دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق9%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214361 / تحميل: 4818
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٦-x
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وأقول :

إن أراد بملاحظة الغاية كونها داعية للفعل ، فهو مذهبنا(١) ، ولا يقوله الأشاعرة.

وإن أراد بها مجرّد إدراك الغاية من دون أن تكون باعثة على الفعل ، فهو مذهب الأشاعرة(٢) ، ويلزمه العبث وسائر المحالات ، ويجوز بمقتضاه أن يعذّب الله سبحانه أعظم المطيعين ، ويثيب أعظم العاصين ؛ لأنّه لا غاية له تبعثه إلى الفعل ، بل يفعل مجّانا بلا غرض ، بل يجوز أن لا تكون أفعاله متقنة ، وإن اتّفق إتقانها في ما وقع ، وأمّا في ما لم يقع بعد ـ كالثواب والعقاب ـ فمن الجائز أن لا يكون متقنا ؛ لفرض عدم الغرض له تعالى ، ولأنّه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء!

فما زعمه من عدم تحرير الفريقين لمحلّ النزاع حقيق بالسخرية! أتراه يخفى على جماهير العلماء ويظهر لهذا الخصم وحده؟! وهل يخفى على أحد أنّ النزاع في الغرض والعلّة الغائيّة ، وأنّ الإمامية والمعتزلة لم يروا بالقول بالغرض بأسا ونقصا ، بخلاف الأشاعرة؟! وهذا الخصم ما زال ينسب لقومه القول بالغاية ، فإن أراد بها الغاية الباعثة على الفعل ، فهي خلاف مذهبهم بالضرورة.

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ١٩٨ ، كشف المراد : ٣٣١ ، تلخيص المحصّل : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، المواقف : ٣٣١ ـ ٣٣٢ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٦.

٦١

وإن أراد بها الأمر المترتّب اتّفاقا ، كقوله تعالى :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (١) ، غاية الأمر : أنّ الله تعالى عالم بهذا الأمر المترتّب ، فهو حقيقة مذهبهم ، وعليه ترد الإشكالات ، ولا ينفع معه التسويلات والتنصّلات.

وأمّا ما ذكره من قولهم بالحكمة والمصلحة ، فهو وإن قالوا به ظاهرا ، لكن لا بنحو اللزوم كقولهم بالإتقان ؛ لأنّ اللزوم لا يجتمع مع نفي الغرض ونفي الحسن والقبح العقليّين ونفي وجوب شيء عليه تعالى.

وأمّا قوله : « ولولاه لم يكن للفاعل المختار أن يفعل ذلك الفعل »

فإن أراد به أنّه لا يفعله لكونه عبثا ، فهو صحيح ، والله سبحانه أحقّ به.

وإن أراد أنّه لا يفعله لعدم قدرته عليه كما زعمه سابقا ، فهو باطل ـ كما عرفت ـ ، ومنه يعلم ما في قوله : « فهذا الفاعل بالاختيار يحتاج في صدور الفعل عنه ».

وقد بيّنّا أنّ هذا الاحتياج لإخراج الفعل عن العبث لا لنقص في القدرة ، فيكون كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ، لا كاحتياج الذات إلى صفاتها الزائدة الموجب لنقص الذات في نفسها(٢) ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ : ٨.

(٢) انظر ج ٢ / ١٦٩ وما بعدها من هذا الكتاب.

٦٢

إنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب الخامس

في أنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

هذا هو مذهب الإمامية ، قالوا : إنّ الله تعالى أراد الطاعات سواء وقعت أم لا ، ولا يريد المعاصي سواء وقعت أم لا ، [ وكره المعاصي سواء وقعت أم لا ] ، ولم يكره الطاعات سواء وقعت أم لا(٢) .

وخالفت الأشاعرة مقتضى العقل والنقل في ذلك ، فذهبوا إلى أنّ الله تعالى يريد كلّ ما يقع في الوجود ، سواء كان طاعة أم لا ، وسواء أمر به أم نهى عنه(٣) [ وكره كلّ ما لم يقع ، سواء كان طاعة أو لا ، وسواء أمر به أو نهى عنه ] ، فجعلوا كلّ المعاصي الواقعة في الوجود من الشرك والظلم والجور والعدوان وأنواع الشرور مرادة لله تعالى ، وأنّه تعالى راض بها!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٤.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ ، شرح جمل العلم والعمل : ٨٧ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٧٩ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٩.

(٣) الإبانة في أصول الديانة : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، تمهيد الأوائل : ٣١٧ ، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١٠٢ ، الملل والنحل ١ / ٨٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧٤ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣.

٦٣

وبعضهم قال : إنّه محبّ لها ، وكلّ الطاعات التي لم تصدر عن الكفّار مكروهة لله تعالى غير مريد لها ، وإنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، وإنّ الكافر فعل في كفره ما هو مراد لله تعالى وترك ما كره الله تعالى من الإيمان والطاعة منه(١) .

وهذا القول يلزم منه محالات ، منها : نسبة القبيح إلى الله تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة ، وقد بيّنّا أنّه تعالى منزّه عن فعل القبائح كلّها(٢) .

* * *

__________________

(١) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ وقال : « منهم ـ أي الأشاعرة ـ من جوّز أن يقال : الله مريد للكفر والفسق والمعصية » وذكر في ص ١٧٤ أنّ خالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة ، وفيه أيضا : أنّ عدم إيمان الكافر مراد لله فلاحظ!

