الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١١

الغدير في الكتاب والسنة والأدب14%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 402

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159858 / تحميل: 3940
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١١

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ما أعيى هذا الملك [ المأخوذ فيه البأس والشدَّة من الله شديد البطش ] حتّى تمكّن منه إنسانٌ فصفعه وفقأ عينه؟ ثمَّ لم يزل الخوف مزيج نفسيّته حتّى تخفّى عن الّذين هم في قبضته، ورهن تصرّفه، حيث وكّل بهم وبقبض أرواحهم، ولا كرامة لهم على الله ككرامة موسى النبيّعليه‌السلام فيحاذر الصفعة منهم.

وإن تعجب فعجبٌ انَّ مرسل ملك الموت وهو الله سبحانه لِم لَم يعطه بأساً يفوق كلَّ بأس وهو يعلم مَن خلق، وانَّ فيهم مَن يجرأ على رسوله فيصفعه فيفقأ عينه، وفيهم مَن يخافه الرَّسول فيخفي نفسه عنه؟ أكان ذلك غفلة؟ أم أنَّ خزانة القدرة قد نفدت؟ أم لم يكن يعلم ما يقع - وهو علّام الغيوب - حتّى وقعت الواقعة؟ أم لم يكن في صفوف الموظّفين بعالم الملكوت أيَّ تدريب حتّى يتمكّنوا مقابلة الشّدايد إلى عهد موسى، ثمَّ اطرّد التدريب بإخفاء الموظّف نفسه عند تنفيذ وظيفته؟! تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيرا.

وهلمَّ معي إلى النبيِّ المعصوم موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ونراه كيف يتجرَّأ على ملك الموت، وهو يعلم انّه رسولٌ من الله العظيم، وانّه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون، وانّه لا تُجديه الصفعة والفقأة، وعلى فرض أن يهرب عنه هذا الرَّسول أو ينسحب عنه بانتظام فإنّه يأتيه غيره أشدّ منه بأساً، لأنّ الله سبحانه مميته لا محالة، ولا مردَّ لمجري قضائه، وهب انَّه تخلّص من بأس هذا الملك فهل يتخلّص من بأس مُرسله المنتقم القهّار، وقد أثار غضبه بمجابهة ممثّله؟ أبعد الله الإفك والزّور عليه سبحانه وعلى رسوله وملائكته، وانتقم من كلِّ أفّاك أثيم.

أضف إلى ذلك كلّه ما قاله سيّدنا الحجَّة شرف الدّين العاملي في كتاب أبي هريرة ص ٨٦ ممّا لفظه:

ونحن لِمَ برئنا من أصحاب الرسّ وفرعون موسى وأبي جهل وأمثالهم ولعنّاهم بكرة وأصيلا؟ أليس ذلك لأنّهم آذوا رُسل الله حين جاؤوهم بأوامره؟ فكيف نجوّز مثل فعلهم على أنبياء الله وصفوته من عباده؟ حاشا لله انَّ هذا لبهتانٌ عظيمٌ.

ثمَّ إنَّ من المعلوم انَّ قوّة البشر بأسرهم، بل قوَّة جميع الحيوانات منذ خلقها

١٤١

الله تعالى إلى يوم القيامة لا تثبت أمام قوّة ملك الموت فكيف ( والحال هذه ) تمكّن موسىعليه‌السلام من الوقيعة فيه؟ وهلاّ دفعه الملك عن نفسه، مع قدرته على ازهاق روحه، وكونه مأموراً من الله تعالى بذلك؟

ومتى كان للملك عينٌ يجوز أن تفقأ؟!

ولا تنس تضييع حقِّ الملك وذهاب عينه ولطمته هدراً إذ لم يُؤمر الملك من الله بأن يقتصَّ من موسى صاحب التَّوراة التي كتب الله فيها: إنَّ النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والاُذن بالاُذن، والسنَّ بالسنَّ والجروح قصاص(١) ولم يعاتب الله موسى على فعله هذا بل أكرمه إذ خيَّره بسببه بين الموت والحياة سنين كثيرة بقدر ما تواريه يده من شعر الثّور.

وما أدري ما الحكمة في ذكر شعر الثّور بالخصوص؟! الخ.

هذه جملةٌ ممّا وجدنا من كرامات الإمام أحمد، وكم وكم لها من نظير؟ وأنت حدِّث العاقل بما لا تقبله عقله فإن صافقك عليه فهو معتوهٌ، لكن القوم عقلاء وقبلوها، ونحن إذا عزونا ما هو أخفُّ وأخفُّ وطئةً من هذه ممّا يساعده العقل والمنطق والإعتبار إلى أئمَّة أهل بيت الوحي عليهم السَّلام الذّين أذهب الله عنهم الرِّجس وطهّرهم تطهيرا، فهنالك الجلبة واللغط، والتركاض والصخب، وهتافٌ من شتىّ الجوانب: هذا لا يكون، هذا غير معقول، حديثٌ واه، هذا قول غلاة الشيعة، هذا قول الرافضة، هذا لا يصحُّ وإن صحَّ إسناده، إسناده صحيحٌ غير انَّ في قلبي منه شيئاً، هذا لا يصحُّ وإن جاء بألف طريق. إلى أمثال هذه التهجّمات الفارغة.

_ ٤٤ _

امام المالكية يرى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌ كلّ ليلة

ذكر الحريفيش في ( الرّوض الفائق ) ص ٢٧٠ قال: قال المثنّى بن سعيد القصير:

____________________

١ - إشارة الى الآية ٤٥ من سورة المائدة وقد وجدنا في الفقرة الـ‍ ٢٣ من الاصحاح ٢١ من اصحاحات الخروج من التوراة الموجودة فى أيدى اليهود والنصارى فى هذه الايام ما هذا لفظه: ان حصلت أذيّة تعطى نفساً بنفس، وعيناً بعين، وسناً بسن، ويداً بيد، ورجلاً برجل، وكيّا بكّي، وجرحاً بجرح، ورضا برضّ.

١٤٢

سمعت مالكاً - إمام المالكيّة - يقول: ما بتُّ ليلة إلّا رأيت النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها.

قال الأميني: هل يكذَّب الإمام في دعواه الّذي لا يُعلم إلّا من قبله؟ أو يُرمى ابن سعيد بالإفك وإن كان قصيراً؟ أو يُعاتب الحُريفيش في نقله وإن كان مصغّراً؟

وللإمام مالك موقف خطر مع الملكين العظيمين: منكر ونكير، لا يقلّ عن موقف الإمام أحمد معهما ذكره الشعراني في الميزان ١: ٤٦ قال: لمـّا مات شيخنا شيخ الإسلام الشيخ ناصر الدين اللقاني رآه بعض الصّالحين في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: لمـّا أجلسني الملكان في القبر ليسألاني أتاهم الإمام مالك فقال: مثل هذا يحتاج إلى سؤال في إيمانه بالله ورسوله؟ تنحيّا عنه، فتنحّيا عنّي.

قال الأميني: ألا من معبّر يعبّر هذه الأحلام؟ ولعلَّ كلّ فرد من المعبّرين يقول: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وإن اتَّخذها الحفّاظ كأصل مسلّم استندوا إليها عند المغالاة في الفضائل. كأنَّ الملكين لم يكن عندهما عرفان بمن يحتاج إلى سؤال في إيمانه، ولم يكن هنالك ناموسٌ مطّردٌ من المولى سبحانه يتَّبعانه، أعوذ بالله من ضئولة العقل.

_ ٤٥ _

الملكان وابو العلاء الهمدانى

قال ابن الجوزي في المنتظم ١٠: ٢٤٨: رأى شخصٌ انَّ يدين خرجتا من محراب مسجد فقال: ما هذه اليدان؟ فقيل: هذه يد آدم بسطها ليعانق أبا العلاء الحافظ - الحسن بن أحمد المتوفّى ٥٦٩ - وإذا بأبي العلاء قد أقبل، قال: فسلّمت عليه فردَّ عليَّ السَّلام وقال: يا فلان! رأيت ابني احمد حين قام على قبري يلقّنني؟ أما سمعت صوتي حين صبحت؟ على الملكين؟ فما قدرا أن يقولا شيئاً فرجعا.

نظراً إلى هذه المزعمة يجب أن يكون أبو العلاء أشجع من عمر الذي خاف النكيرين وارتعد منهما، ثمَّ لمـّا قالا له: نُم. قال: كيف أنام وقد أصابني منكما هذه الرّعدة وقد صحبت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ولعلّهما قبلا وصيَّة عمر لمـّا انشدهما أن لا يأتيا مؤمناً إلّا بصورة جميلة ففعلا، فلم يهبهما أبو العلاء فصاح عليهما، وخاشنهما الإمام

____________________

١ - مرّ تمام القصة في ص ١٤٠ من هذا الجزء.

١٤٣

أحمد، وطردهما مالك عن ناصر الدين اللقاني، أو أنّهما أتى عليهما الشّيخوخة والهرم منذ عهد الخليفة إلى هذه العصور المتأخّرة، وبلغ منهما الضعف فأخفق بسالتهما، فلم يُهب جانبهما، وإلى الغاية لم ينكشف لنا سرُّ تسليط المولى سبحانه هؤلاء الأعلام على الملكين الكريمين، وفيه اختلال النظام المقرّر المطّرد الإلـ~ـهي، نعوذ بالله من هذه المزاعم التافهة كلّها.

_ ٤٦ _

غمامة تظلّ على جنازة

قال الحافظ الجزري في طبقات القرّاء ٢: ٢٧١: توفّي ابن الأخرم محمّد بن النضر الدّمشقي سنة ٢٤١ / ٢ بدمشق قال عبد الباقي: وصلّيت عليه في المصلّى بعد صلاة الظهر وكان يوماً صائفاً وصعدت غمامة على جنازة من المصلّى إلى قبره فكانت شبه الآية.

قال الأميني:

وفي كلِّ شيىء له آيةٌ

تدلُّ على انَّه واحدُ.

_ ٤٧ _

شابّ ينظر الاذن من ربّه

ذكر الحريفيش في الرّوض الفائق ص ١٢٦ عن ذي النّون المصري انّه قال: رأيت شابّاً عند الكعبة يكثر الرّكوع والسّجود فدنوت منه وقلت له: إنِّك لتكثر الصَّلاة، فقال: أنتظر الإذن من ربّي في الإنصراف، قال: فرأيت رقعةً سقطت فيها مكتوبٌ:

من العزيز الغفور إلى عبدي الصّادق: إنصرف مغفوراً لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر.

