الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 389

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 389
المشاهدات: 66474
تحميل: 3699


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 389 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 66474 / تحميل: 3699
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ: كأنَّ بك وأنت على حوضي تذود عنه الناس، وانَّ عليه لأباريق مثل عدد نجوم السّماء وانّي وأنت والحسن والحسين وفاطمة وعقيل وجعفر في الجنّة اخواناً على سُرر متقابلين، أنت معي وشيعتك في الجنّة. ( مجمع الزوائد ٩: ١٧٣ ).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلّي: أنا أوّل اربعة يدخلون الجنّة: أنا وأنت والحسن والحسين وذرارينا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرارينا، وشيعتنا عن ايماننا وعن شمائلنا. ( مجمع الزوائد ٩: ١٧٤ ).

وصحّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة. متّفقٌ على صحّته.

وجاء عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحسن والحسين جدّهما في الجنّة، وابوهما في الجنّة، و امّهما في الجنّة، وعمُّهما في الجنّة، وعمَّتهما في الجنّة، وخالاتهما في الجنّة، وهما في الجنّة، ومن احبّهما في الجنّة، أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط.

وصحّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ جعفر بن أبي طالب في الجنّة له جناحان يطير بهما حيث شاء. مجمع الزوائد ٩ ص ٢٧٢.

وصحّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمرو بن ثابت الاصيرم: انّه لمن أهل الجنّة. المجمع ٩: ٣٦٣.

وروي عنه من قوله لعبد الله بن مسعود: ابشر بالجنّة. أخرجه الطبراني في - الأوسط والكبير.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا سابق العرب إلى الجنّة، وصهيب سابق الروم إلى الجنَّة، وبلال سابق الحبشة إلى الجنّة، وسلمان سابق الفرس إلى الجنّة. أخرجه الطبراني وحسّنه الهيثمي.

وبشّرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرو بن الجموح انَّه يمشي برجليه صحيحة في الجنّة وكانت رجله عرجاء. أخرجه أحمد ورجاله ثقات.

وبشّرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثابت بن قيس بانّه يعيش حميداً، ويقتل شهيداً، ويدخله الله الجنّة. المجمع ٩ ص ٣٢٢.

فما هذا المكاء والتصدية، والتصعيد والتصويب حول رواية العشرة المبشرة وجعلها عنوان كلّ كرامة لاولئك الرجال واختصاصها بالعناية والحاقها بأسماء العشرة عند ذكرهم، وقصر البشارة بالجنّة على ذلك الرحط فحسب، والصفح عمّا ثبت في غيرهم من -

١٢١

الذين آمنوا وكانوا يتَّقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم؟! فلماذا حصر التبشير بالعشرة؟ وعدّ القول به من الاعتقاد اللازم كما ذكره أحمد امام الحنابلة في كتاب له إلى مسدد بن مسرهد قال: وأن نشهد للعشرة انّهم في الجنّة ابو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرّحمن وابو عبيدة فمن شهد له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنّة شهدنا له بالجنّة، ولا تتأتَّى أن تقول: فلان في الجنّة وفلان في النار إلّا العشرة الذين شهد لهم النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنّة [جلاء العينين ١١٨] لماذا هذه كلّها؟ لعلّك تدري لِماذا، ونحن لا يفوتنا عرفان ذلك.

ولنا حقُّ النظر في الرِّواية من ناحيتي الاسناد والمتن.

أمّا الاسناد فانّه كما ترى ينتهي إلى عبد الرَّحمن بن عوف وسعيد بن زيد ولا يرويها غيرهما، وطريق عبد الرحمن ينحصر بعبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن عبد الرَّحمن بن عوف تارة وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اخرى، وهذا اسناد باطل لا يتمّ نظراً إلى وفاة حميد بن عبد الرحمن فإنَّه لم يكن صحابيّا وإنّما هو تابعيٌّ لم يدرك عبد الرَّحمن بن عوف لأنّه توفيّ سنة ١٠٥(١) عن ٧٣ عاماً فهو وليد سنة ٣٢ عام وفاة عبد الرَّحمن بن عوف أو بعده بسنة، ولذلك يرى ابن حجر رواية حميد عن عمر وعثمان منقطعة قطعاً(٢) وعثمان قد توفّي بعد عبد الرَّحمن بن عوف. فالإسناد هذا لا يصحّ.

فيبقى طريق الرواية قصراً على سعيد بن زيد الذي عدّ نفسه من العشرة المبشّرة، وقد رواها في الكوفة إيّام معاوية كما مرّ النصّ على ذلك في صدر الحديث، ولم تُسمع هي منه إلى ذلك الدور المفعم بالهنابث ولا رويت عنه قبل ذلك، فهلّا مسائلٌ هذا الصحابيّ عن سرّ إرجاء روايته هذه إلى عصر معاوية وعدم ذكره إيّاها في تلكم السنين المتطاولة عهد الخلفاء الراشدين وكانوا هم وبقيّة الصحابة في أشدّ الحاجة إلى مثل هذه الرواية لتدعيم الحجّة وحقن الدّماء وحفظ الحرمات في تلكم الأيّام الخالية المظلمة بالشقاق والخلاف، فكأنّها اوحيت إلى سعيد بن زيد فحسب يوم تسنّم معاوية عَرش الملك العضوض.

____________________

١ - كما اختاره احمد، والفلاس، والحربى، وابن أبى عاصم، وابن خياط، وابن سفيان، وابن معين.

٢ - تهذيب التهذيب ٣: ٤٦.

١٢٢

وفي ظنِّي الأكبر انّ سعيد بن زيد لمـّا كان لا يتحمّل من مناوئي عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام الوقيعة فيه والتحامل عليه، ويجابه بذلك مَن كان ولّاه معاوية على الكوفة، وكان قد تقاعس عن بيعة يزيد عندما استخلفه أبوه، وأجاب مروان في ذلك بكلمة قارصة(١) أخذته الخيفة على نفسه من بوادر معاوية فاتّخذ باختلاقه هذه الرواية ترساً يقيه عن الإتّهام بحبّ عليعليه‌السلام ، وكان المتّهم بتلك النزعة يوم ذاك يعاقب بألوان العذاب ويسجن وينكل به ويقتّل تقتيلا، فأرضي خليفة الوقت باتحاف الجنّة لمخالفي عليعليه‌السلام والمتقاعسين عن بيعته والخارجين عليه، وجعل رؤسائهم في صفّ واحد لا يشاركهم غيرهم كأنّ الجنَّة خلقت لهم فحسب، ولم يذكر معهم أحداً من موالي عليّ وشيعته وفيهم مَن فيهم من سادات أهل الجنّة كسلمان وأبي ذر وعمّار والمقداد، فنال بذلك رضى الخليفة وكان يُعطى لكلّ باطل مزيّف قناطير مقنطرة من الذهب والفضّة. ولولا الصارم المسلول في البين وكان هو الحاكم الفصل يوم ذاك لما كان يخفى على أيّ سعيد وشقي انّ متن الرواية يأبى عن قبولها، وانّ عليّاً قطّ لا يجتمع في الجنّة مع مَن خالفه وناوئه وآذاه والضدّان لا يجتمعان، وسيرة عليعليه‌السلام غير سيرة اولئك الرحط، وقد تنازل عن الخلافة يوم الشورى حذراً عن اتّباع سيرة الشيخين لمـّا اشترط عليه في البيعة وأنكره بملأ فمه، وبعدهما وقع ما وقع بينه وبين عثمان، وما ساءه قتله ولم يشهد بأنّه قتل مظلوماً، وصحّت عنه خطبته الشقشقيّة، ونادى في الملأ: ألا أنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردودٌ في بيت المال(٢) وبعده حاربه الناكثان وقاتلاه وقتلا دون مناوئته، فكيف تجمعهم وعليّاً الجنّة؟ أنا لا أدري. أيطمع كلُّ امرئ منهم أن يدخل جنّة نعيم؟ كلّا.