(٢) راجع كلام العلّامة الحلّي١ في ج ٢ / ٣٣٤ المبحث الحادي عشر من هذا الكتاب.

٦٤

وقال الفضل (١) :

قد سبق أنّ مذهب الأشاعرة : إنّ الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون ، فكلّ كائن مراد وما ليس بكائن ليس بمراد ، واتّفقوا على جواز إسناد الكلّ إليه تعالى جملة ، واختلفوا في التفصيل كما هو مذكور في موضعه(٢) .

ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : إنّه تعالى مريد لجميع أفعاله ، أمّا أفعال العباد فهو مريد للمأمور به منها كاره للمعاصي والكفر(٣) .

ودليل الأشاعرة : إنّه خالق للأشياء كلّها ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة(٤) .

وأمّا ما استدلّ به هذا الرجل في عدم جواز إرادة الله تعالى للشرك والمعاصي ، فهو من استدلالات المعتزلة.

والجواب : إنّ الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى : إنّه أمر قدّره الله تعالى في الأزل للكافر ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٤٨.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ و ١٧٤.

(٣) تقدّم في الصفحة ٦٣ ه‍ ٢ ، وراجع المصارد التالية التي تذكر آراء المعتزلة : شرح الأصول الخمسة : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ، الملل والنحل ١ / ٣٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣.

(٤) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٤.

٦٥

الرضا بالإرادة.

وأمّا كون الطاعات التي لم تصدر من الكافر مكروهة لله تعالى

فإن أراد بالكراهة عدم تعلّق الإرادة به ، فصحيح ؛ لأنّه لو أراد لوجد

وإن أراد عدم الرضا به ، فهو باطل ؛ لأنّه لم يحصل في الوجود حتّى يتعلّق به الرضا أو عدمه.

وأمّا أنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، فإنّه تعالى أمر الكفّار بالإسلام ولم يرد إسلامهم ، بمعنى عدم تقدير إسلامهم ، وهذا لا يعدّ من السفه ، ولا محذور فيه ، وإنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، ولكن هذا الانحصار ممنوع ؛ لأنّه ربّما كان لإتمام الحجّة عليهم فلا يعدّ سفها.

وأمّا ما ذكره من لزوم نسبة القبيح إلى الله تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة

فجوابه : إنّ الإرادة بمعنى التقدير ، وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح من الفاعل المختار ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه.

على أنّ هذا مبنيّ على القبح العقلي وهو غير مسلّم عندنا ، ومع هذا فإنّه مشترك الإلزام ؛ لأنّ خلق الخنزير الذي هو القبيح يكون قبيحا ، والله تعالى خلقه بالاتّفاق منّا ومنكم.

* * *

٦٦

وأقول :

لا يخفى أنّ الأمور الممكنة إنّما يفعلها القادر المختار أو يتركها بإرادة منه ؛ لأنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه إلّا بمرجّح ، وهو الإرادة ، فيكون العدم على طبع الوجود مقدورا ومستندا إلى الإرادة.

ولذا أسند الله تعالى العدم المسبوق بالوجود إلى إرادته حيث يقول :

( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (١) الآية ، فإنّ إهلاك القرية عبارة عن إماتة أهلها بسبب العذاب ، والموت عدم الحياة.

ولا ريب أنّ الإرادة تتوقّف على أمور :

منها : تصوّر المراد

ومنها : الرضا به ، سواء كان وجودا أو عدما ، وسواء كان حكما أم غيره ، فإنّ من يريد شيئا لا بدّ أن يرضى به بالضرورة.

ومنها : الرضا بمتعلّق المراد على وجه التعيّن له أو الترجيح له أو التساوي كما في متعلّق التكاليف ، فإنّ الحاكم إذا كلّف بنحو الوجوب لا بدّ أن يرضى بوجود الواجب على وجه التعيّن له بحيث يكون كارها لنقيضه ، ومثله الحرمة بالنسبة إلى الرضا بالترك والكراهة لنقيضه.

وإذا كلّف بنحو الندب ، لزم أن يرضى بالوجود على وجه الرجحان ، ومثله الكراهة بالنسبة إلى الرضا بالترك.

وإذا حكم على وجه الإباحة ، لزم أن يرضى بالوجود والعدم بنحو

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ١٦.

٦٧

التساوي.

نعم ، إذا كان التكليف امتحانيا لم تتوقّف إرادته إلّا على الرضا بأصل التكليف ، لا بمتعلّقه.

فإذا عرفت هذا فنقول : لمّا كانت أفعال العباد عند الإمامية غير مخلوقة لله تعالى ، لم تكن له إلّا إرادة تشريعية ، أي إرادة للأحكام ، فلم يكن له تعالى رضا بما يريده العباد ويفعلونه من المعاصي ، ولا كراهة لما يتركونه من الطاعات.

بخلافه على مختار الأشاعرة من أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، فإنّه يلزم أن يكون الله سبحانه مريدا للمعاصي الواقعة راضيا بها ، ولعدم الطاعات المتروكة كارها لها ؛ لأنّ فعله للمعاصي يتوقّف على إرادتها المتوقّفة على الرضا بها ، وتركه للطاعات يتوقّف على إرادة الترك المتوقّفة على الرضا به وكراهته الفعل ، كما سبق(١) .

