دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق14%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 215057 / تحميل: 4848
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٦-x
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وأقول :

إن أراد بملاحظة الغاية كونها داعية للفعل ، فهو مذهبنا(١) ، ولا يقوله الأشاعرة.

وإن أراد بها مجرّد إدراك الغاية من دون أن تكون باعثة على الفعل ، فهو مذهب الأشاعرة(٢) ، ويلزمه العبث وسائر المحالات ، ويجوز بمقتضاه أن يعذّب الله سبحانه أعظم المطيعين ، ويثيب أعظم العاصين ؛ لأنّه لا غاية له تبعثه إلى الفعل ، بل يفعل مجّانا بلا غرض ، بل يجوز أن لا تكون أفعاله متقنة ، وإن اتّفق إتقانها في ما وقع ، وأمّا في ما لم يقع بعد ـ كالثواب والعقاب ـ فمن الجائز أن لا يكون متقنا ؛ لفرض عدم الغرض له تعالى ، ولأنّه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء!

فما زعمه من عدم تحرير الفريقين لمحلّ النزاع حقيق بالسخرية! أتراه يخفى على جماهير العلماء ويظهر لهذا الخصم وحده؟! وهل يخفى على أحد أنّ النزاع في الغرض والعلّة الغائيّة ، وأنّ الإمامية والمعتزلة لم يروا بالقول بالغرض بأسا ونقصا ، بخلاف الأشاعرة؟! وهذا الخصم ما زال ينسب لقومه القول بالغاية ، فإن أراد بها الغاية الباعثة على الفعل ، فهي خلاف مذهبهم بالضرورة.

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ١٩٨ ، كشف المراد : ٣٣١ ، تلخيص المحصّل : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، المواقف : ٣٣١ ـ ٣٣٢ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٦.

٦١

وإن أراد بها الأمر المترتّب اتّفاقا ، كقوله تعالى :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (١) ، غاية الأمر : أنّ الله تعالى عالم بهذا الأمر المترتّب ، فهو حقيقة مذهبهم ، وعليه ترد الإشكالات ، ولا ينفع معه التسويلات والتنصّلات.

وأمّا ما ذكره من قولهم بالحكمة والمصلحة ، فهو وإن قالوا به ظاهرا ، لكن لا بنحو اللزوم كقولهم بالإتقان ؛ لأنّ اللزوم لا يجتمع مع نفي الغرض ونفي الحسن والقبح العقليّين ونفي وجوب شيء عليه تعالى.

وأمّا قوله : « ولولاه لم يكن للفاعل المختار أن يفعل ذلك الفعل »

فإن أراد به أنّه لا يفعله لكونه عبثا ، فهو صحيح ، والله سبحانه أحقّ به.

وإن أراد أنّه لا يفعله لعدم قدرته عليه كما زعمه سابقا ، فهو باطل ـ كما عرفت ـ ، ومنه يعلم ما في قوله : « فهذا الفاعل بالاختيار يحتاج في صدور الفعل عنه ».

وقد بيّنّا أنّ هذا الاحتياج لإخراج الفعل عن العبث لا لنقص في القدرة ، فيكون كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ، لا كاحتياج الذات إلى صفاتها الزائدة الموجب لنقص الذات في نفسها(٢) ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ : ٨.

(٢) انظر ج ٢ / ١٦٩ وما بعدها من هذا الكتاب.

٦٢

إنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب الخامس

في أنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

هذا هو مذهب الإمامية ، قالوا : إنّ الله تعالى أراد الطاعات سواء وقعت أم لا ، ولا يريد المعاصي سواء وقعت أم لا ، [ وكره المعاصي سواء وقعت أم لا ] ، ولم يكره الطاعات سواء وقعت أم لا(٢) .

وخالفت الأشاعرة مقتضى العقل والنقل في ذلك ، فذهبوا إلى أنّ الله تعالى يريد كلّ ما يقع في الوجود ، سواء كان طاعة أم لا ، وسواء أمر به أم نهى عنه(٣) [ وكره كلّ ما لم يقع ، سواء كان طاعة أو لا ، وسواء أمر به أو نهى عنه ] ، فجعلوا كلّ المعاصي الواقعة في الوجود من الشرك والظلم والجور والعدوان وأنواع الشرور مرادة لله تعالى ، وأنّه تعالى راض بها!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٤.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ ، شرح جمل العلم والعمل : ٨٧ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٧٩ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٩.

(٣) الإبانة في أصول الديانة : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، تمهيد الأوائل : ٣١٧ ، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١٠٢ ، الملل والنحل ١ / ٨٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧٤ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣.

٦٣

وبعضهم قال : إنّه محبّ لها ، وكلّ الطاعات التي لم تصدر عن الكفّار مكروهة لله تعالى غير مريد لها ، وإنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، وإنّ الكافر فعل في كفره ما هو مراد لله تعالى وترك ما كره الله تعالى من الإيمان والطاعة منه(١) .

وهذا القول يلزم منه محالات ، منها : نسبة القبيح إلى الله تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة ، وقد بيّنّا أنّه تعالى منزّه عن فعل القبائح كلّها(٢) .

* * *

__________________

(١) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ وقال : « منهم ـ أي الأشاعرة ـ من جوّز أن يقال : الله مريد للكفر والفسق والمعصية » وذكر في ص ١٧٤ أنّ خالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة ، وفيه أيضا : أنّ عدم إيمان الكافر مراد لله فلاحظ!

(٢) راجع كلام العلّامة الحلّي١ في ج ٢ / ٣٣٤ المبحث الحادي عشر من هذا الكتاب.

٦٤

وقال الفضل (١) :

قد سبق أنّ مذهب الأشاعرة : إنّ الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون ، فكلّ كائن مراد وما ليس بكائن ليس بمراد ، واتّفقوا على جواز إسناد الكلّ إليه تعالى جملة ، واختلفوا في التفصيل كما هو مذكور في موضعه(٢) .

ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : إنّه تعالى مريد لجميع أفعاله ، أمّا أفعال العباد فهو مريد للمأمور به منها كاره للمعاصي والكفر(٣) .

ودليل الأشاعرة : إنّه خالق للأشياء كلّها ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة(٤) .

وأمّا ما استدلّ به هذا الرجل في عدم جواز إرادة الله تعالى للشرك والمعاصي ، فهو من استدلالات المعتزلة.

والجواب : إنّ الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى : إنّه أمر قدّره الله تعالى في الأزل للكافر ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٤٨.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ و ١٧٤.

(٣) تقدّم في الصفحة ٦٣ ه‍ ٢ ، وراجع المصارد التالية التي تذكر آراء المعتزلة : شرح الأصول الخمسة : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ، الملل والنحل ١ / ٣٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣.

(٤) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٤.

٦٥

الرضا بالإرادة.

وأمّا كون الطاعات التي لم تصدر من الكافر مكروهة لله تعالى

فإن أراد بالكراهة عدم تعلّق الإرادة به ، فصحيح ؛ لأنّه لو أراد لوجد

وإن أراد عدم الرضا به ، فهو باطل ؛ لأنّه لم يحصل في الوجود حتّى يتعلّق به الرضا أو عدمه.

وأمّا أنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، فإنّه تعالى أمر الكفّار بالإسلام ولم يرد إسلامهم ، بمعنى عدم تقدير إسلامهم ، وهذا لا يعدّ من السفه ، ولا محذور فيه ، وإنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، ولكن هذا الانحصار ممنوع ؛ لأنّه ربّما كان لإتمام الحجّة عليهم فلا يعدّ سفها.

وأمّا ما ذكره من لزوم نسبة القبيح إلى الله تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة

فجوابه : إنّ الإرادة بمعنى التقدير ، وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح من الفاعل المختار ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه.

على أنّ هذا مبنيّ على القبح العقلي وهو غير مسلّم عندنا ، ومع هذا فإنّه مشترك الإلزام ؛ لأنّ خلق الخنزير الذي هو القبيح يكون قبيحا ، والله تعالى خلقه بالاتّفاق منّا ومنكم.

* * *

٦٦

وأقول :

لا يخفى أنّ الأمور الممكنة إنّما يفعلها القادر المختار أو يتركها بإرادة منه ؛ لأنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه إلّا بمرجّح ، وهو الإرادة ، فيكون العدم على طبع الوجود مقدورا ومستندا إلى الإرادة.

ولذا أسند الله تعالى العدم المسبوق بالوجود إلى إرادته حيث يقول :

( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (١) الآية ، فإنّ إهلاك القرية عبارة عن إماتة أهلها بسبب العذاب ، والموت عدم الحياة.

ولا ريب أنّ الإرادة تتوقّف على أمور :

منها : تصوّر المراد

ومنها : الرضا به ، سواء كان وجودا أو عدما ، وسواء كان حكما أم غيره ، فإنّ من يريد شيئا لا بدّ أن يرضى به بالضرورة.

ومنها : الرضا بمتعلّق المراد على وجه التعيّن له أو الترجيح له أو التساوي كما في متعلّق التكاليف ، فإنّ الحاكم إذا كلّف بنحو الوجوب لا بدّ أن يرضى بوجود الواجب على وجه التعيّن له بحيث يكون كارها لنقيضه ، ومثله الحرمة بالنسبة إلى الرضا بالترك والكراهة لنقيضه.

وإذا كلّف بنحو الندب ، لزم أن يرضى بالوجود على وجه الرجحان ، ومثله الكراهة بالنسبة إلى الرضا بالترك.

وإذا حكم على وجه الإباحة ، لزم أن يرضى بالوجود والعدم بنحو

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ١٦.

٦٧

التساوي.

نعم ، إذا كان التكليف امتحانيا لم تتوقّف إرادته إلّا على الرضا بأصل التكليف ، لا بمتعلّقه.

فإذا عرفت هذا فنقول : لمّا كانت أفعال العباد عند الإمامية غير مخلوقة لله تعالى ، لم تكن له إلّا إرادة تشريعية ، أي إرادة للأحكام ، فلم يكن له تعالى رضا بما يريده العباد ويفعلونه من المعاصي ، ولا كراهة لما يتركونه من الطاعات.

بخلافه على مختار الأشاعرة من أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، فإنّه يلزم أن يكون الله سبحانه مريدا للمعاصي الواقعة راضيا بها ، ولعدم الطاعات المتروكة كارها لها ؛ لأنّ فعله للمعاصي يتوقّف على إرادتها المتوقّفة على الرضا بها ، وتركه للطاعات يتوقّف على إرادة الترك المتوقّفة على الرضا به وكراهته الفعل ، كما سبق(١) .

ويلزم أن يكون الله تعالى آمرا بما يريد عدمه ويكرهه ولا يرضى به ، وهو الذي لم يخلقه من الطاعات ، وناهيا عمّا أراده ورضي به ، وهو الذي خلقه من المعاصي ، بل يلزم اجتماع الضدّين : الرضا والكراهة في ما أمر به وتركه ؛ لأنّ أمره دليل الرضا وتركه دليل الكراهة.

وكذا يجتمعان في ما نهى عنه وفعله ؛ لأنّ نهيه مستلزم للكراهة ، وفعله مستلزم للرضا.

وهذا الذي قلناه لا يبتني على أنّ تكون الإرادة بمعنى الرضا كما تخيّله الخصم ، بل هو مبنيّ على توقّف الإرادة على الرضا ـ كما بيّنّاه ـ ،

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر١ في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٣ من هذا الكتاب.

