موسوعة الأسئلة العقائديّة الجزء ١

موسوعة الأسئلة العقائديّة0%

موسوعة الأسئلة العقائديّة مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: مكتبة العقائد
ISBN: 978-600-5213-01-0
الصفحات: 576

موسوعة الأسئلة العقائديّة

مؤلف: مركز الأبحاث العقائديّة
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف:

ISBN: 978-600-5213-01-0
الصفحات: 576
المشاهدات: 211651
تحميل: 5817


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 211651 / تحميل: 5817
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الأسئلة العقائديّة

موسوعة الأسئلة العقائديّة الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
ISBN: 978-600-5213-01-0
العربية

حسم الخلاف فيها ، بل دون كلمة تؤذن بأنّه يحسّ ضيقاً بهذا الخلاف

ففي صفحة واحدة من الأغاني مثلاً ، تقرأ أربع روايات متناقضة متضاربة ،
سردها أبو الفرج متتابعة ، ثمّ لا شيء أكثر من هذا السرد .

وإذا بلغ الخلاف في الموضع الواحد أن يكون الأصبغ المرواني أوّل أزواجها في رواية ، ورابعهم في أُخرى ، ثمّ لا يشار إلى هذا الخلاف بكلمة واحدة !

وإذا بلغ الشذوذ فيما يروى من حياتها الزوجية أن تلد لمصعب بنتاً تتزوّج من عمّها أخي مصعب ـ كما في دائرة المعارف الإسلامية ـ.

وأن يقال : إنّ الرباب بنت امرئ القيس ، التي أهلكها الحزن على زوجها الحسين ، فماتت بعده بعام واحد ، قد بُعثت من قبرها لتشهد مصرع مصعب بعد سنة ٧٠ هـ ، وترفض زواج بنتها سكينة من قاتله ـ كما في « الأغاني » ـ.

وأن تزوّجها ـ كما في « دائرة المعارف » ـ عبد الله بن عثمان ابن أخي مصعب ، وعمرو بن الحاكم بن حزام ، ولا خبر في نسب قريش ، وأنساب العرب عن وجود أخ لمصعب اسمه عثمان ، أو حفيد لحزام اسمه عمرو بن الحاكم

وقال أيضاً : ونقل صاحب الأغاني رواية عن سعيد بن صخر عن أُمّه سعيدة بنت عبد الله ابن سالم : أنّ السيّدة سكينة لقيتها بين مكّة ومنى ، فاستوقفتها لتريها ابنتها من مصعب ، وإذ هي قد أثقلتها بالحلي واللؤلؤ ، وقالت : ما ألبستها الدرّ إلا لتفضحه

ثمّ أتبعها أبو الفرج برواية أُخرى عن شعيب بن صخر عن أُمّه سعدة بنت عبد الله : أنّ سكينة أرتها بنتها من الحزامي ، وقد أثقلتها بالحلي ، وقالت : والله ما ألبستها إيّاه إلّا لتفضحه

وهكذا بين فقرة وأُخرى ، صار سعيد بن صخر شعيب بن صخر ، وصارت سعيدة بنت عبد الله بن سالم ، سعدة بنت عبد الله ، كما صارت بنت مصعب بنت الحزامي

وتتحدّث الدكتورة عن زواج سكينة بعمرو بن حاكم بن حزام فتقول :

٣٦١

وعمرو هذا أو عمر ، هو أخ لجدّ عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ، زوجها بعد مصعب ، ولا ندري كيف أدركت سكينة ، إلى أن يصبح في حساب هؤلاء أن تتزوّج من رجلين بينهما ثلاثة أجيال

وقالت : إنّ الشيعة كما ذكرنا في مطلع هذا الفصل ، يرفضون الاعتراف بهذه الزيجات المتعاقبة ، ولا يقبلون منها غير ما ذكروه من زواجها بابن عمّها الحسن ، ثمّ مصعب بن الزبير ، وعذرهم واضح ، فما كانت هذه الأخبار في تناقضها ، وتدافعها واختلاطها بالتي تدعو إلى شيء من ثقة وطمأنينة ، وقد رأيناها زوّجت سكينة من عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ، ثمّ من عمّ أبيه عمرو بن حكيم

وبعثت الموتى من قبورهم بعد سنين ذوات عدد ، فجعلت الرباب أُمّ سكينة ترفض زواجها من عبد الله بن مروان بعد قتل مصعب

وسبقت الزمن فجاءت على مسرح الأحداث بالأجنّة في بطون أُمّهاتهم ، حتّى جعلت هشام بن عبد الملك ـ الذي ولد بعد مقتل مصعب ، أو كان رضيعاً في عامه الأوّل ـ يتدخّل في حكاية إبراهيم بن عبد الرحمن ، لمّا أراد زواجها بعد ترمّلها من مصعب بن الزبير

فليس بالغريب أن ترفض الشيعة هذه الروايات جميعاً ، وقد تعارضت فتساقطت ، وكذّب بعضها بعضاً ، وجاوزت نطاق المعقول

وقال علي دخيل : والذي عليه الشيعة : أنّها لم تتزّوج غير ابن عمّها عبد الله ابن الإمام الحسنعليه‌السلام ، ويوافق الشيعة على زواجها بعبد الله بن الإمام الحسنعليه‌السلام غيرهم من السنّة ، نذكر من كتب الطرفين : إعلام الورى : ١٢٧ للمجدي ( مخطوط ) ، إسعاف الراغبين : ٢١٠ ، رياض الجنان : ٥١ ، مقتل الحسين للمقرّم : ٣٣٠ ، سكينة بنت الحسين للمقرّم : ٧٢ ، أدب الطف ١ : ١٦٢ ،
سفينة بحار الأنوار ١ : ٦٣٨ .

