الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١١

الغدير في الكتاب والسنة والأدب14%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 402

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159791 / تحميل: 3938
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١١

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

العباسية، وكانت شيعية، وإن لم يرها الإمامية من الشيعة. ولمْ يَقُمْ بمناصرتها الأئمة وخاصتهم، ولكنهم لم يكونوا كارهين لها، ولا ساخطين عليها، ولا عاملين على مناهضتها، ولا داعين في السر والعلانية على إحباطها، بل هم راضون بها في ذات سرهم لقضائها إذا ظفرت على المظالم الأموية، وظفرها متيقن، ولتوقعهم منها الأخذ بثاراتهم، ولتوقعهم منها أُفُقاً واسعاً لنشر تعاليمهم الدينية.

ولم يكن لهذا الفريق الصالح من آل علي وفاطمة مطمع في الخلافة، وطموح إليها، وإن كانوا أحق الناس بها ويرون كما عرفت أنها غير صائرة إليهم.

إنك لترى كيف رفض أبو عبد الله جعفر بن محمد دعوة أبي سلمة حفص بن سليمان، حين أراد صرف الدعوة عن بني العباس - بعد مقتل إبراهيم الإمام وهو بالكوفة يملك ناصية الجيش - إلى بني علي، وقد كتب إليه بذلك كما كتب إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، بل أحرق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، بحيث يرى ذلك رسول أبي سلمة. ونصح عبد الله بن الحسن، وقد جاءه بكتاب أبي سلمة، يدعوه كما دعا أبا جعفر برفض قبول الدعوة ويحذّره عقباها.

وكذلك منع محمد الباقر أخاه زيداً من الخروج على هشام بن عبد الملك، ولم يكن خروجه للطلب بالإمامة وهو يعلم أنها لأخيه الباقر، بل كان خروجه كما علّله ابن خلدون، وكما هو واقع الحال، داعياً للكتاب والسنة، وإلى جهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء، وردّ المظالم، وأفعال الخير، ونصر أهل البيت.

وقد رفض علي بن الحسين (زين العابدين) دعوة المختار له، وقد قام يطالب بثأر أبيه، وأخذ يدعو لأهل الثغور، والعهد عهد عبد الملك بن مروان، ودماء أهل بيته بعد لم تجفّ، يدعو لهم بالنصر والتمكين.

وانظر كيف حمل المأمون عليّ بن موسى الرضا على قبول ولاية عهده التي لم يقبلها مختاراً.

يعلم أئمة أهل البيت أن الأمة وقد انغمست في حمأة الدنيا، وألقت

٦١

إليهم الأرض الغضّاء بأفلاذ أكبادها، وتفتحت لهم عن كنوزها، ودانت لسلطانهم الواسع الأمم والشعوب، وخفق لواؤهم على أقاليم الشرق والغرب، هيهات أن يُساسوا بعد ذلك بسياسة الإمامة الدينية، وفي هذه السياسة وقد اشرأبت أعناق المسلمين إلى الدنيا، وما العهد عن سياسة النبوّة الدينية وعن سياسة الخلفاء الراشدين ببعيد، ساور الانتقاض من هنا وهناك خلافة جدهم علي، وما كان يجهل أفانين السياسة وضروبها، وما كان بالجبان ولا بالعاجز الوكل.

كل ذلك كان من آيات فوز الدعوة العباسية على الدعوة العلوية التي لم يقم بها إلاّ فريق منهم، لا يؤيده ذلك الفريق الصالح وإن بدئت الدعوة في أول الأمر بمحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وكيف بعد توفّر هذه الأسباب لنجاح الدعوة العباسية لا يتفرّس المتفرّسون بمصير الأمر إليهم؟

على أن الدعوة العلوية الضئيلة قد حاربها دعاة بني العباس، وحسبك أن أبا مسلم داعيتهم هو الذي قتل عبد الله بن معاوية بن جعفر الذي دعا إلى نفسه بالكوفة، ثم خرج هارباً منها ومن البلاد التي بايعته بعد غلبته إلى خراسان.

وإنك لترى مثل هذا التفرّس والإرهاص لدولة قامت، فترى مثله لبني أمية، وبني بويه، ولكافور الاخشيدي، ولبني إدريس، وللفاطميين.

وسواء أصح كل ما تفرّس به المتفرّسون أم لم يصحّ، فإن من مجموع ما ذكرناه من حديث وخبر، ومن أسباب قريبة وبعيدة، ومن سياسة رشيدة كان يقوم بها بنو العباس ومن انضمّ إليهم من بني علي وشيعتهم، واتساع خراسان الإقليم الواسع لنشر الدعوة وهو الإقليم الذي لم تغمره العصبيّة للقبيل الأمويّ، جعلت لتلك الإرهاصات وذلك التفرس مكانهما من الإصابة.

والله غالب على أمره وإليه مصير الأمور.

٦٢

تاريخ الفاطميين

دول الشيعة العلويين في المغرب

قال ابن خلدون(١) : (بعد إلمامة قصيرة بما جرى لشيعة علي (عليه السلام) بالكوفة، ومَوجِدتِهم على الحسن، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، ومقتل من كان يتولى كِبَر ذلك كحِجْر بن عَدِيّ وأصحابه، واستدعاء الكوفيين الحسين، بعد وفاة معاوية، ومقتله، وندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، وخروجهم بعد وفاة يزيد، وبيعة مروان، ثم خروج المختار بن أبي عُبَيْد الثقفي للمطالبة بدم الحسين (عليه السلام)، ودعوته لمحمد بن الحنفيّة، واتّباع جموعة من الشيعة له، وقتل المختار لزياد، ثم نقمة محمد بن الحنفية عليه من أحوالٍ بلغته عنه، وكتابته إليه بالبراءة منه)، إلى أن قال:

(ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك، فقتله صاحب الكوفة يوسف بن عمر وصلبه، وخرج إليه ابنه يحيى بالجوزجان من خراسان، فقتل وصلب كذلك، وطّلّت دماء أهل البيت في كل ناحية)(١) .

إلى أن قال:

(ثم اختلف الشيعة وافترقت مذاهبهم في مصير الإمامة إلى العلوية، وذهبوا طرائق قِدَداً، فمنهم الإمامية القائلون بوصية النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي بالإمامة، ويسمونه الوصي بذلك، ويتبرؤون من الشيخين لما منعوه حقه بزعمهم،

____________________

(١) ملخص عن المجلد الرابع من تاريخ ابن خلدون.

٦٣

وخاصموا زيداً بذلك حين دعا بالكوفة. ومن لم يتبرأ من الشيخين رفضوه فسمّوا بذلك رافضة.

ومنهم الزيدية القائلون بإمامة بني فاطمة لفضل علي وبنيه على سائر الصحابة، وعلى شروط يشترطونها، وإمامة الشيخين عندهم صحيحة، وإن كان علي أفضل، وهذا مذهب زيد وأتباعه وهم جمهور الشيعة وأبعدهم عن الانحراف والغلو.

ومنهم الكيسانية نسبة إلى كيسان، يذهبون إلى إمامة محمد بن الحنفية وبنيه من بعد الحسن والحسين، ومن هؤلاء كانت شيعة بني العباس القائلون بوصية أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالإمامة.

وانتشرت هذه المذاهب بين الشيعة، وافترق كل مذهب منها إلى طوائف بحسب اختلافهم. وكان الكيسانية شيعة بني الحنفية أكثرهم بالعراق وخراسان.

ولما صار أمر بني أمية إلى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سرّاً لمحمد بن عبد الله بن حسن المثنى بن الحسن بن علي وسلم له جميعهم. وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم لما علموا له من الفضل عليهم.

ولهذا كان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله يحتجّان إليه حين خرج من الحجاز.

ويريدون أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصية من زيد بن علي.

وكان أبو حنيفة يقول بفضله ويحتج إلى حقه، فتأدت إليه المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب على الفتيا في طلاق المكره، وحُبس أبو حنيفة على القضاء.

ولما انقرضت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس، وصار الأمر لأبي جعفر المنصور، سعى عنده ببني حسن، وإن محمد بن عبد الله يروم

٦٤

الخروج، وإن دعاته ظهروا بخراسان، فحبس المنصور لذلك بني حسن وأخوته حسن وإبراهيم وجعفر وعلي القائم وابنه موسى بن عبد الله وسليمان وعبد الله ابن أخيه داود، ومحمد وإسماعيل وإسحق بني عمه إبراهيم بن الحسن، في خمسة وأربعين من أكابرهم، وحُبسوا بقصر ابن هبيرة ظاهر الكوفة حتى هلكوا في حبسهم، وأرهبوا لطلب محمد بن عبد الله، فخرج بالمدينة سنة خمس وأربعين، وبعث أخاه إبراهيم إلى البصرة فغلب عليها وعلى الأهواز وفارس، وبعث الحسن بن معاوية إلى مكة فملكها، وبعث عاملاً إلى اليمن، ودعا لنفسه وخطب على منبر النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتسمّى بالمهدي، وكان يُدعى (النفس الزكية)، وحبس عثمان بن رباح المرّي عامل المدينة، فبلغ الخبر إلى أبي جعفر المنصور فأشفقوا من أمره وكتب إليه كتابه المشهور)(١) .

ثم ذكر نص الكتاب وجواب محمد بن عبد الله وجواب المنصور إلى أن قال:

ثم عقد أبو جعفر على حربه لعيسى ابن عمه موسى بن علي، فزحف إليه في العساكر وقاتله بالمدينة فهزمه، وقتله في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين، ولحق ابنه علي بالسند إلى أن هلك هناك، واختفى ابنه الآخر عبد الله الأشتر إلى أن هلك في أخبار طويلة قد استُوفِّيناها كلها في أخبار أبي جعفر المنصور.

ورجع عيسى إلى المنصور، فجهَّزه لحرب إبراهيم أخي محمد بالعيرة(٢) ، فقاتله آخر ذي القعدة من تلك السنة فهزمه وقتله حسبما مر ذكره هنالك، وقتل معه عيسى بن زيد بن علي فيمن قتل من أصحابه.

وزعم ابن قتيبة أن عيسى بن زيد بن علي ثار على المنصور بعد قتل أبي مسلم، ولقيه في مائة وعشرين ألفاً، وقاتله أياماً إلى أن هم المنصور بالفرار. ثم أتيح له الظفر فانهزم عيسى ولحق بإبراهيم بن عبد الله بالبصرة، فكان معه هنالك إلى أن لقيه عيسى بن موسى بن علي وقتلهما كما مر.

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص٤، ٥، ٦ - دار الكتاب اللبناني.

(٢) العيرة: اسم موقع.

٦٥

ثم خرج بالمدينة أيام المهدي سنة تسع وستين من بني حسن، الحسين بن علي بن حسن المثلّث وهو أخو عبد الله بن حسن المثنّى وعم المهدي، وبويع للرضا من آل محمد، وسار إلى مكة، وكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بن علي، وقد كان قدم حاجّاً من البصرة، فولاّه حربه يوم الترْوِيَة فقاتله بفجَّة على ثلاثة أميال من مكة وهزمه وقتله، وافترق أصحابه، وكان فيهم عمه إدريس بن عبد الله، فأفلت من الهزيمة مع من أفلت منهم يومئذ، ولحق بمصر نازعاً إلى المغرب، وعلى بريد مصر يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويُعرف بالمسكين، وكان يتشيع، فعلم بشأن إدريس وأتاه إلى المكان الذي كان به مستخفياً، وحمله على البريد إلى المغرب، ومعه راشد مولاه، فنزل بوليلى سنة ست وسبعين، وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير (أوريه) من قبائل البربر وكبيرهم لعهده، فأجازه وأكرمه، وجمع البربر على القيام بدعوته، وخلع الطاعة العباسية وكشف القناع، واجتمع عليه البرابرة بالمغرب فبايعوه وقاموا بأمره، وكان فيهم مجوس فقاتلهم إلى أن أسلموا.

وملك المغرب الأقصى، ثم ملك تلمسان سنة ثلاث وسبعين، ودخلت ملوك (زِناتة) أجمع في طاعته، واستفحل ملكه وخاطب إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان، وخاطب الرشيد بذلك، فشد إليه الرشيد مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز، ويعرف بالشّماخ، وأنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب، فأجازه ولحق بإدريس مظهراً للنزوع إليه فيمن نزع من وحدان المغرب متبرئاً من الدعوة العباسية ومنتحلاً للطالبيين.

واختصه الإمام إدريس وحلى بعينه، وكان قد تأبط سماً في سنون، فناوله إياه عند شكايته من وجع أسنانه، فكان فيها فيما زعموا حتفه.

