دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٦

دلائل الصدق لنهج الحق10%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-359-4
الصفحات: 582

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 582 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135995 / تحميل: 5464
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٦

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٩-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الآية

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) )

التّفسير

طوق الأسر الثّقيل :

تبيّن الآية الحاضرة مصير البخلاء في يوم القيامة ، أولئك الذين يبذلون غاية الجهد في جمع الثّروة ثمّ يمتنعون عن الإنفاق في سبيل الله ، ولصالح عباده.

والآية هذه وإن لم تتعرض صراحة لذكر الزكاة وغيرها من الحقوق والفرائض المالية ، إلّا أنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وكذا أقوال المفسرين خصصت هذه الآية وما وعد به فيها من الوعيد بمانعي الزكاة ، ويؤيده التشديد المشهود في الآية ، فإن أمثال هذا التشديد والتغليظ لا يتناسب مع الإنفاق المندوب المستحب.

تقول الآية أوّلا :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ) ثمّ تصف مصير هؤلاء في يوم القيامة هكذا :( سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي ستكون تلك الأموال التي بخلوا بها طوقا في

٢١

أعناقهم في ذلك اليوم الرهيب.

ومن هذه الجملة يستفاد أن الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها ، ولم ينتفع بها المجتمع ، بل صرفت فقط في سبيل الأهواء الشخصية ، وربّما صرفت في ذلك السبيل بشكل جنوني ، أو كدست دون أي مبرر ولم يستفد منها أحد سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان ، أي أنّها ـ طبقا لقانون تجسم الأعمال البشرية ـ ستتجسم يوم القيامة وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه.

إنّ تجسّم مثل هذه الأموال التي تطوق بها أعناق ذويها إشارة إلى الحقيقة التالية، وهي أن كل إنسان يتحمل ثقل مسئوليتها كاملا دون أن يكون هو قد انتفع بها.

إنّ الأموال الوفيرة التي تجمع بشكل جنوني وتكنز ولا تصرف في خدمة المجتمع لا تكون سوى أغلال وسجون لأصحابها ، لأن للاستفادة ـ كما نعلم ـ من الأموال والثروة الشخصية حدودا ، فإذا تجاوزها الإنسان عادت عليه نوعا من الأسر الثقيل ، والوزر الضّار،اللهم إلّا أن يستفيد من آثارها المعنوية وذلك حينما يوظفها في الأعمال الإيجابية الصالحة.

ثمّ إن هذه الأموال لا تشكل طوقا ثقيلا في أعناق أصحابها في الآخرة فحسب ، بل تكون كذلك في هذه الدنيا أيضا ، غاية الأمر أن هذا المعنى يكون أكثر ظهورا في الآخرة،بينما يكون في شيء من الخفاء في هذه الحياة ، فأية حماقة ـ ترى ـ أكبر من أن يتحمل المرء مسئولية جمع الثّروة مضافة إلى مسئولية الحفاظ عليها وحسابها والدّفاع عنها وما يلازم ذلك من مشاق تثقل كاهله ، في حين لا ينتفع بها هو أبدا ، وهل الأموال حينئذ إلّا طوق أسر ثقيل لا غير؟

ففي تفسير العياشي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنه قال : «الذي يمنع الزكاة يحول الله

٢٢

ماله يوم القيامة شجاعا(1) من نار ثمّ يقال له : ألزمه كما لزمك في الدنيا».

والملفت للنظر التعبير عن المال في هذه الآية( بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) الذي يفهم منه أن المالك الحقيقي لهذه الأموال ومصادرها هو الله سبحانه ، وإن ما أعطاه لأيّ واحد من الناس فإنّما هو من فضله ، ولهذا ينبغي أن لا يبخل ، أن ينفق من تلك الأموال في سبيل صاحبها الحقيقي.

ثمّ إنّ بعض المفسرين يرى أن مفهوم هذه العبارة يعم جميع المواهب الإلهية ومنها العلم، ولكن هذا الاحتمال لا ينطبق مع ظاهر التعبيرات الواردة في الآية.

ثمّ إنّ الآية تشير إلى نقطة أخرى إذ تقول :( وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) يعني أن الأموال سواء أنفقت في سبيل الله أو لم تنفق فإنّها ستفصل في النهاية عن أصحابها،ويرث الله الأرض والسماء وما فيهما ، فالأجدر بهم ـ والحال هذه ـ أن ينتفعوا من آثارها المعنوية ، لا أن يتحملوا وزرها وعناءها ، وحسرتها وتبعتها.

ثمّ تختم الآية بقوله تعالى :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي أنّه عليم بأعمالكم ، يعلم إذا بخلتم ، كما يعلم إذا أنفقتم ما أوتيتموه من المال في السبيل الصالح العام وخدمة المجتمع الإنساني ، ويجازي كلا على عمله بما يليق.

* * *

__________________

(1) الشّجاع العظيم الخلقة من الحيات.

٢٣

الآيتان

( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) )

سبب النّزول

هذه الآية نزلت ردّا على مقالة اليهود وتوبيخا لهم.

فعن ابن عباس أنّه قال : كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا إلى يهود «بني قينقاع» دعاهم فيه لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا لله «والمراد منه الإنفاق في سبيل الله وإنما عبر عنه بالإقراض لتحريك المشاعر وإثارتها لدى الناس قدرا أكبر) فدخل رسول النّبي إلى بيت المدارس (حيث يتلقى اليهود دروسا في دينهم) وسلم كتاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى «فنحاص» وهو من كبار أحبار اليهود فلمّا قرأه قال مستهزءا : لو كان ما تقولونه حقا فإن الله إذن لفقير ونحن أغنياء ، ولو كان غنيا لما استقرض منّا (وهو يشير إلى قوله تعالى:( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً

٢٤

حَسَناً ) (1) هذا مضافا إلى أن «محمّدا» يعتقد أنّ الله نهاكم عن أكل الرّبا، وهو يعدكم أن يضاعف لكم إذا أنفقتم أضعافا مضاعفة ، وهو يشير إلى قوله تعالى :( يُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (2) .

ولكنّ «فنحاص» أنكر أنّه قال شيئا من هذه في ما بعد فنزلت الآيتان المذكورتان أعلاه(3) .

التّفسير

تقول الآية الأولى( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ) .

أي لو أنّ هؤلاء استطاعوا أن يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإن الله قد سمعها ويسمعها حرفا بحرف فلا مجال لإنكارها ، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جدا أو الأصوات العالية جدا :( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ) .

إذن فلا فائدة ولا جدوى في الإنكار ، ثمّ يقول سبحانه :( سَنَكْتُبُ ما قالُوا ) أي أن ما قالوه لم نسمعه فحسب ، بل سنكتبه جميعه.

ومن البديهي أن المراد من الكتابة ليس هو ما تعارف بيننا من الكتابة والتدوين ، بل المراد هو حفظ آثار العمل التي تبقى خالدة في العالم حسب قانون بقاء «الطاقة ـ المادة».

بل وحتى كتابة الملائكة الموكّلين من قبل الله بالبشر لضبط تصرفاتهم ، هو الآخر نوع من حفظ العمل الذي هو مرتبة أعلى من الكتابة المتعارفة.

ثمّ يقول :( وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ ) أي أنّنا لا نكتفي بكتابة مقالاتهم الكافرة

__________________

(1) الحديد ، 11.

(2) البقرة ، 276.

(3) أسباب النزول للواقدي ، ص 99 وتفسير روح البيان في تفسير هذه الآية.

٢٥

الباطلة فحسب ، بل سنكتب موقفهم المشين جدا وهو قتلهم للأنبياء.

يعني أن مجابهة اليهود ، ومناهضتهم للأنبياء ليس بأمر جديد ، فليست هذه هي المرّة الأولى التي تستهزء يهود برسول من الرسل ، فإن لهم في هذا المجال باعا طويلا في التاريخ،وصفحة مليئة بنظائر هذه الجرائم والمخازي ، فإن جماعة بلغت في الدناءة والشراسة والقحة والجرأة أن قتلت جماعة من رسل الله وأنبيائه ، فلا مجال للاستغراب من تفوهها بمثل هذه الكلمات الكافرة.

ويمكن أن يقال في هذا المقام : إن قتل الأنبياء مسألة لم ترتبط باليهود في عصر الرسالة المحمّدية ، فلما ذا حمل وزرها عليهم؟ ولكننا نقول ـ كما أسلفنا أيضا ـ أنّ هذه النسبة إنّما صحّت لأنّهم كانوا راضين بما فعله وارتكبه أسلافهم من اليهود ، ولهذا أشركوا في إثمهم ووزرهم وفي مسئوليتهم عن ذلك العمل الشنيع.