٦٨

فلا معنى لقوله : « الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى أنّه أمر قدّره الله في الأزل ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس الرضا بالإرادة ».

على أنّ تفسير الإرادة بالتقدير ، خطأ ؛ لأنّ الإرادة صفة ذاتية والتقدير فعل ، ولو سلّم فقد عرفت أنّ التقدير موقوف على الإرادة(١) ، وهي موقوفة على الرضا.

ومن الفضول قوله في ما سمعت : « وأمر المشرك به »

فإنّ المصنّف لم يدّع أنّه يلزم مذهبهم أمر المشرك به حتّى ينفيه ، ولا هو متوهّم من كلام المصنّف.

وأمّا إنكاره لعدم الرضا بترك الطاعات ، بحجّة أنّها لم تحصل في الوجود حتّى يتعلّق بها الرضا أو عدمه ، فخطأ ؛ لأنّ الرضا وعدمه إنّما يتعلّقان بالشيء من حيث هو ، لا بما هو موجود ، كيف؟! وهما سابقان على الإرادة السابقة على الوجود.

وأمّا إنكاره للسفه في الأمر بالإسلام الذي لم يقدّره ، فمكابرة ظاهرة.

وقوله : « إنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به »

باطل ؛ لأنّ إتمام الحجّة إنّما يكون على القادر المتمكّن ، لا على العاجز ، فيكون امتحانه سفها آخر ، تعالى الله عنه علوّا كبيرا ، وسيأتي قريبا زيادة إشكال عليه فانتظر.

وأمّا قوله : « وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح »

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر١ في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٣ من هذا الكتاب.

٦٩

فمكابرة أخرى كما مرّ(١) ، إذ لا وجه لعدم قبح القبيح منه سبحانه ، وهو أولى من يتنزّه عن فعل القبيح.

وأمّا ما زعمه من الاشتراك في الإلزام ، فقد عرفت جوابه(٢) .

* * *

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر١ في مبحث « إنّه تعالى لا يفعل القبيح » ، الصفحة ٩ من هذا الجزء.

(٢) راجع الصفحة ٢٥ من هذا الجزء.

٧٠

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : كون العاصي مطيعا بعصيانه ، حيث أوجد مراد الله تعالى وفعل وفق مراده.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

٧١

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ المطيع من أطاع الأمر ، والأمر غير الإرادة ، فالمريد هو المقدّر للأشياء ومرجّح وجوداتها ، فإذا وقع الخلق على وفق إرادته فلا يقال : إنّ الخلق أطاعوه.

نعم ، إذا أمرهم بشيء فأطاعوه يكونون مطيعين.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٢.

٧٢

وأقول :

غير خفيّ أنّ الطاعة منوطة بموافقة الإرادة ، والعصيان بمخالفتها ، لا بموافقة لفظ الأمر ومخالفته

ولذا لو علمت إرادة المولى لشيء ولم يأمر به لمانع وجب إتيانه

ولو علم عدم إرادته مع أمره صورة لم يجب فعله

وإنّما قالوا : الطاعة موافقة الأمر ؛ لأنّه دليل الإرادة ولا تعرف بدونه غالبا ، وحينئذ فيلزم ما ذكره المصنّف من كون العاصي مطيعا بعصيانه لموافقته للإرادة التكوينية ، بل هو موافق للأمر التكويني فيكون مطيعا ألبتّة.

قال عزّ من قائل :( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) (١)

وقال تعالى :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) سورة فصّلت ٤١ : ١١.

(٢) سورة يس ٣٦ : ٨٢.

٧٣

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : كونه تعالى يأمر بما يكره ؛ لأنّه أمر الكافر بالإيمان وكرهه منه حيث لم يوجد وينهى عمّا يريد ، لأنّه نهاه عن الكفر وأراده منه.

وكلّ من فعل هذا من أشخاص البشر ينسبه كلّ عاقل إلى السفه والحمق ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فكيف يجوز للعاقل أن ينسب إلى ربّه تعالى ما يتبرّأ هو منه ويتنزّه عنه؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

٧٤

وقال الفضل(١) :

قد سبق المنع من أنّ الأمر بخلاف ما يريده يعدّ سفها(٢) ، وإنّما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، وليس كذلك ؛ لأنّ الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا؟ قد يأمره ولا يريد منه الفعل.

أمّا أنّ الصادر منه أمر حقيقة ؛ فلأنّه إذا أتى العبد بالفعل يقال : امتثل أمر سيّده.

وأمّا أنّه لا يريد الفعل منه ؛ فلأنّه يحصل مقصوده وهو الامتحان ، أطاع أو عصى ، فلا سفه بالأمر بما لا يريده الآمر.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٢.

(٢) راجع ردّ الفضل في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٢ ، وانظر الصفحتين ٦٥ ـ ٦٦ من هذا الجزء.

٧٥

وأقول :

لا يخفى أنّ السفه يحصل بطلب الفعل والأمر به حقيقة مع كراهته في الواقع ، وبالنهي عنه حقيقة مع إرادته واقعا ، كما هو الحاصل في الشرعيّات ، ضرورة مطلوبية مثل الإيمان وعدم الكفر حقيقة.

ولا محلّ لاحتمال أن يكون الطلب لمثل ذلك صوريا لغرض الامتحان أو غيره ، على أنّ الامتحان للعاجز سفه آخر.

ثمّ إنّ كلامه دالّ على ثبوت الغرض لله تعالى ، وهو باطل على قولهم : « إنّ أفعاله تعالى لا تعللّ بالأغراض »(١) !

* * *

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٧٦

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

ومنها : مخالفة النصوص القرآنية الشاهدة بأنّه تعالى يكره المعاصي ويريد الطاعات ، كقوله تعالى :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٢)

( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) (٣)

( فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (٤)

( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ) (٥)

إلى غير ذلك من الآيات

فترى لأيّ غرض يخالفون هؤلاء القرآن العزيز وما دلّ العقل عليه؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٣١.