ودفن ببوليلى سنة خمس وسبعين، وفرّ الشّماخ ولحقه راشد بوادي ملوية، فاختلفا بينهما ضربتين قطع فيهما راشد يده، وأجاز الشّماخ الوادي فأعجزه.

وبايع البرابرة بعد مهلكه ابنه إدريس سنة ثمان وثمانين، واجتمعوا على القيام بأمره، ولحق به كثير من العرب من أفريقية والأندلس.

وعجز بنو الأغلب أمراء أفريقية عنه، فاستفحلت له ولبنيه بالمغرب

٦٦

الأقصى دولة، إلى أن انقرضت على يد أبي العافية وقومه مكناسة أولياء العبيديين أعوام ثلاثة عشر وثلاثمائة حسبما نذكر ذلك في أخبار البربر)(١) .

إلى أن قال:

(ثم خرج يحيى أخو محمد بن عبد الله بن حسن إدريس في الديلم سنة ست وسبعين أيام الرشيد، واشتدت شوكتهم، وسرَّح الرشيد لحربه الفضل بن يحيى فبلغ الطالقان، وتلطّف في استنزاله من بلاد الديلم على أن يشترط ما أحب، ويكتب له الرشيد بذلك خطه، فتم بينهما. وجاء به الفضل فوفى له الرشيد بكل ما أحب، وأجرى له أرزاقاً سنية، ثم حبسه بعد ذلك لسعاية كانت فيه من آل الزبير. فيقال: أطلقه بعدها ووصله بمال، ويقال: سمَّه لشهر من اعتقاله، ويقال: أطلقه جعفر بن يحيى افتياتاً فكان بسببه نكبة البرامكة، وانقرض شأن بني حسن، وخفيت دعوة الزيدية حيناً من الدهر، حتى كان منهم بعد ذلك باليمن والديلم ما نذكره والله غالب على أمره)(٢) .

الخبر عن خروج الفاطميين بعد فتنة بغداد

(كانت الدولة العباسية قد تمهّدت من لدن أبي جعفر المنصور منهم. وسلك أمر الخوارج والدعاة من الشيعة من كل جهة، حتى إذا هلك الرشيد ووقع بين بنيه من الفتنة ما وقع، وقتل الأمين بيد طاهر بن الحسين ووقع في حصار بغداد من الحرب والعبث ما وقع.

وبقي المأمون مقيماً بخراسان تسكيناً لأهلها عن ثائرة الفتن، وولّى على العراق الحسن بن سهل.

اتّسع الخرق حينئذ بالعراق، وأشيع عن المأمون أن الفضل بن سهل غلب عليه وحجره، فامتعض الشيعة لذلك وتكلموا، وطمع العلوية في التوثب على الأمر، فكان في العراق أعقاب إبراهيم بن محمد بن حسن المثنى المقتول بالبصرة أيام المنصور، وكان منهم محمد بن إسماعيل بن

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٢، ١٣، ١٤.

(٢) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٤، ١٥.

٦٧

إبراهيم، (ولقبه أبوه طباطبا لِلَكْنَةٍ كانت في لسانه أيام مرباه بين داياته)، فلُقب بها.

وكان شيعته من الزيدية وغيرهم يدعون إلى إمامته؛ لأنها كانت متوارثة في آبائه من إبراهيم الإمام جده على ما قلناه في خبره، فخرج سنة تسع وتسعين، ودعا لنفسه. ووافاه (أبو السرايا السريّ بن منصور) كبير بني شيبان، فبايعه، وقام بتدبير حربه، وملك الكوفة وكثر تابعوه من الأعراب وغيرهم.

وسرح الحسن بن سهل زهير بن المسيب لقتاله، فهزمه طباطبا، واستباح معسكره، ثم مات محمد في صبيحة ذلك اليوم فجأة، ويقال: إن أبا السرايا سمّه لما منعه من الغنائم. فبايع أبو السرايا يومه لمحمد بن محمد بن زيد بن علي زين العابدين، واستبدّ عليه. وزحفت عليهم جيوش المأمون فهزمهم أبو السرايا، وملك البصرة وواسط والمدائن.

وسرح الحسن بن سهل لحربه (هِرثَمَة بن أَعْيُن) وكان مغضباً، فاسترضاه وجهّز له الجيوش. وزحف إلى أبي السرايا وأصحابه، فغلبهم على المدائن وهزمهم وقتل منهم خلقاً.

ووجه أبو السرايا إلى مكة (الحسين الأفطس) بن الحسن بن علي زين العابدين، وإلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنَّى بن الحسن، وإلى البصرة زيد بن موسى بن جعفر الصادق، وكان يُقال له: زيد النار لكثرة من أحرق من الناس بالبصرة.

فملكوا مكة والمدينة والبصرة، وكان بمكة مسرور الخادم الأكبر، وسليمان بن داود بن عيسى. فلما أحسوا بقدوم الحسين فرّوا عنها، وبقي الناس في الموقف فوضى. ودخلها الحسين من الغد، فعاث في أهل الموسم ما شاء الله، واستخرج الكنز الذي كان في الكعبة من عهد الجاهلية، وأقرّه النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والخلفاء بعده، وقدرُهُ فيما قيل مائتا قنطار اثنتان من الذهب. فأنفقه وفرقه في أصحابه ما شاء الله.

ثم إن هرثمة واقع أبا السرايا فهزمه، ثم بحث عن منصور بن المهدي فكان أميراً معه، واتبع أبا السرايا فغلبه على الكوفة، وخرج إلى القادسية ثم إلى واسط. ولقيه عاملها وهزمه، ولحق بجلولا مغلولاً جريحاً، فقبض

٦٨

عليه عاملها وقدمه إلى الحسن بن سهل بالنَهروان، فضرب عنقه، وذلك سنة مائتين.

وبلغ الخبر الطالبيين بمكة، فاجتمعوا وبايعوا محمد بن جعفر الصادق.

وسمُّوه أمير المؤمنين، وغلب عليه ابناه علي وحسين، فلم يكن يملك معهما من الأمر شيئاً.

ولحق إبراهيم ابن أخيه موسى الكاظم بن جعفر الصادق باليمن في أهل بيته، فدعا لنفسه هنالك، وتغلّب على الكثير من بلاد اليمن، وسُمّي الجزّار لكثرة ما قتل من الناس.

وخلص عامل اليمن وهو إسحاق بن موسى بن عيسى إلى المأمون، فجهَّزه لحرب هؤلاء الطالبيين، فتوجه إلى مكة وغلبهم عليها.

وخرج محمد بن جعفر الصادق إلى الأعراب بالساحل، فاتبعهم إسحق وهزمهم، ثم طلبهم. وطلب محمد الأمان فأمنه، ودخل مكة وبايع للمأمون، وخطب على المنابر بدعوته.

وسابقته الجيوش إلى اليمن فشرّدوا عنه الطالبيين، وأقاموا فيه الدعوة العباسية.

ثم خرج (الحسين الأفطس) ودعا لنفسه بمكة، وقتله المأمون، وقتل ابنيه عليّاً ومحمداً.

ثم إن المأمون لما رأى كثرة الشيعة واختلاف دعائهم، وكان يرى مثل رأيهم أو قريباً منه في شأن عليٍّ والسبطين، فعهد بالعهد من بعده لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق سنة إحدى ومائتين.

وكتب بذلك إلى الآفاق، وتقدم إلى الناس، فنزع السواد ولبس الخضرة. فحقد بنو العباس ذلك من أمره، وبايعوا بالعراق لعمّه إبراهيم بن المهدي سنة اثنتين ومائتين. وخطب له ببغداد، وعظمت الفتنة.

وشخص المأمون من خراسان متلافياً أمر العراق، وهلك علي بن موسى في طريقه فجأةً، ودفن بطوس سنة ثلاث ومائتين. ووصل المأمون إلى

٦٩

بغداد سنة أربع ومائتين، وقبض على عمه إبراهيم وعفا عنه وسكّن الفتنة.

وفي سنة تسع ومائتين خرج باليمن عبد الرحمان بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، يدعو للرضا من آل محمد، وبايعه أهل اليمن، وسرّح إليه المأمون مولاه ديناراً، واستأمن له فأمنه، وراجع الطاعة.

ثم كثر خروج الزيدية من بعد ذلك بالحجاز والعراق والجبال والديلم، وهرب منهم إلى مصر خلق، وأُخذ منهم خلق.

وتتابع دعاتهم، فأول من خرج منهم بعد ذلك محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين، هرب خوفاً من المعتصم سنة تسع عشرة ومائتين، وكان بمكان من العبادة والزهد، فلحق بخراسان ثم مضى إلى الطلقان، ودعا بها لنفسه، واتبعته أمم الزيدية كلهم.

ثم حاربه عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه وقبض عليه وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات. ويقال: إنه مات مسموماً.

ثم خرج عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه وقبض عليه وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات. ويقال: إنه مات مسموماً.

ثم خرج من بعده الكوفة أيضاً الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين الأعرج بن علي بن زين العابدين، واجتمع إليه الناس من بني أسد وغيرهم من جموعه وأشياعه، وذلك سنة إحدى وخمسين ومائتين.

وزحف إليه (ابن بشكال) من أمراء الدولة فهزمه، ولحق بصاحب الزنج، فكان معه.

وكاتبه أهل الكوفة في العود إليه، وظهر عليه صاحب الزنج فقتله.

وكان خروج صاحب الزنج بالبصرة قبله بقليل، واجتمعت له جموع العبيد من زنج البصرة وأعمالها، وكان يقول في لفظه من أعلمه: إنه من وُلد عيسى بن زيد الشهيد، وأنه علي بن محمد بن زيد بن عيسى، ثم انتسب إلى يحيى بن زيد الشهيد. والحقّ أنه دعي النسب في أهل البيت كما نذكره في أخباره.

وزحف إليه الموفّق أخو المعتمد، ودارت بينه وبينهم حروب إلى أن قتله ومحا أثر تلك الدعوة كما قدمناه في أخبار الموفّق ونذكره في أخبارهم.

٧٠

ثم خرج في الديلم من وُلده الحسن بن زيد بن الحسن السبط الداعي المعروف بالعلوي، وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن، خرج لخمس وخمسين ومائتين، فملك طَبَرْستانَ وجَرْجان وسائر أعمالها. وكانت له ولشيعته الزيدية دولة هناك. ثم انقرضت آخر المائة الثالثة، وورثها من وُلد الحسن السبط،ثم من وُلده عمر بن علي بن زين العابدين الناصر الأطروش، وهو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر، وهو ابن عم صاحب الطالقان.

أسلم الديلم على يد هذا الأطروش، وملك بهم طبرستان وسائر أعمال الداعي، وكانت له ولبنيه هناك دولة، وكانوا سبباً لملك الديلم البلاد وتغلبهم على الخلفاء، كما نذكر ذلك في أخبار دولتهم.

ثم خرج باليمن من الزيدية من وُلد القاسم الرسيّ بن إبراهيم طباطبا أخي محمد صاحب أبي السرايا عام ثمانية وثمانين ومائتين، يحيى بن الحسين بن القاسم الرسّي، فاستولى على صعدة، وأورث عقبه فيها ملكاً فاقياً لهذا العهد، وهي مركز الزيدية في أخبارهم. وفي خلال ذلك خرج بالمدينة الأخوان محمد وعلي ابنا الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم، وعاثا في المدينة عيثاً شديداً، وتعطّلت الصلاة بمسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) نحواً من شهر، وذلك سنة إحدى وسبعين ومائتين.

ثم ظهر في المغرب من دعاة الرافضة (أبو عبد الله الشيعي) في (كتامة) من قبائل البربر عام ستة وثمانين ومائتين، داعياً لعبيد الله المهدي محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، فظهر على الأغالبة بالقيروان، وبايع لعبيد الله المهدي سنة ست وتسعين ومائتين، فتمّ أمره وملك المغربين، واستفحلت له دولة بالمغرب ورثها بنوه.

ثم استولوا بعد ذلك على مصر سنة ثمانٍ وخمسين وثلاثمائة، فملكها منهم (المعزّ لدين الله) معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله المهدي، وشيّد القاهرة، ثم ملك الشام واستفحل ملكه إلى أن انقرضت دولتهم على (العاضد) منهم على يد صلاح الدين بن أيوب سنة خمس وستين وخمسمائة.