وأمّا تسجيل وكتابة أعمالهم فلم يكن أمرا اعتباطيا غير هادف ، بل كان لأجل أن نعرضها عليهم يوم القيامة ، ونقول لهم : ها هي نتيجة أعمالكم قد تجسدت في صورة عذاب محرق ونقول :( ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

إنّ هذا العذاب الأليم الذي تذوقونه ليس سوى نتيجة أعمالكم ، فأنتم ـ أنفسكم ـ قد ظلمتم أنفسكم( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) (1) ( وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

بل لو أنكم وأمثالكم من المجرمين لم تنالوا جزاء أعمالكم ولم تروها بأمّ أعينكم، ووقفتم في عداد الصالحين لكان ذلك غاية في الظلم ، ولو أنّ الله سبحانه لم يفعل ذلك لكان ظلاما للناس.

__________________

(1) إنّما أضيف أعمال الإنسان إلى يده وإن كانت الذنوب تكتسب بجميع الجوارح لأن أكثر ما يكسبه الإنسان إنما يكسبه بيده ، ولأن العادة قد جرت بإضافة الأعمال التي يقوم بها الإنسان إلى اليد وإن اكتسبها بجارحة أخرى.

٢٦

ولقد نقل عن الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة أنّه قال : «وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلّا بذنوب اجترحوها لأن الله ليس بظلام للعبيد».

إنّ هذه الآية تعدّ من الآيات التي تفنّد ـ من جهة ـ مقولة الجبريين ، و ـ تعمم ـ من جهة اخرى ـ أصل ـ العدالة وتسحبه على كل الأفعال الإلهية ، فتكون جميعا مطابقة للعدالة.

وتوضيح ذلك : إنّ الآية الحاضرة تصرّح بأنّ كلّ جزاء ـ من ثواب أو عقاب ـ ينال الناس من جانب الله سبحانه فإنّما هو جزاء أعمالهم التي ارتكبوها بمحض إرادتهم واختيارهم( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) .

وتصرّح من جانب آخر بأن( اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) وإنّ قانونه في الجزاء يدور على محور العدل المطلق ، وهذا هو نفس ما تعتقد به العدلية (وهم القائلون بالعدل الإلهي،وهم الشيعة وطائفة من أهل السنة المسمّون بالمعتزلة).

غير أنّ هناك في الطرف الآخر جماعة من أهل السنة «وهم الذين يسمّون بالأشاعرة» لهم اعتقاد غريب في هذا المجال فهم يقولون : إنّه تعالى هو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنّة لم يكن حيفا ، ولو أدخلهم النّار لم يكن جورا فلا يتصوّر منه ظلم ، ولا ينسب إليه جور(1) .

والآية الحاضرة تفند هذا النوع من الآراء والمقالات تفنيدا باتا ومطلقا وتقول بصراحة لا غبش فيها ولا غموض :( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

__________________

(1) الملل والنحل للشهرستاني ، طبعة بيروت ، ج 1 ، ص 101 ، تحقيق محمّد سيد كيلاني.

٢٧

على أنّ لفظة «ظلام» صيغة مبالغة ، وتعني من يظلم كثيرا ، ولعل اختيار هذه الصيغة في هذا المكان مع أنّ الله سبحانه لا يظلم حتى إذا كان الظلم صغيرا ، لأجل أنّه إذا أجبر الناس على الكفر والمعصية ، وخلق فيهم دواعي العمل القبيح ودوافعه ، ثمّ عاقبهم على ما فعلوه بإجباره وإكراهه لم يكن بذلك قد ارتكب ظلما صغيرا فحسب ، بل كان «ظلاما».

* * *

٢٨

الآيتان

( الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) )

سبب النّزول

حضر جماعة من أقطاب اليهود عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : يا محمّد إنّ الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن زعمت أنّ الله بعثك إلينا فجئنا به نصدقك ، فأنزل الله هاتين الآيتين.

التّفسير

مغالطات اليهود وتعللاتهم :

كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيرا بهدف التملص من الانضواء تحت راية الإسلام.

ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول :( الَّذِينَ قالُوا

٢٩

إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ) .

قال المفسرون : إن اليهود كانت تزعم أنّه يجب أن يكون للأنبياء خصوص هذه المعجزة ، وهي أن يقربوا قربانا فتنزل النّار من السماء وتأكل قربانهم ، ففي ذلك دلالة على صدق المقرب (أي صاحب القربان).

ولو أن اليهود كانوا صادقين في هذا الطلب ، وكانوا يريدون ـ حقّا ـ مثل هذا الأمر من باب إظهار الإعجاز ، وليس من باب العناد واللجاجة والمغالطة لكان من الممكن إعذارهم ، ولكن تاريخهم الغابر ، وكذا مواقفهم المشينة مع نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تثبت الحقيقة التالية ، وهي أنّهم لم يكونوا أبدا طلاب حقّ وبغاة علم ، بل كانوا يأتون كل يوم بمغالطة واقتراح جديد لمواجهة الجو الضاغط عليهم ، وما كان يخلقه القرآن من وضع محرج لهم بفضل ما كان يقيمه من براهين ساطعة وقوية ، وذلك فرارا من قبول الإسلام ، والانضواء تحت رايته ، وحتى لو أنّهم حصلوا على مقترحاتهم فإنّهم كانوا يمتنعون عن الإيمان ، بدليل أنهم كانوا قد قرءوا في كتبهم كل علائم نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنهم مع ذلك أبوا إلّا رفض الحقّ،وعدم الإذعان له.

يقول القرآن في مقام الردّ عليهم :( قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ؟ وفي ذلك إشارة إلى زكريا ويحيى وطائفة من الأنبياء الذين قتلوا على أيدي بني إسرائيل.

هذا ويذهب بعض متأخري المفسرين (مثل كاتب تفسير المنار) إلى احتمال آخر حول مسألة القربان خلاصته : إن مقصودهم لم يكن إن على النّبي أن يذبح قربانا وتنزل من السماء نار بطريقة إعجازية وتحرق ذلك القربان ، بل كان مرادهم هو أنّه كان في تعاليم دينهم نوع من هذا القربان الذي يذبح بطريقة خاصّة وفي مراسيم معينة ، ثمّ يحرق بالنّار وهو ما جاء شرحه في الفصل الأوّل من سفر «اللاويين» من التوراة (العهد القديم).

٣٠

إنّهم كانوا يقولون : إنّ الله عهد إلينا أن يبقي مثل هذا التعليم ، ومثل هذا القربان في كل دين سماوي ، وحيث إنّنا لا نجد مثل هذا الأمر في التعاليم الإسلامية لذلك فإننا لا نؤمن لك.

ولكن هذا الاحتمال بعيد عن تفسير الآية جدا لأنّه :

أوّلا : إنّ هذه الجملة قد عطفت في الآية الحاضرة على «البيّنات» ويظهر من ذلك أن مرادهم كان عملا إعجازيا،وهو لا ينطبق مع هذا الاحتمال.

وثانيا : إنّ ذبح حيوان ثمّ حرقه بالنار عمل خرافي ولا يمكن أن يكون من تعاليم الأنبياء وشرائعهم السماوية.

ثمّ يعقب سبحانه على الآية السابقة بقوله :( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) .

وفي هذه الآية يسلي الله سبحانه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : إن كذبتك هذه الجماعة فلا تقلق لذلك ولا تحزن ، فذلك هو دأبهم مع أنبياء سبقوك حيث كذبوهم ، وعارضوا دعوتهم بصلابة وعناد.

ولم يكن هؤلاء الأنبياء غير مزودين بما يبرهن على صدقهم ، بل( جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ ) .

وهنا لا بدّ من الانتباه إلى أن «زبر» وهو جمع (زبور) يعني كتابا أحكمت كتابة مواضيعه ، لأن الزبر أصلا من الكتابة ، لا مطلق الكتابة ، بل الكتابة المتقنة المحكمة.

وأمّا الفرق بين «الزبر» و «الكتاب المنير» مع أنّهما من جنس واحد هو الكتاب،فيمكن أن يكون بسبب أن الاوّل إشارة إلى كتب الأنبياء قبل موسىعليه‌السلام ، والثّاني إشارة إلى التوراة والإنجيل ، لأنّ القرآن الكريم عبر عنهما في سورة المائدة الآية 44، و 46 بالنّور إذ قال :( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ) ( وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُور ) .

