موسوعة الأسئلة العقائديّة الجزء ٤

موسوعة الأسئلة العقائديّة13%

موسوعة الأسئلة العقائديّة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
ISBN: 978-600-5213-04-1
الصفحات: 585

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 585 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265684 / تحميل: 7500
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الأسئلة العقائديّة

موسوعة الأسئلة العقائديّة الجزء ٤

مؤلف:
ISBN: ٩٧٨-٦٠٠-٥٢١٣-٠٤-١
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والتصديق هما قسما العلم، وكلاهما يعرَّفان بحصول الصورة لدى العقل، والفَرق بينهما أن التصور لا يوجب الإذعان والحكم، بينما التصديق يوجب حصول الإذعان والحكم؛ ولذا فالحكم خارج عن التصديق وليس هو جزء القضية، وإنما هو فعل تقوم به النفس، فبعد تصور الموضوع والمحمول والنسبة، تصل إلى الحكم، وهو الدمج بين الموضوع والمحمول، وهذه وظيفة العقل العملي الذي يقوم بالحكم والإذعان بما أدركه وتصوَّره العقل النظري، وهذا فعل غير الإدراك، تقوم به قوة غير القوة التي وظيفتها الإدراك.

ومن هنا نقول: إن العقل له أمر ونهي تكويني؛ أي بعث وزجر للقوى الأخرى الكُلِّية.

* بناء على هذا التفكيك بين القوتين تتَّضح لنا حقيقة العقل النظري؛ فهو يدرك نمطين من القضايا، أحدهما: لا يرتبط بالعمل كالقول بان الوجود المادي متناهي، والأخرى: ترتبط بالعمل، وهذا القسم من الإدراكات يتناوله العقل العملي بعدئذ ويؤثِّر على القوى المادُون لتنصاع إليها، فهو الرابط بين العقل النظري والقوى السفلية، وكمال العقل العملي هو الانصياع إلى إدراكات العقل النظري الصادقة.

* بالبيان السابق اتضحت النقاط التي كنا أثرناها في مقدِّمة الفصل الأوَّل؛ من أن معنى الإيمان والتسليم هو الإذعان، وهو وظيفة العقل العملي، وأنه ليس إدراكاً صرفا، فهناك ثلاث مراحل: فحص، و إدراك، وإذعان وإيمان.

* قال العرفاء: إن الإنسان في حالة صعود وهبوط دائمين. ومقصودهم من ذلك: أن الإنسان في حركاته اليومية وطريقة تفكيره ينتقل في درجات وجودية مختلفة أدناها هي المتصلة بعالم المادة وأعلاها هي المجرَّدة تجرُّداً تامَّا، فيبدأ من الدرجات الحسية، وهي المجردة عن المادة - دون أحكام المادة - إلى الخيال، وهي مجردة عن المادة - لا عن المقدار - ولا ترتبط بالجزئي الحقيقي كالحسي، إلى الوهم،

٦١

وهو إدراك المعاني الخالية عن المقدار كالحب والبغض، وهي مع تجرُّدها عن المادة وأحكامها إلاّ أنها متعلِّقة ومضافة إلى جزئي معين؛ إلى العقل ذي التجرُّد التامِّ عن المادة وأحكامه، وهذه كلها درجات وجودية في الإنسان.

والإنسان المهذَّب والكامل في صَلاته يتوجَّه بقلبه إلى ما فوق عالم العقل؛ حيث الصقع الربوبي والرؤية القلبية، وإلى هذا نمط من الإدراك، لكنَّه ليس بالقوة العاقلة، ويطلق عليه: الإدراك القلبي؛ وهو ذو درجات أربع: سر، وخفي، وأخفى، وهي ليست من سنخ الإدراكات الحصولية، بل إدراكات حضورية، وهذا استدراك لتوضيح درجات الإنسان الوجودية ومعرفة النفس البشرية، وسوف يأتي مزيد بيان للعلاقة والارتباط بين هذه المراتب.

* من النقاط السابقة يتَّضح لنا تعريفاً آخر للعقل العملي؛ وذلك لأننا قلنا: إن مهمته الأساسية هي الإذعان والحكم، وهذا قد يكون بقضايا ترتبط بالعمل، وحينئذٍ يترتَّب على الحكم والإذعان بها تأثُّر القوى السفلية، وقد يكون بالحكم والإذعان بقضايا لا ترتبط بالعمل كحدوث العالم وعدم تناهيه.

٦٢

التنبيه الأوَّل:

الحسن والقبح العقليَّان

هذه المسألة من أمهات مسائل علم الفلسفة وعلم الكلام والتي جرى البحث عنها منذ القدم في بداية عهد الفلسفة الإسلامية وقبلها الفلسفات الهندية الفهلوية واليونانية. وقد ذهب الأشاعرة إلى كونهما اعتباريين بجعل العقلاء، وأيَّدهم في ذلك بعض الإمامية وذهب كثير منهم إلى القول بعقليَّـتهما وتكوينيَّـتهما. ويبتني على هذه المسألة ثمرات عدَّة؛ إذ أن أغلب البراهين تعود إلى حسن العدل وقبح الظلم، فإذا كان الحسن والقبح اعتباريين، فإن الاستدلالات سوف تكون خطابية لا برهانية. وتظهر خطورة المسألة أكثر حيث يذهب كثير من المتأخرين إلى اعتبارها من المشهورات التي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء، وينتج عن ذلك اختلال البنية التحتية للشريعة؛ وذلك لأن المتكلمين يقولون: إن الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية؛ أي أن العقل لو علم بمِلاكات الأحكام الشرعية، لحكم بها، فهي موضوعات لطف في الكمال يحكم بها العقل لو اطلع عليها. فإذا كانت البنية التحتية للشريعة هي الأحكام العقلية، وهي مسألة الحسن والقبح، وهي مسألة اعتبارية بيد المعتبر وتتَّبع نظره، فينتج من ذلك تغيير الأحكام تبَعاً لتغيير الأفكار، وهو ما يُعرف حديثا بنظرية: تغيُّر المعرفة الدينية أو بسط وقبض الشريعة، فلا

٦٣

تتَّصف الشريعة حينئذ بالثبات، ولكن بحمد للَّه ومنّه هذا الإشكال وغيره مدفوع حتّى على القول باعتبارية الحسن والقبح كما سوف يأتي بيانه.

من الناحية التاريخية المسألة مرَّت بمراحل متعدِّدة:

1 - إن الفلاسفة القدمى قبل الإسلام، سواء في الهندية أم البهلوية أم الحرانية أم اليونانية، كلُّهم قائلون بعقلية المسألة، وممَّن أشار إلى عقليَّـتهما من المسلمين الفارابي في كتابه المنطقيات.

2 - إن ابن سينا الذي قام بمهمة ترجمة كتب القدماء عدل عن هذا الرأي ولم يبيِّن عدوله ولم يشر إليه، وهكذا أثَّر في مَن أتى مِن بعده؛ حيث تعاملوا مع كتبه على أنها ترجمة أمينة لكتب القوم. وقد تأثَّر هو في ذلك بما ذكره أبو الحسن الأشعري في التفكيك بين معاني الحسن والقبح.

وابن سينا تتضارب كلماته، فهو في منطق الشفاء والإشارات يمثِّل للمشهورات بالحسن والقبح؛ وهي الآراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء، وفي مقام أخر في النمط الثالث من الإشارات يقول: (إن أحكام العقل العملي تستعين بالنظري وقضاياه، إما أوَّليَّات أو مشهورات)، وكذلك عبارات أخرى كما في إلهيات الشفاء في مسألة استجابة الدعاء يذكر فيها: أن قضايا الحسن والقبح قضايا حقَّة يمكن إقامة البرهان عليها.

3 - بعض المتأخرين كالمحقق اللاّهيجي في كتابة (گوهر مراد)، والسبزواري في (شرح الأسماء الحسنى)، ذهب إلى أنها تكوينية ولا ينافي كونها مشهورة من جهة أخرى.

4 - المحقَّق الأصفهاني ومَن بعده ذهب إلى أنها اعتبارية مطلقاً ولا يمكن إقامة البرهان عليها، وهذا هو المذهب السائد إلى الآن.

٦٤

من خلال هذا السبر التاريخي نلاحظ كيف تحوَّلت هذه القضية من عقلية تكوينية إلى اعتبارية جعْلية.

أمَّا الأسباب التي دعت ابن سينا إلى القول بالاعتبارية:

1 - المغالطة التي ذكرها أبو الحسن الأشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح وجعل بعض المعاني تكوينية، أمّا معنى المدح والذم، فليس كذلك؛ وذلك لأنه لو كان بديهيا لأذعن به الجميع، فمن ثَمّ أدرجه في المشهورات. ولم يكن هو أول من ذكر هذه المغالطة، بل أن السوفسطائيين اليونانيين معاصرو سقراط قالوا بهذه المقالة وردهم سقراط في مؤلَّفاته.

2 - تعريفه للعقل العملي؛ حيث إنه قد عرَّفه بتعريف هو عين العقل النظري والاختلاف بينهما في المُدرَك، وأن العقل، مطلقاً، شأنه الإدراك، وليس من شأنه التأثير والانفعال، فكيف يمكن تصوّر أنَّ العقل له تدخُّل في أعمال الأفعال النفسانية! بل العمليات ليست إلاّ تأديبات وعادات، وهذا المبنى على خلاف مبنى الفلاسفة المتقدِّمين كالفاربي وتقسيمهم الحكمة إلى نظرية وعملية.

3 - غضَّ ابن سينا النظر عن أحد قسمي البرهان الذين ذكرهما أرسطو، وهو البرهان العياني أو الشهودي، ويمتاز هذا البرهان بأنه يقام على إثبات الجزئيات الحقيقية، واكتفى بالقسم الأول المعروف في باب البرهان، وهو مختص بالكليَّات؛ لذا يشترط فيه الأبدية وعدم التغيير.

ولا بأس بذكر نبذة عن هذا البرهان:

هناك قوة في الإنسان تسمَّى: قوَّة الفطنة، وهذه قوة تُرَوِّي أعمال الإنسان وتُراعي صدور الإرادة على طبق الحكمة، فهي قوة تكون محيطة بأحوال الأمور الواقعية الجزئية فتوجب انطباق الكليات على الجزئيات والوصول إلى الكمال المنشود.