ويلزم أن يكون الله تعالى آمرا بما يريد عدمه ويكرهه ولا يرضى به ، وهو الذي لم يخلقه من الطاعات ، وناهيا عمّا أراده ورضي به ، وهو الذي خلقه من المعاصي ، بل يلزم اجتماع الضدّين : الرضا والكراهة في ما أمر به وتركه ؛ لأنّ أمره دليل الرضا وتركه دليل الكراهة.

وكذا يجتمعان في ما نهى عنه وفعله ؛ لأنّ نهيه مستلزم للكراهة ، وفعله مستلزم للرضا.

وهذا الذي قلناه لا يبتني على أنّ تكون الإرادة بمعنى الرضا كما تخيّله الخصم ، بل هو مبنيّ على توقّف الإرادة على الرضا ـ كما بيّنّاه ـ ،

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر١ في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٣ من هذا الكتاب.

٦٨

فلا معنى لقوله : « الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى أنّه أمر قدّره الله في الأزل ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس الرضا بالإرادة ».

على أنّ تفسير الإرادة بالتقدير ، خطأ ؛ لأنّ الإرادة صفة ذاتية والتقدير فعل ، ولو سلّم فقد عرفت أنّ التقدير موقوف على الإرادة(١) ، وهي موقوفة على الرضا.

ومن الفضول قوله في ما سمعت : « وأمر المشرك به »

فإنّ المصنّف لم يدّع أنّه يلزم مذهبهم أمر المشرك به حتّى ينفيه ، ولا هو متوهّم من كلام المصنّف.

وأمّا إنكاره لعدم الرضا بترك الطاعات ، بحجّة أنّها لم تحصل في الوجود حتّى يتعلّق بها الرضا أو عدمه ، فخطأ ؛ لأنّ الرضا وعدمه إنّما يتعلّقان بالشيء من حيث هو ، لا بما هو موجود ، كيف؟! وهما سابقان على الإرادة السابقة على الوجود.

وأمّا إنكاره للسفه في الأمر بالإسلام الذي لم يقدّره ، فمكابرة ظاهرة.

وقوله : « إنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به »

باطل ؛ لأنّ إتمام الحجّة إنّما يكون على القادر المتمكّن ، لا على العاجز ، فيكون امتحانه سفها آخر ، تعالى الله عنه علوّا كبيرا ، وسيأتي قريبا زيادة إشكال عليه فانتظر.

وأمّا قوله : « وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح »

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر١ في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٣ من هذا الكتاب.

٦٩

فمكابرة أخرى كما مرّ(١) ، إذ لا وجه لعدم قبح القبيح منه سبحانه ، وهو أولى من يتنزّه عن فعل القبيح.

وأمّا ما زعمه من الاشتراك في الإلزام ، فقد عرفت جوابه(٢) .

* * *

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر١ في مبحث « إنّه تعالى لا يفعل القبيح » ، الصفحة ٩ من هذا الجزء.

(٢) راجع الصفحة ٢٥ من هذا الجزء.

٧٠

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : كون العاصي مطيعا بعصيانه ، حيث أوجد مراد الله تعالى وفعل وفق مراده.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

٧١

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ المطيع من أطاع الأمر ، والأمر غير الإرادة ، فالمريد هو المقدّر للأشياء ومرجّح وجوداتها ، فإذا وقع الخلق على وفق إرادته فلا يقال : إنّ الخلق أطاعوه.

نعم ، إذا أمرهم بشيء فأطاعوه يكونون مطيعين.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٢.

٧٢

وأقول :

غير خفيّ أنّ الطاعة منوطة بموافقة الإرادة ، والعصيان بمخالفتها ، لا بموافقة لفظ الأمر ومخالفته

ولذا لو علمت إرادة المولى لشيء ولم يأمر به لمانع وجب إتيانه

ولو علم عدم إرادته مع أمره صورة لم يجب فعله

وإنّما قالوا : الطاعة موافقة الأمر ؛ لأنّه دليل الإرادة ولا تعرف بدونه غالبا ، وحينئذ فيلزم ما ذكره المصنّف من كون العاصي مطيعا بعصيانه لموافقته للإرادة التكوينية ، بل هو موافق للأمر التكويني فيكون مطيعا ألبتّة.

قال عزّ من قائل :( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) (١)

وقال تعالى :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) سورة فصّلت ٤١ : ١١.

(٢) سورة يس ٣٦ : ٨٢.

٧٣

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : كونه تعالى يأمر بما يكره ؛ لأنّه أمر الكافر بالإيمان وكرهه منه حيث لم يوجد وينهى عمّا يريد ، لأنّه نهاه عن الكفر وأراده منه.

وكلّ من فعل هذا من أشخاص البشر ينسبه كلّ عاقل إلى السفه والحمق ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فكيف يجوز للعاقل أن ينسب إلى ربّه تعالى ما يتبرّأ هو منه ويتنزّه عنه؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

٧٤

وقال الفضل(١) :

قد سبق المنع من أنّ الأمر بخلاف ما يريده يعدّ سفها(٢) ، وإنّما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، وليس كذلك ؛ لأنّ الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا؟ قد يأمره ولا يريد منه الفعل.

أمّا أنّ الصادر منه أمر حقيقة ؛ فلأنّه إذا أتى العبد بالفعل يقال : امتثل أمر سيّده.

وأمّا أنّه لا يريد الفعل منه ؛ فلأنّه يحصل مقصوده وهو الامتحان ، أطاع أو عصى ، فلا سفه بالأمر بما لا يريده الآمر.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٢.

