب ، لأنه اساساً يقف في حروبه امام الطغاة الذين قاموا بأستثمار الناس وعملوا على تخلفهم.

وللاسلام أهداف مقدّسة وانسانية سامية في الحروب والمعارك التي يخوضها ، لذلك فالبرنامج العسكري الوحيد المليء بالمفاخر والاعتزاز هو البرنامج العسكري الاسلامي ، لأن حروب الاسلام هي حروب تحريرية ، وعلىٰ هذا الاساس ، فالقوانين العسكرية والحربية الاسلامية بمستوىٰ من الشرف والنخوة ، استطيع ان ادعي معه بصراحة انه لا يوجد مثيل لها في جميع

٢٢٦

القوانين العسكرية والحربية في العالم ، وهذه بعض المواد الاساسية للنظام العسكري والحربي في الاسلام :

1 ـ علىٰ الجندي المسلم عندما يواجه العدو ، ان يدعوه في البدء الىٰ الاسلام ، وفيما لو قبل الدعوة واصبح مسلماً فلا يحق لأحد من جيش المسلمين الاعتداء عليه أو علىٰ ماله وبلده ، بل لو اعتدىٰ أحد الجنود المسلمين علىٰ ذلك الشخص الحديث الاسلام وقتله ، لابدّ من معاقبة ذلك الجندي المسلم ، والاقتصاص منه علىٰ اساس قانون القصاص.

2 ـ فيما لم يقبل الاعداء غير المسلمين الدعوة الىٰ الاسلام ، لايحق للجنود المسلمين ايضاً مهاجمتهم والاقتتال معهم ، بل يجب ان يدعوهم لأعطاء الجزية(1) ولو قبلوا بذلك لايحق للجيش الاسلامي الاعتداء عليهم ومهاجمتهم.

3 ـ بعد ان يمتنع الاعداء غير المسلمين من دفع الجزية ، عند ذاك تكون دور الحرب معهم ، لكن الحرب تكون مع الجنود غير المسلمين الذين جاؤا الىٰ ساحة المعركة بهدف القتال ، ولو فرّوا من ساحة القتال لا يحق للمسلمين مطاردتهم ، ولو اندحر جيش الكفار ودخل المسلمون بلاد الاعداء ، لا يحق لهم التعرّض الىٰ الشيوخ والعجائز وقتلهم ، أو ايذاء الاطفال والنساء والضعفاء ، وحتىٰ الحيوانات ، كما يجب عليهم ان لا يدمروا المزارع والبساتين ، ولا يخربوا الانهار والقنوات ، ولا يحق لهم تخريب الابنية أو قطع الاشجار المثمرة

________________

(1) ضريبة خاصة تؤخذ من المشركين ( اهل الكتاب ) حسب قدراتهم المالية ، وفي المقابل تتعهد الدولة الاسلامية بضمان امنهم.

٢٢٧

والخضراء.

عندما أراد جيش المسلمين التحرك نحو مؤته ، خطب فيهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :

« ستجدون فيها رجالاً معتزلين الناس فلا تتعرضوا لهم ، لاتقتلن امرأة ولا صغيراً ضرعاً ولا كبيراً فانياً ولا تقطعن نخلاً ولا شجراً ولا تهدمن بناء »(1) .

وفي خطبة لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام لجيشه قبل قتال جيش معاوية ، يقول :

« فاذا كانت الهزيمة باذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً ولا تجهزوا علىٰ جريح ولا تهيجوا النساء بأذىٰ »(2) .

أصدقائي الاعزاء !

هذه بعض مواد القانون الحربي في الاسلام ، وكما تلاحظون ، مع ان هدف المسلمين هو احتلال البلدان غير الاسلامية ، ( من اجل غاية مقدسة سنشرحها لاحقاً ) ، لكنهم يراعون جميع جوانب الفضيلة والانسانية ، والقوانين الحربية في الاسلام لا تسمح بأي عمل غير اخلاقي أو مما يخدش بالرجولة والضمير.

________________

(1) نواسخ التواريخ.

(2) نهج البلاغة : 16 ، طبعة مصر.

٢٢٨

لنكتشف مجرىٰ الماء

في احدىٰ معارك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع اليهود ، كان اليهود قد لجأوا الىٰ حصن منيع لا يطاله المسلمون ، فبقي المسلمون محاصرين للحصن اياماً ، وهم يفكرون بحلّ لفتح الحصن والانتصار علىٰ اليهود ، وفي مثل تلك اللحظات الحساسة جاء أحد قادة الجيش الاسلامي الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال ان ماء شرب اهالي الحصن يأتي من خارجها ، ونستطيع نحن من خلال اكتشاف مجرىٰ الماء ان نسيطر عليه ، ونمنع عنهم الماء فنضطرهم الىٰ الاستسلام ، فهل تسمح لنا القيام بذلك ؟ فأجابه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لن اسمح لكم بذلك ، ففي الحصن اشخاص كبار في السن طاعنين ومرضىٰ وفيها نساء واطفال وحيوانات ، فلماذا نمنع الماء وهم لا يقاتلوننا(1) .

لن اسمح بمنع الماء

حدث في معركة صفين ان جيش معاوية استولىٰ علىٰ أطراف نهر الفرات قبل وصول جيش الامام عليعليه‌السلام ، ولم يسمح لجيش الامام عليعليه‌السلام ان يأخذ من ماء النهر ، فأشتد العطش بجيش الامام عليعليه‌السلام فطلبوا الاذن من الامام بالهجوم علىٰ قوات معاوية التي تحول دون وصولهم للنهر ، فسمح لهم الامام بذلك ، وبعد هجوم سريع استطاع جيش الامام علي ان يخرج الفرات من قبضة جيش معاوية.

________________

(1) ناسخ التواريخ.

٢٢٩

ورداً لما قام به معاوية وجيشه من دناءة ، اقترحوا علىٰ الامام عليعليه‌السلام ان لا يسمح هو أيضاً لجيش معاوية الاستفادة من ماء الفرات ، وبذلك سيفقد الجيش قدرته علىٰ الصمود من شدة العطش ، فينهار ويستسلم دفعة واحدة ، فأجابهم الامامعليه‌السلام علىٰ اقتراحهم : لا اكافيهم ، بمثل ما فعلوا ، افسحوا لهم عن الشريعة(1) .

اصدقائي الاعزاء !

يتّضح من المثالين التاريخيين اللذين سقتهما ، كيف ان انتصار الجنود المسلمين علىٰ الاعداء ممزوج بالرجولة والفضيلة.