٧١

ثم ظهر في سواد الكوفة(١) سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين، من دعاة الرافضة رجل اسمه الفرج بن يحيى ويُدعى (قرمط)، بكتاب زعم أنه من عند أحمد بن محمد بن الحنفيَّة فيه كثير من كلمات الكفر والتحليل والتحريم، وادّعى أن أحمد بن الحنفيَّة هو المهدي المنتظر. وعاث في بلاد السواد، ثم في بلاد الشام، وتلقب (وَكْرَوَيْه بن مَهْرَوَيْه). واستبدّت طائفة منهم بالبحرين ونواحيها، ورئيسهم أبو سعيد الجناجيّ، وكان له هناك ملك ودولة أورثها بنيه من بعده، إلى أن انقرضت أعوامهم كما يذكر في أخبار دولتهم.

وكان أهل البحرين هؤلاء يرجعون إلى دعوة العُبَيْديّين بالمغرب وطاعتهم.

ثم كان بالعراق من دعاة (الاسماعيلية) وهؤلاء الرافضة طوائف أُخرى، واستبدوا بكثير من النواحي، وتنسب إليها فيها القلاع: قلعة الموت وغيرها.

وينسبون تارة إلى (القرامطة) وتارة إلى (العبيديين). وكان من رجالاتهم الحسن بن الصبّاح في قلعة الموت وغيرها، إلى أن انقرض أمرهم آخر الدولة السلجوقية.

وكان باليمامة ومكة والمدينة من بعد ذلك دول للزيدية والرافضة، فكان باليمامة دولة لبني الأخضر وهو محمد بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنَّى. خرج أخوه إسماعيل بن يوسف في بادية الحجاز سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وملك مكة ثم مات، فمضى أخوه محمد إلى اليمامة فملكها، وأورثها لبنيه إلى أن غلبهم القرامطة.

وكان بمكة دولة لبني سليمان بن داود بن الحسن المثنّى، خرج محمد بن سليمان أيام المأمون وتسمّى بالناهض، وملك مكة، واستقرت إمارتها في بنيه إلى أن غلبهم عليها الهواشم، وكبيرهم محمد بن جعفر بن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن

____________________

(١) سواد الكوفة: ما حولها من القرى. ومنه سواد العراق لما بين البصرة والكوفة ولما حولهما من القرى.

٧٢

موسى الجون، فملكها من إبراهيم سنة أربع وخمسين وأربعمائة. وغلب بني حسن على المدينة، وداول الخطبة بمكة بين العباسيين والعبيديين. واستفحل ملكه في بنيه إلى أن انقرضوا آخر المائة السادسة.

وغلب على مكة بنو أبي قمي أمراؤها لهذا العهد، ملك أولهم أبو عزيز قتادة بن إدريس مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن موسى الجون. وورث دولة الهواشم وملكهم وأورثها بنيه إلى هذا العهد كما تذكر في أخبارهم، وهؤلاء كلهم زيدية.

وبالمدينة دولة للرافضة لولد الهناء، قال المسَبِّحي: (اسمه الحسن بن طاهر بن مسلم. وفي كتاب العُتبي مؤرخ دولة (ابن سَبَكْتكين) أن مسلماً اسمه محمد بن طاهر وكان صديقاً لكافور ويدبّر أمره وهو من ولد الحسن بن عليّ زين العابدين.

واستولى طاهر بن مسلم على المدينة أعوام ستين وثلاثمائة، وأورثها بنيه لهذا العهد كما نذكر في أخبارهم)(١) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٥ إلى ٢٣.

٧٣

الأدارسة في المغرب

مبدأ دولتهم وانقراضها

(لما خرج حسين بن علي بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن الحسن السبط بمكة في ذي القعدة سنة ست وتسعين ومائة أيام المهدي، واجتمع عليه قرابته وفيهم عماه إدريس ويحيى، وقاتلهم محمد بن سليمان بن عليّ بعجة على ثلاثة أميال من مكة، فقتل الحسين في جماعة من أهل بيته، وانهزموا وأُسر كثير منهم، ونجا يحيى بن إدريس وسليمان. ظهر يحيى بعد ذلك في الديلم. وقد ذكرنا خبره من قبل وكيف استنزله الرشيد وحبسه)(١) .

وأمّا إدريس ففر ولحق بمصر، وتم له ملك المغرب كما سبق بيانه، وقتل مسموماً (وكان قد جمل(٢) من دعوته في ابنه إدريس الأصغر من جاريته كنزة، بايعوه حملاً ثم رضيعاً ثم فصيلاً إلى أن شبّ واستتم فبايعوه بجامع (وليلى) سنة ثمان وثمانين ابن إحدى عشرة سنة. وكان ابن الأغلب دس إليهم الأموال واستمالهم حتى قتلوا راشداً مولاه سنة ست وثمانين.

وقام بكفالة إدريس من بعده أبو خالد بن يزيد بن الياس العبدي، ولم يزل كذلك إلى أن بايعوا لإدريس، فقاموا بأمره، وجردوا لأنفسهم رسوم الملك بتجديد طاعته، وافتتحوا بلاد المغرب كلها، واستوثق لهم الملك

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص٢٣.

(٢) جمل: ربما كان المقصود بها (صحف) أو (جنب).

٧٤

بها. واستوزر إدريس مصعب بن عيسى الأزدي المسمّى بالملجوم من ضربة في بعض حروبهم وَسَمَتْه على الخرطوم وكأنها خِطام(١) . ونزع إليه كثير من قبائل العرب والأندلس، حتى اجتمع إليه منهم زهاء خمسمائة، فاختصهم دون البربر، وكانوا له بطانة وحاشية، واستفحل بهم سلطانه.

ثم قتل كبير أوربة إسحاق بن محمود سنة اثنتين وتسعين لما أحسّ منه بموالاة إبراهيم بن الأغلب.

وكثرت غاشية(٢) الدولة وأنصارها وضاقت (وليلى) بهم، فاعتام موضعاً لبناء مدينة لهم، وكانت (فاس) موضعاً لبني بوغش وبني الخير من وزاعة. وكان في بني بوغش مجوس ويهود ونصارى، وكان موضع شيبوبة منها بيت نار لمجوسهم.

وأسلموا كلهم على يده، وكانت بينهم فتن، فبعث للإصلاح بينهم كاتبه أبا الحسن عبد الملك بن مالك الخزرجيّ ثم جاء إلى فاس، وضرب أبنيته بكزواوه، وشرع في بنائها، فاختطّ عدوة الأندلس سنة اثنتين وتسعين. وفي سنة ثلاث وتسعين اختطّ عدوة القرويين، وبنى مساكنه، وانتقل إليها، وأسّس جامع الشرفاء، وكانت عدوة القرويين من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء والجرف.

واستقام له أمر الخلافة وأمر القائمين بدعوته وأمر العز والملك. ثم خرج غازياً للمصامدة سنة سبع وتسعين، فافتتح بلادهم، ودانوا بدعوته، ثم غزا تلمسان وجدّد بناء مسجدها وإصلاح منبرها، وأقام بها ثلاث سنين.

وانتظمت كلمة البرابرة وزناتة، ومحوا دعوة الخوارج منهم واقتطع الغربيين عن دعوة العباسيين من لدن الشموس الأقصى إلى شلف(٣) ).

إلى أن قال:

____________________

(١) خِطام: حبل يجعل في عنق البعير ويُثنى في خَطْمِه، كل ما وُضع في أنف البعير ليُقاربه.

(٢) غاشية الدولة: خدم الدولة. وغاشية فلان: زواره وأصدقاؤه ينتابونه.

(٣) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص٢٥، ٢٦، ٢٧.

٧٥

(وهلك إدريس سنة ثلاث عشرة، وقام بالأمر من بعده ابنه (محمد) بعهده إليه، فأجمع أمره بوفاة جدته (كنزة) أم إدريس، على أن يشرك أخوته في سلطانه، ويقاسم ممالك أبيه، فقسّم المغرب بينهم أعمالاً)(١) .

(وتُوفِّي بعد أمور جرت بين إخوته وبينهم سنة إحدى وعشرين ومائتين، بعد أن استخلف ولده علياً في مرضه، وهو ابن تسع سنين.

فقام بأمره الأولياء والحاشية من العرب وأوربة وسائر البربر وصنائع الدولة. وبايعوه غلاماً مترعرعاً، وقاموا بأمره، وأحسنوا كفالته وطاعته، فكانت أيامه خير أيام.

وهلك سنة أربع وثلاثين لثلاث عشرة سنة من ولايته، وعهد لأخيه (يحيى) بن محمد، فقام بالأمر وامتد سلطانه، وعظمت دولته واستجدّت فاس في العمران)(٢) . (وهلك يحيى هذا، ووليَ ابنه (يحيى) بن يحيى، فأساء السيرة وكثر عبثه في الحرم، وثارت به العامة لمركب شنيع أتاه. وتولى كِبَرَ الثورة عبد الرحمان بن أبي سهل الحزامي، وأخرجوه من عُدْوَةِ القَرَوِيّين إلى عُدوة الأندلسيين، فتوارى ليلتين ومات أسفاً لليلته.

وانقطع الملك من عقب محمد بن إدريس. وبلغ الخبر بشأن يحيى إلى ابن عمه علي بن عمر صاحب الريف، واستدعاه أهل الدولة من العرب والبربر والموالي، فجاء إلى فاس ودخلها وبايعوه.

واستولى على أعمال المغرب إلى أن ثار عليه (عبد الرزّاق) الخارجي، وكان على رأي الصُفْرِيّة، فزحف إلى فاس وغلب عليها، ففرَّ إلى أوربة.

وملك عبد الرزاق عدوة الأندلس، وامتنعت منه عدوة القرويين. وولّوا على أنفسهم يحيى بن القاسم بن إدريس، وكان يُعرف بالصرام، بعثوا إليه فجاءهم جموعه. وكانت بينه وبين الخارجي حروب. ويقال: إنه أخرجه من عدوة الأندلس، واستعمل عليها ثَعْلَبَةَ بن مُحارب بن عبد الله، كان من أهل الربض بقرطبة، من ولد المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة.

____________________

(١) نفسه: م٤ ص٢٧.

(٢) نفسه: م٤ ص٢٩.

٧٦

ثم استعمل ابنه عبد الله المعروف بعبود من بعده، ثم ابنه محارب بن عبود بن ثعلبة، إلى أن اغتاله الربيع بن سليمان سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وقام بالأمر مكانه (يحيى) بن إدريس بن عمر صاحب الريف، وهو ابن أخي عليّ بن عمر، فملك جميع أعمال الأدارسة، وخطب له على سائر أعمال المغرب.

وكان أعلى بني إدريس مُلكاً، وأعظمهم سلطاناً، وكان فقيهاً عارفاً بالحديث، ولم يبلغ أحد من الأدارسة مبلغه في السلطان والدولة.

وفي أثناء ذلك كله خَلَط(١) الملك للشيعة بأفريقية، وتغلَّبوا على الاسكندرية، واختطوا المهدِيَّة كما نذكره في (دولة كتامة). ثم طمحوا إلى مُلْك المغرب، وعقدوا لـ (مضالة بن حبوس) كبير مكناسة وصاحب تاهرت على محاربة ملوكه سنة خمس وثلاثمائة.

فزحف إليه في عساكر مكناسة وكتامة. وبرز لمدافعته يحيى بن إدريس صاحب المغرب بجموعه من المغرب وأولياء الدولة من أوربة وسائر البرابرة والموالي.

والتقوا على مكناسة، وكانت الدبرة على يحيى وقومه، ورجع إلى فاس مغلولاً، وأجاز له بها معاملة إلى أن صالحه على مال يؤدّيه إليه وطاعة معروفة لعبيد الله الشيعي سلطانه يؤدّيها فقبل الشرط، وخرج عن الأمر وخلع نفسه، وأنفذ بيعته إلى عبيد الله المَهْدِيّ، وأبقى عليه مصالحه في سكنى فاس، وعقد له على عملها خاصة، وعقد لابن عمه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة يومئذ، وصاحب (سنور وتازه)على سائر أعمال البربر كما نذكره في أخبار مكناسة ودولة موسى.

وكان بين موسى بن أبي العافية وبين يحيى بن إدريس شحناء وعداوة، يضغنها كل واحد لصاحبه، حتى إذا عاد (مضالة) إلى المغرب في غزاته الثانية سنة تسع أغراه موسى بن أبي العافية بطلحة بن يحيى بن إدريس صاحب فاس، فقبض عليه مضالة واستصفى أمواله وذخائره وغرّبه إلى أصيلا والريف عمل ذي قرباه ورحمه.

____________________

(١) خلط: كذا ولم نجد لها معنى يناسب السياق ولعلها: خلص، بمعنى تمّ.