٦٥

توضيح ذلك:

أن إدراك القضايا، حتّى العملية، لا يكفي للوصول إلى الكمال، وإنما هذا هو كمال لقوة خاصة وهي العقل النظري، وكمال العقل العملي والقوى السفلى يكون بالانصياع إلى القوة العملية، ولكن هذا وحده لا يكفي، بل يجب أن تكون هناك آلة وأداة تميِّز حال الجزئيات الحقيقية، لا سيما في الأمور الاجتماعية. وعدم إدراك الواقع الجزئي على ما هو عليه يؤثِّر في عدم الوصول للكمال المنشود؛ لأن تنزُّل القضايا الكلية إلى الجزئية لا يتمُّ إلاّ بأداة قادرة على استكشاف حال الجزئي على ما هو عليه وتطبيق الكلي عليه، فيكون تسلسل الادراكات بالنحو التالي:

* - مرحلة إدراك الكمال في الأعمال والبرهان عليها، وهذا يقوم به العقل النظري.

* - ثُم مرحلة الإذعان في العقل العملي والتأثير على القوى السفلى.

* - ثُم مرحلة تشخيص الأمور الجزئية بالدقة وتطبيق تلك الكليات عليها.

وشبيه هذا التسديد عند التنزُّل من الأعلى إلى الأسفل قوله تعالى: ( بِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ ) فهو إشارة إلى السداد والعصمة في مراحل التنزيل؛ حيث كونه حقَّاً لوحده لا يكفي، بل يجب أن يكون السداد في النزول، وفي النفس الإنسانية الإدراك والإذعان وحده غير كافٍ، بل يجب أن يحصل التسديد في التنفيذ على الأمور الخارجية الجزئية، وهذا لا يكون إلاّ بقوة الفطنة، وهي قوة فوق القوى المادون (الغضبية والعمّالة والشهوية)، فهي تستخدم هذه القوى للوصول إلى الجزئي الحقيقي المندرج تحت الأجناس العالية، فتصدر بعد ذلك أوامرها في عالم النفس لتولِّد الشوق والإرادة وصدور الفعل بعد ذلك.

وقوة الفطنة هي التي تقوم بالبرهان العياني الذي يحتاجه الإنسان في تطبيق الكليات على الجزئيات، والكمال في الواقعة الجزئية مبتنٍ على هذا البرهان.

فتلخص الفارق بين البرهان العياني والبرهان النظري:

٦٦

1 - إن البرهان النظري هو مختص بالكليات، والعياني للجزئيات.

2 - إن النظري يتوسَّط العقل النظري والعملي، أمّا العياني، فيتوسَّط العقل النظري والعملي والفطنة.

أمَّا كيف أدَّت الغفلة عن هذا القسم من البرهان إلى إنكار الحسن والقبح العقلي، فبيانه:

إنه لو أذعنَّا بلزوم كون الأعمال برهانية، فلا بدَّ من القول بارتكاز الجزئيات على أنها قضايا برهانية، والذي يمكنه البرهنة على أن الجزيئات حسنة وحكيمة إمّا الحسن والقبح وإمّا التشريع؛ أي أنّ إدراك حسن وكمال الأفعال الجزئية يكون بأحد هذين، والأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية.

وبتعبير أخر: أن البرهان العياني يبرهن على أن العمل الجزئي على وفق الحكمة والكمال، ولا يمكن البرهنة على كل واقعة جزئية إلاّ بتوسط استناد البرهان إلى قضايا يقينية، لا قضايا مشهورة لا أساس لها إلاّ الاعتبار، فحينئذ يحصل الالتفات إلى أن قضايا العقل العملي والحسن والقبح تكوينية لا مشهورة.

ـ وحينئذٍ نقول: إن التوحيد النظري وحده - من دون تنزُّله إلى توحيد عملي - هو توحيد أجوف، ولا يحصل هذا التنزُّل من التوحيد النظري إلى التوحيد في الطاعة إلاّ بالبرهان العياني وقوة الفطنة.

ومن هنا أن التوحيد والاعتقاد بالنبوة من دون الولاية لا يُقبل: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) وسيأتي بسط الكلام فيه.

فهذه الأمور الثلاثة هي التي سبَّبت الخلط الحاصل لدى ابن سينا، وعليه ابتنى اشتباه المتأخرين.

بعد اتضاح هذا الخلط التاريخي في مسألة القبح والحسن، نعرض للأدلة التي أُقيمت على اعتباريَّتهما ومناقشتها، ثُم نعرض إلى الأدلة التي ذكرها صدر

٦٧

المتألهين.

أدلَّة اعتبارية الحسن والقبح:

1 - اختلاف العقلاء في تحسين بعض الأمور وتقبيحها باختلاف الأزمنة والأمكنة، فهذا يعني عدم وجود واقع تكويني ثابت؛ بحيث يبقى الشي‏ء حسناً دائماً أو قبيحاً دائما.

2 - نفس وقوع التشاجر بين العلماء حول اعتباريتهما أو عقليَّتهما.

3 - يذكرون في إثبات النفس: أن الإنسان لو خلق من دون أعضاء أصلا، فإنه سوف يدرك ذاته، وهذا يدل على مغايرة الذات للبدن، وهكذا فيما نحن فيه، فلو خُلق الإنسان وحيداً في هذا العالم ولم يؤدَّب على العادات الحسنة ولم يلاقِ أيَّ إنسان آخر، فإنه سوف لن يحكم بحسن العدل وقبح الظلم، فهذا يدل على أنهما ليسا تكوينين، بل هما أمران جعليَّان.

4 - إن العقلاء إنما يحكمون بهذا الحكم من أجل مصلحة اجتماعهم ونظامهم، فلو انعدم الاجتماع والنظام، لَمَا حكم العقلاء بذلك وبعبارة أخرى: أنّ هذه الأحكام للوصول لإغراض أخرى بواسطة هذا الاعتبار.

5 - ما ذكره المحقِّق الأصفهاني: أن الفعل المقتضي للمدح والذم على أحد نحوين، إمّا بنحو اقتضاء السبب لمسبَّبه والمقتضي لمقتضاه، وإمّا بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية.

أما السببية والمسبَّبية، فهي تكوينية، لكنَّها ليست ناشئة عن النزعة العقلية وقوى الإنسان العقلية؛ بل هي ناشئة بدواع حيوانية كالانتقام والتشفِّي والغيظ. أما الغاية وذي الغاية، فإنها إذا ثبتت، فهي تعني وتدل على الاعتبارية؛ لأن الغاية لهيئة الاجتماع الاعتبارية، والمدح والذم،موجب لِمَا فيه صلاح العامة، فهو اعتباري محض.

٦٨

6 - ما ذكره ابن سينا والأصفهاني: أن الحسن والقبح لو كانا عقليين تكوينيين، لَمَا خرجا عن إحدى البديهيات الست وهما ليسا بواحدة منها، فيبطل كونها من البديهيَّات.

7 - إن المدح والذم يعدُّه العقلاء من الإنشائيات، والإنشاء من سنخ الاعتباريات.

8 - ما ذكره الشهيد الصدر: أن تعريف العدل هو إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، والظلم هو منع الحق، والحق أمر اعتباري قانوني، فكذلك العدل والظلم. ومن هذا القبيل ما ذكره العلامة الطباطبائي من عروض الحسن والقبح على الأمور الاعتبارية كالتوقير والاحترام.

و هذه الأدلة كلها مردودة. و قبل أن نستعرضها نتعرض لِمَا ذكره الأشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح، و هو كما ذكرنا أحد الأسباب التي أدَّت إلى مغالطة ابن سينا.

* إننا يجب أن نلاحظ الحد الماهوي للمدح و الذم؛ فالمدح هو القضية المتكفِّلة لحمل كمال معين على موضوع معين، والذم بخلافه. وعليه يُعلم أنه يجب أن يكون الممدوح آتٍ بكمالٍ، فيكون المدح هو التوصيف بالكمال، والذم هو التوصيف بالنقص، ولا يمكن أن يُمدح بغير كمال أو يذم بغير نقص؛ فيجب أن يكون هناك واقع يطابقه المدح والذم.

وبتعبير أخر: إن وظيفة المدح هو الحكاية الحقيقية عن الكمال، أي المحمول الذهني الحاكي عن الكمال الحقيقي الخارجي، والذم كذلك، فالارتباط بينهما هو الارتباط بين الحاكي والمحكي عنهما، وهما متَّحدان هويةً ومختلفان وجودا، فالكمال الحقيقي وجود خارجي، والمدح وجود ذهني. وحكاية وجود عن وجود أمر متسالم عليه، وأكمل صورة هو حكاية

٦٩

الموجودات عن وجود الخالق؛ إذ أنها آيات عظمته وقدرته، وكلَّما كان الوجود أكمل، فحكايته عن الوجود الإلهي أعظم وأتم. وقد قال عليه‌السلام : (ما للَّه آية أكبر منّي) باعتبار أن الكمالات التي وصل إليها عليه‌السلام ( بغير وجوده البدني) حاكية عن وجود الحق أكثر من حكاية السماوات والأرضين. فالوجود الخارجي يكون حاكياً عن وجود خارجي آخر أكمل وأتم من الأول. فالحكاية ليست مقتصرة على الوجود الذهني، بل إن الأفعال القبيحة الصادرة من الفاعل البشري المختار حاكية عن الهيئات الرديئة في النفس.

* ثُم إنه لا مضايقة في أن يخلق الإنسان وجودات اعتبارية للأمور الخارجية العينية؛ وذلك لغرض الاحتياج إلى هذا الاعتبار من أجل الاجتماع والتفاهم، وهذا الوجود الاعتباري لا يلغي الوجود التكويني الخارجي العيني، ومثاله الواضح: الوجود اللفظي والوجود الكتبي، فهما وجوادن اعتباريان دعت إليهما الحاجة، وهذان الوجودان الاعتباريان يكونان حاكيين عن الوجود العيني الخارجي. وقد تدعو الحاجة إلى اعتبار وجودات أخرى حاكية عن الوجود الغيبي.

وهكذا نستطيع ملاحظة الهجاء الوارد في القرآن، فهو وإن كان إنشائياً، لكنَّه حاكٍ عن أمور تكوينية وواقع خارجي، وإنما أظهره القرآن بإنشاء الهجاء؛ لإعلام الآخرين بما حصل في الأقوام الآخرين.

* ثُم إن الشجار في الأمر البديهي لا يؤدِّي إلى عدم البداهة؛ نوضح ذلك من خلال علم المنطق: إنه قد تعتري الإنسان أسباب تؤدِّي إلى إنكار البديهة كالمغالطة والشبهة في قبال البديهة، وهذا الإنكار لا يؤدِّي إلى إنكار بديهية القضية.