٣١

هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من «الزّبور» هو تلك الكتب السماوية التي تحتوي على المواعظ والزواجر خاصّة (كما كان عليه الزبور المنسوب إلى داود الذي هو الآن بين الأيدي والذي يحتوي بأسره على المواعظ والزواجر) ولكن «الكتاب المنير» أو الكتاب السماوي فيطلق على ما يحتوي على التشريعات والقوانين والأحكام الفردية والاجتماعية.

* * *

٣٢

الآية

( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) )

التّفسير

الموت وقانونه العام :

تعقيبا على البحث حول عناد المعارضين وغير المؤمنين تشير هذه الآية إلى قانون «الموت» العام وإلى مصير الناس في يوم القيامة ، ليكون ذلك تسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين، وتحذيرا ـ كذلك ـ للمعارضين العصاة.

فهذه الآية تشير ـ أوّلا ـ إلى قانون عام يشمل جميع الأحياء في هذا الكون وتقول :( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) .

والناس ، وإن كان أكثرهم يحب أن ينسى مسألة الفناء ويتجاهل الموت ، ولكن هذا الأمر حقيقة واقعة إن حاولنا تناسيها والتغافل عنها ، فهي لا تنسانا ، ولا تتغافل عنّا.

إنّ لهذه الحياة نهاية لا محالة ، ولا بدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يزور فيه الموت كل أحد ، ولا يكون أمامه ـ حينئذ ـ إلّا أن يفارق هذه الحياة.

٣٣

إن المراد من «النفس» في هذه الآية هو مجموعة الجسم والروح ، وإن كانت النفس في القرآن تطلق أحيانا على خصوص «الرّوح» أيضا.

والتعبير بالتذوق إشارة إلى الإحساس الكامل ، لأن المرء قد يرى الطعام بعينيه أو يلمسه بيده ، ولكن كل هذه لا يكون ـ والأحرى لا يحقق الإحساس الكامل بالشيء، نعم إلّا أن يتذوق الطعام بحاسة الذوق فحينئذ يتحقق الإحساس الكامل ، وكأن الموت ـ في نظام الخلقة ـ نوع من الغذاء للإنسان والأحياء.

ثمّ تقول الآية بعد ذلك( وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي أنّه ستكون بعد هذه الحياة مرحلة أخرى هي مرحلة الثواب والعقاب ، وبالتالي الجزاء على الأعمال ، فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل.

وعبارة «توفون» التي تعني إعطاء الجزاء بالكامل تكشف عن إعطاء الإنسان أجر عمله ـ يوم القيامة ـ وافيا وبدون نقيصة ، ولهذا لا مانع من أن يشهد الإنسان ـ في عالم البرزخ المتوسط بين الدنيا والآخرة ـ بعض نتائج عمله ، وينال قسطا من الثواب أو العقاب،لأن هذا الجزاء البرزخي لا يشكل الجزاء الكامل.

ثمّ قال سبحانه :( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ ) .

وكلمة «زحزح» تعني محاولة الإنسان لإخراج نفسه من تحت تأثير شيء ، وتخليصها من جاذبيته تدريجا.

وأمّا كلمة «فاز» فتعني في أصل اللغة «النجاة» من الهلكة ، ونيل المحبوب والمطلوب.

والجملة بمجموعها تعني أنّ الذين استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من جاذبية النّار ودخلوا الجنّة فقد نجوا من الهلكة ، ولقوا ما يحبونه ، وكأن النّار تحاول بكلّ طاقتها أن تجذب الأدميين نحو نفسها حقّا أنّ هناك عوامل عديدة تحاول أن تجذب الإنسان إلى نفسها،وهي على درجة كبيرة من الجاذبية.

أليس للشهوات العابرة ، واللذات الجنسية الغير المشروعة ، والمناصب،

٣٤

والثروات الغير المباحة مثل هذه الجاذبية القوية؟؟

كما أنّه يستفاد من هذا التعبير أن الناس ما لم يسعوا ويجتهدوا لتخليص أنفسهم وتحريرها من جاذبية هذه العوامل المغرية الخداعة فإنّها ستجذبهم نحو نفسها تدريجا، وسيقعون في أسرها في نهاية المطاف.

أمّا إذا حاولوا من خلال تربية أنفسهم وترويضها ، وتمرينها على مقاومة هذه الجواذب والمغريات وكبح جماحها ، وبلغوا بها إلى مرتبة «النفس المطمئنة» كانوا من النّاجين الواقعيين، الذين يشعرون بالأمن والطمأنينة.

ثمّ يقول سبحانه في نهاية هذه الآية :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) .

وهذه الجملة تكمل البحث السابق وكأنها تقول : إنّ هذه الحياة مجرّد لهو ومتاع تخدع الإنسان من بعيد ، فإذا بلغ إليها الإنسان ونال منها ولمسها عن كثب وجدها ـ على الأغلب ـ فراغا في فراغ وخواء في خواء ، وما متاع الغرور إلّا هذا.

هذا مضافا إلى أن اللذائذ المادية تبدو من بعيد وكأنها خالصة من كل شائبة ، وخالية من كل ما يكدرها ، حتى إذا اقترب إليها الإنسان وجدها ممزوجة بكل ألوان العناء والعذاب، وهذا جانب آخر من خداع الحياة المادية.

كما أنّ الإنسان ينسى ـ في أكثر الأحيان ـ طبيعته الفانية ، ولكنه سرعان ما ينتبه إلى أنّها سريعة الزوال ، قابلة للفناء.

إنّ هذه التعابير قد تكررت في القرآن والأحاديث كثيرا ، والهدف منها جميعا شيء واحد هو أن لا يجعل الإنسان هذه الحياة المادية ولذاتها العابرة الفانية الزّائلة هدفه الأخير،ومقصده الوحيد النّهائي الذي تكون نتيجته الغرق والارتطام في شتى ألوان الجريمة والمعصية، والابتعاد عن الحقيقة وعن التكامل الإنسانى ، وأمّا الانتفاع بالحياة المادية ومواهبها كوسيلة للوصول إلى التكامل الإنساني والمعنوي فليس غير مذموم فقط ، بل هو ضروري وواجب.

* * *

٣٥

الآية

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) )

سبب النّزول

عند ما هاجر المسلمون من مكّة إلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم ، راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتدّ إلى ممتلكاتهم ، وتنالها بالتصرف والسيطرة عليها ، وإيذاء كلّ من وقعت عليه أيديهم والإيقاع فيه بالجهاء والاستهزاء.

وعند ما جاؤوا إلى المدينة ، واجهوا أذى اليهود القاطنين في المدينة ، خاصّة «كعب بن الأشرف» الذي كان شاعرا سليط اللسان ، فقد كان كعب هذا يهجو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ويحرض المشركين عليهم حتى أنّه كان يشبب بنساء المسلمين ويصف محاسنهن ويتغزل بهن.

وقد بلغت وقاحته مبلغا دفعت بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يأمر بقتله ، فقتل على أيدي المسلمين غيلة.

٣٦

والآية الحاضرة ـ حسب بعض الأحاديث المنقولة عن المفسرين ـ تشير إلى هذه الأمور وتحث المسلمين على مواصلة الصمود والمقاومة.

التّفسير

لا تتبعكم المقاومة :

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) أجل إنّ هذه الحياة ـ أساسا ـ ساحة اختبار ودار إمتحان ، فلا بدّ أن يتهيأ الإنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة،وهذا في الحقيقة تنبيه وتحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأن الحوادث العسيرة في حياتهم قد انتهت ، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء ، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه ، وشعره.

ولهذا قال سبحانه :( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً ) .

إنّ مسألة التعرض الأذى المشركين اللساني وسبهم وشتمهم وهجائهم وإن كانت من إحدى الابتلاءات التي جاء ذكرها في مطلع الآية ، ولكنه ذكر هنا بخصوصه للأهمية الفائقة،لأن مثل هذا قلّما يتحمله الشرفاء من الناس لعظيم أثره في أرواحهم ونفوسهم ، ومن قديم قال الشاعر :

جراحات السنان لها التيام

ولا يلتام ما جرح اللسان

ثمّ أنّه سبحانه عقب على هذا الإنذار والتنبيه بقوله :( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) .