٧٧

وولّى على فاس ريحان الكتاميّ، ثم خرج يحيى يريد أفريقية، فاعترضه ابن أبي العافية وسجنه سنين، وأطلقه ولحق بالمهدية سنة إحدى وثلاثين، وهلك في حصار أبي يزيد. واستبد ابن أبي العافية بملك المغرب.

وثار على ريحان الكتاميّ بفاس سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس الملقّب بالحجَّام، ونفى ريحان عنها، وملكها عامين.

وزحف للقاء موسى بن أبي العافية، وكانت بينهما حروب شديدة هلك فيها ابنه منهال بن موسى، وانجلت المعركة على أكثر من ألف قتيل وخلص الحسن إلى فاس منهزماً، وغدر به حامد بن حمدان الأوربي واعتقله. وبعث إلى موسى فوصل إلى فاس وملكها، وطالبه بإحضار الحسن فدافعه عن ذلك، وأطلق الحسن متنكراً، فتدلّى من السور فسقط ومات من ليلته، وفر حامد بن حمدان إلى المهدية.

وقتل موسى بن أبي العافية عبد الله بن محارب وابنيه محمداً ويوسف، وذهب ملك الأدارسة.

واستولى ابن أبي العافية على جميع المغرب، وأجلى بني محمد بن القاسم بن إدريس وأخاه الحسن إلى الريف، فنزلوا البصرة، واجتمعوا إلى كبيرهم إبراهيم بن محمد بن القاسم أخي الحسن، وولّوه عليهم.

واختطّ لهم الحِصْن المعروف بهم هنالك وهو حجر النسر سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ونزلوه وبنو عمر بن إدريس يومئذ بغمارة من لدن تيجساس إلى سبتة وطنجة، وبقي إبراهيم كذلك.

وشمّر الناصر المرواني لطلب المغرب، وملك سبتة علي بن إدريس سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكبيرهم يومئذ أبو العيش بن إدريس بن عمر، فانجابوا له عنها، وأنزل بها حاميته. وهلك إبراهيم بن محمد، فتولّى عليهم من بعده أخوه القاسم الملقّب بكانون وهو أخو الحسن الحجَّام واسمه القاسم بن محمد بن القاسم. وقام بدعوة الشيعة انحرافاً عن أبي العافية ومذاهبه، واتصل الأمر في ولده وغمارة أولياؤهم والقائمون بأمرهم كما نذكره في أخبار غمارة.

٧٨

ودخلت دعوة المروانيّين خلفاء قرطبة إلى المغرب، وتغلبت زناتة على الضواحي، ثم ملك بنو يعرب فاس وبعدهم مِغْراوة.

وأقام الأدارسة بالريف مع غمارة وتجدّد لهم به ملك في بني محمد وبني عمر بمدينة البصرة وقلعة حجر النسر ومدينة سبتة وأصيلا. ثم تغلب عليهم المروانيون وأثخنوهم إلى الأندلس، ثم أجازوهم إلى الإسكندرية، وبعث العزيز العُبَيْدي بن كانون منهم لطلب ملكهم بالمغرب فغلبه عليه المنصور بن أبي عامر وقتله، وعليه كان انقراض أمرهم وانقراض سلطان أوربة من المغرب.

وكان من أعقاب الأدارسة الذين أووا إلى غمارة فكانوا الدائلين من ملوك الأموية بالأندلس. وذلك أن الأدارسة لما انقرض سلطانهم، صاروا إلى بلاد غمارة واستجدوا بها رياسة، واستمرت في بني محمد وبني عمر من ولده إدريس بن إدريس، وكانت للبربر إليهم بسبب ذلك طاعة وخلطة.

وأمّا سليمان أخو إدريس الأكبر فإنه فرّ إلى المغرب أيام العباسيّين، فلحق بجهات تاهرت بعد مهلك أخيه إدريس. وطلب الأمر هناك فاستنكره البرابرة، وطلبه ولاة الأغالبة فكان في طلبهم تصحيح نسبه.

ولحق بِتَلْمَسان فملكها، وأذعنت له زناتة وسائر قبائل البربر هنالك. وورث ملكه ابنه محمد بن سليمان على سننه، ثم افترق بنوه على ثغور المغرب الأوسط واقتسموا ممالكه ونواحيه، فكانت َتلْمَسان من بعده لابنه محمد بن أحمد بن القاسم بن محمد بن أحمد، وأظنّ هذا القاسم هو الذي يدعي بنو عبد الواد نسبه؛ فإن هذا أشبه من القاسم بن إدريس بمثل هذه الدعوى.

وكانت (أرشكول) لعيسى بن محمد بن سليمان، وكان منقطعاً إلى الشيعة، وكانت جراوة لإدريس بن محمد بن سليمان ثم لابنه عيسى وكنيته أبو العيش. ولم تزل إمارتها في وُلده، وولِيها بعده ابنه إبراهيم بن عيسى، ثم ابنه يحيى بن إبراهيم، ثم أخوه إدريس بن إبراهيم. وكان إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول منقطعاً إلى عبد الرحمان الناصر، وأخوه يحيى كذلك. وارتاب من قبله ميسور قائد الشيعة فقبض عليه سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.

٧٩

ثم انحرف عنهم، فلما أخذ ابن أبي العافية بدعوة العلوية نابذ أولياء الشيعة، فحاصر صاحب جراوة الحسن بن أبي العيش وغلبه على جراوة فلحق بابن عمه إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول، ثم حاصرها البوري بن موسى ابن أبي العافية وغلب عليهما. وبعث بهما إلى الناصر فأسكنهما قرطبة.

وكانت تنس لإبراهيم بن محمد بن سليمان، ثم لابنه محمد من بعده، ثم لابنه يحيى بن محمد ثم ابنه علي بن يحيى. وتغلّب عليه زيري بن مناد سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، ففر إلى الجبر بن محمد بن خزر، وجاز ابناه حمزة ويحيى إلى الناصر فتلقاهما رحباً وتكرمة. ورجع يحيى منهما إلى طلب تنس فلم يظفر بها.

وكان من ولد إبراهيم هذا أحمد بن عيسى بن إبراهيم صاحب سوق إبراهيم، وسليمان بن محمد بن إبراهيم من رؤساء المغرب الأوسط. وكان من بني محمد بن سليمان هؤلاء وبَطْوش بن حناتِش بن الحسن بن محمد بن سليمان.

قال ابن حزم: وهم بالمغرب كثير جداً، وكان لهم بها ممالك، وقد بطل جميعها، ولم يبق منهم بها رئيس بنواحي بجاية، وحمل بني حمزة هؤلاء جوهر إلى القيروان، وبقيت منهم بقايا في الجبال والأطراف معروفون هنالك عند البربر، والله وارث الأرض ومن عليها)(١) .

قال المسعودي في مروجه:

(وفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة كان ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم بالمدينة، وكان قد بويع له في الأمصار، وكان يدعى بالنفس الزكية لزهده ونسكه، وكان مستخفياً من المنصور ولم يظهر حتى قبض المنصور على أبيه عبد الله بن الحسن وعمومته وكثير من أهله وعدتهم.

ولما ظهر محمد بن عبد الله بالمدينة، دعا المنصور أبا مسلم العقيلي، وكان شيخاً ذا رأي وتجربة، فقال له: أشر علي في خارجيّ خرج علي)(٢) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص٣٠ إلى ص٣٦.

(٢) مروج الذهب للمسعودي: م٢ ص٢٣٧.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

شاركه في الرؤية؟ ولعلَّ صاحب الهذيان يجد نفسه مربيةً على نبيِّ الله موسى الّذي هو من اولي العزم من الرُّسل، وخوطب بقول الله العزيز: لن تراني يا موسى! هكذا فليكن السّالك المجاهد الغزّال.

_ ٦٣ _

يد الغزالى فى يد سيد المرسلين

قال الشيخ الإمام الزاهد شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن محمّد الجلاليّ النسائيّ الشافعيّ: رأيت في بعض تصانيف الشيخ الامام مسعود الطرازي: انَّ الإمام أبا حامد الغزالي رحمه الله كان قد أوصى أن يلحده الشّيخ أبو بكر النسّاج الطوسي تلميذ الشيخ الامام أبي القاسم الكرساني قال: فلمّا ألحده وخرج من اللّحد خرج متغيّراً منتقع اللّون فقيل له في ذلك فلم يخبر بشيء، فأقسموا عليه بالله إلّا ما أخبرتهم فقال: إنّي لمـّا وضعته في اللّحد شاهدت يداً يُمنى قد خرجت من تجاه القبلة وسمعت هاتفاً يقول: ضع يد محمّد الغزالي في يد سيّد المرسلين محمّد المصطفى العربيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعتها فيها ثمَّ خرجت كما ترون أو كما قال قدّس الله روحه العزيز(١) .

لقد علم الغزالي أنَّ للنساج عليه يداً واجبة بتكحيله بأثمده المتقدّم ذكره، فكان منه بدء هدايته، فأحبَّ أن يكون هو المجهّز له في الغاية، وعرف انَّ الرّجل نسيج وحده في وشي الخرافات، فأوصى إليه ما أوصى، وأحسب انَّ يد الغزالي التي وضعها في يد النبيِّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير الّتي حمل القلم الذي خطَّ به كتاب « الإحياء » المشحون بالأباطيل والأضاليل أو غيره من كتبه التي تحوي أمثال قصّة الرؤية والأثمد.

_ ٦٤ _

إحياء العلوم للغزالي

عن الامام أبي الحسن المعروف بابن حرازم - ويقال: ابن حرزم - وكان مطاعاً في بلاد المغرب انّه لمـّا وقف على [ إحياء العلوم ] للغزالي أمر باحراقه. وقال: هذا بدعةٌ مخالفٌ للسنّة، فأمر بإحضار ما في تلك البلاد من نسخ الإحياء، فجمعوا وأجمعوا على إحراقها يوم الجمعة، وكان إجماعهم يوم الخميس، فلمّا كان ليلة الجمعة رأى

____________________

١ - مفتاح السعادة ٢: ٢٠٧.

١٦١

ابو الحسن في المنام كأنّه دخل من باب الجامع، ورأى في ركن المسجد نوراً وإذا بالنبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر جلوسٌ والإمام الغزالي قائمٌ وبيده « الإحياء » وقال: يا رسول الله! هذا خصمي ثمَّ جثا على ركبتيه وزحف عليهما إلى أن وصل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فناوله ( كتاب الإحياء ) وقال: يا رسول الله! انظر فيه فإن كان فيه بدعةٌ مخالفةٌ لسنَّتك كما زعم تبت إلى الله، وإن كان شيئاً تستحسنه حصل لي من بركتك فأنصفني من خصمي، فنظر فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورقةً ورقةً إلى آخره ثمَّ قال: والله إنَّ هذا شيىءٌ حسنٌ، ثمَّ ناوله أبا بكر رضي الله عنه فنظر فيه كذلك، ثمَّ قال: نعم، والّذي بعثك بالحقِّ يا رسول الله! إنَّه لحسنٌ. ثمَّ ناوله عمر رضي الله عنه فنظر فيه كذلك ثمَّ قال كما قال أبو بكر رضي الله عنه. فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتجريد أبي الحسن وضربه حدّ المفتري فجرِّد وضُرب ثمَّ شفع فيه أبو بكر بعد خمسة أسواط وقال: يا رسول الله! إنَّما فعل ذلك إجتهاداً في سنَّتك وتعظيماً. فعفا عنه أبو حامد عند ذلك، فلمّا استيقظ ( أبو الحسن ) من منامه وأصبح أعلم أصحابه بما جرى ومكث قريباً من الشَّهر مُتألمـّاً من الضَّرب ثمَّ سكن عنه الألم ومكث إلى أن مات وأثر السِّياط على ظهره وصار ينظر كتاب « الإحياء » ويعظّمه وينتحله أصلاً أصيلا.

وفي لفظ اليافعي: وبقيت متوجّعاً لذلك خمساً وعشرين ليلة، ثمَّ رأيت النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء ومسح عليَّ وتوَّبني فشفيت ونظرت في « الإحياء » ففهمته غير الفهم الاوَّل. و ذكره السبكي في طبقاته ٤: ١٣٢ وقال: هذه حكايةٌ صحيحةٌ حكاها لنا جماعةٌ من ثقات مشيختنا عن الشّيخ العارف وليّ الله سيّدي ياقوت الشاذلي، عن شيخنا السّيد الكبير وليّ الله أبي العبّاس المرسي، عن شيخه الشّيخ الكبير وليّ الله أبي الحسن الشاذلي قدس الله تعالى أسرارهم(١)

وذكره المولى احمد طاش كبرى زاده في مفتاح السّعادة ٢: ٢٠٩، واليافعي في مرآت الجنان ٣: ٣٢٢:

وقال السّبكي في طبقاته: ٤: ١١٣: كان في زماننا شخصٌ يكره الغزالي ويذمّه

____________________

١ - كذا حكى عن السبكى والمطبوع من طبقاته يخالفه فى بعض الالفاظ.