(٢) راجع ردّ الفضل في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٢ ، وانظر الصفحتين ٦٥ ـ ٦٦ من هذا الجزء.

٧٥

وأقول :

لا يخفى أنّ السفه يحصل بطلب الفعل والأمر به حقيقة مع كراهته في الواقع ، وبالنهي عنه حقيقة مع إرادته واقعا ، كما هو الحاصل في الشرعيّات ، ضرورة مطلوبية مثل الإيمان وعدم الكفر حقيقة.

ولا محلّ لاحتمال أن يكون الطلب لمثل ذلك صوريا لغرض الامتحان أو غيره ، على أنّ الامتحان للعاجز سفه آخر.

ثمّ إنّ كلامه دالّ على ثبوت الغرض لله تعالى ، وهو باطل على قولهم : « إنّ أفعاله تعالى لا تعللّ بالأغراض »(١) !

* * *

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٧٦

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

ومنها : مخالفة النصوص القرآنية الشاهدة بأنّه تعالى يكره المعاصي ويريد الطاعات ، كقوله تعالى :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٢)

( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) (٣)

( فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (٤)

( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ) (٥)

إلى غير ذلك من الآيات

فترى لأيّ غرض يخالفون هؤلاء القرآن العزيز وما دلّ العقل عليه؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٣١.

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ٣٨.

(٤) سورة الزمر ٣٩ : ٧.

(٥) سورة البقرة ٢ : ٢٠٥.

٧٧

وقال الفضل(١) :

قد يستعمل لفظ الإرادة ويراد به الرضا والاستحسان ، ويقابله الكراهة بمعنى السخط وعدم الرضا ، فقوله تعالى :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٢) ، أريد من الإرادة الرضا ، فسلب الرضا بالظلم عن ذاته المقدّسة ، وهذا عين المذهب.

وأمّا الإرادة بمعنى التقدير والترجيح ، أو مبدأ الترجيح ، فلا تقابلها الكراهة ، وهو معنى آخر.

وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٤.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٣١.

٧٨

وأقول :

لمّا كان من مذهبه : أنّ الله سبحانه هو الخالق للظلم الواقع في الكون ، المريد له(١) ، وكان ذلك خلافا صريحا للآية الأولى ، التجأ إلى حمل الإرادة فيها على الرضا ، وهو لو سلّم لا ينفعه ؛ لتوقّف الإرادة على الرضا ؛ لأنّه من مقدّماتها ، فإذا نفت الآية رضاه تعالى بالظلم ـ كما زعم ـ استلزم نفي إرادته له ، وهو خلاف مذهبه.

وليت شعري إذا لم يرض سبحانه بالظلم والكفر وكان السيّئ عنده مكروها ولا يحبّ الفساد ، فكيف أرادها وخلقها وهو العالم المختار؟!

وإذا كان يرضى الشكر ، فما المانع له عن إرادته وخلقه وهو المتصرّف فيه كما زعموا؟!

وأمّا قوله : « وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا »

فكلام صادر من غير تروّ ، إذ ليس في بقيّة الآيات التي ذكرها المصنّفرحمه‌الله ما يشتمل على لفظ الإرادة ، ولا يعوزه الجواب إذا كان مبنيا على المغالطة.

* * *

__________________

(١) راجع الصفحة ٦٣ من هذا الجزء.

٧٩

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

ومنها : مخالفة المحسوس وهو : استناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصوارف ؛ لأنّ الطاعات حسنة والمعاصي قبيحة.

وإنّ الحسن جهة دعاء والقبح جهة صرف ، فيثبت لله تعالى في الطاعة دعوى الداعي إليها وانتفاء الصارف عنها.

وفي القبيح ثبوت الصارف وانتفاء الداعي ؛ لأنّه ليس داعي الحاجة لاستغنائه تعالى ، ولا داعي الحكمة لمنافاتها إيّاها ، ولا داعي الجهل لإحاطة علمه به.

فحينئذ يتحقّق ثبوت الداعي إلى الطاعات ، وثبوت الصارف في المعاصي ، فثبت إرادته للأوّل وكراهته للثاني.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٦.

٨٠

وقال الفضل(١) :

إسناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصارف لا ينافي سبق إرادة الله تعالى لأفعالهم وخلقه لها ؛ لأنّ الإسناد بواسطة الكسب والمباشرة ، فلا يكون مخالفة للمحسوس.

وأمّا ما ذكره من الدليل ، فهو مبنيّ على إثبات الحسن والقبح العقليّين ، وقد أبطلناهما.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٥ ـ ٤٥٦.

٨١

وأقول :

حاصل مراد المصنّف : إنّ الظاهر عندنا الضروري لدينا ، أنّ الفعل إنّما تتفرّع إرادته وإيجاده عن ثبوت الداعي له وانتفاء الصارف عنه ، وتتفرّع كراهته وتركه عن وجود الصارف عنه وعدم الداعي له.

ولا ريب أنّ الفعل الذي به الطاعة حسن ، والحسن جهة دعاء ، والفعل الذي به المعصية قبيح ، والقبح جهة صرف ، فلا بدّ أن يكون ما به الطاعة مراد الله تعالى ؛ لوجود الداعي له وهو حسنه بلا صارف عنه ، وما به المعصية مكروها لله تعالى ؛ لوجود الصارف عنه وهو قبحه بلا داع له

لأنّ الداعي : إمّا الحاجة إليه ، أو الجهل بقبحه ، وهما منتفيان في حقّ الله تعالى.