قال الأميني: لقد جنى من نزلت إليهم هذه الرُّقاع(١) حيث لم يوصوا بالتّحفّظ عليها لتستفيد بها الاُمّة وتتبرَّك بها في أجيالها المتأخّرة وتتّخذها معتبراً عوضاً عن أن تكون خبراً، وتزدان بها متاحف الآثار، لكن لهم عذراً وهو انّهم لم يشاهدوها فلم يوصوا بها، وإنَّما هي شباكٌ طنّبت لاقتناص الأغرار من امّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

١ - وما أكثرها وألطفها؟ راجع ما مر في هذا الجزء ص ١٢١، ١٢٥، ١٣٧، وما يأتي.

١٤٤

_ ٤٨ _

شجرة امّ غيلان تثمر رطباً

قال بكر بن عبد الرّحمن رحمه الله: كنّا مع ذي النّون المصري - المتوفّى ٢٤٥ - في البادية فنزلنا تحت شجرة امّ غيلان فقلنا: ما أطيب هذا الموضع لو كان فيه رطب؟ فتبسّم ذو النّون وقال: تشتهون رطباً؟ وحرَّك الشّجرة وقال: أقسمت عليك بالّذي أنبتك وخلقك شجرة إلّا ما نثرت علينا رطباً جنيّا، ثمَّ حرّكها فنثرت رطباً فأكلنا وشبعنا، ثمَّ نمنا وانتبهنا وحرّكنا الشّجرة فنثرت علينا شوكاً.

الرَّوض الفائق ص ١٢٦، مرآت الجنان لليافعي ٢: ١٥١ وقال: ذكره خلائق من الصّالحين، ورواه عنهم كثيرٌ من العلماء العاملين.

قال الأميني: إلى المولى سبحانه نبتهل في أن يهب لأولئك الصّالحين والعلماء العاملين عقلاً وافياً يزعهم عن الخضوع للخرافات.

_ ٤٩ _

ابن ابى الجوارى فى التنّور

روى ابنا عساكر وكثير: انّ أحمد بن أبي الحواري(١) كان قد عاهد أبا سليمان الدّاراني ألّا يغضبه ولا يخالفه فجاءه يوماً وهو يحدِّث النّاس فقال: يا سيِّدي! هذا قد سجروا التنّور، فماذا تأمر؟ فلم يردّ عليه أبو سليمان لشغله بالنّاس، ثمَّ أعادها أحمد ثانية وقال له في الثالثة: إذهب فاقعد فيه. ثمَّ اشتغل أبو سليمان في حديث النّاس، ثمَّ استفاق فقال لمن حضره: إنِّي قلت لأحمد: إذهب فاقعد في التنّور وإنّي أحسب أن يكون قد فعل ذلك، فقوموا بنا إليه فذهبوا فوجدوه جالساً في التنّور ولم يحترق منه شيءٌ ولا شعرة واحدة. تاريخ ابن كثير ١٠: ٣٤٨.

ألا تعجب من ابن كثير يسجّل أمثال هذه الاُسطورة كحقايق ثابتة ثمَّ لمـّا يبلغ به السّير والبحث إلى فضيلة معقولة من فضائل أهل بيت الوحي عليهم السّلام أربد وجهه، وأزبد فمه، وعاد صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعد في السّماء، وأطلق لسانه البذيّ على مَن جاء بذلك الذكر الشّذيّ؟ كذلك يجعل الله الرِّجس على الّذين لا يؤمنون

____________________

١ - احد الاعلام يروى عنه أبو داود وابن ماجة وابو حاتم توفى ٢٤٦.

١٤٥

_ ٥٠ _

كتاب من الله الى ابن الموفّق

عن أبي الحسن عليّ بن الموفّق المتوفّى ٢٦٥ قال: خرجت يوماً لاُؤذِّن فأصبت قرطاساً فأخذته ووضعته في كمّي فأذَّنت وأقمت وصلّيت فلمّا صلّيت قرأته فإذا فيه مكتوبٌ: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم يا عليّ بن الموفَّق! تخاف الفقر وأنا ربّك؟.

تاريخ الخطيب البغدادي ١٢: ١١٢، صفة الصَّفوة لابن الجوزي ٢: ٢١٨.

كان حقّاً على الحافظين الخطيب وابن الجوزي أن يذكرا شطراً من حياة هذا الرَّجل بعد الكتاب المذكور المغمورة باليسار والنعمة لتكون تصديقاً للخبر وشاهداً على صحّة المزعمة، لكنّهما أغفلا عن ذلك فلم يقم لنا شاهدٌ ولا حجَّةٌ.

_ ٥١ _

الحوراء تكلم أبا يحيى

قال أبو يحيى زكريّا بن يحيى النّاقد(١) : إشتريت من الله حوراء بأربعة آلاف ختمة، فلمّا كان آخر ختمة سمعت الخطاب من الحوراء وهي تقول: وفيت بعهدك فها أنا الّتي قد إشتريتني.

تاريخ بغداد للخطيب ٨: ٤٦٢، المنتظم لابن الجوزي ٦: ٨، مناقب أحمد لابن الجوزي ص ٥١٠.

ليس لك أن تناقش في المدَّة التي ختم أبو يحيى فيها الأربعة آلاف ختمة، فإنَّ من الممكن عند القوم أن يختمها في بضع دقايق فإنّ أبا مدين المغربي كان يختم في اليوم واللّيلة سبعين ألف ختمة. راجع الجزء الخامس ص ٣٥.

_ ٥٢ _

دعاوى سهل بن عبد الله التسترى

ذكر الشّعراني في طبقات الأخيار ١: ١٥٨ نقلاً عن كتاب « الجواهر » لسهل بن عبد الله التستري المتوفّى ٢٨٣ انَّه قال: أشهدني الله تعالى ما في العُلى وأنا ابن ستّ سنين، ونظرت في اللّوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككت طلسم السّماء وأنا

____________________

١ - أحد الاعلام المجتهدين وأئمة الحديث من تلمذة احمد بن حنبل إمام الحنابلة توفى سنة ٢٨٥.

١٤٦

إبن تسع سنين، ورأيت في السّبع المثاني حرفاً معجماً حار فيه الجنُّ والإنس ففهمته، وحمدت الله على معرفته، وحرَّكت ما سكن وسكّنت ما تحرّك بإذن الله تعالى وأنا ابن اربع عشرة سنة.

قال الأميني: ليت شعري متى ما أشهد الله ما في العُلى نبيّه الأعظم صاحب الرِّسالة الخاتمة؟ ومتى ما نظرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اللّوح المحفوظ وفكّ طلسم السّماء؟ وهل رأى ذلك الحرف المعجم الّذي حار فيه الجنُّ والإنس وفهمه، وهل حرَّك وسكّن باذن الله؟

أيم الله انَّ هذه الأساطير المشمرجة لا يبوح بها إلّا مَن يتخبّطه الشّيطان من المسّ وإن هي إلّا سمُّ ناقع على روح الإسلام، تمسُّ كرامة الأولياء، وتشوّه سمعة الاُمّة المسلمة، وتسوِّد صحيفة تاريخها عند الاُمم، وتضحك الملأ على عقليَّة اولئك المؤلّفين الّذين جمعت بيراعهم أشتات التّاريخ الاسلاميّ.

_ ٥٣ _

سهل وجبل قاف

عن سهل بن عبد الله قال: صعدت جبل قاف فرأيت سفينة نوح مطروحة فوقه. و قيل لأبي يزيد رضي الله عنه: هل بلغت جبل قاف؟ فقال: جبل قاف أمره قريبٌ بل جبل كاف وجبل صاد وجبل عين وهي محيطةٌ بالأرض حول كلّ أرض جبل بمنزلة حائطها، وجبل قاف بهذه الأرض وهي أصغر الأرضين، وهو أيضاً أصغر الجبال، وهو جبل من زمرّدة خضراء وقيل: إنَّ خضرة السَّماء من خضرته. وروى: انَّ الدُّنيا كلّها خطوةٌ للوليِّ. وحكي: إنَّ وليّاً من أولياء الله تعالى احتاج إلى النّار فرفع يده إلى القمر فاقتبس منه جذوة في خرقة كانت معه(١) .

قال الأميني: حقّاً قيل: الجنون فنون: وأيم الله يميت القلب ويجلب الهمَّ ضياع التّاريخ الإسلاميّ بيد هؤلاء المعشوذين الّذين شوَّهوا صحائفه بأمثال هذه الترَّهات الّتي لم يُخلق مثلها في أساطير الاوَّلين.

____________________

١ - روض الرياحين لليافعى ١٧٢.

١٤٧

_ ٥٤ _

وحشيّ أتي بماء الوضوء

قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه: أوّل ما رأيت من العجائب والكرامات إنّي خرجت يوماً إلى موضع خالٍ فطاب لي المقام فيه فوجدت من قلبي قرباً إلى الله تعالى وحضرَت الصَّلاة وأردت الوضوء وكانت عادتي من صباي تجديد الوضوء لكلِّ صلاة، فكأنّي اغتممت لفقد الماء، فبينما أنا كذلك وإذا دبٌّ يمشي على رجليه كأنَّه إنسانٌ معه جرَّة خضراء قد أمسك بيديه عليها، فلمّا رأيته من بعيد توهّمت انّه آدميٌّ حتّى دنا منّي وسلّم عليَّ ووضع الجرَّة بين يديَّ، فجاءني إعتراض العلم فقلت: هذه الجرّة والماء من أين هو؟ فنطق الدبّ وقال: يا سهل! إنّا قومٌ من الوحوش قد انقطعنا إلى الله تعالى بعزم المحبّة والتوكّل، فبينما نحن نتكلّم مع أصحابنا في مسألة إذ نودينا: ألا إنَّ سهلاً يريد ماءً ليجدِّد الوضوء. فوضعت هذه الجرَّة بيدي وإذا بجنبي ملكان فدنوت منهما فصبّا فيها الماء من الهواء وأنا أسمع خرير الماء. إلى آخر القصّة. روض الرّياحين ص ١٠٤، ١٠٥.

قال الأميني: سل عن هذه العجائب الدبَّ الطلِق الذَّلِق صاحب الجرّة الخضراء، أو بقيّة الوحوش المنقطعة إلى الله بعزم المحبَّة والتوكّل، أو سل الملكين إن سهل لك السَّبيل إليهما، وإن لم تجدهما فسل عقلك واتَّخذه حكماً، واستعذ بالله من هذه الأوهام المخزية.

_ ٥٥ _

قص ّ ة فيها كرامتان

قال عبد الله بن حنيف رحمه الله: دخلت بغداد قاصداً الحجَّ ولم آكل الخبز أربعين يوماً ولم أدخل على الجنيد وكنت على طهارة فرأيت ظبياً على رأس البئر وهو يشرب وكنت عطشاناً، فلمّا دنوت إلى البئر ولَّى الظبي فإذا الماء في أسفل البئر فمشيت وقلت: يا سيِّدي مالي محلّ هذا الظبي؟ فنوديت من خلفي: جرَّبناك فلم تصبر فارجع وخذ فرجعت فإذا البئر ملآنةٌ ماءً فملأت ركوتي فكنت أشرب منه وأتطهَّر إلى المدينة ولم أنفد، ولّما استقيت سمعت هاتفاً يقول: إنَّ الظبي جاء بلا ركوة ولا حبل، وأنت

١٤٨

جئت معك الرّكوة. فلمّا رجعت من الحجِّ دخلت الجامع فلمّا وقع بصر الجنيد عليَّ قال: لو صبرت ولو ساعة لنبع الماء من تحت رجليك. الرّوض الفائق ص ١٢٧.