١٦٢

ويستعيبه في الدِّيار المصريّة فرأى النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما بجانبه والغزالي جالسٌ بين يديه وهو يقول: يا رسول الله! هذا يتكلّم فيَّ، وانَّ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: هاتوا السِّياط، وأمر به فضرب لأجل الغزالي، وقام هذا الرَّجل من النوم وأثر السِّياط على ظهره، ولم يزل كان يبكي ويحكيه للنّاس. وسنحكي منام أبي الحسن ابن حرزم المغربي المتعلّق بكتاب « الإحياء » وهو نظير هذا.

قال الأميني: نعمّا هي لو صدقت الأحلام؟ إنّا نحن نربأ صاحب الرِّسالة عن الإصفاق على تصديق مثل هذا الكتاب الّذي هو في كثير من مواضيعه على الطّرف النّقيض لما صدع به من شريعته المقدَّسة، وليست أباطيل الغزالي بألغاز لا يحلّها إلّا الفنيُّ فيها، وإنّما هي سردٌ متعارفٌ يعرفها كلُّ من وقف عليها من أهل العلم، وليس فهمها قصراً على قوم دون آخرين، فهي فتقٌ لا يرتق، وصدعٌ لا يرأب.

قال ابن الجوزي في المنتظم ٩: ١٦٩: أخذ في تصنيف كتاب ( الإحياء ) في القدس ثمّ أتمّه بدمشق إلّا انّه وضعه على مذهب الصّوفيّة وترك فيه قانون الفقه مثل انّه ذكر في محو الجاه ومجاهدة النَّفس: انَّ رجلاً أراد محو جاهه فدخل الحّمام فلبس ثياب غيره، ثمَّ لبس ثيابه فوقها، ثمَّ خرج يمشي على محل حتّى لحقوه فأخذوها منه وسمّي سارق الحمّام، وذكر مثل هذا على سبيل التعليم للمريدين قبيحٌ، لإنَّ الفقه يحكم بقبح هذا فإنّه متى كان للحمّام حافظٌ وسرق سارقٌ قطع، ثمَّ لا يحلُّ لمسلم أن يتعرَّض بأمر يأثم النّاس به في حقّه. وذكر انَّ رجلاً اشترى لحماً فرأى نفسه تستحيي من حمله إلى بيته فعلّقه في عنقه ومشى، وهذا في غاية القبح، ومثله كثيرٌ ليس هذا موضعه، وقد جمعت أغلاط الكتاب وسمّيته [ إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء ] وأشرت إلى بعض ذلك في كتابي المسمّى [ بتلبيس ابليس ] مثل ما ذكر في كتاب النّكاح: انّ عائشة قالت للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت الّذي تزعم انّك رسول الله. وهذا محالٌ. إلى أن قال:

وذكر في كتاب ( الإحياء ) من الأحاديث الموضوعة وما لا يصحُّ غير قليل، وسبب ذلك قلّة معرفته بالنقل، فليته عرض تلك الأحاديث على مَن يعرف، وإنّما نقَل نقْل حاطب ليل. وكان قد صنّف للمستظهر كتاباً في الردِّ على الباطنيَّة، وذكر في آخر

١٦٣

مواعظ الخلفاء فقال: روي انّ سليمان بن عبد الملك بعث إلى أبي حازم: ابعث إليَّ من إفطارك. فبعث إليه نخالة مقلوّة فبقي سليمان ثلاثة أيام لا يأكل، ثمَّ أفطر عليها وجامع زوجته، فجاءت بعبد العزيز، فلمّا بلغ ولد له عمر بن عبد العزيز. وهذا من أقبح الأشياء لأنَّ عمر ابن عمِّ سليمان وهو الذي ولّاه، فقد جعله ابن ابنه، فما هذا حديث مَن يعرف من النقل شيئاً أصلا. الخ.

وقال ابن الجوزي في ( تلبيس إبليس ) ص ٣٥٢: قد حكى أبو حامد الغزالي في كتاب ( الإحياء ) قال: كان بعض الشّيوخ في بداية إرادته يكسل عن القيام فألزم نفسه القيام على رأسه طول اللّيل لتسمح نفسه بالقيام عن طوع. قال: وعالج بعضهم حبَّ المال بأن باع جميع ماله ورماه في البحر إذا خاف من تفرقته على النّاس رعونة الجود ورياء البذل. قال: وكان بعضهم يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ليعوّد نفسه الحلم. قال: وكان آخر يركب البحر في الشّتاء عند اضطراب الموج ليصير شجاعاً. ثمَّ قال:

قال المصنّف رحمه الله: أعجب من جميع هؤلاء عندي أبو حامد كيف حكى هذه الأشياء ولم ينكرها؟ وكيف ينكرها وقد أتى بها في معرض التعليم؟ وقال قبل أن يورد هذه الحكايات: ينبغي للشيّخ أن ينظر إلى حالة المبتدئ فإن رأى معه مالاً فاضلاً عن قدر حاجته أخذه وصرفه في الخير، وفرغ قلبه منه حتّى لا يلتفت إليه. وإن رأى الكبرياء قد غلب عليه أمره أن يخرج إلى السّوق للكدّ ويكلّفه السّؤال والمواظبة على ذلك.

وإن رأى الغالب عليه البطالة استخدمه في بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدّخان. وإن رأى شره الطعام غالباً عليه ألزم الصّوم، وإن رآه عزباً ولم تنكسر شهوته بالصّوم أمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز وليلة على الخبز دون الماء ويمنعه اللّحم رأساً. فقال:

قلت: وإنّي لا تعجّب من ( أبي حامد ) كيف يأمر بهذه الأشياء الّتي تخالف الشّريعة؟ وكيف يحلّ القيام على الرأس طول اللّيل فينعكس الدّم إلى وجهه ويورثه ذلك مرضاً شديداً؟ وكيف يحلّ رمي المال في البحر؟ وقد نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن إضاعة المال. وهل يحلّ سبّ مسلم بلا سبب؟ وهل يجوز للمسلم أن يستأجر على ذلك

١٦٤

وكيف يجوز ركوب البحر زمان اضطرابه؟ وذاك زمان قد سقط فيه الخطاب بأداء الحجّ، وكيف يحلُّ السّؤال لمن يقدر أن يكتسب؟ فما أرخص ما باع أبو حامد الغزالي الفقه بالتصوُّف؟.

وقال: وحكى أبو حامد: انَّ أبا تراب النخشبي قال لمريد له: لو رأيت أبا يزيد مرَّة واحدة كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرّة. فقال: قلت: وهذا فوق الجنون بدرجات.

هذه جملةٌ من كلمات ابن الجوزي حول [ إحياء العلوم ] ومن أمعن النّظر في أبحاث هذا الكتاب يجده أشنع ممّا قاله ابن الجوزي، وحسبك ما جاء به من حلّية الغناء والملاهي وسماع صوت المغنّية الاجنبيّة والرّقص واللّعب بالدرق والحراب، ونسبة كلّ ذلك إلى نبيِّ القداسة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال(١) بعد سرد جملة من الموضوعات تدعيماً لرأيه السَّخيف: فيدلّ هذا على انَّ صوت النِّساء غير محرَّم تحريم صوت المزامير، بل إنَّما يحرم عند خوف الفتنة، فهذه المقاييس والنّصوص تدلُّ على إباحة الغناء، والرَّقص، والضَّرب بالدفِّ، واللّعب بالدرق والحراب، والنظر إلى رقص الحبشيّة والزنوج في أوقات السّرور كلّها قياساً على يوم العيد فانَّه وقت سرور، وفي معناه يوم العرس، والوليمة، والعقيقة، والختان، ويوم القدوم من السَّفر، وسائر أسباب الفرح وهو كلّ ما يجوز به الفرح شرعاً، ويجوز الفرح بزيارة الإخوان ولقائهم واجتماعهم في موضع واحد على طعام أو كلام فهو ايضاً مظنّة السّماع. ثمّ ذكر سماع العشّاق تحريكاً للشّوق وتهييجاً للعشق وتسليةً للنفس. وفصَّل القول في ذلك بما لا طائل تحته، وخلط الحابل بالنابل، وجمع فيه بين الفقه المزيّف وبين السّلوك بلا فقاهة.

ومن طامّات كتاب ( الإحياء ) أو من شواهد جهل مؤلّفه المبير ومبلغه من الدّين والورع رأيه السّاقط في اللّعن قال في ج ٣: ١٢١: وعلى الجملة ففي لعن الأشخاص خطرٌ فليجتنب، ولا خطر في السُّكوت عن لعن ابليس مثلاً فضلاً عن غيره، فإن قيل: هل يجوز لعن يزيد لأنَّه قاتل الحسين أو أمره به؟ قلنا: هذا لم يثبت أصلا، فلا يجوز

____________________

١ - راجع احياء العلوم ٢: ٢٧٦.

١٦٥

أن يقال: إنّه قتله، أو أمر به ما لم يثبت فضلاً عن اللّعنة، لأنّه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق ثمَّ ذكر أحاديث في النهي عن لعن الأموات فقال:

فإن قيل: فهل يجوز أن يقال: قاتل الحسين لعنه الله، أو الآمر بقتله لعنه الله؟ قلنا: الصَّواب أن يقال: قاتل الحسين إن مات قبل التّوبة لعنه الله لأنَّه يُحتمل أن يموت بعد التّوبة، فإنَّ وحشيّاً قاتل حمزة عمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتله وهو كافرٌ، ثمَّ تاب عن الكفر والقتل جميعاً، ولا يجوز أن يلعن والقتل كبيرة، ولا تنتهي إلى رتبة الكفر، فاذا لم يقيّد بالتّوبة و اُطلق كان فيه خطرٌ، وليس في السُّكوت خطرٌ فهو أولى.اهـ.

فهلمّ معي أيُّها القارئ الكريم إلى هذه التّافهات المودوعة في غضون [ إحياء العلوم ] هل يراها النبيُّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً حسناً، وحلف بذلك؟ وهل سرَّه دفاع الرَّجل عن ابليس اللعين أو عن جروه يزيد الطاغية الذي أبكى عيون آل الله وعيون صلحاء اُمَّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ريحانته إلى الأبد؟!

وهل يحقُّ لمسلم صحيح يُنزَّه عن النَّزعة الأمويّة الممقوتة، ويطّلع على فقه الإسلام وطقوسه، ويعلم تاريخ الاُمّة، ويعرف نفسيّات أبناء بيت اميّة السَّاقط، ولا يجهل أو لا يتجاهل بما أتت به يد يزيد الطّاغية الأثيمة، وما نطق به ذلك الفاحش المتفحّش وما أحدثه في الإسلام من الفحشاء والمنكر، وما ثبت عنه من أفعاله وتروكه، وما صدر عنه من بوائق وجرائم وجرائر، أن يدافع عنه بمثل ما أتى به هذا المتصوِّف الثرثار البعيد عن العلوم الدينيّة وحياتها؟ وهو لا يبالي بما يقول، ولا يكترث لمغبّة ما خطّته يمناه الخاطئة، والله من وراءه حسيبٌ، وهو نعم الحَكم العدل، والنبيُّ الأعظم، ووصيّه الصدّيق، والشَّهيد السّبط المفدّى هم خصماء الرَّجل يوم يُحشر للحساب مع يزيد الخمور والفجور - ومَن أحبَّ حجراً حشره الله معه - وسيذوق وبال مقاله ويرى جزاء محاماته.