٣٦٢

وقفة مع التاريخ المزيّف :

لم تنتهي تهم الأعداء ـ أعداء آل محمّدعليهم‌السلام ـ لسكينة بنت الحسينعليه‌السلام بتعدّد أزواجها حسبما قالوه ، بل تجاوزتها إلى أكبر من ذلك وأعظم ، حيث جعلوا سكينة تجالس الشعراء ، وتعقد مجالس الطرب والشعر في بيتها ، ويتغزّل بها ابن أبي ربيعة ، إلى غير ذلك من الافتراءات الباطلة

وما كنّا نودّ التحدّث عن هذا الجانب من حياة السيّدة سكينة ؛ لأنّ التعرّض له قد ينبّه مَن غفل عنه ، إلّا أنّا وجدنا بعض الكتّاب يحاول أن يوجّه هذه الاتهامات بقوله : نعم كانت سكينة تجالس الشعراء من وراء حجاب ، أو أنّها كانت تبعث للشعراء الذين يجتمعون عندها جاريةً لها علّمتها الشعر ، وإلى غير ذلك من التوجيهات الباطلة

ونحن إذ نعيب الأصفهاني وغيره الذين نقلوا لنا هذه الأحاديث المفتعلة ، ففي نفس الوقت نوجّه النقد لأُولئك الذين حاولوا توجيه هذه الافتراءات ، ولا ندري كيف يرتضون لأنفسهم هذه التوجيهات ، بل كيف يقتنعون بها ؟!

ونذكر هنا اتهامين باطلين سجّلهما لنا التاريخ المزيّف ، والجواب عنهما :

الأوّل : روى أبو الفرج الأصفهاني عن الزبيري : اجتمع بالمدينة راوية جرير ، وراوية كثير ، وراوية جميل ، ورواية نصيب ، ورواية الأحوص ، فافتخر كلّ واحد منهم بصاحبه وقال : صاحبي أشعر ، فحكّموا سكينة بنت الحسين بن عليعليهما‌السلام ، لما يعرفونه من عقلها ، وبصرها بالشعر ، فخرجوا يتقادّون حتّى استأذنوا عليها فأذنت لهم ، فذكروا لها الذي كان من أمرهم ، فقالت لراوية جرير : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :

طرقتُكِ صائدة القلوب وليس ذا

حين الزيارة فارجعي بسلام

وأيّ ساعة أحلى للزيارة من الطروق ، قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره ، ألا
قال : فادخلي بسلام .

ثمّ قالت لراوية كثير : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :

٣٦٣

يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها

وأحسن شيء ما به العين قرّت

فليس شيء أقرّ لعينها من النكاح ، أفيحب صاحبكَ أن ينكح ؟ قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره

ثمّ قالت لراوية جميل : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :

فلو تَركتْ عقلي معي ما طلبتُها

ولكن طلابيها لما فات من عقلي

فما أرى بصاحبك من هوى ، إنّما يطلب عقله ، قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره

ثمّ قالت لراوية نصيب : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :

أهيم بدعد ما حييتُ فإن أمت

فيا حرباً مَن ذا يهيم بها بعدي

فما أرى له همّة إلّا مَن يتعشّقها بعده ! قبّحه الله وقبّح شعره ، ألا قال :

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت

فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي

ثمّ قالت لراوية الأحوص : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :

من عاشقين تواعدا وتراسلا

ليلاً إذا نجم الثريا حلقا

باتا بأنعم ليلة وألذّها

حتّى إذا وضح الصباح تفرّقا

قال : نعم

قالت : قبّحه الله وقبّح شعره ، ألا قال : تعانقا

قال إسحاق في خبره : فلم تثنِ على واحدٍ منهم في ذلك اليوم ، ولم تقدّمه

قال : وذكر لي الهيثم بن عدي مثل ذلك في جميعهم ، إلّا جميلاً فإنّه خالف هذه الرواية ، وقال : فقالت لراوية جميل : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :

فيا ليتني أعمى أصم تقودني

بثينة لا يخفى عليّ كلامها

قال نعم

قالت : رحم الله صاحبكَ كان صادقاً في شعره ، كان جميلاً كاسمه ،
فحكمت له .

٣٦٤

وعلّق الأُستاذ علي دخيل على هذه الرواية بقوله : إنّ أثر الصنعة واضح على هذه الرواية ، وهي من نسج الزبيري عدوّ أهل البيت ، وما أكثر مفترياته هو وذويه على آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد جعلَ من ابنة الرسالة النابغة الذبياني ـ فقد كان يضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ ، فتأتيه الشعراء فتعرض أشعارها ـ

وجدير بالذكر أنّ المؤرّخين لم يحدّثونا عن مثل هذا الاجتماع لمن سبقها من نساء أهل البيتعليهم‌السلام كفاطمة وزينبعليهما‌السلام ، مع أنّهما أجلّ وأعلم من سكينة ، بل لم يذكر التاريخ اجتماع مثل هؤلاء الرواة عند أحد من الأئمّةعليهم‌السلام للحكومة فيما بينهم

نعم ورد في نهج البلاغة : ( سُئلعليه‌السلام : مَن أشعر الشعراء ؟ فقال :« إنّ القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها ، فإن كان ولابدّ فالملك الضليل » )(١) ، يريد امرئ القيس

أنا لا أدري كيف يقبل هؤلاء بحكم سكينة ، مع أنّه لم يرو لها إلّا سبعة أبيات ، لا تؤهل قائلها لمثل هذا المنصب الكبير

وقد سُئل الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء عن هذا الاجتماع ، فقال : لم يذكره ابن قتيبة ، ولا ابن طيفور في « بلاغات النساء » ، مع أنّهما أقدم من أبي الفرج

وقالقدس‌سره : « أبو الفرج كتابه كتاب لهو ، وقد يأخذ عن الكذّابين ، وحمّاد الذي جاءت عنه الرواية كذّاب »(٢)

