الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١١

الغدير في الكتاب والسنة والأدب14%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 402

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159224 / تحميل: 3900
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١١

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

٣٩ - وجد أبو الفتح يوسف القوّاس في كتبه جزءاً له فيه فضايل معاوية وقد قرضته الفأرة، فدعا الله تعالى على الفأرة التي قرضته، فسقطت من السَّقف ولم تزل تضطرب حتّى ماتت، تاريخ بغداد للخطيب الحافظ ١٤: ٣٢٧.

هلمَّ واضحك على عقليَّة هذا الحافظ المعتوه الذي يرى من كرامة معاوية على الله أن أهلك لأجله فأرة قرضت جزءاً فيه فضائل معاوية، وقد أصفق ائمَّة الحديث كما أسلفناه على انَّه لا يصحّ منها شيىء، وهل الفئران كلّفت بولاء ابن آكلة الأكباد، والفأرة التي أصابته الدَّعوة قد شذَّت وخالفت امّتها وعادت معاوية فحقَّت عليها كلمة العذاب؟ وهل المسكينة كانت عارفة بما في ذلك الجزء فانكرته وسخطت عليه وقرضته وهي على بصيرة من أمرها؟ وهل كانت لأبي الفتح القوّاس سابقة معرفة بتلك الفأرة فلمّا سقطت وماتت عرف أنَّها هي هي؟ إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين.

٤٠ - قال الكلواذي في قصيدة له:

ولابن هند في الفؤاد محبَّةٌ

معروسةٌ فليرغمنَّ مفنّدي

ردَّ عليه العلّامة شهاب الدّين احمد الحفظي الشافعي بقوله:

قل لابن كلواذي وخيم الموردِ

أوقعت نفسك في الحضيض الأوهدِ

أفأنت تطمع يا سخيف العقل! في

ارغام طه والوصيِّ المهتدي؟

والمسلمين الصّادقي ايمانهم

بالله جلَّ وبالنبيِّ محمَّد؟

أوَ لست أنت القائل البيت الذي

تصلى به وهج السّعير المؤصدِ

[ ولابن هند في الفواد محبّة

مغروسة فليرغمنَّ مفنّدي ]

أرأيت ويلك ذا يقين لا يفنّد

ما يفوه به لسان الأبعدِ؟

أوَ هل ترى إلّا بقلب منافق

غرست محبّة عجلك المتمرّدِ؟

أوَ ما علمت بأنَّ مَن أحببته

رأس البغاة وخصم كلِّ موحِّدِ؟

لعن الوصيَّ وبدَّل الأحكام وار

تكب الكبائر باللسان وباليدِ

إنَّ المحبَّ مع الحبيب مقرُّه

ولسوف تعلم مستقرَّك في غدِ

١٠١

فعليكما سخط الإله~ ومقته

وعلى الّذي بك في العقيدة يقتدي(١)

توجد جملةٌ ضافيةٌ من الآراء والأقوال الساقطة والأحلام الخياليَّة التافهة في الثناء على ابن هند في تاريخ إبن كثير ٨: ١٣٩، ١٤٠، وتطهير الجنان واللسان عن الخطورٍ والتفوّه بثلب معاوية بن أبي سفيان لابن حجر الهيتمي(٢) وغيرهما وفي المذكور غنىّ وكفاية.

فويلٌ لَهمْ مِمّا كتبتْ أيديهِمْ وويلٌ

لَهمْ مِمّا يَكسِبون

____________________

١ - تقوية الايمان ص ١٠٧.

٢ - طبع فى هامش الصواعق المحرقة له.

١٠٢

الغلو الفاحش

هاهنا ننهي البحث عن المغالاة في مناقب الخلفاء، ويهمّنا عندئذ أن نوقف القارئ على شرذمة قليلة من الكثير الوافي ممّا نسجته يد الغلوّ من قصص الخرافة، وما لفّقته الأهواء والشَّهوات من فضائل اُناس من القوم منذ عهد الصّحابة وهلمّ جرّا، ونلمسك باليد الغلوّ الفاحش:

_ ١ _

زيد بن خارجة يتكلم بعد الموت

أخرج البيهقي باسناده عن سعيد بن المسّيب: انَ زيد بن خارجة الأنصاري توفّي زمن عثمان بن عفان فسجّي بثوبه، ثمَّ إنّهم سمعوا جلجلة في صدره ثمّ تكلّم ثمَّ قال: أحمد أحمد في الكتاب الأوّل، صدق صدق أبو بكر الصدّيق، الضعيف في نفسه، القويّ في أمر الله في الكتاب الأوّل، صدق صدق عمر بن الخطاب القويّ الأمين في الكتاب الأوّل، صدق صدق عثمان بن عفّان على منهاجهم مضت أربع وبقيت ثنتان أتت بالفتن وأكل الشَّديد الضعيف، وقامت السّاعة، وسيأتيكم عن جيشكم خبر بئر أريس، وما بئر أريس؟.

وفي لفظ آخر من طريق النعمان بن بشير قال: الأوسط أجلد الثلاثة الّذي كان لا يبالي في الله لومة لائم، كان يأمر النّاس أن يأكل قويّهم ضعيفهم، عبد الله أمير المؤمنين صدق صدق كان ذلك في الكتاب الأول. ثمّ قال: عثمان أمير المؤمنين وهو يعافي النّاس من ذنوب كثيرة، خلت اثنتان وبقي أربع، ثمّ اختلف النّاس وأكل بعضهم بعضا، فلا نظام وانتجت الأكما، ثمّ ارعوى المؤمنين وقال: كتاب الله وقدره، أيّها الناس: أقبلوا على أميركم واسمعوا وأطيعوا، فمن تولّى فلا يعهدنّ دماً وكان أمر الله قدراّ مقدورا، الله اكبر هذه الجنّة وهذه النّار، ويقول النبيّون والصدّيقون: سلامٌ عليكم، يا عبد الله إبن رواحة! هل أحسست لي خارجة لأبيه وسعداً اللّذين قتلا يوم اُحد؟ كلّا إنَّها

١٠٣

لظى نزّاعة للشّوى تدعو من أدبر وتولّى وجمع فأوعى. ثمّ خفت صوته. فسألت الرَّهط عمّا سبقني من كلامه فقالوا: سمعناه يقول: أنصتوا أنصتوا. هذا أحمد رسول الله، سلام عليك يا رسول الله! ورحمة الله وبركاته. أبو بكر الصدّيق الأمين، خليفة رسول الله كان ضعيفاّ في جسمه قويّاً في أمر الله صدق صدق، وكان في الكتاب الاوّل إلخ.

وفي لفظ القاضي في الشَّفا: قال: انصتوا انصتوا.محمّد رسول الله النّبيّ الامّي و خاتم النبيّين كان ذلك في الكتاب الأوّل. الخ.

راجع الاستيعاب ١: ١٩٢، تاريخ إبن كثير ٦: ١٥٦، الشفا للقاضي عياض، الروض الانف ٢: ٣٧٠، الاصابة ١: ٥٦٥، ج ٢، ٢٤، تهذيب التهذيب ٣: ٤١٠، الخصائص الكبرى ٢: ٨٥، شرح الشفا للخفاجى ٣: ١٠٨ فقال: هذا ممّا روته الطبرانى وأبو نعيم وابن مندة و رواه ابن ابى الدنيا عن أنس. وحكاه ص ١٠٥ عن ابن عبد البر وابن سيد الناس وابن الاثير والذهبي وابن الجوزى وابن ابى الدنيا.

قال الأميني: نعمت الدّعاية إلى مبادئ إعتنقها القوم ولم يقتنعوا بابتداعها حتّى دعموها بأمثال هذه، وللمنقّب أن يسهب في القول هاهنا لكنّا نحيله إلى رويّة القارئ ولنا أن نُسائل صاحب هذا المهزأة: هل القيامة قد قامت يوم مات فيه ابن خارجة فكلّم الله فيه الموتى؟ أو كان ذلك جواباً عن مسائلة البرزخ قد سمعه الملأ الحضور؟ أو أنَّ عقيدة الإماميّة في مسألة الرجعة قد تحقّقت فرجع ابن خارجة - ولم يكن رجوعه في الحسبان - لتحقيق الحقايق، غير أنّ تحقيقه إيّاها لم يعدُ التافهات؟ وهل كان ابن خارجة متأثّراً من عدم إشادته بأمر خلافة الخلفاء إبّان حياته وكان ذلك حسرة في قلبه حتى تداركه بعد الموت، وكان من كرامته على الله سبحانه أن منحه بما دار في خلده وهو ميّت؟ أو أنَّ الله تعالى كلّمه لإقامة الحجَّة على الاُمَّة وأراه من الكتاب الأوَّل ما لم يُره نبيّه الرّسول الأمين، وأرجأ هذا البلاغ لابن خارجة ومنحه ما لم يمنحه صاحب الرّسالة الخاتمة؟ وليت شعري لو كان إبن خارجة كشفت له عن الحقايق الرّاهنة الثابتة في الكتاب الأوّل، وأذن له ربّه أن يبلّغ امّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما فيه نجاحها ونجاتها، فلما ذا أخفى عليها اسم رابع الخلفاء الرّاشدين - أو الخليفة الحقّ - ولم يذكره؟! أو مَن الّذي أنساه ايّاه فجاء بلاغاً مبتوراً؟ أفتراه لم يأت ذكره في الكتاب الأوّل وما صدق وما

١٠٤

صدق، وهو نفس النبيّ الأعظم في الكتاب الثاني، والمطهّر بآية التطهير، وقد قرنت ولايته بولاية الله وولاية رسوله؟ إنّ هذا لشيءٌ عجاب.

ولعلّك لا تعجب من هذه الهضيمة بعد ما علمت أنَّ سلسلة هذه الرّواية تنتهي إلى سعيد بن المسيّب ونعمان بن بشير وهما هما، وقد أسلفنا البحث عنهما وأنّهما في طليعة مناوئي أمير المؤمنينعليه‌السلام :

وهنا مشكلةٌ اُخرى لا تنحلّ ألا وهي: انَّ ابن خارجة توفّي في عهد عثمان و أيّام خلافته، فهل الصّحابة العدول أو عدول الصّحابة رأوا هذه المكرمة من كثب و صدّقوها واذعنوا بنبأ إبن خارجة العظيم، ثمَّ نسوها مع قرب عهدهم بها كما نسوا عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم في مائة الف أو يزيدون، وأصفقوا على بكرة أبيهم المهاجر منهم والأنصار على قتل عثمان بعد تلك الحجّة البالغة وما شذَّ منهم محتجّاً على المتجمهرين عليه بنبأ ابن خارجة، كأن لم يكن شيئاً مذكورا؟

وأنت تعرف مقدار عقليّة اولئك الحفّاظ ومكانتهم من العلم والدِّين والثقة بروايتهم أمثال هذه المخازي وعدّهم إيّاها من الصّحاح والمسانيد، قاتل الله الحبَّ المعمي والمصمّ.

_ ٢ _

أنصارىّ يتكلم بعد القتل

أخرج البيهقي في عدّ من تكلّم بعد الموت قال: أنا أبو سعيد بن أبي عمر: ثنا ابو العبّاس محمّد بن يعقوب: ثنا يحيى بن أبي طالب: أنا عليّ بن عاصم: أنا حصين بن عبد الرّحمن، عن عبد الله بن عبيد الأنصاري قال: بينما هو يُوارون القتلى يوم صفين أو يوم جمل إذ تكلّم رجلٌ من الأنصار من القتلى فقال: محمّد رسول الله. ابو بكر الصدّيق عمر الشهيد، عثمان الرَّحيم. ثمَّ سكت(١) .