وقد يكون الإنكار في بعض الأحيان نتيجة حالة مرضية تصيب القوة العاقلة؛ حيث لا ينصاع العقل العملي لمدرَكات العقل النظري، فيصاب بحالة التشكيك الدائم كما وقع للرازي. فهذا كلُّه لا يؤدِّي إلى عدم بداهة القضية.

٧٠

هذا كلُّه جواب إجمالي عن أدلة اعتبارية الحسن والقبح، أمَّا الجواب التفصيلي:

1 - إن اختلاف العقلاء في التحسين والتقبيح حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة إما أن يكون ناشئاً من اختلاف التشخيص؛ أي عدم إصابة الكمال الواقعي والنقص الواقعي، وذلك لاختلاف الافهام والعقول، وإما أن يكون ناشئاً من اختلاف الظروف البيئية المختلفة كالاختلاف بين الأماكن الباردة والحارة، فإنه في الأولى يقبح لبس الملابس الخفيفة بخلاف الثانية.

2 - أمّا وقوع التشاجر والخلاف بين العلماء، فيُعلم جوابه مما مر.

3 - أمّا ما ذكروه من أن الإنسان لو خُلق وحيداً أو لم يؤدب، لَمَا حَكم بحسن أو قبح، فإن هذا كالمصادرة على المطلوب، بل إن العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم ولو لم يكن هناك اجتماع أو لم يؤدب، فإن الظلم - كما سوف نبيِّن - هو ممانعة شخص لكمال آخر، فلو عرِف العقل بذلك التعريف وفكّر به، فإنه سوف يحكم لا محالة بقبحه.

وابن سينا نفسه وقع في التناقض؛ حيث قال في إلهيات الشفاء في مسألة استحابة الدعاء والتضرُّع والتوسُّل: إن أكثر ما في أيدي الناس من الحسن والقبح حقٌّ يقام عليه البرهان.

4 - أمّا ما ذكره المحقق الأصفهاني؛ من أن سببية الفعل للمدح والذم تكون من مناشئ حيوانية، فهو غير تام؛ وذلك لأن للعقل ملائمات ومنافرات، وبالتالي يمكن أن يكون المنشأ هو داعٍ عقلي محض، ويكون العقل سبباً للمدح والذم، وهذا واضح في الكُمّلين من البشر، حيث نلاحظ أن انفعالاتهم ومدحهم وذمهم ليس ناشئاً من دواع حيوانية؛ وذلك لأن قواهم كلّها منصاعة تماماً للقوى العقلية، فتكون كل تصرفاتهم منبعثة عن العقل، فعندما يذمُّون ظالماً - مثلاً - لا يكون الذم بداعي

٧١

الغريزة الحيوانية. ويمكن أن يكون تعبير القرآن عن موسى: ( وَلَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسى الغَضَبُ ) إشارة إلى

ذلك؛ إذ أن النطق والسكوت من خصائص الإنسان، بخلاف الحركة والسكون العامة لمطلق الحيوان، فقد استخدم تعبير السكوت للدلالة على أن غضبه لم يكن ناشئاً من القوى الحيوانية، بل من القوى العاقلة؛ وسرُّه هو ما ذكرناه.

وهذا التحليل هو الذي يفسِّر لنا كيف أن الإنسان الكامل يكون رضاه رضا اللَّه وغضبه غضب اللَّه؛ لأن قواه كلها منصاعة لقواه العقلية التي هي معصومة في ما تتلقَّاه من مدرَكات عن العوالم العلْوية من مشيئة اللَّه.

ومن الجهة الأخرى؛ أي عندما نُخبَر بأن رضا اللَّه في رضا فاطمة (إن اللَّه يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها) فإن هذا يعني عصمتها؛ لأن هذا يعني سلامة النفس والانقياد إلى القوة العاقلة التي هي في اختيار مشيئة اللَّه، والتعبير المزبور إنما يُطلق ويصدق عندما يكون العبد تمام مظهر الطاعة والتبعية لربِّه.

5 - أمّا إشكال الشهيد الصدر، فجوابه بمخالفته لتعريف الظلم والعدل، فإن التعريف الصحيح للعدل هو: وصول كل موجود إلى كماله المطلوب من دون إعاقة وممانعة موجود آخر. والظلم هو: ممانعة موجود من وصول موجود آخر لكماله. فالعدالة الاجتماعية - مثلاً - هي: وصول كل أفراد المجتمع في حسن نظام المجتمع إلى كمالاته الممكنة من دون إعاقة الأفراد الآخرين، أما عندما تصل طبقة لكمالها على حساب طبقة أخرى، فإنه يكون من الظلم الاجتماعي. والتشريع إنما يكون عادلاً؛ لأنه يكون كاشفاً عن الكمالات المخبوءة في الأفعال والتي بها يصل الإنسان لكمالاته.

فالعدل كمال والظلم نقص، فيكون توصيف العدل والظلم بالحسن والقبح تكوينياً لا اعتباريا.

٧٢

أما الاحترام والتعظيم، فنفس الاحترام والتعظيم ليس بشي‏ء، بل المهم هو الداعي للاحترام والداعي للتعظيم؛ لِمَا فيه من ترويض النفس، وهو في الواقع تقديس واحترام للكمال المخبوء في ذلك الشخص، فالتقديس ليس للبدن، بل للصفات العالية، ومن هنا نقول: إن التقديس إذا كان للحقائق والكمالات، فهو دعوة نحوهما وسير حثيث اتجاههما.

وبهذا يختلف عن تقديس الأباطيل والخرافات، فهذه قدسية باطلة. وبتعبير آخر، يمكن القول: إن القدسية والتقديس هو خضوع قوى الإنسان السفلى إلى قواه العقلية العملية، فإذا كانت تلك القوى العملية مصابة بحالة مرضية وتنصاع للأباطيل، فتكون قدسية مذمومة. أمّا لو كانت القوة العملية منصاعة للكمالات العالية والتي بها تكبح جماح القوى المادون، فإنها قدسية محمودة.

6 - أمّا ما ذكر من أن المدح والذم من الإنشائيات، فقد ذكرنا أن الإنشاء لا يصدر إلاّ من داعي، وهذا الداعي أمر تكويني؛ فالهجاء هو إظهار للنقص التكويني، والمدح إبراز للكمال الخارجي الحقيقي، والبلاغيُّون قد أذعنوا بأن أقسام الإنشاء هي عناوين لماهيَّات الدواعي.

فتبيَّن من كل ما سبق: أن الحسن والقبح أمران تكوينيان واقعيان، وليسا اعتباريين كما ذهب إليه جلّ المتأخرين.

أدلَّة واقعية الحسن والقبح:

ونلفت أخيراً إلى براهين أقامها صدر المتألهين تثبت تكوينية الحسن والقبح؛ ذكرها بعد أن كان قد أنكر واقعيتهما عندما تعرض لهما ابتداءً، وهذا يلفت إلى الخلط والتردد الحاصل لدى مَن أتى بعد ابن سينا، بسبب الاضطراب الحاصل في كلماته.

والبراهين التي ذكرها للدلالة على واقعية الحسن والقبح ثلاثة:

٧٣

1 - العناية الإلهية:

أي أن للحق تعالى عناية بخلقه. والقاعدة الفلسفية المثبَتة هنا هي: أن علمه بالنظام الأتم والأكمل ورضاه به لهذا النظام. توضيح ذلك:

أن الباري يكون على أكمل وأشرف وأعلى ما يمكن أن يكون في مقام ذاته، فالصادر من الحق يكون كذلك؛ حيث أن آيات ومخلوقات اللَّه تدل على صفة الكمال في الباري، والنظام الذاتي يكون علة للنظام الخلقي، وإفاضة الكمال على ما دون هو من العناية.

وهكذا يستفيد الملا صدرا أنّ علم الباري هو منشأ إفاضة الكمالات للمخلوقات، وصفة العناية هذه هي التي تفيض ما يعرف بالنظام الأحسن والأكمل، حيث يكون كل عالم من العوالم بنحو يؤدي إلى تحقيق الكمالات الوجودية بنحو أكثر وأرفع، فعناية الحق توصل تلك الموجودات الفاعلة بالإرادة إلى أكمل ما يمكن أن تكون عليه، ومن هنا يستدل على ضرورة التشريع والتقنين الإلهي؛ حيث إنه يرشد الفاعل الإرادي إلى طريق هذا الكمال.

ومؤدّى هذه القاعدة (العناية) يمكن أن يستبدل بقاعدة اللطف المعروفة إلاّ أن الأولى الحاكم بها هو العقل النظري، والثانية الحاكم بها هو العقل العملي.

ونعود فنقول: إن الأفعال يجب أن تؤدي إلى الكمال المطلوب، وهذا يقتضي أن يكون لهذه الأفعال في الواقع كمال مُعين (العلم تابع للمعلوم الذاتي) وهو النظام الكمالي الذاتي، فالعلم (فعله الصادر) يتحدَّد طبقاً للكمال الذي في المعلوم، وهذا يعني أن في الأفعال الإرادية، في حد نفسها، كمال ونقص، وأن الخير والشر نابع من واقع الفعل الإرادي، وأن الحكم التشريعي الإلهي على طبق ما في الأفعال من خير وشر، فهو كاشف عمّا هي عليه في الواقع، لا كما يقوله الأشعري: إن واقع الفعل تابع لنمط التشريع، ولا هوية له في نفسه. أو لك أن تقول ما قدَّمناه؛ من أن حقيقة المدح: الإخبار عن الكمال. والذم: الإخبار عن النقص، فللأفعال الإرادية في نفسها مدح وذم؛ أي حسن وقبح.