هدف الاسلام الاساسي من الحرب مع غير المسلمين

الطالب الجامعي ، حسن : القوانين الحربية والعسكرية الاسلامية التي نقلتها ـ والخطاب للشيخ ـ رجولية وعطوفة جداً ، وصحيح انه لا يوجد مثل هذه القوانين الفاضلة المشرّعة لساحة القتال حيث يصل الغضب والحقد ذروته ، في جميع قوانين العالم الحربية ، لكنه يبقىٰ هناك سؤال وهو هدف الاسلام من الحرب والانتصار علىٰ الدول غير الاسلامية ؟

الشيخ : لم يكن هدف المسلمين من الانتصار علىٰ الدول غير الاسلامية ، هو ادخالهم الىٰ الاسلام بالسيف ، بل الهدف الاساسي والمهم من

________________

(1)المصدر نفسه.

٢٣٠

ذلك هو ايجاد حالة من الترابط والاختلاط التام بين المسلمين وغير المسلمين ، كي يطلعوا علىٰ قوانين الاسلام السامية عن قرب ، ويشاهدوها عملياً من خلال تصرفات المسلمين ، وبالنتيجة سيدخلون الاسلام بأرادتهم ورغبتهم ، لأنه ليس هناك شك من ان القوانين الاسلامية فطرية وطبيعية وجذابة بشكل لو شوهد تطبيقها من قبل المسلمين ، ستكسب إليها كل انسان سليم القلب ، لذلك كان الناس يدخلون الاسلام افواجاً في البلدان التي فتحها المسلمون والتي شاهدوا فيها وفعة وسموّ القوانين الاسلامية وافضليتها ، من خلال سلوكيات المسلمين ، وهكذا ينتشر الاسلام بالمنطق والاستدلال ودون اي اكراه أو الزام.

لم ينتشر الاسلام بالسيف

الآن وقد تحدثنا عن برنامج الاسلام الحربي وقوانينه وكذلك الهدف الاساسي من الحرب بالنسبة للمسلمين ، سنجيب عن التهم الباطلة التي يرمي بها المبشرون والقساوسة المشركين الاسلام ، من انه دين انتشر بحد السيف ومن خلال الحروب التي خاضها المسلمون وفتحوا بها البلدان.

واجاباتنا علىٰ تلك التهم ، نحددها في عدة مواضيع :

1 ـ علىٰ مدىٰ ثلاثة عشر عاماً من البعثة ، كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذروة ضعفه العسكري وهو بين اعدائه الاقواياء الذين يسيطرون علىٰ كل شيء في مكة ، وفي تلك الفترة اعتنق الكثيرين الاسلام دون ان يرهبهم سيف ، لأنه فضلاً عن عدم وجود سيف وقوة للمسلمين ، فقد كانوا اقلية تخاف ان يتخطفها الناس

٢٣١

علىٰ حد تعبير القرآن الكريم ، وكانوا يضطرون احياناً للهجرة من ديارهم وترك اموالهم الىٰ بلدان اجنبية لكي يحفظوا اسلامهم.

اذن في الصدر الاول بحيث بدأ انتشار الاسلام لم يكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يمتلك قوة يرهب بها الناس لدخول الاسلام ، بل ان هؤلاء الناس ذوو النفوس النقية ، دخلوا الاسلام ونبذوا الكفر في ذروة قوته ، وبأختصار ، فلاسلام انتشر في البداية علىٰ اساس الاستدال والمنطق والايمان ، وبعد ذلك بدأ بفتح البلدان للهدف الذي ذكرناه مسبقاً.

2 ـ وكما قلنا سابقاً ، كان المسلمون وقبل بدأ القتال يدعون المشركين من الكفار الىٰ دفع الجزية ، وفيما لو دفعوا الجزية ، كان لهم الحق ان يبقوا علىٰ دينهم للأبد وتحت ظل الحكومة الاسلامية ، وهذا اكبر دليل علىٰ ان المسلمين لم يهدفوا في فتحهم البلدان الىٰ اجبار الناس علىٰ دخول الاسلام ، لانهم كان بأستطاعتهم ان لا يأخذوا الجزية من غير المسلمين ، ويجبروهم علىٰ دخول الاسلام.

3 ـ يحقُّ للذين يدفعون الجزية للمسلمين ليس فقط البقاء علىٰ دينهم ، بل اقامة شعائرهم الدينية الخاصة والذهاب الىٰ الكنائس والمعابد بشكل علني ، في ظل حماية المسلمين.

في حين لو كان المسلمون يريدون اجبار الكفار علىٰ دخول الاسلام ، لما اجازوا لهم اقامة شعائرهم بشكل علني في محافلهم ومعابدهم.

4 ـ الدليلان الرابع والخامس اللذان نسوقهما علىٰ ان هدف الاسلام من الحروب التي قام بها بعد انتشاره وقوته ، لم يكن ارغام الناس علىٰ الدخول فيه

٢٣٢

بالقوة ، هذان النموذجان عن تعامل نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غير المسلمين :

وثيقة صلح الحديبية

في وثيقة صلح الحديبية ( وهي منطقة قريبة من المدينة ) التي وقّعت بين المسلمين والكفار ، تعهد المسلمون بأرجاع اي شخص من كفار مكة يدخل الاسلام ويلجأ الىٰ المدينة. فقال أحد المسلمين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، خذ منهم عهداً بأعادة أي شخص يرتد عن الاسلام ويذهب الى مكة.

فقال نبي الاسلام : لا آخذ مثل هذا العهد من اهالي مكة(1) لان المسلم الذي يرتد عن الدين ويلجأ الىٰ الكفار ، لن يفيدنا اذا اعادوه لنا ، لأن القلب هو مركز الايمان ، والشخص الذي لا يدخل الاسلام عن قناعة ورغبة ، لن يكون مسلماً حقيقياً.

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي اربعة اشهر مهلة

بعد ان نقض اهل مكة مفاد صلح الحديبية ، تحرك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لفتح مكة ، فدخل جيش الاسلام مكة دون مقاومة تذكر ـ كما مرّ سابقاً ـ سوىٰ مقاومة صغيرة لبعض شباب مكة بزعامة صفوان بن اُمية وعكرمة بن أبي جهل ، وبعد قتال محدود ، اندحرت مجاميع الكفار ، وسيطر المسلمون علىٰ مكة كلها ، فهرب صفوان بن اُمية وعكرمة بن أبي جهل من مكة بنية مغادرة

________________

(1) ناسخ التواريخ.