قال الأميني: أوهامٌ متراكمة بعضها فوق بعض، وهل ترك الجنيد للأنبياء والرّسل علماً بالمغيب لم يبح به، وهل أتي البئر العميقة وليُّ من الأولياء بلا ركوة ولا حبل كالظباء اللّاتي يفقدنهما ولا يسعهنّ التأهّب بأمثالهما، وأمّا الإنسان العادي فليس له وهو سارٍ في عالم الأسباب إلّا أن يحمل معه أدوات حاجته، هكذا خلق الله البشر، وهو ظاهر كثير من الأحاديث الشريفة. وحسبك سيرة النبيّ الأعظم والمرسلين من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وكلّهم لِلَّه أولياء، وجميعهم أفضل من ابن حنيف.

_ ٥٦ _

حلق اللحية لِلَّه

أخرج الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ١٠: ٣٧٠ قال: سمعت أبا نصر يقول: سمعت أحمد بن محمّد النهاوندي يقول: مات للشِّبلي(١) إبن كان إسمه غالباً، فجزَّت اُمّه شعرها عليه، وكان للشِّبلي لحيةٌ كبيرةٌ فأمر بحلق الجميع، فقيل له: يا استاذ! ما حملك على هذا؟ فقال: جزَّت هذه شعرها على مفقود، فكيف لا أحلق لحيتي أنا على موجود؟

قال الأميني: أهلاً بالنّاسك الفقيه، ومرحباً بالأولياء أمثال هذا المتخلّع الجاهل بحكم الشّريعة، وزهٍ بمدوِّن أخبارهم، ومنتفي آثار الأوحديِّين منهم كأبي نعيم، كيف خفي على هذا الفقيه البارع في مذهب مالك فتوى مالك وحرمة حلق اللّحية، وإصفاق بقيّة الأئمة معه على ذلك؟ كيف خفي عليه الحكم؟ وهو ذلك الفقيه المتضلّع الذي أجاب في دم الحيض المشتبه بدم الإستحاضة بثمانية عشر جواباً للعلماء، وقد جالس الفقهاء عشرين سنة(٢) ؟ وهلّا وقف وهو مدرِّس الحديث عشرين عاماً على المأثورات النبويّة الدالّة على حرمة حلق اللّحية المرويَّة من عدَّة طرق؟ منها:

١ - عن عائشة مرفوعاً: عشرٌ من الفطرة فذكر منها: اعفاء اللّحية. وجاء من

____________________

١ - أبو بكر دلف بن جحدر فقيه عالم محدث توفى ٣٣٤ / ٥.

٢ - راجع تهذيب التهذيب.

١٤٩

طريق أبي هريرة ايضاً.

صحيح مسلم ١: ١٥٣، سنن البيهقى: ١٤٩، سنن ابى داود ١: ٩، ١٠، صحيح الترمذى ١٠: ٢١٦، مشكل الاثار ١: ٢٩٧، المعتصر من المختصر ٢: ٢٢٠، طرح التثريب ١: ٧٣، نيل الاوطار ١: ١٣٥ عن احمد ومسلم والنسائى والترمذى.

٢ - عن ابن عمر مرفوعاً: اعفوا اللّحى، واحفوا الشّوارب، خالفوا المشركين. صحيح مسلم ١: ١٥٣، سنن النسائى ١: ١٦، جامع الترمذى ١٠: ٢٢١ بلفظ: احفوا الشوارب واعفوا اللحى، سنن البيهقى ١: ١٤٩ عن الصحيحين، المحلى لابن حزم ٢: ٢٢٢، تاريخ الخطيب ٤: ٣٤٥.

٣ - عن ابن عمر مرفوعاً: خالفوا المشركين، وفّروا اللّحى، واحفوا الشوارب.

أخرجه البخارى فى صحيحه، ومسلم فى الصحيح ١: ١٥٣ بلفظ: خالفوا المشركين، وحفوا الشوارب واوقوا اللحى. سنن البيهقى ١: ١٥٠، نيل الاوطار ١: ١٤١ قال: متفق عليه.

٤ - عن ابي هريرة مرفوعاً: جزّوا الشوارب، وارخوا اللّحى، وخالفوا المجوس صحيح مسلم ١: ١٥٣، سنن البيهقى ١: ١٥٠، تاريخ الخطيب ٥: ٣١٧ بلفظ: احفوا الشوارب واعفوا اللحى، زاد المعاد لابن القيم ١: ٦٣ بلفظ: قصّوا الشوارب. وفى ص ٦٤ بلفظ: جّزوا الشوارب. نيل الاوطار ١: ١٤١ عن أحمد ومسلم.

٥ - عن ابن عمر قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر باحفاء الشّوارب واعفاء اللّحى.

صحيح مسلم ١: ١٥٣، صحيح الترمذى ١٠: ٢٢١، سنن ابى داود ٢: ١٩٥، سنن البيهقى ١: ١٥١.

٦ - عن أبي امامة قال: قلنا: يا رسول الله! إنَّ أهل الكتاب يقصّون عثانينهم(١) ويوفّرون سبالهم فقال: قصّوا سبالكم، ووفّروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب. أخرجه احمد في المسند ٥: ٢٦٤.

٧ - من حديث ابن عمر في المجوس: إنَّهم يوفّرون سبالهم، ويحلقون لحاهم، فخالفوهم.

أخرجه ابن حبان فى صحيحه كما ذكره العراقى فى تخريج الاحياء للغزالى المطبوع في ذيله ج ١ ص ١٤٦.

٨ - عن أنس: احفوا الشّوارب، واعفوا اللّحى، ولا تشبّهوا باليهود.

أخرجه الطحاوى كما فى شرح راموز الحديث: ١: ١٤١.

٩ - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدَّه: إنَّ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأخذ من لحيته

____________________

١ - جمع العثنون: اللحية.

١٥٠

من عرضها وطولها.

صحيح الترمذى ١٠: ٢٢٠.

وكيف عزب عن الشّبلي ما ذهب إليه القوم من أنَّ حلق اللّحية من تغيير خلق الله الوارد في قوله تعالى:( وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ) (١) . وقد أفرط جمعٌ في الأخذ به فقال بحرمة حلق اللّحية والشّارب للمرأة ايضاً.

قال الطبري: لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها الّتي خلقها الله عليها بزيادة أو نقصٍ التماس الحسن لا للزِّوج ولا لغيره، كمن تكون مقرونة الحاجبين فتزيل ما بينهما توهم البلج أو عكسه، ومن تكون لها سنٌّ زائدة فتقلعها، أو طويلة فتقطع منها، أو لحية أو شارب أو عنفقة فتزيلها بالنتف، ومن يكون شعرها قصيراً أو حقيراً فتطوّله أو تغزّره بشعر غيرها، فكلّ ذلك داخلٌ في النهي، وهو من تغيير خلق الله تعالى. قال: ويستثنى من ذلك ما يحصل به الضّرر والأذيَّة كمن يكون لها سنٌّ زائدة أو طويلة تعيقها في الأكل، أو إصبع زائدة تؤذيها أو تؤلمها فيجوز ذلك، والرَّجل في هذا الأخير كالمرأة(٢) .

وقال القرطبّي في تفسيره ٥: ٣٩٣ في تفسير الآية: لا يجوز لها [ للمرأة ] حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت لها، لأنَّ كلَّ ذلك تغيير خلق الله.

وكيف خفي على الشِّبلي ما انتهى إلى ابن حزم الظاهري من الإجماع الّذي نقله في كتابه [ مراتب الإجماع] ص ١٥٧ على انَّ حلق جميع اللّحية مثلةٌ لا تجوز، ولا سيّما للخليفة، والفاضل، والعالم، وعدَّ في ص ٥٢ ناتف اللّحية ممَّن لا تُقبل شهادته. وهلمّ إلى كلمات أعلام الفقه:

١ - قال الحافظ العراقي في طرح التثريب ١: ٨٣: من خصال الفطرة إعفاء اللّحية، وهو توفير شعرها وتكثيره، وإنَّه لا يؤخذ منه كالشّارب. من عفا الشيئ إذا كثر وزاد. وفي الصَّحيحين من حديث ابن عمر الأمر بذلك ( اعفوا اللّحى ) وفي رواية: اوفوا. وفي رواية: وفّروا. وفي رواية: ارخوا وهي بالخاء المعجمة على المشهور وقيل بالجيم. من التّرك والتأخير، وأصله الهمزة فحذف تخفيفاً كقوله: ترجي من تشاء منهنَّ.

____________________

١ - سورة النساء: ١١٩.

٢ - فتح البارى ١٠: ٣١٠.

١٥١

واستدَّل به الجمهور على أنَّ الأولى ترك اللّحية على حالها، وأن لا يقطع منها شيىءٌ وهو قول الشّافعي وأصحابه، وقال القاضي عياض: يكره حلقها وقصّها وتحريقها.

وقال القرطبيّ في المفهم: لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قصُّ الكثير منها قال القاضي عياض: وأمّا الأخذ من طولها فحسن. قال: وتكره الشّهرة في تعظيمها كما يكره في قصّها، وجزّها قال: وقد اختلف السَّلف هل لذلك حدٌّ: فمنهم من لم يحدّد شيئاً في ذلك إلّا أنّه لا يتركها لحدّ الشّهرة ويأخذ منها، وكره مالك طولها جدّاً، ومنهم من حدَّد بما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلّا في حجّ أو عمرة.

٢ - قال الغزالي في الإحياء ١: ١٤٦: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اعفوا اللّحى. أي كثّروها وفي الخبر: إنَّ اليهود يعفون شواربهم، ويقصّون لحاهم، فخالفوهم وكره بعض العلماء الحلق ورآه بدعة. وقال في ص ١٤٨: وقد اختلفوا فيما طال منها فقيل: إن قبض الرَّجل على لحيته وأخذ ما فضل عن القبضة فلا بأس، فقد فعله ابن عمر وجماعة من التّابعين، واستحسنه الشعبى وابن سيرين، وكرهه الحسن وقتادة وقالا: تركها عافية احبّ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اعفوا اللّحى. والأمر في هذا قريب إن لم ينته إلى تقصيص اللّحية وتدويرها من الجوانب، فإنَّ الطول المفرط قد يشوِّه الخلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنبز إليه، فلا بأس بالإحتراز عنه على هذه النيّة.