نظرة فى المتن

ولنا في متن الرواية نظرات وتأمّلات يزحزحنا عن الإخبات إلى صحّتها.

هل عبد الرّحمن بن عوف المعزوّ إليه الرواية وهو أحد العشرة المبشّرة كان يعتقد بها ويصدّقها ومع ذلك سلّ سيفه على عليّ يوم الشورى قائلاً: بايع وإلّا تقتل. وقال

____________________

١ - تاريخ ابن عساكر ٦: ١٢٨.

٢ - راجع الجزء الثامن والتاسع من الغدير فيهما تفصيل ما أوعزنا إليه ههنا.

١٢٣

لعليّعليه‌السلام بعد ما تمخَّضت البلاد على عثمان: إذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي، انّه قد خالف ما أعطاني. وآلى على نفسه أن لا يكلّم عثمان في حياته أبداً. واستعاذ بالله من بيعته. وأوصى أن لا يصلّي عليه عثمان. ومات وهو مهاجرٌ إيّاه. وكان عثمان يقذفه بالنفاق ويعدّه منافقاً(١) فهل تلائم هذه كلّها مع صحّة تلك الرواية وإذعان الرجلين بها؟.

وهل أبو بكر وعمر المبشّران بالجنّة هما اللذان ماتت الصدّيقة بضعة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي وجدى عليهما؟ وهل هما اللّذان قالت لهما: إنِّي اشهد الله وملائكته انّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبيَّ لأشكونَّكما إليه. وهَل هما اللّذان تقول اُمُّ السبطين فيهما شاكية نادبة باكية بأعلى صوتها: يا أبتَ! يا رسول الله! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة. وهَل هما اللّذان نهبا تراث العترة وحقَّ فيهما قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : صبرتُ وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا. وهَل أبو بكر هو الذي أوصت فاطمة سلام الله عليها أن لا يصلّي عليها، وأن لا يحضر جنازتها، فلم يحضرها هو وصاحبه. وهَل هو الذي قالت له كريمة النبيّ الأقدس الطاهرة المطهَّرة لأدعونّ عليك في كلِّ صلاة اُصلّيها. وهل هو الذي كشف عن بيت فاطمة وآذى رسول الله فيها(٢) والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم. وهَل وهَل إلى أن ينقطع النفس

وهَل كان عمر يصدِّق هذه الرواية وكان عنده إلمامٌ بها وهو يناشد مع ذلك حذيفة اليماني العالم بأسماء المنافقين ويسأله عن أنّه هَل هو منهم؟ وهَل سمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمرتهم؟(٣)

وهلّا كان على يقين من هذه البشارة يوم نهى عن التكنّي بأبي عيسى أيّام خلافته وقال له المغيرة: إنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كنّاه بها فقال: إنّ النبيَّ غفر له وإنّا لا ندري ما يُفعل بنا وغيَّر كنيته وكنّاه أبا عبد الله(٤) فكيف كان لم يدر ما يُفعل به بعد تلكم البشارة إن صدقت؟

____________________

١ - راجع الجزء التاسع ص ٨٧ ط ١، و ٩٠ ط ٢.

٢ - مر تفصيل هذه كلها فى الجزء السابع.

٣ - الغدير ٦: ٢٤١ ط ٢.

٤ - راجع الغدير ٦: ٣٠٨ ط ٢.

١٢٤

وهلاّ كان هو الذي قاد عليّاً كالجمل المخشوش إلى بيعة أبي بكر وهو يقول: بايع وإلّا تُقتل؟ وهلاً كان هو الذي أنكر اُخوّة عليّ مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم ذاك، وهي ثابتة له بالسنّة الصحيحة المتسالم عليها؟ كما أنّه أنكر من السنّة شيئاً كثيراً نبى عن الحصر.

وهلّا كان هو الذي أوصى بقتل مَن خالف البيعة يوم الشورى؟ وهو جدُّ عليم بأنّ المخالف الوحيد لذلك الإنتخاب المزيّف هو عليُّ أمير المؤمنين « دع هذا » أو أحدٌ غيره من العشرة المبشَّرة؟ ومَن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاءه جهنّم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً.

وهَل كان عثمان يخبت إلى صحّة هذه الرّواية ويذعن بها وهو يقول بعدُ لمغيرة ابن شعبة لمـّا كلّفه أن يغادر المدينة إلى مكّة حينما حوصر به: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: يلحد بمكّة رجل من قريش عليه نصف عذاب هذه الاٌمَّة فلن أكون ذلك الرَّجل؟(١) وكيف كان لم ير عليّاً أفضل من مروان؟ ومروان ملعونٌ بلسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليُّعليه‌السلام هو المبشَّر بالجنّة. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنّة أصحاب الجنّة هم الفائزون.

وهَل طلحة والزبير هما اللّذان قتلا عثمان وألَّبا عليه وكانا كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام أهون سيرهما فيه الوجيف، وأرفق حدائهما العنيف، فأجلبا عليه وضيّقا خناقه، وهما يريدان الأمر لأنفسهما، وكانا أوّل مَن طعن وآخر مَن أمر حتّى أراقا دمه(٢) وهل هما اللّذان عرّفهما الإمام مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله: كلُّ منهما يرجو الأمر له ويعطف عليه دون صاحبه، لا يمتّان إلى الله بحبل، ولا يمدّان إليه بسبب، كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه، وعمّا قليل يكشف قناعه به؟. إلى آخر ما مرّ في هذا الجزء ص ٥٨.

وهَل هما اللّذان خرجا على إمام الوقت المفروضة عليهما طاعته، ونكثا بيعته، وأسعرا عليه نار البغي، وقاتلاه وقُتلا وهما أبيَن مصداق لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن

____________________

١ - راجع الغدير ٩: ١٥٢، ١٥٣ ط ٢.