٢٣٣

الحجاز تماماً ، إلّا ان عمير بن وهب ، جاء الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وشفع لصفوان بن اُمية ، فقبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة عمير ، وعفىٰ عن صفوان ، فذهب عمير بن وهب الىٰ خارج مكة ، وأبلغ صفوان عفو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله له ، وطلب منه ان يعود مطمئناً الىٰ مكة ، فقال له صفوان : أخاف أن يمكر بي نبيكم ويقتلني عند دخولي مكة ، فطمأنه عمير بأن ليس في الاسلام مكراً وخديعة ، عند ذلك اطمئن صفوان إلى كلام عمير بن وهب ورجع إلى مكة ، وعندما قابل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا محمد عمير بن وهب يدعي انك أعطيتني الامان.

فقال الرسول : يصدق عمير.

فطلب صفوان مهلة شهرين من الرسول كي يطلع علىٰ الاسلام ، ومن ثمّ يسلم ، فقال له الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : لك اربعة اشهر مهلة.

لكن صفوان اسلم عن قناعة قبل انقضاء المهله(1) .

ومن خلال هذه القصة يتّضح ، انه لو كان هدف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو اجبار الناس علىٰ الاسلام بقوة السيف لما أمهل صفوان يوماً واحداً فضلاً عن اعطائه اربعة اشهر ، أو لاكتفىٰ بالشهرين اللذين طلبهما صفوان منه كمهلة.

اصدقائي الاعزاء !

هذه دلائل لا تقبل الشك ، يتضح خلالها هدف المسلمين من الحرب ، وهو غير اجبار الناس علىٰ الاسلام بالقوة ، بل ان اهم هدف من وراء ذلك هو

________________

1 ـ حياة محمد (ص).

٢٣٤

مدّ جسر وثيق من العلاقة والارتباط بين المسلمين وغير المسلمين لكي تطلع شعوب الدول غير الاسلامية علىٰ قوانين الاسلام العظيم ، ولكي لا يحول طواغيت الارض ، ولا تقف الانظمة الكافرة امام تعالي الانسان وخلاصة وتحرره من رجسها وذل عبودية غير الله.

لذلك فمن حقنا القول ان كلام المبشرين في ان الاسلام انتصر وانتشر بحد السيف ما هي الّا تهم باطلة ودنيئة تصدر عن اعداء الاسلام والحاقدين عليه.

اعتراف كبار العلماء بأن الاسلام لم ينتشر بالسيف

ولكي يعرف اصدقائي الاعزاء مقاصد المبشرين المسيحيين أكثر من التهم التي يسوقونها ضد الاسلام ، سننقل هنا بعض ما قاله كبار علماء اوروبا المسيحيين حول سرعة انتشار الاسلام :

يقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه حضارة الاسلام والعرب :

« ينتشر الاسلام بطريق بسيط وسهل ، جعل الجميع يحتارون في امره ، ولا بدّ ان نعتبر ذلك من خصوصيات الاسلام التي ينفرد بها دون غيره من الاديان ، ففي كل مكان وضع المسلمين اقدامهم ترسخ الاسلام في قلوب الناس ، في الصين وفي افريقيا الوسطىٰ وروسيا ، ولم يكن ذلك عن طريق الحرب وبواسطة الجيوش ، بل عن طريق التجار والتجارة ، واليوم نشاهد ملايين المسلمين في تلك البلدان ، فهؤلاء لم يدخلوا الاسلام بالترغيب أو القوة بل عن قناعة ورغبة ورضىٰ ، ولم نسمع لحد الآن عن قوة عسكرية

٢٣٥

كانت تدعم اولئك التجار ، والاغرب من ذلك هو نمو الاسلام وانتشاره السريع اين ما وصل التجار ودعوا الناس إليه ، فعلىٰ سبيل المثال منذ قرون والاسلام في روسيا ينتشر ، وفي الهند التي يعيش فيها الآن ملايين المسلمين ، صرف المبشرين والقساوسة البروتستانت مبالغ طائلة لنشر المسيحية دون نتيجة ، وفي الصين التي تعتبر من المناطق التي تفتخر بتراثها القومي لم يستطع المبشرون المسيحيون رغم الوسائل الكثيرة التي استخدموها هناك أن ينشروا المسيحية واعترفوا بكل صراحة عن عجزهم ، لكن الاسلام انتشر وينتشر هناك يومياً علىٰ الرغم من عدم وجود دعم خارجي ، بحيث يصل مجموع المسلمين اليوم هناك اكثر من اربعين مليون مسلم في كل انحاء الصين ، وفي بكين وحدها هناك اليوم ما يزيد علىٰ مائة الف مسلم ».

ثم يضيف الدكتور لوبون حول كيفية معاملة المسلمين مع شعوب الدول التي يفتحونها والحرية التي كانت للنصارىٰ في ظل الحكم الاسلامي ، فيقول :

« لقد عامل العرب الاندلسيين ( الاسبان ) الذين فتحت بلادهم علىٰ ايدي المسلمين ، كما كانوا يعاملون اهل مصر والشام ، وقد تركوا لهم حرية التصرف بأموالهم ومعابدهم وخيرّوهم في البقاء تحت حكم وقضاء اشخاص من نفس دينهم بشرط ان يدفعوا جزية سنوية ، ولقد كانت الشروط بسيطة وسهلة بحيث قبل بها الجميع مباشرة ، وكان تعامل المسلمين مع الشعوب التي فتحت بلادها حسناً بحيث كان يجوز للأساقفة ان يعقدوا لأنفسهم مجالس دينية ».

٢٣٦

اعتراف الدكتور لورا فاكسيا واغليري

يقول الدكتور فاغليري استاذ جامعة نابل :

« كانت حياة الشعوب المغلوبة وحقوقها المدنية وثرواتها الوطنية مصانة من قبل الدولة الاسلامية بشكل يتساوىٰ تقريباً مع ما كان للمسلمين انفسهم ».

ويضيف في مكان آخر :

« كان العرب الفاتحون مستعدون وفي ذروة قوتهم وانتصاراتهم ، لأن يقولوا لأعداءهم : كفّوا عن الحرب وادفعوا ضريبة مالية معتدلة ، ولكم ان تعيشوا تحت حمايتنا بشكل كامل ، ولكم من الحقوق مالنا ، ولو نظرنا جيداً الىٰ اقوال النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أوالىٰ فتوحات المسلمين ، في صدر الاسلام ، سنشاهد بسهولة كذب تهمة ادخال الناس بقوة السيف الىٰ الاسلام. فالقرآن الكريم يقول :

( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (1) .