وبهذا يبيّن القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة ، ويدعوهم إلى

الصبر والاستقامة والصمود والتزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلنا بأن هذه الأمور من الأمور الواضحة النتائج،

٣٧

ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.

والعزم في اللغة هو «القرار المحكم» وربّما يطلق على مطلق الأمور المحكمة ، وعلى هذا فإن «عزم الأمور» يعني الأعمال البينة الرشد التي يجب على كل إنسان عاقل العزم عليها أو بمعنى كل أمر محكم يطمأن إليه.

واقتران الصبر بالتقوى في هذه الآية لعله إشارة إلى أن بعض الأشخاص قد يصبرون ولكنهم مع ذلك يظهرون الشكوى ، ويبدون التبرم بما لقوا ، ولكن المؤمنين الصادقين هم الذين يمزجون الصبر بالتقوى دائما وأبدا ويتجنبون مثل ذلك السلوك.

* * *

٣٨

الآية

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) )

التّفسير

بعد ذكر جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية الحاضرة إلى واحدة أخرى من تلك الأعمال والمخالفات ، ألا وهو كتمان الحقائق فتقول :( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ) ، أي اذكروا إذ أخذ الله مثل هذا الميثاق منكم.

والملفت للنظر أن عبارة «لتبيّننه» جاءت مع لام القسم ، ونون التأكيد الثقيلة،وذلك نهاية في التأكيد.

ثمّ أردفها ـ مع ذلك ـ بقوله : «ولا تكتمونه» الذي هو أمر صريح بعدم الكتمان والإخفاء.

ومن كل هذه التعابير يتضح أو يستفاد أن الله سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب لإظهار الحقائق ، وبيانها ، ولكنّهم رغم كل ذلك ـ خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق ، وأخفوا ما أرادوا

٣٩

إخفائه من حقائق الكتب السماوية ، ولهذا قال سبحانه عنهم( فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ ) أنّها كناية رائعة عن عدم العمل بالواجب وتناسيه ، لأن الإنسان إذا عزم على العمل بشيء وأراد جعله ملاكا له ، فإن يجعله قدامه ، وينظر إليه مرة بعد اخرى ، ولكنه إذا لم يرد العمل به وأراد تناسيه بالمرة أزاحه من وجهه ، وألقاه خلف ظهره.

ثمّ أنّه سبحانه أشار إلى حرص اليهود وجشعهم وحبّهم المفرط للدنيا إذ يقول :( وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ) .

إن حبّهم الشديد للدنيا الذي بلغ حد العبادة ، وانحطاطهم الفكري آل بهم إلى أن يكتموا الحقائق لقاء مكاسب مادية ، ولكن الآية تقول : أنهم لم يشتروا بذلك ولم يكسبوا إلّا ثمنا قليلا ، وبئس ما يشترون.

ولو أنهم قد حصلوا لقاء كتمان الحقائق ـ هذه الجريمة الكبرى ـ على ثروة عظيمة وطائلة لكان ثمّة مجال لأن يقال : إنّ عظمة المال والثروة قد أعمت أبصارهم وأسماعهم،ولكن الذي يدعو إلى الدهشة والعجب أنّهم باعوا كلّ ذلك لقاء ثمن بخس ومتاع قليل ، (طبعا المقصود هنا هو علماؤهم الدنيئو الهمة).

العلماء والوظيفة الكبرى :

إن الآية الحاضرة وإن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) إلّا أنّها في الحقيقة تحذير وإنذار لكل علماء الدين ورجاله بأن عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإلهية ، وتوضيحها وإظهارها بجلاء ، وإن ذلك ممّا كتبه الله عليهم،وأخذ منهم ميثاقا مؤكدا وغليظا.

إنّ كلمة «لتبيّننه» وما اشتقت منه في أصل اللغة في هذه الآية تكشف عن أنّ المقصود ليس هو فقط تلاوة آيات الله أو نشر ما احتوت عليه الكتب السماوية من كلمات وعبارات ، بل المقصود هو عرض ما فيها من الحقائق على الناس ،

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

عبدِ ودّ(١) .

قال ربيعة السعدي : أتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبد الله! إنّا لنتحدّث عن عليّ ومناقبه ، فيقول أهل البصرة : إنّكم لتفرطون في عليّ ؛ فهل تحدّثني بحديث؟

فقال حذيفة : والذي نفسي بيده ، لو وضع جميع أعمال أمّة محمّد في كفّة ميزان منذ بعث الله محمّدا إلى يوم القيامة ، ووضع عمل عليّ في الكفّة الأخرى ، لرجح عمل عليّ على جميع أعمالهم.

فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد [ ولا يحمل ](٢) !

فقال حذيفة : يا لكع(٣) ! وكيف لا يحمل؟!

وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة وجميع أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم عمرو بن عبد ودّ وقد دعا إلى المبارزة ، فأحجم الناس كلّهم ما خلا عليّا ، فإنّه نزل إليه فقتله.

والذي نفس حذيفة بيده ، لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل أصحاب محمّد إلى يوم القيامة(٤) .

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبري ٢ / ٩٤ ـ ٩٥ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٧١ ـ ٧٢ ، البداية والنهاية ٤ / ٨٥ ـ ٨٧.

(٢) أثبتناه من شرح نهج البلاغة.

(٣) اللّكع : اللئيم في الأصل ، والعييّ ، أو الصغير في العلم والعقل وإن كان كبيرا في السنّ ؛ وهو المراد هنا ، وهو تعبير مستعمل وشائع في محاوراتهم بهذا المعنى.

انظر مادّة « لكع » في : الصحاح ٣ / ١٢٨٠ ، لسان العرب ١٢ / ٣٢١ ـ ٣٢٢ ، تاج العروس ١١ / ٤٣٨.

(٤) الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ١٠٣ ، شرح نهج البلاغة ١٩ / ٦٠.

٤٠١

وفي يوم الأحزاب(١) تولّى أمير المؤمنين قتل الجماعة(٢) .

وفي غزاة بني المصطلق قتل أمير المؤمنين مالكا وابنه ، وسبى جويرية بنت الحارث(٣) فاصطفاها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

وفي غزاة خيبر كان الفتح فيها لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، قتل مرحبا ، وانهزم الجيش بقتله ، وأغلقوا باب الحصن ، فعالجه أمير المؤمنينعليه‌السلام ،

__________________

(١) يوم الأحزاب : هو يوم غزاة الخندق ، سنة ٥ ه‍ ؛ وقد تقدّمت الإشارة إليها آنفا.

راجع تفسير سورة الأحزاب من كتب التفسير ، وانظر مثلا : السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٤ / ١٧٠ ، تاريخ الطبري ٢ / ٩٠ ، السيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ : ٢٥٤ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٧٠ ، البداية والنهاية ٤ / ٧٦ ، سبل الهدى والرشاد ٤ / ٣٦٣.

(٢) كعمرو بن عبد ودّ ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ؛ انظر : شرح نهج البلاغة ١٩ / ٦٤ ، تاريخ الخميس ١ / ٤٨٧.

وانظر مبحث حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه » في الصفحات ١٠٢ ـ ١٠٤ من هذا الجزء.

(٣) هي : أمّ المؤمنين زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية ، أخذها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من سبي يوم المريسيع ، وهي غزوة بني المصطلق ، سنة خمس أو ستّ للهجرة ، وكانت قبله عند ابن عمّ لها ، وكان اسمها « برّة » فسمّاها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله « جويرية » ، وكان عمرها حين تزوّجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة ، بعد أن قضى عنها مكاتبتها لمن وقعت في سهمه ، فأرسل الناس ما في أيديهم من سبايا بني المصطلق بسبب ذلك ، فكانت عظيمة البركة على قومها ؛ توفّيت سنة ٥٠ ـ وقيل : سنة ٥٦ ه‍ ـ ولها خمس وستّون سنة ، وصلّى عليها مروان بن الحكم وهو ـ يومئذ ـ على المدينة المنوّرة من قبل معاوية.

انظر : المنتخب من أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٤٥ رقم ٦ ، الاستيعاب ٤ / ١٨٠٤ رقم ٣٢٨٢ ، صفة الصفوة ١ / ٣٦٠ رقم ١٣٢ ، أسد الغابة ٦ / ٥٦ رقم ٦٨٢٢ ، السمط الثمين : ١٣٥ ، الإصابة ٧ / ٥٦٥ رقم ١١٠٠٢.