٢ - راجع الغدير ٩: ١٠٣ - ١١٠ ط ٢.

١٢٥

مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة؟.

وهَل هما اللّذان قادا جيوش النكث على قتال سيّد العترة، وأخرجا حبيسة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عقر دارها، وترؤسا الناكثين الذين حثّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً والعدول من صحابته على قتالهم، وحضّهم على منابذتهم؟ أفمن آذن نبيّ العظمة بحربه وقتاله ورآه من واجب الإسلام يعدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدُ من أهل الجنّة؟ إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ.

وهَل الزبير هذا هو الذي صحّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله له: تحارب عليّاً و أنت ظالم؟ فهل المحارب عليّاً وهو ظالمٌ إيّاه مثواه الجنَّة؟ ورسول الله يقول: أنا حربٌ لمن حاربه، وسلمٌ لمن سالمه كما جاء في الصحيح الثابت. فما جزاء مَن يفعل ذلك منكم إلّا خزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدِّ العذاب، وما الله بغافل عمّا تعملون.

وهَل الزبير هو الذي قال فيه عمر: مَن يعذرني من أصحاب محمّد لولا أنّي أمسك لفم هذا الشغب لأهلك اُمَّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وقال له عمر يوم طعن: أمّا أنت يا زبير! فوعق لقس مؤمن الرّضا، كافر الغضب، يوماً إنسان، ويوماً شيطان، ولعلّها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مدّ من شعير، أفَرأيت إن أفضت إليك فليت شعري مَن يكون للناس يوم تكون شيطاناً؟ ومَن يكون يوم تغضب؟ أما وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الاُمّة وأنت على هذه الصفة(٢) .

وقال له أيضاً: أمّا أنت يا زبير فوالله ما لان قلبك يوماً ولا ليلة، وما زلت جلفاً جافياً(٣) .

____________________

١ - راجع الغدير ٩: ٣٦٦.

٢ - شرح ابن أبى الحديد ١: ٦٢.

٣ - شرح ابن أبى الحديد ٣: ١٧٠.

١٢٦

وهَل طلحة هذا هو الذي قتل عثمان، وحال بينه وبين الماء، ومنعه عن أن يُدفن في جبانة المسلمين، وقتله مروان أخذاً بثار عثمان، وهما بعدُ من العشرة المبشّرة؟ غفرانك اللّهمّ وإليك المصير.

وهَل طلحة هذا هو الذي أقام عليُّ أمير المؤمنينعليه‌السلام عليه الحجّة يوم الجمل باستنشاده إيّاه حديث الولاية [من كنت مولاه فعليُّ مولاه] فاعتذر بما اعتذر من نسيانه الحديث، لكنّه لم يرتدع بعدُ عن غيِّه بمناصرة أمير المؤمنين مع بيعته إيّاه، ولا فوّض الحقّ إلى أهله حتّى أتى عليه سهم مروان فجرّعته منيّته وهو الخارج على إمام وقته! أفهل ترى الإمام والخارج عليه كلاًّ منهما في الجنّة؟

وهل طلحة هذا هو الذي نزل فيه قوله تعالى:( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا ) ؟ (الأحزاب ٥٣) نزلت الآية الشريفة لمـّا قال طلحة: أيحجبنا محمّد عن بنات عمّنا، ويتزوّج نساءنا من بعدنا؟ فإن حدث به حدَث لنزوّجن نساءه من بعده. وقال: إن مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتزوّجت عائشة وهي بنت عمّي فبلغ ذلك رسول الله فتأذّى به فنزلت.

أقبل عليه عمر يوم طعن وقال له: أقول أم أسكت؟ قال: قل فإنّك لا تقول من الخير شيئاً. قال: أما إنّي أعرفك منذ اُصيبت إصبعك يوم اُحد والبا بالذي حدث لك، ولقد ماتَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم نزلتْ آية الحجاب.

قال أبو عثمان الجاحظ: إنّ طلحة لمـّا انزلت آية الحجاب قال بمحضر ممّن نقل عنه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما الذي يغنيه حجابهنّ اليوم فسيموت غداً فننكحهنّ. قال أبو عثمان: لو قال لعمر قائلٌ: أنت قلت: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راض عن الستّة فكيف تقول الآن لطلحة: إنّه ماتعليه‌السلام ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه، ولكن مَن الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا فكيف هذا؟(١)

راجع تفسير القرطبي ١٤: ٢٢٨، فيض القدير ٤. ٢٩٠، تفسير ابن كثير ٣: ٥٠٦، تفسير البغوي ٥: ٢٢٥، تفسير الخازن ٥: ٢٢٥، تفسير الالوسى ٢٢: ٧٤.

____________________

١ - شرح ابن أبى الحديد ١: ٦٢، ج ٣: ١٧٠.

١٢٧

وهَل سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشَّرة كان مذعناً بالرواية وصدقها وهو القائل لمـّا سُئل عن عثمان ومَن قتله ومَن تولّىِ كبره: إنِّي اُخبرك أنّه قُتل بسيف سلّته عائشة وصقَّله طلحة وسمّه ابن أبي طالب، وسكت الزبير وأشار بيده، وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه؟ فهل هذه كلّها تجتمع مع التصديق بتلك الرواية؟ سبحان الذي جمع في جنّته الظالم والمظلوم، والقاتل والمقتول، والخليفة والخارجين عليه، إن هي إلّا اختلاق.

وهل تصدّق في سعد هذه الرواية وهو المتخلّف عن بيعة إمام وقته والمتقاعس عن نصرته بعد ما تمّت بيعته وأجمعت عليها الاُمّة وأصفقت عليها البدريّون والمهاجرون والأنصار، وحقّت كلمة العذاب على من نزعها من ربقته؟ أفهل نزل في سعد كتاب من الله أخرجه عن محكمات الإسلام وبشَّر له بالجنّة؟.

وهل يترآى لك من ثنايا التاريخ وراء صحائف أعمال أبي عبيدة الجرّاح (حفار القبور بالمدينة) ما يأهِّله لهذه البشارة؟ ويدعم له ما يستحقّ به للذكر من الفضيلة غير ما قام به يوم السقيفة من دحضه ولاية الله الكبرى، وتركاضه وراء الإنتخاب الدستوري واقتحامه في تلكم البوائق التي عمّ شومها الإسلام، وهدَّت قوائم الوئام والسَّلام، وجرّت الويلات على اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى اليوم، وهتكت حرمة المصطفى في ظلم ابنته بضعة لحمه وفلذة كبده، واضطهاد خليفته، واهتضام أخيه علم الهدى؟ فكأنّها كانت كلّها قربات فأوجبت لابن الجراح الجنّة. أم حسب الذين اجترحوا السيّئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصّالحات سواء محياهم ومماتهم؟ ساء مايحكمون.