ثم يضيف الدكتور واغليري :

« في التاريخ الاسلامي نماذج عديدة علىٰ مداراة الاسلام مع اتباع الاديان الالهية الاخرىٰ ، كما تعهد الرسول بنفسه حماية معابد مسيحيوا نجران ، وكذلك امر احد قادة الجيش الذي ارسله الىٰ اليمن ان لا يتعرض لأي شخص

________________

(1) سورة البقرة : 258.

٢٣٧

من اليهود في اماكنهم ومساكنهم ، وكان هذا تعامل المسلمين مع اتباع الديانات الاخرىٰ ، فهم احرار في العمل حسب آرائهم وشعائرهم الدينية ، بشرط ان يدفعوا ضريبة جزئية تسمىٰ الجزية ، وهذه الجزية عادة اقل من الضريبة التي يدفعها المسلمون انفسهم للدولة الاسلامية ، وفي مقابل تلك الجزية ، ولأتباع الديانات الاخرىٰ الحق في حرية العمل حسب مذاهبهم ولا يجبرون علىٰ تركها ، كما ان الدولة الاسلامية توفر لهم الحماية التامة ».

اصدقائي الاعزاء !

كان ذلك موجزاً عن برنامج الاسلام الحربي وهدف المسلمين من الحروب وكيفية تعامل المسلمين مع شعوب البلدان التي يسيطرون عليها واستشهدنا في ذلك بنماذج من تاريخ الاسلام ، واقوال علماء اوروبا ، واثبتنا ان المسلمين لوحدهم لم يجبروا الآخرين علىٰ اعتناق دينهم بالقوة والسيف ، بل منحوا الآخرين حرية دينية تامة في ظل حكمهم.

لكن لننظر ماذا فعل هؤلاء المسيحيون والاوروبيون عندما دارت الامور واستولوا هم علىٰ بلاد المسلمين ، لقد قاموا بجرائم ومجازر ومآسي سوّدت وجه التاريخ ويخجل الانسان من مجرد ذكرها !

تاريخ الحروب الصليبية الاسود

ولكي لا يتصور اصدقائي ان حديثي عن توحش وجرائم الشعوب الاوروبية مصدره التعصب الديني ، سأنقل لكم بعض الجرائم التي قام بها

٢٣٨

الصليبوين في الحروب الدموية والمعروفة بالحروب الصليبية ، وذلك ايضاً علىٰ حدّ ما جاء في كلام وكتابات العلماء والمؤرخين القساوسة الاوروبيين المسيحيين.

يتحدث الدكتور غوستاف لوبون في البداية عن الحرب التي شنها المسيحيين والاوروبيين ضد المسلمين ، فيقول :

« الكلام حول القتال الذي دار بين العالم الاوروبي المتوحش ، واسمىٰ الحضارات التي نشاهد آثارها في التاريخ ».

ثم يضيف :

« لقد قامت المسيحية الاوروبية بارتكاب اعمال وحشية في الحروب الصليبية ، لا يمكن ان اعبر عنها بشيء سوىٰ انهم ( المسيحيين ) كانوا قد جنوا ، فعندما انتصر الصليبيون علىٰ المسلمين الاتراك ، قاموا بقطع رؤوس المجروحين المسلمين وحملوها معهم علىٰ خيلولهم الىٰ معسكرهم وهم يفتخرون بما قاموا به ، ثم قاموا برمي تلك الرؤوس من فوق حصار كانوا يضربونه حول احدىٰ المدن المسلمين ، بأتجاه اهالي المدينة ، ان تصرفات المسيحيين الاوروبيين المشينة في جميع تلك الحروب جعلتهم بمستوىٰ اكثر الناس توحشاً وبربرية علىٰ وجه الارض ، وكانوا في تعاملهم السيء ذلك لا يفرقون بين اتباع دينهم واعدائهم أو الناس العاديين من النساء والاطفال والشيوخ والشبان والعسكر الذي يواجهونه ، في المدن التي يهاجمونها ، اي انهم كانوا يقتلون وينهبون الجميع دون استثناء ».

٢٣٩

تقول انكومن(1) ابنة امبراطور القسطنطنية :

« من جملة ماكان الاوروبيون يرفهون عن انفسهم فيه في تلك الحروب ، هو انهم كانوا يقتلون كل طفل يمرّ من امامهم ويلقون به في النار ! ».

ويقول الراهب روبرت(2) وهو من القساوسة المسيح حول المجازر التي ارتكبها المسيحيين الاوروبيين بحق المسلمين في مدينة مارا(3) :

« كان الجيش المسيحي يتحرك في انحاء المدينة مثل اللبوة التي سرقوا اطفالها ، وكانوا يتلذّون بالمجازر التي يرتكبونها بحق الناس ، فكانوا يقطعون أيدي الاطفال ويضربون اعناق الشيوخ والشبان ، ومن اجل ان يسرعوا في عملهم ، كانوا يشنقون عدة اشخاص في حبل واحد !

وكان المسيحيون في تلك الحروب ينهبون كل مايجدون عند الحيّ والميت من نقود ومجوهرات ، وكانت ازقة مدينة « مارا » تحولت الىٰ بركة من الدماء ، تسبح فيها جثث القتلىٰ المنتشرة في جميع ارجاء المدينة ، وكان المسيحيون يعبرون من فوقها !

في وصفه لدخول المسيحيين الاوروبيين الىٰ القدس ، يقول العالم الاوروبي المعروف ، رايموند داجلس(4) :

« عندما احتل المسيحيون الاوروبيون سور المدينة وقلاعها ، ظهرت

________________

(1) Aonicomnen

(2) Robert

(3) Marrat

(4) Rayimond Dagiles

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقال الفضل(١) :

حاصل هذا الاعتراض : إنّ كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره ، إذ الفرض كون القدرة والمقدور معا ، فيلزم من حدوث مقدوره تعالى حدوث قدرته ، أو من قدم قدرته قدم مقدوره ، وكلاهما باطل ؛ بل قدرته أزلية إجماعا ، متعلّقة في الأزل بمقدوراته.

فقد ثبت تعلّق القدرة بمقدورها قبل حدوثه ، ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القديمة أيضا(٢) .

وأجاب شارح « المواقف » عن هذا الاعتراض بأنّ « القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهيّة للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا ، فلا يلزم من جواز تقدّمها على الفعل جواز تقدّم الحادثة عليه.

ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل بالفعل تعلّقا معنويا لا يترتّب عليه وجود الفعل ، ولها تعلّق آخر به حال حدوثه ، تعلّقا حادثا موجبا لوجوده ، فلا يلزم من قدمها مع تعلّقها المعنوي قدم آثارها ، فاندفع الإشكال بحذافيره »(٣) .