وقال الشيخ جعفر النقدي : أمّا وصف الحسينعليه‌السلام لابنته سكينة من غلبة الاستغراق مع الله تعالى ، فيكذّب الانقال المروية عن الزبير بن بكّار ، وأضرابه من النواصب ، كعمّه مصعب الزبيري ، من اجتماع الشعراء عندها ومحاكمتها بينهم ، وأمثال ذلك ممّا ينافي شأن خفرة من خفرات النبوّة ، وعقيلة من عقائل بيت العصمة

______________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ١٥٣

(٢) جنّة المأوى : ١٦٥

٣٦٥

وإن تعجب فاعجب من أبي الفرج الأصبهاني ، ومَن حذا حذوه ، أن ينقلوا مفتريات هؤلاء في كتبهم من غير فكر ولا تروٍّ ، على أنَّ الزبير بن بكّار كان عدوّاً لآل علي ، بل لسائر بني هاشم ، كان يصنع المفتريات في رجالهم ونسائهم حتّى أرادوا قتله ، ففرَّ من مكّة إلى بغداد أيّام المتوكّل ، ذكر ذلك ابن خلكان في تاريخه « وفيات الأعيان »

وجدير بالذكر هو أن تعلم أنّ مثل هذا الاجتماع عقد برعاية عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمي ، فقد روى أبو الفرج عن أبي عمرو قال : أنشدت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله هذه القصيدة : وجدت الخمر جامحة وفيها وبحضرتها جماعة من الشعراء ، فقالت : مَن قدر منكم أن يزيد فيها بيتاً يشبهها ، ويدخل في معناها حلّتي هذه ؟ فلم يقدر أحد منهم على ذلك

وذكر أبو الفرج نفسه اجتماعاً مشابهاً للاجتماع الذي نسبه للسيّدة سكينة ، عقد برعاية امرأة أموية ، قال : أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان ، قال : حدّثني عبد الله بن إسماعيل ابن أبي عبيد الله كاتب المهدي ، قال : وجدت في كتاب أبي بخطّه : حدّثني أبو يوسف التجيبي ، قال : حدّثني إسماعيل بن المختار مولى آل طلحة ، وكان شيخاً كبيراً ، قال : حدّثني النصيب أبو محجن ، أنّه خرج هو وكثير والأحوص غب يوم أمطرت فيه السماء ، فقال : هل لكم أن نركب جميعاً ، فنسير حتّى نأتي العقيق ، فنمتّع فيه أبصارنا ؟

فقالوا : نعم ، فركبوا أفضل ما يقدرون عليه من الدواب ، ولبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب ، وتنكّروا ثمّ ساروا حتّى أتوا العقيق ، فجعلوا يتصفّحون ويرون بعض ما يشتهون ، حتّى رفع لهم سواد عظيم ، فأمّوه حتّى أتوه ، فإذا وصائف ورجال من الموالي ، ونساء بارزات ، فسألنهم أن ينزلن ، فاستحوا أن يجيبوهن من أوّل وهلة ، فقالوا : لا نستطيعَ أو نمضي في حاجة لنا ، فحلّفنهم أن يرجعوا إليهن ، ففعلوا وأتوهن فسألنهم النزول فنزلوا

ودخلت امرأة من النساء فاستأذنت لهم ، فلم تلبث جاءت المرأة فقالت :

٣٦٦

ادخلوا ، فدخلنا على امرأة جميلة برزت على فرش لها ، فرحبّت وحيّت ، وإذا كراسي موضوعة ، فجلسنا جميعاً في صفّ واحدٍ كلّ إنسان على كرسي ، فقالت : إن أحببتم أن ندعو بصبي لنا فنصيحه ونعرك أذنه فعلنا ، وإن شئتم بدأنا بالغداء ؟

فقلنا : بل تدعين الصبي ولن يفوتنا الغداء ، فأومأت بيدها إلى بعض الخدم فلم يكن إلّا كلا ولا ، حتّى جاءت جارية جميلة قد سترت عليها بمطرف فأمسكوه عليها حتّى ذهب بصرها ، ثمّ كُشف عنها ، وإذا جارية ذات جمال قريبة من جمال مولاتها ، فرحّبت بهم وحيّتهم ، فقالت لها مولاتها : خذي ويحك من قول النصيب ، عافى الله أبا محجن :

ألا هل من البين المفرق من بد

وهل مثل أيّام بمنقطع السعد

تمنّيت أيّامي أُولئك والمنى

على عهد عاد ما تعيد ولا تبدي

فغنّته ، فجاءت كأحسن ما سمعته بأحلى لفظ ، وأشجى صوت

ثمّ قالت لها : خذي أيضاً من قول أبي محجن ، عافى الله أبا محجن :

أرق المحبّ وعاده سهده

لطوارق الهم التي ترده

وذكرت من رقّت له كبدي

وأبى فليس ترق لي كبده

لا قومه قومي ولا بلدي

فنكون حيناً جيرة بلده

ووجدت وجداً لم يكن أحد

من أجله بصبابة يجده

إلّا ابن عجلان الذي تبلت

هند ففات بنفسه كمده

قال : فجاءت به أحسن من الأوّل ، فكدت أطير سروراً

ثمّ قالت لها : ويحك خذي من قول أبي محجن ، عافى الله أبا محجن :

فيا لك من ليل تمتعت طوله

وهل طائف من نائم متمتّع

نعم إنّ ذا شجو متى يلق شجوه

ولو نائماً مستعتب أو مودع

٣٦٧

له حاجة قد طالما قد أسرّها

من الناس من صدر بها يتصدّع

تحملها طول الزمان لعلّها

يكون لها يوماً من الدهر منزع

وقد قرعت في أُمّ عمرو لي العصا

قديماً كما كانت لذي الحلم تقرع

قال : فجاءني والله شيء حيّرني وأذهلني طرباً لحسن الغناء ، وسروراً باختيارها الغناء في شعري ، وما سمعت منه من حسن الصنعة وجودتها وإحكامها

ثمّ قالت لها : خذي أيضاً من قول أبي محجن ، عافى الله أبا محجن :