أو الحكمة ، وهي منافية لفعل القبيح ، فيلزم أن تثبت إرادة الله تعالى للطاعات ، وكراهته للمعاصي ، إرادة وكراهة تشريعيّتين عندنا وتكوينيّتين عند الأشاعرة.

لكنّهم خالفوا المحسوس بقولهم : إنّ الله تعالى يريد كلّ ما وقع في الوجود من الأفعال ، سواء كان طاعة أم معصية ، ويكره كلّ ما لم يقع(١) .

فإذا عرفت هذا ظهر لك أنّ مراد المصنّف هو : الداعي والصارف لله تعالى لا للعبد كما تخيّله الخصم ، فأجاب بما لا يرتبط بكلام المصنّف أصلا.

__________________

(١) راجع الصفحة ٦٣ من هذا الجزء.

٨٢

والأولى للخصم الاكتفاء في الجواب بإنكار الحسن والقبح العقليّين في الأفعال.

لكن يرد عليه ـ مع بطلانه كما سبق(١) ـ أنّ بعض الأفعال صفة كمال أو نقص عندهم ، كالعدل ، والظلم ، والإصلاح ، والإفساد ، ونحوها

وهم يقولون : بالحسن والقبح عقلا فيها كما سبق منه(٢) ، وهو كاف في تمام دليل المصنّف رحمة الله عليه.

* * *

__________________

(١) انظر الصفحة ٩ من هذا الجزء.

(٢) راجع ردّ الفضل بن روزبهان من مبحث « الحسن والقبح العقليّين » في ج ٢ / ٤١١ من هذا الكتاب.

٨٣
٨٤

وجوب الرضا بالقضاء

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

المطلب السادس

في وجوب الرضا بقضاء الله تعالى

اتّفقت الإمامية والمعتزلة وغيرهم من الأشاعرة وجميع طوائف الإسلام على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره(٢) .

ثمّ إنّ الأشاعرة قالوا قولا لزمهم منه خرق الإجماع والنصوص الدالّة على وجوب الرضا بالقضاء ، وهو : إنّ الله تعالى يفعل القبائح بأسرها ولا مؤثّر في الوجود غير الله تعالى من الطاعات والقبائح(٣)

فتكون القبائح من قضاء الله تعالى على العبد وقدره ، والرضا بالقبيح

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٦.

(٢) انظر رأي الإمامية والمعتزلة في : التوحيد ـ للصدوق ـ : ٣٧٠ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٩٢ ـ ١٩٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٠ ، المحيط بالتكليف : ٤٢٠.

وانظر رأي الأشاعرة في : الملل والنحل ١ / ٨٣ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٩ ، المواقف : ٣٢٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٣) انظر الصفحة ٦ ه‍ ٢ من هذا الجزء.

٨٥

حرام بالإجماع(١) ، فيجب أن لا يرضى بالقبيح

ولو كان من قضاء الله تعالى لزم إبطال إحدى المقدّمتين ، وهي :

إمّا عدم وجوب الرضا بقضائه تعالى وقدره

أو وجوب الرضا بالقبيح

وكلاهما خلاف الإجماع.

أمّا على قول الإمامية ، من أنّ الله تعالى منزّه من فعل القبائح والفواحش ، وأنّه لا يفعل إلّا ما هو حكمة وعدل وصواب ، ولا شكّ في وجوب الرضا بهذه الأشياء ، فلا جرم كان الرضا بقضائه وقدره على قواعد الإمامية والمعتزلة واجبا ، ولم يلزم منه خرق الإجماع في ترك الرضا بقضاء الله تعالى ولا في الرضا بالقبائح.

* * *

__________________

(١) انظر : التوحيد ـ للصدوق ـ : ٣٧١ ، تقريب المعارف : ١٠٥ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ٨٨ و ٨٩ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٤ ، المواقف : ٣٢٢.

٨٦

وقال الفضل (١) :

قد سبق أنّ وجوب الرضا بقضاء الله تعالى مذهب الأشاعرة(٢) ، وأمّا لزوم نسبة فعل القبائح إليه تعالى فقد عرفت بطلانه في ما سبق(٣) ، وأنّه غير لازم ؛ لأنّ خلق القبيح ليس فعله ، ولا قبيح بالنسبة إليه تعالى.

وأمّا قوله : « فتكون القبائح من قضاء الله تعالى »

فجوابه : إنّ القبائح مقضيّات لا قضاء ، والقضاء فعل الله تعالى ، والقبيح هو المخلوق.

ونختار من المقدّمتين وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره ، ولا نرضى بالقبيح ، والقبيح ليس هو القضاء ، بل هو المقضيّ كما عرفته ، ولم يلزم منه خرق الإجماع.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٩.

(٢) راجع ردّ الفضل بن روزبهان في ج ٢ / ٣٣٨.

(٣) راجع ردّ الفضل بن روزبهان في الصفحة ٧ من هذا الجزء.

٨٧

وأقول :

قد بيّنّا أنّ خلق القبيح فعله(١) ، ولو سلّمت المغايرة فهو في القبح مثله.

وليت شعري لم يمتنع من القول : بأنّ الخلق هو الفعل؟! والحال أنّه يزعم أنّه لا قبيح بالنسبة إليه تعالى ، فليكن فعله سبحانه للقبيح سائغا ، وتسميته الخلق بالفعل جائزة ، لا سيّما و [ أنّه ] لا حسن ولا قبح عقلا في الأفعال عندهم!