نبأ يصكّ المسامع

وجاء بعد لأي مَن عمر الدهر مَن لم ير في الرواية فضيلة رابية تخصّ العشرة نظراً إلى أنّ البشارة بالجنّة كما سمعت تعمّ المؤمنين جمعاء ولا تنحصر بقوم منهم دون آخرين، ووجد فيها مع ذلك نقصاً من ناحية خلوّها عن ذكر عائشة امّ المؤمنين فصبّها في قالب يروقه وصوّر لها صورة مكبّرة تخصُّ باُولئك العشرة ولا يشاركهم فيها أحد، وأسند إلى أبي ذر الغفاري انّه قال: دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزل عائشة فقال: يا عائشة!

_٨_

١٢٨

ألا اُبشِّرك؟ قالت: بلى يا رسول الله! قال: أبوك في الجنّة ورفيقه إبراهيم. وعمر في الجنّة ورفيقه نوح. وعثمان في الجنّة ورفيقه أنا. وعليُّ في الجنّة ورفيقه يحيى بن زكريّا. وطلحة في الجنّة ورفيقه داود. والزبير في الجنّة ورفيقه إسماعيل وسعد بن أبي وقاص في الجنّة ورفيقه سليمان بن داود. وسعيد بن زيد في الجنّة ورفيقه موسى بن عمران. وعبد الرّحمن بن عوف في الجنّة ورفيقه عيسى بن مريم. وأبو عبيدة بن الجراح في الجنّة ورفيقه إدريسعليه‌السلام . ثمّ قال: يا عائشة أنا سيّد المرسلين وأبوك أفضل الصدِّيقين وأنت اُمّ المؤمنين(١) .

ليت لهذه الرواية إسناداً معنعناً حتّى نعرف واضعها ومختلقها على النبيّ الأقدس، وليت مفتعلها يدري بأنّ الرفاقة بين اثنين تستدعي مشكالتهما في الخصال، وتقتضيها الوحدة الجامعة من النفسيّات والملكات، فهل يسع لأيِّ إنسان أن يقارن بين اولئك الأنبياء المعصومين وبين تسعة رحط كانوا في المدينة في شيىء ممّا يوجب الرفاقة؟ وهل لبشر أن يفهم سرَّ هذا التقسيم في كلِّ نبيّ معصوم مع رفيقه الذي لا عصمة له؟ ولعمر الحقِّ انّ هذا الإنتخاب والإختيار في الرفاقة يضاهي الإنتخاب في أصل الخلافة الذي كان لا عن جدارة وتأمّل. ما عشت أراك الدهر عجباً.

لِماذا لم يكن عبد الله بن مسعود الذي صحّ عند القوم في الثناء عليه: انّه كان أشبه الناس هدياً ودلّاً وسمتاً بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) رفيق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرافقه عثمان؟

ولِماذا لم يرافق عيسى بن مريم أبو ذر الثابت فيه: انّه أشبه الناس بعيسى بن مريم هدياً وبرًّا وزهداً ونسكاً وصدقاً وجدّاً وخَلقاً وخُلقاً(٣) ويرافقه عبد الرَّحمن بن عوف؟

ولِماذا رافق رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عثمان بن عفان ولا مشاكلة بينهما خَلقاً وخُلقاً وأصلا ومحتّداً وسيرةً وسريرة، ولم يتّخذصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعفر بن أبي طالب رفيقاً له وقد جاء عنه قوله له: يا حبيبي! أشبه الناس بخلقي وخلقي، وخلقت من الطينة التي خلقت منها،

____________________

١ - الرياض النضرة ١: ٢٠ وقال: أخرجه الملا فى سيرته.

٢ - راجع « الغدير » ٩: ٩ ط ١.

٣ - الغدير ٨: ٣٢٩، ٣٢١ ط ١.

١٢٩

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا أنت يا جعفر؟ فأشبه خَلقك خَلقي، وأشبه خُلقك خُلقي، وأنت منّي وشجرتي؟(١)

ولماذا اختار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرفاقته عثمان ولم يرافق أبا بكر وقد صحّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند القوم: لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر. وجاء عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في مكذوبة - انّه كان يدعو ويقول: اللّهمّ انّك جعلت أبا بكر رفيقي في الغار فاجعله رفيقي في الجنّة؟(٢)

ولِماذا لم يكن عثمان رفيق إبراهيم، وقد جاء في مناقبه - المكذوبة - انّه شبيه إبراهيم كما مرّ في ج ٩ ص ٣٤٨.

ولِماذا لم يكن عمر رفيق موسى، وعثمان رفيق هارون، وعليّ بن أبي طالب رفيق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذاً بما مرّ من مكذوبة أنس مرفوعاً: ما من نبيّ إلّا وله نظير في اُمّتي، فأبو بكر نظير إبراهيم، وعمر نظير موسى، وعثمان نظير هارون، وعليّ بن أبي طالب نظيري؟(٣)

نعم: عزب عن مفتعل الرواية ما جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله: يا عليّ أنت أخي وصاحبي ورفيقي في الجنّة، وهذه الرفاقة والصحبة والاخوّة تقتضيها البرهنة الصادقة وتعاضدها المجانسة بين نبيِّ العظمة وصنوه الطاهر في كلِّ خُلّة ومأثرة، وهي التي جمعتهما في آية التطهير، وجعلتهما نفساً واحدة في الذكر الحكيم، وقارنت بين ولايتيهما في محكم القرآن، وكلّ تلكم الموضوعات نعرات الإحن ونفثات الأضغان اختلقت تجاه هذه المرفوعة في فضل مولانا سيّد العترة أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وهلمّ معي نسائل أبا ذر المنتهي إليه إسناد الرّواية وعائشة المخاطبة بها هل كانا على ثقة وتصديق بها، وانّها صدرت من مصدر الوحي الإلهي الذي لا ينطق عن الهوى أم لا؟ ولئن سألتهما فعلي الخبيرين سقطت، وأبو ذر هو الذي ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء أصدق منه، وإذا أنت قرأت حديث ما جرى بين عثمان وأبي ذر لوجدت سيّد غِفار في جانب جُنب عن هذه الرواية، ولمـّا يحكم عقلك بأن يكون هو راويها

____________________

١ - مجمع الزوايد ٩: ٢٧٢، ٢٧٥.

٢ - الغدير ٩: ٢٩٤ ط ١.

٣ - راجع ما مر فى هذا الجزء ص ٧٥.