(٤) انظر : تاريخ الطبري ٢ / ١١١ ، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٤ / ٢٥٧ ، البداية والنهاية ٤ / ١٢٨ حوادث سنة ٦ ه‍ ، السيرة الحلبية ٢ / ٥٨٦.

٤٠٢

ورمى به ، وجعله جسرا على الخندق للمسلمين ، وظفروا بالحصن ، وأخذوا الغنائم ، وكان يقلّه(١) سبعون رجلا(٢) .

وقالعليه‌السلام :والله ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيّة ، بل بقوّة ربانيّة (٣) .

وفي غزاة الفتح قتل أمير المؤمنينعليه‌السلام الحويرث بن نفيل بن كعب(٤) ـ وكان يؤذي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وقتل جماعة ، وكان الفتح على يده(٥) .

وفي غزاة حنين حين استظهر(٦) النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالكثرة ، فخرج بعشرة آلاف من المسلمين ، فعانهم(٧) أبو بكر ، وقال : لن نغلب اليوم من

__________________

(١) يقلبه / خ ل. منهقدس‌سره .

(٢) انظر : مسند أحمد ٦ / ٨ ، شرح نهج البلاغة ١ / ٢١ ، الرياض النضرة ٣ / ١٥١ ـ ١٥٢ ، المقاصد الحسنة : ٢٣٠.

(٣) انظر : المطالب العالية ١ / ٢٥٨ ، المواقف : ٤١٢ ، شرح المواقف ٨ / ٣٧١.

(٤) هو : الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد قصيّ ـ ويبدو أنّ ما في المتن تصحيف ـ ، كان يعظم القول في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وينشد الهجاء فيه ويكثر أذاه وهو بمكّة ، فلمّا كان يوم الفتح هرب من بيته فلقيه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فقتله.

انظر : أنساب الأشراف ١ / ٤٥٦ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٠٣ ، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٥ / ٧٠ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٦٠.

(٥) انظر : السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٥ / ٦٦ و ٧٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٦١ ، تاريخ دمشق ٢٩ / ٣٢ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٢٢ و ١٢٥ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٣٦ و ٢٣٨.

(٦) استظهر به : استعان واستنصر به ؛ انظر : لسان العرب ٨ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ مادّة « ظهر ».

(٧) عانهم : أصابهم بعينه ؛ انظر مادّة « عين » في : الصحاح ٦ / ٢١٧١ ، لسان العرب

٤٠٣

قلّة(١) ؛ فانهزموا بأجمعهم ، ولم يبق مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله سوى تسعة من بني هاشم ، فأنزل الله تعالى :( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) ، يريد عليّا ومن ثبت معه.

وكان عليّ يضرب بالسيف بين يديه ، والعبّاس عن يمينه ، والفضل عن يساره ، وأبو سفيان بن الحارث يمسك سرجه ، ونوفل وربيعة ابنا الحارث ، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطّلب ، وعتبة ومعتّب ابنا أبي لهب.

وقتل أمير المؤمنين جمعا كثيرا ، فانهزم المشركون وحصل الأسر(٣) .

وابتلي بجميع الغزوات ، وقتال الناكثين والقاسطين والمارقين(٤) .

__________________

٩ / ٥٠٤.

والمراد هنا أنّه أصابهم بعينه فبان أثر ذلك في المنظور.

(١) انظر : المغازي ـ للواقدي ـ ٣ / ٨٩٠ ، أنساب الأشراف ١ / ٤٦٣ ، زاد المسير ٣ / ٣١٤ ، تفسير الخازن ٢ / ٢٠٩ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ١٤٠.

(٢) سورة التوبة ٩ : ٢٥ و ٢٦.

(٣) انظر : السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٥ / ١١١ ـ ١١٣ ، أنساب الأشراف ١ / ٤٦٤ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٣٨١ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٥٢ ح ٣٤٠ ـ ٣٤١ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ١٤٠ ـ ١٤١.

(٤) انظر : مسند البزّار ٢ / ٢١٥ ح ٦٠٤ وج ٣ / ٢٧ ح ٧٧٤ ، مسند أبي يعلى ١ / ٣٩٧ ح ٥١٩ ، المعجم الكبير ١٠ / ٩١ ح ١٠٠٥٣ و ١٠٠٥٤ ، المعجم الأوسط ٨ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ح ٨٤٣٣ ، السنّة ـ لابن أبي عاصم ـ : ٤٢٥ ح ٩٠٧ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٥٠ ح ٤٦٧٤ و ٤٦٧٥ ، الاستيعاب ٣ / ١١١٧ ، تاريخ بغداد ٨ / ٣٤٠ رقم ٤٤٤٧ وج ١٣ / ١٨٧ رقم ٧١٦٥ ، موضّح أوهام الجمع والتفريق ١ / ٣٩٣ رقم ١٣ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٤٦٨ ـ ٤٧٣ ، مجمع الزوائد ٦ / ٢٣٥ ، كنز العمّال

٤٠٤

وروى أبو بكر الأنباري في « أماليه » ، أنّ عليّاعليه‌السلام جلس إلى عمر في المسجد وعنده ناس ، فلمّا قام عرض واحد بذكره ، ونسبه إلى التّيه والعجب.

فقال عمر : حقّ لمثله أن يتيه ، والله لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام ، وهو بعد أقضى الأمّة ، وذو سبقها(١) ، وذو شرفها.

فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه؟!

فقال : كرهناه على حداثة السنّ ، وحبّه بني عبد المطّلب(٢) .

وحمله سورة براءة إلى مكّة ، وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنفذ بها أبا بكر ، فنزل عليه جبرئيل وقال : إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول لك : لا يؤدّيها إلّا أنت أو واحد منك(٣) .

وفي هذه القصّة وحدها كفاية في شرف عليّ وعلوّ مرتبته ، بأضعاف كثيرة على من لا يوثق على أدائها ولم يؤتمن عليها.

وهذه الشجاعة ، مع خشونة مأكله ؛ فإنّه لم يطعم البر ثلاثة أيّام ، وكان يأكل الشعير بغير إدام ، ويختم جريشه لئلّا يؤدمه الحسنانعليهما‌السلام (٤) .

وكان كثير الصوم ، كثير الصلاة(٥) ، مع شدّة قوّته حتّى قلع باب

__________________

١١ / ٢٩٢ ح ٣١٥٥٢ و ٣١٥٥٣ وص ٣٠٠ ح ٣١٥٧٠ وص ٣٥٢ ح ٣١٧٢٠ و ٣١٧٢١ وج ١٣ / ١١٢ ـ ١١٣ ح ٣٦٣٦٧.

(١) سابقتها / خ ل. منهقدس‌سره .

(٢) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٨٢.

(٣) راجع مبحث الحديث السادس ، في الصفحات ٦١ ـ ٧٠ من هذا الجزء.

(٤) انظر : الغارات : ٥٦ ـ ٥٧ ، حلية الأولياء ١ / ٨٢ ، صفة الصفوة ١ / ١٣٣ ، شرح نهج البلاغة ١ / ٢٦.

(٥) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٧.

٤٠٥

خيبر ، وقد عجز عنه المسلمون(١) .

وفضائله أكثر من أن تحصى.

* * *

__________________

(١) انظر : الكامل في التاريخ ٢ / ١٠٢ ؛ وراجع ما مرّ آنفا في الصفحة ٤٠٢ ـ ٤٠٣ من هذا الجزء.

٤٠٦

وقال الفضل(١) :

ما ذكر من بلاء أمير المؤمنين في الحروب مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا أمر لا شبهة فيه ، وكان في أكثر الحروب صاحب الظفر ، وهذا مشهور مسلّم لا كلام لأحد فيه.

وما ذكر من بلائه يوم بدر ، وأنّه قتل الرجال من صناديد قريش ، فهو صحيح ؛ وهو أوّل من بارز الصفّ يوم بدر حين خرج عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة ، وطلبوا المبارزة ، فخرج إليهم فئة من الأنصار ، فقالوا :

نحن لا نبارزكم ؛ ثمّ نادوا : يا محمّد! فلتخرج إلينا أكفاءنا من قريش.

فقال رسول الله : يا عبيدة! يا حمزة! يا عليّ! اخرجوا

فخرجوا ، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة ، وحمزة شيبة ، وعلي الوليد.

فقتل عليّ الوليد ، وحمزة شيبة ، واختلف الضرب بين عتبة وعبيدة ، فعاونه عليّ وحمزة وقتلوا عتبة(٢) .

وهذا أوّل مبارزة وقع في الإسلام ، وكان أمير المؤمنين فارسه.