يا أيّها الركب إنّي غير تابعكم

حتّى تلموا وأنتم بي ملمونا

فما أرى مثلكم ركباً كشكلكم

يدعوهم ذو هوى أن لا يعوجونا

أم خبروني عن داء بعلمكم

وأعلم الناس بالداء الأطبونا

قال نصيب : فو الله زهوت بما سمعت زهواً خيّل إليّ أنّي من قريش ، وأنّ الخلافة لي

ثمّ قالت : حسبكِ يا بنية ، هات الطعام يا غلام ، فوثب الأحوص وكثير ، وقالا : والله لا نطعم لك طعاماً ، ولا نجلس لك في مجلس ، فقد أسأت عشرتنا واستخففت بنا ، وقدّمت شعر هذا على أشعارنا ، وأسمعت الغناء فيه ، وإنّ في أشعارنا لما يفضل شعره ، وفيها من الغناء ما هو أحسن من هذا

فقالت : على معرفة كلّ ما كان منّي فأيّ شعركما أفضل من شعره ، أقولك يا أحوص :

يقر بعيني ما يقرّ بعينها

وأحسن شيء ما به العين قرّت

ثمّ قولك يا كثير في عزة :

وما حسبت ضمرية جدوية

سوى التيس ذي القرنين إن لها بعلاً

قال : فخرجا مغضبين واحتبستني ، فتغدّيت عندها ، وأمرت لي بثلاثمائة

٣٦٨

دينار وحلّتين وطيب ، ثمّ دفعت إليّ مائتي دينار ، قالت : ادفعها إلى صاحبيك فإن قبلاها وإلّا فهي لك ، فأتيتهما منازلهما فأخبرتهما القصّة ، فأمّا الأحوص فقبلها ، وأمّا كثير فلم يقبلها ، وقال : لعن الله صاحبتكَ وجائزتها ، ولعنكَ معها ، فأخذتها وانصرفت

فسألت النصيب ممّن المرأة ؟ فقال : من بني أُمية ، ولا أذكر اسمها ما حييت لأحد

وشيء آخر يجب أن نتنبّه له هو أثر الصنعة واضح على هذا التلفيق ، وهو تجميع لكلمات عدّة من النقّاد والبصراء بالشعر ، وقد مرّ عليك آنفاً نقد المرأة الأموية لبعض الأبيات بالنقد الذي نسبوه للسيّدة سكينة ، كما أنّ بيت نصيب وإصلاحه المنسوب إلى السيّدة سكينة ، رواه ابن قتيبة بلفظ مقارب لعبد الملك ابن مروان ، قال : دخل الأقيشر على عبد الملك بن مروان وعنده قوم ، فتذاكروا الشعر ، وقول نصيب :

اهيم بدعد ما حييت فإن أمت

فيا ويح دعد من يهيم بها بعدي

فقال الاقيشر : والله لقد أساء قائل هذا البيت

فقال عبد الملك : فكيف كنت تقول لو كنت قائله ؟

قال : كنت أقول :

تحبّكم نفسي حياتي فإن أمت

أُوكل بِدَعد من يهيم بها بعدي

فقال عبد الملك : والله لأنت أسوأ قولاً منه حين توكل بها

فقال الاقيشر : فكيف كنت تقول يا أمير المؤمنين ؟

قال : كنت أقول :

تحبّكم نفسي حياتي فإن أمت

فلا صلحت هند لذي خلّة بعدي

فقال القوم جميعاً : أنت والله يا أمير المؤمنين أشعر القوم

الثاني : حديث الصورين :

٣٦٩

قال أبو الفرج الأصفهاني : أخبرني علي بن صالح ، قال : حدّثنا أبو هفان ،
عن إسحاق ، عن أبي عبد الله الزبيري ، قال : اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف ، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة ، وشعره وظرفه وحسن حديثه ، فتشوّقن إليه وتمنيّنه ، فقالت سكينة بنت الحسين عليه‌السلام : أنا لكُنّ به ، فأرسلت إليه رسولاً وواعدته الصورين ، وسمّت له الليلة والوقت ، وواعدت صواحباتها ، فوافاهنّ عمر على راحلته ، فحدّثهن حتّى أضاء الفجر وحان انصرافهن ، فقال لهن : والله إنّي لمحتاج إلى زيارة قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والصلاة في مسجده ، ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئاً ، ثمّ انصرف إلى مكّة ، وقال :

قالت سكينة والدموع ذوارف

منها على الخدين والجلباب

ليت المغيريّ الذي لم أجزه

فيما أطال تصيّدي وطلابي

كانت ترد لنا المنى أيّامنا

إذ لا نلام على هوى وتصابي

خبرت ما قالت فبتّ كأنّما

ترمي الحشا بنوافذ النشاب

أسكين ما ماء الفرات وطيبه

منّي على ظمأ وفقد شراب

بألذّ منك وإن نأيت وقلّما

ترعى النساء أمانة الغيّاب

وأجاب الأُستاذ علي دخيّل على هذه الرواية قائلاً : إنّ هذه الأبيات ليست في سكينة بنت الحسينعليه‌السلام ، وإنّما هي في سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف ، وإنّ عداوة الزبيري صيّرتها في سكينة ، ودليلنا :

١ ـ قال العلّامة الشنقيطي : أكثر الروايات « سكينة » في المتمم ، « وأسكين »
في المرخم ، والرواية الصحيحة : قالت « سعيدة » في المتمم ، و « أسعيد » في المرخم ،
وسعيدة تصغير سعدى وهي بنت عبد الرحمن بن عوف .

وسبب هذا الشعر أنّ سعدى المذكورة كانت جالسة في المسجد الحرام ، فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت ، فأرسلت إليه : إذا فرغت من طوافك فأتنا ، فأتاها ، فقالت : لا أراكَ يا ابن أبي ربيعة سادراً في حرم الله ، أما

٣٧٠

تخاف الله ويحكَ ، إلى متى هذا السفه ؟!