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ٣٨.

(٤) سورة الزمر ٣٩ : ٧.

(٥) سورة البقرة ٢ : ٢٠٥.

٧٧

وقال الفضل(١) :

قد يستعمل لفظ الإرادة ويراد به الرضا والاستحسان ، ويقابله الكراهة بمعنى السخط وعدم الرضا ، فقوله تعالى :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٢) ، أريد من الإرادة الرضا ، فسلب الرضا بالظلم عن ذاته المقدّسة ، وهذا عين المذهب.

وأمّا الإرادة بمعنى التقدير والترجيح ، أو مبدأ الترجيح ، فلا تقابلها الكراهة ، وهو معنى آخر.

وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٤.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٣١.

٧٨

وأقول :

لمّا كان من مذهبه : أنّ الله سبحانه هو الخالق للظلم الواقع في الكون ، المريد له(١) ، وكان ذلك خلافا صريحا للآية الأولى ، التجأ إلى حمل الإرادة فيها على الرضا ، وهو لو سلّم لا ينفعه ؛ لتوقّف الإرادة على الرضا ؛ لأنّه من مقدّماتها ، فإذا نفت الآية رضاه تعالى بالظلم ـ كما زعم ـ استلزم نفي إرادته له ، وهو خلاف مذهبه.

وليت شعري إذا لم يرض سبحانه بالظلم والكفر وكان السيّئ عنده مكروها ولا يحبّ الفساد ، فكيف أرادها وخلقها وهو العالم المختار؟!

وإذا كان يرضى الشكر ، فما المانع له عن إرادته وخلقه وهو المتصرّف فيه كما زعموا؟!

وأمّا قوله : « وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا »

فكلام صادر من غير تروّ ، إذ ليس في بقيّة الآيات التي ذكرها المصنّفرحمه‌الله ما يشتمل على لفظ الإرادة ، ولا يعوزه الجواب إذا كان مبنيا على المغالطة.

* * *

__________________

(١) راجع الصفحة ٦٣ من هذا الجزء.

٧٩

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

ومنها : مخالفة المحسوس وهو : استناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصوارف ؛ لأنّ الطاعات حسنة والمعاصي قبيحة.

وإنّ الحسن جهة دعاء والقبح جهة صرف ، فيثبت لله تعالى في الطاعة دعوى الداعي إليها وانتفاء الصارف عنها.

وفي القبيح ثبوت الصارف وانتفاء الداعي ؛ لأنّه ليس داعي الحاجة لاستغنائه تعالى ، ولا داعي الحكمة لمنافاتها إيّاها ، ولا داعي الجهل لإحاطة علمه به.

فحينئذ يتحقّق ثبوت الداعي إلى الطاعات ، وثبوت الصارف في المعاصي ، فثبت إرادته للأوّل وكراهته للثاني.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٦.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

والّذي يدلّ على ذلك أنّ الفقيه عمارة اليمني كتب إلى صلاح الدين الأيّوبي قصيدة سمّاها: (شكاية المتظلّم ونكاية المتألّم) وهي بديعة رثى فيها أصحاب القصر الفاطمي عند زوال ملْكهم.

الإسماعيليّة النزاريّة

قد عرفت أنّ الإسماعيليّة افترقت فِرقتين بين مستعلية ونزاريّة، أمّا الأُولى فقد مضى الكلام فيها، وأمّا الثانية فقد قالوا بإمامة نزار بن معد، وبذلك استمرّ الركب الإمامي بعد وفاة المستنصر بالله، واتفقت النزاريّة قبل الانشقاق على إمامة الأئمّة التالية:

1 - المصطفى بالله نزار بن معد المستنصر.

2 - الإمام جلال الدين حسن بن أعلى محمّد.

3 - الإمام علاء الدين بن الإمام جلال الدين.

4 - الإمام ركن الدين فورشاه بن الإمام علاء الدين.

5 - الإمام شمس الدين بن ركن الدين.

وبعد وفاة الإمام شمس الدين بن ركن الدين ظهر اختلاف من نوع جديد، فالمعلوم أنّه كان للإمام محمّد شمس الدين ثلاثة أولاد، هم: مؤمن شاه، وقاسم شاه، وكياشاه.

فالمؤمنيّة اعترفت بإمامة مؤمن شاه وسارت وراءه وولْده من بعدهن حتّى آخرهم أمير محمد باقر سنة 1210هـ، والقاسميّة سارت وراء قاسم شاه وولْده الذين هم أُسرة آغا خان.

٢٦١

النزاريّة المؤمنيّة:

النزاريّة المؤمنيّة الّتي ذهبت إلى إمامة مؤمن بن محمّد ثُمَّ توالت الإمامة في نسله عبر العصور إلى أن انتقلت إلى الإمام محمّد بن حيدر (الأمير الباقر) (1179 - 1210هـ)؛ وهو آخر إمام من أُسرة مؤمن يَحتفظ الإسماعيليّون في سوريا بفرمان مُرسل منه، من بلدة اورنك آباد بالهند إلى الإسماعيليّين في سوريا، وفي عهده توقّف الفرع المؤمني النزاري عن الركب الإمامي، ودخلت الإمامة في الستر خلافاً للفرع الأخر النزاريّة القاسميّة الّتي ذهب إلى استمرار الإمامة إلى يومنا هذا، وبلغت قائمة الأئمّة النزاريّة المؤمنيّة إلى محمّد بن حيدر 22 إماماً.

النزارية القاسمية:

ذهبت النزاريّة القاسميّة إلى إمامة قاسم شاه، وتوالت الإمامة من عصره إلى يومنا هذا إلى أن وصلت النوبة إلى أُسرة آغا خان.