وأمّا ما ذكره من التعجّب من بحث الأشاعرة عن القدرة مع القول بأنّها غير مؤثّرة في الفعل ، فبالحريّ أن يتعجّب من تعجّبه ؛ لأنّ القدرة صفة حادثة في العبد ، وهي من صفات الكمال.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٤٨.

(٢) انظر : شرح المواقف ٦ / ٩٤ ـ ٩٥.

(٣) شرح المواقف ٦ / ٩٦.

٣٤١

فالبحث عنها لكونها من الأعراض والكيفيات النفسانية وعدم كونها مؤثّرة في الفعل ، من جملة أحوالها المحمولة عليها ، فلم لا يبحث عنها؟!

وأمّا قوله : ( أن لا فرق بينها وبين اللون ) ؛ فقد أبطلنا هذا القول في ما سبق مرارا ، بأنّ اللون لا نسبة له إلى الفعل ، والقدرة تخلق مع الفعل ليترتّب على خلقها صورة الاختيار ، ويخرج بها العبد من الجبر المطلق ، ويترتّب على فعله الثواب والعقاب والتكليف ؛ والله أعلم.

قال الإمام الرازي : القدرة تطلق على مجرّد القوّة التي هي مبدأ للأفعال المختلفة(١) الحيوانية ، وهي القوّة العضلية التي هي بحيث متى انضمّ إليها إرادة أحد الضدّين ، حصل ذلك الضدّ ، ومتى انضمّت إليها إرادة الضدّ الآخر ، حصل ذلك الآخر ، ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين سواء ، وهي قبل الفعل.

والقدرة أيضا تطلق على القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدّين معا وإلّا اجتمعا في الوجود ، بل هي بالنسبة إلى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ؛ وذلك لاختلاف الشرائط وهذه القدرة مع الفعل ؛ لأنّ وجود المقدور لا يتخلّف عن المؤثّر التامّ(٢) .

ولعلّ الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولذلك حكم بأنّها مع الفعل ، وأنّها لا تتعلّق بالضدّين.

والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرّد القوّة العضلية ، فلذلك قالوا بوجودها

__________________

(١) انظر : المواقف : ١٥٤ ، وجاء في تفسير الفخر الرازي ١ / ١٤٦ ما نصّه : « وأعلم أنّ لفظ القوّة يقرب من لفظ القدرة » وهو مؤدّى « القدرة تطلق على مجرّد القوّة » ، فلاحظ!

(٢) انظر : شرح التجريد ـ للقوشجي ـ : ٣٦١.

٣٤٢

قبل الفعل وتعلّقها بالأمور المتضادّة ، فهذا وجه الجمع بين المذهبين(١) .

وبهذا يخرج جواب أبي علي ابن سينا حيث قال : « لعلّ القائم لا يقدر على القعود » فإنّه غير قادر ، بمعنى أنّه لم يحصل له بعد القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، وهو قادر بمعنى أنّه صاحب القوّة العضلية.

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ٦ / ١٠٤ ـ ١٠٥.

٣٤٣

وأقول :

لا أثر لمخالفة القدرة القديمة للحادثة في الماهيّة ؛ لأنّ دليل الأشاعرة السابق المانع من تقدّم القدرة الحادثة آت في القديمة أيضا ، كدليلهم الآخر الآتي في كلام القوشجي.

على أنّ المخالفة ممنوعة بمقتضى مذهبهم ؛ لأنّ القدرتين من الأعراض واقعا في مذهبهم ، والعرض لا يبقى زمانين عندهم.

قال القوشجي : « احتجّت الأشاعرة على أنّ القدرة مع الفعل لا قبله بوجهين :

أحدهما : إنّها عرض ، والعرض لا يبقى زمانين ، فلو كانت قبل الفعل لا نعدمت حال الفعل ، فيلزم وجود المقدور بدون القدرة ، والمعلول بدون العلّة ، وهو محال.

وأجيب عنه : أمّا أوّلا : فبالنقض بقدرة الله تعالى ، وما يقال من أنّ العرض لا يطلق على صفاته تعالى ، وأنّ صفاته ليست مغايرة لذاته ، فممّا لا يجدي نفعا ، ولأنّ الكلام في المعاني لا في إطلاق الألفاظ »(١) .

وأمّا قول شارح « المواقف » : « ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل » إلى آخره(٢) .

ففيه : إنّه إذا جاز ذلك في القديمة فليجز مثله في الحادثة ، بأن تكون

__________________

(١) شرح التجريد : ٣٦٢.

(٢) شرح المواقف ٦ / ٩٦.

٣٤٤

نفسها وتعلّقها المعنوي متقدّمين على الفعل كما هو المطلوب ، إذ لا ندّعي تقدّمها على الفعل بتعلّقها الموجب لوجوده.

وأمّا ما أجاب به الخصم عن تعجّب المصنّف ، فقد مرّ ما فيه ، من أنّ البحث عن تقدّمها أو مقارنتها ، إنّما هو فرع تأثيرها ومبنيّ عليه ، فإذا زعموا أنّها غير مؤثّرة ، كان بحثهم عن جهة التقدّم والمقارنة فضولا ، وإن كان البحث عنها من جهة أخرى صحيحا.

وأمّا ما ذكره من الفرق بين القدرة واللون

ففيه : إنّ المطلوب هو الفرق بالنسبة إلى الدخل بالفعل ، لا الفرق بأيّ وجه كان ، وما ذكره من صورة الاختيار ، قد عرفت أنّه لا فائدة فيه مع عدم تأثير القدرة.

على أنّه لا يتوقّف خلق صورة الاختيار على خلق القدرة بعد فرض عدم الأثر لهما.

كما إنّ القدرة بلا تأثير لا تصحّح العقاب والثواب ، ولا تخرج العبد عن الجبر الحقيقي.

وأمّا كلام الرازي ، فهو في الحقيقة تسليم منه لخصومهم ؛ لأنّ محلّ النزاع هو المعنى الأوّل ، الذي لا يخالف المعنى الثاني بذات القدرة ، وإنّما يخالفه بعدم اجتماع شرائط تأثيرها.

كما إنّ احتمال الرازي لإرادة الأشعري للمعنى الثاني خطأ ، كما ذكره شارح « المواقف » ؛ لأنّ القدرة الحادثة ليست مؤثّرة عند الأشعري ، فكيف يقال : إنّه أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير؟!