قال الأميني: في الاسناد يحيى بن أبي طالب، قال موسى بن هارون: أشهد أنّه يكذب عنّي في كلامه(٢) وعليّ بن عاصم قال خالد الحذّاء: كذّابٌ فاحذروه. وعن

____________________

١ - تاريخ ابن كثير ٦: ١٥٨.

٢ - لسان الميزان ٦: ٢٦٢.

١٠٥

شعبة أنّه قال: لا تكتبوا عنه. وعن يحيى بن معين: كذّابٌ ليس بشيء: وعنه: ليس بشيء ولا يحتجُّ به، ليس ممّن يكتب حديثه، وقال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب وقال البخاري: ليس بالقويِّ عندهم(١) .

والنظر في المتن لدة النظر في سابقه فيأتي هاهنا جميع ما ذكر هنالك فليس القتيل الأنصاري عن ابن خارجة ببعيد.

_ ٣ _

شيبان يحيى حماره

عن الشعبي قال: خرج رجلٌ من النخع يقال له: شيبان في جيش على حمار له في زمن عمر، فوقع الحمار ميّتاً، فدعاه أصحابه ليحملوه ومتاعه فامتنع، فقام فتوضّأ ثمَّ قام عند رأسه فقال: أللّهم إنّي أسلمت لك طائعاً، وهاجرت مختاراً في سبيلك ابتغاء مرضاتك، وإنَّ حماري كان يعينني ويكفيني عن النّاس، فقوِّني به، وأحيه لي، ولا تجعل لأحد عليَّ منَّة غيرك. فنفض الحمار رأسه وقام فشدَّ عليه ولحق بأصحابه. وذكر ابن أبي الدنيا من طريق مسلم بن عبد الله النخعي قصَّةً مثل هذه وسمّى صاحب الحمار نباتة بن يزيد. وأخرج الحسن بن عروة قصّة حمار عن أبي سبرة النخعي وقال: أقبل رجلٌ من اليمن. الخ.

تاريخ ابن كثير ٦: ١٥٣، ٢٩٢، الاصابة ٢: ١٦٩.

قال الأميني: ليس عزيزٌ على الله أن يخلق في مجاهيل امّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عسكر عمر مَن يضاهي روح الله عيسى بن مريم يحيي الموتى باذنه ولو كان المحيى حماراً، غير انَّ هذه وأمثالها تخصُّ برجال زمان أبي بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم بمن يحبّهم و يعتنق ولائهم، وإن جاء حديث في كرامة غيرهم فمن الصَّعب المستصعب قبوله، والعقل والشَّرع والمنطق والبرهنة تأباه، وهنالك يحقُّ كلُّ جبلة ولغط، ويجري كلُّ ما يتصوّر من المناقشة في الحساب لماذا هي كلّها؟ أنا لا أدري وإن كان المحاسب يدري.

وللقوم قصَّة حمار عدّوها من دلائل النبوّة ذكرها ابن كثير بالاسناد المتّصل في تاريخه ٦: ١٥٠ ونحن نذكرها محذوف السند ونحيل البحث عنها إلى اولي الألباب

____________________

١ - تهذيب التهذيب ٧: ٣٤٥ - ٣٤٨.

١٠٦

من الامَّة المسلمة.

عن أبي منظور قال: لمـّا فتح الله على نبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبر أصابه من سهمه أربعة أزواج بغال، وأربعة أزواج خفاف، وعشر اواق ذهب وفضّة، وحمار اسود ومكتل، قال: فكلّم النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحمار، فكلّمه الحمار فقال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدّي ستّين حماراً كلّهم لم يركبهم إلّا نبيّ، لم يبق من نسل جدّي غيري، ولا من الأنبياء غيرك، وقد كنت أتوقّعك أن تركبني، قد كنت قبلك لرجل يهودي، وكنت أعثر به عمداً، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سمّيتك يعفور، يا يعفور! قال: لبّيك. قال: تشتهي الاناث؟ قال: لا. فكان النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يركبه لحاجته فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرَّجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا قبض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء إلى بئر كان لأبي الهيثم بن التيهان فتردّى فيها فصارت قبره جزعاً منه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

_ ٤ _

عصا اسيد وعباد

عن أنس: كان اُسيد بن حضير، وعبّاد بن بشر عند النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة ظلماء حندس، فلمّا خرجا أضاءت عصا أحدهما فمشيا في ضوئها، فلمّا افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر.

صحيح البخاري ٦: ٣، إرشاد السّاري ٦: ١٥٤، طرح التثريب ١: ٣٥، اسد الغابة ٣: ١٠١، تاريخ ابن كثير ٦: ١٥٢.

قال الأميني: أتصدّق انَّ أحداً لم يكن من عليّة الصّحابة كانت له هذه الكرامة الباهرة في اوليات الاسلام على عهد الصّادع الكريم، وتخفى على كلّ الناس وينحصر علمها بأنس ولم يروها غيره، ولم تشتهر عنه في الملأ الدينيّ؟!؟!

أتصدّق أن يكون الرَّجلان لهذه المكانة الرابية من الفضيلة وهما من متأخّري المسلمين أسلما بالمدينة، ولم يذكرهما نبيّ العظمة بتلك الكرامة ولو همسا، ولم

١٠٧

يعرّفهما امَّته ولو ركزا، ولم يعرفهما رجال الدّين تبلكم المكرمة طيلة حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

لعلّك لا يعزب عنك لماذا استحقّ اُسيد هذه المنقبة، وانّها انّما اختلقت بعد رسول الله للرَّجل لتقدّمه على المهاجرين والأنصار يوم السَّقيفة ببيعة أبي بكر، وهو أوّل رجل من الأنصار بايع يوم ذاك وشقّ عصا المسلمين، قال ابن الأثير(١) له في بيعة أبي بكر أثرٌ عظيم. وقال: كان ابو بكر الصدّيق يكرمه ولا يقدّم عليه أحداً. فهو حريٌّ بتلك البيعة أن يُشرّف بوسام من محبّذي ذلك الإنتخاب الدستوري الّذي لم يكن عن جدارة، كما استحقّ بها أبو عبيدة الجرّاح - حفّار القبور - أن يقبّل رجله عمر بن الخطاب(٢) ومن هنا تجد عائشة تثني على اُسيد بقولها: كان من أفاضل النّاس وقولها: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحدٌ يعتدّ عليهم فضلاً بعد رسول الله: سعد بن معاذ، واُسيد بن حضير، وعبّاد بن بشر(٣) ، تقوله امّ المؤمنين وهي تعلم أنَّ من الأنصار بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقيّةٌ صالحةٌ بدريّون عقمت اُمُّ الدهور أن تأتي بمثلها كأبي أيّوب الأنصاري، وخزيمة ذي الشَّهادتين، وجابر بن عبد الله، وقيس بن سعد، إلى اناس آخرين. نعم: هؤلاء لا يروق امّ المؤمنين ذكرهم لأنّهم علويّون في ولائهم، وأمّا اُسيد فهو جديرٌ بهذه المدحة البالغة من امّ المؤمنين لنقضه عهد المصطفى في أخيه علم الهدى، وتسرّعه إلى بيعة أبيها وتدعيمه خلافته، فهو تيميُّ المبدأ والمنتهى. وعبّاد بن بشر لا تقصر خطواته في تلك الخلافة عن اُسيد، وقد قُتل تحت راية أبي بكر يوم اليمامة، ولعائشة ثناءٌ جميل عليه.

_ ٥ _

خمر صارت عسلا بدعاء خالد

عن الأعمش عن خيثمة قال: أتى خالد بن وليد برجل معه زقّ خمر فقال له خالد: ما هذا؟ فقال: عسل. فقال: أللهمّ اجعله خلّا فلمّا رجع إلى أصحابه قال: جئتكم

____________________

١ - اسد الغاية: ١: ٩٢.

٢ - تاريخ ابن كثير ٧: ٥٥.

٣ - اسد الغابة ٣: ١٠٠، مجمع الزوايد ٩: ٣١٠.

١٠٨

بخمر لم يشرب خمرٌ مثله. ثمَّ فتحه فإذا هو خلٌّ. فقال: أصابته والله دعوة خالد رضي الله عنه. وفي لفظ: اللّهم اجعله عسلاً فصار عسلاً. تاريخ ابن كثير ٧: ١١٤، الإصابة ١: ٤١٤.

قال الأميني: إقرأ صحيفة حياة خالد السّوداء ممّا مرّ في الجزء السّابع ص ١٥٦ - ١٦٨ ط ١ وسل عنه بني جذيمة ومالك بن نويرة وامرأته، وسل عنه عمر الخليفة، حتى تعرفه بعُجره وبُجره، ثمّ احكم بما تجد الرَّجل أهلاّ له.

_ ٦ _

أبو مسلم لا تحرقه النار

دعا الأسود العنسي - المتنبّي - أبا مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب اليمني التابعيّ المتوفّى ٦٠ / ٦٢ فأجّج الأسود ناراً عظيمة وألقى فيها أبا مسلم فلم تضرّه، وأنجاه الله منها، فكان يشبه بإبراهيم الخليل، فوفد على أبي بكر مسلّماً فقال: ألحمد لِلّه الذي لم يمتني حتّى أراني من امَّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن فعل به ما فعل بابراهيم خليل الله.

وفي لفظ ابن كثير: فقدم على الصدّيق فاجلسه بينه وبين عمر وقال له عمر: ألحمد لله الذي لم يمتني حتّى اُري في امَّة محمّد مَن فُعل به كما فُعل بابراهيم الخليل وقبَّله بين عينيه.

الاستيعاب ٢: ٦٦٦، صفة الصفوة ٤: ١٨١، تاريخ ابن عساكر ٧: ٣١٨، تذكرة الحفّاظ للذهبي ١: ٤٦، تاريخ ابن كثير ٨: ١٤٦، شذرات الذهب ١: ٧٠، تهذيب التهذيب ١٢: ٢٣٦، وذكره السيّد محمّد أمين ابن عابدين في العقود الدريّة ٢: ٣٩٣ عن جدّه العمادي في رسالته ( الرّوضة الريّا فيمن دفن في داريا ) نقلاً عن أبي نعيم وابن عساكر وابن الزملكاني وابن كثير.

_ ٧ _

أبو مسلم يقطع دجلة بدعائه

أتى أبو مسلم الخولاني يوماً على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدّها فوقف عليها ثمَّ حمد الله تبارك وتعالى وأثنى عليه، وذكر مسير بني إسرائيل في البحر، ثمَّ نهر دابَّته فخاضت الماء وتبعه الناس حتّى قطعوا.

١٠٩

أخرجه ابن عساكر في تاريخه ٧: ٣١٧.

_ ٨ _

سبحة أبى مسلم تسبّح بيده

كان أبو مسلم الخولاني بيده سبحة يسبّح بها فنام والسّبحة بيده فاستدارت والتفّت على ذراعه وجعلت تسبّح فالتفت إليها وهي تدور في ذراعه وهي تقول: سبحانك يا منبت النبات، ويا دائم الثبات. فقال لزوجته: هلمّي يا امّ مسلم! وانظري أعجب الأعاجيب، فجاءت والسَّبحة تدور تسبّح فلمّا جلست سكتت أخرجه الحافظ ابن عساكر في تاريخ الشّام ٧: ٣١٨.