بلغ عدد الأئمّة النزاريّة القاسميّة من عصر نزار بن معد إلى يومنا هذا 31 إماماً.

وأمّا أئمّة الأُسرة الآغاخانيّة الّذين تحملوا عبء الإمامة، فهم:

1 - حسن علي شاه (1219 - 1298هـ)؛ وهو أوّل من لقّب بآغا خان.

2 - علي شاه (1246 - 1302هـ)، ولد في بلدة محلاّت.

٢٦٢

3 - سلطان بن محمّد شاه (1294 - 1380هـ)، المعروف بآغا خان الثالث، ولد في محلّة شهر العسل بكراتشي.

4 - كريم بن عليّ بن محمّد (1938 ـ...) المعروف بآغا خان الرابع.

هؤلاء أئمّة النزاريّة القاسميّة الآغاخانيّة، وهم الفِرقة المنحصرة باستمرار الإمامة في أولاد إسماعيل، وفق المذهب الإسماعيلي، فالله سبحانه يعلم هل تستمر الإمامة بعد رحيله أو تدخل في كهف الغيبة؟!

٢٦٣

الإسماعيلية والأُصول الخمسة

الإسلام عقيدة وشريعة، والإسماعيليّة كغيرها من المذاهب لها أُصول وفروع.

أمّا الفروع فلا يختلفون مع المسلمين في أُمّهاتها، وكفى في الوقوف عليها ما كتبه القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمّد التميمي (المتوفّى 363هـ) باسم (دعائم الإسلام).

نعم، انفردوا في الاعتقاد بأنّ لكلّ حكم فرعي ظاهراً وباطناً، وقد ألّف القاضي المذكور كتاباً باسم (تأويل الدعائم) وسيمرّ عليك شيئاً من تأويلاته.

إنّما الكلام في عقائدهم وأُصولهم، لأنّ العثور عليها أمر صعب للغاية، وذلك لوجوه:

1 - الظنّة بكتبهم والتستّر عليها وإخفاؤها وعدم جعلها تحت متناول أيدي الآخرين.

2 - اتّخاذ الفلسفة اليونانيّة عماداً وسنداً للمذهب؛ فأدخلوا فيه أشياء كثيرة ممّا لا صلة لها بباب العقائد والأُصول، كالقول بالعقول العشرة والأفلاك التسعة ونفوسها، وأنّ الصادر الأوّل هو العقل، إلى أن ينتهي الصدور إلى العقل العاشر.

3 - إنّ المذهب الإسماعيلي لم يكن في بدء ظهوره مذهباً متكاملاً، وإنّما تكامل عبر الزمان، نتيجة احتكاك الدعاة مع أصحاب الفلسفة اليونانيّة.

٢٦٤

واعتمدنا في عرض عقائدهم على كتابين:

1 - (راحة العقل)، تأليف: الداعي في عهد الحاكم، أعني: أحمد بن عبد الله الكرماني (352 - كان حياً سنة 411هـ)، الملقّب بحجّة العراقين، وكبير دعاة الإسماعيليّة في عصر الحاكم بالله.

2 - (تاج العقائد ومعدن الفرائد)، تأليف: الداعي الإسماعيلي اليمني المطلق عليّ بن محمّد الوليد (522 - 612هـ). وهذا الكتاب أسهل فهماً من (راحة العقل)؛ يتضمّن مائة مسألة في معتقدات مذهب الإسماعيليّة.

٢٦٥

1

عقيدتهم في التوحيد

1 - عقيدتهم في توحيده سبحانه أنّه واحد لا مثل له ولا ضد:

يقول الكرماني في المشرع الخامس: إنّه تعالى لا ضدّ له ولا مثل. (1)

وفي تاج العقائد: إنّه تعالى واحد لا من عدد، ولا يعتقد فيه كثرة، أو ازدواج أشكال المخلوقات، واختلاف البسائط والمركّبات. (2)

2 - إنّه سبحانه ليس أيساً:

إنّ الأيس بمعنى الوجود، ولعلّ أوّل من استعمله هو الفيلسوف الكندي.

وتستنكر الإسماعيليّة وصفه سبحانه بالأيس، وجاء الدليل عليه في كتاب (راحة العقل) وحاصله: إنّه لو كان موصوفاً بالوجود، فبما أنّ الصفة غير الموصوف يحتاج في وصفه به إلى الغير، وهو تعالى غنيّ عمّا سواه.

____________________

(1) راحة العقل: 47.

(2) تاج العقائد ومعدن الفرائد: 21.

٢٦٦

يُلاحظ عليه: أنّ ما جاء به الكرماني يُعرب عن عدم نضوج الفلسفة اليونانيّة في أوساطهم، فهم يتصوّرون أنّ الوجود أمر عارض على الواجب، فيبحثون عن مسبِّب العروض، مع أنّه إذا كانت ماهيّته انّيّته، وكان تقدّست أسماؤه عين الوجود، فالاستدلال ساقط من رأسه.

3 - في نفي التسمية عنه:

والمُراد من نفي التسمية عنه هو نفي الماهيّة عنه، وقد استدلّوا على ذلك بقولهم: إنّه تعالى ليس له صورة نفسانيّة ولا عقليّة ولا طبيعيّة ولا صناعيّة، بل يتعالى بعظيم شأنه، وقوّة سُلطانه عن أن يوسم بما يوسم به أسباب خلقته وفنون بريّته، وقد اتّفقت فحول العلماء على أنّه تعالى لم يزل ولا شيء معه، لا جوهراً ولا عرضاً. (1)

4 - نفي الصفات عنه:

ذهبت الإسماعيليّة إلى نفي الصفات عنه على الإطلاق، واكتفت في مقام معرفته سبحانه بالقول بهويّته وذاته دون وصفه بصفات حتّى الصفات الجماليّة والكماليّة. مع أنّه سبحانه يوصف نفسه في غير سورة من السور، بصفاته.