وأمّا ما ذكره من أنّه يخرج بهذا جواب ابن سينا

ففيه : ما حكاه السيّد السعيد عن ابن سينا في كلام له متّصل بهذا

٣٤٥

الجواب ، فإنّه صرّح به بأنّ : القدرة ليست إلّا القوّة التي يكون لها التأثير بالقوّة ، وردّ على من فسّرها بالقوّة المستجمعة لشرائط التأثير.

ونقل السيّدرحمه‌الله أيضا عن ابن سينا أنّه أبطل القول بأنّ القدرة مع الفعل ، حيث إنّه في فصل القوّة والفعل والقدرة والعجز ، من « إلهيّات الشفاء » قال : « وقد قال بعض الأوائل ـ وغاريقون منهم ـ : إنّ القوّة تكون مع الفعل ولا تتقدّم.

وقال بهذا أيضا قوم من الواردين بعده بحين كثير.

فالقائل بهذا القول كأنّه يقول : إنّ القاعد ليس يقوى على القيام ، أي :

لا يمكن في جبلّته أن يقوم ما لم يقم ، فكيف يقوم؟! وإنّ الخشب ليس بجبلّته أن ينحت بابا ، فكيف ينحت؟!

وهذا القائل لا محالة غير قوي على أنّ يرى ويبصر في اليوم الواحد مرارا ، فيكون بالحقيقة أعمى »(١) .

* * *

__________________

(١) الإلهيّات من كتاب الشفاء : ١٨٢ ، إحقاق الحقّ ٢ / ١٥١.

٣٤٦

القدرة صالحة للضدّين

قال المصنّف ـ عطّر الله مرقده ـ(١) :

المطلب الرابع عشر

في أنّ القدرة صالحة للضدّين

ذهب جميع العقلاء إلى ذلك عدا الأشاعرة ، فإنّهم قالوا : القدرة غير صالحة للضدّين(٢) ، وهذا مناف لمفهوم القدرة ، فإنّ القادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل ، وإذا شاء أن يترك ترك.

فلو فرضنا القدرة على أحد الضدّين لا غير ، لم يكن الآخر مقدورا ، فلم يلزم من مفهوم القادر أنّه إذا شاء أن يترك ترك.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣٠.

(٢) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٤ ، تمهيد الأوائل : ٣٢٦ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٥٣ ، المواقف : ١٥٣ ، شرح المواقف ٦ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

٣٤٧

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بالضدّين ، بناء على كون القدرة عندهم مع الفعل لا قبله.

بل قالوا : إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بمقدورين مطلقا ، سواء كانا متضادّين أو متماثلين أو مختلفين ، لا معا ولا على سبيل البدل ، بل القدرة الواحدة لا تتعلّق إلّا بمقدور واحد ، وذلك لأنّها مع المقدور(٢) .

ولا شكّ أنّ ما نجده عند صدور أحد المقدورين مغاير لما نجده عند صدور الآخر.

ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : إنّ قدرة العبد تتعلّق بجميع مقدوراته المتضادّة وغير المتضادّة(٣) .

وأنا أقول : ولعلّ النزاع لفظي لا على الوجه الذي ذكره الإمام الرازي ، فإنّ الأشاعرة يجعلون كلّ فرد من أفراد القدرة الحادثة متعلّقا بمقدور واحد ، وهو الكائن عند حدوث الفعل ، فكلّ فرد له متعلّق.

والمعتزلة يجعلون القدرة مطلقا متعلّقة بجميع المقدورات ، وهذا لا ينافي جعل كلّ فرد ذا تعلّق واحد.

والمعتزلي لا يقول : إنّ الفرد من أفراد القدرة الحادثة إذا حدث

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٥٢.

(٢) انظر : تمهيد الأوائل : ٣٢٦ ، المواقف : ١٥٣.

(٣) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٤١٥ ، شرح المواقف ٦ / ١٠٢ ـ ١٠٣ ، الذخيرة في علم الكلام : ٨٥ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١٠٣.

٣٤٨

وحصل منه الفعل ، فعين ذلك الفرد يتعلّق بضده ، بل يقول : إنّ القدرة الحادثة مطلقا تتعلّق بالضدّين ، وهذا لا ينفيه الأشاعرة ، فالنزاع لفظي ؛ تأمّل.

وأمّا ما ذكره من : « أنّه يوجب عدم كون القادر قادرا ؛ لأنّه إذا لم تصلح القدرة للضدّين لا يكون الفاعل قادرا على عدم الفعل وهو الترك ، فيكون مضطرّا لا قادرا ».

فالجواب عن ذلك : إنّه إن أريد بكونه مضطرّا أنّ فعله غير مقدور له ، فهو ممنوع ، وإن أريد به أنّ مقدوره ومتعلّق قدرته متعيّن ، وأنّه لا مقدور له بهذه القدرة سواه ، فهذا عين ما ندّعيه ونلتزمه

ولا منازعة لنا في تسميته مضطرّا ، فإنّ الاضطرار بمعنى امتناع الانفكاك لا ينافي القدرة ، ألا يرى أنّ من أحاط به بناء من جميع جوانبه ، بحيث يعجز عن التقلّب من جهة إلى أخرى ، فإنّه قادر على الكون في مكانه بإجماع منّا ومنهم ، مع أنّه لا سبيل له إلى الانفكاك عن مقدوره(١) .

* * *

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٦ / ١٠٤.

٣٤٩

وأقول :

لا يخفى أنّ تعلّق القدرة بالشيء قد يكون بمعنى أنّه إن شاء فعله فعله ، وإن شاء تركه تركه ، وهو معنى صحّة الطرفين وصلاحيّتهما.

وقد يكون بمعنى تأثيرها في متعلّقها ، وهذا بالضرورة لا يقع بالطرفين ؛ لأنّ التأثير للنقيضين في آن واحد محال ، لعدم إمكان اجتماعهما.

ولا ريب أنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في المعنى الأوّل ، إذ لو كان مقصود الأشاعرة هو المعنى الثاني ، لاستدلوا بما هو ضروري ، من أنّ التأثير للنقيضين في آن واحد محال ، ولم يحتاجوا إلى كلفة بنائه على مقارنة القدرة للمقدور التي تمحّلوا للاستدلال عليها.

وحينئذ فلا وجه لما زعمه الخصم من كون النزاع لفظيا ؛ لأنّه إذا كان محلّ النزاع هو التعلّق بالمعنى الأوّل كما عرفت ، فلا بدّ أن يكون المراد هو القدرة المطلقة ؛ لأنّها هي التي تصلح للنقيضين ، لا فرد القدرة الخاصّ الجامع لشرائط التأثير ؛ لأنّه إنّما يكون فردا خاصّا عند التأثير بأحد الطرفين ، فلا يمكن أن يصلح في هذا الحين للتأثير بالطرف الآخر.