٧٤

2 - تجسُّم الإعمال:

وهي قاعدة مهمة نقَّحها بوضوح فائق فلاسفة الإمامية مسترشدين بالروايات الواردة في ذلك؛ ومؤداها: أن تكرار الفعل يولِّد ملكات إما حسنة نورانية أو ملكات رديئة، وكلّما ازدادت، ترسَّخت في النفس أكثر حتّى تصبح جوهرية. من هنا قالوا: إن الإنسان ليس هو النوع الأخير، بل يتلبَّس بعد الصورة الإنسانية بصورة وفعل إما ملكي أو شيطاني أو بهيمي أو سبعي. وهكذا - وفي كل نوع - هناك شعب أخرى. بيان ذلك:

إن الإنسان في سعيه نحو الكمال إنما يبتغي أن يحصل على ما له ثبات، والكمال العرضي يكون في معرض الزوال، فيعود حاله إلى ما كان عليه قبل تحصيله. فهو يسعى لأن يحصل على كمال ذاتي يكون بنحو جوهري لا أن يكون معرَّضاً للزوال، وبهذا يتكامل ويصعد في سُلّم الكمالات ويثبت عند كل درجة، ويحصل هذا التغيير الجوهري عن طريق الأفعال المؤدية للكمال؛ حيث يُحدث الفعل - عند تكراره والمواظبة عليه - حالات في النفس تنتقل إلى هيئات، ثُم تتنقل إلى ملكات، فتشتد حتّى تصل وتصبح فصولاً جوهرية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن البدن يكون بشكل يتناسب مع القوة التي يتملَّكها الإنسان وغيره، فمثلاً في الذئب الهيئة الجسمانية لها تناسب مع القوة التي يمتلكها، ودلَّت الروايات على أن الأجسام الأخروية هيئتها تابعة للفصول الجوهرية التي يتكامل بها الإنسان أو يتناقص.

أمّا تطبيق القاعدة على ما نحن فيه، فهو أن موارد الحكم بالحسن هي نفسها في موارد الفضائل والكمالات، حيث يتبين أنها توجب تجسُّم تلك الأعمال بصورة نورانية، وموارد الحكم بالقبح هي نفسها موارد النقص التي تتجسَّم بصور رديئة ظلمانية، فيظهر من ذلك أن الحكم بالحسن والقبح ليس اعتبارياً، بل أمراً عقلياً له من مناشئ تكوينية.

٧٥

3 - قاعدة الغاية:

وهذه قاعدة تُبحث في أبحاث العلل، وهي تعني وجود ارتباط بين صدور الفعل وغايته؛ بمعنى أن تصور النتيجة المترتبة على الفعل القصدي تكون دافعاً لرغبته للقيام بذلك الفعل، فهناك ارتباط بين الوجود العلمي للغاية وفاعلية الفاعل، وهناك ارتباط بين الوجود الخارجي للفعل والتوصل للغاية، فالوجود العلمي هو في سلسلة العلل المتقدِّمة على الفعل والثانية متأخرة عن وجود الفعل. وقد وردت هذه القاعدة في بيانات عدّة ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) فهناك تقدير مقدّم على الخلق وهداية لهم بعد الخلق، فالمخلوقات في سير تكاملي، وهو الغاية التي من اجلها خُلقت. وهذا البرهان بهذا النحو يختلف عن برهان النظم وإن اقتربا من بعضهما. وإنكار العلة الغائية يساوق إنكار العلة الفاعلية.

أما تطبيق ذلك على الحسن والقبح، فبيانه: أن الفاعل الإرادي لا يفعل فعلاً إلاّ لأجل غاية، وهذه الغاية هي تحقيق الكمال، فالكمال يتحقق بهذا الفعل، وهذه هي الموارد التي يحكم بها العقل بالحسن، فالحسن راجع لكمالٍ يتحقق بواسطة هذا الفعل، فهو أمر واقعي، والكمال المقصود هو: كمال للقوة العاقلة وما فوقها من درجات النفس، وتكون موجِبة للقرب الإلهي. أما في موارد القبح، فإن الكمال الذي تحققه بالأفعال هي كمالات للقوى الشهوانية والغضبية، فدعوى الأشعري: أن لا حسن ولا قبح واقعي في الأفعال، يساوق إنكار العلة الغائية، وإنكار العلة الغائية يؤدي إلى إنكار العلة الفاعلية.

فتلخَّص من مجمل البحث أن الحسن والقبح العقليين أمران تكوينيان واقعيان بالأدلة المثبِتة، سواء على مبنى المتقدِّمين كابن سينا أو على مبنى صدر المتألهين.

٧٦

التنبيه الثاني:

الخطأ في الفكر البشري

ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها هو في كيفية نشأة الخطأ في الفكر البشري، وقد أثار هذا التساؤل كثير من الفلاسفة والمناطقة وأجابوا بإجابات متعدِّدة:

منها: أن علوم المنطق تتكفَّل عصمة الفكر عن الخطأ، ويبقى على عاتق الإنسان مراعاته عند

التطبيق، فالخطأ الناشئ هو من سوء التطبيق.

ومنها: أن الخطأ ينشأ بسبب خطأ نفس مواد الأقيسة؛ حيث أن بعضها نظري، وكلَّما ابتعدت القضايا عن البداهة زادت نسبة الخطأ.

ومنها: أن الخطأ هو نتيجة عدم توازن في أفعال النفس؛ فقد ذكرنا سابقاً أن الإذعان والجزم الحاصل لدى النفس هو غير النتيجة، وأن وظيفة العقل النظري هو الإدراك، فالخلل يحصل عندما يحصل جزم وإذعان غير متناسب مع درجة الإدراك الحاصلة لدى العقل النظري.

وقد سعى الفلاسفة والمفكرون لإزالة هذا الخطأ، أو على الأقل تقليل نسبة الخطأ، ومن تلك المحاولات ما دعى إليه السيد الشهيد الصدر(رحمه الله) باعتماد منهج الاستقراء وتراكم الاحتمالات في الفكر البشري بدلاً من القياس الأرسطي، والاستقراء طريقة رياضية عملية، حيث تتضاءل احتمالات الخلاف حتّى تصل إلى نسبة قليلة جداً بحيث تقوم النفس بإلغاء احتمال الخلاف، وتتعامل مع النتيجة

٧٧

معاملة اليقين الصحيح التام، وتكون النتيجة حينئذ يقينية برهانية.

ولنا على هذه النظرية تعليق لا يتَّصل بجوهرها، فهي متينة وتامة، لكن:

1 - إن ما توصل إليه السيد الشهيد بحساب الاحتمال وكيفية تضاؤله، ومن كون النتيجة الحاصلة من الاستقراء برهانية،خطأ؛ إذ إن النتيجة ليست برهانية، بل العمل بهذه النتيجة برهاني؛ بمعنى أنه أقام البرهان على تعين العمل بهذه النتيجة، كما يقوم البرهان في علم الأصول عبر دليل الانسداد على وجوب العمل بالظن. وبعبارة أخرى: النتيجة ليست يقينية وإن كان العمل بها لابدَّ منه بالدليل اليقيني.

2 - لقد ذكر السيد أن بإمكان استخدام هذه النظرية لإثبات الغيبيات وما وراء الطبيعة، وهذا غير تام؛ لأن هذه الطريقة تظل غير يقينية ونحن لا نحتاج إليـها في إثبـات الغيـب، إذ لدينـا كثير من البراهين - كبرهان

الصديقين - التي تورث اليقين.

3 - إن احتمال الخلاف يظل قائماً، وجزم النفس على خلافه - وهو قليل جدَّاً - لا ينفيه من أساسه، ولا يتحول إلى يقين.

٧٨

التنبيه الثالث:

الثابت والمتغيِّر

من المسائل المهمة التي تبتني على مسألة الحسن والقبح هي ثبات التشريع وتغيُّره، فبناء على اعتبارية الحسن والقبح وإنه لا واقع حقيقي وراء تطابق آراء العقلاء، فإن الحسن والقبح يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، وبالتالي لا يوجد ما هو ثابت في التشريع، بل هو متغيِّر. أمّا بناء على أنهما أمران واقعيَّان، فالنتيجة خلافها.

ـ وقد يصاغ هذا البحث بصياغة أخرى، وهي: أن ختم النبوة يعني أنْ لا حاجة إلى النبوة حتّى يوم

القيامة؛ وذلك لأنَّ العقول تكون قد تكاملت بواسطة تلك النبوة الخاتمة، ولا تحتاج إلى رعاية نبي ولا وصي، ولا هدايتهما.

ـ وقد تصاغ بنحو ثالث، كما ذكره العلاّمة الطباطبائي، وخلاصته: أن الإرادة تنبعث من جهات اعتبارية لا حقيقية، وحسب تغيُّر هذا الاعتبار تتغيَّر وجهة سير هذا الإنسان.

أمّا جواب هذه الصياغات:

فأوَّلاً: بما مرَّ من البراهين التي أثبتت تكوينية الحسن والقبح.

ثانياً: أن دعوى تكامل العقول تعني وقوف السير والبحث والفحص العلمي لدى البشرية؛ لاطلاعهم على الحقائق وإصابتهم لها، والحال أنَّا نجد من أنفسنا الإذعان بعدم توقُّف هذا السير ولن يتوقف هذا السعي الحثيث لدى الفطرة

٧٩

البشرية، وهذا يدل على أمرين:

الأول: وجود واقعية وحقيقة ثابتة تسعى البشرية للوصول إليها.

الثاني: عدم إمكان وصول البشرية إلى الإحاطة بتمام تلك الحقيقة الواقعية وإن كانت الإصابة النسبية مستمرة، وهذا وإن لم يزلزل الحقائق المتوصَّل إليها، إلاّ أنها لا تعني تمام الواقع.

وهذان الأمران يستلزمان دوام حاجة البشرية إلى التشريع السماوي والنبوة المحمدية؛ لأن ربَّ الواقعية هو المحيط تماماً بها. كما يثبت بذلك عدم إحاطة البشرية بكنه غايات التشريع السماوي والمصالح المخبوّة فيه.

ثالثاً: أمّا جواب ما يُدَّعى من انبعاث الإرادة دوماً من الاعتبار، وهو الذي ذهب إليه العلامة الطباطبائي، فهو يستدعي أن نُلقي نظرة على ما سطَّره يراعه الشريف في رسالة الاعتبار والتي تُعتبر حصيلة البحث الأصولي في ذلك الوقت.

تحليل مختصر لنظرية الاعتبار:

وملخَّص ما ذكره العلاّمة:

أ - إن الاعتبار يمثِّل جانباً من نشاطات العقل العملي ومدرَكاته، وشأناً من شؤونه.

ب - إن كل موجود يسعى نحو كماله؛ فالفاعل غير الإرادي يوجد له صراط معيَّن يسير فيه. أمَّا الموجود الإرادي، فإنه يسعى نحو كماله من خلال إرادته.

ج - إن الفاعل الإرادي في تحريك إرادته يسعى نحو تحقيق ما هو غير موجود. أمَّا ما هو موجود، فلا يسعى لتحصيله كما هو واضح.