____________________

(1) تاج العقائد ومعدن الفوائد: 26، ولكن الجمع بين نفي الأيس عنه سبحانه ونفي التسمية (الماهيّة) أمر محال؛ لأنّ الواقع لا يخلو عن أحد الأمرين: فهو وجود محض، أو وجود ذو ماهيّة، فلاحظ.

٢٦٧

5 - الصادر الأوّل هو الموصوف بالصفات العليا:

لمّا ذهبت الإسماعيليّة إلى نفي الصفات عنه سبحانه، لم يكن لهم بدّ من إرجاع تلك الصفات إلى المبدع الأوّل، الّذي هو الموجود الأوّل، وإليه تنتهي الموجودات، وهو الصادر عنه سبحانه بالإبداع، لا بالفيض والإشراق، كما عليه إخوان الصفا. (1)

قال الداعي الكرماني في هذا الصدد: فالإبداع هو الحقّ والحقيقة، وهو الوجود الأوّل، وهو الموجود الأوّل، وهو الوحدة، وهو الواحد، وهو الأزل، وهو الأزلي، وهو العقل الأوّل، وهو المعقول الأوّل، وهو العلم، وهو العالم الأوّل، وهو القدرة، وهو القادر الأوّل، وهو الحياة، وهو الحيّ الأول، ذات واحدة، تلحقها هذه الصفات، يستحقّ بعضها لذاته، وبعضها بإضافة إلى غيره، من غير أن تكون هناك كثرة بالذّات. (2)

____________________

(1) رسائل إخوان الصفا: 3/189.

(2) راحة العقل: 83.

٢٦٨

2

عقيدتهم في العدل

قد تعرّفت في البحث السابق على أنّهم لا يصفونه سبحانه بوصف، ويعتقدون أنّه فوق الوصف، وأنّ غاية التوحيد نفي الوصف، وإثبات الهويّة، ولهذا لا تجد عنواناً لهذا الفصل في كتبهم حسب ما وصل بأيدينا، ولكن يمكن استكشاف عقيدتهم في عدله سبحانه من خلال دراستهم لفعل الإنسان، وهل هو إنسان مسيّر أو مخيّر؟

1 - الإنسان مخيّر لا مسيّر:

يقول الداعي عليّ بن محمّد الوليد: الإنسان مخيّر، غير مجبور فيما يعتقد لنفسه من علومه وصناعته، ومذاهبه ومعتقداته.

إلى أن قال: ولولا ذلك لَما كانت لها منفعة بإرسال الرُّسل وقبول العلم، وتلقّي الفوائد والانصياع لأوامر الله تعالى؛ إذ لو كانت مجبورة لاستغنت عن كلّ شيء تستفيده، ثُمَّ استدلّ بآيات. (1)

____________________

(1) تاج العقائد: 166 - 168.

٢٦٩

2 - القضاء والقدر لا يسلبان الاختيار:

الإسماعيليّة تُثبت القضاء والقدر حقيقة لا مجازاً، ولكنّها تنفي كونهما سالبين للاختيار.

يقول الداعي عليّ بن محمّد الوليد: القضاء والقدر حقيقة لا مجاز، ولهما في الخلق أحوال على ما رتّب الفاعل سبحانه، من غير جبر يُلزم النفوس الآدميّة الدخول إلى النّار أو الجنّة.

إلى أن قال: إذ لو كان كذلك لذهبت النبوّات والأوامر المسطورات في الكتب المنزلة، في ذم قوم على ما اقترفوه ومدح قوم على ما فعلوه. (1) .

____________________

(1) تاج العقائد: 179.

٢٧٠

3

عقيدتهم في النّبوّة

1 - النبوّة أعلى مراتب البشر:

النبوّة عبارة عن ارتقاء النفس إلى مرتبة تصلح لأن يتحمّل الوحي.

يقول الداعي عليّ بن محمّد الوليد: إنّ الرسول الحائز لرتبة الرسالة، لا ينبغي أن يكون كمالاً يفوق كماله، ولا علماً يخرج عن علمه، وإنّه الّذي به تكون سعادة أهل الدور من أوّله إلى آخره، وإنّ السعادة الفلكيّة والأشخاص العالية والمؤثّرات خدم له في زمانه. (1)

3 - الرسالة الخاصّة والعامّة:

ثُمَّ إنّهم يقسّمون الرسالة إلى ضربين: عامّة وخاصّة.

والمراد من الرسالة العامّة هنا هو العقل الغريزي، وهو الرسول الأوّل المعدّ لقبول أمر الرسول الثاني.

وأمّا المراد من الرسالة الخاصّة فهو عبارة عن الرسول المبعوث إلى الناس.

____________________

(1) تاج العقائد: 57 - 58.

٢٧١

أقول: إنّ تسمية العقل الإنساني بالرسول لا يخلو من شيء، والأولى تسميته بالحجّة الباطنة، في مقابل الحجة الظاهرة الّذي هو النبيّ.

4 - في أنّ الأنبياء لا يُولدون من سِفاح:

يقول عليّ بن محمّد الوليد: إنّ الأنبياء والأئمة (عليهم السّلام) لا يلدهم الكفّار، ولا يُولدون من سِفاح. ثُمَّ استدلّ ببعض الآيات. (1)

5 - في صفات الأنبياء:

يقول الداعي الكرماني: المؤيّد المبعوث مجمع الفضائل الطبيعيّة؛ الّتي هي أسباب في نيل السعادة الأبديّة، وهو فيها على أمر يكون به على النهاية في جميعها من جودة الفهم والتصور لِما يشار إليه ويومأ، إلى أن قال: ويكون عظيم النفس، كريماً، محبّاً للعدل، مبغضاً للظلم والجور، مؤثِراً لِما يعود على النفس منفعته من العبادة، مِقداماً في الأُمور، جسوراً عليها، لا يروعه أمر في جنب ما يراه صواباً بجوهره. (2)

6 - في المعجزات الّتي يأتي بها الرُّسل:

إنّ المعجزة عند الإسماعيليّة عبارة عن خرق العادة في تكوين العالم بظهور ما يعجز العقل عن وجوده من الأُمور الطبيعيّة، من ردّ ما في الطبيعة عن

____________________

(1) تاج العقائد: 51.