ولست أدري إلى الغاية انّ حدَّ المفتري الّذي أقامه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أبي الحسن ابن حرازم إن كان بحقّ - ولا بدّ أن يكون ما يفعله النبيُّ حقّا - فلماذا درأته عنه شفاعة الشّيخ أبي بكر؟ ولا شفاعة في الحدود. وإن لم يكن أبو الحسن مستحقّاً

١٦٦

له فبماذا أقامه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ولماذا أرجأ الشيّخ رأيه في اجتهاد ابن حرازم إلى أن جرِّد وضُرب خمسة أسواط؟ وكيف خفي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يُدرأ به الحدُّ من شبهة الإجتهاد؟ ومن سنّته الثابتة درأ لحدود بالشُّبهات. وهل تُقام الحدود في عالم الطيّف؟

_ ٦٥ _

اللامشى يسجد على أرض النهر

قال السَّمعاني: سمعت أبا بكر الزاهد السّمرقندي يقول: بتُّ ليلة مع الإمام اللّامشي - الحسين بن علي أبي علي الحنفيّ المتوفّى ٥٢٢ - في بعض بساتينه فخرج من باب البستان نصف اللّيل ومرَّ على وجهه فقمت أنا وتبعته من حيث لا يعلم، فوصل إلى نهر كبير عميق، وخلع ثيابه، واتَّزر بميرز وغاض في الماء، وبقي زماناً لا يرفع رأسه فظننت أنّه غرق فصحت وقلت: يا مسلمون! غرق الشّيخ فإذا بعد ساعة قد ظهر وقال: يا بنيَّ لا نغرق.فقلت:

يا سيّدي! ظننت أنَّك غرقت، فقال: ما غرقت ولكن أردت أن أسجد لِلَّه سجدة على ارض النَّهر فإنَّ هذه أرضٌ أظنُّ أنَّ أحداً ما سجد لِلَّه عليها سجدة.[ الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة ] ١: ٢١٥.

مرحىً بالسّخافة وزهٍ بمستسخف النّاس الّذين يخضعون لأمثال هذه السّفاسف، وحيَّا الله هذه النّفس الّتي لم يأخذ بخناقها إنقطاع النَفس طيلة تلك المدّة تحت الماء، وليس ذلك من خرافة القصّاصين بعجيب، ولا عجب فإنَّ المغالاة في الحبِّ يستسهل وقوع ما يحيله العقل.

_ ٦٦ _

الطلحى يستر سوأته بعد موته

أخرج ابن الجوزي وإبن كثير بالإسناد عن أحمد الأسواري وكان ثقةً وهو تولّى غسل إسماعيل بن محمّد الحافظ(١) انّه قال: أراد أن ينحِّي الخرقة عن سوأته وقت الغسل

____________________

١ - أبو القاسم الطلحى الشافعى من اهل اصبهان قال ابن الجوزى: إمام فى الحديث والتفسير و اللغة حافظ متقن ديّن ولد ٤٥٩ وتوفى باصبهان سنة ٥٣٥.

١٦٧

فجذبها الشّيخ اسماعيل من يده وغطّى فرجه، فقال الغاسل: أحياةٌ بعد الموت؟

المنتظم ١٠: ٩٠، تاريخ ابن كثير ١٢: ٢١٧.

قال الأميني: لا حياة بعد الموت لأمثال الطّلحي، إلى يوم الوقت المعلوم، لكن الغلوَّ في الحبِّ يُحيي ويُميت ويُميت ويُحيي.

_ ٦٧ _

طاعة الحيوانات والجمادات للمنبجى

قال الإمام أبو محمّد ضياء الدّين الوتري في « روضة الناظرين » ص ٣٦: قال الشّيخ عقيل بن شهاب الدّين أحمد المنبجي العمري أحد أحفاد عمر بن الخطاب، وكان يلقّب بالغوّاص: أعطاني الله الكلمة النافذة في كلِّ شيء، ثمَّ داخله وجدٌ فقام: وقال: يا هوام! يا حجارة! يا شجر! صدّقوني، فإنيّ ما ادَّعيت باطلاً، فوفدت الوحوش من الجبل وقد ملأ زئيرها وصراخها البقاع ودارت به، ورقصت الحجارة، فهذه صاعدةٌ وهذه نازلةٌ، واشتبكت الأغصان بعضها ببعضها، ثمَّ حضر فسكت وعاد كلٌّ لما كان عليه.

وقال الوتري: كان يلقّب بالغوّاص، وذلك لأنَّه مرَّ بجماعة من تلامذة شيخه السّروجي بالفرات، ففرش سجّادته على الماء وجلس عليها وغاص بالماء إلى الجانب الآخر، ثمَّ ظهر من الماء، ولا بلل بثيابه، فذكر ذلك إخوانه لشيخه مسلمة السّروجي فقال: عقيل غوّاص. فاشتهر بذلك(١)

قال الأميني: حقّاً إنَّ تأثير هذا الرَّجل في المواليد الثّلاث أقوى من تأثير الله سبحانه في تصديقها إيّاه إن حقّقت المزاعم والتّافهات، فقد جاء في الذّكر الحكيم:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰکِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (٢) .( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ ) (٣) ( وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ ) (٤) ( وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدَانِ‌ ) (٥)

____________________

١ - روضة الناظرين ص ٣٥.

٢ - سورة الاسراء: ٤٤.

٣ - سورة الصف: ١.

٤ - سورة النحل: ٤٩.

٥ - سورة الرحمن: ٦.

١٦٨

( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبَالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ کَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) (١) ومع ذلك لم يسمع أحدٌ للوحوش والدّوابّ نعيقاً، وللشّجر هفيفاً، وللأحجار صعوداً وحبوطاً، بعنوان السّجدة و التسبيح، فهو لا محالة إمّا بلسان ملكوتيّ، أو بعنوان جعل الإستعداد، أو الشَّهادة التكوينيّة الّتي لا تفارق كلَّ موجود على حدّ قول القائل:

وفي كلّ شيء له آيةٌ

تدلُّ على انّه واحدُ

وعليه ينزَّل قوله تعالى: شهد الله انَّه لا إلـ~ـه إلّا هو. أي خلق ما يشهد له بأحد الوجوه المذكورة، وإلّا فهي دعوى لا شهادة لها إن اُريد بها ظاهرها.

أو انَّ للموجودات في تسبيحها وسجودها لغةً وأطواراً لا يحسّها البشر، إلّا مَن اصطفاه الله من عباده المنتجبين، وعلّمه منطق الطير، وعرَّفه لغة الحجر والشَّجر والهوام، لكن الشّيخ الغوّاص أعطاء ألله الكلمة النافذة في كلِّ شيء حتّى زأرت وصرخت له الوحوش، ورقصت الحجارة، واشتبكت أغصان الأشجار، فحظيت بسماعها ورؤيتها آذان اولئك الغالين في فضائله ومُقَلهم، فحيّى الله منحة المولى سبحانه لعبده أكثر ممّا عنده، ولك إمعان النّظر وتدقيق البحث حول السجّادة والغوص، وهذه كلّها سهلةٌ غير مستصعب على الشّيخ مهما كان حفيد عمر الخلفية، وقد سمعت كراماته الظاهرة في العناصر الأربعة في الجزء الثامن ص ٨٣ - ٨٧ ط ١، هكذا يخلق أو يختلق الغلوّ الفضائل، وافقت العقل أم لم توافق.

_ ٦٨ _

كرامة لابن مسافر الاموى

قال عمر بن محمّد: خدمت الشّيخ عديّ - ابن مسافر الشاميّ الأمويّ المتوفّى ٥٥٧ / ٨ - سبع سنين شهدت له فيها خارقات أحدها: أنيِّ صببت على يديه ماءً فقال لي: ما تريد؟ قلت اُريد تلاوة القرآن ولا أحفظ منه غير الفاتحة وسورة الاخلاص، فضرب بيده في صدري فحفظت القرآن كلّه في وقتي، وخرجت من عنده وأنا أتلوه بكماله. [ شذرات الذّهب ] لابن العماد الحنبلي ٤: ١٨٠،

____________________

١ - سورة الحج: ١٩.

١٦٩

قال الأميني: ليت هذا الامويّ أدرك عهد الخليفة الثّاني فيضرب بيده في صدره فلا يتجشّم بمقاساة الشدَّة لحفظ سورة البقرة في أثني عشر عاماً. لكنّه لم يدرك.

وليت شعري هل كان يرضخ راوي هذه الاُسطورة لها لو كان صاحبها علويّاً؟ أو انَّ رضوخه قصرٌ على الأمويِّ فحسب؟

وذكر ابن العماد إيضاً في شذرات ذهبه نقلاً عن اليونيني - الآتي ذكره. قال قال لي عديّ بن مسافر يوماً: إذهب إلى الجزيرة السّادسة بالبحر المحيط تجد بها مسجداً فادخله ترى فيه شيخاً فقل له: يقول لك الشيخ عديّ بن مسافر: احذر الإعتراض و لا تختر لنفسك أمراً ليست لك فيه إرادة. فقلت: يا سيّدي! وأنّى لي بالبحر المحيط؟ فدفعني بين كتفي فإذا أنا بجزيرة والبحر محيطٌ بها وثَمَّ مسجدٌ فدخلته فرأيت شيخاً مهيباً يفكّر فسلّمت عليه وبلّغته الرّسالة فبكى وقال: جزاه الله خيرا، فقلت: يا سيِّدي! ما الخبر؟ فقال: اعلم أنَّ أحد السّبعة الخواصّ في النزع وطمحت نفسي و إرادتي أن أكون مكانه، ولم تكمل خطرتي حتّى أتيتني فقلت: يا سيّدى! وأنّى لي بالوصول إلى جبل هكار؟ فدفعني بين كتفي فإذا أنا بزاوية الشيخ عديّ فقال لي: هو من العشرة الخواصّ.

قال الأميني: الجنون فنون، وأرقّها جنون الحبِّ والمغالاة في الفضائل.

_ ٦٩ _

عبد القادر يحيى دجاجة

قال اليافعي في مرآة الجنان ٣: ٣٥٦: روى الشيخ الإمام الفقيه العالم المقري ابو الحسن عليّ بن يوسف بن جرير بن معضاد الشافعيّ اللخميّ في مناقب الشيخ عبد القادر(١) بسنده من خمس طرق، وعن جماعة من الشيوخ الجلّة أعلام الهدى العارفين المقتنين للاقتداء، قالوا: جاءت امرأة بولدها إلى الشّيخَ عبد القادر فقالت له: يا سيّدي! إنّي رأيت قلب ابني هذا شديد التعلّق بك، وقد خرجت عن حقّي فيه لِلَّه

____________________

١ - الشيخ السيد عبد القادر بن أبى صالح موسى الحسنى الجيلانى، مؤسس الطريقة القادرية. من كبار المتصوفين، ولد في ٤٩١ بجيلان [ وراء طبرستان ] وانتقل إلى بغداد شابا، وتوفي سنة ٥٦١ ودفن ببغداد وقبره مشهور يزار.

١٧٠

عزّ وجلّ ولك، فقبله الشّيخ وأمره بالمجاهدة وسلوك الطّريق، فدخلت اُمّه عليه يوماً فوجدته نحيلاً مصفرّاً من آثار الجوع والسَّهر، ووجدته يأكل قرصاً من الشّعير فدخلت إلى الشّيخ فوجدت بين يديه إناءً فيه عظام دجاجة مسلوقة قد أكلها، فقالت: يا سيّدي! تأكل لحم الدّجاج ويأكل ابني خبز الشّعير؟ فوضع يده على تلك العظام وقال: قومي بإذن الله تعالى الّذي يحيي العظام وهي رميمٌ. فقامت الدّجاجة سويّة وصاحت، فقال الشّيخ: إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء.

وذكرها الشيخ عبد القادر القادري في [ تفريح الخاطر ] ص ٣٢.

قال الأميني: إنَّ خاصّة الأنبياء وفي الطليعة منها إحياء الموتى هل تتأتّى لكلّ مُرتاض، فلا يبقى بينه وبين النبيّ المرسل أيُّ مائز؟ وهب انَّ الباحث تصوَّر لصدورها من الأولياء اعتباراً آخر فتكون كرامةً للوليِّ ومعجزةً للنبيِّ الّذي ينتحل شرعته، إلّا أنَّه اعتبارٌ اهتدى إليه الفكر بعد رويَّة طويلة، لكنّه لا خارج له تصل إليه العامَّة، فاطّرادها بل وظهورها من غير اطّراد يحطُّ عندها من مقام النبوَّة لمحض المشاكلة الصوريّة، وكلّما كان كذلك لا يمكن وقوعه.

ثمَّ هل لأكل خبز الشّعير وما جشب من الطّعام بمحضه أن يوصل السّالك إلى مرتبة يحيي فيها الموتى، وإن كان المولى سبحانه يعلم انّه متى بلغ إلى هذه المرتبة ألهاه أكل الدّجاجة المسلوقة أكلاً لمـّا؟!

وهل الرّياضة شرط في حدوث القوَّة في النّفس والملكات الفاضلة وليست شرطاً في بقائها؟!

أوَ ليس التلهّي باللّذايذ مزيحة لتلكم الأحوال النفسيّة كما كانت الرّياضة مجتذبةً لها؟ فاحف القول السؤال عن هذه المشكلات، فإن أجابوك فأخبرني.