وأمّا ما ذكر من بلائه يوم أحد ، فهو صحيح ؛ ولكن كان الصحابة ذلك اليوم صاحبي بلاء ، وكان طلحة بن عبيد الله صاحب البلاء ذلك

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ : ٤٥٧ الطبعة الحجرية.

(٢) انظر : الكامل في التاريخ ٢ / ٢٢.

٤٠٧

اليوم ، وكذا سعد بن أبي وقاص ، وأبي دجانة(١) ، وجماعة من الأنصار.

وأمّا ما ذكر من أمر حنين ، وأنّ أبا بكر عانهم ، فهذا من أكاذيبه.

وكيف يعين أبو بكر أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان هو ذلك اليوم شيخ المهاجرين وصاحب رايتهم؟! ولكن رجل من المسلمين أعجبه الكثرة فأنزل الله تلك الآية(٢) .

وأمّا ما ذكر من أنّ عتبة ومعتّب ابني أبي لهب وقفوا عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين ، فهذا من عدم علمه بالتاريخ!

ألم يعلم أنّ عتبة دعا عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يسلّط الله عليه كلبا من كلابه ، فافترسه الأسد ـ وذلك قبل الهجرة ـ ومات في الكفر ؛ فكيف حضر مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة حنين؟!

وهذا من جهله بأحوال السابقين!

وأمّا قصّة سورة براءة فقد ذكرنا حقيقته قبل هذا ؛ وأنّه كان لأجل أن يعتبر العرب على نبذ العهود ، لا لأنّه لم يكن أبو بكر موثوقا به في أداء

__________________

(١) كذا في الأصل ، وهو ليس بغريب من ابن روزبهان! والصواب : أبو دجانة ؛ وهو : أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري الخزرجي الساعدي ، شهد بدرا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان من الأبطال الشجعان ، وله مقامات محمودة في مغازي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان من الثابتين يوم أحد دفاعا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد آخى بينه وبين عتبة بن غزوان ، استشهد يوم اليمامة ، وقيل : بل عاش حتّى شهد مع الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام صفّين.

انظر : معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ ٣ / ١٤٣٥ رقم ١٣٥٣ ، الاستيعاب ٢ / ٦٥١ رقم ١٠٦٠ وج ٤ / ١٦٤٤ رقم ٢٩٣٨ ، أسد الغابة ٢ / ٢٩٩ رقم ٢٢٣٥ وج ٥ / ٩٥ رقم ٤٨٥٦ ، الإصابة ٧ / ١١٩ رقم ٩٨٥٧.

(٢) راجع الصفحة ٤٠٣ ـ ٤٠٤ من هذا الجزء.

٤٠٨

سورة براءة(١) .

وهذا كلام لا يرتضيه أحد من المسلمين أنّ مثل أبي بكر ـ وكان شيخ المهاجرين ، وأمين رسول الله ـ لا يثق عليه رسول الله في نبذ العهد وقراءة سورة براءة ؛ وهذا من غاية تعصّبه وجهله بأحوال الصحابة!

* * *

__________________

(١) تقدّم ذلك في الصفحة ٦٢ ـ ٦٣ من هذا الجزء ؛ فراجع!

٤٠٩

وأقول :

لا نعرف بلاء لأحد يوم أحد إلّا لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأبي دجانة ، والمستشهدين.

وما قيل من بلاء طلحة وسعد فمحلّ نظر ؛ لأنّهما ممّن فرّوا.

روى الطبري في « تاريخه »(١) ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال :

« انتهى أنس بن النضر ـ عمّ أنس بن مالك ـ إلى عمر بن الخطّاب وطلحة ابن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال :

ما يجلسكم؟

قالوا : قتل محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله !

قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله.

ثمّ استقبل القوم حتّى قتل ».

ومثله في « كامل » ابن الأثير(٢) ، وفي « الدرّ المنثور » للسيوطي ، عن ابن جرير(٣) .

__________________

(١) ص ١٩ من الجزء الثالث [ ٢ / ٦٦ حوادث سنة ٣ ه‍ ]. منهقدس‌سره .

(٢) ص ٧٥ من الجزء الثاني [ ٢ / ٥٠ ـ ٥١ حوادث سنة ٣ ه‍ ]. منهقدس‌سره .

(٣) الدرّ المنثور ٢ / ٣٣٦ تفسير الآية ١٤٤ من سورة آل عمران ؛ وانظر : السير والمغازي ـ لابن إسحاق ـ : ٣٣٠ ، المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٢٨٠ ، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٤ / ٣١ ـ ٣٢ ، الثقات ـ لابن حبّان ـ ١ / ٢٢٨ ، الأغاني ١٥ / ١٨٩ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٨ ، تاريخ الخميس ١ / ٤٣٤.

٤١٠

هذا ممّا دلّ على فرار طلحة وعدم بلائه.

وأمّا ما دلّ على فرار سعد

فمنه : ما رواه الطبري ، عن السدّي ، قال : « لم يقف إلّا طلحة ، وسهل بن حنيف(١) »(٢) .

ومنه : ما رواه الحاكم ، في كتاب المغازي من « المستدرك »(٣) ، عن سعد ، قال : « لمّا جال(٤) الناس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الجولة [ يوم أحد ] ، تنحّيت فقلت : أذود عن نفسي ، فإمّا أن أستشهد ، وإمّا أن أنجو » الحديث.

ومنه : ما نقله ابن أبي الحديد(٥) ، عن الواقدي ، قال : « بايعه يومئذ على الموت ثمانية ؛ ثلاثة من المهاجرين ، وخمسة من الأنصار.

__________________

(١) هو : سهل بن حنيف بن واهب الأنصاري الأوسي ، شهد بدرا والمشاهد كلّها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وثبت يوم أحد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا انهزم الناس ، وكان بايعه يومئذ على الموت ، وكان يرمي بالنبل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ صحب الإمام أمير المؤمنين عليّاعليه‌السلام حين بويع له ، واستخلفه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام على المدينة حين سار منها إلى البصرة ، وشهد معه صفّين ، وولّاه بلاد فارس ، وتوفّي في الكوفة سنة ٣٨ ه‍ ، وصلّى عليه الإمام عليّعليه‌السلام .

انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٣٥٨ رقم ١٣٤ ، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ ٣ / ١٣٠٦ رقم ١١٨١ ، الاستيعاب ٢ / ٦٦٢ رقم ١٠٨٤ ، أسد الغابة ٢ / ٣١٨ رقم ٢٢٨٨ ، الإصابة ٣ / ١٩٨ رقم ٣٥٢٩.

(٢) ص ٢٠ ج ٣ [ تاريخ الطبري ٢ / ٦٧ ]. منهقدس‌سره .

(٣) ص ٢٦ من الجزء الثالث [ ٣ / ٢٨ ح ٤٣١٤ ]. منهقدس‌سره .

(٤) جال يجول جولانا وجولة : إذا ذهب وجاء وانكشف ثمّ كرّ ؛ والمراد هنا : انهزم وانكشف وزال عن مكانه ؛ انظر مادّة « جول » في : النهاية في غريب الحديث والأثر ١ / ٣١٧ ، تاج العروس ١٤ / ١٢٦.

(٥) ص ٣٨٨ من المجلّد الثالث [ ١٥ / ٢٠ ]. منهقدس‌سره .

٤١١

فأمّا المهاجرون : فعليّ ، وطلحة ، والزبير ـ إلى أن قال : ـ وأمّا باقي المسلمين ففرّوا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوهم في أخراهم(١) ، حتّى انتهى منهم إلى قريب من المهراس(٢) ».

وروى القوشجي في « شرح التجريد » ما يدلّ على فرار طلحة وسعد ـ عند ذكر نصير الدينرحمه‌الله لغزاة أحد ـ ، قال : « جمع له ـ أي : لعليّ ـ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بين اللواء والراية ، وكانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة ـ وكان يسمّى كبش الكتيبة ـ فقتله عليّ.

فأخذ الراية غيره فقتله عليّ ، ولم يزل يقتل واحدا بعد واحد ، حتّى قتل تسعة نفر ؛ فانهزم المشركون واشتغل المسلمون بالغنائم.

فحمل خالد بن الوليد بأصحابه على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فضربوه بالسيوف والرماح والحجر حتّى غشي عليه ، فانهزم الناس عنه سوى عليّ.