١٣٠

ونداء أبي ذرّ في الملأ الديني وقد تنغّر على عثمان بعدُ يرنّ في اُذن الدنيا، وقوارص لمزه وهمزه إيّاه بعدُ تلوكه الأشداق في أندية الرِّجال، وكلمه المأثورة الخالدة في صفحات التاريخ تضادّ ما عزي إليه من الرّواية، وكلّ خطابه وعتابه إيّاه يُعرب عن أنّ أبا ذر قطّ لم يُؤمن بما اختلق عليه ولم يك يسمعه من الصّادع الكريم، وكان يحدّث الناس غير مكترث لبوادر عثمان ما كان سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله: إذا كملت بنو اُميَّة ثلاثين رجلاً اتّخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا. كان يحدّث عثمان بذلك وعثمان يكذِّبه(١) ومن كذَّبه فقد كذَّب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولم يكن أبو ذر شاذّاً عن الصّحابة في رأيه السيِّئ ونقمته على عثمان، بل نبأ المتجمهرين عليه من المهاجرين والأنصار والناقمين عليه من الحواضر الإسلاميَّة، و المجتمعين على وئده المحتجّين عليه بالكتاب العزيز يعطينا خُبراً بأنّ الرواية لا تصحّ عندهم، ولا يصدّقها رجلُ صِدق منهم.

وهل نسيتها اُمّ المؤمنين المخاطبة بها، أو تغاضت عنها يوم كانت تنادي في ملأ من الصحابة: اقتلوا نعثلاً قتله الله؟ ويوم قالت لمروان: وددت والله انّك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره في رِجل كلّ واحد منكما رحاً وانّكما في البحر. ويوم قالت: وددتُ والله انّه في غِرارةٍ من غرائري هذه وانّي طوّقت حمله حتى ألقيه في البحر ويوم قالت لابن عباس: إنّ الله قد آتاك عقلاً وفهماً وبياناً فإيّاك أن تردّ الناس عن هذه الطاغية. ويوم أخرجت ثوب رسول الله وهي تقول: هذا ثوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته. ويوم قالت لمـّا بلغها نعيه: أبعده الله ذلك بما قدّمت يداه وما الله بظلّام للعبيد. ويوم قالت: بُعداً لنعثل وسحقاً(٢)

أيخبرك ضميرك الحرّ بأنّ صاحبة تلكم المواقف الهائلة كانت تصدّق تلك الرواية وتؤمن بها وترى نعثلاً رفيق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجنّة؟ فاستعذ بالله من أن تكون من الجاهلين.

٣٨ - قال محمّد بن آدم: رأيت بمكّة اُسقفا(٣) يطوف بالكعبة فقلت له: ما الذي

____________________

١ - راجع الغدير ج ٩: ٧٨ - ٨٦.

٢ - نصف المصدر السابق

٣ - الاسقف والاسقفّ: فوق القسيس ودون المطران والكلمة يونانية ج أساقفة وأساقف.

١٣١

نزعك عن دين آبائك؟ قال: تبادلت خيراً منه. فقلت: وكيف ذلك؟ قال: ركبت البحر فلمّا توسّطناه انكسرت المركب فلم تزل الأمواج تدفعني حتى رمتني في جزيرة من جزائر البحر فيها أشجار كثيرة ولها ثمرٌ أحلى من الشهد وألين من الزبد، وفيها نهرٌ عذبٌ، فحمدت الله على ذلك وقلت: آكل من هذا الثمر وأشرب من هذا النهر حتى يقضي الله بأمره، فلمّا ذهب النهار خفت على نفسي من الوحش فطلعت على شجرة ونمت على غصن من أغصانها، فلمَّا كان في جوف الليل وإذا بدابَّة على وجه الأرض تسبِّح الله وتقول: لا إله إلّا الله العزيز الجبَّار، محمّد رسول الله النبيّ المختار، ابو بكر الصدِّيق صاحبه في الغار، عمر الفاروق فاتح الأمصار، عثمان القتيل في الدار، عليٌّ سيف الله على الكفار، فعلى مبغضهم لعنة الله العزيز الجبّار، ومأواه النار، وبئس القرار. ولم تزل تكرّر هذه الكلمات إلى الفجر فلمّا طلع الفجر قالت: لا إله إلّا الله الصادق الوعد والوعيد، محمّد رسول الله الهادي الرشيد، أبو بكر ذو الرأي السديد. عمر بن الخطاب سورٌ من حديد، عثمان الفضيل الشهيد، عليُّ بن أبي طالب ذو البأس الشديد، فعلى مبغضهم لعنة الربِّ المجيد. ثمّ اقبلت إلى البرّ فإذا رأسها رأس نعامة، ووجها وجه إنسان وقوائمها قوائم بعير، وذنبها ذنب سمكة، فخشيت على نفسي الهلكة فهربت فنطقت بلسان فصيح فقالت: يا هذا قف وإلّا تهلك. فوقفت فقالت: ما دينك؟ فقلت: دين النصرانيّة.

فقالت: ويلك ارجع إلى ابن الحنفيّة فقد حللت بفناء قوم من مسلمي الجنّ لا ينجو منهم إلّا من كان مسلماً، فقلت: وكيف الإسلام؟ قالت: تشهد أن لا إله إلّا الله، وأنَّ محمّداً رسول الله، فقلتها، فقالت: اتمّ اسلامك بالترحّم على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم. فقلت: ومَن أتاكم بذلك؟ قالت: قومٌ منَّا حضروا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمعوه يقول: إذا كان يوم القيامة تأتي الجنّة فتنادي بلسان طلق فصيح: إلهي قد وعدتني أن تشيّد أركاني. فيقول الجليل جلّ جلاله: قد شيّدت أي رفعت اركانك بأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وزيّنتك بالحسن والحسين. ثمّ قالت الدّابة: أتريد أن تقعد هاهنا أم الرجوع إلى أهلك؟ فقلت: الرجوع إلى أهلي. فقالت: اصبر حتّى تمرُّ بك مركب فبينما نحن كذلك وإذا بمركب أقبلت تجري فأومأت إليها فرفعوا إليَّ زورقاً فركبت فيه ثمّ جئت إليهم فوجدت المركب فيها اثنا عشر رجلاً كلّهم نصارى

١٣٢

فقالوا: ما الذي جاء بك إلى ها هنا؟ فقصصت عليهم قصَّتي فعجبوا عن آخرهم وأسلموا جميعاً. مصباح الظلام للسيِّد محمّد الجراداني ٢: ٣٠.

قال الأميني: ابن آدم راوي هذه الاغلوطة لا يعرفه الحفّاظ رجال الجرح والتعديل في أولاد آدم، وإنّما عرَّفوه بالجهالة، ولا أحسب انّ آدم أبا البشر أيضاً يعرف ابنه هذا، ولا تدري الاُمّهات أيّ ابن بيّ هو، والاُسقف صاحب القصّة وابن آدم هما صنوان في الجهالة لا يعرفهما آدميُّ.

ونحن إن صدَّقنا متن الرّواية، وذهبنا إلى ما ذهب إليه مسلم الجنِّ وأخبر به ولعنّا مبغضي الخلفاء الأربعة، ورأينا مأواهم النّار، فإلى من وجّهنا القوارص عندئذ؟ وأين تقع من سبابنا امّة كبيرة من الصحابة العدول أو عدول الصحابة الذين كان بينهم وبين ايّ من هؤلاء الأربعة عداء محتدم وبغضاء لاهبة؟ أنا هنا في مشكلة لا تنحلّ لي.