_ ٩ _

وفد يسافر بلا زاد ولا مزاد

كان أبو مسلم الخولاني أتاه جماعةٌ من قومه فقالوا له: أما تشتاق إلى الحجِّ؟ قال: بلى لو أصبت لي أصحاباً فقالوا: نحن أصحابك، فقال: لستم لي بأصحاب أنا أصحابي قومٌ لا يريدون الزّاد ولا المزاد قالوا: سبحان الله وكيف يسافر قومٌ بلا زاد و لا مزاد؟ فقال لهم: ألا ترون إلى الطّير تغدو وتروح بلا زاد ولا مزاد والله يرزقها وهي لا تبيع ولا تشتري ولا تحرث ولا تزرع؟ قالوا: فإنّا نسافر معك فقال لهم: تهيّأوا على بركة الله. فغدوا من غوطة دمشق ليس معهم زادٌ ولا مزاد، فلمّا انتهوا إلى المنزل قالوا: يا أبا مسلم! طعامٌ لنا وعلفٌ لد وابّنا فقال لهم: نعم فتنحّى بعيداً فتسنّم أحجاراً فصلّى فيه ركعتين، ثمّ جثى على ركبتيه فقال: الـ~ـهي قد تعلم ما أخرجني من منزلي، و إنّما خرجت زائراً لك، وقد رأيت البخيل من أولاد آدم تنزل به العصابة من الناس فيوسعهم قِرى وإنّا أضيافك وزوَارك فأطعمنا واسقنا واعلف دوابّنا، فاُتي بسفرة فمدّت بين أيديهم، وجيء بجفنة من ثريد تنجر، وجيء بقلّتين من ماء، وجيء بالعلف لا يدرون من يأتي به، فلم تزل هذه حالهم منذ خرجوا من عند أهاليهم حتّى رجعوا لا يتكلّفون زاداً ولا مزاداً.

أخرجه الحافظ ابن عساكر في تاريخ الشّام ٧: ٣١٨.

قال الأميني: أنا لم أفض في المقام بذأمة، وإنّما اُوجّه نظر الباحث شطر كلمة

١١٠

طاش كبرى زادة قال في مفتاح السعادة ٣: ٣٤٥: من يخوض في البراري من غير زاد لتصحيح التوكّل ذلك بدعةٌ إذ السّلف كانوا يأخذون الزّاد ويتوكّلون.

_ ١٠ _

دعاء أبى مسلم لمرأة وعليها

كان أبو مسلم الخولاني إذا دخل داره فكان في وسطها كبر فيدخل فينزع ردائه وحذاءه وتأتيه إمرأته بطعام فيأكل فجاء ذات ليلة فكبّر فلم تجبه، ثمَّ أتى باب البيت فكبّر وسلّم وكبَّر فلم تجبه، وإذا البيت ليس فيه سراجٌ وإذا هي جالسةٌ بيدها ود « كذا » تنكت به الأرض فقال لها: مالكِ؟ فقالت: الناس بخير وأنت أبو مسلم لو انّك أتيت معاوية فيأمر لك بخادم ويعطيك شيئاً تعيش به؟ فقال: أللّهم من أفسد عليَّ أهلي فاعم بصره. وكانت أتتها امرأة فقالت: أنت امرأة أبي مسلم الخولاني فلو كلّمت زوجك يكلّم معاوية ليخدمكم ويعطيكم. فبينا هذه المرأة في منزلها إذا أنكرت بصرها فقالت: سراجكم طفئ؟ فقالوا: لا. فقالت: إنّا لِلَّه، ذهب بصري، فأتت إلى أبي مسلم فلم تزل تناشده الله وتطلب إليه حتى دعا الله فردَّ بصرها ورجعت امرأته إلى حالها التّي كانت عليها. أخرجه إبن عساكر في تاريخه ٧: ٣١٧.

قال الأميني: ما أقسى صاحب هذه المعاجز حيث أعمى امرأة مسلمة من غير ذنب تستحقّ لأجله مثل هذه العقوبة؟ فإنَّ مراجعة معاوية كبقيَّة المسلمين وهو أميرهم فيما حسبوه - والرّجل في الرَّعيل الأوَّل من شيعته - للتوسيع عليه ليس فيها إقتراف مأثم ولا اجتراح سيّئة تستحقُّ المسكينة عليها التنكيل بها، فهلاّ دعا الله سبحانه أن يهديها وامرأته أن يثبت قلبيهما على الصّبر والتقوى إن كان يعلم من نفسه إجابة دعوته؟ لكنّه أبى إلّا القسوة، أو أنَّ المغالي في فضله إفتعل له ذلك ذاهلاً عن انَّ ما افتعله يمسّ كرامة الرَّجل، ونحن نجلّ ساحة قدس المولى سبحانه عن أن تكون عنده إجابة لمثل هذه الدَّعوة الصادرة عن الجهل.

_ ١١ _

ألظبى يحبس بدعاء ابى مسلم

أخرج إبن عساكر في تاريخه ٧: ٣١٧ عن بلال بن كعب قال: ربما قال الصّبيان

١١١

لأبي مسلم الخولاني: ادع الله يحبس علينا هذا الظبي فيدعو الله فيحبسه حتّى يأخذوه بأيديهم.

قال الأميني: لقد راق القوم أن لا يدعوا للأنبياء والرّسل معجزة أو آية إلّا و سحبوها إلى مَن أحبّوه من رجال عاديّين، بل راقهم أن يثبتوا لأوليائهم كلّ شيء أباحه العقل أو أحاله، أنا لا أدري أيريدون بذلك تخفيضاً من مقام الرُّسل؟ أو ترفيعاً لهؤلاء؟! وأيّاماً أرادوا فحسب رواة السّوء رواية غير المعقول، وخلط الحابل بالنابل.

أتعرف أبا مسلم الخولاني صاحب هذه الخزعبلات؟ أتدري لماذا استحقّ الرَّجل بنسج هذه الكرامات له على نول الإفتعال؟ أتصدِّق أن يكون تحت راية ابن هند في الفئة الباغية رجلٌ إلـ~ـهيّ يؤمَن به وبايمانه، ويصدَّق زلفاه إلى ربّه، فضلاً عن أن يكون صاحب حفاوة وكرامة؟! أتزعم أن تربِّي قاعة الشّام في عصر معاوية إنساناً يعرف ربّه، ويكون من أمره على بصيرة، ولا تزحزحه عن سبيل الحقِّ والرشاد رضايخ ذلك الملك العضوض؟! نعم إنَّما نسجت يد الإختلاق هذه المفتعلات كوسام لأبي مسلم شكراً على تقدّمه في ولاء أبناء بيت اميَّة، وعداءه المحتدم لأهل بيت الوحي، كان الرجل عثمانيّاً امويَّ النزعة، خارجاً على إمام زمانه تحت راية القاسطين، وهو القائل: يا أهل المدينة! كنتم بين قاتل وخاذل، فكلًّا جزى الله شرّا، يا أهل المدينة! لأنتم شرٌّ من ثمود إنَّ ثمود قتلوا ناقة الله، وأنتم قتلتم خليفة الله، وخليفة الله اكرم عليه من ناقته.

وهو الّذي كان سفير معاوية إلى عليّ في حرب صفّين، وقد أتى ببعض كتبه إلى الامامعليه‌السلام ولمـّا أقامعليه‌السلام عليه الحجّة وأفحمه فخرج وهو يقول: الآن طاب الضِّراب.

وهو الذي كان يرتجز يوم صفّين ويقول:

ما علّتي ما علّتي. وقد لبست درعتي. أموت عند طاعتي؟!(١)

أترى مَن يموت في طاعة ابن هند، ويركض وراء أهوائه وشهواته، ويتَّخذه إماماً متَّبعاً في أفعاله وتروكه، ويحارب إمام زمانه المطهَّر بلسان الله تعالى ولم يعرفه، ويضرب الصَّفح عمّا جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرب عليّعليه‌السلام وسلمه عامّة، وفي

____________________

١ - صفين نصر بن مزاحم ٩٥ - ٩٨، تاريخ ابن عساكر ٧: ٣١٩، شرح ابن ابى الحديد ٣: ٤٠٨.

١١٢

قتاله يوم صفّين خاصّة، وتكون له خطوات واسعة وأشواط بعيدة في تلكم البوائق المدلهمَّة، والمواقف الموبقة، توهب له من المولى سبحانه وتعالى تلك المنزلة الرّفيعة من الكرامة الّتي تضاهي منازل الأنبياء، ويقصر عنها مقام كلّ وليّ صادق؟! لا ها الله، إن هي إلّا اختلاق، لا تساعدها البرهنة الصّادقة، ولا يسوّغها الاسلام ومبانيه ومباديه، ولا يقبلها العقل والمنطق.

قاتل الله العصبيّة العمياء، إلى أيّ هوَّة من التعاسة والإنحطاط تحدو البشر؟ تجعل أبا مسلم الشاميَّ الخارجيَّ الباغي المحارب إمام وقته زاهداً عابداً ناسكاً ذا كرامات ومقامات، وتعرِّف سيّد غفار أشبه النّاس بعيسى بن مريم زهداً وهدياً وبرّاً ونسكاً، الممدوح بلسان النبيِّ الأعظم(١) شيوعيّاً اشتراكيّاً يموت في المعتقل غفرانك اللّهم وإليك المصير.

_ ١٢ _

الربيع يتكلم بعد الموت

عن ربعي بن خراش(٢) العبسي قال: مرض أخي الربيع بن خراش فمرَّضته ثمَّ مات فذهبنا نجهِّزه، فلمّا جئنا رفع الثوب عن وجهه ثمّ قال: السَّلام عليكم، قلنا: وعليك السَّلام، قدمت؟ قال: بلى ولكن لقيت بعدكم ربّي ولقيني بروح وريحان وربّ غير غضبان، ثمَّ كساني ثياباً من سندس أخضر، وإنِّي سألته أن يأذن لي أن اُبشّركم فأذن لي، وإنَّ الأمر كما ترون، فسدِّدوا وقاربوا، وبشِّروا و لا تنفروا(٣) .

وفي لفظ أبي نعيم: انّه توفّي أخي - ربيع بن حراش - فبينا نحن حوله وقد بعثنا من يَبتاع له كفناً إذ كشف عن وجهه فقال: السَّلام عليكم. فقال القوم: وعليك السَّلام يا أخاه! عيشاً بعد الموت؟ يعني حياة. قال: نعم إنِّي لقيت ربِّي بعدكم فلقيت

____________________

١ - راجع الجزء الثامن ص ٣١٥ - ٣٢٤ ط ١.

٢ - كذا بالمعجمة فى غير واحد من المصادر والصحيح كما فى تهذيب التهذيب: حراش. مهملة الاول.

٣ - تاريخ ابن كثير ٦: ١٥٨، الروض الانف ٢: ٣٧٠، صفة الصفوة ٣: ١٩.

١١٣

ربّاً غير غضبان، واستقبلني بروح وبريحان واستبرق، ألا وإنَّ أبا القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينتظر الصَّلاة عليَّ، فعجّلوا بي ولا تؤخّروني، ثمَّ كان بمنزلة حصاة رمي بها في الطست(١) .

وفي لفظ: مات أخي الربيع فسجّيته فضحك فقلت: يا أخي! أحياةٌ بعد الموت؟ قال: لا، ولكنّي لقيت ربّي فلقيني بروح وريحان ووجه غير غضبان، فقلت: كيف رأيت الأمر؟ قال: أيسر ممّا تظنّون، فذكر لعائشة فقالت: صدق ربعي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من امّتي مَن يتكلّم بعد الموت(٢) .

قال الأميني: لست أدري لماذا استحال القوم القول بالرّجعة، وليست هي إلّا رجوع الحياة للميِّت بعد زهوق النّفس، وهم يروون أمثال هذه الرّواية وما مرّ في ص ١٠٣ مخبتين إليها من دون أيّ غمز بها، وإن مغزاها إلّا من مصاديق الرَّجعة. نعم لهم أن يناقشوننا الحساب باقترابها من الموت وبُعدها عنه، أو بطول أمدها وقصره، أو بقصر جوازها على تأييد المذهب فحسب، أو بحصر نطاقها بغير العترة الطاهرة فقط، غير انَّ هذه كلّها لا تؤثّر في جوهريَّة الامكان، ولا تصيّره محظوراً غير سائغ عقلاً أو شرعاً.