فنظر إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إفاقته وقال له :اكفني هؤلاء ؛ فهزمهم عليّ عنه ، وكان أكثر المقتولين منه »(٣) .

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى :( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ) سورة آل عمران ٣ : ١٥٣.

(٢) المهراس : موضع ماء بأحد ؛ وقال سديف بن إسماعيل بن ميمون ، مولى بني هاشم ، في قصيدته المشهورة حين قدم على أبي العبّاس السفّاح :

واذكروا مصرع الحسين وزيد

وقتيلا بجانب المهراس

وقد عنى به حمزة بن عبد المطّلب عليه‌السلام .

انظر مادّة « هرس » في : لسان العرب ١٥ / ٧٥ ، تاج العروس ٩ / ٣٨ ؛ وانظر كذلك : تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٩٤ ، الكامل في التاريخ ٥ / ٧٧ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ١٦٢.

(٣) شرح تجريد الاعتقاد : ٤٨٦ ، وانظر : تجريد الاعتقاد : ٢٦٠.

٤١٢

وبهذا جاءت أخبارنا ، لكن مع ذكرها لثبات أبي دجانة(١) .

ولو سلّم أنّ طلحة وسعدا ثبتا ، فلا نعرف لهما بلاء يذكر.

ودعوى أنّ طلحة أصابه شلل وقاية لوجه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله محلّ نظر ، ولذا نسبه الشعبي إلى الزعم.

فقد حكى في « كنز العمّال »(٢) ، في كتاب الغزوات ، عن ابن أبي شيبة ، عن الشعبي ، قال : « أصيب يوم أحد أنف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ورباعيّته ، وزعم أنّ طلحة وقى رسول الله بيده ، فضرب فشلّت يده(٣) ».

ولعلّ الشلل كان حينما فرّ!!

على أنّ عمدة المستند في ثباتهما وبلائهما هو نفسهما ، وهما محلّ التهمة ، لا سيّما مع العلم بكذبهما في بعض ما ادّعياه!

روى البخاري في غزاة أحد ، وفي مناقب المهاجرين ، عن أبي عثمان ، قال : « لم يبق مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض تلك الأيّام التي قاتل فيهنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله غير طلحة وسعد ، عن حديثهما »(٤) .

إذ لا ريب ـ على تقدير ثباتهما في أحد ـ قد ثبت معهما غيرهما

__________________

(١) انظر مثلا : الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٨١ ـ ٨٦ ، إعلام الورى ١ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

(٢) ص ٢٧٧ من الجزء الخامس [ ١٠ / ٤٣٨ ح ٣٠٠٦١ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : مصنّف ابن أبي شيبة ٨ / ٤٩٠ ح ٣٤.

(٣) في المصدر : « أصبعه » ، وفي « المصنّف » : « أصابعه ».

والأصبع : واحدة الأصابع ، تذكّر وتؤنّث ، وفيه لغات ؛ انظر : لسان العرب ٧ / ٢٧٩ مادّة « صبع ».

(٤) صحيح البخاري ٥ / ٩٤ ح ٢١٦ وص ٢١٩ ح ١٠١.

٤١٣

كأمير المؤمنينعليه‌السلام ، فكيف يقولون : لم يبق غيرهما ؛ وليس هناك مقام آخر فرّ فيه المسلمون وثبتا فيه وحدهما؟!

فإذا علم كذبهما في ذلك ، كانا محلّ التهمة في كلّ ما أخبرا به ، ومنه دعوى سعد أنّ رسول الله جمع له أبويه وفداه بهما(١) !

ولو سلّم أنّهما لم يفرّا ، وأنّ لهما بلاء في أحد ، فلا يقاسان بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، الذي عجبت الملائكة من حسن مواساته ، وصاح بمدحه جبرئيل ، حتّى يجعلهما الفضل في عرضه!

ولو أعرضنا عن هذا كلّه ؛ فعمدة المقصود : تفضيل أمير المؤمنينعليه‌السلام على المشايخ الثلاثة في الشجاعة والجهاد ، كسائر الصفات الحميدة ، والآثار الجميلة ، فلا ينفع الفضل إثبات شجاعة طلحة وسعد وبلائهما في أحد وحدهما دون المشايخ!

فكيف يستحقّون التقدّم على يعسوب الدين ، وليث العالمين ، وزين العلماء العاملين ، ونفس النبيّ الأمين؟!

لا سيّما عثمان! الذي اتّفقت الكلمة والأخبار على فراره بأحد ، وأنّه إنّما رجع بعد ثلاثة أيّام ، فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لقد ذهبت بها عريضا ! »(٢) .

وكذا عمر ؛ فإنّ أكثر أخبارهم تدلّ على فراره

منها : جميع ما سبق.

ومنها : ما ذكره السيوطي في « الدرّ المنثور » ، بتفسير قوله سبحانه :

__________________

(١) انظر : صحيح البخاري ٥ / ٩٤ ح ٢١٨ ، صحيح مسلم ٧ / ١٢٥.

(٢) تقدّم تخريجه في الصفحة ٤٠٠ ه‍ ٢ ؛ فراجع!

٤١٤

( وَما مُحَمَّدٌ إِلأَرَسُولٌ ) (١) الآية ، قال : أخرج ابن المنذر(٢) ، عن كليب ، قال : خطبنا عمر فكان يقرأ على المنبر « آل عمران » ويقول : إنّها أحدية.

ثمّ قال : تفرّقنا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد ، فصعدت الجبل ، فسمعت يهوديّا يقول : قتل محمّد!

فقلت : لا أسمع أحدا يقول قتل محمّد إلّا ضربت عنقه ؛ فنظرت فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والناس يتراجعون إليه ، فنزلت هذه الآية :( وَما مُحَمَّدٌ إِلأَرَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) (٣) .

وليت شعري من أين جاء اليهودي هناك؟!

وأين كانت هذه الحماسة عن قريش؟!

ومنها : ما نقله في « كنز العمّال » ، في تفسير سورة آل عمران ـ بعدما ذكر حديث ابن المنذر المذكور(٤) ـ ، عن ابن جرير ، عن كليب ، قال :

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤.

(٢) هو : أبو بكر محمّد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري ، نزيل مكّة ، والمتوفّى بها سنة ٣١٨ ه‍ ، كان فقيها حافظا محدّثا ، أخذ الفقه عن أصحاب الشافعي ، ولا يتقيّد في اختيار فتياه بمذهب بعينه ، صنّف كتبا عديدة في الإجماع والخلاف ومذاهب العلماء وغيرها ، منها : الإشراف على مذاهب أهل العلم ، الإقناع ، الأوسط ، الإجماع ، المبسوط ، تفسير القرآن.

انظر : طبقات الفقهاء ـ لأبي إسحاق ـ : ١٠٥ ، وفيات الأعيان ٤ / ٢٠٧ رقم ٥٨٠ ، تهذيب الأسماء واللغات ٢ / ١٩٦ رقم ٣٠١ ، سير أعلام النبلاء ١٤ / ٤٩٠ رقم ٢٧٥ ، طبقات الشافعية الكبرى ٣ / ١٠٢ رقم ١١٨ ، لسان الميزان ٥ / ٢٧ رقم ١٠٤ ، طبقات الحفّاظ : ٣٣٠ رقم ٧٤٦.

(٣) الدرّ المنثور ٢ / ٣٣٤.

(٤) ص ٢٣٨ من الجزء الأوّل [ ٢ / ٣٧٥ ح ٤٢٩٠ ]. منهقدس‌سره .

٤١٥

خطبنا عمر فقرأ آل عمران ، فلمّا انتهى إلى قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ) (١) قال : لمّا كان يوم أحد هزمناهم ، ففررت حتّى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنّني أروى(٢) »(٣) الحديث.

ومنها : ما ذكره ابن أبي الحديد(٤) ، نقلا عن الواقدي ، قال : « لمّا صاح إبليس : إنّ محمّدا قد قتل ؛ تفرّق الناس ـ إلى أن قال : ـ وممّن فرّ عمر وعثمان ».

ومنها : ما حكاه أيضا عن الواقدي ، في قصّة الحديبية ، قال : « قال عمر : ألم تكن حدّثتنا أنّك ستدخل المسجد الحرام؟! ـ إلى أن قال : ـ ثمّ أقبل على عمر فقال : أنسيتم يوم أحد( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ) (٥) وأنا أدعوكم في أخراكم؟! »(٦) الحديث.

.. إلى غير ذلك من الأخبار(٧) .

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٥٥.