وعجبي من رعونة اولئك الرحط من النّصاري الذين قبلوا من الاُسقف دعواه المجرّدة وأذعنوا بها وصدَّقوه فيما جاء به عن وادي الجنّ، وما كانوا مصدّقين نبأ الرسول الأمين عن إله السّماوات المحفوفة دعوته بألف من الدلائل والبيّنات، والمتلوَّة بأنباء الكهنة والأساقفة والهتافات الكثيرة التي سجّلها التاريخ، كأنَّهم سحرهم سجع دابة الجنّ الموزون في ورد ليله وسحره ووجدوه آية الحقِّ وشاهد الدعوى.

٣٩ - قال القرطبي في تفسيره ٢٠: ١٨٠: قال اُبيّ بن كعب: قرأت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعصر ثمَّ قلت: ما تفسيرها يا نبيّ الله؟ قال: « والعصر » قسمٌ من الله أقسم ربّكم بآخر النهار « إنّ الإنسان لفي خُسر » أبو جهل « إلّا الذين آمنوا » أبو بكر « وعملوا الصالحات » عمر « و تواصوا بالحقِّ » عثمان « و تواصوا بالصبر » عليّ رضي الله عنهم أجمعين. وهكذا خطب ابن عبّاس على المنبر موقوفاً عليه.

وذكره المحبّ الطبري في رياضه النضرة ١: ٣٤، والشربيني في تفسيره ٤: ٥٦١.

قال الأميني: أيسوغ التقوُّل على الله وعلى رسوله وتحريف الكلم عن مواضعه بمثل هذه المهزأة المرسلة؟ وهل ينبغي لمؤلِّف في التفسير أو الحديث أن يسوِّد بها صحيفته أو صحيفة تأليفه؟ وهل لنا في مثل المقام أن نطالبه بالسند ونناقش فيه بالإرسال؟ وهلّا ما في متن الرواية ما يغنينا عن البحث عن رجال الإسناد إن كان له اسناد؟ وهل

١٣٣

يوجد في صحائف أعمال اولئك الرجال وسيرتهم الثابتة، وفيما حفظه التاريخ الصحيح لهم ما يصدّق هذا التلفيق؟ نعم: نحن على يقين من أنَّ الباحث يجد في غضون أجزاء كتابنا هذا شواهد كثيرة تتأتَّى له بها حصحصة الحقّ. وهل يصدِّق ذو مسكة أن يخطب بمثل هذه الأفيكة ابن عبَّاس حبر الاُمّة؟ ويدنِّس بها ساحة قدس صاحب الرّسالة الخاتمة؟.

على أنَّ المأثور عن ابن عبّاس من طريق ابن مردويه في قوله تعالى:( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) انّه قال: ذكر عليّاً وسلمان(١) ويؤيِّده قوله الوارد في قوله تعالى:( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) . قال: نزلت في عليّ يوم بدر، فالذين اجترحوا السيِّئات: عتبة وشيبة والوليد، والذين آمنوا وعملوا الصّالحات عليعليه‌السلام (٢) . ومرَّ في الجزء الثاني ص ٥٢ ط ١ من طريق ابن عباس قوله: لمـّا نزلت:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) . قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ: هو أنت وشيعتك.

فرواية اُبيّ بن كعب اُختلقت تجاه هذه الأخبار التي تساعدها العقل والمنطق والإعتبار.

ولصراحة الكذب في فصول هذه السفسطة لم يذكرها أحدٌ من المفسِّرين غير القرطبي والشربيني وهي بين أيديهم، ولعلّ ابن حجر يوعز إلى بطلانها في فتح الباري ٨: ٣٩٢ بقوله: تنبيهٌ، لم أر في تفسير هذه السورة حديثاً مرفوعاً صحيحاً.

على أنَّ الظاهر من سياق السورة أنّ الجُمل التالية للذين آمنوا أوصافٌ لهم لا انّها إعرابٌ عن اُناس آخرين غير مَن هو المراد من الجملة الاُولى.

٤٠ - أخرج الواحدي في أسباب النزول ص ٢٠٧ عن عبد الرَّحمن بن حمدان العدل قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدَّثني محمّد بن سليمان بن خالد الفحَّام قال: حدَّثنا عليّ بن هاشم عن كثير النواء قال: قلت لأبي جعفر: إنَّ فلاناً حدَّثني عن عليِّ بن الحسين رضي الله عنهما: انَّ هذه الآية نزلت

____________________

١ - الدر المنثور ٦: ٣٩٢ ومرّ فى ج ٢: ٥٣.

٢ - تذكرة السبط ص ١١، ومرّ فى ج ٢: ٥١.

١٣٤

في أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم: ونزعنا ما في صدورهم من غلّ إخواناً على سرر متقابلين: قال: والله انّها لفيهم نزلت، وفيهم(١) نزلت الآية، قلت: وأيّ غلّ هو؟ قال غلّ الجاهليَّة، إنَّ بني تيم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهليَّة فلمّا أسلم هؤلاء القوم وأجابوا أخذت أبا بكر الخاصرة فجعل عليٌّ رضي الله عنه يسخن يده فيضمخ(٢) بها خاصرة أبي بكر فنزلت هذه الآية.

قال الأميني: لا تُدعم أيُّ مأثرة بمثل هذا الإسناد المركّب من مجهول كعبد الرَّحمن العدل ومحمّد الفّحام، وممّن خرف في آخر عمره(٣) حتى كان لا يعرف شيئاً ممّا يُقرأ عليه كما قاله أبو الحسن بن الفرات(٤) وحكى الخطيب البغدادي في تاريخه ٤: ٤ عن أبي عبد الله أحمد بن أحمد القصري قال: قدمت أنا وأخي من القصر إلى بغداد وأبو بكر [أحمد بن جعفر] بن مالك القطيعي حيٌّ وكان مقصودنا درس الفقه والفرايض، فأردنا السماع من ابن مالك فقال لنا ابن اللبان الفرضي: لا تذهبوا اليه فانَّه قد ضعف واختلّ، ومنعت ابني السماع منه، قال: فلم نذهب إليه. وذكره ابن حجر في اللسان ١: ١٤٥، وقال في ج ٢: ٢٣٧: انّه شيخٌ ليس بمتقن.

ومن شيعيّ غالٍ(٥) وصفه بذلك الجوزجاني وابن حبّان، ولعلّ الدارقطني ضعَّفه لذلك، وذكره ابن حبّان في الضعفاء وإن ذكره في الثقات ايضاً.

وبعد هؤلاء كثير النواء الذي عرّفناكه قُبيل هذا صحيفة ١١٧، وانَّه ضعيفٌ زائغٌ منكر الحديث، بابه باب سعد بن طريف الذي كان يضع الحديث وكان شيعيّاً مفرطاً ضعيفاً جدّاً عند القوم.