وليس هو بأعظم من حكمه بأنّ الله سبحانه يقضي بالقبيح ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون.

وأمّا ما ذكره من الفرق بين القضاء والمقضيّ ، فقد سبق أنّه لا يغني شيئا ؛ للتلازم بينهما في الرضا وعدمه(٢) .

على أنّ القبائح المقضيّات لله سبحانه مرضيّات له ؛ لتوقّف فعل الشيء بالاختيار على إرادته والرضا به ـ كما مرّ(٣) ـ ، فلو سخطها العبد كان سخطا لما رضي الله وأراده.

فإن قلت : من مقضيّات الله تعالى : جهل العباد وملكاتهم السيّئة كالجبن والبخل ، وهي ممّا اتّفقت الكلمة والأخبار على ذمّها وعدم الرضا بها ، فلا بدّ من القول بعدم التلازم بين القضاء والمقضيّ في الرضا وعدمه.

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر1 في الصفحة ٩ من هذا الجزء.

(٢) راجع ردّ الشيخ المظفّر1 في ج ٢ / ٣٣٩.

(٣) انظر ردّ الشيخ المظفّر1 في ج ٢ / ٣٣٩.

٨٨

قلت : ذمّ الجهل وعدم الرضا به ليس من حيث أصل وجوده ، ولذا لا يذمّ جهل الطفل ولا يسخط منه ، بل من حيث البقاء والاستمرار عليه لمن يتمكّن من إزالته ، والبقاء عليه مستند إلى العبد.

كما إنّ ذمّ الجبن والبخل وعدم الرضا بهما ليس من حيث أصل وجودهما الذي قضت به الحكمة الإلهيّة ، بل من حيث آثارهما المستندة إلى العبد التي يقدر على مجانبتها بالنظر إلى قبحها ، وتعويد نفسه على خلافها ، بل يقدر على تبديل الملكتين بخلافهما.

فالجهل والجبن والبخل مرضيّات الوجود ، مسخوطات البقاء أو الآثار ، والمرضيّ مستند إلى الله تعالى ، والمسخوط مستند إلى العبد.

* * *

٨٩
٩٠

إنّه تعالى لا يعاقب على فعله

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

المطلب السابع

في أنّ الله تعالى لا يعاقب الغير على فعله

ذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أنّ الله تعالى لا يعذّب العبيد على فعل يفعله فيهم ، ولا يلومهم عليه(٢) .

وقالت الأشاعرة : إنّ الله تعالى لا يعذّب العبد على فعل العبد ، بل يفعل الله تعالى فيه الكفر ، ثمّ يعاقبه عليه ، ويفعل فيه الشتم لله تعالى والسبّ له ولأنبيائهعليهم‌السلام ويعاقبه عليها ، ويخلق فيهم الإعراض عن الطاعات وعن ذكره وذكر أحوال المعاد ثمّ يقول :( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (٣) (٤) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٨.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ رقم ٢٦ وذكر الشيخ المفيد رأي المعتزلة كذلك ، المنقذ من التقليد ١ / ١٩٠ و ١٩٩.

وانظر رأي المعتزلة في : شرح الأصول الخمسة : ٣٣٢ وما بعدها ، الملل والنحل ١ / ٣٩ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٤.

(٣) سورة المدّثّر ٧٤ : ٤٩.

(٤) الإبانة عن أصول الديانة : ١٥٨ ـ ١٦١ ، تمهيد الأوائل : ٣١٧ ـ ٣٢٣ ، الاقتصاد

٩١

وهذا أشدّ أنواع الظلم ، وأبلغ أصناف الجور ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا وقد قال تعالى :

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (١)

( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٢)

( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٣)

( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (٤) .

وأيّ ظلم أعظم من أن يخلق في العبد شيئا ويعاقبه عليه؟! بل يخلقه أسود ثمّ يعذّبه على سواده ، ويخلقه طويلا ثمّ يعاقبه على طوله ، ويخلقه أكمه ويعذّبه على ذلك ، ولا يخلق له قدرة على الطيران إلى السماء ثمّ يعذّبه بأنواع العذاب على أنّه لم يطر!

فلينظر العاقل المصنف من نفسه ، التارك للهوى ، هل يجوز له أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى هذه الأفعال؟! مع أنّ الواحد منّا لو قيل له : إنّك تحبس عبدك وتعذّبه على عدم خروجه في حوائجك! لقابل بالتكذيب وتبرّأ من هذا الفعل ، فكيف يجوز أن ينسب ربّه إلى ما يتنزّه هو عنه؟!

* * *

__________________

في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١١٥ ـ ١١٧ ، المواقف : ٣٢٠ ـ ٣٢١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ وما بعدها.

(١) سورة فصّلت ٤١ : ٤٦.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٣١.

(٣) سورة النحل ١٦ : ١١٨.

(٤) سورة الأنعام ٦ : ١٦٤ ، سورة الإسراء ١٧ : ١٥ ، سورة الزمر ٣٩ : ٧ ، سورة فاطر ٣٥ : ١٨.

٩٢

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : أن لا خالق غير الله تعالى كما نصّ عليه في كتابه العزيز :( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (٢) وهو يعذّب العبد على فعل العبد ؛ لأنّ العبد هو المباشر والكاسب لفعله وإن كان خلقه من الله تعالى ، والخلق غير الفعل والمباشرة.