_ ٧٠ _

عبد القادر يحتلم فى ليلة أربعين مرّة

ذكر الشّعراني في الطبقات الكبرى ١: ١١٠ قال: كان الشّيخ عبد القادر ( الجيلاني ) رضي الله عنه يقول: أقمت في صحراء العراق وخرائبه خمساً وعشرين سنة مجرّداً سائحاً لا أعرف الخلق ولا يعرفوني، يأتيني طوائف من رجال الغيب والجانَّ اُعلّمهم

١٧١

الطّريق إلى الله عزَّ وجلَّ، ورافقني الخضرعليه‌السلام في أوّل دخولي العراق، وما كنت عرفته وشرط أن لا اُخالفه وقال لي: اقعد هنا. فجلست في الموضع الّذي أقعدني فيه ثلاث سنين، يأتيني كلّ سنة مرَّة ويقول لي: مكانك حتّى آتيك. قال: ومكثت سنة في خرائب المدائن آخذ نفسي بطريق المجاهدات فآكل المنبوذ ولا أشرب الماء، ومكثت فيها سنة أشرب الماء ولا آكل المنبوذ، وسنة لا أكل ولا أشرب ولا أنام، ونمت مرَّة بايوان كسرى في ليلة باردة فاحتلمت فقمت وذهبت إلى الشطِّ واغتسلت، ثمَّ نمت فاحتلمت فذهبت إلى الشطِّ واغتسلت فوقع لي ذلك في تلك الليلة أربعين مرّة وأنا أغتسل، ثمَّ صعدت إلى الأيوان خوف النّوم.

قال الأميني: اقرأه مع إمعان وتبصّر في شأن هذا العارف معلّم طوائف من رجال الغيب والجانّ الذي اتّخذوه الطريق إلى الله، وكان رفيق الخضرعليه‌السلام ، وأعجب من انسان لم يأكل سنة، ولم يشرب اُخرى، ويتركهما ثالثة، ولم تخرْ قواه حتّى يحتلم في ليلة شاتية أربعين مرَّة، ويعبث به الشّيطان بهذا العدد الجمِّ وهو فانٍ في الله ولو كان اتَّفق له ذلك خلال تلكم الأيّام التي كان يأكل فيها الدّجاجة المسلوقة ويحيي عظامها كما مرَّ لكان يُعدُّ بعيداً عن الطبيعة البشريّة.

وما أطول تلك الليلة حتّى وسعت أربعين نومةً ذات احتلام، وأغسالاً بعدها على عدد الأحلام المتخلّلة بالذّهاب إلى الشّطّ والإياب إلى مقرّه ومنامه، وبعد ذلك كلّه تبقى منها برهة يصعد الشّيخ إلى الأيوان خوفاً من النّوم، ولعلّه لو نام بعد نومته المتمّمة للأربعين لبلغ العدد الأربعمائة أو أكثر، ولم يكن الشّيطان يفارق ذلك الهيكل القدسيّ واللّعب به مهما امتدَّت ليلته، وليس إحيائه عظام الدُّجاجة بأعظم من هذه الكرامة، وإن هي إلّا أحلام نائم نسجتها أيدي العرونة غلوّاً في الفضائل.

_ ٧١ _

قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رقبة عبد القادر

قال الشّيخ السّيد عبد القادر الكيلاني: لمـّا عرج بجدّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المرصاد، وبلغ سدرة المنتهى بقي جبريل الأمينعليه‌السلام متخلّفاً وقال: يا محمّد! لو دنوتُ أنملة لاحترقت فأرسل الله تعالى روحي إليه في ذلك المقام، لاستفادتي من سيّد الأنام عليه وعلى آله

١٧٢

الصّلاة والسّلام، فتشرّفت به، واستصحلت على النّعمة العظمى والوراثة والخلافة الكبرى، وحضرت وأوجدت بمنزلة البراق حتّى ركب عليَّ جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعناني بيده حتّى وصل، فكان قاب قوسين أو أدنى وقال لي: يا ولدي وحدقة عيني! قدمي هذه على رقبتك، وقدماك على رقاب كلّ أولياء الله تعالى. وقال رضي الله عنه:

وصلت إلى العرش المجيد بحضرتي

فلاحت لي الأنوار والحقّ أعطاني

نظرت لعرش الله قبل تخلّقي

فلاحت لي الأملاك والله سمّاني

وتوَّجني تاج الوصال بنظرة

ومن خلقه التّشريف والقرب أكساني(١)

_ ٧٢ _

عبد القادر وملك الموت

عن السيّد الشيخ الكبير أبي العبّاس أحمد الرّفاعي قال: توفّي أحد خدّام الشّيخ عبد القادر الكيلاني وجاءت زوجته إليه فتضرّعت والتجأت إليه وطلبت حياة زوجها فتوجّه الشّيخ إلى المراقبة فرأى في عالم الباطن انَّ ملك الموتعليه‌السلام يصعد إلى السّماء ومعه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم فقال: يا ملك الموت! قف واعطني روح خادمي فلان، وسمّاه باسمه، فقال ملك الموت: إنّي أقبض الأرواح بأمرِ إلهيّ واُودّيها إلى باب عظمته، كيف يمكنني أن أعطيك روح الّذي قبضته بأمر ربّي؟ فكرّر الشّيخ عليه اعطاء روح خادمه إليه، فامتنع من إعطائه، وفي يده ظرفٌ معنويٌّ كهيئة الزّنبيل فيه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم، فبقوَّة المحبوبيّة جرَّ الزَّنبيل وأخذه من يده، فتفرَّقت الأرواح ورجعت إلى أبدانها، فناجى ملك الموتعليه‌السلام ربّه وقال: يا ربّ! أنت أعلم بما جرى بيني و بين محبوبك ووليّك عبد القادر، فبقوَّة السّلطنة والصّولة أخذ منّي ما قبضته من الأرواح في هذا اليوم فخاطبه الحقّ جلَّ جلاله: يا ملك الموت! إنّ الغوث الأعظم محبوبي ومطلوبي لِمَ لا أعطيته روح خادمه؟ وقد راحت الأرواح الكثيرة من قبضتك بسبب روح واحد، فتندّم هذا الوقت(٢) .

____________________

١ - نفس المصدر الاتي فى الخرافة التالية.

٢ - تفريح الخاطر فى ترجمة عبد القادر ص ٥، ١٢ ط مصر مطبعة عيسى البابى الحلبى و شركاؤه سنة ١٣٣٩.

١٧٣

_ ٧٣ _

وفاة الشيخ عبد القادر

ذكروا: انَّه لمـّا قربت وفاة الشيخ عبد القادر الجيلاني جاء سيِّدنا عزرائيلعليه‌السلام بمكتوب ملفوف من الربِّ الجليل في وقت غروب الشَّمس وأعطاه ولده الشيخ عبد الوهاب وكان مكتوب، على ظهره: يصل هذا المكتوب من المحبِّ إلى المحبوب. فلمّا رآه ولده بكى وتحسَّر ودخل بالمكتوب مع سيِّدنا عزرائيلعليه‌السلام على حضرة الشّيخ، وقبل هذا بسبعة أيّام كان معلوماً لدى الشّيخ انتقاله إلى العالم العلويّ، وكان مسروراً ودعا الله لمحبّيه ومخلصيه بالمغفرة، وتعهّد أن يكون لهم شفيعاً يوم القيامة، وسجد لِلَّه تعالى وجاء النداء: يا أيّتها النّفس المطمأنّة! ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة. وضجَّ عالم الناسوت بالبكاء، وابتهج عالم الملكوت باللقاء(١) .

هذه نماذج من أوهام جاء بها الغلوُّ في مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني، ونحن لو ذهبنا لنجمع ما عزوه إلى الشّيخ من الكرامات وإن شئت قلت: من الخرافات. ممّا لا يوافقه العقل، ولا يصافق عليه المنطق، ولا يساعده الشّرع الاسلاميُّ الأقدس، ولا يدعم بحجَّة، ولا تصدّقه البرهنة لأريناك موسوعة ضخمة تبعثك إلى الضّحك تارة وإلى البكاء اُخرى.

_ ٧٤ _

الرفاعىّ يقبّل يد النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال أبو محمّد ضياء الدّين الوتري في [ روضة الناظر ] ص ٥٤: وفي هذه السنة [ يعني ٥٥٥ ] حجَّ السيّد أحمد الرّفاعي(٢) رضي الله عنه باشارة معنويّة، وزار قبر جدّه عليه الصَّلاة والسَّلام، وأنشد تجاه القبر الطّاهر.

في حالة البعد روحي كنت ارسلها

تُقبّل الأرض عنِّي وهي نائبتي

____________________

١ - تفريح الخاطر ص ٣٨.

٢ - ولد ٥١٢ بقرية حسن من أعمال واسط وتوفي ٥٧٨ توجد ترجمته في غير واحد من معاجم التراجم وأفرد فيها أحمد عزت پاشا العمرى الموصلى كتاباً أسماه [ العقود الجوهريّة فى مدائح الحضرة الرفاعيّة ] طبع بمصر في المطبعة البهية سنة ١٣٠٦ في ١٣٩ صفحة.

١٧٤

وهذه دولة الأشباح قد حضرت

فامدد يمينك كي يحظى بها شفتي(١)

فظهرت له يد جدِّه عليه الصّلاة والسّلام فقبّلها والنّاس ينظرون. وهذه القصّة تواتر خبرها، وعلا ذكرها، وصحّت أسانيدها، وكتبها الحفّاظ والمحدِّثون، وكثيرٌ من أهل الطبقات والمؤرّخين، لا ينكرها إلّا جاهلٌ قليل الرِّواية، حاسدٌ لسلطان النبوّة، وظهور المعجزة المحمّديّة، أو معذورٌ من غير هذه الاُمّة الأحمديّة، على انَّ ظهور هذه المعجزة النبويّة في تلك الأعصار التي ظهرت بها البدع، وكثرت بها الفتن، وتفرّقت بها الأهواء، وذهب بها أهل الباطل إلى مذاهب كثيرة كالإلحاد والزندقة وغير ذلك ممّا سلكه الفرق الضالّة من طرق الضّلالة ما كان إلّا لإعلاء كلمة الحقِّ والشّريعة والدّين على يد هذا السيّد الجليل الذي إختصّه الله ورسوله بهذه النّعمة وأبرزه لهذه الخدمة، لعدم وجود من يماثله أو يشاكله في ذلك القرن من الأولياء والسّادات وصالحي الوقت نفعنا الله بهم.

وقال في ص ٦٢: إذا عدَّت كرامات الرِّجال كفاه [ يعني السيّد أحمد الرّفاعي ] فخراً وشرفاً تقبّل يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين جمّ غفير من المسلمين حتّى سارت بها الرُّكبان، وتواتر خبرها في البلدان، وقصر عندها باع أكابر الإنس والجانّ، وغبطه عليها الملأ الأعلى، كما قال ذلك في شأنه الشيخ عبد القادر الجيلي عليه الرَّحمة والرِّضوان.

وفي العقود الجوهريَّة ص ٥ عن العبد الصّالح العارف بالله عبد الملك بن حمّاد انّه قال: قدّر الله لي الحجَّ سنة خمسمائة وخمسة وخمسين، وجئت إلى المدينة وتشرَّفت بزيارة النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي ذلك الاسبوع جاء لزيارة قبره عليه الصّلاة والسّلام شيخنا سيّد العارفين إمام الاُمّة السيّد أحمد الرُّفاعي رضي الله عنه وقد دخل البلدة بقافلة عظيمة من الزوّار فلمّا دخل الحرم الشّريف النبويّ وقف تجاه القبر الأفضل، والوقت بعد العصر وقد غص الحرم المبارك بالنّاس وأنشد غائباً عن نفسه حاضراً بمحبوبه:

في حالة البعد روحي كنت اُرسلها

تقبّل الأرض عنّي وهي نائبتي

____________________

١ - نسبهما والقصّة برمّتها صاحب [ تفريح الخاطر ] الى الشيخ عبد القادر الجيلاني، ولا ضير في كلّ عز ومختلق مهما كانت الغاية تفريح الخاطر غلوّا فى الفضائل، بعد الغضّ عن حكم العقل والشّرع والمنطق.

١٧٥

وهذه دولة الأشباح قد حضرت

فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي

فظهرت له يد النبيِّ عليه الصّلاة والسّلام تتلمّع بيضاء سويّة كأنّها زند البرق، فقبّلها والنّاس ينظرونه، وقد منَّ الله تعالى تفضّلاَ عليَّ فرأيتها ورأيت كيف استلمها، وانّي اعدّ هذا الشّهود الباهر ذخيرة المعاد، وزاد القدوم على الله تعالى.