٣ - قال ابن حجر في فتح الباري ١٠: ٢٨٨ عند ذكر حديث نافع: كان ابن عمر إذا حجَّ أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه: الّذي يظهر أنَّ ابن عمر كان لا يخصُّ هذا التخصيص بالنسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تشوّه فيها الصّورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه، فقد قال الطبري: ذهب قومٌ إلى ظاهر الحديث فكرهوا تناول شيىء من اللحية من طولها ومن عرضها، وقال قومٌ: إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد، ثمَّ ساق بسنده إلى ابن عمر انَّه فعل ذلك، وإلى عمر انَّه فعل ذلك برجل، ومن طريق أبي هريرة انَّه فعله، وأخرج ابو داود من حديث جابر بسند حسن قال: كنّا نعفّي السّبال إلّا في حجّ أو عمرة. وقوله: نعفّي. بضمّ اوّله وتشديد الفاء أي نتركه وافراً، وهذا يؤيِّد ما نقل عن ابن عمر فإنَّ السِّبال بكسر المهملة وتخفيف الموحّدة جمع سبلة بفتحتين وهي ما طال من شعر اللحية فأشار جابر

١٥٢

إلى أنَّهم يقصرون منها في النسك ثمَّ حكى الطبري اختلافاً فيما يؤخذ من اللّحية، هل له حدٌّ أم لا؟ فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الّذي يزيد منها على قدر الكفّ، وعن الحسن البصري: انّه يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش، وعن عطاء نحوه قال: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصِّها وتخفيفها، قال: وكره آخرون التعرّض لها إلّا في حجّ أو عمرة، وأسنده عن جماعة واختار قول عطاء، وقال: إنَّ الرجل لو ترك لحيته لا يتعرَّض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به، واستدلَّ بحدث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه انَّ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها، وهذا أخرجه الترمذي، ونقل عن البخاري انّه قال في رواية عمر بن هارون: لا أعلم له حديثاً منكراً إلّا هذا، وقد ضعّف عمر بن هارون مطلقا جماعة.

وقال عياض: يكره حلق اللّحية وقصّها وتجذيفها، وأمّا الأخذ من طولها وعرضها إذا عظمت فحسنٌ، بل تكره الشّهرة في تعظيمها كما يكره في تقصيرها كذا قال: وتعقّبه النووي بانّه خلاف ظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها قال: والمختار تركها على حالها وأن لا يتعرَّض لها بتقصير ولا غيره. وكان مراده بذلك في غير النسك لأنَّ الشافعي نقصَّ على استحبابه فيه.

وقال في ص ٢٨٩: أنكر ابن التين ظاهر ما نقل عن ابن عمر فقال: ليس المراد أنّه كان يقتصر على قدر القبضة من لحيته بل كان يمسك عليها فيزيل ما شذَّ منها فيمسك من أسفل ذقنه بأصابعه الأربعة ملتصقة فيأخذ ما سفل عن ذلك ليتساوى طول لحيته، قال أبو شامة: وقد حدث قومٌ يحلقون لحاهم وهو أشدّ ممّا نقل عن المجوس انَّهم كانوا يقصّونها. وقال النّووي: يستثنى من الأمر باعفاء اللّحى ما لو نبتت للمرأة لحية فانّه يستحبُّ لها حلقها، وكذا لو نبت لها شاربٌ أو عنفقة.

٤ - قال المناوي في [ فيض القدير ] ١: ١٩٨: اعفوا اللّحى وفّروها، فلا يجوز حلقها ولا نتفها، ولا قصّ الكثير منها، كذا في التنقيح، ثمَّ زاد الأمر تأكيداً مشيراً إلى العلّة بقوله: ولا تشبّهوا باليهود في زيّهم الذي هو عكس ذلك، وفي خبر ابن حبّان بدل اليهود: المجوس. وفي آخر: المشركين. وفي آخر: آل كسرى. قال الحافظ العراقي:

١٥٣

والمشهور أنَّه من فعل المجوس فيكره الأخذ من اللحية، واختلف السَّلف فيما طال منها فقيل: لا بأس أن يقبص عليها ويقصّ ما تحت القبضة كما فعله إبن عمر، ثمَّ جمع من التّابعين واستحسنه الشعبي وابن سيرين، وكرهه الحسن وقتادة، والأصحُّ كراهة أخذ ما لم يتشعَّث ويخرج عن السّمت مطلقا.

٥ - قال السيّد عليّ القاري في شرح الشَّفا للقاضي(١) : حلق اللّحية منهيُّ عنه، وأمّا إذا طالت زيادة على القبضة فله أخذها.

٦ - في شرح الخفاجي على الشّفا ١: ٣٤٣: وتقصير اللّحية حسنٌ كما مرَّ، و هيئته تحصل بقصِّ ما زاد على القبضة، ويؤخذ من طولها أيضاً، وأمّا حلقها فمهنيُّ عنه لأنّه عادة المشركين.

٧ - قال الشّوكاني في [ نيل الأوطار ] ١: ١٣٦: اعفاء اللّحية توفيرها كما في القاموس، وفي رواية للبخاري: وفّروا اللّحى. وفي رواية اخرى لمسلم: اوفوا اللحىّ. وهو بمعناه، وكان من عادة الفرس قصُّ اللّحية فنهى الشّارع عن ذلك وأمر باعفائها. قال القاضي عياض: يكره حلق اللّحية وقصّها وتحريقها، وأمّا الأخذ من طولها وعرضها فحسنٌ. ثمَّ نقل الأقوال في حدَّ ما زاد.

وقال في ص ١٤٢: قد حصل من مجموع الأحاديث خمس روايات: اعفوا. واوقوا. وأرخوا. وارجوا. ووفّروا. ومعناها كلّها تركها على حالها. قوله: خالفوا المجوس. قد سبق انّه كان من عادة الفرس قصُّ اللّحية فنهى الشَّرع عن ذلك.

٨ - في شرح راموز الحديث ١: ١٤١: أشار إلى العلّة في خبر ابن حبّان: المجوس بدل اليهود، وفي آخر: المشركين. وفي اُخرى: كسرى. قال العراقي: المشهور: انَّه فعل المجوس، فكره الأخذ من اللّحية، واختلف السّلف فيما طال. ثمَّ نقل الأقوال الّتي ذكرناها.

٩ - أحسن كلمة تجمع شتات الفتاوى وآراء أئمَّة المذاهب في المسئلة ما أفاده الاستاذ محفوظ في [الإبداع في مضارّ الابتداع ](٢) ص ٤٠٥ قال: ومن أقبح العادات ما اعتاده

____________________

١ - هامش شرح الخفاجى ١: ٣٤٣.

٢ - تأليف الاستاذ الكبير الشيخ على محفوظ أحد مدرسى الازهر الشريف ( الطبعة الرابعة )

١٥٤

الناس اليوم من حلق اللّحية وتوقير الشارب، وهذه البدعة كالتي قبلها سرت إلى المصريِّين من مخالطة الأجانب واستحسان عوائدهم حتّى استقبحوا محاسن دينهم وهجروا سنَّة نبيّهم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعن إبن عمر رضي الله عنه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: خالفوا المشركين وفروا اللّحى واحفوا الشوارب. وكان ابن عمر إذا حجَّ أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه. رواه البخاري وروى مسلم عن ابن عمر إيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: احفوا الشَّوارب واعفوا اللّحى [ إلى أن قال بعد ذكر عدَّة من أحاديث الباب ]: والأحاديث في ذلك كثيرةٌ وكلّها نصُّ في وجوب توقير اللّحية وحرمة حلقها والأخذ منها على ما سيأتي.

ولا يخفى أن قوله: خالفوا المشركين وقوله: خالفوا المجوس. يؤيّدان الحرمة فقد أخرج أبو داود وابن حبّان وصحّحه عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تشبَّه بقوم فهو منهم. وهو غاية في الزَّجر عن التشبّه بالفسّاق أو بالكفّار في أيّ شيء ممّا يختصّون به من ملبوس أو هيأة، وفي ذلك خلاف العلماء منهم من قال بكفره وهو ظاهر الحديث. ومنهم من قال: لا يكفر ولكن يؤدّب.

فهذان الحديثان بعد كونهما أمرين دالّان على أنَّ هذا الصّنع من هيآت الكفّار الخاصّة بهم إذ النَّهي إنّما يكون عمّا يختصّون به. فقد نهاناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التشبّه بهم عامّاً في قوله: من تشبّه. ومن افراد هذا العامّ حلق اللّحية. وخاصّاً في قوله: وفّروا اللّحى خالفوا المجوس، خالفوا المشركين.

ثمَّ ما تقدّم من الأحاديث ليس على اطلاقه فقد روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأخذ من لحيته من عرضها وطولها. وروى ابو داود والنسائي: انَّ ابن عمر كان يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكفِّ. وفي لفظ: ثمَّ يقصّ ما تحت القبضة. وذكره البخاري تعليقاً.

فهذه الأحاديث تقيّد ما رويناه آنفاً. فيحمل الإعفاء على إعفائها من أن يأخذ غالبها أو كلّها.

وقد اتَّفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللّحية وحرمة حلقها والأخذ القريب منه.

الأوَّل: مذهب الحنفيّة قال في [ الدرّ المختار ]: ويحرم على الرّجل قطع لحيته

١٥٥

وصرَّح في النهاية بوجوب قطع ما زاد على القبضة ( بالضمِّ ) وأمّا الأخذ منها وهي دون ذلك كما يفعله بعض المغاربة ومخنّثة الرّجال فلم يبحه أحدٌ. وأخذ كلّها فعل يهود الهند ومجوس الأعاجم ا ه وقوله: وما وراء ذلك يجب قطعه. هكذا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يأخذ من اللّحية من طولها وعرضها، كما رواه الإمام الترمذي في جامعه، ومثل ذلك في أكثر كتب الحنفيّة.

الثاني: مذهب السّادة المالكيّة حرمة حلق اللّحية وكذا قصّها إذا كان يحصل به مثلة. وأمّا إذا طالت قليلاً وكان القصّ لا يحصل به مثلة فهو خلاف الأولى أو مكروهٌ كما يؤخذ من شرح الرّسالة لأبي الحسن وحاشيته للعلّامة العدوي رحمهم الله.

الثالث: مذهب السّادة الشافعيَّة، قال في شرح العباب: فائدةٌ قال الشيخان: يكره حلق اللّحية. واعترضه ابن الرّفعة بأنَّ الشافعي رضي الله عنه نصَّ في الامّ على التحريم. وقال الأذرعي: الصّواب تحريم حلقها جملة لغير علّة بها. ا هـ ومثله في حاشية ابن قاسم العبادي على الكتاب المذكور.