ثمّ إنّه لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك(٣) .

وليس هذا من باب الظلم ؛ لأنّ الظلم هو التصرّف في حقّ الغير ، ومن تصرّف في حقّه بأيّ وجه من وجوه التصرّف لا يقال : إنّه ظلم ، فالعباد كلّهم ملك الله تعالى ، وله التصرّف فيهم كيف يشاء.

ألا ترى إلى قول عيسىعليه‌السلام حيث حكى الله تعالى عنه :( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) (٤) جعل العبودية سببا مصحّحا للتعذيب ، والمراد أنّهم ملكك ولك التصرّف فيهم كيف شئت ، فلا ظلم بالنسبة إليه تعالى كيفما يتصرّف في عباده.

هذا هو الحقّ الأبلج وما سواه بدعة وضلالة ، كما ستراه وتعلمه بعد هذا في مبحث خلق الأعمال إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٦٦.

(٢) سورة الرعد ١٣ : ١٦ ، سورة الزمر ٣٩ : ٦٢.

(٣) انظر الصفحة ٧ ـ ٨ والصفحة ٩١ ه‍ ٤ من هذا الجزء.

(٤) سورة المائدة ٥ : ١١٨.

٩٣

وما ذكره من خلق الأسود وتعذيبه بالسواد فهذا من باب طامّاته ، وكذا ما ذكره من الأمثلة.

فإنّ هذه الأشياء أعراض خلقت ولا يتعلّق بها ثواب وعقاب ، والأفعال المخلوقة ليست مثل هذه الأعراض ؛ لأنّ العبد في الأفعال كاسب ومباشر ، والثواب والعقاب بواسطة المباشرة كما ستعرف.

* * *

٩٤

وأقول :

قد سبق في المطلب الأوّل بيان المراد في قوله تعالى :( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (١) فراجع تحقيقه(٢) .

وأمّا قوله : « لأنّ العبد هو المباشر والكاسب »

ففيه : إنّ الكسب الذي يزعمونه أيضا خلق الله تعالى ؛ لأنّه خالق كلّ شيء ، ولا أثر للعبد في الكسب أصلا.

ما أدري هل المقتضي للعقاب مجرّد الألفاظ وأن يقال : إنّ العبد كسب وفعل؟!

وأمّا قوله : « ومن تصرّف في حقّه بأيّ وجه من وجوه التصرّف لا يقال : إنّه ظلم »

فظاهر البطلان ، ضرورة أنّ صحّة تعذيب العبد بأنواع العذاب من دون ذنب ليست من مقتضيات الملكيّة وحقوقها ، بل هذا التصرّف ظلم محض لا يستحقّه المالك بوجه أصلا.

قال تعالى :( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) (٣) ، فإنّه سبحانه جعل إهلاكه للمصلح ظلما وإن كان من التصرّف في الملك.

فتعبير الخصم عن الملك بالحقّ على وجه يجوز فيه ذلك التصرّف

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ : ١٦ ، الزمر ٣٩ : ٦٢.

(٢) انظر ردّ الشيخ المظفّر1 في ج ٢ / ٣٤٢.

(٣) سورة هود ١١ : ١١٧.

٩٥

خطأ واضح.

وأمّا استدلاله بالآية الحاكية لقول عيسىعليه‌السلام ففي غير محلّه ؛ لأنّ حقّيّة العقاب متوقّفة على أمرين : الذنب ، وولاية المعذّب على المذنب.

ولمّا كان من اتّخذ عيسى وأمّه إلهين مذنبا ـ وسابقا ذكر ذنبه في الآية ـ بيّن عيسى الأمر الثاني ، وهو : ولاية الله تعالى عليهم بأنّهم عباده ، فلم تدلّ الآية على صحّة عذاب من لا ذنب له.

وأمّا قوله : « فإنّ هذه الأشياء أعراض خلقت ولا يتعلّق بها ثواب وعقاب »

ففيه : ـ مع أنّ بعض أمثلة المصنّف كالطيران من الأفعال ـ إن أراد أنّها لا يتعلّق بها ثواب وعقاب من حيث الوقوع ، فمسلّم ، وليس هو مقصود المصنّف.

وإن أراد أنّه لا يجوز تعلّقهما بها ، فهو مناف لقوله : « لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك ».

.. إلى غير ذلك من كلماته.

والمصنّف لم يقصد إلّا تجويزهم للعقاب في الأمثلة وهو لازم لهم.

وأما قوله : « والأفعال المخلوقة ليست مثل هذه الأعراض »

ففيه : إنّه لا أثر لهذا الفرق بعد أن كان المصحّح للعذاب عندهم هو الملكيّة ، على أنّ الكسب كالسواد فعل لله تعالى ، فلا فرق إلّا بأمر يعود إلى اللفظ.

* * *

٩٦

امتناع تكليف ما لا يطاق

قال المصنّف ـ ضاعف الله أجره ـ(١) :

المطلب الثامن

في امتناع تكليف ما لا يطاق

قالت الإمامية : إنّ الله تعالى يستحيل عليه ـ من حيث الحكمة ـ أن يكلّف العبد ما لا قدرة له عليه ولا طاقة له به ، وأن يطلب منه فعل ما يعجز عنه ويمتنع منه(٢) .