فقال : أي هذه دعي عنك هذا من القول ، أما سمعت ما قلتُ فيكِ ؟

قالت : لا ، فما قلت ؟ فأنشدها الأبيات

فقالت : أخزاك الله يا فاسق ، علمَ الله إنّي ما قلت ممّا قلت حرفاً ، ولكنّك إنسان بهوت

هذا هو الصحيح ، وإنّما غيّره المغنّون فجعلوا « سكينة » مكان سعيدة ، « وأسكين » مكان « أسعيد »

٢ ـ قال الأُستاذ عبد السلام محمّد هارون : ويُفهم من كلام أبي الفرج أنّ الرواية الصحيحة في البيت « قالت سعيدة » ، وفي البيت الخامس التالي « أسعيد » ، وكلاهما تصغير ترخيم لسعدى ، وهي سعدى بنت عبد الرحمن ابن عوف

وللشعر على هذه الرواية قصّة في الأغاني ، ثمّ قال أبو الفرج : وإنّما غيّره المغنّون

٣ ـ ذكرت هذه القصيدة بكاملها في ديوان ابن أبي ربيعة ، لشارحه الأُستاذ محمّد علي العناني المصري ، قال : وكانت سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف جالسة في المسجد الحرام ، فرأت عمر يطوف بالبيت ، فأرسلت إليه : إذا فرغت من طوافك فأتنا ، فأتاها ، فقالت : مالي أراكَ يابن أبي ربيعة سادراً في حرم الله ، ويحكَ أما تخاف الله ، ويحكَ إلى متى هذا السفه ؟

فقال : أي هذه دعي عنك هذا من القول ، أما سمعت ما قلت فيك ؟

قالت : لا ، فما قلت ؟ فأنشدها قوله :

ردع الفؤاد بنكرة الأطراب

وصبا إليكِ ولاتَ حينَ تصابي

إن تبذلي لي نائلاً يشفى به

سقم الفؤاد فقد أطلت عذابي

وعصيتُ فيك أقاربي فتقطّعت

بيني وبينهم عرى الأسباب

٣٧١

وتركتني لا بالوصال ممتّعاً

يوماً ولا أسعفتني بثواب

فقعدت كالمهريق فضلة مائه

من حرّها جرة للسع شراب

يشفى به منه الصدى فأماته

طلب السراب ولات حين طلاب

قالت سعيدة والدموع ذوارف

منها على الخدين والجلباب

ليت المغيري الذي لم تجزه

فيما أطال تصيّدي وطلابي

كانت ترد لنا المنى أيّامنا

إذ لا تلام على هوى وتصابي

خبرت ما قالت فبتّ كأنّما

ترمي الحشا بنوافذ النشاب

أسعيد ما ماء الفرات وطيبه

منّي على ظمأ وفقد شراب

بألذّ منك وإن رأيت وقلّما

ترعى النساء أمانة الغيّاب

فلمّا فرغ من الإنشاد قالت له : أخزاكَ الله يا فاسق ، علم الله أنّي ما قلتُ ما قلتَ حرفاً ، ولكنكَ إنسان بهوت

٤ ـ إنّ أبا الفرج نفسه ذكر في موضع آخر من أغانيه هذا الاجتماع عن الرواة أنفسهم ، وذكر سكينة ، ولكن لم ينسبها إلى الحسينعليه‌السلام ، كما ذكر شعراً غير الشعر الأوّل

ثمّ قال الأُستاذ علي دخيّل : كيف تعقد سكينة مثل هذا الاجتماع ، والمدينة بأسرها في مأتم على الحسينعليه‌السلام ؟! فالرباب ـ أُمّ سكينة ـ يقول عنها ابن كثير : « ولما قُتل كانت معه ، فوجدت عليه وجداً شديداً وقد خطبها بعده أشراف قريش ، فقالت : ما كنتُ لأتخذ حمواً بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله لا يؤويني ورجلاً بعد الحسين سقف أبداً ، ولم تزل عليه كمدة حتّى ماتت ، ويقال : إنّها عاشت بعده أيّاماً يسيرة »(١)

وأُمّ البنين فقد كانت تخرج كلّ يوم ترثيه ـ العباسعليه‌السلام ـ وتحمل ولده عبيد
______________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ٢٢٩

٣٧٢

الله ، فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة ـ فيهم مروان بن الحكم ـ فيبكون لشجى الندبة

والرواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : « ما امتشطت فينا هاشمية ، ولا اختضبت حتّى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين صلوات الله عليه »(١)

وأنت سلّمك الله إذا علمت أنّ سكينة تقول للصحابي الجليل سهل بن سعد الساعدي في الشام : قُل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه ، ولا ينظروا إلى حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

قال سهل : فدنوتُ من صاحب الرأس فقلت له : هل لكَ أن تقضي حاجتي ، وتأخذ منّي أربعمائة دينار ؟

قال : وما هي ؟

قلت : تُقدّم الرأس أمام الحرم ، ففعل ذلك ، فدفعتُ إليه ما وعدته

وإذا كان حال هذه السيّدة في الصيانة والحجاب في موضع سلب فيه الاختيار ، فهل يتصوّر مسلم أن تواعد عمر بن أبي ربيعة الصورين ؟!