الرّابع: مذهب السَّادة الحنابلة نصَّ في تحريم حلق اللّحية. فمنهم من صرّح بأنَّ المعتمد حرمة حلقها. ومنهم من صرَّح بالحرمة ولم يحك خلافاً كصاحب الإنصاف، كما يُعلم ذلك بالوقوف على شرح المنتهى وشرح منظومة الآداب وغيرهما.

وممّا تقدَّم تعلم أنَّ حرمة حلق اللّحية هي دين الله وشرعه الّذي لم يُشرّع لخلقه سواه، وأنَّ العمل على غير ذلك سفهٌ وضلالةٌ، أو فسقٌ وجهالةٌ، أو غفلةٌ عن هدي سيِّدنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .اهـ

نعم: لم يكن الشّبلي ولا الحافظ الّذي يثني عليه بحلق لحيته في حبِّ الله، ولا الحفّاظ الآخرون الذين أطنبوا القول حول لحية أبي بكر الصّدّيق محتاجين إلى اللّحية، بل كانوا يفتقرون إلى عقل تامّ كما جاء فيما ذكره السَّمعاني في الأنساب في [ الرّستمي ] عن مطين بن احمد قال: رأيت النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام فقلت له: يا نبيَّ الله! أشتهي لحية كبيرة. فقال: لحيتك جيّدة وأنت محتاج إلى عقل تامّ.

١٥٦

_ ٥٧ _

عمود نور من السماء الى قبر الحنبلى

ذكر ابن العماد الحنبلي في شذرات الذَّهب ٣: ٤٦ في ترجمة أبي بكر عبد العزيز بن جعفر الحنبليّ المعروف بغلام الخلّال المتوفّى سنة ٣٦٣ قال: حكى أبو العبّاس ابن أبي عمرو الشرابيّ قال: كان لنا ذات ليلة خدمة أمسيت لأجلها، ثمَّ إنّي خرجت منها نوبة الناس وتوجَّهت إلى داري بباب الأزج، فرأيت عمود نور من جوف السَّماء إلى جوف المقبرة فجعلت أنظر إليه ولا ألتفت خوفاً أن يغيب عنّي إلى أن وصلت إلى قبر أبي بكر عبد العزيز فإذا أنا بالعمود من جوف السّماء إلى القبر: فبقيت متحيّراً ومضيت وهو على حاله.

قال الأميني: أبو بكر الحنبليّ هذا هو شيخ الحنابلة وعالمهم في عصره صاحب التصانيف وهو الرّاوي عن الخلّال عن الحمصيّ عن إمام الحنابلة أحمد: انَّه سُئل عن التّفضيل فقال: مَن قدَّم عليّاً على أبي بكر فقد طعن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن قدَّمه على عمر فقد طعن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أبي بكر، ومن قدَّمه على عثمان فقد طعن على أبي بكر وعمر وعثمان وعلى أهل الشّوري والمهاجرين والأنصار.

وليت مثقال ذرّة من ذلك النّور الخياليِّ الممتدِّ من قبر الرِّجل سطع على مكمن بصيرته ابّان حياته، فلا يخضع لكلمة شيخه التافهة هذه الّتي تخالف الكتاب والسنَّة وإنَّ مقدار الرّجل ينبو عن التدخّل في هذا الشأن العظيم الّذي ليس هو من رجاله لكن ( حنَّ قِدحٌ ليس منها ) أنّى يقع قوله في التَّفضيل مع آيتي المباهلة والتطهير؟ ومقتضى الاولى اتّحاد مولانا امير المؤمنينعليه‌السلام مع صنوه النبيِّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يمكن اتّحاد شخصين فيه، وليست هي إلّا الفضائل والفواضل والمكارم والمآثُر ما خلا النبوّة فما ظنّك برجل يوازنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما ذكرناه من الفضل؟ أليس من السَّخف أن يقال: من قدَّم عليّاً. إلخ؟ ومقتضى الثّانية عصمته صلوات الله عليه عن جميع الذّنوب والمعاصي، وهل يوازي المعصوم من يجترح السيّئات ويقترف الآثام؟ لكن صاحب النّور يروي: من قدَّم عليّاً. إلخ. ولا يبالي بما يروي.

فمقتضى المقام أن يقال: من قدَّم أحداً على مولانا أمير المؤمنين فقد طعن على

١٥٧

الكتاب الكريم ومَن صدع بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن أنزله جلّت عظمته.

وأنّى يقع قول صاحب النّور المرويّ عن إمامه أحمد أمام السنَّة المتواترة الواردة من شتّى النّواحي في فضل الإمام صلوات الله عليه المتقدّمة في الأجزاء السّابقة من هذا الكتاب(١) ؟ فمن قدّمه سلام الله عليه على أبي بكر وصاحبيه فقد جاء بالحجّة البالغة، والنّور السّاطع، وأخذ بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.

_ ٥٨ _

تمرٌ ينقلب رطباً لابن سمعون

أخرج الخطيب في تاريخه ١: ٢٧٥ قال: حدَّثنا أبو بكر محمّد بن محمّد الطاهري قال: سمعت أبا الحسين ابن سمعون(٢) يذكر أنّه خرج من مدينة الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاصداً بيت المقدس، وحمل في صحبته تمراً صيحانيّاً، فلمّا وصل إلى بيت المقدس ترك التّمر مع غيره من الطّعام في الموضع الّذي كان يأوي إليه، ثمَّ طالبته نفسه بأكل الرّطب فأقبل عليها باللّائمة وقال: من أين لنا في هذا الموضع رطبٌ؟ فلمّا كان وقت الإفطار عمد إلى التمر ليأكل منه فوجده رطباً صيحانيّاً! فلم يأكل منه شيئاً، ثمَّ عاد إليه من الغد عشيّة فوجده تمراً على حالته الاولى فأكل منه.

وذكره ابن العماد في الشّذرات ٣: ١٢٦.

_ ٥٩ _

ابن سمعون يخبر عمّا يراه النائم

أخرج ابن الجوزي في المنتظم ٧: ١٩٩ من طريق أبي بكر الخطيب البغدادي عن أبي طاهر محمّد بن علي بن العلّاف قال: حضرت أبا الحسين ابن سمعون يوماً في مجلس الوعظ وهو جالسٌ على كرسيّه يتكلّم، وكان أبو الفتح القوّاس جالساً إلى جنب الكرسيِّ فغشيه النّعاس ونام، فأمسك أبو الحسين عن الكلام ساعة حتّى استيقظ

____________________

١ - وسيوافيك قول أحمد وجمع آخرين من ائمة الحديث: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالاسانيد الحسان اكثر مما جاء فى حق على بن أبى طالب. وقول حبر الامة ابن عباس: ما نزل في أحد من كتاب الله ما نزل فى على.

٢ - الواعظ الشهير الامام القدوة الناطق بالحكمة كما فى المنتظم والشذرات توفى ٣٨٧.

١٥٨

أبو الفتح ورفع رأسه فقال له أبو الحسين: رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نومك؟ قال: نعم، فقال أبو الحسين: لذلك أمسكت عن الكلام خوفاً أن تنزعج وتنقطع عمّا كنت فيه.

_ ٦٠ _

ابن سمعون وصبية الرصاص

قال إبن الجوزي في المنتظم ٧: ١٩٨: حُكي أنَّ الرّصّاص الزاهد كان يقبّل رجل إبن سمعون دائماً فلا يمنعه فقيل له في ذلك فقال: كان في داري صبيّة خرج في رِجلها الشّوكة فرأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم فقال لي: قل لابن سمعون: يضع رِجله عليها فإنّها تبرأ، فلمّا كان من الغد بكرت إليه فرأيته قد لبس ثيابه فسلّمت عليه فقال: بسم الله فقلت: لعلّ له حاجة أمضي معه وأعرض عليه في الطريق حديث الصبيّة فجاء إلى داري فقال: بسم الله. فدخلت وأخرجت الصبيّة إليه وقد طرحت عليها شيئاً فترك رجله عليها، وانصرف وقامت الجارية معافاةً فأنا اُقبّل رجله أبدا.

_ ٦١ _

ملك ينزل لابى المعالى

كان أبو المعالي البغدادي المتوفّى ٤٩٦ من الصّلحاء الزّهاد، ذكر انّه أصابته فاقةٌ شديدةٌ في شهر رمضان فعزم على الذّهاب إلى بعض الأصحاب ليستقرض منه شيئاً قال: فبينما أنا اُريده إذا بطائر قد سقط على كتفي وقال: يا أبا المعالي! أنا الملك الفلانيّ لا تمض إليه نحن نأتيك به. قال: فبكر إليَّ الرّجل.

رواه ابن الجوزي في المنتظم ٩: ١٣٦، وابن كثير في تاريخه ١٢: ١٦٣.

ألا تعجب من ابن الجوزي لا يمرُّ على منقبة من مناقب آل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا وحكم عليها بالوضع أو الضعف أو الوهن، لكنّه يرسل هذه الخزعبلات إرسال المسلّم، ولا ينبس في اسنادها ببنت شفة، ولا في متونها بما يقتضيه المقام من التنفيذ والإحالة؟ كلُّ ذلك لأنّه غالٍ فيمن يحبّهم، وقالٍ لمن يشنأهم.

_ ٦٢ _

ألله يكلم أبا حامد الغزالى

قال صاحب مفتاح السّعادة ٢: ١٩٤: قال - أبو حامد الغزالي(١) - في بعض

____________________

١ - أبو حامد محمد بن محمد الطوسى الشافعى حجة الاسلام الغزالى صاحب كتاب ( إحياء العلوم ) ولد بطوس ٤٥٠ وتوفي ٥٠٥.

١٥٩

مؤلّفاته: كنت في بدايتي منكراً لأحوال الصّالحين ومقامات العارفين حتّى حظيت بالواردات، فرأيت الله تعالى في المنام فقال لي يا أبا حامد! قلت: أو الشّيطان يكلّمني؟ قال: لا. بل أنا الله المحيط بجهاتك الستّ ثمَّ قال: يا أبا حامد! ذر أساطيرك وعليك بصحبة أقوام جعلتهم في أرضي محلّ نظري، وهم أقوامٌ باعوا الدّارين بحبّي. فقلت: بعزّتك إلّا أذقتني برد حسن الظنِّ بهم. فقال: قد فعلت ذلك والقاطع بينك وبينهم تشاغلك بحبِّ الدنيا، فاخرج منها مختاراً قبل أن تخرج منها صاغراً، فقد أمضيت عليك نوراً من أنوار قدسي، فقم وقل. قال: فاستيقظت فرحاً مسروراً وجئت إلى شيخي يوسف النسَّاج فقصصت عليه المنام فتبسّم وقال: يا أبا حامد! هذا ألواحنا في البداية فمحوناها، بلى إن صحبتني سأكحل بصر بصيرتك بأثمد التأييد حتّى ترى العرش ومَن حوله، ثُمَّ لا ترضى بذلك حتّى تشاهد ما لا تدركه الأبصار، فتصفو من كدر طبيعتك، وترتقى على طور عقلك، وتسمع الخطاب من الله تعالى - كما كان لموسىعليه‌السلام -: أنا الله ربُّ العالمين.