ولا يخفى أنّ هذا الذي جمع به الخصم وأظهر التفرّد به راجع إلى ما جمع به الرازي ؛ لأنّ القدرة المطلقة هي القوّة العضلية ، وفردها هو القوّة

٣٥٠

المستجمعة لشرائط التأثير(١) .

وأمّا ما أجاب به عن إلزام المصنّف ، فمناف لما توهّمه من كون النزاع لفظيا ، إذ لو سلّموا تعلّق القدرة المطلقة بالطرفين ، كما هو محلّ دعوى المصنّف ، لقال : نحن لا نمنع هذا حتّى ينافي مفهوم القدرة ، وإنّما نمنع تعلّق فردها بالطرفين وهو لا ينافي مذهبكم.

ولكن قد يعذر الخصم على إتيان هذه المنافاة ؛ لأنّه لا يعرف من الاستدلال والردّ إلّا ما في « المواقف » وشرحها ، كما هو دأبه في هذا الكتاب ، وقد وجد هذا الكلام في « شرح المواقف » فأورده بلفظه جهلا بأنّه ينفي ما توهّمه(٢) .

ثمّ إنّه واضح البطلان ؛ لأنّا نختار منه الشقّ الأوّل من ترديده ، ونحكم بسفسطة مانعه ، إذ لو كان الفعل الذي لا يتمكّن فاعله من تركه مقدورا له ، لكان كلّ فعل تلبّس به الشخص ولم يقدر على تركه مقدورا له ، وكذا كلّ ترك تلبّس به ولم يقدر على نقيضه

فيكون من سقط من شاهق قادرا على هذا السقوط في حين السقوط ، وكان تارك الطيران إلى السماء قادرا على الترك ، وهو عين السفسطة.

ومن هذا القبيل مثال البناء الذي ذكره ، فإنّ دعوى قدرة من أحاط به البناء وعجز عن التقلّب شبيهة بدعوى القدرة في هذه الأمثلة.

نعم ، هو قادر على الكون في البناء المذكور ، وعلى السقوط في

__________________

(١) تقدّم قول الفخر الرازي في الصفحة ٣٤٢.

(٢) انظر : شرح المواقف ٦ / ١٠٤.

٣٥١

المثال السابق ، قبل الكون وقبل السقوط ، وأمّا حينهما فهما غير مقدورين له في هذا الحين

وضرورة العقلاء حاكمة بذلك ، ودعوى الإجماع منّا ومنهم مع وضوح الكذب علينا غير غريبة!

* * *

٣٥٢

الإنسان مريد لأفعاله

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

المطلب الخامس

عشر في الإرادة

ذهبت الإمامية وجميع المعتزلة إلى أنّ الإنسان مريد لأفعاله ، بل كلّ قادر فإنّه مريد ؛ لأنّها صفة تقتضي التخصيص ، وأنّها نفس الداعي(٢) .

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فأثبتوا صفة زائدة عليه(٣) .

وهذا من أغرب الأشياء وأعجبها ؛ لأنّ الفعل إذا كان صادرا عن الله تعالى ومستندا إليه ، وكان لا مؤثّر إلّا الله تعالى ، فأيّ دليل حينئذ يدلّ على ثبوت الإرادة؟! وكيف يمكن ثبوتها لنا؟!

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣١.

(٢) الذخيرة في علم الكلام : ١٦٥ ـ ١٦٦ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٢ ـ ٩٣ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ٩٧ ـ ٩٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٦٢ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٩ ، المحيط بالتكليف : ٢٣٢ ، شرح الأصول الخمسة : ٣٢٤ ـ ٣٤٧ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٤.

(٣) الإبانة عن أصول الديانة : ١٢٣ وما بعدها ، تمهيد الأوائل : ٢٩٩ و ٣١٧ ، الملل والنحل ١ / ٨٢ ـ ٨٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٠٧ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٤٣ ، المسائل الخمسون : ٥٢ و ٥٣ ، شرح المقاصد ٤ / ١٢٨ و ٢٧٤ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٤ ـ ١٢٥ ، شرح المواقف ٨ / ٤٤ ـ ٤٥.

٣٥٣

لأنّ طريق الإثبات هو أنّ القادر كما يقدر على الفعل ، كذا يقدر على الترك ، فالقدرة صالحة للإيجاد والترك ، وإنّما يتخصّص أحد المقدورين بالوقوع دون الآخر بأمر غير القدرة الموجودة وغير العلم التابع.

فالمذهب الذي اختاروه لأنفسهم سدّ عليهم ما علم وجوده بالضرورة ، وهو القدرة والإرادة.

فلينظر العاقل المنصف من نفسه ، هل يجوز له اتّباع من ينكر الضروريات ويجحد الوجدانيات؟!

وهل يشكّ عاقل في أنّه قادر مريد ، وأنّه فرق بين حركاته الإرادية وحركة الجماد؟!

وهل يسوغ لعاقل أن يجعل مثل هؤلاء وسائط بينه وبين ربّه؟!

وهل تتمّ له المحاجّة عند الله تعالى بأنّي اتّبعت هؤلاء ، ولا يسأل يومئذ كيف قلّدت من تعلم بالضرورة بطلان قوله؟!

وهل سمعت تحريم التقليد في الكتاب العزيز مطلقا؟!

فكيف لأمثال هؤلاء؟!

فما يكون جوابه غدا لربّه؟!

وما علينا إلّا البلاغ المبين!

وقد طوّلنا في هذا الكتاب ليرجع الضالّ عن زلله ، ويستمرّ المستقيم على معتقده.

* * *

٣٥٤

وقال الفضل (١) :

هذا المطلب لا يتحصّل مقصوده من عباراته الركيكة ، والظاهر أنّه أراد أنّ الأشاعرة لا يقدرون على إثبات صفة الإرادة ؛ لأنّ إسناد الفعل إلى الله تعالى ، وأنّه لا مؤثّر إلّا هو ، يوجب عدم إثبات صفة الإرادة.

وقد علمت في ما سلف بطلان هذا ، فإنّ وجود القدرة والإرادة في العبد معلوم بالضرورة ، وكونهما غير مؤثّرتين في الفعل لا يوجب عدم ثبوتهما في العبد ـ كما مرّ مرارا ـ والله أعلم.

وما ذكره من الطامّات قد كرّره مرّات ، ومن كثرة التطويل الذي كلّه حشو حصل له الخجل ، وما أحسن ما قلت في تطويلاته شعرا :

لقد طوّلت والتطويل حشو

وفي ما قلته نفع قليل

وقالوا الحشو لا التطويل لكن

كلامك كلّه حشو طويل

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٦١.