ولو قلنا : إنّ اجتماع الصورين تأخّر عن واقعة الطف كثيراً حتّى نستها سكينة ، فإنّ ابن أبي ربيعة تاب عام ٦٢ هـ ، فيبطل الاجتماع أيضاً

ولو صحّ اجتماع الصورين لَذَكَرَهُ كبار مؤرّخي الشيعة ومحدّثيهم ، فقد تميّزوا بالإطلاع والتحقيق ، وعدم المهادنة ، فهذه كتب الشيخ المفيد ، والسيّد المرتضى ، والشيخ الطوسي والطبرسي ، وغيرهم من أعلام الطائفة ، وهي خالية من الإشارة إلى ذلك ونحوه

ومَن قرأ مصنّفات هؤلاء الأعلام يجد ما كتبوه عمّن شذّ من أولاد الأئمّةعليهم‌السلام ، فهذا جعفر بن الإمام الهاديعليه‌السلام ، وقد وصفوه بالكذب وشرب الخمر ، ومعاونة الظالمين ، كما تناولوا غيره كعلي بن إسماعيل بن الإمام الصادقعليه‌السلام
______________________

(١) اختيار معرفة الرجال ١ / ٣٤١ ، رجال ابن داود : ٢٧٧

٣٧٣

وغيرهما ، فهم لم يتعصّبوا إلّا للحقّ ، ولم يكتبوا إلّا للتاريخ

وقالت الدكتورة بنت الشاطئ : ربما عرض لنا آخر الأمر أن نسأل : متى ظهرت سكينة في المجتمع طليقة متحرّرة ، وشاركت في التاريخ الأدبي بعصرها ؟

الأخبار التي بين أيدينا تشير إلى أنّها ظهرت لأوّل مرّة في موسم الحجّ سنة ٦٠ هـ ، حين صحبت أباهارضي‌الله‌عنه في هجرته من المدينة إلى مكّة ، وقد كانت إذ ذاك في ربيعها الثاني عشر ، أو الثالث عشر ، وغير بعيد أن تكون لفتت إليها الأنظار بنضرة صباها ، وحيوية مرحها ، وبهاء طلعتها ، ولكن مهابة أبيها الإمام الحسين كافية وحدها لأن تلجم ألسنة الشعراء عن التغنّي باسمها في قصائد الغزل ، فهل ترى حلّت عقدة لسانهم بعد عودتها إلى المدينة إثر فاجعة كربلاء ؟!

المؤرّخون يقرّون أنّ المدينة كانت في مأتم عام لسيّد الشهداء ، وأنّ أُمّها الرباب قد أمضت عاماً بأكمله حادّة حزينة حتّى لحقت بزوجها الشهيد

وإنّ أُمّ البنين بنت حزام بن خالد العامرية ، زوج الإمام علي بن أبي طالب ، كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم ، فتبكي أبناءها الأربعة ، أعمام سكينة ، الذين استشهدوا مع أخيهم الحسين في كربلاء : عبد الله ، وجعفر ، وعثمان ، والعباس بني علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) ، فتلبث نهارها هناك تندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها ، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها ، فكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك ، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي

فهل ترى كان يحدث هذا ، وسكينة تعقد مجالس الغناء في دارها ، وتواعد عمر الصورين ذات ليلة ، استجابةً لرغبة نسوة شاقهنّ مجلس ابن أبي ربيعة ؟!

هل كان مروان بن الحكم يسمع أُمّ البنين تندب أعمام سكينة فيبكي لها ، وسكينة تبكي بدموع ذوارف على الخدين والجلباب ، لفراق عمر بن أبي

٣٧٤

ربيعة ، وتصغي إلى شدو المغنّين بقولها على لسانه :

ليتَ المغيري الذي لم أجزه

فيما أطال تصيّدي وطلابي

كانت ترد لنا المنى أيّامنا

إذ لا نلام على هوى وتصابي

فهل عمر قال فيها ما قال بعد عودتها من سفرها إلى مصر مع عمّتها زينب عقيلة بني هاشم ؟

الذين أرّخوا للسيّدة زينبعليها‌السلام ذكروا وفاتها في شهر رجب سنة ٦٢ هـ ، وقد ثوت في مرقدها الأخير هناك ، وآبت سكينة من رحلتها مضاعفة اليتم ، لتشهد بعد ذلك ثورة أهل المدينة على بني أُمية ، وخروجهم على يزيد بن معاوية لقلّة دينه ، وهي الثورة التي انتهت بوقعة الحرّة ، حيث استشهد من أولاد المهاجرين والأنصار ٣٠٦ شخصاً ، وعدد من بقية الصحابة الأوّلين ، وهجر المسجد النبوي ، فلم تقم فيه صلاة الجماعة لمدى أيّام

والمنقول أنّ عمر تاب توبته المشهورة في ذلك العام ، وشُغل العالم الإسلامي بعد ذلك بقيام حركة التوّابين في العراق ، الذين أظهروا الندم على عدم نصرة الإمام الحسين الشهيد ، فلم يَروا كفارة دون القتل في الثأر له ولصحبه ، فهل يا ترى كانت سكينة تصمّ أُذنيها عن هتاف التوّابين لترغيم « ابن سريج » على الغناء في دارها مع عزّة الميلاء ، وتفتنه عن توبته عن الغناء(١)

« محمّد البغدادي ـ العراق ـ ٢٠ سنة ـ طالب »

شخصية مالك بن نويرة :

س : نسأل المولى العزيز القدير أن يحفظكم لخدمة هذا الدين الحنيف ، وعلى وجه الخصوص المذهب الحقّ ، مذهب أهل البيتعليهم‌السلام

أخواني الأعزّاء طلبي منكم هو : أن توضّحوا الشخصية الدينية التي أبت أن
______________________

(١) أعلام النساء المؤمنات : ٤٩٥

٣٧٥

تخضع إلى أعداء الله والإسلام ، لأنّه كثير من الناس يجهلونها ، وهي شخصية البطل مالك بن نويرةرضي‌الله‌عنه

ولكم منّي أجمل التوفيق بسعي لخدمة الله وآل بيت نبيّهعليهم‌السلام

ج : كان مالك بن نويرة من كبار بني تميم وبني يربوع ، وصاحب شرف رفيع ، وأريحية عالية بين العرب حتّى ضرب به المثل في الشجاعة والكرم ، والمبادرة إلى إسداء المعروف ، والأخذ بالملهوف

وكانت له الكلمة النافذة في قبيلته حتّى إنّه لمّا أسلم ورجع إلى قبيلته ، وأخبرهم بإسلامه ، وأعطاهم فكرة عن جوهر هذا الدين الجديد ، أسلموا على يديه جميعاً ، ولم يتخلّف منهم رجل واحد