قال الأميني: مادح نفسه يقرءك السّلام. ليت شعري هل كان يضيق فم الشّيطان عن أن يقول: أنا الله المحيط بجهاتك الستّ، كما لم تضق أفواه المدّعين للربوبيّة في سالف الدَّهر؟ فمن اين عرف الغزالي بصرف الدَّعوى انَّه هو الله؟ ولِماذا لم يحتمل بعدُ انّه هو الشّيطان؟ وإن كان قد صدّق الرؤيا وأذعن بانَّ الله هو الذي خاطبه فلماذا لم يدع الأساطير وقد خوطب ب‍: ذر الأساطير. ولم ينسج على نول النسّاج شيخه إلّا التافهات؟ وليته كان يوجد في صيدليّة النسّاج كحلٌ آخر تحدُّ بصر الغزالي وبصيرته حتّى لا يبوء بإثم كبير ممّا في إحيائه من رياضيّات غير مشروعة محبّذة من قِبله كقصّة لصّ الحمّام وغيرها، وحديث منعه عن لعن يزيد اللّعين في باب آفات اللّسان إلى أمثاله الكثير الباطل.

وما أحدَّ أثمد النسّاج الّذي يترك من اكتحل به لا يرضى بَعد رؤيته العرش ومَن حوله، حتّى يشاهد ما لا تدركه الأبصار، ويسمع الخطاب - كما سمعه موسى -: أنا الله ربُّ العالمين؟ وأنا إلى الغاية لا أدري انَّ موسىعليه‌السلام المشارك له في السّماع هل

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية واليعقوبية، والنسطورية والمقصود أنّه أحد الثلاثة: الأب والإبن وروح القدس أي أنّه ينطبق على كل واحد من الثلاثة وهذا لازم قولهم: إنّ الأب إله، والإبن إله، والروح إله، وهو ثلاثة وهو واحد، ويمثّلون لذلك بقولهم: إنّ زيد بن عمرو إنسان فهناك اُمور ثلاثة هي زيد، وابن عمرو والإنسان، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت.

ويلاحط عليه: أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، وإنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة إعتباريّة غير حقيقيّة، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية كما في المثال بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقله.

ولأجل ذلك التجأ دعاة النصارى في الآونة الأخيرة إلى القول بأنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف وهي لا تخضع للموازين العلميّة(١) .

وقد ردّ الذكر الحكيم على ذلك بقوله:( وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) ببيان أنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية، الكثرة بوجه من الوجوه، فهو تعالى ذاته واحد وإذا اتّصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً، ولا الصفة إذا اُضيفت إليها أورثت كثرة وتعدّداً، فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل.

ويستفاد من قوله:( وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) بحكم الإتيان بلفظ ( منهم ) المشعرة بالتبعيض ـ، أنّ هناك طائفة لا يعتقدون بالتثليث ولا يقولون في المسيح إلّا إنّه عبد الله ورسوله كما عليه مسيحيّة الحبشة بعضهم أو جلّهم.

__________________

(١) الميزان: ج ٤ ص ٧٠.

٢٤١

مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث:

إنّ المسيحيّين يعتبرون أنفسهم موّحدين وإنّهم من المقتفين أثر التوحيد الذي جاءت به جميع الشرائع السماوية، ومن جانب آخر يعتقدون بالتثليث اعتقاداً جازماً، وهذان لا يجتمعان إلّا أن يكون أحد الوصفين حقيقيّاً والآخر مجازيّاً ولكنّهم ياللأسف يقولون بكونهما معاً حقيقيين، ولأجل ذلك أصبحت عندهم: ١ = ٣ وهو محال ببداهة العقل.

والقرآن الكريم ينسب التثليث إلى أقوام آخرين كانوا قبل المسيح والمسيحيّة وهؤلاء إنّما اتّبعوا اُولئك، ولعلّ الثالوث الهندي هو الأصل حيث يعتقدون بأنّ الإله الواحد له مظاهر ثلاثة: « برهما »: « الموجد »، و « فيشفو »: « الحافظ »، و « سيفا »: « المميت » فقد دان بتلك العقيدة المسيحيّون بعد رفع المسيح آماداً متطاولة، ولـمـّا جاء المتأخّرون منهم ورأوا أنّ الوحدة الحقيقية لا تخضع للكثرة كذلك حاولوا أن يصحّحوه بوجهين:

الأوّل: تفكيك المسائل الدينية عن المسائل العلميّة وأنّ الدين فوق العلم وأن مسألة ١ = ٣ وإن كانت باطلة حسب القوانين الرياضية المسلّمة ولكن الدين قبلها ونحن نعتقد بها. ولكنّه عذر أقبح من ذنب فكيف نعتنق ديناً يتصادم مع أوضح الواضحات وأبده البديهيّات.

الثاني: إنّ المعادلة الرياضية السابقة ليست باطلة وذلك لوجود نظائرها في الخارج، فإنّ الشمس بها جرم ولها نور ولها حرارة ومع ذلك فهي شيء واحد.

وهذا الإستدلال يكشف عن جهل مطبق بحقيقة الوحدة المعتبرة في حقه سبحانه فإنّ المقصود منها في حقّه هو الوحدة الحقيقية التي لا كثرة فيها لا خارجاً ولا ذهناً ولا وهماً وأين هو من وحدة الشمس التي هي وحدة إعتبارية لا حقيقية حيث تتركّب من جرم ونور وحرارة وكل منها ينقسم إلى انقسامات.

وعلى كلّ تقدير فماذا يريدون من قولهم ( إنّه إِله واحد ) وفي الوقت نفسه

٢٤٢

ثلاثة، فهل يريدون أنّ هناك أفراداً متميّزة ومتشخّصة من الإله الصادق هو عليهم صدق الكلي على الأفراد ؟

أو يريدون أنّ هناك فرداً واحداً ذا أجزاء وليس لكل واحد منها إستقلال ولا تشخّص وإنّما يتشكّل الإله من تلك الأجزاء ؟

فالفرض الأوّل يستلزم تعدّد الإله تعدّداً حقيقيّاً وهو لا يجتمع مع التوحيد بحال من الحالات.

والفرض الثاني لا يخلو إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء واجبة الوجود أو ممكنة، فعلى الأوّل يلزم منه كثرة الإله ( واجب الوجود ) وهم يدّعون الفرار منه.

وعلى الثاني يلزم أن يكون واجب الوجود محتاجاً في تحقّقه وتشخّصه إلى أجزاء ممكنة وهو كما ترى.

ولأجل ذلك نرى أنّ الذكر الحكيم ينادي ببطلان التثليث بأيّ نحو يمكن أنّ يتصوّر بقوله:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلاً ) ( النساء / ١٧١ ).

إنّ الآية تركّز على أنّ نسبة الإلوهيّة إلى المسيح من آثار الغلوّ في حقّه فلو تنزّه القوم عن هذا التمادي الفكريّ المفرط لوقفوا على سمة المثالية فيه ونفوا عنه مقام الإلوهية.

والآية تصف المسيح بالصّفات الخمس:

١ ـ عيسى بن مريم ٢ ـ رسول الله ٣ ـ كلمته ٤ ـ ألقاها إلى مريم ٥ ـ روح منه. إنّ بعض هذه الصفات المسلّمة في حق المسيح تشهد بعبوديّته وتنفي الوهيّته وإليك مزيد من التوضيح حولها:

٢٤٣

١ ـ عيسى بن مريم: وقد ورد في الذكر الحكيم ذكره عشر مرّات وبنوّته لمريم التي لا تنفك عن كونه جنيناً رضيعاً في المهد صبيّاً يافعاً و لدليل واضح على بشريّته.

٢ ـ رسول الله: ومعناه مبعوثه ومرسله وليس نفسه.

٣ ـ كلمة الله: وقد أطلق القرآن لفظ الكلمة على المسيح كما أطلقه على جميع الموجودات الإمكانية وقال:( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) ( الكهف / ١٠٩ ).

وأمّا إطلاق الكلمة على الموجودات الإمكانية لأجل وجود التشابه بين الكلمة والموجود الإمكاني فإنّ الكلمة تكشف عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني فهكذا الموجودات الإمكانية عامّة، وخلقة المسيح على وجه الإعجاز خاصّة تكشف هي الاُخرى عن علم وقدرة وسيعين وكمال لا متناه يكمن في ذاته سبحانه ولأجل ذلك يعد القرآن المسيح وجميع العوالم الإمكانية كلمات الله سبحانه.

٤ ـ ألقاها إلى مريم: إنّ الإلقاء إلى رحم الاُم آية كونه مخلوقاً وقد ذكر تفصيله في سورة مريم، الآية ١٦ إلى ٣٦ واختتمها بقوله:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( مريم / ٣٤ ).

٥ ـ وروح منه: إنّ هذا التعبير ربّما وقع دليلاً على تطرّف فكرة الاُلوهيّة في حق المسيح وهم يتخيّلون أنّ ( منه ) تبعيضية ولكنّها إبتدائية مثل قوله سبحانه:( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) ( الجاثية / ١٣ ) والمعنى أنّ السموات وما في الأرض جميعاً ناشئ منه وحاصل من عنده، ومبتدأ منه، فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصّها وآثارها. قال تعالى:( اللهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ( الروم / ١١ ).

أضف إلى ذلك أنّ ذلك التعبير لا يفوق في حقّ آدم حيث قال:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر / ٢٩ ).

٢٤٤

فقد وصف آدمعليه‌السلام بلفظة « من روحي » ولم يقل أحد بأنّه جزء من الإله.

ثمّ إنّه سبحانه ختم تلك الصفات بقوله:( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) .

سمات العبودية في المسيح:

إنّ الذكر الحكيم يستدل على عبوديته بوجوه ثلاثة:

١ ـ كيفيّة خلق المسيح واُمّه.

٢ ـ طبيعة عيشهما في المجتمع.

٣ ـ تصريح المسيح بعبوديّته.

هذه هي الوجوه التي يستدلّ بها القرآن الكريم على عبوديّته، أمّا الأوّل فقد بسط الذكر الحكيم في تناولها في سورة مريم كما مرّ وهذه الآيات تلقي الضوء على كيفيّة خلقه إلى أن توّج بالرسالة، فيقول سبحانه:

( فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ) إلى أن يقول:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) .

ولو تمّسك الخصم على عدم بشريته بأنّه ولد من غير أب فهو محجوج بخلقة آدم فقد خلق من غير اُمٍّ ووالد، قال سبحانه:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران / ٥٩ ).