وفي تأويل قوله تعالى:( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ) . الآية أحاديث تافهة عندهم أعجب من رواية الواحدي منها:

قال الصفوري في نزهة المجالس ٢: ٢١٧، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله

____________________

١ - كذا فى اسباب النزول. وفى الدر المنثور: وفيمن تنزل إلا فيهم؟.

٢ - فى الدر المنثور: فيكوى.

٣ - هو أحمد بن جعفر بن مالك أبو بكر القطيعى.

٤ - ميزان الاعتدال ١: ٤١.

٥ - هو على بن هاشم.

١٣٥

تعالى: ونزعنا ما في صدورهم من غلّ: أي من حقد وعداوة، إذا كان يوم القيامة تنصب كراسي من ياقوت أحمر فيجلس أبو بكر على كرسيّ، وعمر على كرسيّ، وعثمان على كرسيّ، ثمَّ يأمر الله الكراسي فتطير بهم إلى تحت العرش، فتسبل عليهم خيمة من ياقوتة بيضاء، ثمَّ يؤتى بأربع كاسات فأبو بكر يسقي عمر، وعمر يسقي عثمان، وعثمان يسقي عليّاً، وعليٌّ يسقي أبا بكر، ثمَّ يأمر الله جهنَّم أن تتمخَّض بأمواجها فتقذف الروافض على ساحلها فيكشف الله عن أبصارهم فينظرون إلى منازل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقولون: هؤلاء الذين أسعدهم الله، وفي رواية: فيقولون: هؤلاء الذين سعد الناس بمتابعتهم وشقينا نحن بمخالفتهم، ثمّ يردّون إلى جهنَّم بحسرة وندامة.

( ومنها )

من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس: ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ قال: نزلت في عشرة: أبو بكر. وعمر: وعثمان. وعليّ. وطلحة. والزبير. وسعد. و سعيد. وعبد الرَّحمن بن عوف. وعبد الله بن مسعود.

ومن طريق النعمان بن بشير عن عليّ: ونزعنا ما في صدورهم من غلّ. قال: ذاك عثمان وطلحة والزبير وأنا.

هكذا يحرِّفون الكلم عن مواضعه، وهل من مسائل رواة هذه السفاسف عن الغلّ الذي نزع من صدور اولئك المذكورين متى نزع؟ وإلى أين ذهب؟ وهذا الحديث والتاريخ يعلماننا انَّ الغلّ المنتزع منهم بعد اسلامهم لم يزل مستقرّاً بينهم منذ يوم وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما وقع هناك من حوار وشجار، إلى الحوادث الواقعة حول واقعة الدار، إلى المحتشد الدامي يوم الجمل، أو ليست هذه كلها منبعثة عن غلّ محتدم، ووغر في الصدور، وسخيمة في القلوب، وبِغضة مستثيرة؟ أوَ ليس منها أن يستبيح الإنسان دم صاحبه و هتك حُرماته والوقيعة في عرضه؟ فهل مع هذه كلّها صحيحٌ انّه نُزع ما في صدورهم من غلّ؟

والآيات المحرَّفة من هذا القبيل كثيرةٌ جدّاً لو تجمع يأتي منها كتاب ضخم غير أنّا لا يروقنا البحث عنها فانّه إطالةٌ من غير جدوى فهي بأنفسها وما فيها من تهافت و تفاهة كافية في إبطالها، وما عساني أن أقول في مثل ما رووه في قوله تعالى:( وَحَمَلْنَاهُ

١٣٦

عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) : إنَّ نوحاًعليه‌السلام لمـّا عمل السفينة جاءه جبريلعليه‌السلام بأربعة مسامر مكتوب على كلِّ مسمار عين: عين عبد الله وهو أبو بكر. وعين عمر، وعين عثمان، وعين علي، رضي الله عنهم فجرت السفينة ببركتهم(١)

وللقوم في تحريف الكتاب معارك دامية منها وقعة سنة ٣١٧ ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروزي الحنبلي، وبين طائفة اخرى من العامّة أيضاً، اختلفوا في تفسير قوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) . فقالت الحنابلة يجلسه معه على الإتحاد. وقال الآخرون: المراد بذلك الشفاعة العظمى. فاقتتلوا بذلك وقتل بينهم قتلى « تاريخ ابن كثير ١١: ١٦٢ »

فخذ ما ذكرناه مقياساً لمئات خرافة من أمثاله تقوّلها على الله ألسنة الغلاة في الفضائل، واتّخذوا آيات الله هزوا، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحقّ، وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.

منتهى المقال

هذه نماذج من أفائك الوضّاعين في الفضائل حسبتها الأغرار حقائق فسوَّدوا بها صحائف من التفسير والحديث والتاريخ، وموَّهوا بها على الحقايق الراهنة وفككوا بها عرى الإسلام، وشتّتوا شمل الاُمّة وفرّقوا صفوفها، وكذّبوا واتّبعوا أهواءهم وكلّ أمر مستقرّ، أردنا بسردها أن نعطيك مقياساً لما حاولوه من المغالاة نكتفي بها عن غيرها، وهناك مئات من أمثالها ضربنا الصَّفح عنها تنزّهاً عن نبش المخاريق ونشر المخازي، والباحث يجد شواهد صادقة على دعوانا في غضون ( الرياض النضرة ) عُلبة السفاسف والخرافات، و « الصواعق المحرقة » عيبة الأفائك والأكاذيب، و « السيرة الحلبيّة » المشحونة بالموضوعات، و « نزهة المجالس » موسوعة الترَّهات والصحاصح، و « مصباح الظلام » ديوان كلّ حديث مفترى ورواية مفتعلة، إلى تآليف جمّة من القديم والحديث، فويلٌ لهم ممّا كسبت أيديهم وويلُ لهم ممّا يكتبون، فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون، و ليُسألنَّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون، والله يعلم أنّهم لكاذبون.

____________________

١ - نزهة المجالس ٢: ٢١٤ نقلا عن شوارد الملح.

١٣٧

المغالاة فى فضائل معاوية

ابن أبي سفيان

كنّا نرتأي أنّ معاوية في غني عن إفاضة القول في مخاريقه لما عرفته الاُمّة من نفسيّته الموبوئة، وأعماله الوبيلة، وجرائمه الموبقة الجمّة، ورذائله الكثيرة، ونسبه الموصوم، وأصله اللئيم، ومحتده الدنيّ، وانّ من يضع فيه المدائح تندى جبهته عن سردها لمثله، غير أنّا وجدنا الأمل قد أكدى، والظنَّ قد أخفق، وانّ القحَّة والصلف لم يدعا لاُولئك الوضّاعين حدّاً يقفون عليه، فحاولنا أن نذكر يسيراً من معرفاته لايقاف الباحث على حقيقة الحال فيما عزوه إليه من الثناء، غير مكترثين لهلجة ابن كثير والهتاف الذي سمعه بعض السلف على جبل بالشام [ولعلّ الهاتف هو الشيطان] من أبغض معاوية سحبته الزبانية إلى جهنّم الحامية يرمى به في الحامية الهاوية.