د - إن الإرادة تنطلق من قضايا غير حقيقية؛ أي لا واقع خارجي فعلي لها، فلا محالة تكون القضايا اعتبارية وهي التي تولِّد الإرادة، ومن دونها لا يمكن للإرادة أن تنطلق.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

٨ ـ طليحة بن خويلد ، ارتدّ بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وادّعى النبوّة(١) ، وقتل هو وأخوه بعض الصحابة ، فكيف تترضى عليه؟!

٩ ـ عمرو بن العاص ، قد ورد بإسناد صحيح أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام شهد بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعنه ، وقد كان يسبّ علياًعليه‌السلام ، فكيف تترضى على من لعنه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

هذه غيض من فيض الصحابة ، الذين يطهر اللسان عن ذكرهم فضلاً عن الترضّي عليهم ، فبأيّ حقّ يقال باستحباب الترضّي على جميع الصحابة ، روايات أُموية أظهرت لنا عموم الصحابة بمظهر ملائكي!!

وماذا يفعل لحديث الحوض المتواتر والمروي في صحيح مسلم والبخاري ، والذي فيه ارتداد الصحابة ، ولا يبقى منهم بدون ردّة إلاّ مثل همل النعم ، أي القليل جدّاً؟!

وليس بعيد على الدين الأموي أن يترضّى حتّى على إبليس وحزبه ، ويخالف صريح القرآن ، كالغزّالي الذي يمنع من لعن يزيد ، بل وحتّى الكافر إذا لم يتيقّن من موته على الكفر ، ويقول : ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس(٢) !! أي لعن إبليس لعلّه فيه خطر ، لكن ترك لعنه لا خطر فيه!!

( منار أحمد ـ السعودية ـ ٢٦ سنة ـ طالب )

نكثوا البيعة :

س : ما هو الردّ على أهل السنّة؟ حيث يقولون : إنّ الله تعالى علم ما في قلوب المبايعين فأنزل السكينة عليهم وأثابهم.

____________

١ ـ السنن الكبرى للبيهقي ٨ / ١٧٥ ، فتح الباري ١٣ / ١٨٠ ، كنز العمّال ١٤ / ٥٥١ ، الثقات ٢ / ١٦٧ و ٣ / ٣٢١ ، تاريخ مدينة دمشق ٢٥ / ١٤٩.

٢ ـ إحياء علوم الدين ٣ / ١٨٦.

١٦١

قال تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) ، ومن ضمن الذين بايعوا الرسول أبو بكر وعمر ، فالخطاب إذاً يشملهم بأنّهم مؤمنين ، ونزول السكينة عليهم.

ج : إنّ الآية الكريمة قيّدت رضوان الله ونزول السكينة على المؤمنين فحسب ، فقالت :( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (١) .

ولو سلّمنا أنّ أبا بكر وعمر وعثمان كانوا من المؤمنين في تلك البيعة ، ولكن نقول : استمرارية بقاء رضوان الله تعالى على المبايع ، ونزول السكينة عليه ، مشروطة بأن لا ينكث البيعة ، ولا ينقض إيمانه ولا يرتدّ ، ويرجع عن الجادّة المحمّدية لقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) (٢) .

وعندنا نحن روايات بأنّ هؤلاء الثلاثة وآخرين من الصحابة ارتدوا بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الولاية والإمامة لعليعليه‌السلام ، ولم يعملوا بأوامر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ونواهيه ، وتراجعوا عن منهج الرسالة المحمّدية.

( حسن ـ السعودية ـ سنّي ـ ٢٧ سنة ـ طالب جامعة )

نبحث حولهم لضمان سلامة ديننا :

س : أشكرك أخي على ردّك عليّ ، ولكن ألا ترى أنّ الغوص في الصحابة والحكم عليهم ليس من شأننا نحن ، وحسابهم عند الله ، هو خالقهم وإليه يرجعون ، ولك منّي جزيل الشكر.

____________

١ ـ الفتح : ١٨.

٢ ـ الفتح : ١٠.

١٦٢

ج : نحن نتّفق معك تمام الاتفاق أنّ البحث في أمر لا يعني المسلم في شيء من أُمور دينه ودنياه هو مضيعة للوقت وهدر للطاقات ، ولكن المشكلة الأساسية في موضوع البحث عن واقع الصحابة ، وما كانوا عليه في حياة النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده يرتبط ارتباطاً مباشراً بالكثير من القضايا التي تهمّ عقيدة المسلم ، وتفاصيل فروع دينه ، الأمر الذي يدفع للبحث والتنقيب في الموضوع بكُلّ جدّية.

وأنت تعلم علم اليقين أنّ رواة السنّة وأحاديث النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي تمثّل العمود الفقري لديننا الحنيف ـ وهي المبيّنة للكتاب الكريم ـ هم من الصحابة ، والعقل والشرع يأمرنا أن لا نأخذ بكُلّ حديث يرويه أيّ كان من الناس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ من كان ثقة مأموناً على نقل الخبر الصحيح إلى أهله ، وإلاّ لو قبلنا نقل أيّ كان من الناس لحديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى ولو كان فاسقاً ، بدون فحص وتمحيص فقد هلكنا وأهلكنا ، قال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين ) (١) .

وقد ثبت في القرآن الكريم(٢) ، وأيضاً في النقل الصحيح عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما في أحاديث الحوض وغيرها ـ أنّ هناك انحرافاً واضحاً وبيّناً قد حصل عند الصحابة عن الدين القويم ، الأمر الذي يدعونا للبحث والتنقيب في الموضوع بشكل موضوعي نستطيع فيه معرفة الغثّ من السمين في هذا الموضوع الحسّاس والمهمّ ، كي نضمن سلامة ديننا والتوقّف عن أخذ الدين عن كُلّ من هبّ ودبّ من الناس ، والذين لا يمكن الاطمئنان إليهم في نقل الشريعة المقدّسة إلى المسلمين ، وقد ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الحثّ والدعوة إلى التدقيق والتحقيق بما لا مزيد عليه.

____________

١ ـ الحجرات : ٦.

٢ ـ أُنظر : سورة التوبة : ١٠١ ـ ١٠٧.

١٦٣

فالبحث في موضوع الصحابة وشؤونهم لا يخدمنا إلاّ بما له علاقة بنقلهم لأحاديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتبيان حقيقة المؤمن من الفاسق ، أو المنافق منهم لأجل ذلك فقط ، إذ لا يستقيم جعل المنافقين والمؤمنين من الصحابة في عرض واحد ، وقد أخبر الله سبحانه بآية محكمة :( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) (١) .

فالله سبحانه لا يريد في هذه الآية الحديث عن اليهود أو النصارى ، فأُولئك يُطلق عليهم الكفّار ، أو أهل الكتاب ، أو الحديث عن المشركين ، إنّما أراد الحديث عن المسلمين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، وهو معنى النفاق ، وهؤلاء كانوا من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

( عيسى ـ الإمارات ـ ٢٦ سنة ـ طالب ثانوية )

كمال بعضهم نسبي لا مطلق :

س : قد يصادف الإنسان الموالي الكثير من الشبهات والردود حول مذهبه الحقّ ، ليس فقط من إخواننا أهل السنّة ، وإنّما من جميع المذاهب الإسلامية الأُخرى , فعند الخوض في الحديث عن الصحابة ، فأهل السنّة لا يرضون النقد والجرح على أيّ منهم ، بل في ميزان العدل والتجريح عندهم إن ثبتت رواية تقدح صحابياً أو آخر فيجب عليهم أن يخرجوها بأحسن تأويل , أي تفسيرها إلى ما يليق صحبتهم إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم انتقاصهم ونقدهم ، وذلك لآيات وروايات قد اتخذوها دليلاً على ذلك.

وبحمد الله علماء الإمامية قد أفحموهم بأدلّة ليس بعدها أدلّة ، إن كان من القرآن أو السنّة النبوية ، وحتّى الدليل العقلي الذي لا يقبل حجّتهم في هذا

____________

١ ـ التوبة : ١٠٠.

١٦٤

الموضوع ، ولكن تبقى مسألة وأتمنّى منكم بأنّ توضّحوها لنا , ألا وهي أنّ أهل السنّة يقولون : إنّكم تأخذون بعدالة عمّار بن ياسر ، وسلمان وأبي ذر وغيرهم من الصحابة من أمثالهم ، أليس ذلك اعترافاً منكم أنتم الشيعة على أنّهم وصلوا إلى درجة الكمال , حيث نحن نعرف بأنّ الكمال لله عزّ وجلّ؟ فما هو ردّكم على تلك الشبهة , ولكم فائق الاحترام والتقدير.

ج : تقول الشيعة ـ وذلك حسبما تمليه عليهم تعاليم الشريعة السمحاء المتمثّلة بالكتاب الكريم والسنّة الشريفة الصحيحة ـ بعدالة جمع من الصحابة ثبت أنّهم أطاعوا الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم ينقلبوا على الأعقاب كما حصل للآخرين ، فهم كما ذكرت الصحابي الجليل عمّار بن ياسر الذي وصفه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : «عمّار ملئ إيماناً إلى مشاشه »(١) ، وسلمان الفارسي الذي قال عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «سلمان منّا أهل البيت »(٢) ، وأبا ذر الذي جاء في حقّه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما اظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من رجل أصدق لهجة أصدق من أبي ذر »(٣) .

ولا يعني القول بعدالة هؤلاء الصحابة وأمثالهم أنّهم وصلوا إلى درجة الكمال المطلق ، فهذه المنزلة هي لله سبحانه وتعالى فقط ، ولا يصل إليها أحد من عباده أبداً من الأنبياء أو الملائكة فما دونهم ، وإنّما هناك كمال نسبي بين العباد أنفسهم ، أي أنّ الأنبياء أكمل من بقية العباد ، وبعض الصالحين أكمل من غيرهم ، وهكذا.

أمّا الكمال المطلق فهو من خصوصيات الخالق سبحان جلَّ شأنه ، وتكامل هؤلاء الصحابة إنّما هو تكامل نسبي بلحاظ كمال طاعتهم لله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________

١ ـ الجامع الصغير ٢ / ١٧٨ ، فيض القدير ٤ / ٤٧٣ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٤٥.

٢ ـ المستدرك ٣ / ٥٩٨ ، مجمع الزوائد ٦ / ١٣٠ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ / ٦١٦ ، المعجم الكبير ٦ / ٢١٣ ، الجامع الصغير ٢ / ٥٢.