وأمّا الثاني فيلمح إليه ما ورد بأنّ المسيح واُمّه كانا يعيشان شأنهما كشأن سائر بني آدم ولا يحيدان عنها قيد شعرة، قال سبحانه:( مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ

٢٤٥

الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) ( المائدة / ٧٥ ) فمن الممتنع أن يكون آكل الطعام إله العالمين.

وأمّا الثالث فيشير إليه قوله سبحانه:( لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) ( النساء / ١٧٢ ).

وليس بوسع إنسان أن ينكر عبادة المسيح وهي آية وجود المعبود له وهناك كلمة قيّمة للإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا في مناظرته مع الجاثليق، قال الإمام: يا نصراني والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمّد وما ننقم على عيسى شيئاً إلّا ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعفت أمرك وما كنت أظن إلّا أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا: وكيف ذلك ؟

قال الجاثليق: من قولك إنّ عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام والصلاة وما أفطر عيسى يوم قطّ وما نام بليل قطّ وما زال صائم الدهر قائم الليل.

قال الرضا: فلمن كان يصوم ويصلّي ؟

فخرس الجاثليق وانقطع(١) الحديث.

إنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ المسيح سوف يعترف يوم البعث بعبوديته على رؤوس الأشهاد وانّه لم يأمر قطّ الناس بعبادة نفسه:

( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / ١١٦ ).

__________________

(١) الاحتجاج: ج ٢ ص ٢٠٣ و ٢٠٤.

٢٤٦

وقال عزّ اسمه حاكياً عنه:( مَا قُلْتُ لَهُمْ إلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / ١١٧ ).

ج ـ المسيح ابن الله:

قد طرأت أزمة حادّة على خط التوحيد من قبل المشركين واليهود والنّصارى بزعم وجود الابن أو البنت لله سبحانه، فتارة جعلوا بينه وبين الجِنَّة نسباً، واُخرى اتّهموه بأنّه اتّخذ من الملائكة إناثاً، وثالثة نسبوا إليه الولد بصورة مطلقة، وقد جاء الجميع في الذكر الحكيم مشفوعاً بالردّ والنقض:

١ ـ الجن:( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ) ( الصافّات / ١٥٨ ).

وأمّا ما هذا النسب، فيحتمل أن يكون المراد نسب البنوّة والاُبوّة ولأجل ذلك كان جماعة من العرب يعبدون الجن، كما ورد في قوله سبحانه:( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ ) ( سبأ / ٤١ ).

٢ ـ الملائكة:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) ( الإسراء / ٤٠ ) ولأجل ذلك كان جماعة أيضاً من العرب تعبد الملائكة، وبما أنّهم كانوا يتخيّلون الملائكة على أنّهم خلقوا بصور جذّابة جميلة خالوا إنّهم اُناثاً قال سبحانه:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ) ( الزخرف / ١٩ ).

٣ ـ المسيح: وقد اشتهر النصارى بأنّهم جعلوا « المسيح » إبناً لله تعالى، وهذه الفكرة الخاطئة وإن لم تكن منحصرة فيهم، بل كان لليهود أيضاً مثل تلك الفكرة في حقّ « عزير » لكن النصارى أكثر، اشتهاراً بهذه النسبة، غير نافين عن أنفسهم هذا العار، واليهود يؤوّلون الفكرة بأنّه ولد فخري لا حقيقي.

والقرآن الكريم يندّد بتلك الفكرة في غير واحد من الآيات مشيراً إلى براهين

٢٤٧

عقلية محتاجة إلى التوضيح، وإليك نقل الآيات مع توضيح مضامينها:

١ ـ البقرة / ١١٦ ـ ١١٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ *بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

تريك هذه الآية كيف أنّهم نسبوا إلى الله ولداً من غير فرق بين أن يكون الناسب يهوديّاً أو مسيحيّاً، ولكنّ الآيتين تتضمّنان ردّاً لهذه النسبة، يستفاد من الإمعان في الجمل التالية:

١ ـ سبحانه. ٢ ـ بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون.

٣ ـ بديع السموات والأرض. ٤ ـ وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

وإليك شرح هذه الجمل التي يعد كل واحد منها بمثابة ردّ ونقض للفكرة الخاطئة المصرّحة بالبنوّة لله عزّ وجلّ.

أ ـ « سبحانه »: وهذه الكلمة تفيد تنزيه الله سبحانه من كل نقص وعيب وشائنة، ولأجل ذلك يأتي هذا اللفظ في آية اُخرى بعد بيان تلك النسبة الخاطئة، قال تعالى:( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) ( يونس / ٦٨ ).

واللفظة تفيد أنّ اتّخاذ الولد نقص وعيب على الله تعالى، يجب تنزيهه عنه، وذلك لأنّ اتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لأجل الإستعانة من الولد أيّام الهرم والكهولة، أو لأجل إبقاء النسل وإدامته التي تعد نوع بسط وجود للشخصية، والكل غير لائق بساحته سبحانه.

ويمكن أن يكون اللفظ مشيراً إلى أمر آخر وهو أنّ اتّخاذ الابن فرع التوالد والتناسل وهو من شؤون الموجودات المادية حيث ينتقل جزءً من الأب إلى رحم الاُم فتتّحد نطفة الأب مع البويضة في رحم الاُمّ فتخصّبها فينتج عن ذلك نشأة الجنين والله سبحانه أعلى وأجل وأنبل عن أن يكون جسماً أو جسمانيّاً.

٢٤٨

ب ـ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) :

إنّ هذه الجملة مشعرة ببرهان دامغ وهو أنّ كل ما في الكون قانت لله وخاضع لسلطته ومسخّر ومقهور له ومن هذا شأنه لا يتصوّر أن يكون له ولد وذلك لأنّ الولد يكون مماثلاً للوالد، فكما هو واجب الوجود يكون الولد مشاطراً له في ذلك، وما هو كذلك لا يمكن أن يكون مقهوراً ومسخّراً لموجود من الموجودات.

ج ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) :

أي انّه سبحانه خالق مبدع لهما وما فيهما والمراد من الإبداع هو خلقهما بلا مثال سابق ولا مادّة متقدّمة، فيكون المجموع مسبوقاً بالعدم، وما هو كذلك كيف يمكن أن يكون ولداً لله سبحانه ؟ لما عرفت من أنّ الولد يماثل الوالد في الالوهيّة ووجوب الوجود، وهو لا يجتمع مع كون السموات والأرض وما فيهما مخلوقاً حادثاً مسبوقاً بالعدم.

د ـ( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) :

وهذه الآية تفيد أنّ سنّة الله تبارك وتعالى في الإيجاد والإنشاء والخلق، وأنّه لو أراد إيجاد شيء فإنّه يوجد بلا تريّث أو تلبّث، ولكنّ الولد إنّما يتكوّن من إلتقاء النطفتين في رحم الاُم ثمّ يتكامل تدريجيّاً على إمتداد أمد بعيد وهذا لا يجتمع مع ما مرّ ذكره في السنّة الحكيمة.

ثمّ إنّ العلّامة الطباطبائي جعل الجمل الثلاث مشيرة إلى برهانين ( لا إلى ثلاثة براهين كما أوضحناه ) فقال:

إنّ قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) يشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي، بعض أجزاء وجوده ويفصله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجية فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه، وهو سبحانه منزّه عن المثل بل كل شيء ممّا في السموات والأرض مملوك له قائم الذات به قانت ذليل عنده ذلّة وجودية فكيف يكون شيء من الأشياء ولداً له

٢٤٩

مماثلاً نوعيّاً بالنسبة إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والأرض، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق فلا يشبه شيء من خلقه خلقاً سابقاً ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج والتوّصل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج فقوله:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تام، وقوله:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تام(١) .

٢ ـ الأنعام / ١٠٠ ـ ١٠٢:

( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام / ١٠٠ ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / ١٠١ ).

( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / ١٠٢ ).

وفي هذه الآيات إشارات إلى بطلان النظرية القائلة بكون الجن شركاء لله سبحانه وخرق بنين وبنات له بغير علم، وإليك بيانها:

أ ـ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) : وقد مرّ توضيح تلك الجملة في القسم الأوّل من الآيات.

ب ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : وقد تقدّم معناه أيضاً.

ج ـ( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ) : وهذه الجملة تشير إلى أنّ إتّخاذ الإبن يستلزم اتّخاذ الزوجة حتى يقع جزء من الزوج في رحم الزوجة والله

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٢٦١.

٢٥٠

سبحانه منزّه، عن أن تكون له زوجة.

د ـ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) : فإذا كان هو خالق كل شيء، والكل مخلوق له فلا يتصوّر كون المخلوق ولداً، لأنّ الولد يشاطر الوالد في الطبيعة والنوعيّة فإذا كان سبحانه واجب الوجود لاستغنى عن العلّة والخالق ولترفّع عن حيز الإمكان، والمفروض خلافه.

٣ ـ يونس / ٦٨:

( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

وهذه الآية تشتمل على مثل ما اشتملت عليه الآيات السابقة وإليك تفصيل جملها.

أ ـ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) : وقد عرفت أنّ إتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لاستعانة به في أيّام الكهولة أو لبسط نفوذ الشخصية، والله غني عن الجميع.

ب ـ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) : وفيه إشارة إلى أنّ كل ما في الكون مقهور ومسخّر فكيف يكون شيء منه ولداً له مع لزوم المماثلة بين الولد والوالد.

ج ـ( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) : وهو إشارة اُخرى إلى أنّه إنّما تبنّوا هذه الفكرة تقليداً بلا علم وبرهان، وقد تقدّم في الآيات السابقة ( بغير علم سبحانه ).

٤ ـ الكهف / ٤ و ٥:

( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا *مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا ) .

٢٥١

وفي هذه الآية إكتفاء ببرهان واحد وهو أنّ القوم يتفوّهون بذلك بلا علم لهم ولا لآبائهم.

٥ ـ مريم / ٣٥:

( مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) وفي الآية إشارة إلى برهانين أحدهما قوله( سُبْحَانَهُ ) والثاني( إِذَا قَضَىٰ ) ، وقد مرّ تفسيرهما فلا نعيد.

٦ ـ مريم / ٨٨ ـ ٩٥:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ) .

( لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) .

( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ) .

( أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا ) .

( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) .

( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) .

( لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ) .

( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) .

وقد ركّزت الآيات على برهانين:

أحدهما قولهُ:( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) وهذه الجملة واقعة مكان لفظة( سُبْحَانَهُ ) في الآيات السابقة.

وثانيهما: قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وهو يفيد نفس ما يفيده قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) في الآيات السابقة والمعنى بعد التطبيق واضح ومحصّله أنّ من في الكون عبد

٢٥٢

مسخّر لله سبحانه، وهو لا يجتمع مع كون واحد منهم ولداً له، لأنّه يقتضي المماثلة والمشاركة في الوجوب والإستغناء عن العلّة مع أنّ المفروض كونه ممكناً.