وشتّان بين قصَّة ابن حراش هذه وبين ما جاء به ابن سعد في طبقاته ٣: ٢٧٣ عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: سمعت رجلاً من الأنصار يقول: دعوت الله أن يُريني عمر في النوم فرأيته بعد عشر سنين وهو يمسح العرق عن جبهته فقلت: يا أمير المؤمنين! ما فعلت؟ فقال: الآن فرغت، ولولا رحمة ربّي لهلكت. وذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء ص ٩٩.

وأخرج ابن الجوزي في سيرة عمر ص ٢٠٥ عن عبد الله بن عمر قال: رأى عمر في المنام فقال: كيف صنعت؟ قال: خيراً. كاد عرشي يهوى لولا إنّي لقيت ربّاً غفورا. فقال: منذ كم فارقتكم؟ فقلت: منذ اثنتي عشر سنة. فقال: إنَّما انفلت الآن من الحساب وروى نحوه الحافظ المحبّ الطبري في الرّياض ٢: ٨٠.

هذا عمر الخليفة وحراجة موقفه في الحساب، لا يستقبله ربّه بروح وريحان، ولا يكسوه ثياباً من استبرق أخضر، ولا انتظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلّي عليه، وقد انفلت

____________________

١ - حلية الاولياء ٣: ٢١٢.

٢ - الخصايص الكبرى ٢: ١٤٩.

١١٤

من الحساب بعد اثنتي عشرة سنة، ولولا رحمة ربّه لهلك. وذاك ابن حراش(١) . وأمره الاِمر السَّريع، فانظر مآل الرَّجلين واحكم.

_ ١٣ _

أربعة آلاف تعبر الماء

عن أبي هريرة وأنس قالا: جهَّز عمر بن الخطاب جيشاً واستعمل عليهم العلاء بن الحضرمي، وكنت في غزاته فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد بدروا بنا فعفّوا آثار الماء والحرّ شديد، فجهدنا العطش ودوابّنا وذلك يوم الجمعة، فلمّا مالت الشَّمس لغروبها صلّى بنا ركعتين، ثمّ مدَّ يده إلى السَّماء، وما نرى في السَّماء شيئاً، قال: فوالله ما حطَّ يده حتّى بعث الله ريحاً وأنشأ سحاباً، وأفرغت حتّى ملأت الغُدُر والشِّعاب، فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا، ثمَّ أتينا عدوَّنا وقد جاوزوا خليجاً في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال: يا عليّ يا عظيم يا حليم يا كريم. ثمَّ قال: أجيزوا بسم الله. قال: فأجزنا ما يبلّ الماء حوافر دوابّنا، فلم نلبث إلّا يسيراً فأصبنا العدوّ عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا، ثمَّ أتينا الخليج فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبلّ الماء حوافر دوابّنا. وفي لفظ الصَّفوري: وكان الجيش أربعة الآف.

فلم نلبث إلّا يسيراً حتّى رُمي في جنازته. قال: فحفرنا له وغسَّلناه ودفنّاه، فأتى رجلٌ بعد فراغنا من دفنه فقال: مَن هذا؟ فقلنا: هذا خير البشر، هذا ابن الحضرمي فقال: إنَّ هذه الأرض تلفظ الموتى، فلو نقلتموه إلى ميل أو ميلين إلى أرض تقبل الموتى، فقلنا: ما جزاء صاحبنا أن نعرضه للسِّباع تأكله، قال: فاجتمعنا على نبشه فلمّا وصلنا إلى اللّحد إذا صاحبنا ليس فيه، وإذا اللّحد مدّ البصر نور يتلألأ، قال: فأعدنا التراب إلى اللّحد ثمَّ ارتحلنا(٢) .

قال الأميني: نحن لا ننبس هاهنا ببنت شفة ولا نحوم حول إسناده الباطل، ولا نؤاخذ رواة القصَّة بقولهم في الحضرمي: هذا خير البشر. وانّه كذب فاحش يخالف

____________________

١ - لا يوجد له ذكر فى معاجم التراجم.

٢ - تاريخ ابن كثير ٦: ١٥٥، نزهة المجالس ٢: ١٩١، و اوعز اليها ابنا الاثير وحجر فى اسد الغابة ٤: ٧، والاصابة ٢: ٤٩٨ فقالا: خاض البحر بكلمات قالها ودعا بها.

١١٥

ما أجمعت عليه الاُمَّة، وليس على الله بعزيز أن يجعل أفراد جيش جهّزه عمر كلّها صاحب كرامة، لكنّا لا نعرف معنى قولهم: إنّ هذه الأرض تلفظ الموتى، أيّ أرض هذه؟ وفي أيِّ قطر هي؟ وهل هي تعرف بهذه الصَّفة عند الملأ؟ وهل هي شاعرة بخاصّتها هذه أو لا تشعر؟ وهل هي باقيةٌ عليها إلى يومنا هذا؟ وكيف شذّت عن بقاع الأرض بهذه الخاصّة؟ ولماذا هي؟ وكيف تخلّفت عن ذاتيّها في خصوص هذا المقبور؟ وهل كان الرّجل في القبر لمـّا نبشوه مجلّلاً بالأنوار وقد أعشتهم عن رؤيته فحسبوه مفقوداً، أو انّه غادر القبر إلى جهة لا تُعرف، وترك فيه أنواره؟ أنا لا أدري، وهل في مُنَّة الرّاوي أو مدوّن القصَّة أو مفتعلها أو من قاصَّها الجواب عن هذه الأسؤلة؟

_ ١٤ _

جيش تعبر الماء بدعاء سعد

أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً إلى مدائن كسرى، فلمّا بلغوا شاطئ الدَّجلة لم يجدوا سفينة فقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو أمير السريَّة، وخالد بن الوليد رضي الله عنه: يا بحر! انّك تجري بأمر الله، فبحرمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدل عمر رضي الله عنه إلّا ما خلّيتنا والعبور. فعبروا هم وخيلهم وجمالهم فلم تبتلّ حوافرها(١) .

قال الأميني: ليس في إمكان حوافر الخيل والجمال أن تبتلَّ بعد دعاء ذلك الرّجل الالـ~ـهيّ العظيم - سعد - المتخلّف عن بيعة الإمام المعصوم، والخارق لاجماع الاُمَّة وهي لا تجتمع على الخطاء، ولا سيّما إذا شفعته بزميله خالد بن الوليد الزاني الفاتك الهاتك صاحب المخازي والمخاريق، وإلى الغاية لم يتّضح لنا انّ الله تعالى بماذا أبرَّ قسم الرَّجل أبمجموع المقسم به من حرمة محمّد وعدل عمر؟ بحيث كان إبرار القسم منبسطاً عليهما معاً على حدّ سواء. أم أنّه وليد القسم بحرمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب؟ لما نرتأيه من عدم قيام وزن لعدل عمر عند من أمعن النظرة في أفعاله وتروكه، وقد أسلفنا نبذاً من ذلك في نوادر الأثر في الجزء السّادس.

____________________

١ - نزهة المجالس للصفورى ٢: ١٩١.

١١٦

_ ١٥ _

دعاء سعد يؤخر أجله

اخرج ابن الجوزي في صفة الصفوة ١: ١٤٠ من طريق لبيبة قال: دعا سعد فقال: يا ربّ إنّ لي بنين صغاراً فأخر عنّي الموت حتّى يبلغوا، فأخَّر عنه الموت عشرين سنة.

قال الأميني: ما أكرم أولاد سعد على الله وفيهم عمر بن سعد قاتل الإمام السّبط الشهيد؟ فحقّاً كان على الله أن يستجيب دعوة سعد ويؤخّر أجله حتى يربّي مَن له قدمٌ وأيّ قدم في قتل ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبادة أهله.

وليتني أدري من الّذي أخبر سعداً أو لبيبة أو من روى القصّة ومن حفظها بأنَّ سعداً قد أتاه أجله المحتوم الّذي( إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ‌ ) (١) ( وَ مَا کَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ کِتَاباً مُؤَجَّلاً ) (٢) فأخّره الله عنه ببركة دعاءه عشرين عاماً مدّة معيّنة؟ هل تجد مثل هذا العلم عند العاديّين من البشر أمثال سعد ولبيبة؟ وهل لكلّ ابن اُنثى طريق إلى الكشف عن تلكم المغيّبات؟ نعم ليس على الله بمستنكر أن يطلع على غيبه أيَّ إنسان خلق جهولاً سعيداً أو شقيّا،( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُکُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (٣) .

_ ١٦ _

سحابة تروى وتنبت

عن الحسن البصري قال: مات هرم بن حيّان - في خلافة عثمان - في يوم صائف شديد الحرّ فلمّا نفضوا أيديهم عن قبره جاءت سحابة تسير حتّى قامت على قبره فلم تكن أطول منه ولا أقصر فرشَّته حتّى روّته ثمَّ انصرفت.

وفي لفظ قتادة: امطر قبر هرم بن حيّان من يومه، وأنبت العشب من يومه(٤) . نحن لا نستعظم هذه الكرامة لهرم بن حيّان في مماته، فإنَّ بقائه في بطن امّه اربع

____________________

١ - سورة يونس ٤٩.

٢ - سورة آل عمران: ١٤٥.

٣ - سورة الجن: ٢٦، ٢٧.

٤ - حلية الاولياء ٢: ١٢٢، صفة الصفوة ٣: ١٣٩، الاصابة ٣: ٦٠١.

١١٧

سنين(١) أعظم وأعجب، سبحان الخالق القادر.

_ ١٧ _

ابراهيم التيمى يواصل اربعين

عن الأعمش قال: قلت لابراهيم التيميّ المتوفّى ٩٢: بلغني انَّك تمكث شهراً لا تأكل شيئاً.

فقال: نعم وشهرين، وما أكلت منذ أربعين ليلة إلّا حبَّة عنب ناولنيها أهلي فأكلتها ثمَّ لفظتها في الحال.

كذا في طبقات الشَّعراني ١: ٣٦، وفي إحياء العلوم للغزالي ١: ٣٠٩: انَّه كان يمكث أربعة أشهر لم يطعم ولم يشرب.

لعلَّ النّطس وعلماء الطبِّ يضحكون على هذه العقليَّة السَّخيفة، غير انَّ قصَّة الطويِّ عندِ القوم مشكلةٌ لا تنحلّ، يحار دونها العقل، ولا يسمع فيها قضاء الطبيعة، ولا يتّخذ فيها الناموس المطّرد ممّا خلق الله عليه البشر، ولا يصحّحها إلّا المغالاة في الفضائل، وهناك فئةٌ تضاهي إبراهيم التيميَّ في هذه الدَّعوى المجرّدة، أو تربو عليه في الفضيلة، وسيوافيك ذكر بعضها.

_ ١٨ _

حافظ دعا على رجل فمات

روى غيلان بن جرير البصري: إنَّ رجلاً كذب على مطرف بن عبد الله الحافظ البصري المتوفّى سنة ٩٥ فقال مطرف، اللّهم إن كان كاذباً فأمته فخرَّ مكانه ميّتاً(٢) .