(2) راحة العقل: 421 - 422.

٢٧٢

قانونه المعهود لقهر العقول، ودخولها تحت أمر المعقولات، ومن أجله يُعلم أنّه متّصل بالفاعل، الّذي لا يتعذر عليه متى أراد؛ إذ كلّما في العالم لا يتحرّك إلاّ بمادّته وتدبيره. (1)

7 - في أنّ الرسول الخاتم أفضل الرُّسل:

يفضّل رسول الله على سائر الرُّسل والأنبياء في وجوه؛ أفضلها الوجه التالي: هو أنّه سبحانه جعل شريعته مؤبّدة لا تُنسخ أبداً، وجعل الإمامة في ذريّته إلى قيام الساعة، ولم يُقدَّر ذلك لغيره. (2)

8 - في أنّ الشريعة موافقة للحكمة:

إنّ الحكمة والفلسفة العقليّة، هي والحكمة الشرعيّة سواء؛ لأنّ الله سبحانه خلق في عباده حكماء وعقلاء، ومحال أن يشرّع لهم شرعاً غير محكم وغير معقول، ولا يبعث برسالته وشرعه إلاّ حكيماً عاقلاً مدركاً مبيّناً لما تحتاجه العقول، ويكلّف لها بما يُسعدها ويقوّي نورها ويعظّم خطَرها. (3)

9 - في أنّ الشريعة لها ظاهر وباطن:

يقول عليّ بن محمّد الوليد: إنّ الشارع قد وضع أحكام شريعته وعباداتها

____________________

(1) تاج العقائد: 97.

(2) تاج العقائد: 59 - 60.

(3) تاج العقائد: 101.

٢٧٣

من الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحجّ وغير ذلك، مضمّنة للأُمور العقليّة والأحكام والمعاني الإلهيّة، وما يتخصّص منها من الأُمور الظاهرة المشاكلة لظاهر الجسم، والأُمور الباطنة المشاكلة للعقل والنفس، وكلّ من حقّق ذلك كانت معتقداته سالمة. (1)

أقول: هذا المقام هو المزلقة الكبرى للإسماعيليّة المؤوَّلة؛ إذ كلُّ إمام وداع يسرح بخياله، فيضع لكلّ ظاهر باطناً ولكلّ واجب حقيقة، يسمّي أحدهما بالشريعة الظاهريّة والآخر بالباطنيّة، من دون أن يدلّ عليه بدليل من عقل أو نقل، فكلّ ما يذكرونه من البواطن للشريعة ذوقيّات، أشبه بذوقيّات العرفاء في تأويل الأسماء والصفات وغير ذلك، وكأنّ الجميع فروع من شجرة واحدة.

____________________

(1) تاج العقائد: 101.

٢٧٤

4

عقيدتهم في المعاد وما يرتبط به

المعاد - بمعنى عود الإنسان إلى الحياة الجديدة، من أُسس الشرائع السماويّة، وهي لا تنفصل عن الإيمان بالله، ولذا نرى أنّ أصحاب الشرائع اتّفقوا على المعاد بعد الموت، ولولا القول به لَما قام للدين عمود ولا اخضرّ له عود.

1 - في أنّ المعاد روحاني لا جسماني:

نعم، اختلفوا في كونه جسمانيّاً أو روحانيّاً، وعلى فرض كونه جسمانيّاً، فهل الجسم المُعاد جسم لطيف برزخي أو جسم عنصري؟، فالإسماعيليّة على أنّ المعاد روحاني.

قال الكرماني، بعد بيان النشأة الأُولى في الدنيا: ثُمَّ الله ينشأ النشأة الآخرة بقوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النّشْأَةَ الْأُولَى‏ فَلَوْلاَ تَذَكّرُونَ ) (1) ، فهلاّ تتفكّرون وتوازنون وتعلمون أنّ النظام في الخلق والبعث واحد، وأنّ النشأة الآخرة هي خلق الأرواح وإحياؤها بروح القدس على مثال النشأة الأُولى.

____________________

(1) الواقعة: 62.

٢٧٥

وقال الداعي عليّ بن محمّد الوليد: يُعتقد أنّ الله تعالى دعانا على ألسنة وسائطه بقبول أمره، إلى دار غير هذه الدار، فهذه الدار صوريّة وتلك ماديّة، وما بينهما صوري ومادي. (1)

2 - في التناسخ:

وهو عود الروح - بعد مفارقة البدن - إلى الدنيا عن طريق تعلّقها ببدن آخر، كتعلّقها بالجنين عند استعدادها لإفاضة الروح، وله أقسام.

وربّما يُنسب القول بالتناسخ إلى الإسماعيليّة، ولكن النسبة في غير محلّها.

3 - في الحساب:

الحساب تابع للبعث، وهو فعل يحدث عنه من النفس للنفس الثواب الّذي هو الملاذ والمسار، والعقاب الّذي هو الألم والعذاب والغم. وينقسم هذا الفعل إلى ما يكون وجوده في الدنيا، وإلى ما يكون وجوده في الآخرة.

4 - في الجنّة:

يقول الكرماني: إنّها موصوفة بالسرمد والأبد ووجود الملاذ فيها أجمع، وإنّها لا تستحيل ولا تتغيّر، ولا يطرأ عليها حال ولا تتبدّل. (2)

____________________

(1) تاج العقائد: 165.