وكان هذا الصحابي الجليل قد نال منزلة رفيعة لدى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى نصّبه وكيلاً عنه في قبض زكاة قومه كلّها ، وتقسيمها على الفقراء ، وهذا دليل وثقاته واحتياطه وورعه

واختصّ مالك بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأخلص له نهاية الإخلاص ، حتّى إنّه ما بايع أبا بكر ، وأنكر عليه أشدّ الإنكار ، وعاتبه بقوله له :

« أربِع على ضلعك ، والزم قعر بيتك ، واستغفر لذنبك ، وردّ الحقّ إلى أهله ، أما تستحي أن تقوم في مقام أقام الله ورسوله فيه غيرك ، وما تزال يوم الغدير حجّة ، ولا معذرة »(١)

وأرسل أبو بكر ـ في بداية خلافته ـ خالد بن الوليد لمحاربة المرتدّين ، ولمّا فرغ خالد من حروب الردَّة سار نحو البطاح ، وهي منزل لمالك بن نويرة وقبيلته

وكان مالك قد فرّق أفراد عشيرته ، ونهاهم عن الاجتماع ، فعندما دخلها خالد لم يجد فيها أحداً ، فأمر خالد ببثّ السرايا ، وأمرهم بإعلان الأذان وهو رمز الإسلام ، وإلقاء القبض على كلّ من لم يجب داعي الإسلام ، وأن يقتلوا كلّ مَن يمتنع حسب وصية أبي بكر

______________________

(١) تنقيح المقال ٢ / ترجمة مالك بن نويرة

٣٧٦

فلمّا دخلت سرايا خالد قوم مالك بن نويرة في ظلام الليل ارتاع القوم ، فأخذوا أسلحتهم للدفاع عن أنفسهم ، فقالوا : إنّا لمسلمون ، فقال قوم مالك : ونحن لمسلمون ، فقالوا : فما بال السلاح معكم ؟ فقال قوم مالك : فما بال السلاح معكم أنتم ؟! فقالوا : فإن كنتم مسلمين كما تقولون فضعوا السلاح ، فوضع قوم مالك السلاح ، ثمّ صلّى الطرفان ، فلمّا انتهت الصلاة ، قام جماعة خالد بمباغتة أصحاب مالك ، فكتّفوهم بما فيهم مالك بن نويرة ، وأخذوهم إلى خالد بن الوليد

وتبريراً لما سيقدم عليه خالد ، ادّعى أنّ مالك بن نويرة ارتدَّ عن الإسلام ، فأنكر مالك ذلك ، وقال : أنا على دين الإسلام ما غيَّرت ولا بدَّلت

وشهد له بذلك اثنان من جماعة خالد ، وهما : أبو عتادة الأنصاري ، وعبد الله بن عمر ، ولكن خالد لم يُلق إذناً صاغية ، لا لكلام مالك ولا للشهادة التي قيلت بحقّه

فأمر بضرب عنق مالك وأعناق أصحابه ، وبقبض أُمّ تميم ـ زوجة مالك ـ ودخل بها في نفس الليلة التي قتل فيها زوجها مالك بن نويرةرضي‌الله‌عنه

« خالد الجزائر ـ ٢٧ سنة ـ التاسعة أساسي »

خواجه نصير الدين الطوسي :

س : هل كان نصير الدين الطوسيقدس‌سره إسماعيلياً ؟ وما هو سبب تواجده أكثر من ٢٠ سنة في قلاع الإسماعيلية ؟

وهل ألّف كتباً على المذهب الإسماعيلي قبل أن يعتنق مذهب الاثني عشرية ؟ وكيف كانت وفاته ؟ وهل قتل نفسه والعياذ بالله كما يزعم البعض ؟

ج : إنّ خواجه نصير الدين الطوسيقدس‌سره هو من أعظم علماء الشيعة الإمامية على التحقيق ، ولا يصغى إلى ما يتقوّله البعض حول فساد مذهبه في بادئ الأمر

٣٧٧

وأمّا الجواب على الشبهات التي أُثيرت حوله ، فكما يلي :

أوّلاً : أنّ بدء إقامة الخواجة عند الإسماعيليين ، يتزامن مع الهجوم الأوّل للمغول على عهد جنكيز ، ففراراً من وطأة الغزاة لجأوا ـ كما غيره ممّن استطاعوا الفرار والنجاة ـ إلى قلاع الإسماعيلية التي صمدت في وجه جنكيز ، فتمكّن الطوسي من الاستمرار في دراساته العلمية هناك ، خصوصاً أنّ أمراء الإسماعيلية قد أظهروا الودّ والمحبّة في الأوائل ، وإن اختلفوا معه أخيراً

نعم ، هناك رأي لبعض المؤرّخين ـ كصاحب كتاب درّة الأخبار ـ بأنّ الطوسي ذهب إلى الإسماعيليين مرغماً ، وأقام عندهم مكرهاً ، إذ هدّدوه بالالتحاق بهم ، ويؤيّد مورّخ آخر ـ وهو سرجان ملكم ـ هذا الفكرة في تاريخه ، وإن كان يختلف معه في كيفية الإرغام

وفي المقابل ، ينفي آخرون قصّة إرغامه أو سجنه ، بل وادّعى بعضهم أنّ الطوسي كان محلّ ثقة واعتماد عند الإسماعيليين

وعلى كلّ ، فإنّ الذي يظهر من بعض كتبهقدس‌سره هو صحّة مضايقته ، أو فرض الإقامة الجبرية عليه ، ففي تتمّة كتاب شرح الإشارات يلوّح ـ وإن لم يصرّح ـ بتلك الضغوط ، وتراكم الهموم والغموم الواردة عليه