قال الأميني: ليس هذا المستجاب دعوته ببعيد في القسوة عن أبي مسلم الخولاني الّذي أعمى المرأة من غير ذنب، والكذب وإن كان محرَّماً لكن ليس الجزاء عليه إعدام صاحبه، وليس من السَّهل السائغ أن تستجاب دعوة كلِّ غير معصوم على من عادى عليه وفيهم من رجال الغضب الثائر مثل أبي مسلم الخولاني ومطرف البصري، وإلّا لوجب على الاُمَّة المستجابة دعوتهم أن تدعو على الكذبة، وعلى الله أن يجيبهم بقتل رواة هذه

____________________

١ - راجع تفسير روح البيان ٤: ٣٤٧.

٢ - طبقات الحفاظ الذهبى ١: ٦٠، دول الاسلام ١: ٤٧، الاصابة ٣: ٤٧٩، تهذيب التهذيب ١: ١٧٣.

١١٨

القصص فتشاد وتعمر بقاعٌ بأجداث كثيرين من الحفّاظ وأئمّة الحديث ورماة القول على عواهنه، حتى تستريح اُمَّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه السَّفاسف التّي لا مقيل لها من الإعتبار، ولا لها نهاية.

_ ١٩ _

سحابة تظل كرز بن وبرة

عن أبي سليمان المكتب: قال صحبت كرز بن وبرة إلى مكة فكان إذا نزل أخرج ثيابه فألقاها في الرَّحل ثمّ تنحّى للصّلاة فإذا سمع رغاء الإبل أقبل، فاحتبس يوماً عن الوقت، فانبثَّ أصحابه في طلبه فكنت فيمن طلبه قال: فأصبته في وهدة يصلّي في ساعة حارَّة وإذا سحابةٌ تظلّه فلمّا رآني أقبل نحوي فقال: يا أبا سليمان! لي إليك حاجة، قال: قلت: وما حاجتك يا أبا عبد الله؟! قال: اُحبُّ أن تكتم ما رأيت. قال: قلت ذلك لك يا أبا عبد الله! فقال: أوثق لي فحلفت ألّا اُخبر به أحداً حتّى يموت.

حلية الأولياء للحافظ أبي نعيم ٥: ٨٠، الإصابة ٣: ٣٢١.

_ ٢٠ _

فقير يجعل الارض ذهباً

عن الحسن البصري رحمة الله عليه قال: كان بعبادان رجلٌ فقيرٌ أسود يأوي إلى الخرابات فحصل معي شيىءٌ فطلبته فلمّا وقعت عينه عليَّ تبسّم وأشار بيده إلى الأرض فصارت الأرض كلّها ذهباً تلمع ثمَّ قال: هات ما معك. فناولته وهالني أمره فهربت. الروض الفائق ص ١٢٦.

إقرأ وتعجّب. اضحك أو ابك.

_ ٢١ _

الغطفاني ميت يتبسم

عن الحارث الغنوي قال: آلى ربعي بن حراش الغطفاني المتوفّى ١٠١ / ٤، أن لا يضحك حتّى يعلم في الجنّة هو أو في النّار، فلقد أخبرني غاسله انَّه لم يزل متبسّماً على سريره ونحن نغسّله حتّى فرغنا منه. صفة الصّفوة لابن الجوزي ٣: ١٩، طبقات الشّعراني ١: ٣٧، تاريخ ابن عساكر ٥: ٢٩٨.

١١٩

_ ٢٢ _

عمر بن عبد العزيز في التوراة

عن خالد الرّبعي قال: مكتوبٌ في التوراة: انَّ السّماء والأرض لتبكي على عمر بن عبد العزيز أربعين صباحاً.

الروض الفائق للحريفيش ص ٢٥٥.

لعلَّ هذه الخاصّة لعمر بن عبد العزيز خاصّة بتوراة الرّبعي فإنَّ توراة موسىعليه‌السلام ما كانت موجودة في تلكم العصور، فلا يقف عليها الرّبعي وغيره، وأمّا التوراة المحرّفة فأيّ حجّة لما فيها من أساطير، على انَّ نسخ التوراة الموجودة الآن على اختلاف طبعاتها خاليةٌ عن هذا العز والمختلق.

وحسبك في عرفان خطر عمر بن عبد العزيز قول الإمام أحمد بن حنبل لمـّا سُئل: ايّما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز: فقال: لغبارٌ لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيرٌ من عمر بن عبد العزيز(١)

وقال عبد الله بن المبارك: ترابٌ في أنف معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز. و في لفظ: لترابٌ في منخري معاوية مع رسول الله خيرٌ و افضل من عمر بن عبد العزيز(٢) . فما خطر رجل يكون تراب منخر ابن هند أو منخر جواده أفضل منه حتّى يُذكر في التوراة؟ أو تبكي عليه السّماء والأرض اربعين يوماً؟ فما بكت عليهم السّماء والأرض وما كانوا منظرين.

_ ٢٣ _

رعاء الشاة فى خلافة عمر بن عبد العزيز

قال اليافعي في - روض الرَّياحين - ص ١٦٥: حكي انّه لمـّا ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخلافة قال رعاء الشّاة في رأس الجبال: مَن هذا الخليفة الصّالح الّذي قد قام على النّاس؟ فقيل لهم: وما أعلمكم بذلك؟ قالوا: إنّه إذا قام خليفةٌ صالحٌ كفَّ الذئاب والاُسد عن شياهنا.

____________________

١ - شذرات الذهب ١: ٦٥.

٢ - تاريخ ابن كثير ٨: ١٣٩، الصواعق ص ١٢٧.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

صدر عن نيّة صالحة وقبيحاً إذا صدر عن نيّة فاسدة(١) .

هذه الأقوال من فروع القول بالحسن والقبح العقليّين والجميع في مقابل المنكرين أعني أهل الحديث والأشاعرة.

ولكنّ الحقّ هو القول المختار حيث أنّ هناك أفعالاً يقوم العقل بدرك حسنها أو قبحها بنفسها من أيّ فاعل صدر، وفي أيّ موّرد وقع، بلا ملاحظة جهة خارجية وحيثيّة تعليلية أو تقييديّة ومن دون ملاحظة نيّة الفاعل وقصده فضلاً عن ملاحظة كونه ملائماً للطبع وغيره، نعم وإنّما يفتقر إلى ملاحظة النيّة في توصيف الفاعل بأنّه محسن أو مسيئ وأمّا نفس الفعل فلا يحتاج في الحكم عليه بشيء منهما وراء فرض الموضوع.

هذا هو المدّعى وإليك الدليل في البحث الثاني.

٢ ـ العقل النظري والعقل العملي

ينقسم العقل عند الحكماء إلى عقل نظري وعقل عملي. فالأول هو الذي به يحوز الانسان علم ما ليس من شأنه ذلك العلم أن يعمله. والثاني هو الذي يعرف به ما من شأنه أن يعمله الانسان بإرادته(٢) .

وظاهر هذه العبارة أنّ هنا عقلين أحدهما نظري والاخر عملي ولكنّه خلاف التحقيق، بل الظاهر أنّ تفاوت العقل النظري مع العقل العملي بتفاوت المدرَكات من حيث أنّ المدرك من قبيل أن يُعلَم، أو من قبيل ما ينبغي أن يؤتى به أو لا يؤتى به ،

__________________

(١) هذا القول أي كون الحسن والقبح يدوران مدار النوايا والأهداف غير القول بكون الحسن والقبح أمراً يعتبره العقل من ادراك الملائمة للطبع، الذي حقّقه العلّامة الطباطبائي، وهو خيرة بعض فلاسفة العرب، فقد طوينا الكلام عن ذلك القول في هذا البحث لما اسهبنا عنه في أبحاثنا الكلامية. لاحظ: « مناهج الجبر والاختيار ».

(٢) شرح المنظومة: ص ٣٠٥، نقلا عن المعلّم الثاني.

١٨١

فالأوّل هو العقل النظري والثاني هو العقل العملي(١) .

وعلى ضوء ذلك فالنظري والعملي وجهان لعملة واحدة لا يختلفان جوهراً وذاتاً، فإن كان المدرك ممّا ينبغي أن يعلم فيسمّى المدرك عقلاً نظرياً، وإن كان المدرك ممّا ينبغي أن يفعل أو لا يفعل فالمدرك هو العقل العملي.

٣ ـ الحكمة العملية وقضاياها الواضحة

إنّ الحكمة العملية تتمشّى مع الحكمة النظريّة في كيفيّة البرهنة والاستدلال فكما أنّ في الحكمة النظرية قضايا بديهية بأصولها الستة تنتهي إليها القضايا النظريّة فهكذا في الحكمة العملية قضايا واضحة تنتهي إليها القضايا غير الواضحة.

نعم إنّ تقسيم القضايا إلى نظريّة وبديهيّة وإن كان دارجاً في الحكمة النظريّة دون العملية، غير أنّ الحقّ عدم اختصاص التقسيم بها بل قضايا الحكمتين تنقسم إلى قسمين: واضحة وغير واضحة، وتنتهي الثانية إلى الواضحة في كلتا الحكمتين، والعقل كما يدرك القضايا البديهية في الحكمة النظريّة من صميم ذاته أو من تصوّر الطرفين مع النسبة فهكذا يدرك القضايا الواضحة في الحكمة العملية إذا لوحظت بذاتها.

هذا هو المهم في باب الحكم بالحسن والقبح العقليين، وبالوقوف على هذه الحقيقة تعلم قيمة سائر الأقوال فيهما وبما أنّ الحكم في المقيس عليه « الفعل النظري » واضح لا حاجة فيه إلى البيان، فلنرجع إلى بيانه في الفعل العملي فنقول: إنّ القضايا عند العقل العملي ليس على وزان واحد بل هو على قسمين: منها ما هي مغمورة مجهولة لا يحكم العقل فيها بواحد من الطرفين « الايجاب والنفي » ومنها ما هو مبيّنة واضحة لدى العقل مع غضّ النظر عن كل شيء والاقتصار على لحاظ نفس القضية فيجب أن تكون تلك القضايا مقدّمة

__________________

(١) نهاية الدراية: ج ٢، ص ١٢٤.

١٨٢

لحلّ القضايا الاُولى وبأنّها ترجع إليها، ومن تلك القضايا البديهية مسألة التحسين والتقبيح في جملة من الأفعال أو جميعها مثلاً جزاء الاحسان بالاحسان حسن، وجزاء الاحسان بالإساءة قبيح، أو العمل بالميثاق حسن، ونقضه قبيح، أو العدل حسن، والظلم قبيح، فهذه القضايا قضايا بديهية في الحكمة العملية والعقل يدركها من صميم ذاته ويقف عليها من ملاحظة القضية مع نسبتها، وعلى هذه القضايا البديهية يبتني كل ما يَردُ على العقل في مجال الأخلاق وتدبير المنزل وسياسة المدن.

وبذلك يعلم أنّ تحليل حسن العدل والاحسان، وقبح الظلم والعدوان وغيرهما ممّا عددناه بأنّ القضية الأولى حافظة للنظام والثانية هادمة له، ولأجل تلك التوالي عمّ الاعتراف بها من قبل الجميع ـ إنّ ذلك التحليل ـ إنكار للحسن والقبح العقليين الذاتيين فإنّ مدار البحث كما عرفت مركّز على نفس العقل مع غضّ النظر عن تواليه وتوابعه، وإنّ العقل هل يقوم بنفسه بمدح إحسان المحسن بالاحسان، وبذمّ جزاء المحسن بالإساءة أو لا، وهل العقل يحسن الملتزم بالميثاق أو لا ؟ لا بالنظر إلى الأعراض والمصالح المترتّبة سواء كانت المصالح فردية أم اجتماعية.