٧ ـ الأنبياء / ٢٦ و ٢٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) .

( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

فلفظة( سُبْحَانَهُ ) مشيرة إلى أنّ اتّخاذ الولد ملازم للنقص والعيب وهو سبحانه منزّه عنه.

وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) إشارة إلى ما مرّ من أنّ العبودية لا تجتمع مع البنوّة لأنّ مقتضى البنوّة، المشاركة والمسانخة مع الوالد في الطبيعة، والمفروض وجوب وجود الوالد فيكون الولد واجباً وهو محال.

٨ ـ المؤمنون / ٩١:

( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ) .

والآية تشير إلى أنّ اتّخاذ الولد ينافي التوحيد والوحدانية لأنّ الولد يجب أن يكون مماثلاً للوالد على نحو ما مرّ ذكره وعندئذ يكون إلهاً مثله، والمفروض أنّه ليس معه إله.

٩ ـ الزمر / ٤:

( لَّوْ أَرَادَ اللهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

وفي الآية إشارة إلى دحض تلك العقيدة المنحرفة باُمور ثلاثة:

أ ـ( سُبْحَانَهُ ) .

٢٥٣

ب ـ( الْوَاحِدُ ) .

ج ـ( الْقَهَّارُ ) .

أمّا الأوّل: فدلالته على نفي البنوّة مثل الآيات السابقة.

وأمّا الثاني: أعني كونه واحداً، فهو يدلّ على نفي البنوّة لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم المماثلة بين الأب والولد، فيلزم تعدّد الإله وواجب الوجود.

وأمّا الثالث: أعني كونه قهّاراً وغيره مقهوراً عليه فدلالته مثل دلالة قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وقوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) وذلك لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم أن يكون له مماثل من ذاته لأنّ الولد يماثل الوالد في النوعية والطبيعة فيلزم أن يكون الولد واجب الوجود، والمفروض أنّه مقهور ومسخّر لله سبحانه.

وأنت إذا قارنت هذه الآيات بعضها ببعض لوقفت على أنّ الجميع في المادة والمعنى وكيفيّة الإستدلال مصبوب في قالب واحد بينها كمال الإئتلاف والتناسب، والعبارات الواردة في المقام وإن كانت مختلفة المواضع ولكنّ المؤدّى والمعنى واحد، وتلك الآيات نزلت على النبيّ في ظروف مختلفة وأجواء متباينة والنبيّ لم يزل بين كونه منهمكاً في الحرب وهادئ البال في الصلح والسلم ومع ذلك يتكلّم على نسق واحد مع كونه أمّيّاً لم يقرأ قطّ ولم يكتب. صدق الله العليّ العظيم حيث قال:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء / ٨٢ ).

قسمة ضيزي:

ومن عجائب اُمورهم أنّهم اتّخذوا لأنفسهم البنين ونسبوا إلى الله عزّ وجلّ الإناث من الملائكة، قال سبحانه:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا ) ( الإسراء / ٤٠ ).

٢٥٤

وقال تعالى:( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ) ( الزخرف / ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ ـ ٢٢ ).

ثمّ إنّه سبحانه أبطل ادّعاءهم بكون الملائكة إناثاً وقال:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ( الزخرف / ١٩ ) فكيف يدّعون ما لم يشهدوه ؟!

إلى هنا تمّ حوار القرآن مع اليهود والنّصارى في اتّخاذه سبحانه ولداً من الإنس والجنّ والملائكة، وقوّة البرهان القرآني وإتقانه وتعاضد بعضه بعضاً يدلّ على أنّه وحي إلهي نزل به الروح الأمين على قلبه، وأنّى للإنسان الغارق في الحياة البدائيّة أن يأتي بمثل ذلك لولا كونه مسدّداً بالوحي، مؤيّداً بالمدد الغيبي منه سبحانه.

وإليك بقية المناظرات الواردة في القرآن الكريم.

اليهود ونقض المواثيق والعهود

حطّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رحاله بالمدينة، والتفّ حوله الأوس والخزرج، ففشى أمر الإسلام وشاع خبره وذكره بين الناس والقبائل القاطنة بأطراف المدينة، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لليهود ينبئ عن إقتراب اُفول شوكتهم في المدينة وما والاها بل في شبه الجزيرة العربية برمّتها.

وكانت اليهود في سابق عهدها تفتخر على سائر الاُمم بأنّها تقتفي أثر التوحيد وأنّ لهم كتاباً سماويّاً يجمع بين دفّتيه الأحكام الإلهية، ولكنّ تلك المفخرة أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بدعوة النبيّ الأكرم الناس كافّة إلى التوحيد الأصيل ونزول القرآن عليه، فما كانت لهم بعد إذ ذاك ميزة يمتازون بها على العرب.

وكانت اليهود لفرط حبّهم للدنيّا وزبرجها تمكّنوا من السيطرة على مقاليد أزّمة

٢٥٥

إدارة التجارة، وكان وجود الشّقة السحيقة بين الأوس والخزرج، والنزاعات القبلية بينهما، خير معين للإنفراد بإدارة دفّة القوافل التجارية، غير أنّ تلك الأرضية التي فسحت لهم المجال لتسلّم زمام التجارة فيما مضىٰ كادت تنعدم بالاُخوّة الإسلامية التي جاء بها الإسلام، فصار المتصارعان متصافيين متآخيين متآلفين في مقابل اليهود وأطماعهم.

كلّ ذلك صار سبباً لتحفيز اليهود لإثارة الشبهات حول رسالة الرسول الأكرم وبثّ السموم وتشوية معالم الرسالة الجديدة ليضعضعوا أركان الإيمان الفتي في قلوب المؤمنين بالإسلام، وقد غاب عن خلدهم أنّ سنّة الله الحكيمة تتكفّل بنصر رسله. قال سبحانه:

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر / ٥١ ).

وإليك نماذج من أسئلتهم وشبهاتهم التي أثاروها حول الرسالة النبويّة:

١ ـ إفشاء علائم النبوّة:

إنّ أوّل خطوة خطوها لأجل إيقاف مدّ الصحوة الدينية والإيمان برسالة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو إصدار مرسوم يقضي بكتمان علائم نبوّته التي وردت في التوراة حتى لا تقع للمسلمين ذريعة يتمسّكون بها ضدّهم في عزوفهم عن قبول الدعوة، وهذا ما يحكي عنه الذكر الحكيم بقوله:

١ ـ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة / ٧٦ ).

وروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا: لاتخبروهم بما

٢٥٦

في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيحاجّوكم به عند ربّكم(١) .

وردّ سبحانه عليهم بقوله:( أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) ( البقرة / ٧٧ ) فالله سبحانه يحتجّ بكتابهم عليهم سواء تفوّهوا بسمات النبيّ الأكرم المذكورة في التوراة أم لم يتفوّهوا بها على الرّغم من أنّهم كانوا يستفتحون ويستنصرون على الأوس والخزرج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مبعثه فلمّا بعثه الله من بين العرب ولم يكن من بني إسرائيل، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء ابن معرور: يا معشر اليهود اتّقوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد ونحن أهل الشرك، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث، فقال سلام بن مثكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنّا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى قوله:

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٨٩ ).

٢ ـ السؤال عن الروح الأمين:

إنّ نفراً من أحبار اليهود جاءوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: يا محمداً أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ، فإن فعلت ذلك اتّبعناك وصدّقناك وآمنّا بك، فقال لهم رسول الله: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدّقنّني ؟ قالوا: نعم، قال: فسألوا عمّا بدا لكم وممّا سألوا عنه نوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: كيف نومك ؟ فقال: تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا: فأخبرنا عمّا حرّم إسرائيل على نفسه ؟ قال: حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فصدّقوه في الإجابة عن هذاين السؤالين، ثمّ قالوا له: فأخبرنا عن الروح ،

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٢٨٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٧

قال: أنشدكم بالله وبأيّامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبرئيل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا: أللّهم نعم، ولكنّه يا محمد لنا عدوّ وهو ملك إنّما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ولولا ذلك لاتّبعناك، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم:( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ *مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٩٧ و ٩٨ )(١) .

وما ذكرنا من شأن النزول يؤيّد ما ذكرناه سابقاً من أنّ المقصود من الروح في قوله سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) ( الإسراء / ٨٥ ) هو الروح الأمين لا الروح الإنسانية، وأنّ ما اُثير حولها في التفاسير المختلفة مبني على تفسير الروح بالروح الإنسانية وهو غير صحيح.

وعلى أيّ تقدير فنصب العداء لجبرئيل نصب للعداء له سبحانه، لأنّ جبرئيل مأمور من جانبه ومبلّغ عنه هو وجميع الملائكة:( لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم / ٦ ).

٣ ـ إنكار نبوّة سليمانعليه‌السلام :

إنّ رسول الله لـمّا ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبارهم: ألا تعجبون من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يزعم أنّ سليمان بن داود كان نبيّاً، والله ما كان إلّا ساحراً، فأنزل الله تعالى في ذلك:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ( البقرة / ١٠٢ )(٢) .

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٣. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٢٤ ( طبع بيروت ).

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٠. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٣٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٨

٤ ـ كتابه إلى يهود خيبر:

كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يهود خيبر بكتاب جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه والمصدّق لما جاء به موسى على أنّ الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وأنّكم لتجدون ذلك في كتابكم:( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) .

وإنّي انشدكم بالله، وانشدكم بما أنزل عليكم وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني: هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمّد ؟ فإن كنتم لا تجدوني ذلك في كتابكم فلا كره عليكم( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فادعوكم إلى الله وإلى نبيّه(١) .

٥ ـ إنكار أخذ الميثاق منهم:

إنّ أحد أحبار اليهود قال لرسول الله: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها، وقد كانوا ينكرون العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبيّ الاُمّي، فأنزل الله سبحانه في ردّهم:( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إلّا الْفَاسِقُونَ *أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة / ٩٩ و ١٠٠ ).

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٤ ـ ٥٤٥.

٢٥٩

ولفظة « كلّما » تفيد التكرّر فيقتضي تكرّر النقض منهم(١) .

٦ ـ الإقتراحات التعجيزيّة:

وقد كان اليهود قد تقدّموا بإقتراحات تعجيزيّة على غرار ما بدر من المشركين فقد سألت العرب محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم بالله فيروه جهرة، فنزل قوله سبحانه:( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) ( البقرة / ١٠٨ ).

وقال رافع بن حريملة لرسول الله: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فيكلّمنا حتى نسمع كلامه، فنزل قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٢) .

٧ ـ تنازع اليهود والنصارى عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

لـمـّا قدم أهل نجران من النصارى على رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسىٰ وبالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارىٰ لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله في ذلك قولهم:

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( البقرة / ١١٣ ).

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٣٢٧.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٩.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402