وعلى الجملة ، فاغلب الظنّ أنّ الإسماعيليين وإن رحّبوا بالطوسي بدواً ، ولكن عندما ثبت عندهم ـ بمرور الزمن ـ عدم رضوخه لعقيدتهم ، استعملوا معه أساليب أُخرى للتأثير عليه ؛ وهذا هو الوجه الصحيح في كيفية تعامل الإسماعيليين مع الطوسي من البدو إلى الختم

فالطوسي كان يستعمل حالة التقية معهم ، لدفع شرّهم وأذاهم ، وهذا الأسلوب كان ينفع أحياناً ، وقد لا ينفع في بعض الأحيان ، عندما يصل الأمر إلى حد أُسس العقيدة ، فكان يظهر عدم موافقته لبعض آرائهم ، فينتهي الأمر إلى الشدّة والضيق

ومهما يكون الأمر ، فإنّ الطوسي لم يتأثّر بأية سلبية إسماعيلية في عقيدته ،

٣٧٨

كيف وهو رأس المتكلّمين والفلاسفة في عصره ، فكيف ينخدع بأدلّة واهية ، وأُسس غير متينة ؟

وهذه كتبه بين أيدينا ، كلّها في دعم الدين والمذهب ، وليست فيها أية إشارة إلى صحّة المذهب الإسماعيلي

نعم ، قد ينسب إليه بعض الرسائل والكرّاسات التي يفوح منها ما يؤيّد الفكر الباطني والإسماعيلي ، ولكن لا يمكن التأكّد من هذه النسبة ، بل ويظهر من بعض هذه الرسالات أنّ النسبة مفتعلة ، لعدم مجانستها مع باقي مؤلّفاته من حيث الأسلوب ، وكيفية الكتابة

ثمّ حتّى وإن ثبت نسبة بعضها إليه ، يجب تفسيرها من باب التقية ، فإنّه كان ملزماً بها مدّة إقامته عند الإسماعيليين

وأمّا دعوى اعتناقه المذهب الاثني عشري بعد الإسماعيلية فهي باطلة من الأساس ، فلا يوجد لإثباتها دليل قطعي مقنع ، مضافاً إلى استبعادها عقلاً ، إذ إنّ الذي حدث في الأمر هو مجيء هولاكو ، وإبادة الحكم الإسماعيلي بيده ، وهذا بحدّ نفسه لا يكون حافزاً على التشيّع بعدما نعرف أنّ المغول كانوا وثنيين لا يفرّقون بين المذاهب

وأمّا في داخل قلاع الإسماعيلية ، فليس هناك ما يكون باعثاً للمنهج الصحيح ـ الاثني عشرية ـ بعدما نعلم شدّة عصبية أُولئك لمذهبهم ، ممّا لا يبقى مجالاً لتبليغ أو دراسة بقية المذاهب

فالصحيح ـ كما قلنا ـ هو أنّ الطوسي كان يعتنق المذهب الإمامي الاثني عشري من البدء ، ولكن لخطورة الموقف كان يتّقي أحياناً لدى الحكّام اتقاءً لشرّهم ، وصيانةً للعلم والعقيدة

وأمّا أسطورة انتحاره ، فهي أيضاً من المجعولات والموضوعات التي لا ينبغي الوقوف عندها ، فإنّهقدس‌سره كان من أساطين العلم والتقوى ، ولا يتصوّر في حقّه بعض المكروهات ، فكيف بقتل نفسه الذي هو من أعظم المحرّمات ؟!

٣٧٩

« حسين ـ السعودية ـ ٢٨ سنة ـ بكالوريوس هندسة الحاسب الآلي »

الكافي لم يعرض على الإمام :

س : من المعلوم أنّ الشيخ الكليني مؤلّف الكافي ، قد جمع أحاديث الكافي في عصر النوّاب الأربعة ، الذين كانوا يلتقون بالإمام المهديعليه‌السلام ، ويلقون عليه الأسئلة ، ويأخذون منه الإجابات ، ويدفعون له الأخماس ، الخ

ومن المعلوم : أنّ الغيبة الصغرى استمرت من عام ٢٦٠ هـ إلى ٣٢٩ هـ ، والشيخ الكليني جمع كتابه في هذه الفترة الزمنية ، حيث توفّي عام ٣٢٧ هـ ، أي في حياة النائب الرابع

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : لماذا لم يُعرض الكافي على الإمام المهدي لتصحيحه ؟ وهو الكتاب الذي ضعيفه يفوق صحيحه ، حيث إنّ تصحيح الحديث أكثر أهمّية من الإجابة على أسئلة الناس والتواقيع ، لأنّ الأحاديث هي المشرب والمنبع والمستقى للتشريع والتبليغ ، الذي جاء به الرسول والأئمّة ؟!

نرجو التفضّل بالإجابة على هذا السؤال ؟

ج : يلاحظ في الجواب عدّة أُمور :

أوّلاً : إنّ كتاب الكافي وإن كان يشتمل على بعض الأحاديث غير المعتبرة سنداً أو متناً ، ولكن ليس بالحجم الذي ذكرته

والمهمّ في هذا المجال ، عدم الالتزام بصحّة جميع ما ورد فيه ، كما هو رأي المحقّقين من علماء الشيعة

ثانياً : ليس من مهام الإمامعليه‌السلام تمحيص الكتب والمؤلّفات ، وتمييز الصحيح عن السقيم فيها ؛ وهذا الأمر متّفق عليه عند الشيعة ، حتّى بالنسبة للإمام الحاضر والظاهرعليه‌السلام ، فكيف بالإمام الغائب ؟!

بل وظيفة الإمامعليه‌السلام هي : ترسيم الخطوط العريضة لمسار الأُمّة في عصر الحضور ـ إن كانت الظروف مهيّأة ، ولم تكن هناك تقية وخوف ـ وأمّا في فترة الغيبة ، فالأمر يختلف قليلاً عن زمن الحضور

ثالثاً : حتّى في عصر الأئمّة السابقينعليهم‌السلام لم يكن من ديدن الشيعة ورواتها

٣٨٠