والعجب أنّ أكثر المحقّقين الباحثين في هذا الموضوع فسّروا حكم العقل بما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد، مع أنّ الهدف من طرح هذا البحث إنّما هو التوصّل إلى معرفة أفعال الله واكتشاف ما هو الحسن والقبيح عنده، فكيف يمكن تفسير حسن العدل وقبح ضدّه بكونه حافظاً للنظام أو هادماً له ؟

لا شك أنّ العدل والظلم يترتّب عليهما صيانة النظام وهدمه ويوصف الأوّل بالحسن والثاني بالقبيح لهذه الجهه أيضا، لكنّ المطروح في هذا الباب ما هو أوسع من ذلك وهو درك العقل العملي حسن الفعل وقبحه بما هو هو سواء كان هناك نظام أو لا ؟ وسواء أكان هناك خلق أو لا ؟

وبذلك يعلم بطلان سائر الأقوال من القائلين للحسن والقبح حيث جعلوا ملاك الحسن والقبح الملائمة للطبع والمنافرة له سواء كان المراد الطبع الفردي أو

١٨٣

الطبع النوعي، لأنّ ذلك على فرض صحّته إطلاق الحسن والقبح خارج عن محل البحث.

كما يعلم بطلان القول بأنّ الحسن ما يوافق الغرض والقبيح ما يخالفه، فإنّ ذلك أيضاً كالسابق خارج عن محلّ البحث. كما يعلم فساد تفسير الحسن بما فيه المصلحة، والقبيح بما فيه المفسدة وإنّ ما خلا منهما ليس بحسن ولا قبيح(١) .

وعلى الجملة فالمحور في حكم العقل بالحسن والقبح هو ملاحظة نفس القضية مع غضّ النظر عن كل شيء لا كونه حافظاً للنظام أو هادماً، ولا كونه موافقاً للطبع الفرديّ، أو النوعيّ، ولا كونه محصّلاً للغرض وعدمه، أو كونه متضمناً للمصلحة أو المفسدة، فالكل انحراف عن مسير البحث وكلام زائد ملأ كتب المتكلّمين بل الاصوليين من الشيعة إلّا القليل منهم، ولأجل ذلك ضربنا البحث عن تحليل هذه الأقوال من شعب القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وأظنّ أنّ هذه الأقاويل وإن نسبت إلى القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين لكنّها أشبه بقول المنكرين، فإنّه لما اتسع على الأشاعرة سبيل الانتقاد وضاق عليهم طريق الاعتذار أرادوا الدفاع عن منهجهم فعمدوا إلى تكثير معاني الحسن والقبح إلى معان، أو تكثير ملاكاتهما والأولى للقائل بالحسن والقبح العقليين الذي يريد استكشاف حال افعال الواجب الاعراض عن هذه التفاصيل.

والحاصل أنّ هناك أفعالاً إذا تصوّرها العقل حكم بحسنها أو قبحها بمجرد الوقوف على القضيّة وحكم بمدح فاعلها أو ذمّه كائناً من كان الفاعل.

وإن شئت قلت: إنّ كل عاقل مميّز يجد من صميم ذاته حسن بعض الأفعال وقبح بعضها، سواء كان الشخص مؤمناً أو كافراً، معتقداً بالشرايع الإلهية أو لا، وسواء صدر الفعل من الممكن أم من الواجب وسواء تصوّر كونه حافظاً للنظام أو لا، وسواء تصوّر كونه ذات مصلحة أو مفسدة، أو كونه موافقاً للطبع الفردي أو

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجي: ص ٣٣٧.

١٨٤

النوعي، بل هو مع الغفلة عن كل هذا يدرك حسن بعض وقبح بعض آخر، ولو نرى اتّفاق جميع العقلاء من جميع المذاهب والطوائف على هذا الحكم فلأنّه نابع من صميم القوّة العاقلة وهو أمر مشترك بين الناس.

وأقول رعاية للحقّ: إنّ أوّل من هذّب محلّ النزاع بوجه رائع هو المحقّق اللاهيجي في تأليفيه النفيسين(١) .

ونزيد تأكيداً على أنّ هذا هو المدار، وهو أنّ الغرض من طرح هذه المسألة هو التوصل إلى التعرف على أفعاله تعالى وهو لا يتمّ إلّا إذا لوحظت المسألة على النحو الذي بيّنّاه.

نعم يمكن توجيه القول بالطبع من هذه الأقوال وإرجاعه إلى ما ذكرنا وهو أنّ صدق القضايا العقليّة في الحكمتين، وتوصيفهما بالحقّ والصدق يتوقّف على وجود ملاك له. وهو في قضايا الحكمة النظريّة، نفس الواقع والخارج بعرضها العريض.

فقولنا الإنسان متعجّب أو ممكن أو نوع من القضايا الصحيحة في الحكمة النظرية وملاك صدقها هو مطابقتها للخارج العريض ولا تشذّ عنها قضايا الحكمة العمليّة فإنّ توصيفها بالصدق والحقّ يتوقف على الملاك، فقولنا: « العدل حسن » و « الظلم قبيح » قضيّتان صحيحتان ونقيضاهما باطلان وكاذبان. فما هو الملاك في الحكم بالأوّليتين بالحقّ والصدق وبالثانيتين بالكذب والبطلان ؟

أقول: الملاك في هذا الباب هو مطابقة حكم القضية للطبع الإنساني ولا يراد منه الطبع الحيواني الذي يجنح إلى العبث والفساد بل الجانب الأعلى والمثل الأعلى للانسان والوجه المثالي منه، فلو اُريد من الطبع هذا المعنى لاتّفق القولان.

فالانسان بما هو ذو فطرة مثاليّة يتميّز بها عن الحيوانات يجد بعض القضايا

__________________

(١) گوهر مراد: ص ١٢٢ ـ ١٢٣، وسرماية ايمان: ص ٣٣ ـ ٣٥. وما حقّقناه توضيح وتحقيق لكلامه.

١٨٥

ملائمة لذلك والبعض الآخر منافياً له. فيصف الملائم بالحسن ولزوم العمل، والمنافي بالقبح ولزوم الاجتناب، وبما أنّ هذا الموضوع يحتاج إلى بسط في الكلام حتى يعلم اتّفاق القولين في الهدف والمرمىٰ نقوم بالاسهاب فيه.

٤ ـ الانسان وقوى الخير والشر

إنّ واقع الانسان يتألّف من قوى الشر والخير، الحيوانية والإنسانية، ولكلّ دوره في حياة الانسان، غير أنّ واقع الانسان يتمثّل ويتجلّى في الجانب الثاني، ففي الجانب الأوّل تتجلّى الشهوة والغضب والأنانيّة والقسوة وغيرها من رذائل الأخلاق كما أنّ الجانب الثاني تتجلّى فيه القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية وغير ذلك من خصال الخير، وهذا الجانب هو الأصيل في الانسان دون الجانب الأوّل.

والشاهد على ذلك انّه عند ما يقع الانسان في صراع بين جانبيه: الحيواني والانساني « الملكوتي » فإذا غلب الجانب الثاني على الجانب الأوّل، يحسّ من صميم ذاته بالسرور والرضا، فلو كان واقع الانسان يتمثّل في الجانب الحيواني لما صحّ السرور والرضا لأنّ المفروض مغلوبيّة القوى الحيوانية والمغلوب يكون محزوناً لا مسروراً، وهذا يفيد بجلاء إنّ واقع الإنسان هو الجانب الثاني أي كونه موجوداً ملكوتياً، إلهيَّ النزعة، طالبا للخير والكمال والسموّ والارتقاء.

فلو أراد القائل من كون ملاك حكم العقل هو موافقة الحكم للطبع هو ما ذكرنا فنعم الوفاق، وإلّا فهو غير تام كسائر الأقوال.

وإن شئت قلت: لا حقيقة للحسن والقبح إلّا كون الشيء ملائماً لطبع الانسان أو غير ملائم، لكنّ المراد منه ليس هو الطبع السافل بل الطبع العالي، والطبع العالي ينزع إلى الخير ويميل إلى الكمال، والطبع السافل ينزع إلى الشرّ، فكل فعل أحبّه الإنسان بروحه المتعالية وعقله المتكامل فهو حسن، وكل ما وقع في خلاف ذلك يعدّ قبيحاً، وعلى ضوء ذلك تقدر على تحليل جميع الأمثلة.

١٨٦

٥ ـ الاُصول الأخلاقية الثابتة

إذا كان الميزان في الحكم بالحسن والقبح وفي الحكم بالقيم الأخلاقية هو درك العقل مع غضّ النظر عن كل شيء على ما ذكرنا، أو كون القضية المدركة مطابقة للجانب المثالي الأعلىٰ للإنسان، تقف على أنّ هناك اُصولاً أخلاقيّة ثابتة لا تتغير مع مرور الدهور والعصور، وتبدّل الحضارات، لأنّ الشخصيّة المثالية العليا في الكيان الإنساني ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.

فإذا كان الملاك هو الملائمة والمنافرة بالقياس إليه تصبح الاُصول ثابته دائمة بثبات الحيثية العليا من الإنسان ودوامها.

ولأجل ذلك إنّ الاُصول الأخلاقيّة لا تختلف عند الأمم والشعوب لأنّهم متشابهون ومتشاركون في الجانب الأعلى للانسان، نعم يختلفون في العادات والأخلاق التابعة للمحيط والعائلة وليس لها جذور في الفطرة الإنسانية.

نعم يختلفون في الأشكال والصور والتجلّيات والمظاهر ويتّحدون في اللبّ والجوهر، فالكل يحكم باحترام المعلّم والاستاذ لأنّ عقله يحكم بلزوم إحسان المحسن وقبح إساءته غير أنّهم يختلفون في كيفيّة الاحترام، وهذا الاختلاف نابع من التقاليد والعادات، فربما يحترمون بالقيام عند الورود واُخرى برفع القلنسوة عن الرأس وثالثة

٦ ـ الاُصول الثابتة في الشرائع السماوية

لا شكّ أنّ هناك اُصولا ثابتة في جميع الشرائع السماوية من حرمة الشرك بالله تعالى في العبادة وحرمة الظلم ولزوم تكريم الوالدين وغير ذلك، وما ذلك إلّا لأنّ الاُصول الثابتة توافق الجانب الأعلى من الإنسان وهو ثابت عبر القرون والعصور، وبذلك يتجلّى سرّ خاتميّة الاسلام ودوام اُصوله الخلقية، وتشريعاته المطابقة للشخصية الانسانية العالية، فبما أنّ الشخصيّة المثاليّة لا تمسّها يد التغيّر والتبدل

١٨٧

في جميع العصور والحضارات، وتكون الأحكام والتشريعات المطابقة لتلك الجوهرة المتعالية ثابتة لا تمسّها يد التغيير.

٧ ـ القرآن وكونه سبحانه حكيماً

إذا كانت الحكمة بمعنى التحرّز عمّا يجب الاجتناب عنه مما يحكم العقل بقبحه، فقد تضافر توصيفه سبحانه ب‍ « الحكيم » في القرآن الكريم.

ترى أنّ القرآن الكريم يذكّر بلطيف بيانه انه سبحانه بريء من القبيح وفعل ما يجب التنزّه عنه. قال سبحانه:( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) ( الأعراف / ٢٨ ).

وقال سبحانه:( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ) ( الاعراف / ٣٣ ).

وقال سبحانه:( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ( ص / ٢٨ ) وقال سبحانه:( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إلّا الإِحْسَانُ ) ( الرحمن / ٦٠ ).

فهذه الآيات تعرب بوضوح أنّ هناك اُموراً توصف بالاحسان والفحشاء والمنكر والبغي والمعروف قبل تعلّق أمر الشارع بها أو نهيه عنها، وانّ الانسان يجد اتّصاف الأفعال بواحد من هذه العناوين من صميم ذاته، وليست معرفة الانسان بهذا الاتّصاف موقوفاً على تعلّق حكم الشرع وإنّما دور الشرع هو إرشاد حكم العقل الذي يأمر بالحسن وينهي عن القبيح.

قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل / ٩٠ ).

وبذلك تقف على قيمة كلام الأشعري في جواز تعذيب أطفال الكفّار في الاخرة.

١٨٨

قال في « الابانة »: يجوز أن يؤلم أطفال الكافرين في الاخرة ليغيظ بذلك آباءهم ويكون ذلك منه عدلا ؟!(١) .

وقال في اللمع: فإن قال قائل: هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الاخرة إذا قيل لله تعالى ذلك، وهو عادل إن فعله ؟ ـ إلى أن قال ـ: ولا يقبح منه أن يعذّب المؤمنين، ويدخل الكافرين الجنان، وإنّما نقول: إنّه لا يفعل ذلك لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره(٢) .

الثلاثون: « الحق »

قد ورد الحق معرّفاً ومنكراً في الذكر الحكيم ٢٣٩ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في سبعة موارد :

قال سبحانه:( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الانعام / ٦٢ ).

وقال سبحانه:( فَذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ) ( يونس / ٣٢ ).

وقال سبحانه:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الحج / ٦ ).

وقال سبحانه:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( الحج / ٦٢ ).

وقال سبحانه:( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور / ٢٥ ).

__________________

(١) الابانة: ص ١٣٣.

(٢) اللمع: ص ١١٦ ـ ١١٧.

١٨٩

وقال سبحانه:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( لقمان / ٣٠ ).

وقال سبحانه:( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلّاعِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ *قَالَ فَالحَقُّ وَالحَقَّ أَقُولُ ) ( ص / ٨٢ ـ ٨٤ ).

وقد استعمل الحق في(١) مقابل الباطل في غير واحد من الآيات فهل هما من قبيل المتضادّين أو من قبيل المتضائفين أو من قبيل العدم والملكة أو السلب والايجاب، لا سبيل إلى الأوّل لما سيوافيك أنّ البطلان أمر عدمي لا وجودي، وبذلك يعلم عدم كونهما من قبيل المتضايفين لاشتراط كونهما أمرين وجوديين حيث يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الاخر، فانحصر الاحتمال بين الثالث والرابع، ولعلّ الثالث أقرب، وعلى كل تقدير فلو كان أحد المفهومين واضحاً يمكن استظهار معنى الاخر من خلاله.

قال ابن فارس: الحق أصل واحد وهو يدلّ على إحكام الشيء وصحّته فالحق نقيض الباطل ثم يرجع كل فرع إليه بجودة الاستخراج وحسن التلفيق. يقال حقّ الشيء أي وجب، ويقال ثوب محقّق إذا كان محكم النسج، والحقّة من أولاد الابل: ما استحقّ أن يحمل عليه كأنَّه اُحكمت عظامه واشتدّت فاستحق الحمل، والحاقة: القيامة لأنّها تحقّ بكل شيء(٢) .

وقال الراغب في مادة « بطل »: الباطل نقيض الحق وهو ما لا ثبات له عند الفحص عنه، قال تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ ) .

اقول: إنّ الحقّ والباطل قد يوصف بهما الاعتقاد واُخرى نفس الواقع الخارجي مع قطع النظر عن الاعتقاد به، فاذا قدّر للشيء نوع من الوجود أو نوع من

__________________

(١) بناء على انّ المراد من الحق الأوّل هو الله سبحانه على انّ التقدير فالحق اقسم به، وفيه أقوال.

(٢) مقاييس اللغة: ج ٢، ص ١٥ ـ ١٧.

١٩٠

الوصف ثمّ قيس إلى الخارج وكان الخارج على وفق ما قدّر ووصف كان الاعتقاد حقّاً والقضيّة الذهنيّة حقّة، وأمّا إذا لم يكن كذلك يكون الاعتقاد باطلاً والقضية باطلة.

قال سبحانه:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( البقرة / ٢١٣ ). اي هداهم إلى العقائد الحقّة المطابقة لنفس الأمر.

هذا إذا وقع الحق والباطل وصفين للإعتقاد والقضيّة الذهنيّة، وأمّا إذا وقعا وصفين لنفس الأمر والواقع الخارجي فتوصيفه بهما يدور مدار ثبوته وعدمه.

فإذا كان الواقع واجب الوجود أي ماله ثبوت لا يشوب ثبوته بطلان، ويكون ثابتاً من جميع الجهات وموجوداً على أيّ تقدير، وموصوفاً بالوجود مطلقا غير مقيّد بقيد ولا مشروطاً بشرط فهو الحقّ المطلق الذي لا يتطرّق اليه البطلان بوجه ما، والحقّ بهذا المعنى ينحصر فيه سبحانه لا غير ولأجل ذلك قال سبحانه:( أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ ) فأتى بضمير الفصل وعرّف الخبر باللام لغاية القصر أي حصر المبتدأ في الخبر، فالله سبحانه حقّ بذاته على الاطلاق بلا شرط وقيد.

أمّا إذا كان الواقع ممكن الوجود فهو حقّ بمقدار ماله من الثبوت وباطل بمقدار ما لا ثبوت له، فبما أنّ الممكن يتّصف بالوجود من جانب علّته، فيكون له الثبوت بفضلها فهو حقّ، وبما أنّه ليس له الوجود من صميم ذاته، وانّه إذا لم يكن له الموجد لبقي على العدم فهو باطل وهالك.

وهناك آيتان ناظرتان إلى ما ذكرنا أعني قوله سبحانه :

١ ـ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلّا وَجْهَهُ ) ( القصص / ٨٨ ).

٢ ـ( وَيُحِقُّ اللهُ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( يونس / ٨٢ ).

فالاية الأولى ناظرة إلى بطلان الممكن من حيث هو هو، ولأجل ذلك يحكم

١٩١

بهلاكه فعلاً ومستقبلاً فغيره سبحانه محكوم بالهلاك في جميع الأزمان، والاية الثانية ـ لو قلنا بأنّ المراد بكلماته هو أفعاله ـ ناظرة إلى أنّ كل ممكن حقّ لكن بإحقاقه سبحانه، إذ هو الذي يعطي الوجود والثبوت.

وللحكيم الفارابي كلام لا بأس بنقله: يقال: حقّ: للقول المطابق للمخبر عنه، إذا طابق القول، ويقال: حقّ للموجود الحاصل بالفعل، ويقال: حقّ للموجود الذي لا سبيل للبطلان إليه، والأوّل تعالى حقّ من جهة المخبر عنه، حقّ من جهة الوجود، وحقّ من جهة أنّه لا سبيل للبطلان إليه. لكنّا إذا قلنا: إنّه حقّ فلأنّه الواجب الذي لا يخالطه بطلان، وبه يجب وجود كل باطل.

ألا كل شيء ماخلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل(١)

وبذلك خرجنا إلى هذه النتيجه أنّه سبحانه حقّ على الاطلاق، وأمّا الممكن فبما أنّه يفقد الوجود من صميم الذات فهو باطل، وبما أنّه متصف بالوجود الظلّي والثبوت التبعي فهو حقّ، ولعلّ إلى بعض ما ذكرنا يشير قول لبيد الذي تقدّم آنفاً.

هذا حال الواجب والممكن وقد عرفت أنّ الأوّل حقّ مطلق، والثاني حقّ من جهة وباطل من جهة اُخرى، وأمّا الممتنع فهو الباطل المحض، ليس له منه حظ.

قال بعض المحقّقين: كل ما يخبر عنه فأمّا باطل مطلقاً، وأمّا حقّ مطلقا، وأمّا حقّ من وجه وباطل من وجه، فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقاً، ولا حقيقة له أصلاً، فإنّ الحقيقة هي التي بها ذو حقيقة، حقّ وثابت، لا يمكن انكاره وهي خصوصيّة وجوده الذي يثبت له، والواجب بذاته هو الحق مطلقاً، والممكن بذاته الواجب بغيره فهو حقّ من وجه وباطل من وجه آخر، فهو من حيث ذاته لا وجود له، ومن حيث استفادة الوجود من غيره موجود، فهو من هذا الوجه حقّ وثابت له حقيقة ينتهي إليها وأصل ينبعث منه ويجب وجوده به ويظهر بنوره الظاهر المظهر له

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى: ص ٢٧١.

١٩٢

فلا يكون له وجود وظهور في نفسه بل يكون وجوده وظهوره من أصله المظهر بايجاب وجوده المحقّق لحقيّته وثباته، والممكن من جهة نفسه باطل ولذلك قال:( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلّا وَجْهَهُ ) (١) .

وبذلك يعلم أنّ قوله سبحانه:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( لقمان / ٣٠ ). من غرر الآيات القرآنية، تشتمل على معارف إلهيّة نشير إلى إجمالها :

١ ـ إنّ الحقّ المطلق ثابت لله سبحانه وإنّه لا يوصف به إلّا هو.

٢ ـ إنّ الأصنام والأوثان التي كانت العرب عابدة لها ليس لها من الألوهية شيء، فهي من هذا الجانب باطل محض لا تملك منها شيئاً إلّا الإسم وهذا لا ينافي أن يوصف بالحقّ من حيث أنّ لها درجة من الوجود ككونها جماداً أو نباتاًً أو حيوانا غير أنّ محور البحث كونها آلهة فهي في هذا النظر لا توصف إلّا بالبطلان.

٣ ـ إنّ توصيفه سبحانه بالعليّ في الآية يشير إلى صفاته السلبية ويفيد تنزّهه عمّا لا يليق بساحته فالله سبحانه حقّ منزّه عن كل نقص من الجهل والعجز والزمان والمكان والجسم، فما يدعون من الآلهة ليس لهم من الحقيقة شيء ولا إليهم من الخلق والتدبير شيء، ولا إليهم شيء ممّا يعدّ فعلاً للربّ ككونهم مالكين للمغفرة والشفاعة.

٤ ـ إنّ توصيفه سبحانه بالكبير إشارة إلى صفاته الثبوتية ويفيد سعة وجوده واشتماله على كل كمال وجودي وهو مجمع الصفات الكمالية والجمالية، فهي الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال فهو الله عزّ اسمه.

وعلى ذلك فلحق في الآية وفي كل ما وقع وصفاً له سبحانه يعادل واجب الوجود و « العليّ » يقوم مقام الصفات السلبية و « الكبير » يقوم مقام الصفات الثبوتية.

__________________

(١) كتاب كاشف الأسماء في شرح الأسماء الحسنى في اسم الحق.

١٩٣

توصيف الفعل بالحق

إنّ الحقّ كما يوصف به نفس الواجب وذاته فكذلك يوصف به فعله سبحانه لكن بلحاظ آخر قال سبحانه:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَٰلِكَ إلّا بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ( يونس / ٥ ).

أفعاله سبحانه معلّلة بالاغراض

إنّ الذكر الحكيم يصف كثيراً من أفعاله سبحانه بقوله: « بالحق » وبذلك يشير إلى أنّ أفعاله أفعال حكيمة مصونة عن العبث واللغو، ولأجل ذلك ذهبت العدلية إلى أنّ افعاله معلّلة بالاغراض خلافاً للاشاعرة، فإذا كان الهادي في مجال العقائد هو الكتاب فآياته صريحة في ذلك، يقول سبحانه :

( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) ( المؤمنون / ١١٥ ).

وقال عزّ من قائل:( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) ( الدخان / ٣٨ ).

ويقول سبحانه:( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ( ص / ٢٧ ).

وقال سبحانه:( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ ) ( الذاريات / ٥٦ ).