ثمّ قال: وكان في القافلة المذكورة الشيخ أحمد الزعفراني، والشيخ عدي بن مسافر الأمويّ، والسيّد عبد الرّزاق الحسيني الواسطي، والشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ أحمد الزاهد، والشيخ حيوة بن قيس الحرَّاني، والشيخ عقيل المنبجي العمري، و جماعة من مشاهير أولياء العصر وقد تشرَّفت الكلُّ برؤيا اليد النبويَّة الطاهرة الزكيَّة واندرجوا تحت بيعة مشيخته رضي الله عنه وعنهم اجمعين، وخبر هذه القصّة متواترٌ مشهورٌ، وقد ساقه كثير من أعيان الرِّجال بوجه التفصيل فليراجع.

قال الشيخ تقيّ الدين الفقيه النهروندي المتوفّى ٥٩٤ في قصيدة أوّلها:

ايّ سرٍّ جاءت به الأنبياء

وحديث رواته الأولياءُ؟

سلسلته السّادات أهل المعالي

وحكته الأئمّة الأتقياءُ

فروى نشره الصّديرين ريّا

وأضاءت بنوره البطحاءُ

مدَّ طه يمينه للرفاعيِّ

فانجلت عندها له الأشياءُ

إلى أن قال:

لا تقل كيف تمّ هذا؟ وأيقن

يفعل الله ربّنا ما يشاءُ

واهجر المارقين واعذر إذا ما

أنكر الشَّمس مقلة عمياءُ

أيكون النبيُّ ميتاً؟ وفي القر

آن أحياء ربّها الشّهداءُ

وبمدّ اليمين لابن الرفاعيِّ

حجّة في مقامها سمحاءُ

شهدتها المساء آلاف قوم

ورآها الأقران والأكفاءُ

صار ذاك المساء صبحاً فما أعجـ

ـب يوماً فيه الصّباح مساءُ؟

وقال صاحب العقود الجوهريّة يمدحه في قصيدة له:

ذاك الرفاعيّ الّذي فعله

يعزُّ في النّقد على الناقدِ

كم ركب الليث؟ وكم راكب

ذلّل من صولة مستأسدِ؟

١٧٦

كفُّ رسول الله في لثمها

حاز بها الفخر على الجاحدِ

قد مدّها من قبره نحوه

لاحت إلى الحاضر والشَّاهدِ

وقال الحافظ الحاج ملّا عثمان الموصلي في قصيدة يمدح بها السيّد الرفاعي:

له الأفاعي واُسد الغاب طائعةٌ

والجنّ تبصر من آياته العجبا

ألا ترى انَّ من ينمى إليه فلا

يخشى من النار مهما أوقدت لهبا؟

كفاه تقبيل يمنى الهاشميِّ أبي

الزَّهراء فخراً وعنها الغير قد حجبا

وقال السيّد محمّد أبو الهدى الرّفاعي في تخميس قصيدة سراج الدّين المخزومي:

اُكرمت من طه بكفِّ جنابه

بين القفول مذ التجأت ببابه

فلثمته وعرفت في أحبابه

نوراً أراد الله أن تُحيى به

رغماً لمن فتكت به الظلمات

وقال من قصيدة يمدحه بها:

كفى شرفاً تكليم خير الورى له

وامداده إذ مدَّ جهراً له اليدا

وليس عجيباً حين صحّ انتسابه

إليه إذا أبدى إليه تودّدا

كرامة حقّ وهي ثابتة له

ومعجزة للمصطفى خير من هدى

وقال بهاء الدين السيّد محمّد الروّاس في قصيدة له يمدحه بها.

كفاه انَّ رسول الله مدَّ له

يد القبول وزهر العصر نضّارُ

وقال من جدّه خير الورى خلقاً

له انطوى فيه اعزازٌ واظهارُ

وقال عبد الحميد افندي الطرابلسي في قصيدة له يمدحه بها:

هو الحجّة الكبرى على كلِّ قائم

لذاك يد المختار مدَّت له جهرا

ومن هذه والله حجّة فضله

أجل غيره في القوم حجّته صغرى

وقال السيّد عبد الغفار الأخرس في قصيدة يمدحه بها:

تولّد من رسول الله شبلٌ

به دانت له كلّ السّباع

وقبّل كفَّ والده جهاراً

غدت بالنّور بادية الشّعاع

وشاهدها الثّقات وكلّ فرد

رآها بانفرادٍ واجتماع

فتلك مزيّةٌ لم يحظ فيها

سواه من مطيع أو مطاع

١٧٧

وقال أبو الفرج السيّد احمد شاكر الآلوسي من قصيدة يمدحه بها:

هو قطب الوجود غوث البرايا

غيثها المرتجى على الإطلاق

كم له من مناقب سائرات

كمسير البدور في الآفاق؟

حاز من جدّه الرَّسول مقاماً

لم يزل ذكره مدى الدّهر باقي

حيثما زاره وقبّل كفّاً

منه قد آذنت له بالتلاقي

وقال الفقيه يحيى بن عبد الله الواسطي في قصيدة يمدحه بها:

مدّت له يد طه ثمَّ قبّلها

يهنيه مجداً نأى أن يقبل الشّركا

والمصطفى بكتاب العتق أكرمه

والله أحيا له لمـّا دعا السّمكا

وقال صفيُّ الدّين يحيى بن المظفر البغدادي الحنبلي في قصيدة يمدحه بها:

وله إمام الرُّسل مدّ يداً لها

فتحت كنوز حقائق القرآنِ

وقوافل الحجّاج سكرى عندها

ما بين مبهوت وذي أشجانِ

وقال السيّد عبد الحيّ الحسيني مفتي [ غزّة هاشم ] من قصيدة يمدحه بها:

علَم الشَّرق أحمد من إليه

مدّ طه يمينه إجلالا

مدّ راحاً إلى النبيِّ بها كلّ

محال لو رامه ما استحالا

يالراحٍ قد صافحتها المعالي

وشفاة لقد لثمن الهلالا

وقال السيّد إبراهيم الرّاوي الرفاعي الشافعي من قصيدة يمدحه بها:

وهو باب النبيِّ لاثم يمنا

ه جهاراً وقد تجلّى تعالى

حين أبدى محمّد معجزات

معجزات لأحمد اجلالا

كيف لا؟ وهو شبله وكذا الآ

باء تعلو إن أنجبت أشبالا

وقال السيّد سراج الدين المخزومي في كتابه [ صحاح الأخبار ] من قصيدة يمدح بها الرُّفاعي:

يا ابن من كان في الثبوت نبيّا

قبل كون القوالب الطينيّه

لك جمعٌ في مشهد الوجد بانت

منه للقوم حكمة الفرقيّه

لك قربٌ أقام في حالة البعـ

ـد مناراً في الرّوضة الحرميَّه

١٧٨

حين مدّت يد الرّسول جهاراً

لك يا حسن خلعة علنيّه

شاهدتها الاُلوف من كلّ أرض

فروى نشرها البقاع القصيّه

وبآذاننا تواتر هذا المجـ

ـد أقراط فخره جوهريّه

وذكر القصّة القاضي الخفاجي الحنفي في شرح الشفا ٣: ٤٨٩، والعدويّ الحمزاوي في كنز المطالب ص ١٨٨ وفيه: فمدّ يده الشّريفة من الشبّاك فقبّلها. وابن درويش الحوت في اسنى المطالب ص ٢٩٩ وقال: إذا أكرم الله عبداً برؤية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقظة يمثّل له نوره الشّريف بصورة جسمه الكريم وربّما ظنّه الرائي انّه الجسم الشّريف لغلبة الحال، ومن ذلك ما وقع لسيّدنا الرّفاعي رضي الله عنه. الخ.

قال الأمينيّ: لا تهمّنا رؤية السيّد الرفاعي يد النبيّ الشّريفة وتقبيله إيّاها وقد جاء القوم بأعظم وأعظم منها، هذا الشيخ عبد القادر الجيلاني استصحبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المعراج(١) وهذا جلال الدين السيوطي وقد رأى نفس النبيّ الأقدس في اليقظة بضعاً وسبعين مرَّة، وروى آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث، وكان آخر يشاوره في اموره قال الشيخ حسن العدوي الحمزاوي في مشارق الأنوار، وكنز المطالب ص ١٩٧ نقلاً عن [ بهجة النفوس والأسماع ] للشّعراني عند نقله لمزايا الكمال: منها شدّة قربهم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ وقت فلا يكاد يحجب عنهم في ليل أو نهار حتّى أنّ بعضهم صحّح عنده أحاديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعض الحفّاظ بضعفها من طريق النقل الظاهر فتقوّت بذلك عنده. قال: وقد أدركت جماعة ممّن لهم هذا المقام منهم سيّدي علي الخواص(٢) والسيّد علي المرصفي وأخي أفضل الدّين، والشيخ جلال الدين السّيوطي، والشيخ نور الدين الشوتي، والشيخ محمّد الصوفيّ ببلاد الفيّوم رضي الله عنهم أجمعين.

قال: وكان الشيخ نور الدين الشوتي يشاور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اموره، وهي ومن جملة ما شاوره فيه حفر البئر التي في زاويتنا فانّنا حفرنا ثلاثة آبار وهي تطلع

____________________

١ - راجع كتاب تفريح الخاطر فى ترجمته.

٢ - ترجمه الشعرانى فى طبقاته الكبرى ٢ ١٣٥ - ١٥٣ وبدء ترجمته بقوله: كان رضي الله عنه يتكلم عن معانى القرآن العظيم والسنة الشريفة كلاماً نفيساً تحير فيه العلماء وكان محل كشفه اللوح المحفوظ عن المحو والاثبات. وقد أكثر فى تلكم الصفحات من هذه المخاريق فراجع.

١٧٩

فاسدة وماؤها منتن. فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال لهم: يحفروا في باب الحوش ففعلنا فطلعت بئراً عظيمة وماؤها حلو، فالحمد لله ربّ العالمين.

إقرأ واسأل العقل السّليم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.

_ ٧٥ _

الغزلانى يكشف عمّا فى الخواطر

قال أبو محمّد ضياء الدّين الوتري في روضة الناظرين ص ١٣٣ في ترجمة الشيخ محمّد الغزالي الموصلي الشهير بالغزلاني(١) المتوفَّى ٦٠٥ نقلاً عن الشّيخ محمّد أبي عبد الله بن تاج ابن القاضي يونس الموصلي انّه قال: كنّا مع جماعة من ثقات علماء الموصليّين بزيارة الشيخ محمّد الغزلاني قدس الله سرّه وكان الوقت وقت المغرب، وقد أظلم الغار الّذي هو فيه فثقل ذلك على الجماعة فكشف ما في خواطرهم وتبسّم وقال: ما عندنا زيت ولا لنا سراجٌ، ثمّ أشار إلى شجرة أمام الغار، فلمعت أغصانها نوراً أضاء منه الجبل، فوالله ما بتنا ليلة أبهج وأكثر اُنساً عندنا من تلك اللّيلة.

قال الأميني:: إقرأ وتعقّل واحكم.

_ ٧٦ _

الشاطبى يعلم جنابة الجنب

قال الجزري: أخبرني بعض شيوخنا الثقات عن شيوخهم: انّ الشاطبي القاسم بن فيرة الضرير(٢) كان يصلّي الصبح بالفاضليّة بغلس ثمَّ يجلس للأقراء فكان النّاس يتسابقون السّرى إليه ليلاً، وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: من جاء أوّلاً فليقرأ: ثمَّ يأخذ على الأسبق فأسبق، فاتَّفق أن قال يوماً: من جاء ثانياً فليقرأ وبقي الأوّل وكان من أصحابه لا يدري ما الذَّنب الذي أوجب حرمانه ففطن انّه أجنب تلك الليلة ولشدَّة حرصه على النّوبة نسي ذلك، فبادر إلى حمّام جوار المدرسة فاغتسل ورجع قبل فراغ الثاني والشّيخ

____________________

١ - وذلك لان الغزلان لا زالت كانت تزوره وتأنس به. روضة الناظرين ١٣٣.

٢ - ابو محمد الضرير المقرىء صاحب القصيدة التى أسماها - حرز الاماني ووجه التهانى - فى القرءات عدتها الف ومائة وثلاثة وسبعون بيتاً، ولد سنة ٥٣٨، وتوفى سنة ٥٩٠ ودفن بالقرافة وقبره مشهور مزور. شذرات الذهب ٤: ٣٠٢.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402