(2) راحة العقل: 379.

٢٧٦

5 - في الملائكة:

إنّ الملائكة على ضروب وكلّهم قد أُهّلوا لمنافع الخليقة؛ فلا يتعدّى أحد منهم بغير ما وكّل به، وإنّما اختلفت أسماؤهم لأجل ما وكّلوا به؛ فمنهم من هو في العالم العقلي، ومنهم من هو في العالم الفلكي، ومنهم من هو في العالم الطبيعي.

وقد أخفى الله سبحانه ذوات الملائكة عن النظر، وجعل المخلوق عن الطبائع محجوباً عنهم، لا يراهم حتّى يصير إمّا في منزلة النبيّ أو يخلص القبول من النبيّ بقرب الدرجة منه.

6 - في الجنِّ:

وتعتقد الإسماعيليّة أنّ الجنّ ذوات أرواح ناريّة وهوائيّة ومائيّة وترابيّة، وتعتقد أنّ الجنَّ صحيح لا ريب فيه، وهم على ضروب في البقاع والمصالح والمنافع والفساد والضرر.

ومنهم من هو في أرجاء العالم ممنوع عن مخالطة بني آدم، ومنهم من هو مخالط لبني آدم في أماكنهم. (1)

____________________

(1) تاج العقائد: 46.

٢٧٧

5

عقيدتهم في الإمامة

تحتلّ الإمامة عند الإسماعيليّة مركزاً مرموقاً؛ حيث جعلوها على درجات ومقامات، وزوّدوا الأئمّة بصلاحيّات واختصاصات، ولتسليط الضوء على عقيدتهم فيها نبحث في مقامين:

المقام الأوّل: الإمامة المطلقة

إنّ درجات الأئمّة ورتبهم لا تتجاوز عن الخمسة، من دون أن تختص بالشريعة الإسلاميّة، بل تعمّ الشرائع السماويّة كلّها، وبما أنّ مذهب الإسماعيليّة أُحيط بهالة من لغموض عبر القرون، لم يكن من الممكن أن يقف أحد عليها إلاّ طبقة خاصّة من علمائهم، وكانوا يبخلون بآرائهم وكتبهم على الغير، غير أنّ الأحوال الحاضرة رفعت الستر عن كتبهم ومنشوراتهم، فقام المستشرقون وفي مقدّمتهم (ايفانوف) الروسي وتبعه عدد آخر من المحقّقين بنشر آثارهم، وعند ذلك تجلّت الحقيقة بوجهها الناصع، كما قام الكاتبان الإسماعيليّان عارف تامر ومصطفى غالب ببذل الجهود الحثيثة في نشر آثار تلك الطائفة، فكشفا النقاب عن وجه العقيدة الإسماعيليّة وبيّناها بوجه واضح خالياً من

الغموض والتعقيد الموجودين في عامّة كتب الإسماعيليّة، وإن كان بين الكاتبين اختلاف في بعض

٢٧٨

الموارد، ونحن نعتمد في تفسير درجات الإمامة على كتاب (الإمامة في الإسلام) للكاتب عارف تامر، وإليك بيانه:

درجات الإمامة خمس؛ وهي:

1. الإمام المقِيم.

2. الإمام الأساس.

3. الإمام المتِم.

4. الإمام المستقِر.

5. الإمام المستودَع.

وربّما يضاف إليها رتبتان:الإمام القائم بالقوّة، والإمام القائم بالفعل.

فالمهمّ هو الوقوف على هذه الدرجات.

يعتقد عارف تامر في كتابه (الإمامة في الإسلام) أنّ هذه الدرجات ظلّت حقبة طويلة من الزمن مجهولة لدى الباحثين، إلاّ طبقة خاصّة من العلماء، أو لا أقلّ في التقيّة والاستتار والكتمان.

1. الإمام المقِيم:

هو الّذي يُقِيْم الرسول الناطق ويعلّمه ويربّيه ويدْرِجه في مراتب رسالة النطق، وينعم عليه بالإمدادات، وأحياناً يُطلقون عليه اسم (ربّ الوقت) و(صاحب العصر)، وتُعتبر هذه الرتبة أعلى مراتب الإمامة وأرفعها وأكثرها دقّة وسرّيّة.

٢٧٩

2. الإمام الأساس:

هو الّذي يرافق الناطق في كافّة مراحل حياته، ويكون ساعده الأيمن، وأمين سرّه، والقائم بأعمال الرسالة الكبرى، والمنفِّذ للأوامر العليا، فمنه تتسلسل الأئمّة المستقرون في الأدوار الزمنيّة، وهو المسؤول عن شؤون الدعوة الباطنيّة القائمة على الطبقة الخاصّة ممّن عَرفوا (التأويل) ووصلوا إلى العلوم الإلهيّة العليا.

3. الإمام المتِم:

هو الّذي يتم أداء الرسالة في نهاية الدور؛ والدور كما هو معروف أصلاً يقوم به سبعة من الأئمّة، فالإمام المتم يكون سابعاً ومتمّاً لرسالة الدور، وأنّ قوته تكون معادلة لقوّة الأئمّة الستة الّذين سبقوه في الدور نفسه بمجموعهم. ومن جهة ثانية يُطلق عليه اسم ناطق الدور أيضاً؛ أي أنّ وجوده يشبه وجود الناطق بالنسبة للأدوار. أمّا الإمام الّذي يأتي بعده فيكون قائماً بدور جديد، ومؤسِّساً لبنيان حديث.

4. الإمام المستقِر:

هو الّذي يملك صلاحيّة توريث الإمامة لوِلْده، كما أنّه صاحب النصّ على الإمام الّذي يأتي بعده، ويسمّونه أيضاً الإمام بالجوهر والمتسلّم شؤون الإمامة بعد الناطق مباشرة، والقائم بأعباء الإمامة أصالة.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420