والمراد في المقام هو إيجاده بحسب مقتضى الحكمة وبالتالي نزاهة فعله من العبث واللغو، وبذلك يعلم معنى ما يقال: انّ فعله سبحانه كلّه حقّ كما يعلم سرّ اقتران لفظة « بالحق » بكثير من أفعاله التي جاءت في الذكر الحكيم، قال سبحانه:( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ

١٩٤

جَدِيدٍ ) ( إبراهيم / ١٩ ). وتعرب الآية عن أنّ هنا صلة بين خلق السموات والأرض ووجود الإنسان في هذا الكوكب فقال سبحانه:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ) ( النحل / ١٠٢ ). أفيمكن توصيف الفعل العاري عن الغرض والهدف حتى ما يُرجع إلى المخلوق بأنّه نزّل بالحقّ ؟

والعجب أنّ الأشاعرة وعامّة أهل الحديث الذين يلتزمون التعبّد بظاهر النصوص تعبداً حرفياً قد خرجوا في هذا المقام عن هذا الأصل وقالوا بعدم كون أفعاله معلّلة بالأغراض فماذا جوابهم تجاه هذه الآيات وتكرّر « بالحق » وصفاً لفعله ؟ لا أدري ولا المنجّم يدري.

هلمّ معي ندرس ما ذكره العقليون من الأشاعرة :

١ ـ قالوا: « لو كان فعله تعالى تابعاً لغرض لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الكمال »(١) .

إنّ المستدلّ خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل والغرض الراجع إلى الفعل فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني، والقائل بكون أفعاله تابعة للأغراض والغايات والدواعي والمصالح إنّما يعني به الثاني دون الأوّل، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنيّاً بالذات وغنيّاً في الصفات وغنيّاً في الأفعال، والغرض بالمعنى الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً وكونه سبحانه عابثاً ولاهياً، فالجمع بين كونه غنيّاً غير محتاج إلى شيء، وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللغو يتحقق بالقول باشتمال أفعاله على مصالح وحكم ترجع إلى العباد والنظام لا إلى وجوده وذاته.

٢ ـ قالوا: إنّ العلّة الغائيّة هي احدى أجزاء العلّة التامّة ويراد منها في مصطلح

__________________

(١) المواقف « للقاضي عضد الدين »: ص ٢٣١.

١٩٥

الحكماء ما يخرج بها الفاعل من القوّة إلى الفعل ومن الامكان إلى الوجوب، فهي السبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل، مثلا النجّار لا يقوم بصنع الكرسي إلّا لغاية مطلوبة ولولا تصوّرها لبقى على كونه فاعلاً بالقوّة، فلو كان لأفعاله سبحانه غاية لزم كونه ناقص الفاعليّة في ذاته، وتامّ الفاعليّة بغاية الفعل فيحتاج في فاعليّته إلى شيء وراء ذاته.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكروه في تفسير العلّة الغائية حقّ لا غبار عليه وقد أخذته مفكّروا الأشاعرة من الفلاسفة واستغلوه في غير موضعه، وخرجوا بهذه النتيجة: إنّ فعله سبحانه عار عن أية غاية وغرض وجعلوا فعله كفعل العابثين واللاعبين يفعل بلا غاية ويعمل بلا غرض، والعلّة الغائيّة بهذا المعنى تنطبق على وجود الغرض للفاعل، ولا تنطبق على وجود الغرض للفعل، وقد عرفت أنّ القائلين بتبعيّة أفعاله للأغراض إنّما يعنون القسم الثاني دون الأوّل، فلا شكّ انّه سبحانه تامّ الفاعلية بالنسبة إلى كلا الفعلين: ما يترتب عليه الغرض وما لا يترتب عليه الغرض لعموم قدرته، لكن كونه حكيماً يصدَّه عن اختيار القسم الثاني، فلا يختار من الأفعال الممكنة إلّا ما يناسب ذلك المبدأ.

وهذا كعموم قدرته للفعل المقترن بالعدل والجور كسوق المطيع إلى الجنة والنار لكن اتّصافه بالعدل يصدّه عن سوقهم إلى النار، ولا يختار إلّا الأوّل وهذا لا يعني انّه في مقام الذات والفاعلية يستكمل بهذا الغرض بل هو في مقام الفاعلية تامّ لكلا العملين، لكن عدله وحكمته وما يناسبهما تقتضي أن يختار هذا دون ذاك، فلو أنّ النافين للأغراض يفرّقون بين الغرضين لما تطرفوا في نفي اقتران فعله بالغرض.

وبذلك يعلم المراد من انتخاب الأصلح وانّه لا يخلق إلّا الأصلح ويترك اللغو والعبث، وليس المراد من ذلك تحديد قدرته ومشيئته من جانب العبد بل العبد يستكشف من خلال صفاته وكمالاته، إنّه لا يختار إلّا الأصلح والأولى مع عموم قدرته على كلا الطرفين، وأظنّ أنّ المسائل الكلامية لو طرحت في جو هادئ

١٩٦

فربّما ينتظم الكلّ في أكثر المسائل في صف واحد ويذوب الاختلاف في كثير من المسائل.

الواحد والثلاثون « الحليم »

قد ورد لفظ « الحليم » مرفوعاً ومنصوباً ١٥ مرّة ووصف به سبحانه كما وصف به بعض أنبيائه كإبراهيم الخليل وشعيب النبيّ، وقد جاء وصفاً له سبحانه في (١١) مورداً وجاء مقترناً بلفظ « غفور » تارة و « عليم » ثانياً و « غني » ثالثاً قال سبحانه:( وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) ( آل عمران / ١٥٥ ).

وقال سبحانه:( وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ) ( الأحزاب / ٥١ ).

وقال سبحانه:( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) ( البقرة / ٢٦٣ ).

قال ابن فارس: « الحلم » له اُصول ثلاثة: الأوّل: ترك العجلة، والثاني: تثقّب الشيء، والثالث: رؤية الشيء في المنام، وهي متباينة جدّاً تدلّ على أنّ بعض اللغة ليس قياساً وإن كان أكثره منقاساً.

فالأوّل « الحلم » خلاف الطيش، والثاني قولهم: حلم الأديم إذا تثقّب وفسد، والثالث قد حلم في نومه حلماً.

قال الراغب: « الحلم » ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وجمعه أحلام قال تعالى:( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَٰذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) ( الطور / ٣٢ ).

وقيل: معناه عقولهم وليس الحلم في الحقيقة هو العقل لكن فسّروه بذلك لكونه من مسببّات العقل.

الظاهر أنّ المراد من توصيفه سبحانه بالحليم في المقام هو الذي لا يعجل

١٩٧

بالانتقام، يقول سبحانه:( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) ( فاطر / ٤٥ ).

وقال سبحانه:( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ) ( الكهف / ٥٨ ).

وهو يجري على الله سبحانه بهذا المعنى وأمّا ما ذكره « الراغب » بأنّه ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، فإنّما هو من خصائص الإنسان الحليم، وليس من صميم معناه حتى يتوقّف توصيفه سبحانه به على تجريده من معناه اللغوي.

قال الصدوق: معناه حليم عمّن عصاه لا يعجل عليهم بعقوبته(١) .

وقال الكفعمي: الحليم ذوالحلم والصفح الذي يشاهد معصية العصاة ثمّ لا يسارع إلى الانتقام مع غاية قدرته، ولا يستحقّ الصافح مع العجز اسم « الحليم » إنّما الحليم هو الصفوح مع القدرة.

ثمّ إنّ الرازي ذكر هنا كلاماً فقال من لا يعجل الانتقام إن كان على عزم أن ينتقم بعد ذلك فهذا يسمّى حقوداً، وإن كان على عزم أن لا ينتقم البتّة فهذا هو العفو والغفران، وأمّا إذا كان على عزم أن لا ينتقم لكن بشرط أن لا يظهر ذلك فهو حليم فإن أظهره كان ذلك عفوّاً »(٢) .

قال بعض المحقّقين: إنّ موقف العلم وعدم الانتصاف والانتقام فيما إذا صدر الظلم منه بالنسبة إلى حقوق الله فله ترك الانتقام مع القدرة عليه على سبيل العجلة والاسراع كي يندم ويستغفر فيُغفر فإنّه جلّ شأنه لا تضرّه المعصية ولا تنقصه المغفرة(٣) .

__________________

(١) التوحيد: ص ٢٠٢.

(٢) لوامع البينات: ص ٢٤٢.

(٣) كاشف الأسماء في شرح الأسماء الحسنى للسيد عماد الدين المتوفّي عام ١١١٠.

١٩٨

وأمّا حظّ العبد من هذا الاسم فهو انّه يمكن أن يكون الإنسان من مظاهر أسمائه فلا يعجل في الانتقام، ولأجل ذلك عدّ الحلم من محاسن الأخلاق، ولـمـّا دعا الخليل ربّه وقال:( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) ( الشعراء / ٨٤ ).

فاُجيبت دعوته بقوله:( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) ( الصافّات / ١٠١ ).

وقد وصف به « إبراهيم » الخليل و « شعيب » النبيّ في بعض الآيات كما عرفت.

الثاني والثلاثون « الحميد »

وقد ورد ذلك اللفظ في الذكر الحكيم بالرفع والنصب (١٧) مرّة وقد وصف به سبحانه في جميعها، وقد انضمّ اليه « غنيّ » تارة و « مجيد » ثانياً و « العزيز » ثالثاً و « حكيم » رابعاً و « الولي » خامساً قال سبحانه:( وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إلّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( البقرة / ٢٦٧ ).

وقال سبحانه:( رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) ( هود / ٧٣ ).

وقال سبحانه:( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) ( إبراهيم / ١ ).

وقال سبحانه:( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ( فصّلت / ٤٢ ).

وقال سبحانه:( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الحَمِيدُ ) ( الشورى / ٢٨ ).

قال ابن فارس: « الحمد له أصل واحد يدلّ على خلاف الذم يقال: حمدت

١٩٩

فلاناً أحمده، ورجل محمود ومحمداً إذا كثرت خصاله المحمودة غير المذمومة »(١) .

وقال الراغب: قوله عزّ وجلّ( إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) يصح أن يكون في معنى المحمود وأن يكون في معنى الحامد.

أقول: الحمد على ما هو المعروف: الثناء على الشخص بالفضيلة في ما يصدر منه من الأفعال الاختياريّة.

قال الصدوق: الحميد معناه المحمود وهو فعيل في معنى المفعول والحمد نقيض الذمّ ويقال: « حمدت فلاناً إذا رضيت فعله ونشرته في الناس »(٢) . وهو أخص من المدح فإنّه في مقابل كلّ جميل سواء كان اختياريّا أو تسخيرياً كما إذا مدحت اللؤلؤ بصفاته، وعلى ذلك فالحميد أمّا فعيل بمعنى الفاعل، وعندئذ يكون المراد الله الحامد فإنّه لم يزل يثني على نفسه كما في قوله:( الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وأمّا فعيل بمعنى المفعول كالقتيل بمعنى المقتول أي هو محمود بحمده لنفسه وحمد عباده له، ومنه قوله:( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) ( البقرة / ٣٠ ). ويحتمل أن يكون المراد المستحقّ للحمد والثناء.

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فيقع مظهراً له إذا كان محمود العقيدة والفعل فيستحقّ أن يثنى عليه.

وأمّا الفرق بين الحمد والشكر فسيوافيك عند البحث عن اسم الشاكر والشكور.

الثالث والثلاثون « الحي »

وقد جاءت اللفظة في الذكر الحكيم ١٤ مرّة ووقع وصفاً له في موارد أربعة قال سبحانه :

__________________

(١) مقاييس اللغة: ص ١١٠.

(٢) التوحيد: ص ٢٠٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402