ولا مبالين بطيف خيال ركن إليه ابن كثير أيضاً قال: قال بعضهم: رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ ومعاوية إذ جاء رجلٌ فقال عمر: يا رسول الله! هذا يتنقَّصنا فكأنّه انتهره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله! إنِّي لا اتنقَّص هؤلاء ولكن هذا - يعني معاوية - فقال: ويلك أوَ ليس هو من أصحابي؟ قالها ثلاثاً، ثمّ أخذ رسول الله حربة فناولها معاوية فقال: جابهه في لبَّته. فضربه بها وانتبهت فبكرت إلى منزلي فإذا ذلك الرّجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات، وهو راشد الكندي.

ولا معتدين برأي سعيد بن المسيّب: من مات محبّاً لأبي بكر وعمر وعثمان و وعلي وشهد للعشرة بالجنَّة وترحّم على معاوية كان حقّاً على الله أن لا يناقشه الحساب(١)

ولا بأضغاث أحلام جاءت عن عمر بن عبد العزيز وفيها قول معاوية: غفر لي وربّ الكعبة. مرّ حديثها في الجزء التاسع ص ٣٤٧.

ولا معبأين بقول أحمد: ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية.

فلا نقيم أيَّ وزن لأمثال هذه السفاسف من آراء مجرّدة، أو ركون إلى خيال،

____________________

١ - تاريخ ابن كثير ٨: ١٣٩، ١٤٠.

١٣٨

أو احتجاج بهاتف مجهول، أو جَنوح إلى طيف حالم تجاه ما يؤثر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرّجل، وما جاء فيه من الكلم القيّمة للسلف الصالح الناظرين إلى أعماله من كثب العارفين بعُجره وبُجره، الواقفين على اعلانه واسراره، الناقدين لمخازيه، المتبصِّرين في أمره، الخبيرين بنواياه في جاهليته وإسلامه، وإليك نبذة منها:

١ - عن عليّ بن الأقمر عن عبد الله بن عمر قال: خرج رسول الله من فجّ فنظر إلى أبي سفيان وهو راكب، ومعاوية وأخوه أحدهما قائد والآخر سائق، فلمّا نظر إليهم رسول الله قال: أللّهمَّ العن القائد والسائق والراكب. قلنا: أنت سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: نعم، وإلّا فصمَّتا اُذناي كما عميتا عيناي(١) .

وفي تاريخ الطبري ١١: ٣٥٧: قد رأىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان مقبلاً على حمار ومعاوية يقود به، ويزيد ابنه يسوق به قال: لعن الله القائد والراكب والسائق.

وإلى هذا الحديث أشار الإمام السبط فيما يخاطب به معاوية بقوله: انشدك الله يا معاوية! أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده، فرآكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أللهمَّ العن الراكب والقائد والسائق؟(٢) .

وإليه أشار محمّد بن أبي بكر في كتاب كتبه إلى معاوية بقوله: وأنت اللّعين ابن اللّعين. وسيوافيك الكتاب إنشاء الله تعالى.

٢ - عن البراء بن عازب قال: أقبل أبو سفيان ومعه معاوية فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أللّهم العن التابع والمتبوع، أللّهمَّ عليك بالاُقيعس، فقال ابن البراء لأبيه: من الاُقيعس؟ قال: معاوية(٣) .

ومعاوية فظاظةٌ من لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيثما لعن آكل الربا والخمر وشاربها وبايعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه. والرجل أعرف شخصيَّة بهذه المخازي كما سيوافيك حديثه.

٣ - أخرج أحمد في المسند ٤: ٤٢١، وأبو يعلى، ونصر بن مزاحم في كتاب صفّين

____________________

١ - كتاب صفين ط مصر ص ٢٤٧.

٢ - سيوافيك تمام كلام ابى محمد السبط عليه ‌السلام فى هذا البحث.

٣ - كتاب صفين ط مصر ص ٢٤٤.

١٣٩

ص ٢٤٦ ط مصر من طريق أبي برزة الأسلمي، والطبراني في الكبير من طريق ابن عباس: كنّا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر فسمع رجلين يتغنّيان وأحدهما يجيب الآخر. وهو يقول:

لا يزال حواري تلوح عظامه

زوى الحرب عنه أن يجنّ فيقبرا

وفي لفظ ابن عباس:

ولا يزال جوادي تلوح عظامه

.....................

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انظروا مَن هما. قال: فقالوا: معاوية وعمرو بن العاصي، فرفع رسول الله يديه فقال: أللّهمَّ اركسهما ركسا، ودعَّهما إلى النّار دعّا. وفي لفظ ابن عباس: أللّهمَّ اركسهما في الفتنة ركسا.

وجاء الايعاز إلى الحديث في لسان العرب ج ٧: ٤٠٤، و ج ٩: ٤٣٩.

قال الأميني: لمـَّا لم يجد القوم غمزاً في إسناد هذا الحديث، وكان ذلك غزبزاً على مَن يتولّى معاوية فحذف أحمد الإسمين وجعل مكانهما ( فلان وفلان ) واختلق آخرون تجاهه ما أخرجه ابن قانع في معجمه عن محمّد بن عبدوس كامل، عن عبد الله بن عمر، عن سعيد أبي العباس التيمي، عن سيف بن عمر عن أبي عمر مولى إبراهيم بن طلحة عن زيد بن أسلم عن صالح شقران قال: بينما نحن ليلة في سفر إذ سمع النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوتاً فذهبت انظر فإذا معاوية بن رافع وعمرو بن رفاعة بن التابوت يقول:

لا يزال جوادي تلوح عظامه

ذوى الحرب عنه أن يموت فيقبرا

فأتيت النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته فقال. أللّهمَّ اركسهما ودعّهما إلى نار جهنم دعّا فمات عمرو بن رفاعة قبل أن يقدم النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السفر.

قال السيوطي في اللئالي المصنوعة ١: ٤٢٧: وهذه الرواية أزالت الإشكال وبيَّنت أنَّ الوهم وقع في الحديث الأوّل في لفظة واحدة وهي قوله: ابن العاصي، وإنّما هو ابن رفاعة أحد المنافقين، وكذلك معاوية بن رافع أحد المنافقين، والله أعلم.

ألا مَن يُسائل هذا الضليع من فنِّ الحديث المتعهد لتنقيبه عن الإشكال في الحديث الأوّل من أين أتاه؟ وما الذي ثقل عليه من لفظه حتى ذهب إلى الوهم فيه؟ أفي مفاده شذوذٌ عن نواميس الشريعة، أو فيه ما يخالف الكتاب والسنّة؟ أو حطٌّ عن مقام رجل

١٤٠