فلا يجوز له أن يكلّف الزمن الطيران إلى السماء ، ولا الجمع بين الضدّين ، ولا كونه في المشرق حال كونه في المغرب ، ولا إحياء الموتى ، ولا إعادة آدم ونوحعليهما‌السلام ، ولا إعادة الأمس الماضي ، ولا إدخال جبل قاف(٣) في خرم الإبرة ، ولا شرب ماء دجلة في جرعة واحدة ، ولا إنزال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٩.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٨ ـ ٩٩ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٠ ، تقريب المعارف : ١١٢ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١٠٦ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢٠٣.

(٣) هذا ممّا يضرب مثلا لما هو مستحيل ، وقد وردت عدّة أحاديث عن الخاصّة والعامّة تفيد أنّ جبل قاف هو الجبل المحيط بالأرض ، وخضرة السماء منه ، وبه يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها انظر : معاني الأخبار : ٢٢ ح ١ ، مجمع البيان ٩ / ٢٠٨ ، تفسير الفخر الرازي ٢٨ / ١٤٦ و ١٤٨ ، تفسير القرطبي ١٧ / ٣ و ٤ ، معجم البلدان ٤ / ٣٣٨ رقم ٩٣٧٣ ؛ والله العالم!

٩٧

الشمس والقمر إلى الأرض إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة [ لذاتها ].

وذهبت الأشاعرة : إلى أنّ الله تعالى لم يكلّف العبد إلّا ما لا يطاق ولا يتمكّن من فعله(١) ، فخالفوا المعقول الدالّ على قبح ذلك ، والمنقول ، وهو المتواتر من الكتاب العزيز ، قال الله تعالى :

( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (٢)

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (٣)

و( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) (٤)

( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (٥) .

والظلم هو الإضرار بغير المستحقّ ، وأيّ إضرار أعظم من هذا مع إنّه غير مستحقّ؟!

تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٨ ـ ٩٩ ، تمهيد الأوائل : ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٨ ـ ٣٣٢ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٦ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٣) سورة فصّلت ٤١ : ٤٦.

(٤) سورة غافر ٤٠ : ١٧.

(٥) سورة الكهف ١٨ : ٤٩.

٩٨

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ تكليف ما لا يطاق جائز ، والمراد من هذا الجواز ، الإمكان الذاتي ، وهم متّفقون أنّ التكليف بما لا يطاق لم يقع قطّ في الشريعة بحكم الاستقراء ، ولقوله تعالى :( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) .

والدليل على جوازه : إنّه تعالى لا يجب عليه شيء ، فيجوز له التكليف بأيّ وجه أراد ، وإن كان العلم العادي أفادنا عدم وقوعه.

وأيضا : لا يقبح من الله شيء ، إذ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

ومذهب المعتزلة : عدم جواز التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّه قبيح عقلا بما ذكره هذا الرجل من أنّ المكلّف للزمن الطيران إلى السماء وأمثاله يعدّ سفها ، وقد مرّ في ما مضى إبطال الحسن والقبح العقليّين(٢) .

ولا بدّ في المقام من تحرير محلّ النزاع ، فنقول : إنّ ما لا يطاق على مراتب :

أحدها : أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه ، أو تعلّق إرادته أو إخباره بعدمه ، فإنّ مثله لا تتعلّق به القدرة الحادثة ؛ لأنّ القدرة الحادثة مع الفعل لا قبله ، ولا تتعلّق بالضدّين ، بل لكلّ واحد منهما قدرة على حدة تتعلّق به حال وجوده عندنا ، ومثل هذا الشيء لمّا لم يتحقّق أصلا

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٧٢.

(٢) انظر ردّ الفضل في ج ٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣١ من هذا الكتاب.

٩٩

فلا تكون له قدرة حادثة تتعلّق به قطعا ، والتكليف بهذا جائز ، بل واقع إجماعا ، وإلّا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلّفا بالإيمان وترك الكبائر ، بل لا يكون تارك المأمور به عاصيا أصلا ، وذلك معلوم بطلانه من الدين ضرورة.

والثاني : أن يمتنع لنفس مفهومه ، كجمع الضدّين وقلب الحقائق وإعدام القديم ، فقالت الأشاعرة في هذا القسم : إنّ جواز التكليف به فرع تصوّره وهو مختلف فيه ، فمنهم من قال : لا يتصوّر الممتنع لذاته ، ومنهم من قال بإمكان تصوّره.

وبالجملة : لا يجوز التكليف به أصلا ؛ لأنّ المراد بهذا الجواز الإمكان الذاتي ، والتكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات ، وهو باطل.

الثالث : أن لا تتعلّق به القدرة الحادثة عادة ، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومه ـ بأن لا يكون من جنس ما يتعلّق به كخلق الأجسام ، فإنّ القدرة الحادثة لا تتعلّق بإيجاد الجواهر أصلا ـ ، أم لا ـ بأن يكون من جنس ما يتعلّق به ، لكن يكون من نوع أو صنف لا يتعلّق به كحمل الجبل ، والطيران إلى السماء ، وسائر المستحيلات العاديّة ـ ، فهذا محلّ النزاع

فنحن نقول : بجوازه لإمكانه الذاتي

والمعتزلة : يمنعونه لقبحه العقلي(١)

مع إنّا قائلون : بأنّه لم يقع(٢) ، وهذا مثل سائر ما يجوّزه الأشاعرة من الأمور الممكنة ، كالرؤية وغيرها ، والتجويز العقلي لا يستلزم الوقوع.

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

(٢) راجع : المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420