٣ ـ مسند أحمد ٢ / ١٦٣ ، سنن ابن ماجة ١ / ٥٥ ، المستدرك ٣ / ٣٤٢ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ / ٥٢٦ ، الآحاد والمثاني ٢ / ٢٣١ ، صحيح ابن حبّان ١٦ / ٨٤ ، المعجم الأوسط ٥ / ٢٢٣.

١٦٥

( لقمان ـ السعودية ـ )

في بيعة الرضوان :

س : سلامي الكبير إلى من يخدم النبيّ الأكرم وأهل بيته في هذه الشبكة الكبيرة الجبّارة بمواضيعها.

أخواني لقد أرسلت لكم سؤال حول بيعة الرضوان أو آية الرضوان( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) وكان منهم أبو بكر وعلي وعثمان و... ، وأنا بصراحة محتاج إلى الإجابة ، ولكم منّي ألف تحية وشكر.

ج : آية الرضوان أو ما يعرف ببيعة الرضوان المشار إليها في قوله تعالى :( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (١) فإنّ سبب البيعة هو وصول الخبر بمقتل عثمان بن عفّان من قبل المشركين ، بعد أن أرسله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوثاً عنه إلى قريش ، فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى البيعة على قتال المشركين ، وقد نزلت هذه الآية في عام الحديبية لحصول الحادثة في ذلك الوقت.

وفي الآية المباركة قيود ، إذ هي لم تتضمّن إطلاق الرضا عنهم ، بل تضمّنت بيان منشأ الرضا وسببه ـ وهو بيعتهم تحت الشجرة ـ والظاهر أنّ ذلك لا ينافي غضبه عليهم إذا عصوه ، فلا يمكن أن نفهم منها التأبيد في الرضا ، كما يريد البعض.

وأيضاً يوجد شرط آخر في الآية ، بأنّ البيعة لا تكفي في النجاة إلاّ مع الوفاء ، إذ قال تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا

____________

١ ـ الفتح : ١٨.

١٦٦

عَظِيمًا ) (١) قال المفسّرون : إنّ رضوان الله وسكينته مشروطة بالوفاء وعدم نكث العهد(٢) .

وقد ذكر أهل الحديث والمؤرّخون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بايعهم على أن يقاتلوا المشركين ولا يفرّوا(٣) .

والظاهر أنّ المراد أن لا يفرّوا في جميع حروبهم ، لا في خصوص غزوة الحديبية ، ولذا اشترط الله تعالى عليهم الوفاء في الآية المتقدّمة ، مع أنّ غزوة الحديبية لم يقع فيها حرب ، وسورة الفتح نزلت بعد صلح الحديبية ، كما يناسبه أيضاً تذكير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم بهذه البيعة في واقعة حنين ، حيث صاح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس : « يا أهل سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، أنا رسول الله ونبيّه ، فتولّوا مدبرين »(٤) .

وعلى ذلك يكون فرار جماعة منهم في غزوة خيبر وفرار أكثرهم في غزوة حنين نكثاً لتلك البيعة ، رافعاً لرضا الله سبحانه عنهم ، بل الملاحظ أنّ الشكّ والريب دخل قلوب بعض الصحابة ، فخالفوا أوامر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد معاهدة الصلح في الحديبية مباشرة ، فلم يستجيبوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما أمرهم بالحلق والنحر إلاّ بعد التكرار ، وقيامه بنفسه بالحلق والنحر(٥) .

ويمكنك أن تراجع جملة من المصادر التي ذكرت في هذا الجواب ، لتطلع على أسماء الفارّين والهاربين من غزوتي خيبر وحنين ، وكذلك الشاكّين في يوم الحديبية ، والله الموفّق للصواب.

____________

١ ـ الفتح : ١٠.

٢ ـ أُنظر : جامع البيان ٢٦ / ١٠٠ ، الجامع لأحكام القرآن ١٦ / ٢٦٨ ، تفسير القرآن العظيم ٤ / ١٩٩.

٣ ـ أُنظر : صحيح مسلم ٦ / ٢٥ ، صحيح ابن حبّان ١٠ / ٤١٥ ، الجامع الكبير ٣ / ٧٥ ، السنن الكبرى للبيهقي ٨ / ١٤٦ ، السنن الكبرى للنسائي ٤ / ٤٢٣.

٤ ـ المصنّف لابن أبي شيبة ٨ / ٥٥٢.

٥ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ / ٥٥.

١٦٧
١٦٨

الصلاة :

( محمّد يوسف ـ السعودية ـ )

كيفية صلاة المعصومين :

س : أُودّ أن أعرف عن كيفية الصلاة التي كان يعمل بها في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن بعده الأئمّة الأطهار؟ جزاكم الله خيراً.

ج : إنّ أفضل حديث يمكن الاعتماد عليه في معرفة كيفية صلاة المعصومعليه‌السلام هو حديث حمّاد بن عيسى الصحيح السند :

قال : قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام يوماً : «يا حمّاد تحسن أن تصلّي »؟ قال : فقلت : يا سيّدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة ، فقالعليه‌السلام : «لا عليك يا حمّاد ، قم فصلّ » ، قال : فقمت بين يديه متوجّهاً إلى القبلة ، فاستفتحت الصلاة فركعت وسجدت ، فقالعليه‌السلام : «يا حمّاد ، لا تحسن أن تصلّي ، ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستّون سنة ، أو سبعون سنة ، فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة »؟!

قال حمّاد : فأصابني في نفسي الذلّ فقلت : جعلت فداك فعلّمني الصلاة ، فقام أبو عبد اللهعليه‌السلام مستقبل القبلة منتصباً ، فأرسل يديه جميعاً على فخذيه ، قد ضمّ أصابعه ، وقرّب بين قدميه حتّى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات ، واستقبل بأصابع رجليه جميعاً لم يحرّفهما عن القبلة ، وقال بخشوع : « الله أكبر » ، ثمّ قرأ الحمد بترتيل ، وقل هو الله أحد ، ثمّ صبر هنيئة بقدر ما يتنفّس وهو قائم ، ثمّ رفع يديه حيال وجهه وقال : «الله أكبر » وهو قائم ، ثمّ ركع وملأ كفّيه من ركبتيه منفرجات ، وردّ ركبتيه إلى خلفه حتّى استوى ظهره ، حتّى لو صبّ عليه

١٦٩

قطرة من ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره ، ومدّ عنقه وغمّض عينيه ، ثمّ سبّح ثلاثاً بترتيل وقال : «سبحان ربّي العظيم وبحمده ».

ثمّ استوى قائماً ، فلمّا استمكن من القيام قال : «سمع الله لمن حمده » ، ثمّ كبّر وهو قائم ، ورفع يديه حيال وجهه وسجد ، وبسط كفّيه مضمومي الأصابع بين يدي ركبتيه حيال وجهه فقال : «سبحان ربّي الأعلى وبحمده » ثلاث مرّات ، ولم يضع شيئاً من بدنه على شيء منه ، وسجد على ثمانية أعظم : الكفّين ، والركبتين ، وأنامل إبهامي الرجلين ، والجبهة ، والأنف وقال : «سبعة منها فرض يسجد عليها وهي التي ذكرها الله في كتابه ».

ثمّ رفع رأسه من السجود ، فلمّا استوى جالساً قال : «الله أكبر » ، ثمّ قعد على فخذه الأيسر ، وقد وضع ظاهر قدمه الأيمن على بطن قدمه الأيسر وقال : « استغفر الله ربّي وأتوب إليه» ، ثمّ كبّر وهو جالس وسجد السجدة الثانية وقال كما قال في الأُولى ، ولم يضع شيئاً من بدنه على شيء منه في ركوع ولا سجود وكان مجنّحاً ، ولم يضع ذراعيه على الأرض فصلّى ركعتين على هذا ، ويداه مضمومتا الأصابع وهو جالس في التشهّد ، فلمّا فرغ من التشهّد سلّم فقال : « يا حمّاد ، هكذا صلِّ »(١) .

( ـ السعودية ـ )

كيفية السلام في صلاة الشيعة :

س : أنا على مذهب الإسماعيلية ، ولكن قدّر لي الله أن أطّلع على أُمور كثيرة عن مذهب الاثني عشرية وأُعجبت به ، وبدأت أشعر أنّه هو المذهب الصحيح ، ولكنّي لم أحسم أمري بعد ، فهناك بعض التساؤلات التي لم أجد لها إجابة ، إذا كنتم على استعداد على حلّها لي أكون لكم من الشاكرين.

السلام في الصلاة عند جميع المذاهب واحد وغير مختلف فيه حتّى في المذاهب الشيعية الأُخرى ، فلو افترضنا جدلاً أنّ هذه هي الطريقة التي كان عليها السنّة

____________

١ ـ الكافي ٣ / ٣١١ ، من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٠٠.

١٧٠

المطهّرة وآل البيت ، لوجدناها في المذاهب الشيعية الأُخرى ، لأنّنا نعرف أنّ الاختلافات في الصلاة حصلت بعد موت الرسول وفي عهد عمر ، عندما زاد « آمين » ، وحذف « حيّ على خير العمل » ، وهذا ما يعترف به جميع المذاهب الشيعية ، ولكن موضوع التسليم في آخر الصلاة هذا تتساوى فيه المذاهب الشيعية ـ كالزيدية والإسماعيلية ـ مع السنّة ، ويشذّ عنها مذهب الاثنا عشرية ، ممّا يعطي الإيحاء بأنّ هذه الزيادة أتت من عند الاثني عشرية ، وليست في سنّة آل البيت.

أرجو الإجابة حيث أنّ هذا السؤال يحيّرني.

ج : نسأل الله تعالى لك التوفيق في التعرّف على مذهب أهل البيتعليهم‌السلام أكثر فأكثر ، والتعمّق فيه ، ومعرفة مبانيه وأدلّته ، ليكون اختيارك لمذهب أهل البيتعليهم‌السلام عن دليل وقناعة كافية.

أعلم أنّ التسليم عندنا يتم بأحد الصيغتين : الأُولى : « السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » ، والثانية : « السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ».

فالمصلّي إذا قال الصيغة الأُولى استحبّت له الصيغة الثانية ، أمّا لو قال الثانية قبل الأُولى لم تستحبّ له الأُولى ، وعليه فبأيّ الصيغتين ختم صلاته فإنّ صلاته تختم.