٣٥٥

وأقول :

لم يخف على المصنّف أنّ وجود القدرة والإرادة في العبد ضروري ، كيف وقد صرّح به هنا ، وصرّح في ما سبق بأنّهما مؤثّران بالضرورة؟!

ولكن لمّا علم من حالهم أنّهم يكابرون الضرورة ، ويطالبون بإقامة الأدلّة على الأمور البديهية ، كما كابروا في أمر تأثيرهما وفي غيره من الأمور السابقة ، جرى على منوالهم في المقام ، وألزمهم بعدم وجود الدليل على وجود القدرة والإرادة ، بناء على مذهبهم من كون المؤثّر هو الله تعالى وحده ، بل يلزمهم الحكم بعدم وجود الإرادة ، إذ لا يتصوّر وجه حاجة إليها غير تخصيص أحد الطرفين المقدورين.

فإذا منعوا صلاحية القدرة للطرفين وقالوا : إنّها هي المخصّصة لأحدهما ، لم يكن معنى لتخصيص الإرادة ، فيلزمهم نفي وجود ما علم وجوده بالضرورة ، وينسدّ طريق ثبوته ، لا سيّما والله سبحانه لا يفعل العبث.

ودعوى الأشاعرة ترتّب التكليف والثواب والعقاب على وجودها المجرّد عن التأثير ، قد عرفت بطلانها.

وأمّا ما نسبه إلى المصنّف من الطامّات ، وإيراد الحشو في العبارات ، فهو موكول إلى المنصف.

وكفاك في معرفة تضلّعه في البيان وسموّ مداركه ، ما سمّاه شعرا واستحسنه من هذين البيتين ونحوهما!!

* * *

٣٥٦

المتولّد من الفعل من جملة أفعالنا

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المطلب السادس عشر

في المتولّد

ذهبت الإمامية إلى أنّ المتولّد من أفعالنا [ مستند إلينا ](٢) .

وخالفت أهل السنّة في ذلك ، وتشعّبوا في ذلك ، وذهبوا كلّ مذهب.

فزعم معمّر(٣) : إنّه لا فعل للعبد إلّا الإرادة ، وما يحصل بعدها فهو

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣٢.

(٢) أوائل المقالات : ١٠٣ ، الذخيرة في علم الكلام : ٧٣ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٢ ، تقريب المعارف : ١٠٨ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٠.

(٣) هو : أبو عمرو ـ أو : أبو المعتمر ـ معمّر بن عبّاد البصري السلمي ، مولاهم العطّار ، المتكلّم المعتزلي ، المتوفّى سنة ٢١٥ ه‍ ، تفرّد بمقالات أنكرها عليه معتزلة البصرة ففرّ إلى بغداد ، وكان يقول : « في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها ، ولا لها عند الله عدد ولا مقدار » ، وكان بينه وبين النظّام مناظرات ومنازعات ، له عدّة تصانيف ، منها : كتاب المعاني ، كتاب الاستطاعة ، كتاب الجزء الذي لا يتجزّأ والقول بالأعراض والجواهر.

انظر ترجمته في : الفهرست ـ للنديم ـ : ٢٨٩ ، سير أعلام النبلاء ١٠ / ٥٤٦ رقم ١٧٦ ، طبقات المعتزلة : ٥٤.

٣٥٧

من طبع المحلّ(١) .

وقال بعض المعتزلة (٢) : لا فعل للعبد إلّا الفكر(٣) .

وقال النظّام : لا فعل للعبد إلّا ما يوجد في محلّ قدرته ، وما يجاورها فهو واقع بطبع المحلّ(٤) .

وذهبت الأشاعرة إلى أنّ المتولّد من فعل الله تعالى(٥) .

وقد خالف الكلّ ما هو معلوم بالضرورة عند كلّ عاقل

فإنّا نستحسن المدح والذمّ على المتولّد كالمباشر ، كالكتابة والبناء والقتل ، وغيرها.

وحسن المدح والذمّ فرع على العلم بالصدور عنّا ، ومن كابر في حسن مدح الكاتب والبنّاء المجيدين في صنعتهما ، البارعين فيها ، فقد كابر مقتضى عقله(٦) .

* * *

__________________

(١) المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٩ / ١١ وفيه أنّه قول ثمامة بن الأشرس والجاحظ أيضا حكاية عن أبي القاسم البلخي في كتاب « المقالات » ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٧ ، الملل والنحل ١ / ٥٩ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧١ ـ ٢٧٢.

(٢) هو ثمامة بن الأشرس النميري.

(٣) المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٩ / ١١ ، الفرق بين الفرق : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٦١ ـ ٦٢ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧٢.

(٤) المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٩ / ١١ ، الملل والنحل ١ / ٤٩ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٦٠.

(٥) تمهيد الأوائل : ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٠ ، المواقف : ٣١٦ ، شرح العقائد النسفية : ١٥١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧١.

(٦) راجع : الذخيرة في علم الكلام : ٧٣ ـ ٧٥ ، تقريب المعارف : ١٠٨ ـ ١٠٩.

٣٥٨

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ المعتزلة لمّا أسندوا أفعال العباد إليهم ، ورأوا فيها ترتّبا ، قالوا بالتوليد ، وهو أن يوجد فعل لفاعله فعلا آخر ، نحو حركة اليد وحركة المفتاح.

والمعتمد في إبطال التوليد عند الأشاعرة استناد جميع الكائنات إلى الله تعالى ابتداء.

وأمّا ترتّب المدح والذمّ للعبد ؛ فلأنّه محلّ للفعل ومباشر وكاسب له.

وكذا ما يترتّب على فعله(٢) وإن أحدثه الله تعالى بقدرته ، فلا يلزم مخالفة الضرورة كما مرّ مرارا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٦٥.

(٢) تقدّم في الهامش رقم ٥ من الصفحة السابقة.

٣٥٩

وأقول :

فيه ما عرفت أنّه لا يصحّ إسناد جميع أفعال العباد إلى الله سبحانه ، وأنّ الكسب لا يغني في دفع شيء من الإشكالات السابقة ، إذ لا أثر للعبد فيه كأصل الفعل ، لاستناد جميع الكائنات عندهم إلى الله سبحانه.

وحينئذ فلا محلّ لمدح العبد وذمّه على المتولّد بطريق أولى ؛ لأنّه فعل الله تعالى بلا أثر للعبد فيه أصلا عندهم.

* * *

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420