(٢) الأروى : جمع كثرة للأرويّة ، وهي الأيايل التي تعيش في الجبال ، وقيل : إنّها غنم الجبال ، والأنثى من الوعول ؛ انظر : لسان العرب ٥ / ٣٨٤ مادّة « روي ».

(٣) كنز العمّال ٢ / ٣٧٦ ح ٤٢٩١ ، وانظر : تفسير الطبري ٣ / ٤٨٨ ح ٨٠٩٧.

(٤) ص ٣٨٩ ج ٣ [ ١٥ / ٢٤ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٢٧٧ ـ ٢٧٩.

(٥) سورة آل عمران ٣ : ١٥٣.

(٦) شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٤ ، وانظر : المغازي ـ للواقدي ـ ٢ / ٦٠٩.

(٧) منها : ما أخرجه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٢ ، أنّ عمر جاءته في أيّام خلافته امرأة تطلب بردا من برود كانت بين يديه ، وجاءت معها بنت لعمر تطلب بردا أيضا ، فأعطى المرأة وردّ ابنته ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنّ أبا هذه

٤١٦

وأمّا أبو بكر ؛ فيدلّ على فراره أيضا أخبار

منها : بعض ما قدّمناه في أدلّة فرار سعد وطلحة(١) .

ومنها : ما رواه الحاكم في « المستدرك »(٢) ، وصحّحه ، عن عائشة ، قالت : قال أبو بكر : لمّا جال الناس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد كنت أوّل من فاء.

ومنها : ما نقله في « كنز العمّال »(٣) ، في غزاة أحد ، عن أبي داود الطيالسي ، وابن سعد ، والبزّار ، والدارقطني ، وابن حبّان ، وأبي نعيم ، والضياء في « المختارة » ، وغيرهم ، بأسانيدهم عن عائشة ، قالت : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ، ثمّ قال : ذاك كان كلّه يوم طلحة!

ثمّ أنشأ يحدّث ، قال : كنت أوّل من فاء يوم أحد ، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله [ دونه ] ، فقلت : كن طلحة حيث فاتني ما فاتني ، فقلت : يكون رجلا من قومي أحبّ إليّ » الحديث.

__________________

ثبت يوم أحد ، وأبا هذه فرّ يوم أحد ولم يثبت.

ومنها : ما رواه الواقدي في المغازي ١ / ٢٣٧ ونقله عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٢ ـ ٢٣ ، عن خالد بن الوليد ، أنّه كان يقول : لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطّاب حين جال المسلمون وانهزموا يوم أحد وما معه أحد ، وأنّي لفي كتيبة خشناء ، فما عرفه منهم أحد غيري ، وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له ، فنظرت إليه وهو متوجّه إلى الشعب.

(١) راجع ما مرّ آنفا في الصفحة ٤١٠ وما بعدها من هذا الجزء.

(٢) ص ٢٧ ج ٣ [ ٣ / ٢٩ ح ٤٣١٥ ]. منهقدس‌سره .

(٣) ص ٢٩٤ ج ٣ [ ١٠ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥ ح ٣٠٠٢٥ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : مسند أبي داود الطيالسي : ٣ ، مسند البزّار ١ / ١٣٢ ح ٦٣ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٦٣ ، الأوائل ـ للطبراني ـ : ٩١ ح ٦٣ ، معرفة الصحابة ١ / ٩٦ ح ٣٦٩ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ٢٩٨ ح ٥١٥٩ ، تاريخ دمشق ٢٥ / ٧٥.

٤١٧

ومنها : ما رواه مسلم ، في أوّل غزوة أحد ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش(١) .

ومن المعلوم أنّ أحد الرجلين عليّ ، والآخر ليس أبا بكر ؛ إذ لا رواية ولا قائل في ثباته ، وفرار سعد أو طلحة.

ومنها : ما رواه الحاكم في فضائل أبي بكر من « المستدرك »(٢) ، عن ابن عبّاس ، في قوله تعالى :( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (٣) ، قال : « أبو بكر وعمر » ؛ ثم قال الحاكم : « صحيح على شرط الشيخين ».

ونقله السيوطي في « الدرّ المنثور » ، عن الحاكم ، قال : « وصحّحه » ، وعن البيهقي في « سننه » ، عن ابن عبّاس ، قال : نزلت هذه الآية في : أبي بكر وعمر(٤) .

ونقل الرازي في « تفسيره » ، عن الواحدي في « الوسيط » ، عن عمرو ابن دينار ، أنّه قال : الذي أمر الله(٥) بمشاورته في هذه الآية : أبو بكر وعمر(٦) .

ووجه الدلالة في ذلك على فرار أبي بكر وكذا عمر ، أنّ من أمر الله سبحانه بمشاورته هم المنهزمون في أحد ، الّذين أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالعفو عنهم.

__________________

(١) صحيح مسلم ٥ / ١٧٨.

(٢) ص ٧٠ من الجزء الثالث [ ٣ / ٧٤ ح ٤٤٣٦ ]. منهقدس‌سره .

(٣) سورة آل عمران ٣ : ١٥٩.

(٤) الدرّ المنثور ٢ / ٣٥٩ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ١٠ / ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٥) في المصدر : « النبيّ ».

(٦) تفسير الفخر الرازي ٩ / ٧٠ ، وانظر : الوسيط ١ / ٥١٢ ـ ٥١٣.

٤١٨

ولذا استشكل الرازي في رواية الواحدي فقال : « وعندي فيه إشكال ؛ لأنّ الّذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الّذين أمره أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ، وهم المنهزمون.

فهب أنّ عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية ، إلّا أنّ أبا بكر ما كان منهم ، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟! والله أعلم »(١) انتهى.

وفيه : إنّ الإشكال موقوف على تقدير ثبات أبي بكر ، وهو خلاف الحقيقة!

هذا ، والآية ظاهرة في الأمر بمشاورتهم للتأليف ، كما يظهر من كثير من أخبارهم(٢) .

ومثله الأمر بالعفو عنهم والاستغفار لهم ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وقال ابن أبي الحديد(٣) : « قال الجاحظ : وقد ثبت أبو بكر مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد كما ثبت عليّ ، فلا فخر لأحدهما على صاحبه.

قال شيخنا أبو جعفر : أمّا ثباته يوم أحد فأكثر المؤرّخين وأرباب السير ينكرونه ، وجمهورهم يروي أنّه لم يبق مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا عليّ وطلحة والزبير وأبو دجانة.

وقد روى عن ابن عبّاس أنّه قال : ولهم خامس ، وهو عبد الله بن

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٩ / ٧٠.

(٢) انظر مثلا : تفسير الماوردي ١ / ٤٣٣ ، تفسير الطبري ٣ / ٤٩٥ ـ ٤٩٦ ، تفسير القرطبي ٤ / ١٦١.

(٣) ص ٢٨١ من المجلّد الثالث [ ١٣ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ]. منهقدس‌سره .

٤١٩

مسعود ؛ ومنهم من أثبت سادسا ، وهو المقداد بن عمرو.

وروى يحيى بن سلمة بن كهيل ، قال : قلت [ لأبي ] : كم ثبت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد؟

فقال : اثنان.

قلت : من هما؟

قال : عليّ وأبو دجانة.

وهب أنّ أبا بكر ثبت يوم أحد كما يدّعيه الجاحظ ، أيجوز له أن يقول : ( ثبت كما ثبت عليّ ، فلا فخر لأحدهما على الآخر )؟! وهو يعلم آثار عليّ ذلك اليوم ، وأنّه قتل أصحاب الألوية من بني عبد الدار ، منهم : طلحة بن أبي طلحة ، الذي رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه أنّه مردف كبشا ، فأوّله وقال :كبش الكتيبة نقتله ؛ فلمّا قتله عليّ مبارزة ـ وهو أوّل قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم ـ كبّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال :هذا كبش الكتيبة !

وما كان [ منه ] من المحاماة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد فرّ المسلمون وأسلموه ، فتصمد له كتيبة من قريش ، فيقول : يا عليّ! اكفني هذه ؛ فيحمل عليها فيهزمها ، ويقتل عميدها ، حتّى سمع المسلمون والمشركون صوتا من قبل السماء :

لا سيف إلّا ذو الفقا

ر ولا فتى إلّا علي

وحتّى قال النبيّ عن جبرئيل ما قال!

أتكون هذه آثاره وأفعاله ثمّ يقول الجاحظ : لا فخر لأحدهما على صاحبه؟!

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582