وأمّا صيغة «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته » فهي ليست من صيغ السلام ـ كما نصّ الفقهاء ـ وإنّما هي مستحبّة ، والدليل هو ورود نصوص عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

وهذا ليس بالأمر الغريب ، إذ في المقابل المذاهب الأربعة ربّما استدلّوا على بعض الأحكام التي لا يقول بها الشيعة بقول بعض الصحابة ، فمثلاً ما ينقل عن عمر بن الخطّاب أنّه قال : في العسل زكاة(١) ، فلماذا يستغرب هؤلاء إذا اعتمدنا على أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ؟

____________

١ ـ المصنّف لابن أبي شيبة ٣ / ٣٣ ، الآحاد والمثاني ٥ / ١٤٧.

١٧١

إذاً ، مستند التسليم عندنا هو ما ورد عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وليس المستند هو المزاج والهوى ـ أي ورد من طرقنا ، وفي أدلّة صحيحة عن أهل البيتعليهم‌السلام : أنّ الحكم الكذائي كذا وكذا ، وأهل البيتعليهم‌السلام لم يأخذوه دون مستند ، ومستندهم هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لذا هم أمناء على سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا بالإضافة إلى أنّنا مأمورون باتباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عند اختلاف الأُمّة ، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله دلّنا إلى من نرجع إليهم عند الاختلاف ، لأنّ بالرجوع إليهم نجاة ، وبتركهم هلاك ، وهم أهل البيتعليهم‌السلام : «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها هوى »(١) .

ثم إنّ انفرادنا عن بقية المذاهب في الحكم الكذائي ليس بالأمر الغريب ، لأنّ كثير من أهل السنّة خالفوا فقهاء المسلمين ، من قبيل ما يقوله الشافعي في جواز نكاح البنت من الزنا ، فإنّه انفرد فيه وخالفه بقية الفقهاء.

نسأله تعالى أن يعرّفنا الحقّ حقّاً ويوفّقنا لاتباعه.

( ـ السعودية ـ )

التخيير بين الحمد والتسبيحات الأربعة :

س : أودّ أن أشكركم على الجهود التي تبذلونها لوجه الله تعالى في الردّ على بعض الشبهات ، التي نقابلها من بعض الجماعة ، الذين عندهم حبّ استطلاع عن مذهب آل البيت عليهم‌السلام .

____________

١ ـ المستدرك على الصحيحين ٢ / ٣٤٣ و ٣ / ١٥١ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٦٨ ، المعجم الأوسط ٥ / ٣٥٥ و ٦ / ٨٥ ، المعجم الكبير ٣ / ٤٥ و ١٢ / ٢٧ ، مسند الشهاب ٢ / ٢٧٣ ، نظم درر السمطين : ٢٣٥ ، الجامع الصغير ١ / ٣٧٣ و ٥٣٣ ، كنز العمّال ١٢ / ٩٤ ، فيض القدير ٢ / ٦٥٨ و ٥ / ٦٦٠ ، الدرّ المنثور ٣ / ٣٣٤ ، علل الدارقطني ٦ / ٢٣٦ ، تهذيب الكمال ٢٨ / ٤١١ ، سبل الهدى والرشاد ١٠ / ٤٩٠ ، ينابيع المودّة ١ / ٩٣ و ٢ / ٩٠ و ١٠١ و ٤٧٢ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ / ٢٩٨ ، لسان العرب ٣ / ٢٠.

١٧٢

لماذا أكثر المذاهب يقومون بقراءة الفاتحة في جميع الركعات ، بينما المذهب الجعفري يكتفي بقراءتها في الأُولى والثانية فقط ، ويقول التسبيحات في بقية الركعات؟ جزاكم الله عنّا خيراً.

ج : قد وردت روايات عن أهل البيتعليهم‌السلام تدلّ على التخيير ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر في الركعتين الأخيرتين بين قراءة سورة الحمد وبين قراءة التسبيحات الأربعة ، دون الركعتين الأوّليتين فيجب فيهما قراءة الحمد ، وذلك لقوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب »(١) .

( موالي ـ الكويت ـ ١٩ سنة ـ طالب )

حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة :

س : لماذا لا تقام صلاة الجمعة إلاّ في حضور الإمام الغائب؟ أليس حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة؟

ج : إنّ صلاة الجمعة تقام في حضور الإمامعليه‌السلام أو في غيبته ، إلاّ أنّ حكمها في غيبة الإمام لا يكون واجباً تعيينياً بل هي واجب تخييري ، أي إنّ المكلّف مخيّر بين إقامة صلاة الجمعة عند توفّر شرائطها وبين الإتيان بصلاة الظهر فيما إذا لم يحضر صلاة الجمعة.

نعم ، عند حضور الإمامعليه‌السلام يكون حكم صلاة الجمعة واجباً تعيينياً ، أي يتعيّن على المكلّف الإتيان بها ، ولا يصحّ منه الإتيان بصلاة الظهر ، على أنّ الإمامية يقيمون صلاة الجمعة في بلدانهم ، ولعلّ ما تراه في إيران دليل على ذلك ، إذ إقامتها في الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها دليل على أنّ الإمامية يقيمون صلاة الجمعة حتّى عند عدم حضور الإمامعليه‌السلام ، ولا علاقة لذلك في زمن الحضور أو الغيبة.

____________

١ ـ الخلاف ١ / ٣٢٧ و ٣٤٢ ، المعتبر ٢ / ١٦٦ و ١٧٣ و ٣٤٩ و ٣٨٢.

١٧٣

( أمريكا ـ ٣١ سنة ـ ليسانس )

ما يقرأ في القنوت والركعتين الأخيرتين :

س : هل القنوت في الصلاة مستحبّ أم واجب؟ وهل يجب فيه قول مخصوص؟ وماذا يقرأ في الركعة الثالثة والرابعة؟

ج : إنّ القنوت مستحبّ في جميع الصلوات ـ فريضة كانت أو نافلة ـ والمستحبّ منه مرّة بعد القراءة قبل الركوع في الركعة الثانية ، إلاّ في العيدين والآيات والجمعة والوتر ففيها تفصيل.

ولا يشترط في القنوت قول مخصوص ، بل يكفي فيه ما يتيسّر من ذكر أو دعاء أو حمد أو ثناء ، والمستحبّ قراءة المأثور عن المعصومينعليهم‌السلام ، ودلّت على استحباب القنوت مجموعة روايات عن أهل البيتعليهم‌السلام .

وأمّا بالنسبة إلى ما يقرأ في الركعة الثالثة والرابعة ، فالمصلّي ـ مأموماً كان أو إماماً ـ يتخيّر في ثالثة المغرب وأخيرتي الرباعيات بين قراءة الفاتحة والتسبيحات الأربعة وهي : « سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلاّ الله ، والله أكبر ».

( وليد محمّد ـ مصر ـ ٢٧ سنة )

التكبيرات الثلاث بعدها :

س : بالنسبة للتكبيرات الثلاث في نهاية كُلّ صلاة هل لكم أن توافونا بالروايات الصحيحة الواردة في هذا الخصوص؟

ج : وردت روايات كثيرة تدلّ على التكبير بعد الصلاة في مصنّفات الفريقين ، نذكر لك بعضها على سبيل المثال لا الحصر :

١ ـ عن المفضّل بن عمر قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : لأيّ علّة يكبّر المصلّي بعد التسليم ثلاثاً يرفع بها يديه؟ فقال : « لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا فتح مكّة صلّى بأصحابه الظهر عند الحجر الأسود ، فلمّا سلّم رفع يديه وكبّر ثلاثاً وقال : لا

١٧٤

إله إلاّ الله وحده وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وأعزّ جنده ، وغلب الأحزاب وحده ، فله الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كُلّ شيء قدير ».

ثمّ أقبل على أصحابه فقال : « لا تدعوا هذا التكبير وهذا القول في دبر كُلّ صلاة مكتوبة ، فإنّ من فعل ذلك بعد التسليم وقال هذا كان قد أدّى ما يجب عليه من شكر الله تعالى على تقوية الإسلام وجنده »(١) .

٢ ـ عن ابن عباس قال : ما كنّا نعرف انقضاء صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ بالتكبير(٢) .

٣ ـ عن أبي معبد مولى ابن عباس أخبره : أنّ رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه قال : قال ابن عباس : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته(٣) .

( أحمد الخاجة ـ البحرين ـ ١٥ سنة ـ طالب ثانوية )

طهارة المولد شرط في إمامة الجماعة :

س : من الشروط الواجب توفّرها في إمام الجماعة أن يكون طاهر المولد ، فهل يتحمّل المرء عقوبة جريمة لم يقم بارتكابها؟

ج : ليس ما ذكرتموه من باب العقوبة ، إذ أنّ تعريف العقوبة في الإسلام ، هو ما توعدّ عليه الباري تعالى النار ـ مع فرض عدم التوبة ـ ومورد السؤال ليس من هذا القبيل قطعاً.

____________

١ ـ علل الشرائع ٢ / ٣٦٠.

٢ ـ صحيح مسلم ٢ / ٩١ ، مسند الحميدي ١ / ٢٢٥ ، مسند أبي يعلى ٤ / ٢٨٠ ، المعجم الكبير ١١ / ٣٣٥ ، تفسير القرآن العظيم ١ / ٢٢٣.

٣ ـ مسند أحمد ١ / ٣٦٧ ، صحيح البخاري ١ / ٢٠٤ ، صحيح مسلم ٢ / ٩٢ ، سنن أبي داود ١ / ٢٢٦.

١٧٥

بل إنّ طهارة المولد صفة وميزة متوخّاة في إمامة الجماعة ، لا أنّ عدم طهارة المولد ذنب يؤاخذ عليه ، أو جريمة يؤنّب عليها ، وحال هذه الخصوصية حال بقية مواصفات الإمام ؛ وعليه فتوزيع الوظائف والأدوار وتعيين الحدود والشرائط في نفسه لا يدلّ على نقصٍ أو مزية ، إلاّ فيما نصّ عليه الشرع.

( ـ ـ )

كيفية المواظبة على صلاة الصبح :

س : لا أُريد أن أضيّع صلاة الفجر فما السبيل لذلك؟

ج : إنّ التوفيق لطاعة الله تعالى تحتاج إلى أن يصل العبد إلى منزلة خاصّة ، وما يرتكبه العبد من أُمور لا يرتضيها الله تعالى يوجب الحرمان من هذه المرتبة ، فلا يوفّقه حينئذ لطاعته بل يخذله ويكلّه إلى نفسه.

وقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : « إنّ الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل فإذا حرم صلاة الليل حرم بها الرزق »(١) ، فكم من خطايا وذنوب حرمت العبد من توفيق الطاعة ، وكم من حسناتٍ زادته تقرّباً وتسديداً منه تعالى.

وأعلم ، إنّ الإنسان كلّما أراد القرب منه تعالى جعل نفسه متذلّلاً لسلطانه وجبروته ، فهو دائماً طوع إرادته ، فيتخضّع إليه بالإقرار بذنوبه وطلب مغفرته ، ويتقرّب له بالاستغفار ممّا ارتكبه ، وهذا ديدن أهل البيتعليهم‌السلام مع عدم ارتكابهم المعصية ، أو اقترافهم الذنوب ، فإنّهم يجعلون أنفسهم أذلاء لسلطانه ، فلا يخرجون عن ربقة عبوديته وذل طاعته ، فتراهم يستغفرون ويتأوّهون على ما لا يعد عندنا معصية أو ذنب ، بل تركهم الأُولى يجعلهم هكذا يرجون عفوه ، ويطمعون في رحمته.

____________

١ ـ علل الشرائع ٢ / ٣٦٢.

١٧٦

وأنت أيّها الأخ ونحن جميعاً في نير عبوديته ، ثمّ نرتكب من المعاصي ما لا يعفو عنها إلاّ الندم والرجوع إليه تعالى ، فإكثار الاستغفار للعفو عنّا يقرّبنا منزلة لديه ، ويفتح لنا آفاق الطاعة ، ويعيننا على عبادته ، فأكثر الاستغفار والتوسّل بأن يوفّقك لصلاة الفجر ، فإذا علم منك الصدق وخلوص النية أخذ بيديك ووفّقك إلى ما تحبّ.

ثمّ أبحث عن السبب المادّي لذلك ، فلعلّ السهر أكثر من المعتاد يجعلك غير قادرٍ على النهوض ، فتغيير برنامجك اليومي ، والنوم مبكّراً ، سيعينك في المرحلة الأُولى على النهوض إلى صلاة الفجر ، عندها ستقوى على ما تتعوّد عليه ، والله يعينك على طاعته ولزوم عبادته.

( علوي ـ البحرين ـ )

أهمّيتها عند المؤمن :

س : لو سمحتم عندي سؤال : ما أهمّية الصلاة عند المؤمن؟

ج : لا يخفى عليك أنّ الصلاة هجرة روحية ، يطوي الإنسان فيها فواصل البعد بينه وبين الله تعالى ، وممارسة تعبّدية يستهدف بها اكتشاف العلاقة بينه وبين بارئه تعالى.

ففي الصلاة يكون الإنسان المؤمن في موارد القرب ، والحبّ الإلهي العظيم ، وفي الصلاة يعلن عن تصاغره وعبوديّته لخالقه ، وفي الصلاة تتّسع أمام الإنسان المؤمن آفاق العظمة والقدرة الإلهية.

وفي الصلاة يتجسّد للإنسان فقره وضعفه وحاجته إلى غنى بارئه ، وتتابع افاضاته ورحمته ، وفي الصلاة تهبط الحجب بين العبد وربّه ، فتفيض اشراقات الحبّ والجمال الإلهي على النفس ، لتعيش أسعد لحظات الاستمتاع والرضى ، وهي في أرقى ما تكون من حالات الصحو الوجداني ، والاستعداد للتلقّي والقبول التعبّدي.

١٧٧

وفي الصلاة عودة للوعي ، واكتشاف لحقيقة الذات ، ومعرفة قدرها أمام خالقها العظيم ، وفي الصلاة محاولة صادقة للهجر والخلاص من الذنوب ، وفي الصلاة سعي للعودة بطهارة النفس ، وسلامتها إلى لحظة ميلادها الفطري ، بنقائه وطهارته ؛ لأنّ في الصلاة عزيمة جادّة لهجر الذنوب والمعاصي ، ومحاولة مخلصة للانفلات من قيود المادّة والشهوة.

فهي سعي للهجرة إلى الله تعالى ، والتسامي نحوه ، وهي محاولة للتعالي والانتقال إليه ، وهي عودة إلى الله بعد كُلّ فترة زمنية يمارس فيها الإنسان حياته ؛ فيتعامل مع نفسه أو مع الله ، والناس الذين يعيش معهم ، فيتهاون بأداء حقوق الله عليه حيناً ، أو يسيء إلى الناس فيسلك سلوكاً شاذّاً ومنحرفاً حيناً آخر ، فيكون بحاجة إلى التخلّص من هذه الآثار السلوكية السلبية ، والتوجّهات النفسية المنحرفة ، فيجد في الصلاة محطّة لتطهير النفس ، والتأمّل في خيرها وصلاحها ، ومنطلقاً لتغيير مساره وتوجّهه في الحياة.

فهو في وقفته الصادقة بين يدي الله تعالى يستغفره ويتضرّع إليه ، ويعلن براءته وندمه ، ورغبته في الاستقامة والطهارة ، فيجدّد بذلك عهده مع الله تعالى ، ويستشرف آفاق مسيرته الحياتية من أوضح مداخلها ، وأصفى أجوائها ، فتنمو بكثرة الممارسة والإقبال على الصلاة ملكات الخير ، وتتصاغر نوازع الشرّ ، وتتوارى عن الظهور مناشئ الإجرام ، فتقوى بذلك العزيمة ، وتشتدّ الإرادة على الإصلاح وارتياد سبل الخير ، وتنمو الرغبة في الطرح والخلاص من كُلّ سيئ في الحياة ، بممارسة انسحاب النفس الدائم ، وإخلاء آفاقها من عتمة الجرائم والآثام.

لذا كانت الصلاة نظاماً تعبّدياً لوقاية النفس من شذوذها ، وعلاجاً جذرياً يداوي أمراضها ، بتعهّد قواها وملكاتها ونوازعها بالتنشئة الصحيحة ، والتربية المستقيمة.

١٧٨

وصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يصف أهمّية الصلاة ، ودورها في تطهير النفس ، وتقويم السلوك البشري في الحياة بقوله : « لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كُلّ يوم منه خمس مرّات ، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء» ؟ قلنا : لا.

قال : « فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري ، كُلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب »(١) .

وقال رجل : يا رسول الله أوصني ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تدع الصلاة متعمّداً ، فإنّ من تركها متعمّداً فقد برئت منه ملّة الإسلام »(٢) .

وجاء عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما بين الكفر والإيمان إلاّ ترك الصلاة »(٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لكُلّ شيء وجه ، ووجهُ دينكم الصلاة ، فلا يُشِينَنَّ أحَدُكُم وجهَ دينه »(٤) .

وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليسَ منّي من استخفّ بصلاته ، لا يَردُ عليَّ الحوضَ لا والله »(٥) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس لوقتهن ، فإذا ضيّعهن تجرأ عليه فأدخله في العظائم »(٦) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : « ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم قال :( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) »(٧) .

____________

١ ـ تهذيب الأحكام ٢ / ٢٣٧ ، وسائل الشيعة ٤ / ١٢.

٢ ـ الكافي ٣ / ٤٨٨ ، وسائل الشيعة ٤ / ٤٢.

٣ ـ ثواب الأعمال وعقابها : ٢٣١ ، وسائل الشيعة ٤ / ٤٣ ، الصراط المستقيم : ٢٠٤.

٤ ـ الكافي ٣ / ٢٧٠ ، تهذيب الأحكام ٢ / ٢٣٨.

٥ ـ فقه الرضا : ١٠١ ، المقنعة : ٧٣ ، الكافي ٣ / ٢٦٩ ، من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٠٦.

٦ ـ عيون أخبار الرضا ١ / ٣١ ، تهذيب الأحكام ٢ / ٢٣٦.

٧ ـ مريم : ٣١ ، الكافي ٣ / ٢٦٤ ، من لا يحضره الفقيه ١ / ٢١٠.

١٧٩

وروي أيضاً عنهعليه‌السلام : « إذا قام المصلّي إلى الصلاة نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى أعنان الأرض ، وحفّت به الملائكة وناداه ملك : لو يعلم هذا المصلّي ما في الصلاة ما انفتل »(١) .

ولهذه الأهمّية العظمى للصلاة أصبحت فريضة عبادية في كُلّ رسالة إلهية بشّر بها الأنبياء ، لأنّها الصلة بين العبد وربّه ، ولأنّها معراج يتسامى الفرد بها إلى مستوى الاستقامة والصلاح.

ولذلك فإنّ القرآن الكريم عندما تحدّث عن الأنبياء ورسالتهم في الحياة قال :( وَجَعلناهُم أئمةً يَهدُونَ بأمرِنا وأوحينا إِليهمْ فِعْلَ الخيراتِ وإقامَ الصّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ وكانوا لنا عابِدين ) (٢) .

فالصلاة شعار وعلامة للفرد المؤمن وللأُمّة المؤمنة ، وهي حدّ فاصل بين المؤمن الحقّ وبين من لا ينتمي لأُمّة الإيمان ، لذا جاء قوله تعالى :( فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ) (٣) .

فهي شعار أهل الإيمان ، وصفة أُمّة التوحيد على تعاقب الأجيال ، وتتابع الرسالات والعصور.

لذلك تحدّث القرآن الكريم عن أُولئك المسلمين ، وعن شعارهم مع النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فأثنى عليهم ، وقرن صفتهم بصفة أسلافهم من أتباع الأنبياء ، وأصفياء الرسل ، فقال عزّ من قائل :( محمّد رسولُ اللهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بينهُم تَراهُم رُكَّعاً سُجَّداً يبتَغُونَ فضْلاً منَ اللهِ ورضْواناً سيماهُمْ في وُجوهِهم من أثَرِ السُّجودِ ذلكَ مَثَلُهُم في التَّوراةِ ومَثَلُهُمْ في الإنجيلِ كزَرْعٍ أخرَجَ شَطْأََهُ فآزرهُ فاستغلظَ فاستَوى على سُوقهِ يُعْجِبُ الزُّراعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ ) (٤) .

____________

١ ـ الكافي ٣ / ٢٦٥ ، وسائل الشيعة ٤ / ٣٢.

٢ ـ الأنبياء : ٧٣.

٣ ـ النساء : ١٠٣.

٤ ـ الفتح : ٢٩.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585